موسوعة أحكام الطهارة
دبيان الدبيان
[المقدمة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد فالفقه الإسلامي بحاجة إلى إعادة بعثه وتصنيفه بما يؤام هذا الوقت، فإن زمن قصر العناية على المتون الفقهية قد انتهى إن شاء الله تعالى إلى غير رجعة، وزمن التقليد أخذ ينحصر، وأتوقع أن لا يمضي وقت طويل حتى يقضي الله بمشيئته على بدعة التقليد، فالصحوة تبشر ببعث جديد، يعود فيه دور الفقيه المسلم إلى حياة المسلمين، فالصحوة سلفية، وفقهها سلفي، والعناية بمتون السنة أولى من العناية بكلام البشر، وصرف الأوقات في تحليل عبارات الرجال (¬1). ولقد شارك في هذه الصحوة بعد توفيق الله سبحانه وتعالى مؤسسات كثيرة وعلماء جهابذة، فالجامعات الإسلامية في هذا البلد المعطاء قامت منذ طلائع هذه الصحوة ببعث التراث الإسلامي مهتمين ببيان الحديث الصحيح ¬
من الضعيف، ولا ينسى دور بعض العلماء الذين تحملوا في ذلك عبئاً كبيراً في تعليم الناس الفقه السلفي، المبني على الدليل البعيد عن التقليد والمذهبية، وأترك ذكر الأسماء حتى لا يفهم الحصر؛ لأن استيعابهم يطول. ورأيت مشاركة مني أن أكتب بحوثاً علمية في الفقه الإسلامي أجمع فيها بين أقوال الفقهاء، وأدلة المحدثين، يكون البحث فيه متناسقاً بين الآثر والنظر، فالنظر الخالي من الأثر نظر أعمى، والأثر الخالي من الفقه نص معطل المنافع، ولا بد للأثر من فقيه يستخرج كنوزه، ولا بد للفقيه من طريقة المحدثين حتى يعرف الضعيف من الصحيح فلا يبني بناءه على شفا جرف هار، فكان هذا المشروع الذي أرجو أن يكون لبنة في هذا البناء الشامخ الذي شرع فيه أوائل هذه الأمة في وضع أسسه وضوابطه. إن هذا المشروع بالنسبة لي هو مشروع حياة، سوف أنذر وقتي إن شاء الله على إكماله وسأصل الليل بالنهار، وانقطع من كل نشاط حتى أبلغ كماله أو أعذر، والمعذور له أجره كاملاً كما روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا أحمد بن محمد، أخبرنا عبد الله، أخبرنا حميد الطويل، (1) عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجع من غزوة تبوك، فدنا من المدينة، فقال: إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم. قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة. قال: وهم بالمدينة، حبسهم العذر (¬1). (2) وروى البخاري أيضاً، قال: حدثنا مطر بن الفضل، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا العوام، حدثنا إبراهيم أبو إسماعيل السكسكي، قال: سمعت أبا ¬
بردة واصطحب هو ويزيد بن أبي كبشة في سفر، فكان يزيد يصوم في السفر، فقال له أبو بردة: سمعت أبا موسى مراراً يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحاً (¬1). وقد قاربت من نهاية كتاب الطهارة في اثني عشر مجلداً تقريباً، طبع منه كتاب الحيض والنفاس في ثلاث مجلدات كبيرة، وكان تقديم طباعته على غيره نظراً لحاجة المكتبات إلى كتاب متخصص في الحيض والنفاس يجمع بين أقوال الفقهاء ونظر الأطباء، فكان هذا الكتاب ولله الحمد. ثم صدر منه أيضاً كتاب أحكام المسح على الحائل في مجلد كبير جداً يقع في ستمائة وسبعين صفحة، طبع في شتاء عام 1420 هـ واليوم أقدم أربع مجلدات في المياه، وآداب الخلاء وسنن الفطرة، وسوف يصدر الباقي تباعاً إن شاء الله تعالى. منهجي في هذا البحث. سبق أن ذكرت منهجي في عرض أقوال المذاهب، وأدلة المسائل في كتاب الحيض والنفاس، فلا داعي لإعادته في هذا البحث، ولكني أنبه فيه على مسألة أخذت عليَّ في البحوث السابقة، حول خلو البحث من كلام الفقهاء المعاصرين. فأقول: لقد فعلت ذلك عن عمد، وذلك طلباً لعلو الإسناد إلا في كلام للمعاصرين لم أره للمتقدمين، فيكون مقتضى الأمانة أن أذكره لهم إذا احتجت إلى نقله، ولقد كان الإمام أحمد لا يروي عن الأحياء إلا في عدد ¬
دراسة مقارنة بين هذا البحث وبعض المتون المشهورة.
قليل جداً من الرواة، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، باستثناء من أفضى منهم إلى ما قدم كالشيخ أحمد شاكر رحمه الله، وليس الحامل على هذا هو التقليل من شأن العلماء المعاصرين، ولكني رأيت في طلابهم من يتعصب لأقوال شيخه ويغضب لمخالفتها أشد من غضب المتمذهبين لمذاهبهم، وصاروا يدعوننا بدلاً من اتباع الأئمة إلى تقليد شيوخهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أرى أن ربط الناس بعلماء السلف عند الترجيح، وأن هذا هو رأي الإمام أحمد أو سفيان أو مالك أو الزهري خير من ربطهم بالعلماء المعاصرين، وأين الثرى من الثريا، فلا تكاد تجد قولاً قوياً لبعض العلماء المعاصرين إلا وتجد أنه قد قال به إمام من أئمة السلف، فكان مقتضى العدل والإنصاف والأمانة في النقل أن ينسب هذا القول لمن قاله، لا لمن نقله. ثم إني إذا تعرضت للنقل عن المعاصرين حملني هذا في بعض الأحيان إلى نقد ما أنقله، إما بزيادة أو حذف، فليس كل ما ينقل يُسَلَّم، فيكون هذا سبباً في إيغار الصدور، وأنا إلى تأليف القلوب، وسلامة الصدور أحوج مني إلى نقل كلام زيد، وعرضه للنقد، وهذا الفعل مني اجتهاد لا أدعي أنه صواب، وقد دفعني للبوح به ما بلغني من بعض الإخوة من عتاب في عدم ذكر بعض المشايخ عند الترجيح، فأردت أن يفهم الحامل على هذا، وأن لا يسيئ الظن أحد من إخواني في تحميل الأمر ما لا يحتمل. دراسة مقارنة بين هذا البحث وبعض المتون المشهورة. تعود طلبة العلم في الديار النجدية من البلاد السعودية حرسها الله أن يتعلموا ويتخرجوا على دراسة بعض المتون الفقهية والتي تلقى عناية من المشايخ وطلبة العلم سواء في حلق المساجد أو في الجامعات والمعاهد العلمية،
وقد أجريت مقارنة بين مسائل هذه المتون وبين هذا البحث ليكون طالب العلم على دراية بأن مسائل هذه المتون قد دخلت ضمن هذه الموسوعة. وقد أخترت كتابين من المتون المشهورة عندنا، وهما زاد المستقنع، وشرحه الروض المربع. فكتاب زاد المستقنع يكاد يكون من أكثر المتون الفقهية التي تدرس في المساجد والمعاهد العلمية، حتى قال عنه بعض مشايخنا: قد شغف فيه المبتدئون من طلاب العلم على مذهب الحنابلة، وحفظه كثير منهم عن ظهر قلب، وكان شيخنا عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله تعالى يحثنا على حفظه ويدرسنا فيه، وقد انتفعنا به كثيراً ولله الحمد (¬1). ويقول شيخنا صالح بن إبراهيم البليهي رحمه الله: وحيث إن مختصر المقنع (زاد المستقنع) لشرف الدين أبي النجا موسى الحجاوي اشتمل على مهمات المسائل في المذهب الحنبلي لذا اعتنى به الفقهاء من الحنابلة بدراسته وتدريسه وتفهمه وتفهيمه، وبالأخص في البلاد النجدية (¬2). اهـ وأما كتاب الروض المربع فيقول عنه بعض طلبة العلم: كتاب الروض المربع يعتبر بحق من أهم الموسوعات الفقهية التي اشتملت على كثير من الأحكام الشرعية مقرونة بأدلتها التفصيلية، وقد اعتنى به عامة طلبة العلم، وخصوصاً في هذه البلاد حرسها الله من كل سوء ومكروه سواء من القضاة والمحاكم الشرعية أو في المدارس النظامية في كليات الشريعة وما يماثلها أم في حلق المساجد والجوامع إذ لا تكاد تخلو مدينة من عالم يدرس هذا الكتاب في حلقته، ولا غرابة في ذلك فقد أودع فيه البهوتي رحمه الله ¬
جملة من النصوص والآثار إذ بنى معظم مسائل هذا الكتاب على نص من السنة أو أثر عن الصحابة رضوان الله عليهم (¬1). فإذا أحصينا مسائل زاد المستقنع والروض المربع في كتاب المياه وآداب الخلاء وسنن الفطرة وجدناها بلغت مائة وخمساً وأربعين مسألة، وبلغت مسائل هذا البحث مائة وست وثمانين مسألة، أي بزيادة إحدى وأربعين مسألة فقهية، وهو عدد ليس بالقليل كما ترى، فإذا أضيف إلى هذا أن مسائل البحث قد درست دراسة مقارنة عرض فيها ما يمكن عرضه من أقوال الأئمة الأربعة والفقهاء المجتهدين، وجمع فيها ما يمكن من أدلة من أحاديث مرفوعة وآثار عن الصحابة والتابعين أدرك القارئ الكريم قدر هذا البحث من الناحيتين الفقهية والحديثية، وإليك تفصيل مسائل كل كتاب من هذه الكتب. بلغت مسائل زاد المستقنع في باب المياه ثلاثاً وعشرين مسألة فقيهة. وزاد الروض المربع على زاد المستقنع في باب المياه سبعة عشر مسألة، لتكون مسائل الروض المربع أربعين مسألة فقهية. وبلغت مسائل الموسوعة في باب المياه أربعين مسألة فقهية. وفي كتاب الاستنجاء، بلغت مسائل زاد المستقنع ست وثلاثين مسألة، وزاد الروض المربع خمساً وعشرين مسألة ليكون المجموع إحدى وستين مسألة، وبلغت مسائل هذا البحث تسعين مسألة فقهية، وهذا يعني أن الموسوعة زادت على الكتابين بمقدار الثلث، أي بمقدار ثلاثين مسألة فقهية لم ¬
يتعرض لها الكتابان، وهو قدر لا يستهان به كما ترى. وأما الكتاب الثالث: وهو سنن الفطرة: فبلغت مسائل زاد المستنقنع ثلاث عشرة مسألة فقط. وزاد عليها صاحب الروض المربع إحدى وثلاثين مسألة ليكون المجموع أربعاً وأربعين مسألة، فإذا قارناهما في الموسوعة، نجد أن مسائل سنن الفطرة فيها بلغت ستاً وخمسين مسألة أي بفارق أثني عشر مسألة، فإذا ضممنا هذه الزيادة للزيادة السابقة تكون الموسوعة قد زادت على الكتابين بمقدار أحدى وأربعين مسألة فقهية ليست موجودة فيهما، فالحمد لله أولاً وآخراً، لا نحصي ثناء عليه. أما مقارنة الموسوعة في المتون الحديثية فإنه لا وجه فيها للمقارنة إذا علمت أن أحاديث الموسوعة مع المكرر بلغت 770 حديثاً وأثراً فقط في الثلاثة مجلدات التي هي المياه والخلاء وسنن الفطرة، وكان كتاب الحيض والنفاس من قبل قد شمل ما يقدر بخمسائة وثلاثين حديثاً، وباب المسح على الحائل شمل مائة وثمانين حديثاً ليكون المجموع ألفاً وأربعمائة وثمانين حديثاً مع المكرر، ويتوقع أن تبلغ أحاديث كتاب الطهارة أكثر من ألفي حديث، فلا يكاد يوجد متن في الحديث يقاربها، فإذا علمت أن أحاديث السواك بلغت ما يقارب مائة حديث، علمت أن البحث من الناحية الحديثية عمل موسوعي شمل ما في السنن والمسانيد والمعاجم مما يمكن أن يكون دليلاً في الباب، ولم يقتصر العمل على جمع هذه الموسوعة الحديثية بل خرجت أحاديثها، وأوليت متونها عناية خاصة، في بيان الشاذ والمحفوظ منها مع تتبع أحكام العلماء المتقدمين وما نقل عنهم في بيان بعض العلل الخفية، وقدمت تراجم للرواة
خطة البحث في هذا الكتاب
المختلف فيهم فقط طلباً للاختصار، ونقلت تراجمهم من أمهات كتب التراجم، ولم أقتصر على التهذيب، وإن كان فيه كفاية فكنت أنقل كلام أبي حاتم من الجرح والتعديل، وكذا كلام يحيى بن معين والقطان وأحمد والبخاري من التاريخ الكبير والأوسط، ومن ضعفاء العقيلي ومن الثقات لابن حبان ومن غيرها من كتب الجرح والتعديل، فجاء الكتاب ولله الحمد أشبه ما يكون بالفتح، ولذلك بلغ كتاب الطهارة ما يقارب اثني عشر مجلداً في عمل غير مسبوق، وأسأل الله سبحانه وتعالى بمنه وكرمه أن يمن علي لإكمال هذا المشروع الموسوعي الذي إن بلغني الله إكماله فإنه سيكون إضافة حقة للمكتبة الإسلامية، وإن أراد الله بحكمته غير ذلك فقد بينت منهجاً يمكن أن يكمل المشروع من بعدي، ولو تبنى المشروع مؤسسة، وكان معي فريق يساعدني على إكمال هذه الموسوعة لأنجزت في زمن قياسي، والله المستعان وحده والموفق. خطة البحث في هذا الكتاب أحكام المياه، ويشتمل على مقدمة، وأبو اب، ويشتمل كل باب منها على فصول، والفصول على مباحث وفروع ومسائل، على النحو التالي: توطئة: منهج الباحث في الشذوذ وزيادة الثقة. المقدمة: وفيها ثلاثة مباحث: المبحث الأول: تعريف الطهارة. المبحث الثاني: تعريف النجاسة.
المبحث الثالث: بيان الأصل في المياه والأعيان. الباب الأول: أقسام المياه. الباب الثاني: الوضوء بالماء المحرم كالمغصوب ونحوه. الباب الثالث: حكم رفع الحدث وإزالة الخبث من ماء زمزم. الباب الرابع: في الماء المتغير، وفيه فصول: الفصل الأول: في الماء المتغير بالطاهرات. وفيه مباحث: المبحث الأول: الماء المتغير بطاهر غير ممازج المبحث الثاني: الماء المتغير بطاهر يشق صون الماء عنه المبحث الثالث: الماء المتغير بمكثه المبحث الرابع: الماء المتغير بالملح. الفرع الأول: الماء إذا وضع فيه ملح فتغير به. الفرع الثاني: الخلاف في ماء البحر. المبحث الخامس: الماء المتغير بطاهر يمكن التحرز منه. وفيه فرعان: الفرع الأول: الماء المتغير بطاهر يمكن التحرز منه. الفرع الثاني: خلاف العلماء في الطهارة بالنبيذ. الفصل الثاني: في الماء المتغير بنجاسة، وفيه مبحثان: المبحث الأول: الماء المتغير بمجاورة النجاسة. المبحث الثاني: الماء المتغير بمخالطة النجاسة.
الباب الخامس: في الماء المستعمل. الفصل الأول: حكم الماء المستعمل في رفع الحدث. الفصل الثاني: الماء المستعمل في طهارة مستحبة. الفصل الثالث: الماء المستعمل في طهارة غير مشروعة. الفصل الرابع: الماء المستعمل في التبرد والنظافة. الفصل الخامس: الماء المستعمل في غمس يد القائم من نوم الليل. الفرع الأول: حكم غسل اليد قبل إدخالها الإناء. الفرع الثاني: هل الحكم خاص في من قام من نوم الليل. الفصل السادس: الماء المستعمل في إزالة النجاسة. الباب السادس: في الكلام على فضل الوضوء. الفصل الأول: حكم وضوء الرجال والنساء جميعاً إذا كانوا من المحارم. الفصل الثاني: في فضل وضوء المرأة. الفصل الثالث: في فضل وضوء الرجل. الباب السابع: في الشك والاشتباه. الفصل الأول: في الشك في الماء ونحوه. الفصل الثاني: إذا اشتبه الماء الطهور بالماء النجس. الفصل الثالث: إذا اشتبه ماء طهور بماء طاهر. الفصل الرابع: إذا اشتبه ثياب طاهرة بمحرمة أو نجسة. الفصل الخامس: في الإخبار بنجاسة الماء.
المبحث الأول: إذا أخبره رجل أو امرأة بنجاسة الماء. المبحث الثاني: أذا أخبره صبي عن نجاسة الماء. المبحث الثالث: إذا أخبره فاسق عن نجاسة الماء. المبحث الرابع: في السؤال عن الماء. الباب الثامن: في الماء النجس. الفصل الأول: في الماء القليل إذا لاقته نجاسة ولم يتغير الفصل الثاني: في الماء الكثير إذا لاقته نجاسة المبحث الأول: في الماء الكثير إذا لاقته نجاسة فغيرته المبحث الثاني: في الماء الكثير إذا لاقته نجاسة فلم تغيره. فرع: حكم ماء بئر المقبرة. الفصل الثالث: في المائع غير المائي تخالطه النجاسة. الفصل الرابع: في الماء المسخن. المبحث الأول: الماء المسخن بنجس. المبحث الثاني: الماء المسخن بالشمس. الباب التاسع: في تطهير الماء المتنجس. هذا فيما يتعلق في كتاب المياه، وأرجو أن أكون أتيت على أكثر مسائل المياه، وأما خطة البحث في باب الآنية فهي كالتالي. الفصل الأول: في الأواني الثمنية من غير الذهب والفضة. الفصل الثاني: في أواني الذهب والفضة. المبحث الأول: في حكم الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة.
المبحث الثاني: في حكم استعمال أواني الذهب والفضة في غير الأكل والشرب. المبحث الثالث: في حكم الطهارة من آنية الذهب والفضة. المبحث الرابع: في حكم اتخاذ أواني الذهب والفضة. الفصل الثالث: في الأواني المضببة بالذهب والفضة. المبحث الأول: في تضبيب الأواني بالذهب. المبحث الثاني: خلاف العلماء في التضبيب بالفضة. الفصل الرابع: في آنية الكفار. الفصل الخامس: في الأواني المتخذة من الميتة. المبحث الأول: في الأواني المتخذة من جلود الميتة. المبحث الثاني: في الآنية المتخذة من عظام الميتة وقرنها وحافرها. المبحث الثالث: في الآنية المتخذة من شعر الميتة، وصوفها ووبرها. هذا في ما يتعلق بخطة هذا المجلد، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل العمل خالصاً لوجهه، وأن يتقبله مني بقبول حسن، وأن ينفع به، وأنه يجعله من العمل الصالح الذي لا ينقطع، إنه ولي ذلك والقادر عليه. كتبه أبو عمر دبيان بن محمد الدبيان. السعودية -القصيم- بريدة.
توطئة منهج الباحث في الشذوذ وزيادة الثقة.
توطئة منهج الباحث في الشذوذ وزيادة الثقة. نظراً إلى أن الخلاف في بعض المسائل الأصولية ينبني عليها تضعيف أو تصحيح كثير من الأحاديث، والخطأ في مسألة أصولية واحدة يعني: الخطأ في عشرات المسائل المتفرعة من تلك المسألة، فكم من خطأ أصولي أوقع في أخطاء كثيرة، وأذكر بعض الأمثلة: المثال الأول: يرى بعض الباحثين أن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا عارض قوله، حمل الفعل على أنه خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يحاول أن يجمع بين الفعل والقول وذلك بحمل النهي على الكراهة والأمر على الاستحباب، ولا شك أن هذا القول خطأن ولا تثبت الخصوصية إلا بدليل صريح أن هذا الفعل خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومثل هذا القول لقائله لو أحصينا المسائل التي خالف فيها القول الراجح بسبب هذا المنهج لجاءت مسائل كثيرة متفرقة على أبواب الفقه، هذا مثال، وقس عليه غيره. مثال آخر: أخذ بعضهم من الأمر المطلق بقوله - صلى الله عليه وسلم -: خذوا عني مناسككم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: صلوا كما رأيتموني أصلي أن الأصل في جميع أفعال الحج والصلاة الوجوب، إلا لصارف وقرينة يدل على أن الحكم فيها للاستحباب. ولا شك أن الاستدلال بمثل هذا الأمر العام المشتمل على أحوال وهيئات، وصفات وأقوال، أحكامها مختلفة، لا أرى أن يستدل على وجوبها بهذا العموم. فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " خذوا عني مناسككم " يدل على
كونه مشروعاً، وأنه من أفعال المناسك، أما دلالته على الوجوب فيحتاج إلى دليل خاص، كما أن دلالته على الشرطية أو الركنية يحتاج إلى دليل خاص كذلك. فإذا كان ورود الأمر الخاص فيه نزاع في دلالته على الوجوب كما هو معلوم في أصول الفقه، فما بالك في حديث: "خذوا عني مناسككم" والذي يشمل جميع أفعال المناسك. ولأهمية هذه المسألة رأيت أيت أن أذكر منهجي في مسائلة مهمة يختلف فيها الاجتهاد من باحث لآخر، ويترتب على الخلاف فيها اختلاف في الحكم على مئات الأحاديث صحة وضعفاً، فرأيت أن أقدم ما آراه صواباً مدعوماً بالحجة في منهج المحدثين في الشذوذ وزيادة الثقة. ومسألة الشذوذ مسألة شائكة مترامية الأطراف، ومن أكبر أسس العلة تصحيحاً وتضعيفاً، وقد خاض في هذه المسألة طوائف من العلماء مختلفة مشاربهم، خالفوا فيها جمهور المحدثين، على رأسهم جمهور الأصوليين المتأثرين بعلم الكلام، البعيدين كل البعد عن الممارسة والتطبيق في تصحيح الأحاديث وتضعيفها وبيان عللها، وتأثر كثير من طلبة العلم بمنهج الأصوليين، وأصبح منهج جمهور المحدثين غير معمول به عند كثير من الطلبة، وممن له عمل في تصحيح الأحاديث وتضعيفها، وليست هذه هي الجناية الوحيدة من الأصوليين على مصطلح الحديث، فقد أقحموا مباحث كثيرة، ونشروا أراء لم تكن معروفة عند أهل الحديث، وليس هذا مجال بحثها. ومما زاد الطين بلة أن الحافظ ابن حجر رحمه الله قرر في نخبة الفكر رأي الأصوليين واعتمده، فانتشر هذا الرأي بسبب انتشار النخبة، بينما الحافظ نفسه ضعف ما رجحه في النخبة في كتابه القيم النكت على مقدمة ابن
القول الأول: منهج الفقهاء.
الصلاح، ورد عليه في كلام طويل أوردت بعضه في هذا البحث. ولم أقصد في هذا البحث أن أتوسع في هذه المسألة، وإنما أردت أن أعطي إشارات ليفهم منها القارئ منهج جمهور المحدثين، وليعلم سبب تضعيفي لبعض الزيادات في بعض الأحاديث التي قد تكون في الصحيحين أو في بعضهما، وأشهر الأقوال في قبول زيادة الثقة ما يلي: القول الأول: منهج الفقهاء. ذهب جمهور الفقهاء والأصوليين إلى قبول زيادة الثقة، ما لم تكن منافية لرواية من هو أوثق منه، ومعنى منافية: أي يلزم من قبولها رد الرواية الأخرى (¬1). واستدلوا على ذلك: أولاً: قالوا: إن الراوي إذا كان ثقة، وانفرد بالحديث من أصله كان مقبولاً، فكذلك انفراده بالزيادة. وأجيب عن هذا قال الحافظ في النكت: هناك فرق بين تفرد الراوي بالحديث من أصله، وبين تفرده بالزيادة؛ لأن تفرده بالحديث من أصله لا يلزم منه تطرق السهو والغفلة إلى غيره من الثقات، إذ لا مخالفة في روايته لهم بخلاف تفرده بالزيادة إذا لم يروها من هو أوثق منه حفظاً، وأكثر عدداً، فالظن غالب بترجيح روايتهم له على روايته (¬2). اهـ وقال أيضاً في النكت: الحديث الذي يتحد مخرجه، فيرويه جماعة من الحفاظ الأثبات على وجه، ويرويه ثقة دونهم في الضبط والاتقان على وجه، ¬
يشتمل على زيادة تخالف ما رووه إما إما متناً أو إسناداً، فكيف تقبل زيادته، وقد خالفه من لا يغفل مثلهم عنها لحفظهم أو لكثرتهم، ولا سيما إذا كان شيخهم ممن كان يجمع حديثه، ويعتنى بمروياته، كالزهري وأضرابه بحيث يقال: لو رواها لسمعها منه حفاظ أصحابه، ولو سمعوها لرووها، ولما تطابقوا على تركها، والذي يغلب على الظن في مثل هذا وأمثاله تغليط راوي الزيادة (¬1). الدليل الثاني للفقهاء: قالوا: من الجائز أن يقول الشارع كلاماً في وقت، فيسمعه شخص ويزيده في وقت آخر، فيحضره غير الأول، ويؤدي كل منهم ما سمع، وبتقدير اتحاد المجلس فقد يحضر أحدهما في أثناء الكلام، فيسمعه ناقصاً، ويضبطه الآخر تاماً، وينصرف أحدهما قبل فراغ الكلام، ويتأخر الآخر، وبتقدير حضورهما، فقد يذهل أحدهما، أو يعرض له ألم أو جوع أو فكر شاغل، أو غير ذلك من الشواغل، ولا يعرض لمن حفظ الزيادة، ونسيان الساكت محتمل، والذاكر مثبت، وغاية ما فيه أنه لم يذكر الزيادة. وأجيب: قال الحافظ في النكت: إن الذي يبحث فيه أهل الحديث في هذه المسألة إنما هو في زيادة بعض الرواة التابعين فمن بعدهم، وأما الزيادة الحاصلة من بعض الصحابة على صحابي آخر إذا صح السند إليه فلا يختلفون في قبولها، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين في قصة آخر من يخرج من النار، وأن الله يقول له بعد أن يتمنى ما يتمنى: لك ذلك ومثله معه. قال ¬
القول الثاني: قول جمهور المحدثين.
أبو سعيد رضي الله عنه: أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لك ذلك، وعشرة أمثاله. ثم قال الحافظ: وإنما الزيادة التي يتوقف أهل الحديث بقبولها من غير الحافظ، حيث يقع في الحديث الذي يتحد مخرجه، كمالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، إذا روى الحديث جماعة من الحفاظ الأثبات العارفين بحديث ذلك الشيخ، وأنفرد دونهم بعض رواته بزيادة فإنها لو كانت محفوظة لما غفل الجمهور من رواته عنها، فتفرد واحد منهم بها دونهم، مع توافر دواعيهم على الأخذ عنه، وجمع حديثه، يقتضي ريبة توجب التوقف فيها (¬1). قلت: واضح أن الفقهاء عند ما ساقوا دليلهم الثاني كانوا لا يعلمون من طريقة المحدثين إلا ما يعرفونه من حلق تدريس الفقه، فقد يحضر طالب متقدم، ويتأخر آخر، فيسمع المتقدم قبل المتأخر، إن هذا الكلام لا يتمشى مع طريقة المحديثين والعناية بمروياتهم، وربما امتحن حفظ الشيخ بعد سنوات من تحديثه، فإذا زاد فيه أو نقص كان هذا دليلاً على عدم حفظه، وكانوا بعضهم لا يحدث إلا على آداب معروفة من الطهارة وقصد التحديث، بل إنك تجد المحدثين يفرقون بين ما سمعوه في المذاكرة، وإن كان على سبيل الرواية، وبين غيره؛ لأن المذاكرة قد يتساهل الشيخ في النص المروي .. فلله درهم!! كيف حفظ الله بهم دينه، وأين هذا من طريقة الفقهاء والأصوليين، وما أبعد التنظير النظري عن التطبيق العملي. القول الثاني: قول جمهور المحدثين. قالوا: إن زيادة الثقة لا تقبل مطلقاً، ولا ترد مطلقاً، بل ينظر في كل ¬
زيادة بحسبها، على حسب ما يقوم عندهم من القرائن المحتفة بالقبول أو الرد. يقول ابن حجر عن منهج الشيخين: والتحقيق أنهما ليس لهما في تقديم الوصل عمل مطرد، بل هو دائر مع القرائن، فمهما ترجح بها اعتمداه، وإلا فكم حديثٍ أعرضا في تصحيحه للاختلاف في وصله وإرساله (¬1). وقال الزيلعي رحمه الله: من الناس من يقبل زيادة الثقة مطلقاً، ومنهم من لا يقبلها، والصحيح التفصيل: وهي أنها تقبل في موضع دون موضع، فتقبل إذا كان الراوي الذي رواها ثقة حافظاً ثبتاً، والذي لم يذكرها مثله أو دونه في الثقة، وتقبل في موضع آخر لقرائن تخصها، ومن حكم في ذلك حكماً عاماً فقد غلط، بل كل زيادة لها حكم يخصها (¬2). اهـ وقال ابن دقيق العيد: من حكى عن أهل الحديث أو أكثرهم أنه إذا تعارض رواية مرسل ومسند، أو رافع وواقف، أو ناقص وزائد، أن الحكم للزائد، فلم يصب في هذا الإطلاق، فإن ذلك ليس قانوناً مطرداً، وبمراجعة أحكامهم الجزئية يعرف صواب ما نقول (¬3). وقد يقول بعض الحفاظ: هذه زيادة من ثقة، والزيادة من الثقة مقبولة، فيفهم من ليس له ممارسة واطلاع على عمل المحدثين أن الزيادة مقبولة مطلقاً إذا لم تكن منافية، وهذا فهم غير دقيق. قال ابن رجب رحمه الله في شرحه لعلل الترمذي: وهكذا الدراقطني يذكر في بعض المواضع أن الزيادة من الثقة مقبولة، ثم يرد في بعض المواضع ¬
زيادات كثيرة من الثقات، ويرجح الإرسال على الإسناد، فدل على أن مرادهم زيادة الثقة في تلك الموضع خاصة، وهي إذا كان الثقة مبرزاً في الحفظ على من لم يذكرها (¬1). اهـ فقد أراحنا ابن رجب رحمه الله في هذا التفسير من اعتراض بعض الطلبة ممن تخرج على النخبة، ولم يمارس التصحيح، فيقطع نصاً من كلام بعض العلماء، ويقول: انظر الإمام فلان يقول: هذه زيادة من ثقة، وزيادة الثقة مقبولة، فلا يعني هذا الكلام قبول زيادة الثقة مطلقاً، كما لا يعني أيضاً: قبولها بشرط أن لا تكون منافية، فهذا التفصيل على منهج المحدثين غير معروف. فإذا كان ترجيح الأئمة يدرو مع القرائن، فإني سوف أستعرض لك أشهر القرائن التي تكون سبباً في ترجيح الأئمة على زيادة بالحفظ أو الرد، فمنها: الأولى: الكثرة، وهي من أشهر القرائن وأوضحها. قال الشافعي رحمه الله: العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد (¬2). (3) مثال ذلك، ما رواه البخاري رحمه الله في صحيحه، عن علي بن عياش، عن شعيب بن أبي حمزة، عن ابن المنكدر، عن جابر مرفوعاً في إجابة المؤذن: "اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته". تفرد محمد بن عوف، عن علي بن عياش بزيادة: إنك لا تخلف الميعاد، كما في سنن البيهقي (¬3)، فهذه الزيادة شاذة لمخالفة محمد بن عوف جماعة من ¬
الحفاظ، منهم: الأول: البخاري في صحيحه (¬1). الثاني: أحمد بن حنبل (¬2)، ومن طريق أحمد أخرجه أبو داود (¬3). الثالث: محمد بن سهل البغدادي، كما في سنن الترمذي (¬4). الرابع: إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، كما في سنن الترمذي (¬5). الخامس: محمد بن يحيى الذهلي، كما في سنن ابن ماجة (¬6). السادس: أبو زرعة الدمشقي، كما في شرح معاني الآثار (¬7). السابع: موسى بن سهل الرملي، كما في صحيح ابن خزيمة (¬8). الثامن: محمد بن جعفر السمناني، كما في سنن ابن ماجه (¬9). التاسع: العباس بن الوليد الدمشقي، كما في سنن ابن ماجه (¬10). العاشر: عمرو بن منصور النسائي، كما في سنن النسائي (¬11). ¬
مثال آخر
فاتفاق العشرة على عدم ذكر زيادة محمد بن عوف، يدل على ضبطهم، ووهمه. مثال آخر: (4) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا أبو النعمان، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب، فقال: كيف صلاة الليل؟ فقال: مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة توتر لك ما قد صليت. ورواه مسلم (¬1). وقد رواه الطيالسي (¬2)، وأحمد (¬3)، وابن أبي شيبة (¬4)، وأبو داود (¬5)، والترمذي (¬6)، والنسائي في الكبرى وفي المجتبى (¬7)، وابن ماجه (¬8)، والدرامي (¬9)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (¬10)، وابن حبان (¬11)، والبيقهي ¬
(¬1)، من طريق علي البارقي، وهو صدوق عن ابن عمر، بلفظ: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. بزيادة: كلمة (والنهار). وقد رواه جماعة عن ابن عمر بدون هذه الزيادة، منهم على سبيل المثال لا الحصر: الأول: نافع كما في موطأ مالك (¬2)، ومسند أحمد (¬3)، وصحيح البخاري (¬4)، ومسلم (¬5)، وأبي داود (¬6)، والترمذي (¬7)، والنسائي في الكبرى (¬8)، والمجتبى. الثاني: سالم، كما في مصنف ابن أبي شيبة (¬9)، وأحمد (¬10)، والبخاري (¬11)، ومسلم (¬12)، والنسائي (¬13)، والطبراني في مسند الشاميين (¬14). ¬
الثالث: عبد الله بن دينار، كما في موطأ مالك (¬1)، ومصنف ابن أبي شيبة (¬2)، والبخاري (¬3)، ومسلم (¬4)، والنسائي (¬5). الرابع: عبد الله بن شقيق، كما في مصنف ابن أبي شيبة (¬6)، وأحمد (¬7)، ومسلم (¬8)، وأبي داود (¬9). الخامس: طاووس، كما في مصنف ابن أبي شيبة (¬10)، وأحمد (¬11)، ومسلم (¬12)، والنسائي (¬13). السادس: أبو سلمة، كما في مسند أحمد (¬14)، وسنن النسائي (¬15)، ¬
السابع: القاسم بن محمد كما في صحيح البخاري (¬1)، والنسائي (¬2). الثامن: حميد بن عبد الرحمن بن عوف، كما في مصنف عبد الرزاق (¬3)، ومسند أحمد (¬4)، وصحيح مسلم (¬5)، والنسائي (¬6)، وأبي عوانة (¬7)، وشرح معاني الآثار (¬8). التاسع: عبيد الله بن عبد الله بن عمر، كما في صحيح مسلم (¬9). العاشر: عقبة بن حريث، كما في مسند أحمد (¬10)، وصحيح مسلم (¬11)، ومسند أبي عوانة (¬12)، والبيهقي (¬13). الحادي عشر: لا حق بن حميد أبو مجلز، كما في سنن ابن ماجه (¬14). ¬
الثاني عشر: أنس بن سيرين كما في مسند أحمد (¬1)، والبخاري (¬2). الثالث عشر: محمد بن سيرين، كما في مصنف عبد الرزاق (¬3)، ومسند أحمد (¬4). الرابع عشر: عطية بن سعد العوفي، كما في مسند أحمد (¬5). الخامس عشر: عقبة بن مسلم، كما في شرح معاني الآثار (1/ 279). السادس عشر: عقبة بن سعد، كما في مسند أحمد (2/ 155). السابع عشر: سعد بن عبادة كما عند الطبراني في الصغير (1/ 125). فهؤلاء سبعة عشر راوياً فيهم من هو من أخص أصحاب ابن عمر مثل سالم ونافع، ومنهم ثمانية حفاظ في الصحيحين أو في أحدهما، كلهم يروون هذا الحديث وليس فيه ما ذكره علي البارقي. قال النسائي كما في سننه عن زيادة والنهار: هذا الحديث عندي خطأ والله أعلم. اهـ وضعف الزيادة يحيى بن معين، وقال: مَنْ عليّ الأزدي حتى أقبل منه؟! (¬6). وضعف الزيادة ابن تيمية (¬7). ¬
وقد روى ابن أبي شيبة والطحاوي في شرح معاني الآثار بسند صحيح عن ابن عمر، أنه كان يصلي بالليل مثنى مثنى، ويصلي بالنهار أربعاً، وهذا يؤكد خطأ البارقي (¬1). فاتفاق العدد الكثير على لفظ، وانفراد واحد عنهم بزيادة توجب ريبة في قبول زيادته، إذ لو كانت محفوظة كيف يغفل عنها هذا العدد الكثير ممن ¬
روى الحديث. (5) مثال آخر. نقل الحافظ في النكت في حديث رواه يحيى بن أبي كثير، عن أبي عياش، عن سعد بن أبي وقاص، في بيع الرطب بالتمر نسيئة. قال الدراقطني: قد رواه مالك وإسماعيل بن أمية، وأسامة بن زيد، والضحاك بن عثمان، عن أبي عياش، فلم يقولوا: نسيئة. قال الدارقطني: واجتماعهم على خلاف ما رواه يحيى يدل على ضبطهم ووهمه (¬1). فهذه أمثلة ثلاثة، وهي تفصح عن غيرها، فالقصد من ذكر ما سبق هو ضرب المثال، ولو استطرد الباحث في ذكر الأمثلة على رد أئمة الحديث زيادات خالف فيها الفرد الثقة من هم أكثر منه عدداً لجاء ذلك في رسالة خاصة. القرينة الثانية: الحفظ: وهو أن يكون أحد الراويين أحفظ وأتقن وأضبط، فيقدم الأحفظ على الحافظ، والأوثق على الثقة. قال الحازمي في الاعتبار في ذكر وجوه الترجيح: أن يكون أحد الراويين أتقن وأحفظ، بنحو ما إذا اختلف مالك وشعيب بن أبي حمزة في الزهري، فإن شعيباً وإن كان حافظاً غير أنه لا يوازي مالكاً في إتقانه وحفظه، ومن اعتبر حديثهما وجد فيه بوناً بعيداً (¬2). القرينة الثالثة: الاختصاص بالراوي، فأبو معاوية الضرير: محمد بن خازم من أثبت أصحاب الأعمش، فإذا خالفه غيره في الأعمش قدم عليهم، ¬
ومثله هشام بن حسان في ابن سيرين، وحماد بن سلمة في ثابت البناني. وهذا النوع كثير. القرينة الرابعة: أن يكون المعروف عن الراوي خلافه. (6) مثاله: حديث ابن عباس في شاة ميمونة، فرواه الشيخان وغيرهما بلفظ: هلا انتفعتم بإهابها، قالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها. والحديث مداره على الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، واختلف على الزهري فيه: فرواه ابن عيينة، كما في صحيح مسلم (¬1)، عن الزهري بذكر الدباغ، بلفظ: هلا أخذتم إهابها فدبغتموه، فانتفعتم به. ورواه جماعة من أصحاب الزهري، عنه، بدون ذكر الدباغ، وهاك بعض من وقفت عليهم: الأول: الإمام مالك رحمه الله، وهو من أجل من روى عن الزهري، وروايته في الموطأ (¬2)، ومن طريقه رواه أحمد (¬3)، والنسائي في الكبرى، وفي المجتبى (¬4). الثاني: يونس بن يزيد، كما في صحيح البخاري (¬5)، ومسلم (¬6)، ¬
وصحيح ابن حبان (¬1)، البيهقي في السنن (¬2). الثالث: صالح بن كيسان، كما في مسند أحمد (¬3)، وصحيح البخاري (¬4)،ومسلم (¬5)، وأبي عوانة (¬6). الرابع: معمر، كما في مصنف عبد الرزاق (¬7)، وأحمد (¬8)، وأبي عوانة (¬9)، وابن المنذر في الأوسط (¬10)، وأبي داود (¬11)، والطبراني في المعجم الكبير (¬12). الخامس: الأوزاعي، كما في مسند أحمد (¬13)، ومسند أبي يعلى (¬14)، وابن حبان (¬15)، والطبراني في الكبير (¬16). ¬
السادس: حفص بن الوليد، كما في سنن النسائي الكبرى والصغرى (¬1). وحفص روى عنه جماعة، ولم يوثقه إلا ابن حبان، وفي التقريب صدوق. السابع: عقيل، فقد قال أبو داود في إثر حديث (4122) لم يذكر الأوزاعي ويونس وعقيل في حديث الزهري ذكر الدباغ (¬2). اهـ الثامن: إسحاق بن راشد، كما في معجم الطبراني (¬3) فهؤلاء ثمانية رواة لم يذكروا لفظ الدباغ، وفيهم من يعد من أجل من روى عن الزهري، كمالك ومعمر ويونس، والأوزاعي. وقد رد الأئمة زيادة ابن عيينة بذكر الدباغ، لأن الزهري الذي مدار الحديث عليه ينكر الدباغ، ويفتي بجواز الانتفاع به، ولو لم يدبغ، والحديث حديثه، ومداره عليه، فقد أخرج عبد الرزاق في المصنف (¬4)، عن معمر، كان الزهري ينكر الدباغ، ويقول: يستمتع به على كل حال، وممن طعن في هذه الزيادة الإمام أحمد قال ابن تيمية: ليس في صحيح البخاري ذكر الدباغ، ولم يذكره عامة أصحاب الزهري عنه، لكن ذكره ابن عيينة، ورواه مسلم في ¬
صحيحه، وقد طعن الإمام أحمد في ذلك، وأشار إلى غلط ابن عيينة فيه، وذكر أن الزهري وغيره كانوا يبيحون الانتفاع بجلود الميتة بلا دباغ لأجل هذا الحديث (¬1). فلما كان معروفاً عن الزهري خلاف ما زاده ابن عيينة اعتبر ذلك قرينة على وهمه، ولم تعتبر زيادته محفوظة. القرينة الخامسة: الاختلاف على الراوي، فكثرة الاختلاف على الراوي في لفظ الحديث دليل على عدم ضبطه، فيقدم الراوي الذي لم يختلف عليه، على الراوي الذي اختلف عليه. فهذه بعض القرائن، وهي ليست محصورة؛ لأن أسباب الترجيح كثيرة، وهي أكثر من أن تحصر، وما ذكرته إنما على سبيل التمثيل، وكل حديث له قرينة خاصة تستدعي ترجيح هذا اللفظ على آخر، والله أعلم. وبقي قولان في المسألة: أحدهما: عدم قبول الزيادة مطلقاً، أي ترجيح الموقوف على المرفوع، والمرسل على الموصول، والناقص على الزائد (¬2). قال ابن الصلاح: الإرسال نوع قدح في الحديث، فترجيحه وتقديمه من قبيل تقديم الجرح على التعديل (¬3). وثانيهما: قبول زيادة الثقة مطلقاً، وهذا رأي جماعة من أئمة الفقه والأصول (¬4). ¬
هذا ما أردت الإشارة إليه، وقد تبين لنا أن عمل أئمة الحديث من الدقة بحيث تكون كل زيادة معرضة للنقد، فتجري مقارنة بين ألفاظ جميع من روى الحديث عن هذا الشيخ، وينظر في ما اتفقوا عليه، وتمحص تلك الزيادة التي قد يزيدها بعض الرواة، هل تابعه عليها أحد، أم لا؟ وهل من ذكرها أحفظ ممن لم يذكرها أم لا؟ فدراسة الاسناد سهلة جداً، وهي كد كثير من المتأخرين مع الأسف، فمعرفة هل الرواي ثقة أو ضعيف ليس عملاً شاقاً، فيكفي أن يقلب الباحث التقريب ليعرف درجة الراوي في الحفظ، ولكن دراسة المتن، والعناية به، ومقارنة المتون بعضها ببعض، لينظر تصرف بعض الرواة في المتن، وروايتهم له بالمعنى، فإن الفهم قد يدخله ما يدخله، والضبط عند الرواة ليس بدرجة واحدة، ورحم الله الإمام أحمد حين كان يتهيب في قبول زيادة من إمام في الحفظ مثل الإمام مالك حتى وجده قد توبع. قال الترمذي في العلل الصغير: روى مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر، قال: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر في رمضان على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى، من المسلمين صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير. فزاد مالك كلمة (من المسلمين) قال ابن رجب في شرحه لهذا النص: قال أحمد في رواية عنه: كنت أتهيب حديث مالك (من المسلمين) يعني: حتى وجده من حديث العمريين، قيل له: محفوظ عندك (من المسلمين)؟ قال: نعم. قال ابن رجب: وهذه الرواية تدل على توقفه في زيادة واحد من الثقات، ولو كان مثل مالك حتى يتابع على تلك الزيادة (¬1). اهـ والله أعلم. ¬
[المياة]
المقدمة وتشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: تعريف الطهارة. المبحث الثاني: تعريف النجاسة. المبحث الثالث: بيان الأصل في المياه والأعيان.
المبحث الأول تعريف الطهارة
المبحث الأول تعريف الطهارة الطهارة في اللغة: النظافة والنزاهة جاء في اللسان: الطهر: نقيض الحيض، والطهر: نقيض النجاسة، والجمع أطهار، وقد طَهَرَ يَطْهُر وطَهُرَ طُهْراً وطهارة المصدران عن سيبويه. وفي الصحاح طَهَر وطَهُر بالضم: طهارة فيهما. وطَهَّرته: أنا تطهيراً وتَطَهَّرت بالماء، ورجل طاهر. وقال أيضاً: وتَطَهَّرت المرأة: اغتسلت. وطَهَّره بالماء: غسله. واسم الماء: الطَّهُور، وكل ماء نظيف طَهُور. وماء طَهُور: أي يتطهر به، وكل طهور طاهر، وليس كل طاهر طهوراً. قال الأزهري: وكل ما قيل في قوله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (¬1)، فإن الطهور في اللغة: هو الطاهر المطهر؛ لأنه لا يكون طَهُوراً إلا وهو يتطهر به، كالوضوء: هو الماء الذي يتوضأ به، والنشوق: ما يستنشق به، والفطور: ما يفطر عليه من شراب أو طعام، وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ماء البحر، فقال: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته: أي المطهر أراد أنه طاهر يطهر. وقال الشافعي رضي الله عنه: كل ماء خلقه الله نازلاً من السماء، أو نابعاً من عين في الأرض، أو بحر لا صنعة فيه لآدمي غير الاستقاء، ولم يغير لونه شيء يخالطه، ولم يتغير طعمه منه، فهو طهور، كما قال الله عز وجل، وما عدا ذلك من مار ورد، أو ورق شجر، أو ماء يسيل من كرم، فإنه وإن كان طاهراً فليس بطهور، وفي الحديث: لا يقبل الله صلاة بغير طهور. ¬
قال ابن الأثير: الطُهور بالضم التطهر، وبالفتح الماء الذي يتطهر به كالوَضُوء والوُضُوء والسَحُور والسُحُور. وقال سيبويه: الطَهور بالفتح يقع على الماء والمصدر معاً، قال: فعلى هذا يجوز أن يكون الحديث بفتح الطاء وضمها، والمراد بهما التطهر. والماء الطَهُور بالفتح: هو الذي يرفع الحدث، ويزيل النجس؛ لأن فعولاً من أبنية المبالغة، فكأنه تناهى في الطهارة، والماء الطاهر: كالمستعمل في الوضوء والغسل. والمطهرة: الإناء الذي يتوضأ به، ويتطهر به. والطهارة: اسم يقوم مقام التطهر بالماء: الاستنجاء والوضوء. والطهارة: فضل ما تطهرت به، والتطهر: التنزه، والكف عن الإثم وما لا يحل، ورجل طاهر الثياب: أي منزه، ومنه قول الله عز وجل في ذكر قوم لوط وقولهم في مؤمني قوم لوط {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (¬1)، أي يتنزهون عن إتيان الذكور. وقيل: يتنزهون عن أدبار الرجال والنساء، قاله قوم لوط تهكماً، والتطهر: التنزه عما لا يحل، وهم قوم يتطهرون: أي يتنزهون من الأدناس، وفي الحديث: " السواك مطهرة للفم " ورجل: طهر الخلق، وطاهره، والأنثى طاهرة وإنه لطاهر الثياب: أي ليس بذي دنس في الأخلاق، ويقال: فلان طاهر الثياب، إذا لم يكن دنس الأخلاق قال امرؤ القيس: ثياب بني عوف طهارى نقية ............. ¬
وقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (¬1) معناه: وقلبك فطهر، وعليه قول عنترة: فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم أي شككت قلبه. وقيل: معنى وثيابك فطهر: أي نفسك. وقيل: معناه لا تكن غادراً، فتدنس ثيابك؛ فإن الغادر دنس الثياب. قال ابن سيده: ويقال للغادر: دنس الثياب. وقيل: معناه: وثيابك فقصر؛ فإن تقصير الثياب طهر؛ لأن الثوب إذا انجر على الأرض لم يؤمن أن تصيبه نجاسة، وقصره يبعده من النجاسة. وقيل معنى قوله: وثيابك فطهر، يقول: عملك فأصلح، وروى عكرمة، عن ابن عباس في قوله عز وجل: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} يقول: لا تلبس ثيابك على معصية، ولا على فجور وكفر، وأنشد قول غيلان: إني بحمد الله لا ثوب غادر ... لبست ولا من خزية أتقنعا والتوبة التي تكون بإقامة الحدود نحو الرجم وغيره طهور للمذنب تطهره تطهيراً، وقد طهره الحد. وقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬2)، يعني به الكتاب: لا يمسه إلا المطهرون عنى به الملائكة. وكله على المثل. وقيل: لا يمسه في اللوح المحفوظ إلا الملائكة. وقوله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} (¬3)، أي: ¬
تعريف الطهارة اصطلاحا
أن يهديهم (¬1). تعريف الطهارة اصطلاحاً: تعريف الحنفية: قال في الجوهرة النيرة: الطهارة: عبارة عن رفع حدث وإزالة نجس، حتى يسمى الدباغ والتيمم طهارة، وأعم من هذا أن يقال: عبارة عن إيصال مطهر إلى محل يجب تطهيره، أو يندب إليه، والمطهر: هو الماء عند وجوده، والصعيد عند عدمه (¬2). وجاء في مجمع الأنهر: الطهارة في الشرع (¬3): نظافة المحل عن النجاسة حقيقة كانت أو حكمية، سواء كان لذلك المحل تعلق بالصلاة كالبدن والثوب والمكان، أو لم يكن كالأواني والأطعمة (¬4). تعريف المالكية: جاء في مواهب الجليل: تطلق الطهارة في الشرع على معنيين: أحدهما: الصفة الحكمية القائمة بالأعيان التي توجب لموصوفها استباحة الصلاة به أو فيه أوله، كما يقال: هذا الشيء طاهر، وتلك الصفة الحكمية التي هي الطهارة الشرعية: هي كون الشيء تباح ملابسته في الصلاة والغذاء. ¬
تعريف الشافعية والحنابلة
والمعنى الثاني: رفع الحدث وإزالة النجاسة، كما في قولهم: الطهارة واجبة. وفي كلام القرافي: أن المعنى الأول حقيقة، والثاني مجاز، فلذلك عرفها ابن عرفة بقوله صفة حكمية توجب لموصوفها جواز استباحة الصلاة به أو فيه أوله، فالأوليان من خبث، والأخيرة من حدث انتهى. ويقابلها بهذا المعنى النجاسة، ولذلك عرفها ابن عرفة: بأنها صفة حكمية توجب لموصوفها منع استباحة الصلاة به أو فيه انتهى. واعترض ابن عرفة على من عرف الطهارة بالمعنى الثاني فقال: وقول المازري وغيره: الطهارة إزالة النجس، أو رفع مانع الصلاة بالماء أو في معناه، إنما يتناول التطهير، والطهارة غيره لثبوتها دونه فيما لم يتنجس، وفي المطهر بعد الإزالة (¬1). تعريف الشافعية والحنابلة: قالوا: الطهارة: هي ارتفاع الحدث، وما في معناه، وزوال الخبث (¬2). وقد اشتمل التعريف على ثلاثة أقسام، كل منها يطلق عليه طهارة شرعية. الأول: رفع الحدث. الثاني: إزالة النجاسة ¬
الأول: رفع الحدث.
الثالث: ما في معناهما. الأول: رفع الحدث. لا شك أن ارتفاع الحدث يسمى طهارة شرعية، سواء كان الحدث أصغر أو أكبر، فإذا توضأ الإنسان أو اغتسل من الحدث فقد تطهر، قال تعالى، بعد أن ذكر طهارة الوضوء من الحدث الأصغر والأكبر، في طهارة الماء والتيمم {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (¬1). والذي لم يتطهر يقال له محدث بنص السنة. (7) فقد جاء في الصحيحين من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " (¬2) الثاني من أقسام الطهارة: إزالة النجاسة، فإذا أزيلت النجاسة عن المحل فقد حصلت له طهارة شرعية من هذه النجاسة. (8) روى مسلم في صحيحه من طريق محمد بن سيرين، وهمام بن منبه كلاهما عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولا هن بالتراب (¬3). فالطهارة التي ذكرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذا الإناء ليست من الحدث، ¬
ولكنها طهارة من الخبث، وهي النجاسة، ومع ذلك اعتبرها الشارع طهارة شرعية، بل لو قيل: إن الطهارة من النجاسة هي الأصل في إطلاق الطهارة؛ لأن الطاهر عكس النجس، بخلاف طهارة الحدث فإنها ليست عن نجاسة، وقد لا يزال بها وساخة لم يكن القول بعيداً من حيث اللغة. بهذه الأدلة تبين لنا أن رفع الحدث طهارة، وزوال النجاسة طهارة أيضاً. وقد جمع الله سبحانه وتعالى طهارة الحدث، وطهارة النجاسة في آية واحدة في سورة البقرة على القول الصحيح. قال تعالى {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (¬1). فقوله سبحانه: حتى يطهرن. أي من النجاسة، التي هي انقطاع دم الحيض. وقوله: فإذا تطهرن: أي من الحدث الأكبر بالغسل بعد الطهارة من الحيض. النوع الثالث: هناك طهارة لا يرتفع بها الحدث، ولا تزال بها النجاسة، وهي مع ذلك طهارة شرعية. سماها الفقهاء: " في معنى ارتفاع الحدث، وفي معنى إزالة النجاسة. فالطهارة التي في معنى ارتفاع الحدث كتجديد الوضوء، فهو طهارة شرعية، ومع ذلك لم يرتفع بها الحدث، لأن الحدث قد ارتفع، ومثله الأغسال المستحبة شرعاً، ومثله الغسلة الثانية والثالثة في الوضوء. والطهارة التي في معنى إزالة النجاسة طهارة المستحاضة، فإنه يحكم لها بالطهارة وإن كان الحدث مستمراً، ومثله من به سلس بول، ومن قال: إن هذه إستباحة وليست طهارة فالخلاف معه قريب من اللفظي (¬2)، لأننا إذا ¬
أبحنا له فعل الصلاة، فقد حكمنا له بالطهارة. وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: لا يقبل الله صلاة بغير طهور " وقد سبق تخريجه. فلما أذن له شرعاً بالصلاة علم أنها هذه طهارته ¬
المبحث الثاني تعريف النجاسة
المبحث الثاني تعريف النجاسة تعريف النجاسة. قال في القاموس: النجس ضد الطاهر. وقال في كتاب العين: نجس: النجس الشيء القذر، وكل شيء قذرته فهو نجس (¬1). وقال في مختار الصحاح: نجس الشيء من باب طرب، فهو نجس بكسر الجيم وفتحها. قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬2)، وأنجسه غيره ونجسه: بمعنى (¬3). فقيل: النجس بفتح الجيم عين النجاسة وبكسرها ما لا يكون طاهراً والنَّجْس والنِّجْس والنَّجَس: القذر من الناس ومن كل شيء قذرته. ونَجِسَ الشيء بالكسر يَنْجَس نجساً، فهو نَجِسٌ، ونَجَسٌ. ورجل نَجِسٌ ونَجَسٌ، والجمع: أنجاس. وقيل: النجس يكون للواحد والاثنين والجمع والمؤنث بلفظ واحد، رجل نجس، ورجلان نجس، وقوم نجس، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬4)، فإذا كسروا، ثنوا وجمعوا وأنثوا، فقالوا: أنجاس ونجسة. ¬
النجاسة اصطلاحا
وقال الفراء: نجس لا يجمع ولا يؤنث. والنجس: الدنس والنجس أيضاً: اتخاذ عوذة للصبي عند أهل الجاهلية، وقد نجس له ونجسه: عوذه. ويقال للمعوذ منجس (¬1). النجاسة اصطلاحاً: هناك تعريفات كثيرة في النجاسة نقتصر على بعضها: التعريف الأول: قيل: النجاسة عين مستقذرة شرعاً (¬2). فقوله: "عين" خرج به الوصف؛ فإن النجاسة عين لها جرم محسوس، وليست من المعاني. وقوله: "مستقذرة شرعاً" خرج به الأشياء المستقذرة بالطبع، ولم يأت الشرع بتنجيسها، كالمخاط والبصاق. التعريف الثاني: قال المتولي: النجاسة في اصطلاح الفقهاء: كل عين حرم تناولها على الإطلاق، مع إمكان التناول لا لحرمتها. قال: وقولنا: على الإطلاق احتراز من السموم التي هي نبات؛ فإنها لا يحرم تناولها على الإطلاق، بل يباح القليل منها، وإنما يحرم الكثير الذي فيه ضرر. قال: وقولنا: مع إمكان التناول احتراز من الأشياء الصلبة؛ لأنه لا يمكن تناولها، وقولنا: لا لحرمته احتراز من الآدمي. ¬
التعريف الثالث
قال النووي: وهذا الذي حدد به المتولي ليس محققاً فإنه يدخل فيه التراب والحشيش المسكر والمخاط والمني وكلها طاهرة مع أنها محرمة. وفي المني وجه أنه يحل أكله، فينبغي أن يضم إليها لا لحرمتها أو استقذارها أو ضررها في بدن أو عقل والله أعلم (¬1). وزاد بعضهم قيداً آخر، وهو كونه في حالة الاختيار؛ لأن الضرورة لا تحريم معها (¬2). التعريف الثالث: النجاسة: هي كل عين جامدة، يابسة أو رطبة أو مائعة، يمنع منها الشرع بلا ضرورة، لا لأذى فيها طبعاً، ولا لحق الله أو غيره شرعاً (¬3). وهذا التعريف قريب من التعريف الذي قبله، والتعريف الأول أرجح، لأنه أسهل وأسلم من غيره، وإن كان قد يعترض عليه بأن كسب الحجام خبيث، ومع ذلك ليس بنجس لكن قد يقال: إن الخبث هنا يعني الرديء، وليس الخبث الذي هو النجاسة، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث الأصل في المياه
المبحث الثالث الأصل في المياه الأصل في المياه الطهارة، بل الأصل طهارة الأعيان كلها (¬1). دليل هذه القاعدة. الأول: الإجماع، وقد نقل الإجماع على هذا الأصل ابن تيمية، قال: الفقهاء كلهم اتفقوا على أن الأصل في الأعيان الطهارة، وأن النجاسات محصاة مستقصاة، وما خرج عن الضبط والحصر فهو طاهر، كما يقولونه فيما ينقض الوضوء ويوجب الغسل، وما لا يحل نكاحه وشبه ذلك (¬2). وقال أيضاً: الأصل الجامع طهارة جميع الأعيان حتى تتبين نجاستها فكل ما لم يبين لنا أنه نجس فهو طاهر (¬3). الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} (¬4). قال ابن تيمية على هذه الآية: التفصيل: التبيين، فبين سبحانه وتعالى أنه بين المحرمات، فما لم يبين تحريمه ليس بمحرم، وما ليس بمحرم فهو حلال، إذ ليس إلا حلال أو حرام (¬5). قال الشوكاني: حق استصحاب البراءة الأصلية، وأصالة الطهارة، أن ¬
يطالب من زعم بنجاسة عين من الأعيان بالدليل، فإن نهض به كما في نجاسة بول الآدمي وغائطه والروثة فذاك، وإن عجز عنه، أو جاء بما لا تقوم به الحجة، فالواجب علينا الوقوف على ما يقتضيه الأصل والبراءة (¬1). وعليه فلا يطالب من يدعي طهارة عين أو إباحتها بالدليل، لأن دليله الأصل والبراءة، ولكن يطالب من زعم أن عيناً من الأعيان نجسة أو محرمة. وهذا أصل عظيم من أصول الشريعة، يحتاج إليه الفقيه في كثير من الأعيان المختلف في نجاستها. ¬
الباب الأول في أقسام المياه
الباب الأول في أقسام المياه اختلف العلماء في أقسام المياه: فقيل: ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر، ونجس، وهو قول الجمهور (¬1). وقيل: الماء قسمان: طهور، ونجس. وهو رواية عن الإمام أحمد، وهى التي نص عليها في أكثر أجوبته (¬2)، وذكره ابن تيمية مذهباً لأبي حنيفة (¬3)، ¬
أدلة القائلين بأن الماء ثلاثة أقسام
ومال إليه ابن قدامة (¬1)، واختاره ابن تيمية (¬2)، والشوكاني (¬3). أدلة القائلين بأن الماء ثلاثة أقسام: الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} الآية (¬4). وجه الاستدلال: الماء ورد في الآية مطلقاً لم يقيد بشىء، والماء المطلق هو الماء الباقي على خلقته. أما الماء المتغير فلا يسمى ماء مطلقاً، إنما يضاف إلى تلك المادة التي يتغير بها كماء ورد أو زعفران أو ماء غريب، أو ماء مستعمل ونحو ذلك. إذاً دلت الآية على أن الطهارة بالماء المطلق، فإن لم يوجد انتقلنا إلى التيمم (¬5). الدليل الثاني: (9) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن مالك، عن صفوان بن سليم، عن سعيد بن سلمة من آل ابن الأزرق، عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في ماء البحر: هو الطهور ماؤه الحلال ميتته (¬6). ¬
[الحديث صحيح] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال: الصحابة رضي الله عنهم يعلمون أن ماء البحر ليس بنجس، فإذاً هو طاهر عندهم بلا شك، ولكن هذا الصحابي لا يعلم هل هو طهور أم لا؟ لذلك سأل النبي الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فدل ذلك على أنه قد استقر في ذهن ¬
الدليل الثالث
الصحابة أن هناك ماء طاهراً وليس بطهور (¬1) الدليل الثالث: استدل أيضاً من يقسم الماء إلى ثلاثة بأحاديث النهي عن الاغتسال في الماء الراكد، وبالنهي عن غمس اليد في الإناء قبل غسلها إذا استيقظ من نوم الليل. وأترك ذكر متون هذه الأحاديث؛ لأنها سوف تأتي مسألة مسألة. وجه الاستدلال: أن هذه المياه مع كونها ليست نجسة فقد ورد النهي عن الاغتسال فيها ومنها كالاغتسال في الماء الراكد، فكونه يوجد ماء ليس بنجس ولا يمكن التطهر منه، هذا هو الماء الطاهر؛ لأن الماء الطاهر ليس بنجس، ولا يمكن التطهر منه (¬2). الدليل الرابع: من النظر. قالوا: الماء إما أن يجوز الوضوء به أو لا. فإن جاز فهو الطهور، وإن لم يجز فلا يخلوا، إما أن يجوز شربه أو لا، فإن جاز فهو الطاهر، وإلا فهو النجس (¬3). أدلة القائلين بأن الماء قسمان الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ
الدليل الثاني
مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬1). وجه الاستدلال: أن كلمة " ماء " نكرة فى سياق النفى فتعم كل ماء سواء كان مطلقاً أومقيداً، مستعملاً أو غير مستعمل، خرج الماء النجس بالإجماع وبقى ما عداه على أنه طهور (¬2). وقال ابن المنذر: قال تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬3). فالطهارة على ظاهر كتاب الله بكل ماء إلا ما منع منه كتاب أو سنة أو إجماع. والماء الذي منع الإجماع الطهارة منه هو الماء الذى غلبت عليه النجاسة بلون أوطعم أو ريح (¬4). الدليل الثاني: (10) ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا عبد العزيز بن مسلم، قال: ثنا مطرف، عن خالد بن أبي نوف، عن سليط بن أيوب (¬5)، عن ابن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتوضأ من بئر بضاعة، فقلت: يا رسول الله توضأ منها وهى يلقى فيها ما يلقى من النتن؟ فقال إن الماء لا ينجسه شيء (¬6). ¬
[حديث صحيح بشواهده] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
وجه الاستدلال من الحديث: أن حديث أبي سعيد أثبت قسماً من الماء وهو الماء الطهور، وثبت الماء النجس بالإجماع فهذان قسمان من الماء أحدهما ثبت بحديث أبي سعيد، والآخر ثبت بالإجماع، وبقى الماء الطاهر لا دليل على ثبوته فيكون الماء قسمين: طهوراً ونجساً ولا ثالث لهما. أو يقال: الحديث أثبت طهورية الماء، وأنه لا ينجسه شيء، فالماء إذاً باق على طهوريته لا يخرج منها إلا بإجماع، وهذا لا يكون إلا بتغيره بالنجاسة. الدليل الثالث: (11) ما رواه البخاري، قال حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته - أو قال فأوقصته - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً (¬1). الدليل الرابع: (12) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثني مالك، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها، قالت: دخل علينا رسول الله
الدليل الخامس
صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته، فقال: اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن فآذنني، فلما فرغنا آذناه، فأعطانا حقوه، فقال: أشعرنها إياه تعني إزاره (¬1). وجه الاستدلال من الحديثين. قالوا: الماء إذا أضيف إليه السدر لا بد أن يتغير، وإذا كان هذا المتغير بشىء طاهر يطهر الميت فطهارة الحي كطهارة الميت، فما طهر الميت طهر الحي (¬2). الدليل الخامس: (13) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الملك بن عمرو وابن أبي بكير، قالا: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أم هانئ قالت: اغتسل النبي - صلى الله عليه وسلم - وميمونة من إناء واحد قصعة فيها أثر العجين (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل السادس
وجه الاستدلال: أن هذا الماء لا بد أن يتغير من العجين لا سيما في آخر الأمر إذا قل الماء وانحل العجين، ولم يمنع هذا من اغتسال النبي - صلى الله عليه وسلم - وزوجه، فدل هذا على أن الماء إذا تغير بشىء طاهر يبقى طهوراً، ولا يتحول إلى طاهر غير مطهر (¬1). الدليل السادس: (14) ما رواه البخاري، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: أخبرنا سفيان، عن عمرو، قال: أخبرني كريب، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بت عند خالتي ميمونة ليلة، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما كان في بعض الليل قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوضأ من شن معلق ... الحديث قطعة من حديث طويل (¬2). وجاء في الصحيحين (¬3)، من حديث عمران بن حصين الطويل في قصة انتفاع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من ماء مزادة امرأة مشركة، واغتسال من أصابته جنابة منها. وجه الاستدلال: أن هذه الأسقية لا بد أن تؤثر في الماء في طعمه ولونه ورائحته، ولم يمنع ¬
الدليل السابع
هذا من التطهر منه، ولم يتحول الماء إلى كونه طاهراً في نفسه غير مطهر لغيره، فدل على أن الماء قسمان لا ثالث لهما: طهور ونجس (¬1). الدليل السابع: من النظر، قالوا: إثبات قسم من الماء لا طهور ولا نجس. الحاجة إلى بيانه أشد من الحاجة إلى بيان كثير من الآداب والأحكام، لأن المسلم إما أن يتوضأ، وإما أن يتيمم. والمسألة تتعلق بالصلاة التي هى أعظم أركان الإسلام العملية فلو كان هذا القسم موجودا لبينة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وهذا القول - أعني: تقسيم الماء إلى قسمين - هو الراجح. والجواب: عن أدلة القول الأول مايلى: أما استدلالهم بقوله تعالى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬2). الآية فقد علمت الجواب عنه، وأن كلمة (ماء) نكرة فى سياق النفي فتعم كل ماء إلا ما دل الاجماع على خروجه، وهو الماء النجس. وأما الجواب عن السؤال عن طهورية ماء البحر وأنه كان مستقراً فى ذهن الصحابه أن هناك ماء طاهراً وليس بطهور فغير مسلم. ويجاب عنه من ثلاثة وجوه: الأول: لا نسلم أن الاشكال الذى يكون عند رجل من الصحابة يؤخذ منه هذا العموم؛ إذ كيف يؤخذ من فرد واحد من الصحابه سأل عن طهورية ماء البحر بأنه قد استقر فى ذهن الصحابة عموم رأي جميع الصحابة، ¬
أن هناك ماء ليس بطهور وليس بنجس، وهو الطاهر، ولو قيل: إنه قد استقر في ذهن هذا الصحابي فقط لكان فيه نزاع فكيف بهذا التعميم، والصحابة منهم الفقهاء، ومنهم من لم يُعْرَف بالفقه، وشرف الصحبة شىء والفقه شىء آخر. الثاني: يحتمل أن يكون الصحابي سأل عن التطهر بماء البحر، لأن بعض الصحابة كان يكره التطهر منه كابن عمر، وكعبد الله بن عمرو، فلذلك سأل عن هذا (¬1). ولم تكن علة الكراهة عندهما أنه طاهر. الثالث: أنتم جعلتم الشك الذي قام عند الصحابي دليلاً على وجود الطاهر، ونحن نرى أن حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - على البحر بأنه طهور دليل على أنه لا يضر تغير الماء بشىء طاهر؛ فإن ماء البحر متغير بالملح ومع ذلك هو طهور، والاستدلال بحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى من الأستدلال بشك فرد واحد من الصحابة إن سُلِّم لكم بأنه قد شك. أما الجواب عن الاغتسال بالماء الراكد، وعن النهي عن غمس اليد في الإناء قبل غسلها ثلاثاً إذا استيقظ من النوم فسوف تأتي مناقشة الأدلة بالتفصيل إن شاء الله في مسائل مستقلة. وهناك قولان آخران تركتهما في أخر البحث؛ لأنهما ضعيفان لايخرجان عن القولين الأولين. ¬
القول الأول: الماء المشكوك فيه (¬1)، وهذا القول في الحقيقة لا يخرج عن القولين السابقين لأن الشك إنما هو من قبل الإنسان نفسه، وأما الشارع فلا يمكن أن يقوم عنده شك في حقيقة الماء. نعم قد يحصل عند بعض المكلفين تردد في الماء هل هو طهور أم نجس؟ لكن يبقى الماء في حقيقة الأمر إما هذا، وإما هذا، ومع القول بأن الماء لا ينجس إلا بالتغير تصبح صورة هذا النوع قليلة أو نادرة؛ لأن التغير أمر مشاهد محسوس اللهم إلا أن يقال: قد يقع في بعض الصور كما لو كان التغير بسبب ولوغ الكلب، أو كان الإنسان فاقداً للشم أو أعمى، فهذا ممكن أن لا يشعر بالتغير، والله أعلم. القول الثاني: زاد قوم آخرون الماء المغصوب. قالوا: وحكم هذا الماء لا يمكن أن يرفع به الحدث لكن تزال به النجاسة (¬2). لماذا لا يرفع الحدث وهو ماء طهور؟ قالوا: لأنه ماء استعماله محرم، فلو قلنا: إنه يرفع الحدث لرتبنا على المحرم أثره، إذ كيف يكون محرماً ويتقرب به الإنسان. ولماذا إذاً قلتم بأنه يزيل النجاسة؟ قالوا: لأن النجاسة إذا ذهبت بالماء المحرم فقد زال حكمها فالحكم بنجاسة المحل مع زوال النجاسة غير ممكن، ولا يشترط لإزالة النجاسة نية ¬
القربة بخلاف رفع الحدث، والصحيح أن هذا القسم لا يخرج عن القولين الأولين؛ لأن الغصب صفة خارجه عن الماء راجعة إلى الغاصب، أما الماء في حقيقته فطهور.
الباب الثاني الوضوء بالماء المحرم كالمغصوب ونحوه
الباب الثاني الوضوء بالماء المحرم كالمغصوب ونحوه إذا تعدى الإنسان على مال غيره، وكان غيره بحاجة إليه، كالماء مثلاً فإنه يأثم بذلك، ولكن هل يرتفع الحدث، ويزول الخبث، أم لا؟ اختلف العلماء في ذلك: فقيل: يأثم، ويرتفع حدثه وخبثه، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3). وقيل: لا تصح الطهارة به، ويرتفع به الخبث، اختاره بعض الحنابلة (¬4). وقيل: لا يرتفع به حدث، ولا خبث، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5)، وهو اختيار ابن حزم (¬6). ¬
دليل من قال لا يرتفع به الحدث.
دليل من قال لا يرتفع به الحدث. الدليل الأول: القياس على الصلاة في الثوب المسبل، فإذا كانت الصلاة في ثوب مسبل حرام لا تصح، فكذلك المسح على شيء محرم لا يصح (15) فقد روى أحمد، قال: ثنا يونس بن محمد، قال، ثنا أبان وعبد الصمد، قال: ثنا هشام، عن يحيى، عن أبي جعفر، عن عطاء بن يسار، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بينما رجل يصلي، وهو مسبل إزاره، إذ قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهب، فتوضأ. قال: فذهب، فتوضأ، ثم جاء، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهب، فتوضأ. قال: فذهب، فتوضأ، ثم جاء، فقال: ما لك يا رسول الله، ما لك أمرته يتوضأ؟ ثم سكت، قال: إنه كان يصلي، وهو مسبل إزاره، وإن الله عز وجل لا يقبل صلاة عبد مسبل إزاره (¬1). [إسناده ضعيف، ومتنه منكر] (¬2). ¬
وجه النكارة فيه؛ إذا كانت الصلاة لا تقبل من أجل الإسبال، فلماذا يطلب منه إعادة الوضوء، وهو لم يحدث، ما بال الوضوء؟! ولماذا لم يبلغه بأن يرفع إزاره، فقد يكون الرجل جاهلاً، والبلاغ تعليمه ¬
الدليل الثاني
ما أخطأ فيه، لا أن يحيله على أمر قد أحسنه، فما إعادته للوضوء إلا عبث، حتى تجديد الوضوء لا يشرع في هذه الصورة؛ لأنه ما إن فرغ من وضوئه حتى طلب منه أن يعيده، لا لنقص في الوضوء، ولكن لأن الله لايقبل صلاة المسبل إزاره!!. الدليل الثاني: الماء المغصوب كسبه محرم بالاتفاق. (16) فقد روى البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، قال: حدثنا حماد، عن أيوب، عن محمد، عن ابن أبي بكرة، عن أبي بكرة ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فإن دماءكم وأموالكم، قال محمد: وأحسبه قال: وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب (¬1). فإذا كان كسبه محرماً وصححنا الوضوء به نكون بذلك قد رتبنا على الفعل المحرم أثراً صحيحاً، وهذا فيه مضادة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. (17) وقد روى مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد جميعاً عن أبي عامر، قال عبد: حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري، عن سعد بن إبراهيم، قال: سألت القاسم بن محمد، عن رجل له ثلاثة مساكن، فأوصى بثلث كل مسكن منها، قال: يجمع ذلك كله في مسكن واحد، ثم قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من عمل عملاً ليس عليه ¬
أمرنا فهو رد (¬1). ومعنى رد: أي مردود عليه، والوضوء بالماء المغصوب خلاف أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن حزم رحمه الله: من توضأ بماء مغصوب، أو أخذ بغير حق، أو اغتسل به، أو من إناء كذلك، فلا خلاف بين أحد من أهل الإسلام أن استعماله ذلك الماء وذلك الإناء في غسله ووضوئه حرام، وبضرورة يدري كل ذي حس سليم أن الحرام المنهي عنه هو غير الواجب المفترض عمله، فإذ لا شك في هذا فلم يتوضأ الوضوء الذي أمره الله تعالى به، والذي لا تجزئ الصلاة إلا به، بل هو وضوء محرم، هو فيه عاص لله تعالى، وكذلك الغسل، والصلاة بغير الوضوء الذي أمر الله تعالى به وبغير الغسل الذي أمر الله تعالى به لا تجزئ، وهذا أمر لا إشكال فيه. ونسأل المخالفين لنا عمن عليه كفارة إطعام مساكين، فأطعمهم مال غيره، أو من عليه صيام أيام، فصام أيام الفطر والنحر والتشريق، ومن عليه عتق رقبة فأعتق أمة غيره، أيجزيه ذلك مما افترض الله تعالى عليه؟ فمن قولهم: لا. فيقال لهم: فمن أين منعتم هذا وأجزتم الوضوء والغسل بماء مغصوب وإناء مغصوب؟ وكل هؤلاء مفترض عليه عمل موصوف في مال نفسه، محرم عليه ذلك من مال غيره بإقراركم سواء سواء. وهذا لا سبيل لهم إلى الانفكاك منه. وليس هذا قياساً، بل هو حكم واحد داخل تحت تحريم الأموال، وتحت العمل بخلاف أمر الله تعال، ى وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وكل هؤلاء عمل عملا ليس عليه أمر الله تعالى وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مردود بحكم ¬
الدليل الثالث
النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وأجيب: بأن التحريم والصحة غير متلازمين، فتلقي الجلب منهي عنه، وإذا تُلُقِيَ كان البيع صحيحاً، وللبائع الخيار إذا أتى السوق، فثبوت الخيار فرع عن صحة البيع. الدليل الثالث: قالوا إن المعدوم شرعا كالمعدوم حساً فتكون صورة التطهير معدومة حساً مع العمد، وذلك مبطل للصلاة والطهارة. وأجيب: بأن هذا النظر إنما يتم لو سلم أن الله تعالى أمر بالطهارة واشترط في ذلك أن تكون الأداة مباحة، ونحن لا نسلم ذلك بل نقول: إن الله تعالى أوجب الطهارة والصلاة مطلقاً، وحرم الغصب، ولا يلزم من تحريم الشيء أن يكون عدمه شرطاً. ألا ترى أنه لو سرق في صلاته لم تبطل صلاته مع مقارنة المحرم، فكذلك في هذه المسألة (¬2). الدليل الرابع: وقال بعضهم: إن تجويز الوضوء بالماء المغصوب يؤدي إلى إتلافه، وما يؤدي إلى إتلاف مال الغير ينبغي أن يحكم ببطلانه، بخلاف الصلاة في المكان المغصوب، والثوب المغصوب، فإنه لا يؤدي إلى إتلاف المغصوب. ¬
أدلة القائلين بصحة الوضوء.
وأجيب: بأن الحكم ببطلان الطهارة لن يرفع تلف الماء، فلا فائدة في الحكم ببطلان الطهارة. أدلة القائلين بصحة الوضوء. عدم الدليل المقتضي لفساد الطهارة، فهذا قد تطهر الطهارة الشرعية بغسل ما يجب غسله، فطهارته صحيحة، ولا يحكم ببطلانها إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، ولا دليل هنا. الدليل الثاني: إن المنع من الوضوء بالماء المغصوب لا يختص بالطهارة، فالغاصب مأذون له في المسح في الجملة، والمنع عارض أدركه من جهة الغصب، لا من جهة الطهارة، فأشبه غاصب مدية الذبح، وكلب الصيد، فيأثمون، ويصح فعلهم. دليل من فرق بين الحدث والخبث. الحنابلة قالوا: إن الماء المغصوب لا يرفع الحدث، ولكن يزيل الخبث. لماذا لا يرفع الحدث وهو ماء طهور؟ قالوا: لأنه ماء استعماله محرم، فلو قلنا: إنه يرفع الحدث لرتبنا على المحرم أثره، إذ كيف يكون محرماً ويتقرب به الإنسان، وكل الأدلة التي سقتها في القول الأول يستدلون بها على المنع من رفع الحدث. ولماذا إذاً قلتم بأنه يزيل النجاسة؟ قالوا: لأن النجاسة إذا ذهبت بالماء المحرم فقد زال حكمها فالحكم بنجاسة المحل مع زوال النجاسة غير ممكن، ولا يشترط لإزالة النجاسة نية
القربة بخلاف رفع الحدث. الراجح: أن الماء المغصوب تصح الطهارة منه في رفع الحدث والخبث، مع التحريم، فجهة المنع من قبل الغصب، لا من قبل الطهارة، ولا يكون النهي مقتضياً لفساد المنهي عنه إلا إذا عاد النهي إلى ذات العبادة، كما هو مقرر في أصول الفقه، والله أعلم.
الباب الثالث حكم رفع الحدث والخبث من ماء زمزم
الباب الثالث حكم رفع الحدث والخبث من ماء زمزم اختلف العلماء في استعمال ماء زمزم في رفع الحدث وإزالة الخبث، فقيل: يكره استعماله في إزالة الخبث، ولا يكره في رفع الحدث، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: لا يكره فيهما، وهو مذهب المالكية. وقيل: في إزالة النجاسة بماء زمزم خلاف الأولى، ولا يكره الوضوء والغسل منه، وهو مذهب الشافعية (¬3). وقيل: يكره فيهما، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬4)، اختاره ابن تيمية (¬5). وقيل: يحرم فيهما، حكاه قولاً بعض الفقهاء (¬6)، وهو وجه في مذهب ¬
دليل من منع الطهارة من ماء زمزم مطلقا.
الحنابلة (¬1). وقيل: يحرم إزالة النجاسة فقط، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يستحب الوضوء من زمزم، اختاره ابن الزاغوني من الحنابلة (¬3). وقيل: يكره الغسل، دون الوضوء، وهو رواية عن أحمد (¬4). دليل من منع الطهارة من ماء زمزم مطلقاً. بعضهم يرجع المنع إلى كونه ماء مباركاً، فيكون النهي من باب التعظيم، فقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن زمزم، كما في صحيح مسلم: إنها مباركة، إنها طعام طعم (¬5). دليل من فرق بين الغسل وبين الوضوء. أما من فرق بين الوضوء والغسل فيرجع المنع إلى مخالفة شرط الواقف. (18) فقد روى عبد الرزاق في المصنف، قال: عن معمر، قال: أخبرني ابن طاووس، عن أبيه، أنه سمع ابن عباس يقول وهو قائم عند زمزم، إني لا أحلها لمغتسل، ولكن هي لشارب - أحسبه قال - ومتوضئ حل وبل (¬6). ¬
دليل من فرق بين رفع الحدث وإزالة الخبث.
دليل من فرق بين رفع الحدث وإزالة الخبث. وجه هذا القول: أن الحدث ليس فيه إهانة لماء زمزم، لأنه ماء طهور، لاقى بدناً طاهراً، بخلاف الخبث، فإن فيه إهانة، وهو ماء مبارك ليس كسائر المياه. دليل من جوز رفع الحدث والخبث. أما جواز رفع الحدث به، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬1)، وهذا ماء طهور، فلا يجوز التيمم مع وجوده، وقد توضأ الصحابة من الماء الذي نبع من أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع كونه ماء مباركاً. وأما جواز رفع الخبث، فلأنه لا يوجد ما يمنع منه، وكونه ماء مباركاً ¬
الراجح من الأقوال
فهذا وحده غير كاف، وجنس الماء في نفسه مطعوم، ومن المال، ومع ذلك يزال به الخبث، والله سبحانه وتعالى أنزل الماء ليطهرنا، ولم يفرق بين ماء وآخر، ومن منع فعليه الدليل، والحل هو الأصل. الراجح من الأقوال: أرى الجواز له قوة، ولا يوجد دليل يمنع من رفع الحدث أو إزالة الخبث، لكن إن وجد غيره في إزالة الخبث فتركه أولى، وإن لم يوجد غيره فلا مانع من إزالة الخبث به، والله أعلم.
الباب الرابع في الماء المتغير
الباب الرابع في الماء المتغير ويشتمل على فصلين: الفصل الأول: في الماء المتغير بالطاهرات. الفصل الثاني: في الماء المتغير بنجاسة.
الفصل الأول في الماء المتغير بالطاهرات
الفصل الأول في الماء المتغير بالطاهرات
المبحث الأول الماء المتغير بطاهر غير ممازج
المبحث الأول الماء المتغير بطاهر غير ممازج تمهيد: هل يشمل التغير بغير ممازح اللون والطعم؟ اختلف الفقهاء رحمهم الله، هل يشمل المتغير بغير ممازج جميع أوصاف الماء من طعم ولون ورائحة أو يشمل التغير بالرائحة فقط .. على قولين. القول الأول: قالوا: المقصود بالتغير تغير الرائحة فقط؛ لأن تغير اللون أو الطعم لا يتصور إلا بانفصال أجزاء واختلاطها بالماء، وبالتالي يكون التغير تغيراً عن ممازجة ومخالطة وليس تغيراً بالمجاورة. وقد اختار هذا القول أكثر المالكية (¬1)، واختاره الماوردي (¬2) وابن الصلاح من الشافعية (¬3)، وظاهر عبارة صاحب المهذب (¬4)، ومفهوم عبارة الشافعي في ¬
الأم (¬1). واختاره من الحنابلة المجد في شرحه وتبعه صاحب الحاوي الكبير (¬2). وقيل: إن التغير بغير ممازج يشمل الأوصاف الثلاثة. واختاره النووي من الشافعية: وقال إنه هو الموافق لإطلاق كلام الأصحاب. بل قد صرح به أبو حامد وصاحبه المحاملي بأنه شامل لأوصاف الماء كلها (¬3). والراجح القول الأول: أنه لا يشمل إلا الريح فقط. إذ لا يتصور أن يتغير لون الماء ثم يكون تغيره عن مجاورة وليس عن ممازجة، فالتغير بالمجاورة مقصور على الريح فقط. خلاف العلماء في الماء إذا تغير بطاهر غير ممازج. إذا تغير الماء بطاهر غير ممازج كالدهن وقطع الكافور، فاختلف العلماء فيه هل يبقى على طهوريته أم يتحول إلى طاهر: فقيل: الماء طهور بلا كراهة، وهو مذهب الحنفية (¬4)، واختاره ابن رشد وابن الحاجب من ¬
المالكية (¬1)، وهو مذهب الشافعية (¬2)، ورجحه ابن حزم (¬3)، وابن قدامة (¬4). وقيل: يكون طاهراً، اختاره من المالكية ابن عرفة وابن مرزوق والأجهوري (¬5)، وهو وجه في مذهب الشافعية رجحه البويطي (¬6)، واختاره ¬
دليل من قال الماء طهور مكروه.
أبو الخطاب في الانتصار (¬1)، والمجد، وصاحب الحاوي الكبير من الحنابلة (¬2). وقيل: يصبح طهوراً مكروهاً، وهو المشهور عند الحنابلة (¬3). دليل من قال الماء طهور مكروه. قالوا إن الماء إذا تغير بغير ممازج، فإنه طهور يرفع الحدث ويزيل النجاسة. ومكروه: أي يثاب تاركه امتثالاً. ولا يعاقب فاعله. فلماذا هو طهور، وقد تغير؟ قالوا: لأن هذا التغير ليس عن ممازجة وإنما هو عن مجاورة. ولماذا هو إذاً مكروه؟ قالوا: لأن بعض العلماء يقولون بأنه طاهر فقلنا إنه مكروه خروجاً من الخلاف. والتعليل بالكراهة لوجود الخلاف قول ضعيف، وهو قد زاد من الخلاف، ولم يخفف الخلاف، وسبب ذلك: أولاً: أنتم لم تأتوا بقول يجمع بين القولين حتى يقال: دفعكم إلى القول به وجود الخلاف، فلا أنتم تمسكتم بالقول بأنه طهور بلا كراهة، ولا أنتم قلتم بأنه طاهر، فأنتم في الحقيقة أحدثتم قولاً ثالثاً لا لدليل دعاكم إلى القول بهذا القول، ولكن الذي دعاكم إلى هذا وجود قولين في المسألة وبدلاً من أن يصبح في المسألة قولان أصبح فيها ثلاثة أقوال: طهور مطلقاً، وطاهر، والقول الذي أحدثتموه (طهور مكروه). ¬
دليل من قال الماء طاهر غير مطهر.
ثانياً: أن الكراهة حكم شرعي يقوم على دليل شرعي ووجود الخلاف ليس من أدلة الشرع المتفق عليها ولا المختلف فيها. ثالثاً: لو أخذنا بالخلاف كدليل أو تعليل للحكم الشرعي للزم أن كل مسألة خلافية نقول إنها مكروهة، وهذا لا يقول به أحد. فالصحيح أن الخلاف نوعان: نوع يكون الخلاف فيه ضعيفاً جداً، فهذا نطرحه ولا نبالي. وليس كل خلاف جاء معتبراً ... إلا خلافاً له حظ من النظر. فإذا كان الخلاف ليس له حظ من النظر الشرعي أو العقلي (الأثر أو التعليل) فلا يراعى. النوع الثاني من الخلاف: خلاف يكون قوياً فتجد كل قول في المسألة له دليل قوي. فهنا يقال: إن الخروج من الخلاف فيه احتياط، وليس السبب وجود الخلاف وإنما السبب هو احتمال الأدلة .. فهو من باب دع ما يريبك إلا ما لا يريبك. دليل من قال الماء طاهر غير مطهر. قالوا: إن هذا الماء قد تغير بطاهر فيكون كما لو تغير بغير ممازج، قال أبو الخطاب: من سلم من أصحابنا أن التغير بالكافور والعود والدهن لا يمنع من الطهارة، قال: لأن ذلك تغير مجاورة لا مخالطة، والمانع تغير المخالطة، وهذا غير صحيح، فإن الكافور يوجد طعمه في الماء ومرارته، وكذلك طعم الدهن، وليس ذلك إلا بحصول جزء منه في الماء، ومخالطة له (¬1). ¬
دليل من قال الماء طهور بلا كراهة.
دليل من قال الماء طهور بلا كراهة. لا يحتاج هذا القول إلى دليل؛ لأن الأصل أن الماء طهور، ومن أراد أن ينقله عن أصله طلب منه الدليل، وإلا بقي على أصله، ومع ذلك فإن الأدلة كثيرة على عدم وجود قسم الطاهر، فالماء إما طهور أو نجس، ولاثالث لهما، وإذا ضعفنا القول بوجود الماء الطاهر فإن الماء في هذه المسألة يصبح طهوراً؛ لأن أحداً لم يقل بأنه إذا خالطه طاهر يصبح نجساً، وإنما الخلاف هل يصبح طاهراً أم طهوراً، وقد أفردت مسألة مستقلة في الخلاف في أقسام الماء، وذكرت أدلة كثيرة على أن الماء قسمان، وكل هذه الأدلة تصلح أن تكون أدلة في مسألتنا، والله أعلم.
المبحث الثاني الماء المتغير بطاهر يشق صون الماء عنه
المبحث الثاني الماء المتغير بطاهر يشق صون الماء عنه مثاله: ماء نابت بجواره أشجار كثيرة، فإذا حركت الرياح الأشجار تساقطت الأوراق .. فتقع تلك الأوراق في الماء فيتغير بها. أو نبت في الماء طحلب فتغير بسببه فهنا تغير الماء بشيء طاهر وليس بنجس، وهذا الطاهر يصعب الاحتراز منه، فما حكمه؟ اختلف الفقهاء في ذلك: فقيل: الماء طهور، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3)، واختاره العراقيون من أصحاب الإمام مالك (¬4)، ورجحه ¬
ابن رشد (¬1)، وابن حزم (¬2)، وابن تيمية (¬3)، وغيرهم. وقيل: يسلبه الطهورية، ولا فرق في ذلك بين ما يشق التحرز منه، وما لا يشق، وهو قول في مذهب المالكية (¬4). ¬
دليل من قال إن الماء طهور.
دليل من قال إن الماء طهور. أولاً: الإجماع. نقل الإجماع على طهوريته النووي (¬1)، وفيه نظر؛ لأن الخلاف في المذهب المالكي محفوظ. ثانياً: إن التحرز منه يشق، فعفي عنه، لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬2). قال أبو الخطاب: ما لا يمكن التحرز منه لا يحرج به الشرع، بل يعفو عنه كأثر الاستنجاء، والتراب القليل في الأموال الربوية، وملاقاة الماء للنجاسة قبل الانفصال، والعمل القليل في الصلاة، ويسير الدماء وغير ذلك (¬3). ثالثاً: قدمت الخلاف في أقسام المياه، وأن وجود ماء طاهر غير مطهر لا يثبت من حيث الأدلة، وأن الماء قسمان طهور ونجس، ولا ثالث لهما، فكل دليل ذكرته في تلك المسألة يصلح أن يكون دليلاً لهذه المسألة، والله أعلم. دليل من قال إن الماء طاهر غير مطهر. قالوا: إذا تغير الماء بشيء طاهر فإنه يسلبه الطهورية، لا فرق بين ما يشق وما لا يشق، لأن العلة هي التغير بشيء طاهر وقد حصل، وذلك أن الحكم بتغير الماء حكم وضعي، فكما أن النجاسة إذا وقعت في الماء فغيرته يكون نجساً، لا فرق بين نجاسة يشق التحرز عنها وبين غيرها، فكذلك الطاهر إذا وقع في الماء فإنه يسلبه الطهورية لا فرق بين ما يشق، وبين ما لا يشق. ¬
وهذا القول صحيح لو سلمنا أن الماء إذا تغير بشيء طاهر لا يشق التحرز منه يصبح طاهراً، ولكن الصحيح أن الماء طهور، ولو تغير طعمه ولونه ورائحته بشيء طاهر وضع فيه ما لم يخرج عن مسمى الماء، لأن الماء كما قدمنا قسمان لا ثالث لهما، وقد ذكرت أحاديث كثيرة تدل على التطهر بالماء الذي تغير بشيء طاهر، مثل حديث: "اغسلوه بماء وسدر" لمن وقصته ناقته، وسبق تخريجه، وقوله في حديث أم عطية في تغسيل ابنته رضي الله عنها: "اغسلوها بماء وسدر" وكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - اغتسل هو وزوجه من قصعة فيها أثر العجين، وسبق تحرير الخلاف في أن الماء قسمان، فارجع إليه غير مأمور.
المبحث الثالث الماء المتغير بطول مكثه
المبحث الثالث الماء المتغير بطول مكثه إذا طال ركود الماء في المكان، تغير إما في لونه أو طعمه أو ريحه. ويسمى الماء الآجن والآسن. فذهب الآئمة الأربعة إلى أنه ماء مطلق، طهور غير مكروه (¬1). وقيل: يكره استعماله، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬2). الدليل على طهورية الماء الآجن. أولاً: الإجماع على طهوريته. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الوضوء بالماء الآجن الذي قد طال مكثه في الموضع من غير نجاسة حلت فيه جائزة إلا شيئاً يروى عن ابن سيرين (¬3). وقال ابن تيمية: أما ما تغير بمكثه ومقره فهو باق على طهوريته باتفاق ¬
العلماء (¬1). (19) وأما ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا ابن عون، عن ابن سيرين أنه كان يكره الوضوء بالماء الآجن (¬2). [وسنده صحيح] (¬3). فلعل المقصود أن نفسه تكرهه؛ لأنه منتن الرائحة لا أنها كراهة شرعية، والله أعلم. ثانياً: لأن تغيره جاء من غير مخالطة، فلم يخالطه شيء لا طاهر ولانجس، والماء طهور في نفسه حتى تخالطه الأخباث العارضة، وهذا ما لم يحصل في الماء الآجن. وأما ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه توضأ بماء آجن، فهذا الحديث يذكره الفقهاء كصاحب المبدع، والروض، ولا يذكرون من خرجه، ولم أجده في كتب السنة من السنن والمسانيد والمعاجم، وقد ذكر ابن قاسم النجدي في حاشيته بأنه رواه البيهقي، وبالرجوع إلى البيهقي لم أجده بهذا اللفظ، وإليك ألفاظه: (20) فقد روى البيهقي، قال: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو جعفر محمد بن عبد الله البغدادي، ثنا محمد بن عمرو بن خالد، ثنا أبي، ثنا ابن ¬
لهيعة، ثنا أبو الأسود، عن عروة في قصة أحد وما أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجهه، قال: وسعى علي بن أبي طالب إلى المهراس، فأتى بماء في مجنة، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشرب منه، فوجد له ريحاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا ماء آجن، فمضمض منه، وغسلت فاطمة عن أبيها الدم (¬1). [ضعيف] (¬2). (21) وروى البيهقي أيضاً، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: حدثني من لا أتهم، عن عبيد الله بن كعب بن مالك، قال: فلما انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فم الشعب، خرج علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته من المهراس، ثم جاء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليشرب منه، فوجد له ريحاً، فعافه، فلم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه، وهو يقول: اشتد غضب الله على من دمى وجه نبيه - صلى الله عليه وسلم - (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬
(22) وقال ابن المنذر: احتج إسحاق بحديث روي عن الزبير بن العوام، قال إسحاق: أنا وهب بن جرير، ثنا أبي، قال: سمعت محمد بن إسحاق حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصعدين في أحد، قال: ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب فأتى المهراس، فأتى بماء في درقته، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشرب منه، فوجد له ريحاً، فعافه، فغسل به الدماء التي في وجهه، وهو يقول: اشتد غضب الله على من أدمى وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان الذي أدمى وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ عتبة بن أبي وقاص. قال إسحاق: ففي ذلك بيان على أنه طاهر، ولولا ذلك لم يغسل النبي - صلى الله عليه وسلم - الدم به (¬1). [إسناده صحيح] وإذا ثبت أنه ليس بنجس، فإنه طهور؛ لأن الماء إما طهور وإما نجس، ولا ثالث لهما كما تبين في الخلاف السابق عند الكلام على أقسام الماء، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع الماء المتغير بالملح
المبحث الرابع الماء المتغير بالملح ويشتمل على فرعين: الفرع الأول: الماء إذا وضع فيه ملح فتغير به. الفرع الثاني: الخلاف في ماء البحر.
الفرع الأول الماء إذا وضع فيه ملح فتغير به
الفرع الأول الماء إذا وضع فيه ملح فتغير به اختلف العلماء في الماء المتغير بالملح: فقيل: طهور مطلقاً، سواء كان الملح مائياً أو معدنياً، طرح قصداً أو من غير قصد، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، ووجه في مذهب الشافعية (¬3)، ¬
واختاره ابن تيمية (¬1). وقيل: إن تغير بملح مائي فهو طهور، وإن تغير بملح معدني فهو طاهر غير مطهر، وهذا ما عليه أكثر أصحاب الإمام الشافعي (¬2). وقيل: أن تغير بملح معدني فإنه طاهر .. وإن تغير بملح مائي فإنه طهور ¬
دليل من قال الماء طهور.
مكروه، وهو المشهور عند المتأخرين من الحنابلة (¬1). وقيل: إن طرح فيه الملح قصداً سلبه الطهورية، وإلا فلا، وهو قول في مذهب المالكية اختاره ابن يونس (¬2)، ووجه في مذهب الإمام أحمد (¬3). دليل من قال الماء طهور. الدليل الأول: (23) ما رواه البخاري، قال حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته - أو قال فأوقصته - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم ¬
الدليل الثاني
القيامة ملبياً (¬1). الدليل الثاني: (24) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثني مالك، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها، قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته، فقال: اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن فآذنني، فلما فرغنا آذناه، فأعطانا حقوه، فقال: أشعرنها إياه يعني إزاره (¬2). وجه الاستدلال من الحديثين: أن السدر أضيف إلى الماء، ولا بد أن يتغير به، ومع ذلك لم يمنع أن يتطهر به الميت، وما طهر الميت طهر الحي إذ لا فرق، وإذا كان السدر لم يسلب الماء الطهورية لم يسلبه الملح من باب أولى. الدليل الثالث: (25) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الملك بن عمرو وابن أبي بكير، قالا: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أم هانئ قالت: اغتسل النبي - صلى الله عليه وسلم - وميمونة من إناء واحد قصعة فيها أثر العجين (¬3). ¬
الدليل الرابع
[إسناده صحيح] (¬1). أن هذا الماء لا بد أن يتغير من العجين لا سيما في آخر الأمر إذا قل الماء وانحل العجين، ولم يمنع هذا من اغتسال النبي - صلى الله عليه وسلم - وزوجه، فدل هذا على أن الماء إذا تغير بشىء طاهر يبقى طهوراً، ولا يتحول إلى طاهر غير مطهر (¬2). الدليل الرابع: إثبات قسم من الماء لا طهور ولا نجس، الحاجة إلى بيانه أشد من الحاجة إلى بيان كثير من الآداب والأحكام، لأن المسألة إما أن يتوضأ، وإما أن يتيمم. والمسألة تتعلق بالصلاة التي هى أعظم أركان الإسلام العملية فلو كان هذا القسم موجودا لبينة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وهذا القول هو الراجح. دليل من فرق بين الملح المائي والمعدني. قالوا: تغير الماء بالملح المائي يشبه تغيره بالتراب؛ وذلك لأن الملح منعقد من الماء، فيكون حكمه حكم الثلج إذا ذاب وتحول إلى ماء فما دام ملحاً لا يجوز الوضوء به، فإذا صار ماء عاد عليه اسم الماء، ولا يضره تغير طعمه به، لأن الملح منه. وأما الملح المعدني فلم يكن قط ماء، فإذا تغير الماء به يكون حكمه كما لو تغير بالطعام، فلا تصح الطهارة منه. والصحيح أن الملح المعدني إذا وقع في الماء فغير أحد أوصافه فإنه ماء، فالماء المالح يسمى ماء على الإطلاق، وإذا كان الماء المالح كالبحر لم يمنع أن ¬
وجه قول من قال طهور مكروه
يسمى ماء، وتصح الطهارة منه، فكذلك الماء إذا وضع فيه المالح فغير طعمه لا يمنع أن يسمى ماء، ولا يتحول عنه اسم الماء بمجرد أنه تغير، وحكم الماء إذا تغير بشيء طاهر سوف يبحث في مسألة مستقله إن شاء الله. وجه قول من قال طهور مكروه لماذا قالوا: إنه طهور وقد تغير؟ قالوا: لأنه تغير بشيء منعقد من الماء. ولماذا يكون مكروهاً؟ قالوا: لأن بعض العلماء يقولون عنه بأنه طاهر فخروجاً من الخلاف، قلنا: إنه مكروه. وقد سبق أن الكراهة بسبب وجود الخلاف قول ضعيف جداً. وجه من قال إن وضع قصداً سلبه الطهورية. قالوا: لما فارق الملح الأرض أصبح طعاماً لا يجوز التيمم عليه، فصار حكمه حكم إذا وضع فيه شيء طاهر (¬1). والجواب عنه كالجواب عن الذي قبله، ويضاف إليه أن القصد نية متعلقة بالقلب وليست متعلقة بالماء، والقلب أجنبي عن الماء، فكما أنه لا تؤثر النية في تغير الماء بالنجاسة، فإذا تغير بالنجاسة نجس، سواء كان عن قصد أو غير قصد، فكذلك وقوع الشيئ الطاهر بالماء لا تؤثر فيه النية، فإن كان يسلب الماء الطهورية سلبه سواء كان عن قصد أو من غير قصد، وإذا كان لا يسلبه فكذلك. فقيد القصد قيد ضعيف، والله أعلم. ¬
الراجح
الراجح من الخلاف كما قدمت أن الماء طهور مطلقاً سواء تغير بالملح المائي أو المعدني، وسواء وضع فيه عن قصد أو عن غير قصد.
الفرع الثاني الخلاف في طهورية ماء البحر
الفرع الثاني الخلاف في طهورية ماء البحر في طهورية ماء البحر خلاف شاذ، يلزم ذكره عند الكلام على طهورية ماء البحر ليعلم أن المسألة ليست إجماعاً، وهاك بيان الخلاف فيه: فقيل: ماء البحر طهور، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1)، وبه قال ابن حزم (¬2). وقيل: يكره التطهر بماء البحر، وهو مروي عن ابن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو (¬3). ¬
دليل الجمهور
دليل الجمهور: الدليل الأول: من الكتاب قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬1). وجه الاستدلال: كلمة (ماء) نكرة في سياق النفي، فتعم كل ماء، نزل من السماء أو نبع من الأرض، إلا ما خصه الدليل، وماء البحر لم يستثن، بل الثابت جواز الوضوء منه. الدليل الثاني: إذا كان طعام البحر، وصيده حلالاً لنا، فيلزم منه أن يكون ماؤه طهوراً، فكيف يكون الطعام حلالاً والماء ليس بطهور، قال سبحانه وتعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} (¬2). الدليل الثالث: (26) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن مالك، عن صفوان بن سليم، عن سعيد بن سلمة من آل ابن الأزرق، عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في ماء البحر: هو الطهور ماؤه الحلال ميتته (¬3). [الحديث صحيح، وسبق تخريجه]. الدليل الرابع: القياس على الماء العذب، فإن كلاً منهما باق على أصل خلقته التي ¬
الدليل الخامس
خلقه الله عليها، ولم يتغير لونه أو ريحه أو طعمه. الدليل الخامس: حكى بعضهم الإجماع على طهوريته، وفي الإجماع نظر: قال ابن المنذر: أجمعوا على أن الماء الكثير من النيل والبحر، ونحو ذلك إذا وقعت فيه نجاسة، فلم يتغير له لوناً، ولا طعماً، ولا ريحاً (¬1)، أنه بحاله، ويتطهر منه (¬2). وقال ابن جزي من المالكية: الماء المطلق، وهو الباقي على أصله، فهو طاهر مطهر إجماعاً، سواء أكان عذباً أو مالحاً، أو من بحر أو سماء أو أرض (¬3). دليل من قال لا يتطهر بماء البحر. الدليل الأول: (27) رواه سعيد بن منصور في سننه، قال: نا إسماعيل بن زكريا، عن مطرف، عن بشر أبي عبد الله، عن بشير بن مسلم، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز في سبيل الله؛ فإن تحت البحر ناراً، وتحت النار بحراً (¬4). ¬
[حديث ضعيف] (¬1). ¬
وجه الاستدلال: قالوا: إن البحر طبق جهنم، وما كان طبق سخط، لا يكون طريقاً للطهارة والرحمة، وقياساً على نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء بماء ثمود (¬1). وأجيب: أولاً: بأن الحديث ضعيف، وقد تبين ضعفه من خلال الكلام على إسناده. ثانياً: قال ابن قدامة: قولهم: هو نار، إن أريد به أنه نار في الحال، فهو خلاف الحس، وإن أريد أن يصير ناراً لم يمنع ذلك الوضوء به في حال كونه ¬
الدليل الثاني
ماء (¬1). الدليل الثاني: (28) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو داود الطيالسي، عن هشام، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو، قال: ماء البحر لا يجزيء من وضوء ولا جنابة، إن تحت البحر ناراً، ثم ماء، ثم نار (¬2). [إسناده صحيح، وعنعنة قتادة قد روى عنه شعبة، وهو لا يحمل عنه إلا ما صرح فيه بالتحديث، لكن لا حجة بالموقوف إذا خالف المرفوع] (¬3). الدليل الثالث: (29) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن قتادة، ¬
الدليل الرابع
عن عقبة بن صهبان، قال: سمعت ابن عمر يقول: التيمم أحب إلي من الوضوء من ماء البحر (¬1). [إسناده صحيح، ولا حجة في موقوف خالف مرفوعاً] (¬2). الدليل الرابع: (30) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة قال: ماءان لا يجزيان من غسل الجنابة ماء البحر وماء الحمام (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬
المبحث الخامس إذا تغير الماء بشيء طاهر
المبحث الخامس إذا تغير الماء بشيء طاهر ويشتمل على فرعين: الفرع الأول: الماء المتغير بطاهر يمكن التحرز منه. الفرع الثاني: خلاف العلماء في الطهارة بالنبيذ.
الفرع الأول الماء المتغير بطاهر يمكن التحرز منه.
الفرع الأول الماء المتغير بطاهر يمكن التحرز منه. سبق أن بحثنا ثلاث مسائل في تغير الماء الطهور بشيء طاهر. الأولى: إذا كان هذا الطاهر يشق الاحتراز منه. الثانية: إذا كان هذا الطاهر لا يمازج الماء. الثالثة: إذا كان هذا الطاهر أصله منعقد من الماء كالتغير بالملح المائي. ومسألتنا هذه إذا وقع في الماء الطهور شيء طاهر ممازج للماء يمكن التحرز منه، ولم يكن ملحاً. فاختلف الفقهاء في هذه المسألة: فقيل: يكون الماء طاهراً غير مطهر، يصلح للأكل والشرب، ولا يصلح أن يرفع به حدث، أو أن تزال به نجاسة، وهذا مذهب الجمهور من المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: إن الماء طهور يرفع الحدث، ويزيل النجاسة، وهو مذهب ¬
دليل الجمهور على أن الماء طاهر.
الحنفية (¬1)، واختيار ابن حزم (¬2)، وابن تيمية (¬3). دليل الجمهور على أن الماء طاهر. استدلوا من القرآن بقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬4). وجه الاستدلال: الماء ورد في الآية مطلقاً لم يقيد بشىء، والماء المطلق هو الماء الباقي على خلقته. أما الماء المتغير فلا يسمى ماء مطلقاً، إنما يضاف إلى تلك المادة التي يتغير بها كماء ورد أو زعفران أو ماء غريب، أو ماء مستعمل ونحو ذلك. إذاً دلت الآية على أن الطهارة بالماء المطلق، فإن لم يوجد انتقلنا إلى ¬
دليل من قال الماء طهور
التيمم (¬1). الدليل الثاني: من النظر. قال ابن العربي: المخالط للماء على ثلاثة أضرب: ضرب يوافقه في صفتيه جميعاً: الطهارة والتطهير، فإذا خالطه فغيره، لم يسلبه وصفاً منهما، لموافقته له فيهما، وهو التراب. وضرب يوافق الماء في إحدى صفتيه، وهي الطهارة، ولا يوافقه في صفته الأخرى، وهي التطهير، فإذا خالطه فغيره سلبه ما خالفه فيه، وهو التطهير، دون ما وافقه، وهي الطهارة، كماء الورد، وسائر الطهارات. والضرب الثالث: مخالفته في الصفتين جميعاً، وهي الطهارة والتطهير، فإذا خالطه فغيره، سلبه الصفتين جميعاً، لمخالفته له فيهما، وهو النجس (¬2). دليل من قال الماء طهور الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬3). وجه الاستدلال: أن كلمة " ماء " نكرة فى سياق النفى فتعم كل ماء سواء كان مطلقاً أومقيداً، متغيراً أو غير متغير، مستعملاً أو غير مستعمل، خرج الماء النجس بالإجماع وبقى ما عداه على أنه طهور (¬4). ¬
الدليل الثاني
وقال ابن المنذر: قال تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا} الآية (¬1)، فالطهارة على ظاهر كتاب الله بكل ماء إلا ما منع منه كتاب أو سنة أو إجماع. والماء الذي منع الإجماع الطهارة منه هو الماء الذى غلبت عليه النجاسة بلون أوطعم أو ريح (¬2). الدليل الثاني: (31) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الملك بن عمرو وابن أبي بكير، قالا: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أم هانئ قالت: اغتسل النبي - صلى الله عليه وسلم - وميمونة من إناء واحد قصعة فيها أثر العجين (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). فهذا ماء وقع فيه عجين، ولا بد أن يتغير الماء خاصة إذا قل الماء وانحل العجين، ومع ذلك لم يمنع من التطهر به. الدليل الثالث (32) ما رواه البخاري، قال حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته - أو قال فأوقصته - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اغسلوه بماء ¬
الدليل الرابع
وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً (¬1). الدليل الرابع: (33) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثني مالك، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها، قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته، فقال: اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن فآذنني، فلما فرغنا آذناه، فأعطانا حقوه، فقال: أشعرنها إياه يعني إزاره (¬2). وجه الاستدلال من الحديثين: أن السدر أضيف إلى الماء، لا بد أن يتغير به، ومع ذلك لم يمنع أن يتطهر به الميت، وما طهر الميت طهر الحي إذ لا فرق. الدليل الخامس: من الآثار (34) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن أبي نوفل بن أبي عقرب، عن ابن عباس، قال: يجزئه أن لا يعيد على رأسه الغسل - يعني إذا غسل رأسه بالخطمي. [إسناده صحيح] (¬3). ¬
الآثر الثاني: (35) روى ابن أبي شيبة أيضاً، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن الحارث بن الأزمع، قال عبد الله: من غسل رأسه بالخطمي، وهو جنب، فقد أبلغ الغسل [إسناده حسن] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
(36) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن مهدي، عن غياث. وحدثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن منصور، عن صفية، عن سعيد بن جبير في الجنب يغسل رأسه بالسدر، قال: لا يغسل رأسه. [إسناده صحيح] (¬1). قال ابن حزم في المحلى: وهذا قول ثابت عن ابن مسعود، قال: إذا غسل رأسه بالخطمي أجزأه ذلك، وكذلك نصاً عن ابن عباس. وروي أيضاً هذا عن علي بن أبي طالب، وثبت عن سعيد بن المسيب، وابن جريج، وعن صواحب النبي - صلى الله عليه وسلم - من نساء الأنصار، والتابعات منهن أن المرأة الجنب والحائض إذا امتشطت بحنا رقيق أن ذلك يجزؤها من غسل رأسها للحيضة والجنابة، ولا تعيد غسله، وثبت عن إبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن جبير أنهم قالوا في الجنب يغسل رأسه بالسدر والخطمي أنه يجزؤه ذلك من غسل رأسه للجنابة (¬2). اهـ وهذا القول هو الراجح، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني خلاف العلماء في الطهارة بالنبيذ
الفرع الثاني خلاف العلماء في الطهارة بالنبيذ اتفق العلماء على أن الحدث يرفع بالماء الطهور، واختلفوا في رفعه بالنبيذ فقيل: يتوضأ به إن لم يجد غيره، وهو مذهب أبي حنيفة (¬1). وقيل: يتوضأ به ويتيمم، وهو مذهب محمد بن الحسن (¬2). وقيل: يتيمم، ولا يتوضأ به، وهو مذهب المالكية (¬3)،والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5)، واختاره أبو يوسف والطحاوي من الحنفية (¬6)، وهو رواية عن ¬
الدليل على أن الحدث يرفع بالماء الطهور.
أبي حنيفة (¬1)، وهو اختيار ابن حزم (¬2). الدليل على أن الحدث يرفع بالماء الطهور. الإجماع أن الماء الطهور يرفع الحدث (¬3). قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن الحدث لا يرفع بسائل آخر غير الماء كالزيت والدهن والمرق (¬4). وقال الغزالي: الطهورية مختصة بالماء من بين سائر المائعات، أما في طهارة الحدث فبالإجماع (¬5). وتعقبه النووي في المجموع شرح المهذب، فقال: حكى أصحابنا عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبي بكر الأصم: أنه يجوز رفع الحدث وإزالة النجاسة بكل مائع طاهر، قال القاضي أبو الطيب إلا الدمع فإن الأصم يوافق على منع الوضوء به، ثم قال: والأول أرجح؛ قال تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا} الآية (¬6)، فأحالنا إلىالتيمم عند عدم الماء ولم ينقلنا إلى سائل آخر (¬7). ¬
دليل الحنفية على جواز الوضوء بالنبيذ.
دليل الحنفية على جواز الوضوء بالنبيذ. الدليل الأول: (37) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن زكريا، عن إسرائيل، عن أبي فزارة، عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث، عن ابن مسعود، قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة لقي الجن، فقال: أمعك ماء؟ فقلت: لا. فقال: ما هذه الإداوة؟ قلت: نبيذ. قال: أرنيها تمرة طيبة وماء طهور، فتوضأ منها، ثم صلى بنا (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (38) ما رواه الدارقطني من طريق أبي القاسم يحيى بن عبد الباقي، نا المسيب ابن واضح، نا مبشر بن إسماعيل الحلبي، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " النبيذ وضوء لمن لم يجد الماء (¬1). [المعروف أنه من قول عكرمة، ورفعه منكر] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
فالخلاصة أن حديث ابن مسعود جاء من ثلاثة طرق ضعيفة، والسؤال: هل هذه الطرق الضعيفة يمكن أن يقوي بعضها بعضاً فتكون حسنة لغيرها، فيصلح الاحتجاج بها، على أن الضعيف إذا جاء من طريق آخر شد بعضه بعضاً كما قال بعضهم فى قوله سبحانه وتعالى في شهادة المرأة {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} الآية (¬1). الجواب: هذا ممكن أن يقال لولا أن الحديث فيه مخالفات: الأولى: المخالفة لظاهر الكتاب. قال تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬2)، فنقلنا عند عدم وجود الماء إلى التيمم، ولو كان هناك سائل آخر يمكن التطهر منه لأحالنا عليه كالنبيذ، وعليه فإذا لم نجد إلا نبيذاً فإننا نتيمم، لأننا لم نجد الماء. ثانياً: مخالفته للسنة. (39) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (¬3).
[حديث حسن] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ثالثاً: المخالفة لما ثبت في مسلم. (40) قال علقمة: سألت ابن مسعود فقلت: هل شاهد أحد منكم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ قال: لا. ولكن كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا استطير أو اغتيل قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، قال: فقلنا يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فقال: أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ... الحديث (¬1). فأحاديث النبيذ تروي: أن ابن مسعود شهد ليلة الجن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الحديث في مسلم صريح بأنه لم يكن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رابعاً: الحنفية رحمهم الله خالفوا هذه المرة مقتضى قواعدهم، فإن أحاديث الآحاد عندهم دلالتها ظنية، والقرآن دلالته قطعية، وهم يردون
أحاديث في الصحيحين مجمعاً على صحتها، لأن ظاهرها يخالف آية قرآنية أو قاعدة شرعية بحسب فهمهم، ومع ذلك عملوا بأحاديث الوضوء بالنبيذ مع أن أحاديثه تخالف ظاهر القرآن، ولا يسلم منها حديث واحد كما سبق. ولو تجاهلنا كل هذه المخالفات من مخالفة الكتاب والسنة وقلنا: إن حديث الوضوء بالنبيذ قابل لأن يكون حسناً لغيره، فإننا نحمله على أن تسميته نبيذاً فيه تجاوز، وأن النبيذ الذي كان مع ابن مسعود لم يخرج عن رقة الماء وطبيعته وسيولته، وغاية ما فيه أنه ماء تغير بشىء طاهر، لم يخرج فيه عن مسمى الماء، كما لو تغير الماء بشىء طاهر ولم يخرج عن اسمه، وسوف يأتي في قسم الماء الطاهر تحرير الخلاف في الماء إذا تغير بشىء طاهر إن شاء الله تعالى. والله أعلم. فخلصنا من هذا أن الحدث لا يرفع إلا بالماء الطهور، ويرفع أيضاً بالتيمم على خلاف هل التيمم رافع أم مبيح؟ وسوف يأتي بحثها في بحوث التيمم. وأما إزالة النجاسة فهل يتعين الماء الطهور؟ أو تزال بأي مزيل، يأتي بحثها في بحوث النجاسات إن شاء الله تعالى.
الفصل الثاني الماء المتغير بالنجاسة
الفصل الثاني الماء المتغير بالنجاسة ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: الماء المتغير بمجاورة النجاسة. المبحث الثاني: الماء المتغير بمخالطة النجاسة.
المبحث الأول الماء المتغير بمجاورة نجاسة
المبحث الأول الماء المتغير بمجاورة نجاسة اختلف العلماء في المقصود من التغير بالمجاورة. فقيل: المقصود إذا تغيرت رائحة الماء فقط، ولا يشمل تغير الطعم واللون؛ لأنه لو تغير لونه أو طعمه بمجاورة النجاسة لعلمنا علماً مؤكداً بأن النجاسة حلت فيه، وبالتالي يكون التغير عن ممازجة وليس عن مجاورة. وقيل: لا فرق بين تغيره بالرائحة، وبين تغير الطعم واللون، وهو قول في مذهب المالكية، قال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير: بل لو فرض تغير الثلاثة - يقصد الطعم واللون والرائحة - لا يضر، وإنما اقتصر المؤلف على الريح لكونه الشأن (¬1). والراجح الأول. ¬
أولا
مثاله: ماء طهور، تغيرت رائحته بجيفة قريبة منه، ولم تقع فيه. حكمه: إذا تغيرت رائحة الماء بمجاورة النجاسة، فهو طهور، قولاً واحداً، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). الدليل على ذلك: أولاً: الإجماع. نقل الإجماع عدد من العلماء، منهم الحطاب من المالكية (¬5)، والنووي ¬
ثانيا
من الشافعية (¬1)، وابن مفلح الصغير (¬2)، وصاحب الشرح الكبير من الحنابلة (¬3). ثانياً: قالوا: إن هذا التغير حصل بالمجاورة، ولم يحصل عن ممازجة، وما كان تغيره عن مجاورة لم يؤثر في الماء، فلا يلزم من انتقال الرائحة انتقال جزء من الميتة، فهذا الطيب تجد ريحه ينتشر في المكان، وعينه باقية لم تنتقل. ومع كونه طهوراً بالإجماع إلا أن التنزه عنه أفضل متى وجد غيره؛ لإن الماء قد لا يسلم من تلوثه ببعض الميكروبات التي قد تضر بعض الناس، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني الماء المتغير بممازجة النجاسة
المبحث الثاني الماء المتغير بممازجة النجاسة إذا وقعت في الماء نجاسة، فغيرت طعمه أو لونه نجس، وهو مذهب الأئمة الأربعة أبي حنيفة (¬1)، ومالك (¬2)، والشافعي (¬3)، وأحمد (¬4). ¬
الدليل الأول
وفي الريح خلاف شاذ عن عبد الملك بن الماجشون (¬1). الدليل الأول: الإجماع. حكى الإجماع على نجاسة الماء المتغير بالنجاسة الطحاوي من الحنفية، فقال: قد أجمعوا أن النجاسة إذا وقعت في البئر، فغلبت على طعم مائها، أو ريحه أو لونه، أن ماءها قد فسد (¬2). وقال ابن نجيم: " اعلم أن العلماء أجمعوا على أن الماء إذا تغير أحد أوصافه بالنجاسة لا تجوز الطهارة به، قليلاً كان الماء أو كثيراً، جارياً كان أو غير جار، هكذا نقل الإجماع في كتبنا (¬3). والباجي من المالكية، قال: ما تغير بنجاسة خالطته، فلا خلاف في نجاسته (¬4). وقال الشافعي رحمه الله: إذا تغير طعم الماء أو ريحه أو لونه كان نجساً، يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه لا يُثْبِت مثله أهل الحديث، وهو قول العامة لا ¬
أعلم بينهم فيه اختلافاً (¬1)، وحكى الإجماع النووي أيضاً (¬2). وابن قدامة من الحنابلة، قال: وأما نجاسة ما تغير بالنجاسة فلا خلاف فيه (¬3)، وكذلك ابن تيمية (¬4). وقال ابن المنذر: " أجمع أهل العلم على أن الماء القليل أو الكثير إذا وقعت فيه نجاسة، فغيرت النجاسة الماء طعماً أو لوناً أو ريحاً، أنه نجس ما دام كذلك، ولا يجزي الوضوء والاغتسال به (¬5). كما حكى الإجماع من المحدثين ابن حبان في صحيحه، والبيهقي (¬6)، وابن عبد البر في التمهيد (¬7)، والعراقي (¬8). قال ابن حبان: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الماء لا ينجسه شيء " وقوله: " إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء " يَخُص هذين الخبرين الإجماع على أن الماء قليلاً كان أو كثيراً، فغير طعمه أو لونه، أو ريحه نجاسة وقعت فيه أن ذلك الماء نجس بهذا الإجماع (¬9). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: من النظر أن الماء الطاهر إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بالنجاسة فإننا إذا استعملناه أصبحنا مستعملين للنجاسة نفسها، فيجب الامتناع عنه. قال حرب بن إسماعيل: سئل أحمد عن الماء إذا تغير طعمه أو ريحه؟ قال: فلا يتوضأ به، ولا يشرب، وليس فيه حديث، ولكن الله تعالى حرم الميتة، فإذا صارت الميتة في الماء فتغير طعمه أو ريحه، فذلك طعم الميتة وريحها، فلا يحل له، وذلك أمر ظاهر. قال الخلال: وإنما قال أحمد ليس فيه حديث؛ لأن هذا الحديث (الماء طهور إلا ما غلب ... الحديث) يرويه سليمان بن عمر، ورشدين بن سعد، وكلاهما ضعيف (¬1). قال ابن حزم: وإذا تغير لون الطاهر بما مازجه من نجس، أو تغير طعمه بذلك، أو تغير ريحه، فإننا حينئذ لا نقدر على استعمال الطاهر إلا باستعمال النجس، واستعمال النجس حرام في الصلاة، ولذلك وجب الامتناع عنه (¬2). وأما ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من نجاسة الماء إذا غيرت طعمه أو لونه أو ريحه فلا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه شيء. (41) فقد روى ابن ماجه، قال: حدثنا محمود بن خالد والعباس بن الوليد الدمشقيان، قالا: ثنا مروان بن محمد، ثنا رشدين، أنبأنا معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد، عن أبي أمامة الباهلي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الماء لا ينجسه ¬
شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
قال صديق حسن خان: " وقد اتفق أهل الحديث على ضعف الزيادة - يعني زيادة الاستثناء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه - لكنه قد وقع الإجماع على مضمونها، كما نقله ابن المنذر، وابن الملقن في البدر المنير، والمهدي في البحر، فمن كان يقول: بحجية الإجماع، كان الدليل عنده على ما أفادته تلك الزيادة هو الإجماع، ومن كان لا يقول بحجية الإجماع، كان هذا الإجماع مفيداً لصحة تلك الرواية، لكونها صارت مما أجمع على معناها وتلقي بالقبول، فالاستدلال بها، لا بالإجماع (¬1). ولا أعرف أن الإجماع يعتبر به في تقوية الحديث الضعيف، فالإجماع وحده حجة، ولا يعتبر بالحديث الضعيف لا من القرآن، ولا من الإجماع، ولا من غيرهما إلا من السنة فقط بشروط ليس هذا مجال ذكرها، هذا الذي أعرفه من عمل أئمة الحديث، والله أعلم. ¬
الباب الخامس في الماء المستعمل
الباب الخامس في الماء المستعمل ويشتمل على ستة فصول: الفصل الأول: حكم الماء المستعمل في رفع الحدث. الفصل الثاني: الماء المستعمل في طهارة مستحبة. الفصل الثالث: الماء المستعمل في طهارة غير مشروعة. الفصل الرابع: الماء المستعمل في التبرد والنظافة. الفصل الخامس: الماء المستعمل في غمس يد القائم من نوم الليل. الفصل السادس: الماء المستعمل في إزالة النجاسة.
الفصل الأول حكم الماء المستعمل في رفع الحدث
الفصل الأول حكم الماء المستعمل في رفع الحدث متى يكون الماء مستعملاً؟ وللجواب على ذلك نقول: الماء المتقاطر من أعضاء الوضوء في رفع الحدث مستعمل بالاتفاق (¬1). وأما إذا غمس يده في ماء بنية رفع الحدث، فهل يكون مستعملاً؟ قالوا: إذا كان الماء قليلاً كان مستعملاً. ¬
واختلفوا في حد القليل: فيرى الحنفية أن الجنب إذا انعمس في البئر بنية رفع الحدث فسد الماء، وإن انغمس لطلب الدلو فسد الماء على رأي أبي حنيفة خلافاً لصاحبيه (¬1). ومعنى هذا أن البئر في حد القليل عندهم. وأما المالكية فيرون اليسير كآنية الوضوء والغسل، فإن غمس يده فيها صار مستعملاً، وإن كان أكثر من ذلك لم يكن مستعملاً (¬2). والشافعية والحنابلة يحدون القليل بما دون القلتين، فإن انغمس في ماء دون القلتين صار مستعملاً، وإلا فلا (¬3). ولا يكون الماء مستعملاً إذا أدخل يده في الإناء ليغترف منها. ¬
وقيل: بشرط أن يدخلها بنية الاغتراف (¬1). هذا كلام أهل العلم في الماء متى يكون مستعملاً، وهو واضح في الماء المتقاطر من العضو، حيث استعمل في طهارة العضو، وأما الماء الذي وضع يده فيه فلم يتضح لي أن النية مؤثرة، فإن غمسها بنية الوضوء كان مستعملاً، وإن لم ينو لم يستعمل، بل يقال بقول المالكية إن كان الماء قليلاً كآنية الوضوء، وغمس يده فيه صار مستعملاً، وإلا فلا، ولا يؤخذ بحديث القلتين في تحديد الماء القليل حتى في وقوع الأعيان الطاهرة، لأننا لو سلمنا بمفهوم حديث ¬
القلتين فإنه في معرض بيان وقوع النجاسات في الماء، وليس في بيان وقوع الأعيان الطاهرة فيه، والله أعلم. خلاف العلماء في الماء المستعمل في رفع الحدث. بعد أن عرفنا متى يصبح الماء مستعملاً، نذكر خلاف العلماء في طهوريته، فقيل: إنه نجس، وهو رواية عن أبي حنيفة (¬1)، واختارها أبو يوسف (¬2). وقيل: إنه طهور مكروه في رفع الحدث، غير مكروه في زوال الخبث، وهو مذهب المالكية (¬3). وقيل: إنه طاهر غير مطهر، وهو الرواية المشهورة عن الإمام أبي ¬
حنيفة رحمه الله، وعليه الفتوى (¬1)، وهو مذهب الشافعية (¬2)، ¬
دليل من قال بنجاسة الماء المستعمل.
والحنابلة (¬1)، واختيار محمد بن الحسن من الحنفية (¬2). وقيل: طهور بلا كراهة، وهو رواية عن أحمد (¬3)، ورجحها ابن حزم (¬4)، وابن تيمية (¬5)، وابن عبد الهادي (¬6)، والشوكاني (¬7)، وغيرهم. دليل من قال بنجاسة الماء المستعمل. الدليل الأول: (42) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى، عن محمد بن عجلان، قال: سمعت أبي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يبل أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة (¬8). ¬
[رجاله ثقات إلا محمد بن عجلان فإنه صدوق، والحديث بهذا اللفظ غير محفوظ] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال: إن النهي عن الاغتسال فىالماء الراكد جاء مقروناً بالنهي عن البول فيه، فإذا كان البول ينجسة فكذلك الاغتسال (¬1). أجاب الجمهور بجوابين: أحدهما: أن الحديث ضعيف، وهذا رأي البيهقي فى السنن. قال النووى: رواه هكذا أبوداود فى سننه، من رواية محمد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبى - صلى الله عليه وسلم -، ورواه البخاري ومسلم فى صحيحهما عن أبي هريرة عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: " لايبولن أحدكم فى الماء الدائم ثم يغتسل منه ". وفى رواية لمسلم: "لا يغتسل أحدكم فى الماء الدائم، وهو جنب، فقيل لأبي هريرة: كيف يفعل؟. قال: يتناوله تناولاً". فهاتان الروايتان خلاف رواية أبي داود. قال البيهقى: رواية الحفاظ من أصحاب أبي هريرة كما رواه البخاري ومسلم (¬2). ¬
الجواب الثاني: أن يقال: لايلزم من الاشتراك فى النهي .. الاشتراك فى الحكم .. فكون النهي عن البول اقترن فى النهى عن الاغتسال، لا يلزم منه الاشتراك فى الحكم، فقد ورد قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬1)، فقد اقترن الأمر بالأكل مع الأمر بإعطاء حق المال .. والأمر بالأكل مباح بخلاف الأمر بإعطاء حق المال فإنه قد يكون واجباً كما فى الزكاة، وإنقاذ الهلكة وقرى الضيف (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني على نجاسة الماء المستعمل. (43) ما رواه مسلم، قال: حدثني أحمد بن جعفر المعقري، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا شداد بن عبد الله أبو عمار ويحيى بن أبي كثير، عن أبي أمامة - قال عكرمة: لقي شداد أبا أمامة وواثلة وصحب أنساً إلى الشام وأثنى عليه فضلا وخيرا - عن أبي أمامة، قال: قال عمرو بن عبسة السلمي ما منكم رجل يقرب وضوءه، فيتمضمض، ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله، إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين، إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام، فصلى، فحمد الله، وأثنى عليه، ومجده بالذي هو له أهل، وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه، فحدث عمرو بن عبسة بهذا الحديث أبا أمامة صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له أبو أمامة: يا عمرو بن عبسة انظر ما تقول، في مقام واحد يعطي هذا الرجل، فقال عمرو: يا أبا أمامة لقد كبرت سني، ورق عظمي، واقترب أجلي، وما بي حاجة أن أكذب على الله، ولا على رسول الله لو لم أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا حتى عد سبع مرات ما حدثت به أبداً، ولكني سمعته أكثر من ذلك (¬1). ¬
الدليل الثالث
وجه الاستدلال: أن هذه الخطايا نجاسات وقاذورات فيتنجس الماء المخالط لها (¬1). ويمكن الجواب أن يقال: إن الذنوب ليست لها أجرام محسوسة نراها تخالط الماء حتى تؤثر فيه. وثانياً: العبد إذا أذنب لا يقال له تنجس وثالثاً: إذا فرغ العبد من الوضوء ثم أذنب لا يؤثر ذلك فى وضوئه، ولو كانت هذه الذنوب تؤثر فى الماء لكان لها تأثير على بدن المتلبس بها من باب أولى الدليل الثالث: قالوا: إن استعمال الماء لرفع الحدث يسمى طهارة، قال تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬2). والطهارة لا تكون إلا عن نجاسة؛ إذ تطهير الطاهر لا يعقل (¬3). ويجاب عنه: أولاً: إنما سمي طهارة لأنه يطهر العبد من الذنوب، لا أنه طهره من نجاسة حلت فيه. ولذلك لما اعتبر أبو هريرة حدثه نجاسة بين له - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " إن المؤمن لا ينجس ". متفق عليه. وقوله: " لا ينجس" أى بمثل ذلك، وإلا فالمؤمن قد تطرأ عليه النجاسة ¬
كونه طاهرا، فله أدلة كثيرة منها
الحسية كغيره. وثانياً: تجديد الوضوء يسمى طهارة شرعية مع أنه متطهر. وثالثاً: لو كان المحدث نجساً لما صح حمله فى الصلاة، وقد جاء فى حديث أبي قتادة فى الصحيحين: " أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يصلى، وهو حامل أمامة بنت زينب " (¬1). ورابعاً: المتوضئ لابد أن يتساقط على ثوبه من الماء المستعمل، ومعنى هذا أنه سوف تتنجس ثيابه، وكذلك ما يتنشف به، لكن حاولوا ينفكون من هذا بأنه سقط الحكم هنا لرفع الحرج، وهذا الانفكاك لا يفك، لأنه لو سقط من ثياب المتوضئ الذي عليه لم يسقط الحكم من الثياب التي يتنشف بها، ولا في ثياب غير المتوضئ، كما لوسلم عليه أو وقعت على ثيابه. دليل من قال الماء طاهر وليس بطهور. أما كونه طاهراً، فله أدلة كثيرة منها: الدليل الأول: (44) ما رواه البخاري، قال: حدثني عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر، قال: أخبرني الزهري، قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما صاحبه، وفيه من حديث طويل: " وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه " (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (45) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا شعبة، عن محمد بن المنكدر، قال: سمعت جابراً يقول: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني، وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ وصب علي من وضوئه، فعقلت، فقلت: يا رسول الله لمن الميراث إنما يرثني كلالة، فنزلت آية الفرائض (¬1). وفي الباب في الصحيحين من حديث أبي جحيفة والسائب بن يزيد. فإن قال الذاهبون إلى نجاسة الماء المستعمل في رفع الحدث، إن قالوا: إن هذه من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -. قيل: الأصل أن حكمه - صلى الله عليه وسلم - وحكم أمته واحد، حتى يقوم دليل على الخصوصية. الدليل الثالث: (46) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، أخبرنا أفلح، عن القاسم، عن عائشة قالت: كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد تختلف أيدينا فيه (¬2). وجه الاستدلال: أن هذا الإناء لا يسلم من رشاش يقع فيه، ولو كان المستعمل نجساً ¬
الدليل الرابع
لنجس الماء. وقول: إن هذا مما عفي عنه يصح هذا التقدير لو صح الأصل، وهو نجاسة المستعمل، ولكنه قول شاذ. الدليل الرابع: إن المسلم بدنه طاهر بالإجماع حال الحياة (¬1)، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: لأبي هريرة: إن المؤمن لا ينجس، متفق عليه. فيكون المستعمل ماء طهوراً لاقى ماء طاهراً، فكيف ينجس. هذا فيما يتعلق بالأدلة على طهارة الماء المستعمل، وأما أدلتهم على كون المستعمل ماء طاهراً غير طهور، فهاك بيانها: الدليل الأول: (47) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: وحدثنا هارون بن سعيد الأيلي وأبو الطاهر وأحمد بن عيسى جميعا، عن ابن وهب - قال هارون: حدثنا ابن وهب - أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم، وهو جنب. فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولا (¬2). وجه الاستدلال: قالوا: لما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الاغتسال في الماء الدائم دل ذلك ¬
على أن الاغتسال يؤثر في الماء، ولو كان لا يؤثر لما نهى عنه، فالمراد من نهيه حتى لا يصير الماء مستعملاً (¬1). ويجاب عنه: أولاً: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعلل بأن الماء يكون مستعملاً، ولم يذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - قط بأن الماء يكون مستعملاً، فهذا الكلام زيادة على حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثانياً: أن الحديث نص في الماء الدائم، وهو يشمل ما فوق القلتين، وما دون القلتين، وأنتم قلتم بأنه لا يكون مستعملاً إلا إذا كان دون القلتين. فهذه مخالفة ثانية للحديث. ثالثاً: أن الحديث نهي عن الاغتسال، وذلك يعني غسل البدن كله، وأنتم أدخلتم حتى الوضوء، بل أدخلتم ما دون ذلك، وذلك كما لو أدخل بعض أعضائه ناوياً رفع الحدث، فإن الماء يكون مستعملاً عندكم أي طاهراً غير مطهر، فالحديث نص في الحدث الأكبر، فخالفتم الحديث فأدخلتم الحدث الأصغر، بل حتى ولو غمس بعض أعضاء الحدث الأصغر. وهذه مخالفة ثالثة للحديث. رابعاً: الحديث نهى الجنب أن يغتسل في الماء ما دام جنباً سواء نوى رفع الحدث أو لم ينو. لأن معنى: " لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب " أي لا يغتسل حالة كونه جنباً، ولم يتطرق الحديث إلى اشتراط النية، وأنتم قلتم لو انغمس وهو جنب، ولم ينو رفع الحدث لايكون الماء مستعملاً بل يبقى طهوراً. وهذه مخالفة رابعة. فتبين أن هذا الدليل لا يصلح أن يكون دليلاً لهم ¬
دليلهم الثاني
دليلهم الثاني: قالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه احتاجوا في أسفارهم الكثيرة إلى الماء، ولم يجمعوا المستعمل لاستعماله مرة أخرى، ولو كان طهوراً لجمعوه، لأن التيمم لا يجوز مع وجود الماء (¬1). ويجاب عنه: بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقتصدون في الوضوء، وقد ثبت من حديث أنس المتفق عليه قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد ... الحديث" (¬2)، بل توضأ بأقل من ذلك، وكان بعض السلف إذا توضأ لا يكاد يبلل الأرض. وعلى هذه الحال لا يمكن جمعه، ولو أمكن جمعه لكان في ذلك مشقة عظيمة، والحرج مرفوع عن هذه الأمة بنص القرآن. كما أن كونه لم يجمع لا يدل على أنه لا يتطهر به، ولهذا لم يجمعوه للشرب مع طهارته، وحاجتهم للشرب آكد، ولم يجمعوه لغير الشرب كالعجن والطبخ والتبرد، فعدم جمعه ليس دليلاً على عدم طهوريته، ثم يقال أيضاً: لم يجمعوا أيضاً الماء المستعمل في طهارة مستحبة مع كونه طهوراً، ولا يبعد أن يكون هناك من يتوضأ مجدداً الوضوء، فلم ينهض هذا دليلاً على عدم الطهورية (¬3). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: ما سبق أن ذكر من أن الماء المستعمل ليس ماء مطلقاً، بل هو مقيد بكونه ماء مستعملاً، والذي يرفع الحدث هو الماء المطلق كما في قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬1)، فلم يقيده بشىء، فالماء المستعمل حكمه حكم ماء الورد والزعفران والشاي وغيرهم (¬2). وأجيب: بأن لفظ (ماء) في قوله تعالى {فلم تجدوا ماء} (¬3) نكرة في سياق النفي، فتعم كل ماء، سواء كان مستعملاً أو غيره، وسواء كان متغيراً أم لم يتغير، ما دام أنه يسمى ماء، نعم خرج الماء النجس للإجماع على أنه لا يجوز التطهر به، وبقي ما عداه. الدليل الرابع: قالوا إن هذا الماء قد استعمل في عبادة واجبة، فلا يمكن أن يستعمل في عبادة أخرى، كالعبد إذا أعتق لا يمكن أن يعتق مرة أخرى (¬4). وأجيب: بأن قياس الماء على العبد قياس مع الفارق. أولاً: لأن العبد إذا أعتق صار حراً، والحر لا يعتق، وأما الماء حين استعمل بقى ماء يمكن التطهر به، ما لم توجد قرينة تدل على نجاسته، وهي ¬
تغير أحد أوصافه بنجاسة. ثانياً: أن العبد لو رجع إلى الكفار وغنمه المسلمون رجع إلى الرق مرة أخرى، فلا يصح القياس، فالصحيح قياس الماء المستعمل على الثوب، فالثوب حين تؤدى به عبادة واجبة، وهى ستر للعورة، لا يمنع من استعماله مرة أخرى (¬1). دليل من قال بأن الماء المستعمل طهور. الأول: الأصل في الماء أنه طهور، ولا ننتقل عن ذلك إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع ولا دليل. الثاني: ما سبق ذكره من أن الماء المستعمل ماء طهور لا قى بدناً طاهراً فلا يتأثر. الثالث: سبق أن أثبت في مسألة أقسام الماء أن الماء قسمان، طهور ونجس، ولا يوجد قسم يسمى بالماء الطاهر. الرابع: الماء المتردد على العضو طهور بالإجماع مع أنه يمر على أول اليد ثم يمر على آخرها ولم يمنع كونه استعمل في أول العضو أن يطهر بقية العضو، ثم إن المتوضئ يرد يده إلى الإناء فيأخذ ماءً آخر للعضو الآخر، فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أنه لم يطهر العضو الثاني إلا بماء جديد قد مازجه ماء آخر مستعمل في تطهير عضو آخر، وهذا ما لا مخلص منه (¬2). ¬
الخامس: إذا كان هذا الماء إذااستعمل للتبرد أو لتنظيف الثوب الطاهر كان طهوراً بالإجماع (¬1)، فهذا مثله إذ الفرق بين هذا الغسل وذاك هو النية فقط، والنية لا أثر لها في الماء لأن محلها القلب. السادس: أن الله سبحانه وتعالى إنما أوجب التيمم على من لم يجد الماء، قال تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬2) فكيف يقال بالتيمم مع وجود ماء باق على صفته التي خلقه الله عليها. السابع: استدلوا ببعض الأدلة التي فيها ضعف أو نزاع، وإن كان ما سبق من الأدلة كاف في بيان أنه القول الراجح، لكن إتماماً للفائدة أنقلها وأبين وجه النزاع فيها، فمنها: (48) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، قال: حدثتني الربيع بنت معوذ ابن عفراء، قالت: كان رسول الله يأتينا فيكثر، فأتانا فوضعنا له الميضأة، فتوضأ فغسل كفيه ثلاثاً، ومضمض واستنشق مرة مرة، وغسل وجهه ثلاثاً، وذارعيه ثلاثاً، ومسح رأسه بما بقي من وضوئه في يديه مرتين، بدأ بمؤخره، ثم رد يده إلى ناصيته، وغسل رجليه ثلاثاً، ومسح إذنيه مقدمهما ومؤخرهما (¬3). ¬
[إسناده ضعيف] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح رأسه، ومسحه فرض بالماء المتبقي من غسل يديه، إذاً هو قد رفع الحدث بماء مستعمل. الدليل الثاني: (49) ما روه أحمد، قال: ثنا على بن عاصم، ثنا أبو على الرحبي، عن عكرمة، أنا ابن عباس، قال: اغتسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جنابة، فلما خرج رأى لمعة على منكبه الأيسر لم يصبها الماء، فأخذ من شعره فبلها، ثم مضى إلى الصلاة (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). الدليل الثالث: (50) وأخرجه ابن شيبة، قال: حدثنا هشيم وابن علية ومعتمر، عن ¬
إسحاق بن سويد العدوي، قال: حدثنا العلاء بن زياد، قال: اغتسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جنابة، فخرج، فأبصر لمعة بمنكبه لم يصبها الماء، فأخذ بجمته فبلها به. [رجاله ثقات، إلا أنه مرسل] (¬1). الدليل الرابع: (51) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن خلاس فيما يعلم حماد، عن علي قال: إذا توضأ الرجل، فنسي أن يمسح برأسه، فوجد فى لحيته بللاً، أخذ من لحيته، فمسح رأسه. [ضعيف فيه عنعنة قتادة، وخلاس لم يسمع من علي] (¬2). الدليل الخامس: (52) روى ابن ماجه، قال: حدثنا سويد بن سعيد، ثنا أبو الأحوص، عن محمد بن عبيد الله، عن الحسن بن سعد، عن أبيه، ¬
عن علي، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني اغتسلت من الجنابة، وصليت الفجر، ثم أصبحت، فرأيت قدر موضع الظفر لم يصبه الماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو كنت مسحت عليه بيدك أجزأك (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). الدليل السادس: (53) ما رواه البيهقي في الخلافيات، من طريق يحيى بن عنبسة، ثنا أبو حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة، فبقيت لمعة في جسده، فقيل له: يا رسول الله هذه لمعة في جسدك لم يصبها الماء، قال: فأومأ إلى بلل شعره فبله، فأجزأه ذلك (¬3). [إسناده ضعيف جداً إن لم يكن موضوعاً] (¬4). ¬
الدليل السابع: (54) ما رواه الدراقطني، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن زكريا، نا هارون بن إسحاق، نا ابن أبي غنية، عن عطاء بن عجلان، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: اغتسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جنابة، فرأى لمعة بجلده لم يصبها الماء، فعصر خصلة من شعر رأسه، فأمسها ذلك الماء (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). الدليل الثامن: (55) ما روه الدارقطني، قال: حدثنا سعيد بن محمد بن أحمد الحناط، ثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، نا المتوكل بن فضيل أبو أيوب الحداد بصرى، عن أبي ظلال، عن أنس بن مالك، قال صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح، وقد أغتسل من جنابة، فكان نكتة مثل الدرهم يابس لم يصبه الماء، فقيل: ¬
يارسول الله إن هذا الموضع لم يصبه الماء، فسلت شعره من الماء، ومسحه به، ولم يعد الصلاة (¬1). قال الدارقطني: المتوكل بن فضيل ضعيف (¬2). الدليل التاسع: استدل ابن قدامة بما رواه أبو داود، قال: حدثنا مسدد، ثنا أبوالأحوص، ثنا سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: اغتسل بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في جفنة، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتوضأ منها أو يغتسل، فقالت له: يا رسول الله إني كنت جنباً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الماء لا يجنب (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). وجه الاستدلال: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إن الماء لا يجنب حتى ولو كان مستعملاً في رفع الحدث لا تنتقل إليه الجنابة. ¬
دليل من قال الماء المستعمل طهور مكروه
وفي الاستدلال بهذا الحديث نظر، من وجهين: الأول: المحفوظ في هذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: إن الماء لا ينجسه شيء، وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك في مسألة الوضوء بفضل المرأة. الثاني: ليس في الحديث ما يدل على التطهر بالماء المستعمل، نعم يدل الحديث على جواز الوضوء بفضل المرأة، وهناك فرق بين المسألتين. والله أعلم. دليل من قال الماء المستعمل طهور مكروه. قال الخرشي: وعللت الكراهة بعلل كلها لا تخلو من ضعف، والراجح في التعليل مراعاة الخلاف، كما قال ابن الحاجب لأن أصبغ قائل بعدم الطهورية " (¬1) اهـ. قلت: وقد سبق لك أن تعليل الكراهة بوجود الخلاف أنه قول ضعيف جداً، لأن الكراهة حكم شرعي لا يقوم إلا على دليل شرعي، ووجود الخلاف ليس من أدلة الشرع، والراجح أن الماء المستعمل في طهارة واجبة طهور غير مكروه. ¬
الفصل الثاني الماء المستعمل في طهارة مستحبة
الفصل الثاني الماء المستعمل في طهارة مستحبة عرفنا متى يكون الماء مستعملا، وعرفنا حكم الماء المستعمل في طهارة واجبة، فهل يختلف الحكم لو كان الماء المستعمل في طهارة مستحبة، اختلف الفقهاء: فقيل: إنه نجس، وهو رواية عن أبي حنيفة، ولا فرق عنده بين أن يستعمل في طهارة واجبة أو مستحبة (¬1). وقيل: إنه طاهر، اختارها من الحنفية العراقيون، ومشايخ ما رواء النهر (¬2)، ¬
دليل القائلين بأنه نجس
وهو وجه في مذهب الشافعية (¬1). وقيل: إنه طهور مكروه في رفع الحدث، غير مكروه في زوال الخبث، وهو مذهب المالكية، ولا فرق عندهم في الحكم بين ما استعمل في طهارة واجبة أو مستحبة (¬2)، واختار الكراهة بعض الحنابلة (¬3). وقيل: إنه طهور مطلقاً غير مكروه، وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). دليل القائلين بأنه نجس انظر أدلتهم في الخلاف في الماء المستعمل في طهارة واجبة، لأنهم لايفرقون بين ما استعمل في طهارة واجبة، أو طهارة مستحبة ما دام أن ¬
دليل القائلين بأنه طاهر غير طهور
الطهارة مشروعة. دليل القائلين بأنه طاهر غير طهور. جمهورهم فرقوا بين ما استعمل في طهارة واجبة، وبين ما استعمل في طهارة مستحبة، فالأول قالوا: بأنه طاهر، والثاني طهور. وسبب التفريق عندهم قولهم: أن ما استعمل في طهارة مستحبة لم يرفع حدثاً، ولم يذهب خبثاً، وبالتالي لم يتأثر الماء، غاية ما فيه أنه لا قى بدناً طاهراً، وهذا لايؤثر، بخلاف ما استعمل في رفع الحدث، فقد أثر في طهارة المحل. وانظر أدلتهم في الخلاف في الماء المستعمل في طهارة واجبة. دليل القائلين بأنه طهور الدليل الأول: الأصل في الماء أنه طهور، ولا ينتقل عنه إلا لدليل من كتاب أو سنة، ولا دليل. الدليل الثاني: الماء المستعمل في الطهارة يسمى ماء، وهو ماء مطلق لم يتغير، والله يقول سبحانه: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬1)، فكيف يتيمم مع وجود ماء باق على خلقته التي خلقه الله عليها. الدليل الثالث: قال ابن المنذر: وفي إجماع أهل العلم أن الندى الباقي على أعضاء المتوضي والمغتسل وما قطر منه على ثيابهما طاهر، دليل على طهارة الماء ¬
الدليل الرابع
المستعمل، وإذا كان طاهراً فلا معنى لمنع الوضوء به بغير حجة (¬1). الدليل الرابع: إذا كان الماء إذا غسل به الثوب طهور، فكذلك الماء إذا غسل به البدن طهور ولا فرق بين ماء غسل به ثوب طاهر، وبين ماء غسل به بدن طاهر، والحدث معنى وليس نجاسة حتى يقال: إن الماء يتأثر بالنجاسة أو يتأثر بالانتقال إلى كونه طاهراً. الراجح أن الماء المستعمل طهور، فلا فرق بين ما استعمل في طهارة واجبة، وبين ما استعمل في طهارة مستحبة، وسبب ترجيح هذا القول: أولاً: لقوة أدلته، ودلالتها على المراد، في مقابل ضعف أدلة المخالفين. ثانياً: أن في هذا رفعاً للمشقة والحرج عن الأمة، وهذا هو مقتضى الدين الإسلامي. ثالثاً: ورود المناقشة المؤثرة على أدلة الأقوال المخالفة، مع سلامة أدلة هذا القول. ¬
الفصل الثالث الماء المستعمل في طهارة غير مشروعة
الفصل الثالث الماء المستعمل في طهارة غير مشروعة تبين لنا حكم الماء المستعمل في طهارة واجبة أو مستحبة، فما حكم الماء فيما لو كانت الطهارة غير مشروعة كالغسلة الرابعة في الوضوء، والغسل الثانية والثالثة في الاغتسال ونحوها؟ اختلف الفقهاء في ذلك: فقيل: إن أراد بها ابتداء الوضوء، أي زاد بعد فراغه من الوضوء الأول، صار الماء مستعملاً، وإن أراد الزيادة على الوضوء الأول، ففيها قولان: فقيل: يصير الماء مستعملاً؛ لأن الزيادة في معنى الوضوء على الوضوء. وقيل: لا يصير مستعملاً؛ لأنه من باب التعدي، وهذا مذهب الحنفية (¬1). فقيل: ما استعمل في طهارة غير مشروعة كالغسلة الرابعة طهور غير مستعمل، وهو مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، واختاره بعض المالكية (¬4)، وقيل: طهور مكروه، وهو قول في مذهب المالكية (¬5). ¬
دليل من قال يصبح الماء مستعملا
دليل من قال يصبح الماء مستعملاً. قالوا: إن الغسلة الرابعة في معنى الوضوء، فتكون مؤثرة في طهوريته. دليل من قال الماء طهور غير مستعمل. قالوا: إن الماء المستعمل في الغسلة الرابعة لم يرتفع بها حدث، ولم تقع على وجه القربة، بحيث تكون مؤثرة في طهارة المحل، فغاية ما هناك ماء طهور لا قى بدناً طاهراً، وهذا لا يخرجه عن طهوريته. دليل من قال طهور مكروه. تعليلهم بوجود الخلاف في طهوريته، فما دام أن هناك خلافاً في طهورية هذا الماء، فنكره التطهر به خروجاً من الخلاف. وقد سبق لك الجواب عن اعتبار الخلاف دليلا على الكراهة، وأنه قول ضعيف جداً، وليس الخلاف من أدلة الشرع المتفق عليها، ولا المختلف فيها، والخلاف إن كان له حظ من النظر بحيث تكون له أدلة معتبرة فحينئذ يكون له اعتبار من أجل الأدلة الثابتة، وإن لم يكن له أدلة معتبرة، فلا حظ له ولا اعتبار، ومع ذلك فليس التعليل بالخلاف حجة شرعية، وإنما العبرة بالدليل الشرعي.
الفصل الرابع الماء المستعمل في التبرد والنظافة
الفصل الرابع الماء المستعمل في التبرد والنظافة إذا استعمل الماء للتبرد، فهل يكون مستعملاً أم يبقى طهوراً، اختلف العلماء في ذلك، فقيل: إن كان محدثاً صار الماء مستعملاً في مذهب أبي حنيفة، لوجود إزالة الحدث؛ لأن الحدث عنده يرتفع، ولو لم ينو، وإن كان استعمله للتبرد، وهو متوضئ، فهو طهور (¬1). وقيل: الماء طهور بلا كراهة، وهذا مذهب المالكية (¬2)، والشافعية والحنابلة (¬3). وهذا هو الراجح؛ فإذا كنا رجحنا أن الماء المستعمل في رفع الحدث أنه طهور غير مكروه، فمن باب أولى أن يكون الماء المستعمل للتبرد طهوراً غير مكروه، وغاية ما فيه ماء طهور لا قى بدناً طاهراً فلم يخرجه عن حكمه، ومن ادعى خروجه عن حد الطهورية فليس معه دليل، والماء نوعان لا ثالث لهما: نجس، وهو ما تغير أحد أوصافه الثلاثة من لونه أو طعمه أوريحه بنجاسة وقعت فيه. وطهور، وهو خلاف الماء النجس، وهو الماء الباقي على خلقته حقيقة ¬
أو حكماً، ولا يوجد قسم ثالث لهما، وقد أبطلنا أدلة من قسم الماء إلى ثلاثة أقسام، مثبتاً القسم الطاهر، فإذا لم يثبت قسم الماء الطاهر، لم تثبت كل مسألة حكم فيها الفقاء بأن الماء طاهر غير طهور، ومنه مسألتنا هذه، والله أعلم.
الفصل الخامس الماء المستعمل في غمس يد القائم من النوم
الفصل الخامس الماء المستعمل في غمس يد القائم من النوم ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: حكم غسل اليد قبل إدخالها الإناء. المبحث الثاني: هل الحكم خاص في من قام من نوم الليل.
*
الفصل الخامس الماء المستعمل في غمس يد القائم من النوم اختلف العلماء في الماء إذا غمس فيه يد قائم من نوم الليل، فقيل: الماء طهور، ولا يكون مستعملاً بذلك، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4)، ومذهب الظاهرية (¬5). ¬
قال ابن تيمية: وهو قول أكثر الفقهاء (¬1)، ورجحه ابن القيم (¬2). وقيل: إن الماء ينجس إذا كان الماء قليلاً، وهو مذهب الحسن البصري، وإسحاق بن راهوية، ومحمد بن جرير الطبري (¬3)، وهو رواية عن أحمد (¬4). وقيل: إن الماء يكون طاهراً غير مطهر، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5)، وهو من المفرادت (¬6). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل الحنابلة على أن الماء طاهر
دليل الحنابلة على أن الماء طاهر. (56) ما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر البكراوي قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده (¬1). وجه الاستدلال: قالوا: لم نقل بنجاسة الماء إذا غمست فيه اليد قبل غسلها؛ لأن اليد معلوم طهارتها، وليست نجسة، فهي يد طاهرة قابلت ماء طهوراً، ولم نقل إن الماء طهور، لكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن غمسها حتى تغسل ثلاثاً، فلولا أنه يفيد منعاً لم ينه عنه، فدل على أن الماء يكون طاهراً غير مطهر. دليل الجمهور على أن الماء طهور. حمل الجمهور حديث أبي هريرة على الاستحباب، وعللوا ذلك بأن طهارة اليد متيقنة، ونجاسة اليد مشكوك فيها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإنه لا يدري أين باتت يده " والشك لا يقضي على اليقين. وكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أرشد إلى غسل اليد ثلاث مرات قبل غمسها فى الإناء قرينة على أن الغسل ليس بواجب إذ لو كان واجباً لكفى فيها غسلة واحدة قياساً على دم الحيض، وإذا كان الغسل ليس واجباً لم يكن غمسها ¬
دليل من قال إن الماء ينجس
مؤثراً في الماء، فيبقى الماء على طهوريته حتى يأتي دليل صحيح صريح ينقله عن الطهورية. وسوف نناقش علة النهي عن غمس اليد في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى. دليل من قال إن الماء ينجس. لا أعلم لهم دليلاً على نجاسة الماء، ولذلك قال النووي عن القول بالنجاسة: وهو ضعيف جداً؛ فإن الأصل في اليد والماء الطهارة، فلا ينجس بالشك، وقواعد الشريعة متظاهرة على هذا. وقال ابن القيم: " القول بنجاسته من أشذ الشاذ " (¬1). دليل الحنابلة على كون الماء طاهراً وليس بطهور. (57) ما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر البكراوي، قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده. وهو في البخاري دون قوله: ثلاثاً (¬2). وجه الاستدلال: قالوا: إن الحديث نهى عن غمس اليد في الإناء قبل غسلها، ولولا أن ¬
غمسها يؤثر في الماء لم ينه عنه، فإذا نهى عنه دل ذلك على تحول الماء إلى طاهر غير مطهر، وإنما قلنا: طاهر؛ لأن اليد ليست نجسة، وقلنا: ليس بطهور؛ للنهي عن غمس اليد في الماء، والله أعلم. وأجيب: أن الحديث لم يتعرض لحكم الماء، ولم يذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن الماء يتحول إلى طاهر لا يصح التطهر منه، إنما نهى عن غمس اليد فيه بعد القيام من النوم. وقد سبق لنا في بحث أقسام المياه أن الماء: طهور ونجس ولا دليل على وجود قسم ثالث.
المبحث الأول حكم غسل اليد قبل إدخالها الإناء
المبحث الأول حكم غسل اليد قبل إدخالها الإناء اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة: فقيل: غسل اليد سنة، وليس بواجب، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: يجب غسل اليد ثلاثاً، وإليه ذهب أحمد في الرواية المشهورة عنه (¬5)، وإسحاق، وداود الظاهري، وابن حزم (¬6)، والحسن البصري (¬7). دليل الجمهور على كون الغسل سنة. الدليل الأول: قوله تعالى {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ¬
وجوهكم} (¬1). (58) وروى مسلم، قال: حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي ح وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر، قالا جميعاً: حدثنا شعبة، عن جامع بن شداد قال: سمعت حمران بن أبان يحدث أبا بردة في هذا المسجد في إمارة بشر، أن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أتم الوضوء كما أمره الله تعالى، فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن. هذا حديث ابن معاذ، وليس في حديث غندر في إمارة بشر، ولا ذكر المكتوبات (¬2). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من توضأ كما أمره الله " فلم يقدم في الآ ية والخبر على الوجه فرضاً، فلو كان غسل اليد فرضاً لقدم ذكره، والله أعلم. والجواب: أن يقال: لا خلاف في أن غسل اليدين للوضوء من سنن الوضوء، ولكن غسلها لمن قام من الليل لا يتعلق بالوضوء فقط وإنما هو لمن أراد غمسها فى الإناء سواء كان لوضوء أم لغيره. الدليل الثانى: استدل القائلون بالسنية، أن طهارة اليد متيقنة، ونجاسة اليد مشكوك فيها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإنه لا يدرى أين باتت يده "، والشك لا يقضي على اليقين، فدل على أن النهي عن غمسها ليس للتحريم، وأن غسل اليد مستحب وليس بواجب. ¬
قال ابن دقيق العيد: الأمر - وإن كان ظاهره الوجوب - إلا أنه يصرف عن الظاهر لقرينة ودليل، وقد دل الدليل، وقامت القرينة ههنا؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - علل بأمر يقتضي الشك، وهو قوله: "فإنه لا يدري أين باتت يده "، والقواعد تقتضي أن الشك لا يقتضي وجوباً في الحكم , إذا كان الأصل المستصحب على خلافه موجوداً. والأصل: الطهارة في اليد، فلتستصحب. ويجاب: أن هذا توجيه يصح لو كانت العلة فى النهي عن غمس اليد هى نجاسة اليد، أما من يرى أن العلة تعبدية، أو أن العلة كما ذكر ابن تيمية وابن القيم: هى مبيت الشيطان على يده أو مبيتها عليه فلا يصح هذا الاستدلال. ولو كانت العلة فى الغسل النجاسة، لأرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى غسلها مرة واحدة، ألا ترى إلى دم الحيض يصيب الثوب، أرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى غسله مرة واحدة غسلة تذهب بعين النجاسة مع أن نجاسته متيقنة، فكيف بالنجاسة المتوهمة. الدليل الثالث: لما أرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى غسل اليد ثلاث مرات قبل غمسها فى الإناء علم أنه ليس بواجب إذ لو كان واجباً لكفى فيها غسلة واحدة. قياساً على دم الحيض وأجيب: بأن هذا القول مبنى على أن النهي لاحتمال أن تكون اليد نجسة. والذين قالوا بالوجوب لم يعللو بذلك على أن العدد ورد حتى فى إزالة النجاسة كالاستجمار والتسبيع فى ولوغ الكلب.
الدليل الرابع: (59) ما رواه مسلم، قال: حدثني بشر بن الحكم العبدي، حدثنا عبد العزيز- يعني: الدراوردي- عن ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا استيقظ أحدكم من منامه، فليستنثر ثلاث مرات؛ فإن الشيطان يبيت على خياشيمه، ورواه البخاري (¬1). وجه الاستدلال: قالوا إذا كان الاستنثار سنة بالإجماع بعد القيام من النوم، فكذلك غسل اليدين بعد القيام من النوم، وقبل غمسهما في الإناء ليس بواجب. والجواب: أن يقال: هذا قياس فى العبادات، والقياس فيها ضعيف. فالراجح: أن القول باستحباب غسل اليدين ثلاثاً إذا انتبه من نوم الليل قول قوي، والقول بالوجوب أقوى، ولو غمس يديه لم يمنع ذلك من التطهر بالماء، فالماء باق على طهوريته، والله أعلم. دليل الحنابلة على الوجوب. (60) ما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر البكراوي، قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد، عن عبد الله بن شقيق، ¬
عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده. وهو في البخاري دون قوله: ثلاثاً (¬1). وجه الاستدلال: أن الحديث نهى عن غمس اليد بعد الاستيقاظ إلا بعد غسلها ثلاثاً، والأصل في النهي التحريم إلا لصارف، ولا صارف هنا. وهل يختلف الحكم إذا تيقن المسلم طهارة يده؟ اختلفوا في ذلك: فقيل: لا يسن غسلها، بل يغمسها بدون غسل، اختاره بعض الحنفية (¬2). وقيل: هو بالخيار، إن شاء غسل يده قبل غمسها، وإن شاء غمس يده، ولو لم يغسلها. وهذا مذهب الشافعية (¬3). وقيل: يجب غسلها حتى ولو كانت يده في جراب، أو كانت مكتوفة، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وسبب اختلافهم في هذه المسألة اختلافهم في علة الأمر بغسل اليد: فقيل: إن العلة هي الشك في نجاسة اليد، حتى قيد بعض الحنفية حديث النهي عن غمس اليد في الإناء حتى يغسلها بما إذا نام مستنجياً بالأحجار، أو ¬
متنجس البدن، لا إذا نام متيقناً طهارتها، أو مستنجياً بالماء (¬1). وذكر الشافعية أن أهل الحجاز كانوا يستعملون الأحجار في الاستجمار، وكانت البلاد حارة، فيعرقون، وربما طافت أيديهم في موضع النجاسة فتنجست (¬2). والصحيح: أن الحديث مطلق، وهو عام لمن استنجى بالماء أو بالأحجار، عليه سراويل أم لا، ولا يقيد النص إلا نص مثله. وقيل: إن العلة تعبدية، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، فيجب الامتثال دون النظر إلى سبب الوجوب. وقيل: إن العلة مبيت الشيطان على يده، وهذا اختيار الشيخين ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله. قالا: هذه العلة نظير تعليل الشارع الاستنشاق بمبيت الشيطان على الخيشوم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا استيقظ أحدكم من نومه فليستنشق بمنخريه من الماء، فإن الشيطان يبيت على خيشومه " متفق عليه، وسبق تخريجه. فأمر بالغسل معللا بمبيت الشيطان على خيشومه، فعلم أن ذلك سبب الغسل، والحديث معروف. وقوله فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده يمكن أن يراد به ذلك، فتكون هذه العلة من العلل المؤثرة التى شهد لها النص بالإعتبار، وأما ملابسته ليده خاصة؛ فلأنها أعم الجوارح كسباً وتصرفاً ومباشرة لما يأمر به الشيطان من المعصية، فصاحبها كثير التصرف والعمل بها، ولهذا سميت جارحة لأنه يجترح بها: أى يكسب. والله أعلم (¬3). ¬
المبحث الثاني هل يختص الحكم في القيام من نوم الليل أو يشمل كل نوم؟
المبحث الثاني هل يختص الحكم في القيام من نوم الليل أو يشمل كل نوم؟ اختلف العلماء في ذلك: فقيل: لا فرق بين نوم الليل، ونوم النهار، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2). وقيل: إن الحكم ليس مخصوصاً بالقيام من النوم، بل المعتبر فيه الشك في نجاسة اليد، فمتى شك في نجاستها كره له غمسها في الإناء قبل غسلها، سواء قام من نوم الليل أو النهار، أو شك في نجاستها من غير نوم، وأما إذا تيقن طهارتها فوجهان: الأصح منهما، وهو والذي ذهب إليه الجماهير من أصحاب الشافعية أنه لا كراهة في غمس اليد، بل هو مخير إن شاء غمس، وإن شاء غسل قبل الغمس؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر النوم، ونبه على العلة، وهى الشك، فإذا انتفت العلة انتفت الكراهة، وهذا مذهب الشافعية (¬3). وقيل: الحكم يتعلق بنوم الليل خاصة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وهو الراجح. ¬
دليل الجمهور على عدم التفريق بين نوم الليل والنهار.
دليل الجمهور على عدم التفريق بين نوم الليل والنهار. الدليل الأول: (61) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه، فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: قوله: " إذا استيقظ أحدكم من نومه " فكلمة (نومه) نكرة مضافة، فتعم، كقوله سبحانه: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} (¬2) فيشمل نوم الليل ونوم النهار. الدليل الثاني: على فرض أن يكون الحديث في نوم الليل فيدخل فيه نوم النهار من باب القياس الجلي؛ إذ لا فرق، فإذا كان النائم يجب عليه أن يغسل يده قبل أن يدخلها الإناء لما ورد من ذلك في الحديث، فنوم النهار مثل نوم الليل في القياس. الدليل الثالث: قوله في الحديث: " فإنه لا يدري " وهذه العلة موجودة في نوم النهار، ¬
فالنائم إذا نام لا يدري سواء كان نومه في الليل أم في النهار؛ لأن النوم يحجب العقل. قال ابن حجر: لكن التعليل يقتضي الحاق نوم النهار بنوم الليل، وإنما خص نوم الليل بالذكر للغلبة. قال الرافعي في شرح المسند: يمكن أن يقال الكراهة في الغمس لمن نام ليلا أشد منها لمن نام نهارا؛ لأن الاحتمال في نوم الليل أقرب لطوله عادة (¬1). بل ذهب الباجي في المنتقى إلى دخول المغمى عليه والمجنون في الحكم، فقال: تعليق هذا الحكم بنوم الليل لا يدل على اختصاصه به؛ لأن النائم إن كان لا يدري أين باتت يده فكذلك المجنون والمغمى عليه، وكذلك من قام إلى وضوء من بائل أو متغوط أو محدث فإنه يستحب له غسل يده قبل أن يدخلها في إنائه خلافاً للشافعي؛ لأن المستيقظ لا يمكنه التحرز من مس رفغه ونتف إبطه وفتل ما يخرج من أنفه وقتل برغوث وعصر بثر وحك موضع عرق، وإذا كان هذا المعنى الذي شرع له غسل اليد موجودا في المستيقظ لزمه ذلك الحكم، ولا يسقط عنه أن يكون علق في الشرع على النائم، ألا ترى أن الشرع علقه على نوم المبيت ولم يمنع ذلك من أن يتعدى إلى نوم النهار لما تساويا في علة الحكم (¬2). وأجيب: بأن الحكم خص في المبيت، فلم يقل في الحديث: " فإنه لا يدري " ¬
دليل الحنابلة على اختصاصه بنوم الليل.
وسكت، بل قال: لا يدري أين باتت يده، ولو كانت العلة احتمال نجاسة اليد لكان له وجه في إلحاق المغمى عليه، وسبق لي أن ذكرت الاختلاف في العلة، ولم يظهر لي أن العلة احتمال النجاسة، وإلا لكانت غسلة واحدة كافية إن شاء الله في حصول المقصود، بل إن الغسل ثلاثاً مشروع حتى للمستيقظ عند إرادة الوضوء، فذكر التثليث يلحقه بالتعبد المحض، وإذا كانت العلة تعبدية لم يكن للقياس معنى، لعدم تعدي العلة، والله أعلم. دليل الحنابلة على اختصاصه بنوم الليل. الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإنه لا يدري أين باتت يده " والبيتوتة لا تكون إلا بالليل، كقوله تعالى {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون أو من أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون} (¬1)، فخص البيات بالليل ثم ذكر النهار. وأجيب: بقول ابن حزم: ادعى قوم أن هذا في نوم الليل خاصة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أين باتت يده "، وادعوا أن المبيت لا يكون إلا بالليل. قال أبو محمد: وهذا خطأ، بل يقال: بات القوم يدبرون أمر كذا وإن كان نهاراً (¬2). ورد هذا ابن عبد البر، فقال: أما المبيت فيشبه أن يكون ما قاله أحمد بن حنبل صحيحاً فيه؛ لأن الخليل قال في كتاب العين: البيتوتة دخولك في ¬
الدليل الثاني
الليل، وكونك فيه بنوم وبغير نوم، قال ومن قال: بت بمعنى نمت، وفسره على النوم فقد أخطأ، قال: ألا ترى أنك تقول بت أراعي النجم، معناه: بت أنظر إلى النجم. قال: فلو كان نوماً كيف كان ينام وينظر، إنما هو ظللت أراعي النجم. قال: وتقول: أباتهم الله إباتة حسنة، وباتوا بيتوتة صالحة، وأباتهم الأمر بياتاً، كل ذلك دخول الليل، وليس من النوم في شيء (¬1). الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا استيقظ أحدكم من نومه " فإن النوم عند الإطلاق لا يراد به إلا نوم الليل (¬2). الدليل الثالث: (62) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي رزين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قام أحدكم من الليل، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات؛ فإنه لا يدري أين باتت يده (¬3). [الحديث صحيح، وذكر القيام من الليل أخشى أن يكون غير محفوظ، فكل من ذكر الليل قد اختلف عليه فيه، فأكثر الطرق وأصحها ليس فيها ذكر الليل] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل من قال: الحكم يتعلق بالشك
دليل من قال: الحكم يتعلق بالشك. استدل الشافعية بأن الحكم يتعلق بالشك، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: " فإنه ¬
لا يدري أين باتت يده " أما من تيقن طهارة يده فلا شيء عليه، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - ذكر النوم ونبه على العلة، وهي الشك، فإذا انتفت العلة انتفت الكراهة (¬1). الراجح من أقوال أهل العلم: بعد استعراض الخلاف الذي تميل له نفسي أن الليل قيد مؤثر والله أعلم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: " أين باتت يده " ولأن دخول نوم الليل متيقن، ودخول غيره مشكوك فيه، والأصل براءة الذمة وعدم التكليف؛ ولأن نوم الليل أطول من نوم النهار عادة، وعلقت به أحكام كثيرة منها الأذكار الخاصة بالنوم على الصحيح، ومنها ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة: يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذ هو نام ثلاث عقد يضرب على مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان (¬2). فقوله: " وإلا أصبح " دليل على أن هذا في نوم الليل، والله أعلم.
الفصل السادس الماء المستعمل في إزالة النجاسة
الفصل السادس الماء المستعمل في إزالة النجاسة الماء المستعمل في إزالة النجاسة إذا انفصل عن المحل لا يخلو إما أن يتغير بالنجاسة أو لا. فإن تغير الماء بالنجاسة، فهو نجس بالإجماع، وقد تكلمنا عن الماء المتغير بالنجاسة في فصل الماء المتغير، فارجع إليه إن شئت. وإن كان الماء المنفصل لم يتغير، فقد اختلف العلماء في حكمه بناء على اختلافهم في وجوب تكرار الغسل، فبعضهم يرى وجوب تكرار غسل النجاسة ثلاث مرات، وبعضهم يرى تكرارها سبع مرات، وبعضهم يرى أنه يكفي في غسل النجاسة غسلة واحدة ما لم تكن نجاسة كلب، وسوف يأتي بسط الأقوال كلها، ومناقشتها في باب إزالة النجاسة، ولكن البحث الآن في الماء المنفصل عند تطهير هذا المحل المتنجس، وهو ما يسمى بغسالة النجاسة، أو الماء المستعمل في إزالة النجاسة، إذا انفصل عن المحل، وهو لم يتغير هل يكون نجساً أم طاهراً أم طهوراً، اختلف العلماء في هذا: فقيل: الماء المنفصل من غسل النجاسة الحقيقية من الغسلة الأولى حتى الغسلة الثالثة نجس، وهذا مذهب الحنفية (¬1). ¬
وقيل: الماء المنفصل طهور ما لم يتغير بالنجاسة، وهو مذهب المالكية (¬1). وقيل: يكون طاهراً غير مطهر، وهو الأصح عند الشافعية (¬2). وقيل: المنفصل من الغسلة الأولى حتى الغسلة السادسة نجس، حتى ولو زالت عين النجاسة في الغسلة الأولى، والمنفصل من الغسلة السابعة طاهر، غير مطهر، والمنفصل من الغسلة الثامنة طهور. وهذا المشهور من مذهب ¬
دليل الحنفية على نجاسة الغسلات الثلاث.
الحنابلة (¬1). دليل الحنفية على نجاسة الغسلات الثلاث. قولهم مبني على وجوب غسل النجاسات ثلاث مرات، وسوف يأتي بسط الأدلة على هذه المسألة في مبحث مستقل، وعليه قالوا: إن الماء المنفصل في الغسلة الأولى والثانية انفصل والمحل نجس فتنجس، وأما الغسلة الثالثة فنجسة، وإن كان المحل قد طهر بناء على أن الماء قد استعمل في إزالة نجاسة، فالماء عندهم ينجس إذا استعمل في الطهارة سواء في طهارة الحدث أم في طهارة الخبث، وسبق لنا تحرير مذهبهم في الماء المستعمل في طهارة الحدث، وأجبنا عليه. الدليل الثاني على نجاسة الغسالة: (63) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا جرير- يعني: ابن حازم- قال: سمعت عبد الملك- يعني: ابن عمير- يحدث عن عبد الله بن معقل بن مقرن قال: صلى أعرابي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه القصة - يعني: قصة بول الأعرابي في المسجد- قال فيه: وقال: يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬
خذوا ما بال عليه من التراب، فألقوه، وأهريقوا على مكانه ماء (¬1). قال أبو داود: وهو مرسل ابن معقل لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -. [ضعيف، وزيادة خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه زيادة منكرة والحديث في الصحيحين وليس فيه هذه الزيادة] (¬2). وجه الاستدلال: لولا أن الغسالة نجسة لما احتاج إلى نقلها قبل غسلها. الدليل الثاني: (64) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا عبد الوهاب بن عيسى بن أبي حية، نا أبو هشام الرفاعي محمد بن يزيد، نا أبو بكر بن عياش، حدثنا سمعان بن مالك، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: جاء أعرابي فبال في المسجد، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكانه، فاحتفر، فصب عليه دلواً من ماء، فقال الأعرابي: يا رسول الله المرء يحب القوم ولما يعمل عملهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المرء مع من أحب (¬3). ¬
قال الدارقطني: سمعان مجهول (¬1). الدليل الثالث: (65) ما رواه ابن الجوزي في التحقيق (¬2)، وفي العلل المتناهية (¬3)، من طريق محمد بن صاعد، عن عبد الجبار بن العلاء، عن ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن أنس، أن أعرابياً بال في المسجد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: احفروا مكانه، ثم صبوا عليه ذنوباً من ماء. [حديث معلول، والمعروف أنه مرسل] (¬4). ¬
دليل الحنابلة في غسالة النجاسة.
دليل الحنابلة في غسالة النجاسة. يرى الحنابلة أن الماء المنفصل من الغسلة الأولى حتى الغسلة السادسة نجس؛ لأن الماء قد انفصل والمحل نجس، حتى ولو ذهبت عين النجاسة، فالمحل نجس حكماً، والتعليل عندهم: أنه ماء قليل لاقى نجاسة، فينجس ولو لم يتغير (¬1). وأما الماء المنفصل من الغسلة السابعة فإنه طاهر، ولماذا لا يكون طهوراً؟ ¬
دليل الشافعية على كون الماء طاهرا.
قالوا: لأنه أثر في المحل، فحصل به إزالة حكم النجاسة. ولماذا لا يكون نجساً؟ قالوا: لأنه انفصل عن محل طاهر؛ لأن المحل يطهر عندهم في الغسلة السابعة، إذا ذهبت عين النجاسة. أما المنفصل من الغسلة الثامنة فهو طهور؛ لأن المحل قد طهر من الغسلة السابعة، فلم يتأثر الماء. والقول بوجوب غسل النجاسات ثلاثاً عند الحنفية أو سبعاً عند الحنابلة قول ضعيف، إلا في ولوغ الكلب حيث ثبت العدد في غسل الإناء من ولوغه سبعاً، وسوف يأتي بسط هذه المسألة في باب النجاسات إن شاء الله تعالى (¬1). دليل الشافعية على كون الماء طاهراً. أدلتهم في هذه المسألة هي أدلتهم نفسها في المستعمل في رفع الحدث، فإذا كان المستعمل في رفع الحدث، وهو ليس نجاسة يكون طاهراً عندهم، فكيف بالمستعمل في إزالة النجاسة، ومن أدلتهم: (66) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: وحدثنا هارون بن سعيد الأيلي وأبو الطاهر وأحمد بن عيسى جميعا، عن ابن وهب - قال هارون: حدثنا ابن وهب - أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم، وهو جنب. ¬
دليل المالكية على أن غسالة النجاسة طاهرة مطهرة.
فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولا (¬1). وانظر الجواب عليه في مسألة المستعمل في رفع الحدث. ومن أدلتهم قولهم: إن الماء المستعمل ليس ماء مطلقاً، بل هو مقيد بكونه ماء مستعملاً، والذي يرفع الحدث هو الماء المطلق كما في قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬2)، فلم يقيده بشىء، فالماء المستعمل حكمه حكم ماء الورد والزعفران والشاي ونحو ذلك (¬3). وسبق الجواب عليه. والصحيح أن إثبات قسم من الماء يكون طاهراً غير مطهر قول ضعيف، وقد بينت في مبحث أقسام المياه أن الماء قسمان: طهور، ونجس. ولا يوجد قسم الطاهر، والله أعلم. دليل المالكية على أن غسالة النجاسة طاهرة مطهرة. استدل المالكية على أن غسالة النجاسة من الماء الطهور إذا لم تتغير بعدة أدلته، منها: الدليل الأول: (67) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس بن مالك، أن أعرابياً بال في المسجد، فقاموا إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تزرموه، ثم دعا بدلو من ماء، فصب عليه، ورواه ¬
مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أن الماء الذي غسل به بول الأعرابي لو كان نجساً لم يقض النبي - صلى الله عليه وسلم - بطهارة ذلك المحل، ولأمر أن يصب عليه الماء ثانية وثالثة، فصح أن المغسول به النجاسة طاهر مطهر (¬2). الدليل الثاني: (68) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصبي، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فأتبعه إياه. ورواه مسلم (¬3). وجه الاستدلال من هذا الحديث كالاستدلال من الحديث الذي قبله، فإن قيل في الحديث الأول: إن النجاسة كانت على الأرض، فالحديث الثاني النجاسة على ثوب، وهذا دليل على أنه لافرق بينهما. الدليل الثالث: قالوا من جهة المعنى: الماء المنفصل عن المحل المغسول هو من جملة الماء الباقي في المحل المغسول، فالمنفصل بعض المتصل، والماء الباقي في المحل المغسول ¬
طهور بإجماع، فوجب أن يكون المنفصل عنه مثله (¬1). الدليل الرابع: إذا غلب الماء على النجاسة ولم يظهر فيه شيء منها فقد طهرها، ولا تضره ممازجته لها إذا غلب عليها، سواء كان الماء قليلاً أم كثيراً، فقد جعل الله الماء طهوراً، وأنزله علينا ليطهرنا به، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " الماء لا ينجسه شيء " يعني: إلا ما غلب عليه من النجاسة فغيره، ومعلوم أنه لا يطهر نجاسة حتى يمازجها، فإن غلب عليها ولم يظهر فيه شيء منها، فالحكم له، وإن غلبته النجاسة فالحكم لها إذا ظهر في الماء شيء منها (¬2). وقد أجمع العلماء على طهارة الخمر، إذا صارت خلاً من غير صانع، لاستهلاك ما كان يخامر العقل منها بطريان التحليل عليه، فلأن تطهر النجاسة، ويزول حكمها باستهلاك الماء لها أولى وأحرى (¬3). وهذا القول هو الراجح، لدليل النقل والعقل، والله أعلم. ¬
الباب السادس في الكلام على فضل الوضوء
الباب السادس في الكلام على فضل الوضوء
الفصل الأول حكم وضوء الرجال والنساء جميعا إذا كانوا من المحارم
الفصل الأول حكم وضوء الرجال والنساء جميعاً إذا كانوا من المحارم لا خلاف بين العلماء على جواز وضوء الرجال جميعاً من إناء واحد، ووضوء النساء جميعاً من إناء واحد، ووضوء الرجال والنساء جميعاً إن كان الرجال من المحارم، وقد نقل الإجماع على ذلك جماعة من أهل العلم، منهم: قال الطحاوي من الحنفية: الأصل المتفق عليه أن الرجل والمرأة إذا أخذا بأيديهما الماء معاً من إناء واحد، أن ذلك لا ينجس الماء (¬1). وقال القرطبي من المالكية: اتفق العلماء على جواز اغتسال الرجل وحليلته ووضوئهما معاً من إناء واحد، إلا شيئاً روي في كراهية ذلك عن أبي هريرة، وحديث ابن عمر وعائشة وغيرهما يرده، وإنما الاختلاف في وضوئه أو غسله من فضلها (¬2). وقال ابن حزم رحمه الله: واتفقوا على جواز توضيء الرجلين والمرأتين معاً (¬3). اهـ وقال الترمذي: وهو قول عامة الفقهاء، أن لا بأس أن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد. وقال ابن تيمية: أحدها: وهو اشتراك الرجال والنساء في الاغتسال من إناء واحد، وإن كان كل واحد منهما يغتسل بسؤر الآخر، وهذا مما اتفق عليه أئمة المسلمين بلا نزاع بينهم، أن الرجل والمرأة أو الرجال والنساء إذا ¬
توضئوا واغتسلوا من ماء واحد جاز، فأما اغتسال الرجال والنساء جميعاً من إناء واحد فلم يتنازع العلماء في جوازه، وإذا جاز اغتسال الرجال والنساء جميعاً، فاغتسال الرجال دون النساء جميعاً، أو النساء دون الرجال جميعاً أولى بالجواز، وهذا مما لا نزاع فيه، فمن كره أن يغتسل معه غيره، أو رأى أن طهره لا يتم حتى يغتسل وحده، فقد خرج عن إجماع المسلمين، وفارق جماعة المؤمنين (¬1). اهـ مستند هذا الإجماع: الدليل الأول: (69) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو خيثمة، عن عاصم الأحول، عن معاذة، عن عائشة، قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء بيني وبينه واحد، فيبادرني، حتى أقول دع لي دع لي. قالت: وهما جنبان، وهو في البخاري (¬2). الدليل الثاني: (70) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد (¬3). ¬
الدليل الثالث: (71) ما رواه البخاري، قال: حدثنا شعبة، عن عبد الله بن عبد الله بن جبر، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - والمرأة من نسائه يغتسلان من إناء واحد (¬1). ففي هذه الأحاديث دليل على أن الرجل وزوجه يغتسلان معاً من غسل الجنابلة، وإذا اغتسلا معاً كان كل واحد منهما يغتسل بفضل صاحبه (¬2). ¬
الفصل الثاني في فضل وضوء المرأة
الفصل الثاني في فضل وضوء المرأة إذا خلت المرأة بالماء، فهل يجوز الوضوء بفضلها، فيه خلاف: واختلفوا في معنى الخلوة على قولين: الأول: انفرادها بالاستعمال، سواء شوهدت أم لا، وهذا مذهب الجمهور (¬1)، ورواية عن أحمد (¬2). الثاني: أن تخلو به فلا يشاهدها مميز، سواء كان ذكراً أم أنثى، وهو المشهور عند المتأخرين من الحنابلة (¬3). ¬
وقد اختلف الفقهاء في الوضوء بفضل المرأة على أقوال: فقيل: يجوز الوضوء بفضل المرأة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، وهو رواية عن أحمد، اختارها ابن عقيل من الحنابلة (¬4)، ورجحه ابن المنذر (¬5)، وهو رأي ابن عباس رضي الله عنهما (¬6). ¬
وقيل: لا يستعمل في رفع حدث الرجل خاصة، ويستعمل في إزالة النجاسة، وفي رفع حدث المرأة والصبي، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد (¬1)، ¬
ومذهب ابن حزم قريب منه (¬1). وقيل: يكره الوضوء بفضل المرأة، وهو مذهب سعيد بن المسيب والحسن (¬2)، ¬
دليل الجمهور على أن فضل المرأة طهور.
واختاره بعض الشافعية (¬1). وقيل: لا بأس أن يغتسل بفضل طهور المرأة ما لم تكن جنباً أو حائضاً، وهو رأي ابن عمر رضي الله عنهما (¬2). دليل الجمهور على أن فضل المرأة طهور. الدليل الأول: (72) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن حاتم - قال إسحاق أخبرنا - وقال ابن حاتم حدثنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار، قال: أكبر علمي والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني، أن ابن عباس أخبره، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بفضل ميمونة (¬3). [الحديث معلول، والمحفوظ ما أخرجه الشيخان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد] (¬4). الدليل الثاني: (73) ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الرزاق، أنا الثوري، عن سماك بن ¬
حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس أن امرأة من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - استحمت من جنابة، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ من فضلها، فقالت: إني اغتسلت منه، فقال: إن الماء لا ينجسه شيء (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
دليل من قال: لا يغتسل بفضل المرأة
دليل من قال: لا يغتسل بفضل المرأة. الدليل الأول: (74) روى الإمام أحمد في مسنده، قال: حدثنا يونس وعفان، قالا: ثنا أبو عوانة، عن داود بن عبد الله الأودي، عن حميد الحميري، قال: لقيت رجلاً صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع سنين، كما صحبه أبوهريرة أربع سنين قال: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أن يمتشط أحدنا كل يوم، وأن يبول في مغتسله، وأن تغتسل المرأة بفضل الرجل، وأن ¬
يغتسل الرجل بفضل المرأة وليغترفا جميعاً (¬1). [رجاله ثقات] (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (75) ما رواه أحمد، قال: ثنا سليمان بن داود، ثنا شعبة، عن عاصم الأحول، قال: سمعت أبا حاجب يحدث عن الحكم بن عمرو الغفاري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتوضأ الرجل من فضل وضوء المرأة (¬1). [رجاله ثقات، وقد أعل بالوقف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (76) حدثنا محمد بن يحيى، ثنا المعلى بن أسد، ثنا عبد العزيز بن المختار، ثنا عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل الرجل بفضل المرأة والمرأة بفضل الرجل، ولكن يشرعان جميعاً. [المحفوظ وقفه على عبد الله بن سرجس] (¬1). ¬
الجمع بين حديث النهي عن الوضوء بفضل المرأة، وحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ بفضل ميمونة. أجاب المانعون بأحد جوابين: الأول: قالوا: إن حديث ابن عباس غير محفوظ: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ بفضل ميمونة، وأن المحفوظ ما جاء في الصحيحن من كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - يغتسل هو وميمونة من إناء واحد (¬1). ¬
الجواب الثاني: قالوا: حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ بفضل ميمونة يحتمل أن يكون مع المشاهدة. ولذلك يشترطون أن تخلو به المرأة لطهارة كاملة. ومعنى تخلو به عندهم ليس معناه أن تنفرد به ولكن معناه ألا يشاهدها مميز أثناء الطهارة (¬1). ¬
وهذا الكلام عليه مأخذان. الأول: أنه يبعد أن تشاهد المرأة وهي تغتسل من الجنابة. الثاني: أن اشتراط ألا يشاهدها أحد ليس ظاهراً من الحديث، ولكن يكون الماء فضلها إذا انفردت باستعماله .. ولذا جاء في الحديث "وليغترفا جميعا " ولو كان مجرد المشاهدة يؤثر ما أرشد إلى الاغتراف جميعاً، وكان ممكن أن يقول نهى أن يتوضأ الرجل بما خلت به المرأة، وكان ممكن أن يقول: ولتغترف عند أحد. القول الثاني في الجمع بين الحديثين: أن النهي محمول على الكراهة، والفعل دال على الجواز (¬1)، وهذا هو الراجح على القاعدة الأصولية التي تقول: إن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعارض قوله. فإذا أمر بشيء وتركه دل ذلك على أن الأمر للاستحباب، وإذا نهى عن شيء وفعله دل على أن النهي للكراهة. إلا إذا جاءنا دليل خاص يدل على أن مخالفة النبي - صلى الله عليه وسلم - خصوصية له فيبقى الأمر على أصله للوجوب، والنهي عن أصله للتحريم، وليس عندنا دليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين اغتسل بفضل ميمونة أن هذا الحكم خاص به، بل عندنا دليل على أنه عام بدليل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - علل الحكم بقوله " إن الماء لا ينجسه شيء " أو على اللفظ المرجوح " إن الماء لا يجنب " ولم يقل إني لست كهيئتكم كما قال ذلك عند الوصال في الصيام. ¬
القول الثالث في الجمع: حملوا النهي عن فضل وضوء المرأة من الجنب والحائض وأما إذا كانت طاهراً فلا بأس به (¬1). (77) فقد روى مالك في الموطأ (¬2)، وعنه عبد الرزاق (¬3)، من طريق نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: لا بأس أن يغتسل بفضل المرأة ما لم تكن جنباً أو حائضاً أخرجه ابن أبي شيبة من طريق أيوب عن نافع به (¬4). وهذا القول ضعيف: لأن اشتراط أن تكون المرأة حائضاً أو جنباً لم يرد في شيء من الأحاديث. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لعائشة وهي حائض: " إن حيضتك ليست في يدك " رواه مسلم (¬5). فإذا كانت حيضتها ليست في يدها فهي كذلك ليست في وجهها ولا في رأسها ولا في قدمها ولا في شيء من أعضائها سوى مكان الأذى. فلا دليل على اشتراط الحيض أو الجنابة، وبدن الجنب، وبدن الحائض سوى مكان الأذى لا فرق بينه وبين غيره إلا أن هذا محدث وهذا غير محدث. ¬
القول الرابع في الجمع: قيل: إن النهي عن استعمال ما تقاطر من أعضائه عند التطهر، والجواز وارد على ما بقى في الماء من الإناء. وهذا القول قدمه الخطابي ورجحه على غيره في معالم السنن (¬1)، وهذا القول أيضاً ضعيف. فما كان من شأن الصحابة أن يجمعوا ما تقاطر من أعضائهم لاستعماله مرة أخرى حتى يفرق بين ما استعملته المرأة وبين ما استعمله الرجل. فالراجح أن النهي لا يثبت، والقول بعدم الكراهة أقوى، وإذا كان الإمام أحمد يقول: إن المسألة ليس فيها حديث ثابت، وإنما العمل بقول بعض الصحابة، فالجواب أن الصحابة مختلفون، وابن عباس يرى جواز الوضوء من فضل المرأة، وابن عمر لا يرى به بأساً إلا من الحائض والنفساء، وإذا كان الصحابة مختلفين كان السبيل طلب الترجيح من جهة الدليل. ولا دليل يسلم في المسألة. وإذا كان سؤر بهيمة الأنعام لا يمنع من الوضوء منه، بل ولا الهرة مع أن طهارتها لعلة التطواف، وإلا فالأصل نجاستها، فسؤر المرأة أولى بالجواز، وانظر إلى فقه ابن عباس حين قال: هي ألطف بناناً وأطيب ريحاً، ولو كان في المسألة نص سالم من النزاع لم أعارضه بالفهم القاصر، ولكن ما دامت النصوص لم تثبت، والصحابة مختلفون فينظر في أقربها للحق. ¬
الفصل الثالث في الوضوء بفضل الرجل
الفصل الثالث في الوضوء بفضل الرجل ذكرنا في ما سبق الخلاف في الوضوء بفضل المرأة، وعلمنا أن قول الجمهور جواز الوضوء بفضل المرأة، والذي منع من الوضوء بفضل المرأة هم الحنابلة (¬1)، وابن حزم (¬2)، كما سبق، ولا شك أن الذي أجاز الوضوء بفضل المرأة أجاز الوضوء بفضل الرجل من باب أولى، ولم يمنع الحنابلة وابن حزم (¬3)، الوضوء بفضل الرجل، مع منعهم الوضوء بفضل المرأة، وقد حكي فيه الإجماع، نقله جماعة من أهل العلم. قال ابن عبد البر: لا بأس بفضل وضوء الرجل المسلم يتوضأ منه، وهذا كله في فضل طهور الرجل إجماع من العلماء والحمد لله (¬4). وقال النووي رحمه الله: واتفقوا على جواز وضوء الرجل والمرأة بفضل الرجل. وقال أيضاً: لا نعلم أحداً من أهل العلم منعها- أي المرأة - فضل ¬
الرجل (¬1). وقال أيضاً: وأما تطهير المرأة بفضل الرجل فجائز بالإجماع أيضاً (¬2). ومع نقل الإجماع إلا أن الحديث الوارد قد جمع النهي عن الوضوء بفضل الرجل كما نهى عن الوضوء بفضل المرأة، فإن صح الإجماع فذاك، (78) وإلا فلينظر في الحديث، فقد روى الإمام أحمد في مسنده، قال: حدثنا يونس وعفان، قالا: ثنا أبو عوانة، عن داود بن عبد الله الأودي، عن حميد الحميري، قال: لقيت رجلاً صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع سنين، كما صحبه أبوهريرة أربع سنين قال: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أن يمتشط أحدنا كل يوم، وأن يبول في مغتسله، وأن تغتسل المرأة بفضل الرجل، وأن يغتسل الرجل بفضل المرأة وليغترفا جميعاً (¬3). وهذا حديث رجاله ثقات، وما حكي من الإجماع فينظر في صحة دعواه، فإن صح كان دليلاً لقول الإمام أحمد في تضعيف النهي عن الوضوء بفضل المرأة، لأنه لا يمكن أن ينهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، وأن يغتسل الرجل بفضل المرأة، ويسوي الحديث بينهما في النهي، ثم ينقل الإجماع على عدم النهي عن وضوء المرأة بفضل الرجل إلا إذا كان النهي الوارد لا يثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم. ¬
الباب السابع في الشك والاشتباه
الباب السابع في الشك والاشتباه ويشتمل على خمسة فصول: الفصل الأول: في الشك في الماء ونحوه. الفصل الثاني: إذا اشتبه الماء الطهور بالماء النجس. الفصل الثالث: إذا اشتبه ماء طهور بماء طاهر. الفصل الرابع: إذا اشتبه ثياب طاهرة بمحرمة أو نجسة. الفصل الخامس: في الإخبار بنجاسة الماء.
الفصل الأول في حكم الماء ونحوه إذا كان مشكوكا فيه
الفصل الأول في حكم الماء ونحوه إذا كان مشكوكاً فيه ينبغى أن يعلم أنه ليس في الشريعة شىء مشكوك فيه البتة، وإنما يعرض الشك للمكلف بتعارض أمارتين فصاعدا، فتصير المسألة مشكوكاً فيها بالنسبة إليه، فهى شكية عنده، وربما تكون ظنية عند غيره، وقطعية عند آخرين، فكون المسألة شكية أو ظنية أو قطعية ليس وصفاً ثابتاً لها، وإنما هو أمر يعرض لها عند إضافتها إلى حكم المكلف (¬1). وينبغي أن يعلم أن مراد كثير من الفقهاء بالشك في الماء والحدث والنجاسة والصلاة والصوم والطلاق والعتق وغيرها هو التردد بين وجود الشىء وعدمه، سواء كان الطرفان في التردد سواء، أو أحدهما راجحاً، فهذا معناه في استعمال الفقهاء في كتب الفقه، وأما أصحاب الأصول ففرقوا بينهما. فقالوا: التردد بين الطرفين إن كان على السواء فهو الشك، وإلا فالراجح ظن والمرجوح وهم (¬2). وقد يجتمع في هذه المسائل أصل وظاهر، وذلك نحو آنية الكفار المتدينين باستعمال النجاسة، وثياب القصابين، والصبيان الذين لا يتقون النجاسة فقيل: إنه محكوم بنجاستها عملاً بالظاهر. وقيل: إنه محكوم بطهارتها عملاً بالأصل. وقد يترجح الظاهر في بعض المسائل على الأصل فيؤخذ به، وقد يقدم ¬
الأصل، وقد يستوى الظاهر والأصل، وهذا هو السبب في عدم طرد فروع هذه المسائل عند بعض المذاهب (¬1). إذا عرفنا هذا فقد اختلف العلماء في حكم الشيء إذا تيقن طهارته أو نجاسته، وشك في نقيض ذلك. فقيل: يبني على اليقين، وهو مذهب الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ¬
وقيل: يختلف الشك في الماء، عن الشك في نجاسة الثوب، عن الشك في الحدث، والشك في الحدث يختلف في داخل الصلاة، عنه في خارجها، وهذا مذهب المالكية وإليك بيان مذهبهم في هذه المسائل. إذا شك في نجاسة الثوب ونحوه وجب نضحه (¬1). وإذا شك في نجاسة البدن وجب غسله (¬2). وإذا شك في حصول الحدث، ففيه قولان: فقيل: ينقض مطلقاً، وهو رواية ابن القاسم عن مالك. وقيل: الشك ينقض الوضوء خارج الصلاة، ولا ينقض داخلها، وهو ¬
المشهور من مذهب المالكية (¬1)، ونسب هذا القول للحسن رحمه الله (¬2). وروى ابن نافع عن مالك أنه لا وضوء عليه مطلقاً كالجمهور (¬3). وأما مذهب المالكية في الشك في الماء، فيعمل بالأصل، وهو الطهارة كمذهب الجمهور (¬4). ¬
دليل الجمهور.
دليل الجمهور. الأصل العظيم، أن اليقين لا يزول بالشك، فمن تيقن الطهارة وشك بالحدث، أو تيقن النجاسة وشك في الطهارة، بنى على اليقين، وهذا الأصل له أدلة شرعية صحيحة. دليل المالكية على وجوب النضح إذا شك في طهارة الثوب. (79) ما رواه مالك في الموطأ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أنه اعتمر مع عمر بن الخطاب في ركب فيهم عمرو بن العاص، وأن عمر بن الخطاب عرس ببعض الطريق قريباً من بعض المياه، فاحتلم عمر، وقد كاد أن يصبح فلم يجد مع الركب ماء، فركب حتى جاء الماء، فجعل يغسل ما رأى من ذلك الاحتلام حتى أسفر، فقال له عمرو بن العاص: أصبحت ومعنا ثياب، فدع ثوبك يغسل. فقال عمر بن الخطاب: واعجباً لك يا عمرو بن العاصي، لئن كنت تجد ثياباً أفكل الناس يجد ثياباً، والله لو فعلتها لكانت سنة، بل أغسل ما رأيت، وأنضح ما لم أر (¬1). [إسناده منقطع] (¬2). وجه الاستدلال: لا شك أن النضح هنا هو الرش، بدليل قوله: " اغسل ما رأيت وأنضح ما لم أر. فجعل النضح غير الغسل. ¬
الدليل الثاني على وجوب النضح.
قال ابن عبد البر في الاستذكار: ولا خلاف بين العلماء أن النضح فى حديث عمر هذا معناه الرش، وهو عند أهل العلم طهارة ماشك فيه، كأنهم جعلوه دفعاً للوسوسة. ثم قال بعد: فمن استيقن حلول المني في ثوبه غسل موضعه منه إذا اعتقد نجاسته، كغسله سائر النجاسات على ما قد بينا، وإن لم يعرف موضعه غسله كله، فإن شك هل أصاب ثوبه شيء منه أم لا؟ نضحه بالماء على ما وصفنا، وعلى هذا مذهب الفقهاء كما ذكرنا. قلت: هذا الاستدلال فيه نظر بين، لأنه مبني أولاً على نجاسة المني والدليل خلافه، ومبني أيضاً على أن فعل عمر يدل على الوجوب، وإذا كان فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - المجرد لا يدل على الوجوب فكيف بفعل غيره (¬1). الدليل الثاني على وجوب النضح. (80) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، أن جدته مليكة دعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطعام صنعته له، فأكل منه، ثم قال: قوموا فلأصل لكم، قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد أسود من طول ما لبس، فنضحته بماء، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصففت واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، ثم انصرف (¬2). والجواب أن النضح هنا ليس عن نجاسة؛ إذ لو كان عن نجاسة لانتشرت ¬
دليل المالكية على وجوب الغسل إذا شك في نجاسة البدن.
النجاسة بالنضح، ولكن النضح ليلين الحصير لاستعماله، وقد نقل ابن عبد البر مثل ذلك عن إسماعيل بن إسحاق من المالكية (¬1)، وهو الراجح؛ لأن ثوب المسلم ونحوه محمول على طهارته، ولا يؤثر الشك فيه حتى تستيقن النجاسة. دليل المالكية على وجوب الغسل إذا شك في نجاسة البدن. (81) استدلوا بما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر البكراوي، قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده. وهو في البخاري دون قوله: ثلاثاً (¬2). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل اليد للشك في نجاستها، فهذا يقتضي وجوب غسل البدن إذا شك في نجاسته. قالوا: وإنما لم نقل بالنضح؛ لإن النضح خلاف القياس، فيقتصر فيه على ما ورد، وهو الحصير والثوب والخف، وجعل ابن رشد هذا القول هو المذهب (¬3). وقد ناقشت الحديث فيما سبق، وبينت العلة من الأمر، وأنها ليست ¬
دليل المالكية على أن الشك في الحدث ينقض الطهارة
للنجاسة، ولو كان الغسل من النجاسة لكفى في ذلك غسلة واحدة، كما في نجاسة دم الحيض يصيب الثوب. وأما دليل المالكية على أن الشك في الحدث ينقض الطهارة. قالوا: إنما أوجب الوضوء بالشك؛ لأن الطهارة شرط، والشك في الشرط مؤثر، بخلاف الشك في طلاق زوجته، أو عتق أمته، أو شك في الطهارة أو الرضاع لا يؤثر؛ لأنه شك في المانع، وهو لا يؤثر، وإنما أثر في الشرط دون المانع، لأن العبادة محققة في الذمة فلا تبرأ منها إلا بطهارة محققة، والمانع يطرأ على أمر محقق وهو الإباحة أو الملك من الرقيق، فلا تنقطع بأمر مشكوك فيه (¬1). وأما وجه الفرق بين الحدث داخل الصلاة وخارج الصلاة. (82) فقد أخذوا ذلك من ظاهر الحديث، فقد روى البخاري، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب (ح) وعن عباد بن تميم، عن عمه، أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً، ورواه مسلم (¬2). فأمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا شك في الصلاة أن يستمر فيها، ولا ينصرف عنها إلا بيقين، قالوا: وأما إذا شك خارج الصلاة، فالحكم مختلف، فيلزمه أن ¬
يأتي بالطهارة بيقين. قال الدسوقي في حاشيته: من شك، وهو في الصلاة طرأ عليه الشك فيها بعد دخوله، فوجب أن لا ينصرف عنها إلا بيقين، ومن شك خارجها طرأ عليه الشك في طهارته قبل الدخول في الصلاة، فوجب أن لا يدخلها إلا بطهارة متيقنة (¬1). قال ابن حجر تعليقاً على ذلك: إن كان ناقضاً خارج الصلاة فينبغي أن يكون كذلك في الصلاة كبقية النواقض (¬2). هذا محصل مذهب مالك في الشك سواء كان في الماء أم في الثوب، أم في البدن، أم في الحدث، وله تفصيل في كل مسألة، ومذهبه لا يطرد، وما كان قولاً له موافقاً للجمهور تركت ذكر دليله اكتفاء بذكر دليل الجمهور، وما خالف فيه ذكرت وجه الدليل عنده. والله أعلم. الراجح من هذه الأقوال قول الجمهور، وهو العمل باليقين، إلا أني أرى إن أمكن العمل بالظن عمل به، فإنه إذا كان هناك ظن راجح أخذ به، لأننا تعبدنا بالظن إذا تعذر اليقين، إلا في مسألة الماء إذا شك في طهارته أو نجاسته، فإن هذه المسألة نادرة الوقوع خاصة إذا رجحنا أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، فإن تغير الماء حكمنا عليه بالنجاسة وهو أمر محسوس مشاهد، وإن لم يتغير فهو طهور، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني إذا اشتبه الماء الطهور بالماء النجس
الفصل الثاني إذا اشتبه الماء الطهور بالماء النجس إذا اشتبه الماء الطهور بالماء النجس، كما لو كان هناك أواني فيها ماء طهور، بأواني فيها ماء نجس، واشتبها عليه، فقد اختلف العلماء فيها على أقوال. القول الأول: مذهب الحنفية: قيل يتحرى بشرط أن تكون الغلبة للأواني الطاهرة، فإن كانت الغلبة للأواني النجسة، أو كانا سواء، فليس له أن يتحرى، أي يجب تركهما (¬1). القول الثاني: مذهب المالكية: في مذهب المالكية أقوال كالتالي: قيل: إنه يتيمم ويتركها، وهو اختيار سحنون. وقيل: يتوضأ بعدد الأواني النجسة، ويصلي بكل وضوء صلاة، ثم يزيد وضوءاً واحداً، ويصلي وحيئذ تبرأ ذمته بيقين (¬2). وقيل: يتحرى أحدهما ويتوضأ به ويصلي، وهو اختيار محمد بن المواز. ¬
القول الثالث: مذهب الشافعية
وقيل: يهرق الإناء الواحد، ثم يحصل الثاني ماء مشكوكاً فيه، فلا يؤثر فيه الشك، لأن الأصل في الماء الطهارة، ورجحه ابن عبد البر في الكافي. وقيل: يتوضأ بأيهما شاء؛ لأن الماء ما دام لم يتغير بنجاسة فهو طهور، ذكره ابن الجلاب في التفريع، وهو الراجح (¬1)، واختاره ابن حزم (¬2). القول الثالث: مذهب الشافعية. الصحيح المنصوص عليه عندهم، الذي قطع به جمهورهم، وتظاهرت عليه نصوص الشافعي رحمه الله: أنه لا تجوز الطهارة بواحد منهما إلا إذا اجتهد وغلب على ظنه طهارته بعلامة تظهر، فإن ظنه بغير علامة تظهر لم تجز الطهارة به (¬3). ¬
القول الرابع: مذهب الحنابلة
القول الرابع: مذهب الحنابلة: المشهور من مذهب الحنابلة أنه يحرم استعمالهما، ولا يجوز التحري، ولا يشترط للتيمم إراقتهما ولا خلطهما (¬1). ¬
دليل من قال يتيمم
هذا ملخص الأقوال في المسألة، وبعضها أقوى من بعض، وسوف نعرض أدلة أقوى الأقوال في المسألة. دليل من قال يتيمم. قالوا: إذا اجتمع مبيح وحاضر، على وجه لا يتميز أحدهما عن الآخر، وجب اجتنابهما جميعاً؛ لأن اجتناب النجس واجب، ولا يمكن اجتنابه إلا بتركهما جميعاً. (83) ويشهد لهذا ما رواه مسلم، قال: حدثني الوليد بن شجاع، حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وإن وجدت مع كلبك كلباً غيره، وقد قتل، فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتله. الحديث، والحديث رواه البخاري (¬1). هذا الدليل الأثري، وأما الدليل النظري، فإن هذا الرجل إن توضأ بأحدها لم يؤد الصلاة بيقين، لاحتمال أن يكون الماء نجساً، وإذا توضأ بكل واحد منها وصلى لزمته صلاتان للظهر مثلاً، وهو خلاف الأصول، فوجب العدول إلى التيمم. ¬
دليل من قال يتحرى
دليل من قال يتحرى. الدليل الأول: (84) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: قال عبد الله: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: إبراهيم: لا أدري زاد أو نقص، فلما سلم، قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء، قال: وما ذاك؟ فأخبر، وفيه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وإذا شك أحدكم في صلاته، فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين (¬1). وجه الاستدلال: إذا كان المسلم يتحرى في الصلاة إذا شك فيها، مع أنها المقصود الأعظم من الطهارة، فكونه يتحرى في شرطها من باب أولى. الدليل الثاني: القياس على مشروعية التحري في إصابة القبلة، فكما أنه يجوز التحري إجماعاً إذا اشتبهت القبلة، فكذلك هنا. الدليل الثالث: ولأنه تعذر اليقين هنا، وكلما تعذر اليقين رجعنا إلى غلبة الظن. وأما من قيد التحري بأن تكون الغلبة للأواني الطاهرة، فإنه نظر إلى أن الحكم للأغلب، فإن كان الأغلب الطهور، كانت إصابته في التحري راجحة، وإن كان الأغلب للنجس، كانت إصابته في تحريه أبعد، لهذا اشترط أن يكون ¬
دليل من قال يهرق أحدهما ثم يتوضأ بالآخر
عدد الماء الطهور أغلب، وأما من اشترط في الترجيح أن تكون هناك علامة وأمارة، فهذا ظاهر، لأن الترجيح لابد أن يكون له مستند، فإذا لم يكن هناك علامة أوجبت الترجيح لم يكن ترجيحاً، وإنما كان تخييراً، والله أعلم. دليل من قال يهرق أحدهما ثم يتوضأ بالآخر. وجهه: إذا أهرق أحدهما، أصبح الماء الباقي مشكوكاً فيه، والشك في طهارة الماء لا تمنع من التطهر به، لأن الأصل في الماء الطهارة، حتى يتيقن النجاسة. دليل من قال يتوضأ بأحدهما ويصلي ثم يتوضأ بالأخر ويصلي. وجهه: أنه لا بد أن يؤدي الصلاة بيقين، ولا يوجد يقين إلا بهذا الطريق، أن يتوضأ ويصلي بكل واحد منهما .. وهذا القول يلزم منه أن يصلي الإنسان الفرض الواحد مرتين، ثم لا يدري هذا أيهما فرضه، هل الصلاة الأولى، أم الصلاة الثانية، وليس له مثيل في الشرع في إيجاب عبادة واحدة مرتين، لا يدري أيهما فرضه. دليل من قال: يتوضأ بأيهما شاء. بنى هذا القول على أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، وبالتالي لا يمكن أن تتصور هذه المسألة، لأن التغير أمر محسوس، فإذا لم يظهر التغير على الماء حكم بطهوريته، وهذا هو الراجح، فإذا غلبت عليه النجاسة طعماً أو لوناً أو ريحاً أصبح نجساً. وسوف نسوق أدلة هذا القول إن شاء الله تعالى في بحث الماء النجس إذا وقعت فيه نجاسة، وهو قليل، فلم تغيره. فالراجح من أقوال أهل العلم أن الماء لا يمكن أن يشتبه الطهور بالماء
النجس، لأننا لا نحكم على الماء بأنه نجس حتى يتغير، فإذا تغير أصبح محسوساً، يمكن معرفته، اللهم إلا أن يكون الماء الذي في الإناء قد ولغ فيه كلب، فإنه يحكم بنجاسته، ولو لم يتغير، فممكن في هذه الصورة النادرة أن تقع، وأما في غيرها فلا يتصور وقوعها، ولا يقال: قد يفقد الإنسان الشم أو النظر أو التذوق فلا يشعر بتغير الرائحة أو اللون أو الطعم؛ لأننا نقول: هذه الصورة ليست من قبل الماء، وإنما هي من قبل الإنسان نفسه، ونحن نتكلم عن اشتباه حقيقة الماء الطهور بالنجس، والله أعلم.
الفصل الثالث إذا اشتبه ماء طهور بماء طاهر
الفصل الثالث إذا اشتبه ماء طهور بماء طاهر اختلف العلماء في ما إذا اشتبه طهور بطاهر، فقيل: يتوضأ بعدد الطاهر وزيادة إناء ويصلي صلاة واحدة، وما شك في كونه من الطاهر أو هو من الطهور فهو من جملة الطاهر، وهذا مذهب المالكية (¬1)، ووجه في مذهبي الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: يتحرى، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬4). وقيل: يتوضأ منهما وضوءاً واحداً، من هذا غرفة، ومن هذا غرفة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5). والفرق بينه وبين المذهب المالكي أن المذهب المالكي جعله يتوضأ مرتين من هذا مرة ومن هذا مرة، ولكن الحنابلة جعلوا الوضوء وضوءاً واحداً لكن في كل عضو يجب غسله مرتين من الطهور مرة ومن الطاهر مرة. وقيل: يتخير بناء على أنه لا يوجد قسم الطاهر أصلاً، فالماء إما طهور، ¬
دليل من قال: يتوضأ بعدد الطاهر وزيادة إناء.
وإما نجس (¬1)، وهو الراجح. دليل من قال: يتوضأ بعدد الطاهر وزيادة إناء. عللوا ذلك بأنه لا يمكن أن يجزم الإنسان بأنه أصاب الماء الطهور بيقين إلا إذا توضأ بعدد الطاهر وزاد عليه وضوءاً. دليل من قال يتوضأ مرة واحدة من هذا غرفة ومن هذا غرفة. منع الحنابلة الوضوء كاملاً، من هذا مرة ومن هذا مرة قالوا: لأنه لو توضأ وضوء كاملا من هذا، ثم انتقل وتوضأ وضوءاً كاملاً من الماء الآخر يكون قد أدى وضوءه، وهو شاك لا يدري أيهما رفع الحدث، بخلاف ما لو توضأ من هذا غرفة ومن هذا غرفة، فإن الإنسان يجزم بأنه رفع الحدث بيقين، فعندما غسل يده تيقن أنه رفع الحدث عنها، وكذلك يقال في الوجه وفي القدمين وفي غيرهما. وتعليل آخر: قالوا: ولأننا بهذا لانوجب على العبد وضوءين مع إمكان رفع الحدث بوضوء واحد، فالأصل أنه لايجب عليه إلا وضوء واحد. وقد نقل الإجماع على وجوب الوضوء مرتين ابن قدامة، فقال: لا أعلم فيه خلافاً (¬2). وكذا قال صاحب الشرح الكبير (¬3). قلت: نقل الإجماع فيه نظر، لأن إثبات ماء طاهر لا يطهر، الدليل على خلافه. ¬
دليل من قال: يتحرى
دليل من قال: يتحرى. أنظر أدلة من قال بالتحري في المسألة السابقة، فإن الباب واحد، والأدلة واحدة. دليل من قال: يتخير. أدلة هذا القول، هي نفس الأدلة الدالة على عدم وجود قسم ثالث، يسمى الماء الطاهر، طاهر في نفسه غير مطهر لغيره، فما دام أنه ماء، فهو إما طهور، وإما نجس، وقد سقتها في خلاف العلماء في أقسام المياه، وإذا ثبت أنه لا يوجد قسم الماء الطاهر، كان تصور هذه المسألة غير ممكن، والله أعلم.
الفصل الرابع إذا اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة أو محرمة
الفصل الرابع إذا اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة أو محرمة إذا اشتبهت ثياب طاهرة، بثياب متنجسة، أو محرمة كالحرير، فقد اختلف العلماء في ذلك: فقيل: يتحرى، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، واختاره الباجي من المالكية (¬3)، وهو رواية في مذهب أحمد (¬4)، واختاره ابن تيمية (¬5). ¬
دليل من قال بالتحري.
وقيل: يصلي بعدد الثياب النجسة أو المحرمة، ويزيد صلاة، وهو المشهور من مذهب أحمد (¬1)، وقول في مذهب المالكية (¬2). وقيل: يصلي عرياناً، وهو قول أبي ثور (¬3). وقيل: إن كثر عدد الثياب تحرى دفعاً للمشقة، وإن قل عددها عمل باليقين، وهو اختيار ابن عقيل من الحنابلة (¬4). دليل من قال بالتحري. انظر أدلة القائلين بالتحري في مسألة ما إذا اشتبه الماء الطهور بالنجس. واستدل ابن تيمية على ذلك بقوله: لأن اجتناب النجاسة من باب الترك، ولهذا لا تشترط له النية، ولو صلى في ثوب لا يعلم نجاسته، ثم علمها بعد الصلاة لم يعد، فإن اجتهد فقد صلى في ثوب يغلب على ظنه طهارته، وهذا هو الواجب عليه لا غير. قال ابن القيم: وهذا كما لو اشترى ثوباً لا يعلم حاله جاز له أن يصلي فيه اعتماداً على غلبة ظنه، وإن كان نجساً في نفس الأمر، فكذلك إذا أداه اجتهاده إلى طهارة أحد الثوبين وغلب على ظنه جاز أن يصلي فيه، وإن كان نجساً في نفس الأمر (¬5). دليل من قال يصلي بعدد النجس ويزيد صلاة. قالوا: إذا صلى بعدد النجس، وزاد صلاة فقد أدى فرضه بيقين، وصلى ¬
دليل من قال يصلي عريانا.
بثوب متيقن طهارته، وإذا أمكن الوصول إلى اليقين تعين، بخلاف من صلى بالتحري فإنه ليس متيقن الطهارة، بل غاية ما فيه غلبة ظن، والعمل بالظن مع إمكان اليقين لا يجوز. دليل من قال يصلي عرياناً. قال: إن الثوب النجس في الشرع كالمعدوم، والصلاة فيه حرام، وقد عجز عن ستر العورة بثوب طاهر، فسقط فرض السترة. قال ابن القيم: وقول أبي ثور في غاية الفساد، فإنه لو تيقن نجاسة الثوب لكانت صلاته فيه خيراً وأحب إلى الله من صلاته متجرداً بادي السوأة للناظرين (¬1). الراجح من هذه الأقوال هو القول بالتحري، وذلك لقوة أدلته ووجهاتها، ولما في ذلك من رفع المشقة ودفع الحرج عن الأمة، ولأن هذا مقتضى قول الله عز وجل: {فاتقوا الله ما استطعتم} (¬2) فهذا المتحري قد اتقى الله ما استطاع، وعمل بما أداه إليه اجتهاده، ولم يفرط، وهذا هو وسعه الذي لا يكلفه الله غيره، والله أعلم. ¬
الفصل الخامس في الإخبار بنجاسة الماء
الفصل الخامس في الإخبار بنجاسة الماء
المبحث الأول إذا أخبره رجل أو امرأة بنجاسة الماء
المبحث الأول إذا أخبره رجل أو امرأة بنجاسة الماء إذا أخبر الرجل عن الماء، فإما أن يخبر عن طهارة الماء، أو يخبر عن نجاسته، فإن أخبر عن طهارة الماء، فقد قال النفراوي من المالكية: لو أخبرك شخص بطهارة ماء شككت في نجاسته لوجب عليك الرجوع إلى خبره، ولو كافراً أو صبياً؛ لأنه أقر بما يحمل عليه الماء، اللهم إلا أن يظهر في الماء ما يقتضي نجاسته أو يسلب طهوريته (¬1). والحقيقة أن العمل في هذه الحال ليس بسبب خبر الكافر، وإنما العمل بالأصل، وهو أن الأصل في الماء الطهارة، ومجرد الشك لا ينقل الماء عن الطهورية، ولذلك قال بقبول خبر الكافر، مع أن الكافر ليس ممن يقبل خبره، لانتفاء العدالة في حقه ظاهراً وباطناً. وأما إذا أخبر عن نجاسة الماء، فإما أن يبين سبب النجاسة أو لا. فإن بين سبب النجاسة، فقد حكي الإجماع على وجوب قبول خبره. فقد قال النووي: اتفق الفقهاء على أنه إذا أخبر الثقة بنجاسة ماء، أو ثوب، أو طعام، أو غيره، وبين سبب النجاسة، وكان ذلك السبب يقتضي النجاسة حكم بنجاسته؛ لأن خبر الواحد العدل في مثل هذه الأشياء مقبول، وليس هذا من باب الشهادة، وإنما هو من باب الخبر، وكذا لو أخبر عن دخول وقت الصلاة، وعن حرمة الطعام أو حله، ولا فرق في هذا بين الرجل ¬
والمرأة، ولا بين الأعمى والبصير بخلاف الكافر والفاسق فلا يقبل خبرهما في النجاسة والطهارة، وكذا المجنون والصبي الذي لا يميز فلا يقبل خبرهما في مثل هذه الأشياء بلا خلاف (¬1). وهل يجوز الاجتهاد في مثل هذه الحالة، وقد أخبره عدل، وبين سبب النجاسة؟ قال النووي: قال أصحابنا: إذا أخبره مقبول الخبر بالنجاسة، وجب قبوله، ولا يجوز الاجتهاد بلا خلاف، كما لا يجتهد المفتي إذا وجد النص، وكما لا يجتهد إذا أخبره ثقة عن علم بالقبلة ووقت الصلاة، وغير ذلك (¬2). وأما إذا لم يبين سبب النجاسة ففيه ثلاثة أقوال: قيل: يجب قبول خبره مطلقاً، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: لا يجب مطلقاً، وهو قول الجمهور (¬4). وقيل: يجب إن اتفقا مذهباً، وكان عالماً بما ينجس الماء، فإن اختلفا مذهباً لم يجب، لكن الأحسن ترك الماء؛ لتعارض الأصل، وهو الطهورية، ¬
وإخبار المخبر بتنجيسه، وهذا عند وجود غيره، وإلا تعين استعمال الماء، وهذا مذهب المالكية (¬1). قال النووي: إذا لم يبين- يعني: سبب النجاسة- لم يقبل، هكذا نص عليه الشافعي والأصحاب، قال الشيخ أبو حامد: نص عليه الشافعي رواه عنه المزني في الجامع الكبير (¬2). ثم قال النووي: وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه، والمحاملي وغيرهما: قال الشافعي: فإن كان يعلم من حال المخبر أنه يعلم أن سؤر السباع طاهر، وأن الماء إذا بلغ قلتين لا ينجس، قبل قوله عند الإطلاق- أي وإن لم يبين سبب النجاسة- هكذا نقل هؤلاء نص الشافعي، وكذا قطع بهذا التفصيل الذي نص عليه جماعات من أصحابنا المصنفين، منهم: الشيخ أبو محمد الجويني في الفروق، والبغوي والروياني وغيرهم، ونقله صاحب العدة عن أصحابنا العراقيين، ونقل صاحب البيان عن الشيخ أبي حامد أنه نقله عن نص الشافعي، ولم أر لأحد من أصحابنا تصريحاً بمخالفته، فهو إذن متفق عليه (¬3). وقال ابن قدامة: إذا لم يعين سببها، فقال القاضي: لا يلزم قبول خبره؛ لاحتمال اعتقاده نجاسة الماء بسبب لا يعتقده المخبر، كالحنفي يرى نجاسة الماء الكثير، والشافعي يرى نجاسة الماء اليسير بما لا نفس له سائلة، والموسوس الذي يعتقد نجاسته بما لا ينجسه. ¬
ويحتمل أن يلزم قبول خبره، إذا انتفت هذه الاحتمالات في حقه (¬1). قلت: هذا الكلام إنما يتمشى على رأي من يرى نجاسة الماء، ولو لم يتغير، أما من يرى أن الماء لا ينجس إلا بالتغير فلا يحتاج إلى هذا التفصيل؛ لأن الماء إذا لم يتغير فهو طهور، نعم لو أخبره بولوغ الكلب في إناء، قبل هذا التفصيل؛ لأنه والحالة هذه قد ينجس الماء ولو لم يتغير، لكنه خاص في هذه الصورة فقط. قال في حاشية الدسوقي: فإن كان الماء غير متغير، وأخبر بالنجاسة، فلا يقبل خبره؛ لأن الأصل الطهارة (¬2). ¬
المبحث الثاني إذا أخبره صبي عن طهارة أو نجاسة الماء
المبحث الثاني إذا أخبره صبي عن طهارة أو نجاسة الماء إذا أخره صبي مميز عن نجاسة الماء، وبين سبب النجاسة، فهل يجب عليه قبول خبره أم لا؟ ذهب الجمهور إلى أنه لا يجب قبول خبره؛ لأن قبول الخبر مبني على ثبوت العدالة، وهو لا يمكن أن يوصف بالعدالة لصغره؛ لأن العدالة يشترط فيها أن يكون مسلماً عاقلاً بالغاً، فما دام أنه ليس من أهل الرواية ولا الشهادة لم يلزم قبول خبره (¬1). وقيل: بل يجب قبول خبره، اختاره بعض الحنفية (¬2)، وهووجه عند الشافعية (¬3)، وهو الصحيح. لأن الصبي إذا كانت تصح إمامته في الصلاة، ويؤتمن على شروطها وواجباتها، فكيف لا يقبل خبره عن نجاسة الماء. وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث عمرو بن سلمة تقديم الصبي للإمامة، ¬
(85) فقد روى البخاري رحمه الله قال: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عمرو بن سلمة قال: قال لي أبو قلابة: ألا تلقاه فتسأله. قال فلقيته فسألته فقال: كنا بماء ممر الناس، وكان يمر بنا الركبان، فنسألهم، ما للناس ما للناس ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله أوحى إليه، أو أوحى الله بكذا، فكنت أحفظ ذلك الكلام، وكأنما يقر في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم، فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حقاً، فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة، فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا، فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا مني، لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم، وأنا بن ست أو سبع سنين، وكانت علي بردة، كنت إذا سجدت تقلصت عني، فقالت: امرأة من الحي ألا تغطون عنا است قارئكم، فاشتروا فقطعوا لي قميصاً، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص (¬1). كما أن الصحيح أن الصبي من أهل الرواية تحملاً وأداءً إذا علم منه الصلاح، ولم يجرب عليه الكذب (¬2). ¬
المبحث الثالث إذا أخبره فاسق عن نجاسة الماء
المبحث الثالث إذا أخبره فاسق عن نجاسة الماء اختلف العلماء في خبر الفاسق إذا أخبره عن نجاسة الماء، فقيل: إذا غلب على ظنه صدقه تيمم، ولم يتوضأ به، وإن أراقه ثم تيمم كان أحوط، وإن غلب على ظنه كذبه توضأ به، وإن تيمم بعد الوضوء كان أحوط، ولا يجب، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: لا يقبل قول الفاسق، وهذا مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). دليل من قال: إن غلب على ظنه صدقه قبله. الدليل قوله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} (¬5)، فالله سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق، بل بالتثبت والتبين، فإن ظهرت دلالة على صدقه قبل خبره، وإن ظهرت دلالة على كذبه رد خبره، وإن لم يتبين واحد من الأمرين وقف خبره. دليل من قال: لا يقبل خبر الفاسق. قالوا: لأن من شروط قبول الخبر العدالة، فلا يقبل خبر الفاسق؛ لأنه ¬
ليس من أهل الرواية ولا من أهل الشهادة، والعدالة المشروطة هنا هي العدالة الظاهرة، إلا أن الشافعية صرحوا بأنه: لو أخبر جماعة من الفساق لا يمكن تواطؤهم على الكذب عن نجاسة الماء أو طهارته قبل خبرهم، وكذا لو أخبر الفاسق عن فعل نفسه في الماء.
المبحث الرابع في السؤال عن الماء
المبحث الرابع في السؤال عن الماء إذا شك الإنسان في طهورية الماء، فهل يجب عليه أن يسأل عن حال الماء أو هل يستحب له ذلك؟ اختلف العلماء في هذه المسألة: فقيل: لا يجب على الإنسان أن يسأل هل الماء طهور أم نجس، وهذا هو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: يكره السؤال، نقله صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه. وقيل: يجب عليه السؤال. وقيل: الأولى السؤال. وهما قولان في مذهب الحنابلة (¬2). ولو سأل هل يلزم الجواب على أقوال: فقيل: لا يلزمه الجواب. وقيل: يلزمه، كالسؤال عن القبلة. وهذان قولان في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: يلزمه إن علم نجاسته، اختاره الأزجي من الحنابلة وصوبه في ¬
الإنصاف (¬1). دليل من قال لا يسأل. الدليل الأول: عدم الدليل المقتضي للوجوب، فلو كان السؤال واجباً لجاء الأمر به. الدليل الثاني: العمل بالأصل، فالأصل في الماء الطهارة، وتغير الماء إن كان موجوداً قد يكون تغيره بطاهر، أو تغيره بمكثه أو بما لا يمازج الماء. الدليل الثالث: (86) ما رواه مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أن عمر بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضاً، فقال عمرو بن العاص: لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض، هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض، لا تخبرنا؛ فإنا نرد على السباع وترد علينا (¬2). [رجاله ثقات إلا أن إسناده منقطع] (¬3). ¬
هذا القول هو الراجح إلا أنه إن كان الماء نجساً وجب على من يعلم أن يخبره نصحاً له، وحتى لا يصلي وهو غير طاهر. دليل من قال: يلزمه السؤال. قالوا: إن هذا السؤال يتعلق بشرط الصلاة، وهو طهورية الماء، فيلزمه السؤال كما يلزمه السؤال عن القبلة. دليل من قال يلزمه الجواب إن علم نجاسة الماء. قالوا: إن إخباره عن نجاسة الماء من النصيحة له، ومن الأمر بالمعروف الواجب عليه. (87) فقد روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا محمد بن عباد المكي، حدثنا سفيان قال: قلت لسهيل: إن عمراً حدثنا عن القعقاع، عن أبيك، قال: ورجوت أن يسقط عني رجلاً قال: فقال سمعته من الذي سمعه منه أبي، كان صديقا له بالشام، ثم حدثنا سفيان، عن سهيل، عن عطاء بن يزيد، عن تميم الداري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (¬1). ¬
الباب الثامن في الماء النجس
الباب الثامن في الماء النجس ويشتمل على أربعة فصول: الفصل الأول: في الماء القليل إذا لاقته نجاسة ولم يتغير الفصل الثاني: في الماء الكثير إذا لاقته نجاسة الفصل الثالث: في المائع غير المائي تخالطه النجاسة. الفصل الرابع: في الماء المسخن.
الفصل الأول في الماء الراكد إذا لاقته نجاسة فلم تغيره
الفصل الأول في الماء الراكد إذا لاقته نجاسة فلم تغيره اختلف العلماء في الماء إذا لا قته نجاسة فلم تغيره، فقيل: إذا كان الماء قليلاً فإنه ينجس، ولو لم يتغير، وإذا كان كثيراً فإنه لاينجس إلا بالتغير، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3)، على خلاف بينهم في حد القليل والكثير (¬4). ¬
وقيل: إن الماء لا ينجس إلا إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بالنجاسة، وهذا مذهب مالك في رواية المدنيين عنه (¬1)، ورواية عن أحمد (¬2)، وإليه ذهب ابن المسيب، والحسن البصري (¬3)، وسفيان الثوري، ويحيى بن سعيد القطان، ¬
دليل الحنفية على اعتبار الخلوص.
وعبد الرحمن بن مهدي (¬1)، واختاره ابن المنذر (¬2)، وابن تيمية (¬3)، وغيرهم. وقيل: إن كانت النجاسة بول آدمي أو عذرته المائعة فإنه ينجس ولو كان كثيراً إلا أن يشق نزحه. وإن كانت النجاسة غيرها فإنه ينجس إذا كان دون القلتين، فإن كان قلتين فأكثر لم ينجس إلا بالتغير، وهذا قول في مذهب الحنابلة (¬4). دليل الحنفية على اعتبار الخلوص. قالوا: إن الله سبحانه وتعالى حرم علينا الخبائث، ولم يفرق بين حال انفرادها واختلاطها بالماء، فإذا غلب على ظننا أن النجاسة تخلص إلى الطرف الآخر، فإن من استعمل الماء يكون قد استعمل النجاسة، واستعمال النجاسة لا يجوز، والأخذ بغلبة الظن طريق شرعي، فإن كثيراً من الأحكام الشرعية مبنية على الظن، وليس على اليقين. وأما الدليل على تقدير الخلوص بالحركة أو بالمساحة أو بغيرهما فلا دليل خاص عليها، وإنما رأى بعض الحنفية أن غلبة الظن قد لا تنضبط، ¬
الدليل على إن الماء القليل ينجس ولو لم يتغير
فاجتهدوا في تحديد مقدار الماء الذي تخلص النجاسة إلى طرفه الآخر، لكن الأصل هو غلبة الظن. وأما الدليل على إن الماء القليل ينجس ولو لم يتغير. هناك مجموعة أدلة منها: الدليل الأول: (88) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله، عن ابن عمر، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث (¬1). [إسناده صحيح إن شاء الله] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
وجه الاستدلال: من الحديث من وجهين: الوجه الأول: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، مفهومه أنه إذا كان دون القتين فإنه يحمل الخبث. الوجه الثاني: لو كان الماء لا ينجس إلا بالتغير لم يكن للتحديد بالقلتين فائدة؛ لأن الماء إذا تغير بالنجاسة نجس، ولو كان مائة قلة. الدليل الثاني: (89) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، قال: أخبرنا أبو الزناد، أن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج حدثه، أنه سمع أبا هريرة، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه. ولمسلم: ثم يغتسل منه. وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن البول في الماء الدائم، وقد يتغير، وقد لا ¬
الدليل الثالث
يتغير، ونهيه عن الاغتسال فيه دليل على أنه يؤثر فيه البول، ولم يشترط الرسول - صلى الله عليه وسلم - التغير. الدليل الثالث: (90) ما رواه مسلم، قال: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب. (91) ورواه مسلم من طريق علي بن مسهر، عن الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه، ثم ليغسله سبع مرار (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب، وجعله طهارة لهذا الإناء، كما أمر بإراقة سؤره، ولم يفرق بين ما تغير وما لم يتغير، وهذا دليل على أن النجاسة تؤثر في الماء ولو لم يتغير الماء. الدليل الرابع: (92) ما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر البكراوي، قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد بن عبد الله بن شقيق، ¬
دليل من قال: لا ينجس الماء إلا بالتغير.
عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده. وأخرجه البخاري دون قوله: ثلاثاً (¬1). وجه الاستدلال: قال النووي رحمه الله: نهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غمس يده، وعلله بخشية النجاسة، ويعلم بالضرورة أن النجاسة التي قد تكون على يده وتخفى عليه لا تغير الماء، فلولا تنجسه بحلول نجاسة لم تغيره لم ينهه. دليل من قال: لا ينجس الماء إلا بالتغير. الدليل الأول: قال تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} الآية (¬2)، وهذا الماء الذى وقعت فيه نجاسة ولم تغيره باق على صفته التى خلقها الله عليها، لا فى لونه، ولا فى طعمه، ولا في رائحته فكيف يحرم الوضوء منه، ونعدل الى التيمم مع وجوده. الدليل الثاني: قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} (¬3)، فقد سمى الله الماء طهوراً، وهو إنما يكون طهوراً بصفته، فلا ينزع عنه اسم الطهورية حتى تنتفي عنه هذه الصفة بالتغير، فأخبر الله سبحانه وتعالى أن الماء طاهر في نفسه ¬
الدليل الثالث
مطهر لغيره، فوجب ثبوت هذا الوصف له على كل حال، حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك، فإذا أطلق الله ذلك ولم يقيده بحال دون حال، فكل شيء خالطه من شيء نجس أو طاهر، ولم يغير ذلك المخالط له أحد أوصافه، بقي على أصله من الطهارة والتطهير، كان الماء قليلاً أو كثيراً، إلا أنا نكره استعمال القليل منه الذي لا مادة له، ولا أصل، مع كونه في الحكم طاهراً. الدليل الثالث: (93) ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا عبد العزيز بن مسلم، قال: ثنا مطرف، عن خالد بن أبي نوف، عن سليط بن أيوب (¬1)، عن ابن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتوضأ من بئر بضاعة، فقلت: يا رسول الله توضأ منها وهى يلقى فيها ما يلقى من النتن؟ فقال: إن الماء لا ينجسه شيء (¬2). [صحيح بشواهده وسبق تخريجه]. وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حكم أن الماء طهور لا ينجسه شىء، وهذا يشمل القليل والكثير، بقى ما تغير بالنجاسة فإنه نجس بالإجماع، وما عداه فهو طهور. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: الأصل في الماء أنه طهور، ولا ننتقل عن هذا الأصل إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع أو قول صاحب لا مخالف له، والفرق بين الماء النجس والماء الطهور هو أنه يوجد في الماء النجس صفات يحكم من خلالها بنجاسته، فإذا لم يظهر في الماء أثر النجاسة لافي لونه، ولافي طعمه، ولافي رائحته، فكيف نحكم عليه بأنه نجس (¬1). الدليل الخامس: معلوم أنه إذا استحال الشيء بالشيء حتى لا يرى له ظهور يحكم له بالعدم، وعلى هذا فلو وقعت قطرة من لبن امرأة في ماء، فاستهلكت، وشربه الرضيع خمس رضعات فأكثر لم تنتشر الحرمة، ولو كانت قطرة خمر فاستهلكت في الماء البتة لم يجلد بشربه، فكذلك لو كانت قطرة بول لم تغير الماء يبقى الماء على أصله (¬2). الدليل السادس: (94) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن أبا هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعوه، وأهريقوا على بوله سجلاً من ماء، أو ذنوباً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين (¬3). ¬
وجه الاستدلال: قالوا: نعلم قطعاً أن بول الأعرابي باق في موضعه، وإن صب عليه ذلك الماء، وإنما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بطهارة ذلك الموضع لغلبة الماء له، واستغراقه عليه، واستهلاك أجزائه لأجزاء البول لغلبته عليه. وقال الباجي: وهو حجة على أبي حنيفة والشافعي وغيرهما، في قولهم: إن قليل الماء ينجسه قليل النجاسة، وإن لم تغيره، وهذا مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أرفع المواضع التي يجب تطهيرها، وقد حكم النبي فيه - صلى الله عليه وسلم - بصب دلو من ماء على مانجس بالبول، ولا معنى له إلا تطهيره للمصلين فيه (¬1). قلت: ولا ينفكون منه بالتفريق بين ورود النجاسة على الماء، وورود الماء على النجاسة؛ لأن هذا التفريق لم يقم عليه دليل، وسيأتي بحثه إن شاء الله تعالى. الجواب عن الأدلة السابقة: أما الجواب عن حديث القلتين فمن وجهين: الوجه الأول: أن يقال عندنا منطوق ومفهوم، والمنطوق مقدم على المفهوم. فحديث: "الماء طهور لا ينجسه شىء" منطوقه يشمل القليل والكثير. وحديث: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث" منطوقه موافق لحديث:"إن الماء طهور لا ينجسه شىء" لأن منطوقه أن الماء إذا بلغ قلتين لم ينجسه شيء. ومفهومه: أن الماء إذا كان دون القلتين فإنه ينجس، وهذا المفهوم ¬
معارض لمنطوق حديث أبي سعيد، فيقدم المنطوق على المفهوم، فنأخذ من حديث القلتين منطوقه فقط، ولا نأخذ مفهومه؛ لأنه يعارض منطوق حديث أبي سعيد. قال ابن المنذر في الأوسط للتدليل على هذه القاعدة: ونظير ذلك قوله تعالى {حافظوا على الصلوات} الآية (¬1)، فأمر بالمحافظة على الصلوات، والصلوات داخلة في جملة قوله: {حافظوا على الصلوات} (¬2)، ثم خص الوسطى بالأمر بالمحافظة عليها، فقال: {والصلاة الوسطى} (¬3)، فلم تكن خصوصية الوسطى بالأمر بالمحافظة عليها مخرجاً سائر الصلوات من الأمر العام الذي أمر بالمحافظة على الصلوات " اهـ (¬4). فكأن ابن المنذر يقول مفهوم {والصلاة الوسطى} (¬5) الآية، لم يؤخذ ويعارض به منطوق حافظوا على الصلوات. أو نقول بتعبير آخر: إذا ذكر عموم، ثم ذكر فرد من أفراد العموم يوافق العموم في الحكم، فإن هذا الفرد لا يعتبر مخصصاً ولا مقيداً للعموم. مثال ذلك: إذا قلنا: أكرم طلبة العلم، فهذا لفظ يفيد عموم الطلبة، ثم قلنا: أكرم زيداً، وكان زيد من طلبة العلم، فإنه لا يفهم منه تخصيص الإكرام لزيد وحده. ¬
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الماء طهور لا ينجسه شىء" هذا عام يشمل القليل والكثير، ثم أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحديث القلتين، أن الماء الكثير لا ينجس، فهو فرد من أفراد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الماء طهور لا ينجسه شىء" فلا يقتضي تخصيصه ولا تقييده. الوجه الثاني: أن يقال إن الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يعطي حكماً أغلبياً وليس حكماً مطرداً. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث ابن عمر: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث " هل معنى ذلك أنه لا ينجس أبداً؟ الجواب: لا. إذ لو تغير بالنجاسة لنجس إجماعاً، ولكن معنى لم يحمل الخبث: أي غالباً لا يتغير بالنجاسة. ومفهومه: إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث أي في الغالب أيضاً، وليس مطلقاً، وكيف نعرف أنه حمل الخبث أو لم يحمل؟ الجواب: نعرف ذلك بالتغير، فالغالب أن الماء إذا كان دون القلتين أنه يتغير بالنجاسة فإن لم يتغير عرفنا أنه لم يحمل الخبث. فإذا كان منطوق الحديث يحمل على الغالب بالإجماع، فكذلك مفهوم الحديث ينبغي أن يحمل على الغالب من باب أولى، لأن المفهوم أضعف من المنطوق (¬1). أما الجواب عن حديث لا يبولن أحدكم في الماء الدائم واستدلالهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما نهى عن الاغتسال في الماء الدائم بعد البول فيه إلا لأنه يتنجس بذلك. ¬
فالجواب عن ذلك: أولاً: أن النهي عن الاغتسال فيه لا يدل على أنه تنجس، ألا ترى أن الجنب قد نهي عن الاغتسال في الماء الدائم مع أن بدنه طاهر كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن المؤمن لا ينجس " متفق عليه، ومع ذلك لو انغمس في الماء الدائم فإنكم لا تقولون بنجاسته كما هو مذهب الحنابلة والشافعية، ورواية في مذهب الحنفية. ثانياً: لم يتعرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - لحكم الماء، ولم يقل إنه أصبح نجساً بمجرد البول فيه، فالحديث ليس فيه إلا النهي عن البول في الماء الدائم وعن الاغتسال فيه. ثالثاً: أن الماء الدائم يشمل ما فوق القلتين، وما دون القلتين وما يشق نزحه وما لا يشق، وما يتحرك آخره بتحرك طرف منه وما لا يتحرك. قال ابن القيم: " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن البول في الماء الدائم، ثم يغتسل البائل فيه، هكذا لفظ الصحيحين: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه " وأنتم تجوزون أن يغتسل في ماء دائم قدر القلتين بعد ما بال فيه، وهذا خلاف صريح للحديث. فيقال لصاحب القلتين: أتجوز بوله في الماء فيما فوق القلتين؟ إن جوزته فقد خالفت ظاهر النص، وإن منعته فقد نقضت دليلك. وكذلك يقال لمن حده بمشقة النزح أو التحريك. أما تفريق الظاهرية رحمهم الله فإنه غريب جداً، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن البول في الماء الدائم، مع أنه قد يحتاج إليه، فلأن ينهى عن البول في إناء ثم يصبه فيه بطريق الأولى. ولا يستريب في هذا من علم حكمة الشريعة
وما اشتملت عليه من مصالح العباد ونصائحهم، والظاهرية البحتة تقسي القلوب، وتحجبها عن رؤية محاسن الشريعة وبهجتها، وما أودعته من الحكم والنصائح والعدل والرحمة (¬1). وعلق النووي على هذا المذهب، فقال: "وهذا مذهب عجيب وفي غاية الفساد، فهو أشنع ما نقل عنه إن صح عنه رحمه الله، وفساده مغن عن الاحتجاج عليه، ولهذا أعرض جماعة من أصحابنا المعتنين بذكر الخلاف عن الرد عليه بعد حكايتهم مذهبه، وقالوا: فساده مغن عن إفساده، وقد خرق الإجماع في قوله "في الغائط" إذ لم يفرق أحد بينه وبين البول، ثم تفريقه بين البول في نفس الماء، والبول في إناء ثم يصب في الماء من أعجب الأشياء". حتى قال رحمه الله: وفي الصحيح: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله " فلو أمر غيره فغسله، إن قال داود: لا يطهر لكونه ما غسله هو: خرق الاجماع، وإن قال: يطهر فقد نظر إلى المعنى وناقض، والله أعلم (¬2). فإن قيل ما الحكمة إذاً من النهي عن البول في الماء الدائم؟ فالجواب: أولاً: سداً للذريعة، لأنه قد يفضي الأذن بالبول فيه إلى تنجسه، وليس مجرد البول فيه ينجسه، ولكن إذا تكاثر البول في الماء الدائم قد يتنجس، فمنع سداً للذريعة. ثانياً: لأن الطباع مجبولة على كراهية استعمال الماء الدائم الذي يبال فيه، ولذلك نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجنب عن الاغتسال فيه، وإن كان بدن ¬
الجنب طاهراً، فيكون النهي من أجل استقذار النفس له. ثالثاً: أن البول في الماء الدائم، ثم استعماله بعد ذلك قد يصيب الانسان بنوع من الوساوس، هل استعمل البول باستعمال الماء أم لا؟ فأحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقطع وساوس الشيطان، فنهى عن البول في الماء الدائم، لا أن مجرد البول القليل يكفي لتنجيسه، والله أعلم (¬1). أما الجواب عن حديث الولوغ: فيمكن أن يجاب بأحد جوابين. أولاً: زيادة " فليرقه " زيادة شاذة (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ومع الحكم بشذوذ " فليرقه "، إلا أن المعنى يقتضي تنجس الماء ولو لم يتغير، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل الإناء، وجعل ذلك طهارة للإناء. (95) فقد روى مسلم من طريق ابن سيرين وهمام بن منبه، كلاهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن ¬
يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب (¬1). ومعلوم أن نجاسة الإناء إنما جاءت من نجاسة الماء؛ لأن الولوغ إنما وقع على الماء، فتنجس الإناء لنجاسة الماء؛ ولأن النجاسة لو كانت للإناء وحده لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يغسل من الإناء جهة الولوغ فقط، فلما أمر بغسل الإناء كله، علم أن النجاسة إنما سرت عن طريق الماء المتنجس. فإن قال قائل: إذاً كيف حكمتم على الأمر بالإراقة بالشذوذ؟ فالجواب: لا يلزم من الحكم بنجاسة الماء الحكم بوجوب إراقته؛ لأن الماء إذا تنجس لا يكون نجس العين، إذ يمكن تطهيره، وإذا أمكن تطهيره أمكن الانتفاع به بخلاف ما إذا أوجبنا إراقته. ولا يعني ذلك إذا حكمنا بنجاسة الماء أن نقول بنجاسة كل ماء قليل حلت فيه نجاسة ولو لم يتغير؛ لأن الكلاب خصت ببعض الأحكام من دون سائر النجاسات، فمنها التسبيع، ومنها التتريب، فلا يقاس الأخف على الأغلظ. على أنه قد يقال: لا نسلم عدم التغير؛ لأن لعاب الكلب له لزوجة قد لا تتحلل في الماء فتظهر على شىء منه، فيكون هذا نوعاً من تغير الماء عن طبيعته بالنجاسة، فينجس والله أعلم. وسوف تأتي أقوال العلماء في نجاسة الكلب وكيفية التطهر منه إن شاء الله تعالى. أما الجواب عن حديث النهي عن غمس اليد في الماء: فقد استدل به من الحنابلة ابن قدامة (¬2)، واستدل به من الشافعية ¬
النووي على نجاسة الماء اليسير إذا لا قى النجاسة ولو لم يتغير، قال النووي: " فنهاه - صلى الله عليه وسلم - عن غمس يده، وعلله بخشية النجاسة، ويعلم بالضرورة أن النجاسة التي تكون على يده، وتخفى عليه لا تغير الماء، فلولا تنجسه بحلول نجاسة لم تغيره لم ينهه (¬1). اهـ وكيف يستدل به الحنابلة رحمهم الله، وهم يرون أن العلة في النهي تعبدية، وأن الماء يكون طاهراً عندهم غير مطهر: لا طهور ولا نجس، وكيف يستدل به الشافعية، وهم يرون أن غمس القائم من نوم الليل يده في الماء غاية ما فيه أنه مكروه، ويصح التطهر منه، فكيف صح دليلاً لهم في هذه المسألة، وهم لا يرون أبداً نجاسة الماء إذا غمس النائم فيه يده، فهذا نوع من التاقض والله أعلم، وكما بينت سابقاً أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يتعرض لحكم الماء، إنما نهى النائم عن غمس يده، ولو غمسها كان آثماً إذا كان عالماً بالنهي، والماء طهور، والله أعلم. فالراجح من الخلاف: أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، وهذه المسألة أطلت فيها البسط؛ لأنها من المسائل الشائكة، قال ابن القيم عن هذه المسألة: هنا معترك النزال وتلاطم الأمواج، وهي مسألة الماء والمائع إذا خالطته النجاسة فاستهلكت، ولم يظهر لها فيه أثر البتة (¬2). وقال الشوكاني: وهذا المقام من المضايق التي لا يهتدي إلى ما هو صواب فيها إلا الأفراد (¬3). اهـ ¬
فلا حول ولا قوة إلا بالله تعالى، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك فإنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
الفصل الثاني في الماء الكثير إذا لاقته نجاسة
الفصل الثاني في الماء الكثير إذا لاقته نجاسة
المبحث الأول في الماء الكثير إذا لاقته نجاسة فلم تغيره
المبحث الأول في الماء الكثير إذا لاقته نجاسة فلم تغيره قد علمنا في المسألة السابقة خلاف العلماء في تحديد القليل والكثير، فإذا كان الماء كثيراً، فوقعت فيه نجاسة، فلم تغيره، فما حكمه؟ والجواب إن كان هذا الكثير مما يشق نزحه، وإذا حرك طرفه لم يتحرك الطرف الأخر فإنه طهور إجماعاً، ساق الإجماع على ذلك طوائف من أهل العلم، من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وغيرهم من المجتهدين. قال ابن الهمام من الحنفية: للإجماع على أن الكثير لا ينجس إلا به. يعني: بالتغير (¬1). وقال أبو الوليد بن رشد، من المالكية: لا خلاف أن الماء الكثير لاينجسه ما حل فيه من النجاسة إلا أن يغير أحد أوصافه (¬2). وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن الماء الكثير من النيل والبحر، ونحو ذلك إذا وقعت فيه نجاسة، فلم تغير له لوناً ولا طعماً ولا ريحاً أنه بحاله يتطهر منه (¬3). وقال عبد الرحمن بن قدامة من الحنابلة: لا نعلم خلافاً أن الماء الذي لا ¬
يمكن نزحه إلا بمشقة عظيمة، مثل المصانع التي جعلت مورداً للحجاج بطريق مكة يصدرون عنها، ولا ينفذ ما فيها أنها لا تنجس إلا بالتغير (¬1). وقد نقل الإجماع طوائف من العلماء، منهم: الطبري (¬2)، وابن حزم (¬3)، وابن تيمية (¬4)، وابن قدامة (¬5)، وابن دقيق العيد (¬6)، والزركشي (¬7)، وابن رجب (¬8)، والعراقي في طرح التثريب (¬9)، وابن عبد الهادي (¬10)، والشوكاني (¬11)، وغيرهم. ¬
المبحث الثاني في الماء الكثير إذا غيرته النجاسة
المبحث الثاني في الماء الكثير إذا غيرته النجاسة إذا وقعت في الماء نجاسة فغيرته، فإنه نجس لا فرق بين قليله وكثيره، وقد نقل الإجماع على ذلك طوائف من أهل العلم. قال الطحاوي من الحنفية: أجمعوا أن النجاسة إذا وقعت في البير، فغلبت على طعم مائها، أو ريحه، أو لونه، أن ماءها قد فسد (¬1). وقال ابن نجيم أيضاً: اعلم أن العلماء أجمعوا على أن الماء إذا تغير أحد أوصافه بالنجاسة لا تجوز الطهارة منه قليلاً أو كثيراً، جارياً كان أو غير جار، هكذا نقل الإجماع في كتبنا (¬2). وقال القاضي أبو الوليد ابن رشد من المالكية: لا خلاف أن الماء الكثير لا ينجسه ما حل فيه من النجاسة إلا أن يغير أحد أوصافه (¬3). وقال الشافعي رحمه الله: وما قلت من أنه إذا تغير طعم الماء أو ريحه، أو لونه، كان نجساً، يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه لا يثبت مثله أهل الحديث، وهو قول العامة لا أعلم بينهم فيه اختلافاً (¬4). وقال النووي: واعلم أن حديث بئر بضاعة عام مخصوص، خص منه ¬
المتغير بنجاسة، فإنه نجس للإجماع (¬1). وقال الزركشي من الحنابلة: إن الماء ينجس بتغير وصف من أوصافه، وإن كثر ولا نزاع في ذلك، وحكاه ابن المنذر إجماعاً (¬2). وقال ابن تيمية: إذا وقع في الماء نجاسة، فغيرته، تنجس اتفاقاً (¬3). وقد نقل الإجماع طوائف من العلماء منهم: ابن عبد البر (¬4)، وأبو العباس بن سريج (¬5)، وابن جرير الطبري (¬6)، وابن المنذر (¬7)، وابن حبان (¬8)، والقاضي عياض (¬9)، وابن القطان الفاسي (¬10)، ¬
وابن دقيق العيد (¬1)، وابن الفاكهاني (¬2)، وابن الملقن (¬3)، وابن مفلح (¬4)، وغيرهم (¬5). ومن النظر: أن الله سبحانه وتعالى حرم استعمال النجاسة، والماء المتغير بالنجاسة إذا استعمل فقد استعملت النجاسة، لظهور أثرها في الماء من لون أو طعم أو رائحة، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث في المائع غير الماء تخالطه نجاسة
الفصل الثالث في المائع غير الماء تخالطه نجاسة عرفنا في الفصل السابق حكم الماء تخالطه النجاسة، قليلاً كان أم كثيراً، تغير أم لم يتغير، وفي هذا الفصل نناقش المائع من غير الماء تخالطه النجاسة، وقد اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة. فقيل: إذا خالطت النجاسة مائعاً غير الماء فإنه يتنجس بملاقاة النجاسة، من غير فرق بين القليل والكثير، وبين المتغير، وغير المتغير، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، ¬
دليل من قال بنجاسة المائع مطلقا إذا وقعت فيه نجاسة.
والحنابلة (¬1). وقيل: حكمه حكم الماء، لا تنجس منه القلتان فما فوق إلا بالتغير، وهو قول في مذهب الحنابلة. وقيل: التفرقة بين المائع المائي كالخل ونحوه، وغيره، فالمائع الذي يشبه الماء حكمه حكم الماء، وغير الماء كالزيوت والأدهان فتنجس بملاقاة النجاسة، قل أو كثر، تغير أم لم يتغير، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: المائعات إذا وقعت فيها نجاسة لا تنجس إلا إذا تغير طعمها أو لونها أو ريحها بسبب النجاسة، إلا السمن الذائب تقع فيه الفأرة، فإنه يتنجس مطلقاً، سواء ماتت فيه، أو خرجت وهي حية، وهذا اختيار ابن حزم (¬3). دليل من قال بنجاسة المائع مطلقاً إذا وقعت فيه نجاسة. الدليل الأول: (96) ما رواه أحمد، قال: ثنا محمد بن جعفر، ثنا معمر، أنا ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فأرة وقعت في سمن، فماتت قال: إن كان جامداً فخذوها وما حولها ثم كلوا ما بقي، ¬
وإن كان مائعاً فلا تأكلوه (¬1). [أخطأ فيه معمر سنداً ومتناً] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
وجه الاستدلال عندهم: أن الحديث أمر بإراقة المائع الذي وقعت فيه الفأرة، وماتت فيه، ولم يفرق بين القليل والكثير، ولم يستفصل هل تغير أم لم يتغير، فدل على أنه لا فرق. الدليل الثاني: من النظر، قالوا: إن المائعات سوى الماء لا تدفع النجاسة عن غيرها، فلا تدفعها عن نفسها، بخلاف الماء الذي يدفع النجاسة عن غيره، فيدفعها أيضاً عن نفسه. الدليل الثالث: أن النجاسة إذا وقعت في الجامد، فإنها تجاور موضعاً واحداً، وهو الجزء الذي وقعت في النجاسة، بخلاف المائع فإنها تجاوره كله، إذا تنتقل من مكان إلى آخر، فيتنجس بها. ¬
دليل من قال: المائع كالماء لا ينجس إلا بالتغير.
دليل من قال: المائع كالماء لا ينجس إلا بالتغير. الدليل الأول: (97) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك، عن ابن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة سقطت في سمن، فقال: ألقوها وما حولها، فاطرحوه، وكلوا سمنكم (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجابهم جواباً عاماً مطلقاً، بأن يلقوها وما حولها، وأن يأكلوا سمنهم، ولم يستفصلهم هل كان مائعاً، أو جامداً، وترك الاستفصال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، مع أن الغالب في سمن الحجاز أن يكون ذائباً لشدة الحرارة، والغالب على السمن أنه لا يبلغ قلتين، مع أنه لم يستفصل هل كان قليلاً أم كثيراً. الدليل الثاني: الفرق بين المائع النجس والمائع الطاهر صفات جعلت هذا نجساً، وهذا طاهراً، فإذا لم يظهر في المائع أثر النجاسة لافي اللون، ولافي الطعم، ولافي الرائحة، فكيف نحكم عليه بأنه نجس، وما الفرق إذاً بينه وبين المائع الطاهر. الدليل الثالث: أن في تنجيس المائعات حرجاً ومشقة، فهنالك القناطير المقنطرة من الدهون التي تكون في معاصر الزيتون وغيرها، ففي تنجيسها بوقوع قليل ¬
النجاسة فيها حرج شديد. وهذا القول هو الراجح، فلا يوجد دليل على نجاسة المائع بملاقاة النجاسة، لا دليل أثري، ولا دليل نظري، فالقول بنجاسة المائع مطلقاً فيه حرج ومشقة وإفساد للمال دون أن يكون هناك دليل يقضي بالنجاسة، والله أعلم.
الفرع الأول في الكلام على بئر المقبرة
الفرع الأول في الكلام على بئر المقبرة كره الحنابلة الطهارة من بئر في المقبرة (¬1). تعليل الكراهة. لعل تعليل الكراهة عندهم لكونه مظنة وصول شيء من النجاسة إلى ماء المقبرة. والصحيح عدم الكراهة، والكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل شرعي، ولا دليل، وحتى لو كان هذا الاحتمال قائماً فإن الشك في نجاسة الماء لا تجعل الطهارة منه مكروهة؛ لأن الأصل الطهارة، ولا ننتقل عنها إلا إذا تيقنا تغيره بالنجاسة، والحنابلة يقولون: إذا شك في نجاسة ماء أو غيره أو في طهارته بنى على اليقين، وهنا كرهوا الطهارة من هذا الماء، إلا أن يكون سبب الكراهة عندهم وجود الخلاف في طهوريته، إن كان ذلك كذلك فهو قول ضعيف أيضاً، وقد قدمت أن الخلاف ليس من الأدلة الشرعية حتى يعلل به الكراهة، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني في الوضوء من بئر ثمود.
الفرع الثاني في الوضوء من بئر ثمود. قيل: لا يجوز الوضوء من بئر ثمود إلا بئر الناقة، وهو مذهب الجمهور (¬1)، واختيار ابن حزم (¬2). وقيل: يكره، وهو قول في مذهب الشافعية (¬3). وسبب المنع أو الكراهة حديث ابن عمر، (98) فقد روى البخاري، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا أنس ابن عياض، عن عبيد الله، عن نافع، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخبره أن الناس نزلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرض ثمود الحجر، فاستقوا من بئرها، واعتجنوا به، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يهريقوا ما استقوا من بئرها، وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة (¬4). واختلفوا هل ماؤها طهور أو نجس على قولين: ¬
أحدها أنه نجس. قال في مواهب الجليل: قال القرطبي في شرح مسلم أمره - صلى الله عليه وسلم - بإراقة ما سقوا وعلف العجين للدواب حكم على ذلك الماء بالنجاسة إذ ذلك حكم ما خالطته النجاسة، أو كان نجساً ولولا نجاسة الماء لما أتلف الطعام المحترم شرعا. وأكثرهم على أنه ماء طهور، ولا يحكم بنجاسة الماء؛ لأن الحديث ليس فيه تعرض للنجاسة، وإنما هو ماء سخط وغضب، فلم يرووا عن النبي - عليه الصلاة والسلام- أنه أمرهم بغسل أوعيتهم وأيديهم منه وما أصاب ثيابهم، ولو وقع ذلك لنقل، على أنه لو نقل لما دل على النجاسة؛ لاحتمال أن يكون ذلك مبالغة في اجتناب ذلك الماء (¬1). وبناء على هذه العلة قاسوا عليه كل ماء في أرض مغضوب على أهلها، قال في مواهب الجليل: ويلحق بها كل ماء مغضوب عليه، كماء ديار قوم لوط، وماء ديار بابل لحديث أبي داود " أنها أرض ملعونة "، وماء بئر ذروان التي وضع فيها السحر للنبي - صلى الله عليه وسلم - وماء بئر برهوت، وهي بئر باليمن لحديث ابن حبان شر بئر في الأرض برهوت. وبابل: هي المذكورة في سورة البقرة، وهي بالعراق، وبئر ذروان بفتح الذال المعجمة وسكون الراء هي بالمدينة، وبئر برهوت بفتح الموحدة وسكون الراء وهي بئر عميقة بحضرموت، لا يستطاع النزول إلى قعرها، والله أعلم (¬2). ولو تطهر، فقيل: يصح وضوؤه مع الأثم وقيل: لا يصح، والعلة إما تعبدية، أو كالماء المغصوب عند من يمنع ¬
الوضوء بالماء الطهور إذا كان كسبه محرماً (¬1). وقال ابن فرحون في الألغاز: فإن قلت: ماء كثير باق على أصل خلقته لا يجوز الوضوء ولا الانتفاع به؟ قلت: هو ماء الآبار التي في أرض ثمود (¬2). والراجح أن ماء بئر ثمود طهور، وليس بنجس، ولكن لا يتوضأ منه الإنسان لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يهريقوا ما استقوا من بئرها لأنه ماء سخط وغضب، والله أعلم، ولو تطهر الإنسان منها ارتفع حدثه، والله أعلم. ¬
الفصل الرابع في الماء المسخن
الفصل الرابع في الماء المسخن ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: الماء المسخن بنجس. المبحث الثاني: الماء المسخن بالشمس.
المبحث الأول المسخن بنجاسة
المبحث الأول المسخن بنجاسة اختلف العلماء في الماء المسخن بالنجاسة، فقيل: طهور بلا كراهة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2). وقيل: يكره، وهو مذهب المالكية (¬3). وأما الحنابلة فجعلوا الماء المسخن بالنجس له ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يتحقق وصول شيء من الدخان أو الرماد إلى الماء. فالمشهور من مذهب الحنابلة: أنه نجس سواء تغير أو لم يتغير. (¬4) التعليل: لأنه ماء يسير لاقى نجاسة، والماء اليسير إذا لاقى نجاسة فإنه ينجس ولو لم يتغير. وحد اليسير هو أن يكون الماء دون القلتين أي أقل من خمس قرب تقريباً. والصحيح هنا أن الماء إذا وقعت فيه نجاسة فلم تغيره فإنه طهور سواء كان يسيراً أو كثيراً، وسوف يأتي بسط الأقوال في هذه المسألة قريباً إن شاء الله. مع أن هذا الماء في الحقيقة لم تقع فيه نجاسة وإنما وقع فيه دخان ¬
النجاسة، والروث النجس إذا تحول إلى دخان أصبح له حكم الدخان، والدخان كله طاهر كما أنكم ترون نجاسة الخمرة وإذا تحولت بنفسها إلى خل طهرت، حتى لو قيل: إنه لا يسلم من صعود أجزاء لطيفة مع الدخان تقع في الماء. فالجواب: أن هذه الأجزاء اللطيفة قد تحولت إلى رماد، فيكون لها حكم الرماد. الحالة الثانية: أن يكون الحائل حصيناً بحيث يعلم أن الدخان لم ينفذ إلى الماء. فالمشهور من المذهب أنه طهور مكروه. طهور: لأنه لم يقع فيه شيء لا طاهر ولا نجس. ومكروه: وللكراهة مأخذان عندهم: أحدهما: استعمال النجاسة، فحرارة الماء كانت عن طريق استعمال النجاسة، واستعمال النجاسة مكروه عندهم، وما ترتب على المكروه يكون مكروهاً. والثاني: احتمال وصول النجاسة. الحالة الثالثة: أن يكون الحائل غير حصين، ولكنه لم يعلم وصول النجاسة إليه، فحكمه على المذهب: طهور مكروه. طهور: لأن طهارة الماء متيقنة والنجاسة مشكوك فيها، ومكروه للتعليل السابق وهي أن حرارة الماء جاءت عن طريق استعمال النجاسة، واستعمال النجاسة مكروه فيكون ما ترتب على المكروه يكون مكروهاً (¬1).
والصواب: مذهب الحنفية والشافعية أن الماء طهور بلا كراهة. قال ابن تيمية: وأما المسخن بالنجاسة فليس بنجس بإتفاق الأئمة إذا لم يحصل له ما ينجسه وأما كراهته ففيها نزاع (¬1). اهـ وأين الدليل على كراهة استعمال النجاسة في أمر لا تتعدى فيه النجاسة إلى غيرها، والمشهور من مذهب الحنابلة والمالكية أن جلد الميتة عندهم لا يطهر بالدباغ، ومع ذلك يقولون بجواز الانتفاع به في يابس. بل جاء الدليل على جواز الانتفاع بالنجاسة على وجه لا يتعدى كما في حديث جابر رضي الله عنه. (99) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح، وهو بمكة: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا، هو حرام، ثم قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه، ورواه مسلم (¬2). ¬
المبحث الثاني الماء المسخن بالشمس
المبحث الثاني الماء المسخن بالشمس لا أعلم أحداً قال إن الماء المسخن بالشمس ليس بطهور، ولكنهم اختلفوا هل يكره أم لا؟ فقيل: الماء المسخن بالشمس طهور غير مكروه،، وهو مذهب الحنابلة (¬1)، واختاره بعض المالكية (¬2)، ورجحه النووي من الشافعية، وهو مذهب الظاهرية. وقيل: يكره، وهو مذهب الحنفية (¬3)، والشافعية (¬4)، والمالكية (¬5)،إلا أنهم اشترطوا شروطاً للكراهة (¬6). ¬
دليل من قال: يكره. الدليل الأول: (100) ما رواه الدارقطني، قال: نا الحسين بن إسماعيل وآخرون قالوا: حدثنا سعدان بن نصر، نا خالد بن إسماعيل المخزومي، نا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد سخنت ماء في الشمس، فقال: لا تفعلي يا حميراء، فإنه يورث البرص. قال الدارقطني: غريب جداً، خالد بن إسماعيل متروك (¬1). ¬
الدليل الثاني: (101) ما رواه الإمام الشافعي في الأم، قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد، قال: أخبرني صدقة بن عبد الله، عن أبي الزبير، عن جابر، أن عمر كان يكره الاغتسال بالماء المشمس، وقال: إنه يورث البرص (¬1). ¬
[والحديث ضعيف جداً] (¬1). فالصحيح أن المسخن بالشمس طهور غير مكروه؛ لأن الكراهة حكم شرعي يقوم على دليل شرعي، أو نظر صحيح، ولا يوجد شئ من ذلك في هذه المسألة، ولو كان يورث البرص لكان التطهر منه محرماً وليس مكروهاً، لأن البرص علة ومرض، والإنسان الأبرص ليس سوي البدن، ويعتبر عيباً في المرأة والرجل يجب بيانه. ¬
الباب التاسع في تطهير الماء المتنجس
الباب التاسع في تطهير الماء المتنجس تمهيد: قبل أن نتكلم عن تطهير الماء المتنجس، ينبغي أن نعلم هل نجاسة الماء نجاسة عينية أم نجاسة حكمية. الصحيح أن نجاسة الماء حكمية، فهو كالثوب النجس؛ لأنه يطهر غيره فنفسه من باب أولى. وهذا اختيار ابن تيميه (¬1)، وصوبه فى الانصاف (¬2). وقيل: إن نجاسته نجاسة عينية. قال ابن مفلح فى الفروع: وهو ظاهر كلام الأصحاب وتعقبه المرداوي في تصحيح الفروع (¬3). وفي قوله إنها عينيه نظر، لأن الحنابلة قالوا: النجاسة العينية لايمكن تطهيرها، وهذا يمكن تطهيره (¬4). وقيل: نجاستة نجاسة مجاورة سريعة الإزالة، ولهذا يجوز بيعه (¬5). ¬
القول الأول: مذهب الحنفية.
خلاف العلماء في كيفية تطهير الماء المتنجس اختلف العلماء في كيفية تطهير الماء المتنجس على أقوال، مع اتفاقهم على أن الماء الكثير لا ينجس إلا بالتغير، واختلفوا في القليل هل ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة، أو يشترط أن يتغير بها، وقد سبق تحرير الخلاف. القول الأول: مذهب الحنفية. فرق الحنفية بين ماء البئر وغيره من المياه، فمسائل البئر عندهم على خلاف القياس، بينما الجمهور لم يفرقوا بين ماء البئر وغيره من المياه. فإذا وقعت في الأواني أو في الحوض الصغير نجاسة، فلهم في تطهير الماء بشرط زوال تغيره إن وجد ثلاثة أقوال: قيل: إذا دخل فيه ماء آخر، وخرج الماء منه طهر، وإن قل إذا كان الخروج حال دخول الماء فيه؛ لأنه بمنزلة الجاري. وقيل: لا يطهر إلا بخروج ما فيه. وقيل: لا يطهر إلا بخروج ثلاثة أمثال ما كان فيه من الماء، وسائر المائعات كالماء في القلة والكثرة (¬1). تعليل الحنفية: أن الماء النجس إذا دخل فيه ماء آخر، وخرج الماء منه، وكان خروج الماء حال دخول الماء الجديد فيه؛ أصبح بمنزلة الماء الجاري، والماء الجاري لا ينجس إلا بالتغير. القول الثاني: مذهب المالكية. ¬
قالوا: الماء المتغير بالنجاسة إما أن يزول تغيره بنفسه، أو بصب ماء مطلق عليه (¬1)، أو بإضافة تراب ونحوه. فإن تغير الماء بنفسه، فإما أن يكون الماء قليلاً أو كثيراً، ولم يجدوا فى ذلك حداً بين القليل والكثير، فالقليل أواني الوضوء ونحوها، والكثير ما عداها. فإن كان قليلاً فهو نجس اتفاقاً عندهم. وإن كان الماء الذى تغير بنفسه كثيراً فلأصحاب مالك فيه قولان: الأول: أنه طهور؛ لأن الحكم بالنجاسة إنما هو لأجل التغير وقد زال والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، كالخمر يتخلل، وقد رجح هذا ابن رشد. وقيل: إنه نجس؛ لأن النجاسة عندهم لا تزال إلا بالماء المطلق، وليس حاصلاً هنا فيستمر بقاء النجاسة. ومع أنهم حكموا بنجاسته، إلا أنهم قيدوا الحكم بالنجاسة مع وجود غيره، أما إذا لم يوجد إلا هو فيستعمله بلا كراهة مراعاة للخلاف. قلت: وهذا يدل على ضعف القول بنجاسته عندهم؛ لأنهم لو جزموا بالنجاسة لما صح استعماله مطلقاً، سواء وجد غيره أم لم يوجد؛ لأنه إذا لم يوجد إلا ماء نجس صار الى التيمم، كما هو الحال إذا وجد ماء متغير بالنجاسة، فهذا الاستثناء دليل على ضعف القول بالنجاسة عندهم، والله أعلم. وإن زال تغير الماء بالنجاسة بإضافة ماء مطلق، فهو طهور اتفاقاً عندهم، ¬
القول الثالث: مذهب الشافعية.
حتى ولو كان المضاف قليلاً، ولا يشترط أن يبلغ الماء قلتين عندهم فلا يشترطون إلا شرطين: أحدهما: أن يكون الماء المضاف ماء مطلقاً أى ليس ماء نجساً ولا طاهراً. الثاني: أن يزول تغيره بالإضافة. وإن زال تغيره بإلقاء طين فينظر: فإن لم يتغير الماء بالطين فقد طهر، وإن تغير الماء بما ألقي فيه فالأظهر النجاسة عملاً بالاستصحاب (¬1). القول الثالث: مذهب الشافعية. الشافعيه يفرقون بين الماء القليل والماء الكثير إذا لاقى نجاسة ولم يتغير، فينجس الأول عندهم دون الثانى، وعلى هذا يقسم الشافعية الماء إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يكون الماء أكثر من قلتين، فلا ينجس إلا بالتغير، وفى تطهيره ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يزول تغيره بنفسه؛ لأن الماء يطهر غيره، فكونه يطهر نفسه من باب أولى. الحالة الثانية: أن يزول تغيره بإضافة ماء آخر عليه، سواء كان المضاف طاهراً أم نجساً، قليلاً أم كثيراً، صب عليه الماء أو نبع فيه، فإذا زال تغيره ¬
طهر. الحالة الثالثة: أن يزول تغيره بنزح بعضه فإنه يطهر، بشرط أن يكون الباقي بعد النزح قلتين فأكثر غير متغير، فإن بقي دونهما لم يطهر بلا خلاف عند الشافعية. القسم الثاني: من الماء النجس: أن يكون الماء قلتين، وهذا لا ينجس إلا بالتغير. وفى التطهير له حالتان: الأولى: أن يزول تغيره بنفسه. الثانية: أن يزول تغيره بإضافه ماء آخر عليه. ولو كان المضاف نجساً أو قليلاً. القسم الثالث: أن يكون الماء المتنجس دون القلتين، وهذا الماء ينجس عندهم بمجرد ملاقاة النجاسة، ولو لم يتغير. ففي تطهيره طريقة واحدة، وهي أن يزول تغيره بإضافة ماء آخر عليه حتى يبلغ قلتين، حتى ولو كان هذا الماء المضاف نجساً، ما دام أنه إذا بلغ قلتين فقد زال تغيره فإنه يطهر. أما إذا أضيف إليه ماء دون القلتين ففيه وجهان عندهم: الأول: قيل: يكون طاهراً غير مطهر. لماذا كان طاهراً، وقد لاقى النجاسة، وهو قليل؟ قالوا: لأن الماء القليل إنما ينجس بالنجاسة إذا وردت عليه، أما إذا ورد الماء على النجاسة كما هو الحال هنا فلا ينجس. ولماذا إذا لا يكون طهوراً؟ قالوا: لأنه ماء استعمل فى إزالة النجاسة.
القول الرابع: مذهب الحنابلة.
الوجه الثاني: قالوا لا يطهر، لأنه ماء استعمل في إزالة النجاسة، هذه الطرق في تطهير الماء النجس بالماء عند الشافعية. أما تطهيره بالتراب فقد وافقوا المالكيه. قالوا: إذا طرح فيه تراب وزال تغيره. فإما أن يكون الماء كدراً أو صافياً، فإن كان صافياً فقد طهر جزماً. وإن كان الماء كدراً بما ألقي فيه. فقيل: يطهر؛ لأن التغير قد زال فصار كما لو زال بنفسه أو بماء آخر. وصحح الأكثرون أنه لا يطهر (¬1). القول الرابع: مذهب الحنابلة. طريقة الحنابلة فى تطهير الماء المتنجس بالماء قريبة من تقسيم الشافعية إلا أنهم خالفوهم فى مواضع يسيرة. فقسم الحنابلة الماء المتنجس أولاً إلى قسمين: الأول: قسم تنجس ببول آدمي أو عذرته المائعه. الثاني: وقسم تنجس بسائر النجاسات. أما الماء الذي تنجس بغير بول آدمي وعذرته المائعة فإنه يمكن أن نقسمه إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يكون الماء دون القلتين. وفي هذه الحال إما أن تكون نجاسته بالتغير، أو بالملاقاة ولو لم يتغير. ¬
فيشترط لتطهير الماء المتنجس بالملاقاة شرط واحد، هو أن تضيف إليه قلتين من الماء الطهور، وبالتالي يصبح طهوراً فإن أضفت إليه دون القلتين لم يطهر. التعليل: لأن الماء القليل لا يدفع النجاسة عن نفسه فكيف يدفعها عن غيره لقوله - صلى الله عليه وسلم - فى حديث ابن عمر: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث (¬1). لوقال قائل: لنفرض أن الماء المتنجس بالملاقاة قلة واحدة فأضفت إليها قلة أخرى حتى أصبح الماء قلتين فهل يطهر؟ أكثر الأصحاب على أنه لا يطهر، وهو المشهور من المذهب، وحكى بعضهم وجهاً بالتطهير، وصوبه صاحب الإنصاف. وإن كانت نجاسة الماء القليل بالتغير ففي هذه الحالة تضيف إليه قلتين من الماء الطهور ثم تنظر هل زال التغير أم بقي؟ فإن زال فقد طهر، وإن لم يزل فإنك تضيف إليه حتى يذهب تغيره. أما إذا أضفت إليه دون القلتين فإن الماء يكون نجساً حتى ولو زال تغيره وهذا هو المذهب. وقيل: إنه يكون طهوراً حتى على قواعد المذهب. أو القائلين بالنجاسة ولو لم يتغير. قالوا: لأن الماء إنما ينجس بالنجاسة إذا كانت واردة عليه وهنا قد ورد الماء على النجاسة. ولو قلنا بنجاسة الماء هنا لقلنا بنجاسة الماء إذا صب على ثوب نجس إلا أن يكون قلتين، ولما كان الدلو مطهراً لبول الأعرابي، لأنه بالتأكيد ليس قلتين ولا حتى قلة. هذه الطريقة في تطهير الماء عند الأصحاب رحمهم الله إذا ¬
كان الماء أقل من قلتين. الحالة الثانية: إذا كان الماء قلتين، فله طريقان: الأول: أن تضيف إليه قلتين فأكثر حتى يذهب تغيره بالنجاسة، وقد علمت مما سبق لماذا يشترطون إضافة القلتين، ولم لا يعتبرون ما دون القلتين؟ فلا داعي لإعادته. وهذاالشرط خالفوا فيه الشافعية. الأمر الثاني: هل يزول تغيره بنفسه، فالمشهور من المذهب أنه إذا زال تغيره بنفسه، وهو قلتان طهر، وفيه وجه آخر في المذهب أنه لا يطهر بناء على أن النجاسة في المذهب لا تطهر بالاستحالة، وهذا على رأي من يرى أن النجاسة نجاسة عينية وليست حكمية. وقيل: إنه طاهر، لأنه لا يكون طهوراً وقد أزيلت به النجاسة، ولا يكون نجساً وهو ماء كثير غير متغير، قاسوه على الماء القليل إذا كان آخر غسلة زالت بها النجاسة. الحالة الثالثة: إذا كان الماء أكثر من قلتين فلهم ثلاثة طرق: الأولى: أن تضيف إليه قلتين بشرط أن يزول التغير وقد سبق لكم التعليل من اشتراط القلتين. الثانية: أن يزول تغيره بنفسه، وهذا هو المشهور من المذهب وسبق لكم في المذهب ثلاثة أوجه. الثالثة: أن ينزح منه فيبقى بعد النزح قلتين فأكثر غير متغير. مثاله: عندنا ماء ثلاث قلال أو أربع ... سقطت فيه ميته فغيرت رائحة الماء. فقام رجل فنزح منها ماء حتى ذهبت رائحة النجاسة. فهل يطهر الماء؟ الجواب: إن كان الماء الباقي قلتين فأكثر فقد طهر.
وهذه هى الطريقة في تطهير الماء على المشهور من مذهب الامام أحمد رحمه الله. وأما التراب ففيه وجهان: الأول: أنه لا يطهر. قال في الانصاف: على الصحيح من المذهب لأن النجاسة عندهم لا تزال إلا بالماء المطلق. قال ابن عقيل: التراب لا يطهر لأنه يستر النجاسة بخلاف الماء. الثاني: يطهر بذلك، لأن علة نجاسته التغير، وقد زال فيزول الحكم بنجاسته كما لو زال بمكثه (¬1). القسم الثاني: من الماء النجس: أن يكون متنجساً ببول آدمي أو عذرته المائعة، فإن كانت النجاسة لم تغيره وكان لا يشق نزحه فتطهيره بإضافة ما يشق نزحه إليه وإن كان الماء يشق نزحه، وقد تغير بالنجاسة فله ثلاث حالات: الأولى: أن يضاف إليه ما يشق نزحه. الثانية: أن يزول تغيره بنفسه. الثالثة: أن ينزح منه فيبقى بعده قلتان غير متغيرتين (¬2). خلاصة ما سبق: التطهير تارة يكون بالإضافة، وتارة يكون بنفسه، وتارة يكون بالنزح. فإن كان التطهير بالإضافة، فيشترط له شروط: ¬
الأول: أن يكون الماء طهوراً، وهذا شرط عند المالكية، والحنابلة، وليس بشرط عند الشافعية، إذ لا مانع أن تضيف عندهم ماء نجساً إذا كان بإضافته سوف يزول تغير الماء بالنجاسة. الثاني: أن يكون المضاف كثيراً _ قلتان فأكثر - وهذا شرط للحنابلة، وليس بشرط عند المالكية، والشافعية. الثالث: أن يبلغ الماء قلتين بعد الإضافة. وليس بشرط عند المالكية، وأما الحنابلة فلا يكفي هذا عندهم لأنهم يشترطون أن يكون المضاف نفسه قلتين. تطهير الماء بزوال تغيره بنفسه. المالكية، والشافعية، والحنابلة يشترطون أن يكون الماء كثيراً، والمالكية لم أقف على حد لهم في القليل والكثير، بينما الحنابلة والشافعية يحدونه بالقلتين. أما التغير بالنزح، فالشافعية والحنابلة يشترطون أن يبقى بعد النزح ماء كثير غير متغير. والصحيح: أنه متى زال تغير الماء على أي وجه، قليلاً كان أو كثيراً، حتى ولو كان عن طريق المعالجة كالتقطير مثلاً ... فإنه يطهر؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، ولا علة للتنجس إلا لكونه متغيراً بالنجاسة وقد زال، والله أعلم.
الآنية
باب الآنية تمهيد: تعريف الآنية: الآنِيَةُ جَمْعُ إنَاءٍ وَجَمْعُ الآنِيَةِ الأَوَانِي، فَالإِنَاءُ مُفْرَدٌ، وَجَمْعُهُ: آنِيَةٌ، وَالأَوَانِي: جَمْعُ الْجَمْعِ فَلا يُسْتَعْمَلُ فِي أَقَلَّ مِنْ تِسْعَةٍ إلا مَجَازًا (¬1). وقال في المغرب: الإناء: وعاء المال، والجمع القليل: آنية، والكثير: الأواني، ونظيره: سوار وأسورة وأساور (¬2). قال النووي: وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الْغَزَالِيِّ رحمه الله وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ الآنِيَةَ فِي الْمُفْرَدِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ فِي اللُّغَةِ , قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: جَمْعُ الإِنَاءِ آنِيَةٌ، وَجَمْعُ الآنِيَةِ الأَوَانِي، كَسِقَاءٍ وَأَسْقِيَةٍ وَأَسَاقٍ (¬3). وَأَصْلُ أَوَانِي أَأنِي بِهَمْزَتَيْن، أُبْدِلَتْ ثَانِيَتُهُمَا وَاوًا كَرَاهَةَ اجْتِمَاعِهِمَا، كَأَوَادِمَ فِي آدَمَ (¬4). قال في اللسان: والألف في آنية: مبدلة من الهمزة، وليست بمخففة عنها، لانقلابها في التكسير واواً (¬5). مناسبة ذكر باب الآنية في كتاب الطهارة. بعض الفقهاء يذكر باب الآنية في كتاب الأطعمة والأشربة، فهو به أليق ¬
من باب الطهارة، والشافعية والحنابلة يذكرونه في باب الطهارة، ويرجع هذا والله أعلم إلى أن هناك بعض الأواني عندهم محرمة الاستعمال كأواني الذهب والفضة، وبعض الأواني نجسة، كالأواني من جلود الميتة فالدباغ عند الحنابلة لا يطهرها، ومثلها آنية بعض الكفار ممن يستعملون النجاسات، فلما كانت بعض الآنية محرمة، وبعضها نجسة، وربما تطهر منها المسلم، فهل يصح تطهره أم لا؟ لهذا السبب، والله أعلم، ناسب أن يتكلموا على باب الآنية في باب الطهارة. وأما قول بعضهم: إن الماء سائل، يحتاج إلى ظرف، فلما تكلموا عن الماء، تكلموا عن ظرفه، فهذا قول ضعيف؛ لأن الطهارة بالماء ليس من شرطها كونه في ظرف، فقد يتوضأ الأنسان من الآبار والعيون، لكن التوجيه الأول أقوى، والله أعلم.
الفصل الأول في الأواني الثمينة من غير الذهب والفضة
الفصل الأول في الأواني الثمينة من غير الذهب والفضة اختلف العلماء في حكم الأكل والشرب في الأواني الثمينة من غير الذهب والفضة كالياقوت والبلور والعقيق والزبرجد: فقيل: يجوز الأكل والشرب والاستعمال والاتخاذ، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والقول المشهور عند المالكية (¬2)، والأصح عند الشافعية (¬3)، والمشهور عند الحنابلة (¬4). وقيل: يكره استعمالها، وهو قول في مذهب المالكية (¬5). وقيل: يحرم الأكل والشرب والاستعمال في الأواني التي يكثر ثمنها، ¬
دليل من قال بجواز استعمال الأواني الثمينة.
لنفاسة جوهرها. اختاره بعض المالكية (¬1)، وحكي قولاً في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: إن كان كثر ثمنها لحسن صناعتها، فاستعمالها حلال، وإن كان لنفاسة جوهرها، ففيها قولان: التحريم والإباحة. ذكر ذلك الماوردي من الشافعية (¬3). دليل من قال بجواز استعمال الأواني الثمينة. الدليل الأول: الأصل في الأشياء الإباحة، قال سبحانه وتعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} (¬4). وقال سبحانه وتعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ¬
الدليل الثاني
والطيبات من الرزق} (¬1). وقال تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} (¬2). الدليل الثاني: تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - المنع بالذهب والفضة يقتضي إباحة ما عداهما، (102) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم (¬3). قال ابن حزم: فصح أن كل مسكوت عن ذكره بتحريم أو أمر فهو مباح (¬4). الدليل الثالث: حكي الإجماع على جواز استعمال الأواني من غير الذهب والفضة، قال ابن جحر في الفتح: وقد نقل ابن الصباغ في الشامل الإجماع على الجواز، وتبعه الرافعي ومن بعده (¬5). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: أن العلة في الذهب والفضة هي الخيلاء وكسر قلوب الفقراء، وهي غير موجودة هنا، إذ الجوهر ونحوه لا يعرفه إلا خواص الناس (¬1). الدليل الخامس: ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ من آنية مختلفة، فقد توضأ من آنية من حجارة، ومن تور من صفر، ومن الجلود، ومن قدح رحراح أي الواسع المنبسط، ومن قصعة ومن جفنة، قال صاحب كشاف القناع: فثبت الحكم فيها، لفعله - صلى الله عليه وسلم - وفي معناها قياساً؛ لأنه مثلها (¬2). وإليك الأحاديث الدالة على ما ذكرنا، منها: (103) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن منير، سمع عبد الله بن بكر، قال: حدثنا حميد، عن أنس قال: حضرت الصلاة، فقام من كان قريب الدار إلى أهله، وبقي قوم، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمخضب من حجارة فيه ماء، فصغر المخضب أن يبسط فيه كفه، فتوضأ القوم كلهم. قلنا: كم كنتم؟ قال: ثمانين وزيادة. وأخرجه مسلم واللفظ للبخاري (¬3). (104) ومنها: ما أخرجه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، قال: حدثنا عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد، قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجنا له ماء في تور من صفر، فتوضأ، فغسل وجهه ثلاثاً، ويديه مرتين مرتين، ومسح برأسه فأقبل به وأدبر، ¬
الدليل السادس
وغسل رجليه، وأخرجه مسلم (¬1). (105) ومنها ما أخرجه البخاري، قال: حدثنا مسدد، قال حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا بإناء من ماء فأتي بقدح رحراح، فيه شيء من ماء، فوضع أصابعه فيه، قال أنس: فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه، قال أنس: فحزرت من توضأ ما بين السبعين إلى الثمانين، ورواه مسلم (¬2). (106) وجاء في الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ من شن معلق، وثبت أنه توضأ من قصعة وجفنة، وهذه الأحاديث سبق تخريجها في كتاب المياه بتفصيل مطول. الدليل السادس: قالوا: كون بعض الأواني من الجوهر أغلى ثمناً من الذهب والفضة لا يكفي في تحريمها، فإنه يحرم الحرير وإن قل ثمنه بخلاف غيره وإن بلغ ثمنه أضعاف ثمن الحرير، وكذلك يباح فص الخاتم جوهرة ولو بلغ ثمنها ما بلغ، ويحرم ذهباً ولو كان يسيراً. دليل من قال يحرم استعمال الأواني الثمينة. قالوا: إن علة المنع في استعمال أواني الذهب والفضة هي السرف والخيلاء، فيمنع في الأواني الثمينة للعلة ذاتها. والجواب على ذلك بأن علة المنع في الذهب والفضة مختلف فيها كما سيأتي، والإسراف يختلف من بلد إلى بلد، ومن وقت لآخر، والتحريم ليس ¬
دليل من قال يكره استعمالها.
لذات الأواني، بخلاف الذهب والفضة. كما أن التحريم للإسراف عام في كل شيء من المباحات، فمتى خرج المباح إلى الإسراف أصبح محرماً. قال تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} (¬1). جاء في سير أعلام النبلاء: " قال شهر بن حوشب: من ركب مشهوراً من الدواب، ولبس مشهوراً من الثياب أعرض الله عنه، وإن كان كريماً. قال الذهبي: من فعله ليعز الدين، ويرغم المنافقين، ويتواضع مع ذلك للمؤمنين، ويحمد رب العالمين فحسن. ومن فعله بذخاً وتيهاً وفخراً أذله الله، وأعرض عنه، فإن عوتب ووعظ فكابر، وادعى أنه ليس بمختال ولا تياه، فأعرض عنه؛ فإنه أحمق مغرور بنفسه (¬2). وكلام شهر وإن كان مليحاً لكن كلام الذهبي أملح، إلا إن كان يقصد شهر رحمه الله بالشهرة ما كان منهياً عنه لشهرته، فهذا باب آخر، والله أعلم. دليل من قال يكره استعمالها. قالوا: ما دام أن العلة في النهي هي السرف فلا يقتضي ذلك التحريم، وإنما ذلك فقط حقه أن يكون مكروهاً (¬3). قلت: العلة مختلف فيها كما سيأتي، ولو ثبت أن العلة هي السرف لم ¬
يمنع من التحريم، لأن الإسراف محرم. قال تعالى: {إنه لا يحب المسرفين} (¬1). وقال سبحانه: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} (¬2). فالراجح: جواز استعمال الأواني الثمينة إذا لم يصل إلى حد السرف. ¬
الفصل الثاني في الأواني من الذهب والفضة
الفصل الثاني في الأواني من الذهب والفضة ويشتمل على أربعة مباحث: المبحث الأول: في حكم الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة. المبحث الثاني: في حكم استعمال أواني الذهب والفضة في غير الأكل والشرب. المبحث الثالث: في حكم الطهارة من آنية الذهب والفضة. المبحث الرابع: في حكم اتخاذ أواني الذهب والفضة.
المبحث الأول في حكم الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة
المبحث الأول في حكم الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة اختلف العلماء في حكم الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة: فقيل: لا يجوز الأكل والشرب فيهما، وحكي إجماعاً، ولا يثبت الإجماع، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4). وقيل: النهي عن الأكل والشرب للكراهة، وليس للتحريم، وهو قول الشافعي في القديم وقد رجع عنه (¬5)، كما أنه رواية عن الإمام أحمد (¬6). وقيل: يحرم الشرب خاصة دون الأكل، وهو مذهب داود الظاهري، ولعله لم يبلغه أحاديث النهي عن الأكل (¬7). ¬
دليل من قال بالتحريم.
دليل من قال بالتحريم. الدليل الأول: (107) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سيف بن أبي سليمان، قال: سمعت مجاهداً يقول: حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى أنهم كانوا عند حذيفة، فاستسقى فسقاه مجوسي، فلما وضع القدح في يده رماه به، وقال: لولا أني نهيته غير مرة ولا مرتين، كأنه يقول: لم أفعل هذا، ولكني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة. ورواه مسلم (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (108) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك بن أنس، عن نافع، عن زيد بن عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم. ورواه مسلم (¬1). حديث أم سلمة المتفق عليه ليس فيه ذكر الأكل، وجاء عند مسلم من طريق آخر إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب إنما يجرجر في بطنه نار جهنم، وصرح البيهقي بأن ذكر الأكل والذهب ليس محفوظاً من حديث أم سلمة (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
ومع أن كلام البيهقي هو ما تقتضيه قواعد هذا الفن، وهو الحق؛ إلا أنه لما نص على الشرب دخل في ذلك الأكل، ألا ترى أن النهي عن البول في الماء الراكد كان الغائط أحرى أن ينهى عنه في ذلك، كيف وقد ورد النهي عن الأكل في حديث حذيفة من طريق مجاهد. قال النووي في المجموع: وإذا حرم الشرب فالأكل أولى؛ لأنه أطول مدة وأبلغ في السرف (¬1). الدليل الثالث: (109) ما أخرجه البخاري، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن الأشعث بن سليم عن معاوية بن سويد بن مقرن عن البراء بن عازب قال أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس وإجابة الداعي وإفشاء السلام ونصر المظلوم وإبرار المقسم ونهانا عن خواتيم الذهب وعن الشرب في الفضة أو قال آنية الفضة وعن المياثر والقسي وعن لبس الحرير والديباج والإستبرق. ¬
دليل من قال إن النهي عن الأكل والشرب للكراهة.
ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬1). دليل من قال إن النهي عن الأكل والشرب للكراهة. الأول: قالوا: إن علة الكراهة للتزهيد فيها، بدليل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة. وأجيب: بقوله - صلى الله عليه وسلم -: فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم، وهو وعيد شديد، ولا يكون إلا على محرم. ثانياً: إنه إنما نهى عنه للسرف والخيلاء، والتشبه بالأعاجم، وهذا لا يوجب التحريم، كما قالوا: إنما عنى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالحديث المشركين والكفار من ملوك فارس والروم وغيرهم من الذين يشربون في آنية الفضة، فأخبر عنهم، وحذرنا أن نفعل مثل فعلهم ونتشبه بهم (¬2). وأجيب: بأن الإسراف حرام، ويكفي قوله تعالى: {إنه لا يحب المسرفين} (¬3). وقوله: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} (¬4). ومثله الخيلاء، والتشبه بالكفار جاء في أحاديث الصحيحين ما يقتضي أنه من الكبائر، وليس هذا موضع ذكرها. والحديث لم يكن يخبر عن حال الكفار، بل قصد الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهي أمته عن الشرب في آنية الفضة، فمن شرب فيها بعد علمه بالنهي فقد استحق ¬
دليل من قال: يحرم الشرب خاصة.
الوعيد المذكور في الآية، والله أعلم. دليل من قال: يحرم الشرب خاصة. هذا مذهب داود الظاهري، والأحاديث التي وردت في النهي عن الأكل والشرب جاءت من حديث حذيفة، على خلاف هل الأكل محفوظ في الحديث أم لا؟ وقد اعتبر البخاري زيادة مجاهد زيادة من ثقة، وقد سبق البحث عنها. وأما حديث أم سلمة فالنهي فيه عن الشرب، ولا يثبت فيه زيادة النهي عن الأكل، ولا شك أن من منع الشرب فقط أن قوله: ظاهرية بحتة، لم ينظر إلى علة النهي، والماء مطعوم، وكونه سائلاً لا يخرجه عن ذلك، ولا فرق في الحكم بينه وبين الأكل، بل إن الأكل أولى بالنهي من الشرب، وقد تقدم مثل هذا الكلام، والله أعلم. وبناء على ذلك فالراجح ثبوت النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة، والأكل مقيس عليه.
المبحث الثاني في استعمال أواني الذهب والفضة في غير الأكل والشرب
المبحث الثاني في استعمال أواني الذهب والفضة في غير الأكل والشرب اختلف العلماء في حكم استعمال أواني الذهب والفضة في غير الأكل والشرب، كالادهان، والاكتحال، والتطيب، والوضوء، واتخاذ الأقلام، وأدوات المكتب، ونحوها من الذهب والفضة. فقيل: يحرم، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: يكره، ولا يحرم، وهو اختيار أبي الحسن التميمي من الحنابلة (¬5). وقيل: لا يحرم إلا الأكل والشرب خاصة، أشار إليه القرطبي (¬6)، وهو ¬
دليل من قال: لا يجوز.
اختيار اليمانيين: الصنعاني (¬1)، والشوكاني (¬2). دليل من قال: لا يجوز. الدليل الأول: قالوا: إن الله سبحانه وتعالى إنما حرم الأكل والشرب لأنه نوع من الاستعمال والانتفاع بها، وذكر الأكل والشرب لا يدل على التخصيص؛ لأنه خرج مخرج الغالب. قال تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً} (¬3). وقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون} (¬4). مع أن المحرم أعم من مجرد الأكل، فكذلك الحال بالنسبة للذهب والفضة (¬5). الدليل الثاني: قالوا: إن العلة في تحريم الشرب منها موجود في الاستعمال، لما يتضمنه من الفخر والخيلاء وكسر قلوب الفقراء (¬6). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: الإجماع على تحريمها استعماله، وقد نقل الإجماع طائفة من العلماء: منهم ابن عبد البر، قال في التمهيد: والعلماء كلهم لا يجيزون استعمال الأواني من الذهب، كما لا يجيزون ذلك من الفضة (¬1). اهـ وقال في الاستذكار: واختلف العلماء في جواز اتخاذ أواني الفضة بعد إجماعهم على أنه لا يجوز استعمالها لشرب ولا غيره (¬2). اهـ وكذلك نقل الإجماع النووي، قال في المجموع: قال أصحابنا: أجمعت الأمة على تحريم الأكل والشرب وغيرهما من الاستعمال في إناء ذهب أو فضة، إلا ما حكي عن داود، وإلا قول الشافعي في القديم (¬3). وقال ابن قدامة في المغني: ولا خلاف بين أصحابنا في أن استعمال آنية الذهب والفضة حرام، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي لا أعلم فيه خلافاً (¬4). وممن نقل الإجماع ابن مفلح الصغير (¬5)، والخطيب في مغني المحتاج (¬6)، فهؤلاء جماعة من العلماء منهم المالكي والشافعي والحنبلي نقلوا الإجماع على تحريم الاستعمال. قلت: دعوى الإجماع فيه تساهل، والصحيح أن الخلاف محفوظ. ¬
دليل من قال: لا يحرم إلا الأكل والشرب خاصة.
قال ابن حجر فيما نقله عن القرطبي: في الحديث تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب، ويلحق بهما ما في معناهما مثل التطيب، والتكحل، وسائر وجوه الاستعمالات، وبهذا قال الجمهور، وأغربت طائفة فأباحت ذلك مطلقاً، ومنهم من قصر التحريم على الأكل والشرب ... الخ كلامه رحمه الله (¬1). ونصر ابن مفلح الكبير في الفروع أن التحريم هو قول الجمهور، مما يدل على أنه لا إجماع في الباب (¬2). وقال الشوكاني: وأما حكاية النووي للإجماع على تحريم الاستعمال، فلا تتم مع مخالفة داود الظاهري والشافعي وبعض أصحابه، وقد اقتصر الإمام المهدي في البحر على نسبة ذلك إلى أكثر الأمة، على أنه لا يخفى على المنصف ما حجية الإجماع من النزاع، والاشكالات التي لا مخلص منها (¬3). اهـ وبهذا يتبين أن دعوى الإجماع غير دقيقة. دليل من قال: لا يحرم إلا الأكل والشرب خاصة. الدليل الأول: الأحاديث نص في تحريم الأكل والشرب، والأصل فيما عداهما الحل، فلا يحرم شيء حتى يأتي دليل صحيح صريح بتحريم الاستعمال، فتخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - للأكل والشرب دليل على أن ما عداهما جائز، ولو كان الاستعمال حراماً لكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبلغ الناس، ولما خص الأكل والشرب، ¬
الدليل الثاني
فلما خصهما بالذكر قصرنا التحريم عليهما. الدليل الثاني: قياس الاستعمال على الأكل والشرب قياس مع الفارق، فإن علة النهي عن الأكل والشرب هي التشبه بأهل الجنة، قال تعالى: {ويطاف عليهم بآنية من فضة} (¬1)، وذلك مناط معتبر بالشرع (¬2). (110) وقد روى أحمد، قال: حدثنا يحيى بن واضح وهو أبو تميلة، عن عبد الله بن مسلم، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يد رجل خاتماً من ذهب، فقال: ما لك ولحلي أهل الجنة؟ قال: فجاء، وقد لبس خاتماً من صفر، فقال: أجد منك ريح أهل الأصنام؟ قال: فمم أتخذه يا رسول الله؟ قال: من فضة (¬3). [في إسناده لين] (¬4). ¬
(111) وقد يستدل لهم بما أخرجه النسائي، قال: أخبرنا وهب ¬
بن بيان، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أنبأنا عمرو بن الحارث، أن أبا عشانة، وهو المعافري، حدثه أنه سمع عقبة بن عامر يخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمنع أهله الحلية والحرير، يقول: إن كنتم تحبون حلية الجنة وحريرها، فلا تلبسوها (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). لكن لا دليل فيه، ولعل المنع هنا من باب الزهد، لا من باب التحريم؛ لأن الحرير وكذا الذهب لا يحرمان على النساء، بل يباحان. وقد أشير إلى الاختلاف في علة النهي عن آنية الذهب والفضة، فارجع إليه، والجزم بأن العلة هي النهي عن التشبه بأهل الجنة فيه شيء، والتشبه بأهل الجنة ليست نقيصة، وقد أذن للمرأة بلباس الحرير والذهب، كما أن الذهب والفضة الموجودان في الجنة غير الموجودين في الدنيا، وليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (112) استدل الشوكاني بما رواه أحمد، قال: ثنا أبو عامر، ثنا زهير، عن أسيد بن أبي أسيد، عن نافع ابن عياش مولى عبلة بنت طلق الغفاري، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من أحب أن يطوق حبيبه طوقاً من نار فليطوقه طوقا من ذهب، ومن أحب أن يسور حبيبه سواراً من نار فليسوره بسوار من ذهب، ومن أحب أن يحلق حبيبه حلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب، ولكن عليكم بالفضة العبوا بها لعباً (¬1). [في إسناده ضعف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (113) ما أخرجه البخاري من طرق عن ابن موهب، قال: أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء، وقبض إسرائيل ثلاث أصابع من قصة فيها شعر من شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث إليها مخضبة، فاطلعت في الجلجل، فرأيت شعرات حمراً (¬1). ¬
الدليل الرابع
قال ابن حجر في الفتح: وذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين بلفظ: أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء، فجاءت بجلجل من فضة فيه شعر ... الخ الحديث (¬1). فإن قيل: هذا موقوف على أم سلمة، فلا حجة في فعل الصحابي رضي الله عنه. فالجواب: ممكن أن يقال: كون الصحابة يرسلون إليها إذا أصاب الإنسان عين أو شيء دليل على اطلاعهم على هذا، وإقرارهم له، والله أعلم. الدليل الرابع: لو كانت الآنية حراماً مطلقاً لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتكسير الأواني كما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب ألا يدع صورة إلا طمسها حين كانت الصورة محرمة مطلقاً. (114) أخرجه مسلم من طريق سفيان بن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، عن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... وذكر الحديث. (115) وقد جاء في حديث حذيفة في الصحيحين أنه استسقى، فسقاه مجوسي، فلما وضع القدح رماه به، وقال: لولا أني نهيته غير مرة ولا مرتين - كأنه يقول: لم أفعل هذا ولكني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، ¬
فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة (¬1). ففي هذا الحديث دليل على اقتناء حذيفة للإناء، ولو كان منكراً لكسره رضي الله عنه، والذي أميل إليه أن الاستعمال في غير الأكل والشرب غير محرم، وإن كان الاحتياط تركه، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في الطهارة في آنية الذهب والفضة
المبحث الثالث في الطهارة في آنية الذهب والفضة الخلاف في هذه المسألة إنما يجري على قول من يقول بتحريم استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب، أما من يقصر التحريم على الأكل والشرب، فإنه يصحح الطهارة منها بلا إثم، وهذا واضح. وقد اختلف القائلون بتحريم استعمال آنية الذهب والفضة هل تصح الطهارة منها وفيها مع الإثم أم لا على أقوال: فقيل: تصح الطهارة منها وبها، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). ¬
دليل من قال: تصح الطهارة من آنية الذهب والفضة.
وقيل: لا تصح الطهارة، وهو قول ضعيف في مذهب المالكية (¬1)، ووجه في مذهب أحمد (¬2)، ورجحه داود الظاهري (¬3)، ونُسِبَ هذا القول لابن تيمية (¬4)، وصححه ابن عقيل من الحنابلة (¬5). وقيل: يعيد الوضوء في الوقت، ولا يعيد إذا خرج الوقت، وهو قول في مذهب المالكية (¬6). دليل من قال: تصح الطهارة من آنية الذهب والفضة. الدليل الأول: الأحاديث نص في تحريم الأكل والشرب، والأصل فيما عداهما الحل، فلا يحرم شيء حتى يأتي دليل صحيح صريح بتحريم الطهارة من آنية الذهب والفضة، فتخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - للأكل والشرب دليل على أن ما عداهما جائز، ولو كان مطلق الاستعمال حراماً لكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبلغ الناس، ولما خص الأكل والشرب، فما خصهما بالذكر قصرنا التحريم عليهما. وقد سقت الأدلة الكثيرة على جواز استعمال آنية الذهب والفضة في ¬
الدليل الثاني
غير الأكل والشرب في مسألة مستقلة، فكل دليل سقته هناك يصلح أن يكون دليلاً هنا، والله أعلم. الدليل الثاني: أن حقيقة الوضوء: هو جريان الماء على الأعضاء، وليس في ذلك معصية، وإنما المعصية في استعمال الإناء. قال ابن تيمية: التحريم إذا كان في ركن العبادة وشرطها أثر فيها، كما كان في الصلاة في اللباس أو البقعة، وأما إذا كان في أجنبي عنها لم يؤثر، والإناء في الطهارة أجنبي عنها، فلهذا لم يؤثر فيها، والله أعلم (¬1). الدليل الثالث: قالوا: إنه لو أكل أو شرب في إناء الذهب والفضة، لم يكن المأكول والمشروب حراماً، فكذلك الطهارة؛ لأن المنع إنما هو لأجل الظرف، دون ما فيه. قال الشافعي: لا أزعم أن الماء الذي شرب ولا الطعام الذي أكل فيها محرم عليه، وكان الفعل من الشرب فيها معصية. فإن قيل: فكيف ينهى عنها ولا يحرم الماء فيها؟ قيل له - إن شاء الله - إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن الفعل فيها، لا عن تبرها، وقد فرضت فيها الزكاة، وتمولها المسلمون، ولو كانت نجساً لم يتمولها أحد، ولم يحل بيعها ولا شراؤها (¬2). وقد يتعقب هذا الاستدلال: بأن يقال: إن التحريم هنا لنفس الأكل والشرب، ولكن لعارض: وهو ¬
الدليل الرابع
كونهما في إناء محرم، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنما يجرجر في بطنه نار جهنم. ولا يكون هذا إلا لمحرم، وإنما يجرجر في بطنه الأكل والشرب دون الإناء، ومثله: مالك المعصوم إذا غصبه آخر، فإنه يحرم عليه لهذا العارض، كما في قوله تعالى: {إنما يأكلون في بطونهم ناراً} وإن كان المأكول ليس محرماً لذاته، وإنما هو لعارض. الدليل الرابع: أن الوضوء من آنية الذهب والفضة إنما يقع ذلك بعد رفع الماء من الإناء، وفصله عنه، فأشبه ما لو غرف بآنية الفضة في إناء آخر، ثم توضأ منه. وتعقب هذا: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الشارب من آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم، وهو حين انصباب الماء في بطنه يكون قد انفصل عن الإناء. دليل من قال لا تصح الطهارة من آنية الذهب والفضة. الدليل الأول: لما حرم استعمال الإناء، وكان في الشرب والتطهر منه معصية الله تعالى -التي هي استعمال الإناء المحرم- صار فاعل ذلك مجرجراً في بطنه نار جهنم بالنص، وكان في حال وضوئه وغسله عاصياً لله تعالى بذلك التطهر نفسه، ومن الباطل أن تنوب المعصية عن الطاعة، وأن يجزئ تطهير محرم عن تطهير مفترض. وأجيب: بأن هذا الكلام إنما يلتزمه من يرى تحريم استعمال آنية الذهب والفضة
الدليل الثاني
في غير الأكل والشرب، وقد بينت أن الراجح جواز استعمالهما في غير الأكل والشرب، وعلى التنزل بأن الاستعمال محرم، فإن هناك فرقاً بين التحريم والصحة، فقد يحرم الشيء ويكون صحيحاً، فلا تلازم بين التحريم والصحة، وقد قدمت بأن الفعل المحرم إذا كان في ركن العبادة أو شرطها أثر فيها، وأما إذا كان في أجنبي عنها، لم يؤثر فيها، والله أعلم. الدليل الثاني: قالوا: القياس على الصلاة في الدار المغصوبة، والحج من مال حرام، فكما أنه لا تصح الصلاة في الدار المغصوبة، ولا يصح الحج من مال حرام، فكذلك الطهارة في آنية الذهب والفضة. وتعقب من وجهين: الأول: لا نسلم عدم صحة الصلاة في الدار المغصوبة، وكذلك الحج من مال حرام، والقول بصحة الصلاة في الدار المغصوبة هو قول الجمهور، بل إن أصحاب القول الأول عكسوا هذا الدليل، فاستدلوا على صحة الصلاة بالأرض المغصوبة على صحة الطهارة من آنية الذهب والفضة (¬1). ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: أن هناك فرقاً بين الصلاة في الأرض المغصوبة، والوضوء من آنية الذهب والفضة، فالقيام والركوع والسجود في الدار المغصوبة محرم، وهي أمثال الصلاة، وأمثال الوضوء من الغسل والمسح ليست محرمة، كما أن المكان شرط في الصلاة لا يمكن وجودها إلا به، والإناء ليس بشرط، أشبه ما لو صلى، وفي يده خاتم ذهب (¬1). دليل من قال يعيد الطهارة ما دام في الوقت. ظاهر أن قول المالكية في هذه المسألة وفي ما شابهها ممن يطلبون الإعادة في الوقت، فإذا خرج الوقت لم يطلب منه الإعادة أنهم لا يرون وجوب الإعادة؛ لأن الذمة لو كانت مشغولة في وجوب الإعادة لم يكن هناك فرق بين الوقت وبين خارج الوقت. وقد قال بعضهم عن أصحاب مالك: إن كل موضع يقول فيه مالك: إنه يعيد في الوقت هو استحباب ليس بإيجاب (¬2). إلا أن يستدل في قصة المسيء صلاته، فإنه قال له: ارجع فصل فإنك لم تصل، فطلب منه الإعادة في الوقت، ولم يطلب منه إعادة كل ما صلى. فإن كانت الإعادة مستحبة، كان أدلة القول لا تخرج عن أدلة من يرى وجوب الإعادة، إلا أنه حمل الأمر على الاستحباب وغيره حملها على الوجوب. ¬
الراجح من الخلاف
الراجح من الخلاف: بعد استعراض أدلة كل فريق الذي يظهر لي أن القول بصحة الطهارة أرجح لقوة أدلته، وأن الصحة والتحريم على القول بتحريم الطهارة من آنية الذهب والفضة غير متلازمين، فقد يحرم الشيء ويصح، وقد يكون محرماً باطلاً، والنهي لم يكن عائداً للوضوء، وإنما هو لأمر خارج، والله أعلم.
المبحث الرابع في حكم اتخاذ أواني الذهب والفضة
المبحث الرابع في حكم اتخاذ أواني الذهب والفضة فرق بين هذه المسألة والتي قبلها؛ لأن الاستعمال يعني التلبس بالانتفاع، بينما الاتخاذ يعني أن يقتنيه دون أن ينتفع به، كأن يتخذه إما للزينة أو لغيرها. وقد اختلف العلماء في حكم اتخاذ أواني الذهب والفضة: فقيل: يحرم اتخاذ أواني الذهب والفضة، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: لا يحرم، وهو مذهب الحنفية (¬4)، وقول في مذهب المالكية (¬5)، الشافعية (¬6)، والحنابلة (¬7). ¬
دليل من قال بتحريم الاتخاذ
وقيل: يكره، اختاره بعض الحنابلة (¬1). دليل من قال بتحريم الاتخاذ. الدليل الأول: قالوا: إن كل ما لا يجوز استعماله لا يجوز اتخاذه (¬2). الدليل الثاني: قالوا: إن الاتخاذ ذريعة إلى الاستعمال، وسد الذريعة واجب (¬3). قال ابن عبد البر: " معلوم أن من اتخذها لا يسلم من بيعها أو استعمالها، لأنها ليست مأكولة ولا مشروب، فلا فائدة فيها غير استعمالها ... الخ (¬4). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: قالوا: إن العلة في تحريم الاستعمال هو أتسرف والخيلاء، وهي موجودة في الاتخاذ (¬1). الدليل الرابع: قوله - صلى الله عليه وسلم -: فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة، مفهومه أنها ليست لكم في الدنيا، وهو دليل على تحريم الاتخاذ والاستعمال (¬2). دليل من قال بجواز الاتخاذ, الدليل الأول: أن الخبر إنما ورد بتحريم استعمال آنية الذهب والفضة في الأكل والشرب فلا يتعداه إلى غيره. الدليل الثاني كل دليل استدلوا به على جواز الاستعمال، فقد استدلوا به على جواز الاتخاذ، لأنه لا يمكن أن يستعملها إلا وقد اتخذها. الدليل الثالث: جاء في الصحيحين أن الصحابي حذيفة رضي الله عنه اقتنى الآنية مع كونه يرى تحريم الشرب فيها، (116) فقد روى البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سيف بن أبي سليمان، قال: سمعت مجاهداً يقول: ¬
الدليل الرابع
حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى أنهم كانوا عند حذيفة، فاستسقى فسقاه مجوسي، فلما وضع القدح في يده رماه به، وقال: لولا أني نهيته غير مرة ولا مرتين، كأنه يقول: لم أفعل هذا، ولكني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة. ورواه مسلم (¬1). الدليل الرابع: قالوا: يجوز اتخاذ أواني الذهب والفضة قياساً على جواز اتخاذ ثياب الحرير، فإنها مع كونها يحرم استعمالها للرجال، فإنه يجوز للرجل أن يتخذها، ويتاجر فيها (¬2). وأجاب المانعون: بأن ثياب الحرير لا تحرم مطلقاً فإنها تباح للنساء، بينما آنية الذهب والفضة تحرم على الرجال والنساء، وإنما أبيح التحلي في حق المرأة لحاجتها إلى التزين للزوج والتجمل له، وهذا مقصور على الحلى، فتختص الإباحة به. وقد نقل النووي الإجماع على تحريم آنية الذهب والفضة على الجنسين: الرجل والمرأة (¬3). دليل من قال بالكراهة. حملوا أدلة من قال بالمنع أن المنع لكراهة التنزيه، وأن العلة عندهم ما ¬
دامت من أجل السرف والخيلاء فلا تصل للتحريم. وقد رددت هذا القول عند ذكر الخلاف باستعمال أواني الذهب والفضة. الراجح من هذا الخلاف: أن من قصر التحريم على الأكل والشرب فهو أسعد بالنص، والدليل على جواز الاتخاذ أقوى من دليل جواز الاستعمال، ذلك أن الأكل والشرب قد يقال: إنه نوع من الاستعمال، وإن كان النص على الأكل والشرب أخص من تحريم الاستعمال، وقد رأيت في نهاية هذا البحث أن أختمه بكلام نفيس لابن تيمية رحمه الله، حيث قال: " إذا كان تحريم الذهب والحرير على الرجال يقتضي شمول التحريم لأبعاض ذلك: بقي اتخاذ اليسير لحاجة أو مطلقاً، فاتخاذ اليسير فيه تفصيل، ولهذا تنازع العلماء في جواز اتخاذ الآنية بدون استعمالها، فرخص فيه أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد في قول، وإن كان المشهور عنهما تحريمه، إذ الأصل أن ما حرم استعماله حرم اتخاذه كآلات الملاهي. وأما إذا كانت الفضة التابعة كثيرة ففيها أيضاً قولان في مذهب الشافعي وأحمد، وفي تحديد الفرق بين الكثير واليسير، والترخيص في لبس خاتم الفضة أو تحلية السلاح من الفضة، وهذا فيه إباحة يسير الفضة مفرداً، لكن في اللباس والتحلي، وذلك يباح منه مالا يباح في باب الآنية، كما تقدم التنبيه على ذلك، ولهذا غلط بعض الفقهاء من أصحاب أحمد، حيث حكى قولاً بإباحة يسير الذهب تبعاً في الآنية عن أبي بكر عبد العزيز، وأبو بكر إنما قال ذلك في باب اللباس والتحلي كعلم الذهب ونحوه. وفي يسير الذهب في (باب اللباس) عن أحمد أقوال:
أحدها: الرخصة مطلقاً، لحديث معاوية: نهى عن الذهب إلا مقطعاً (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
والثاني: الرخصة في السلاح فقط. والثالث: في السيف خاصة. وفيه وجه بتحريمه مطلقاً، لحديث أسماء: لا يباح من الذهب ولا خريصة (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
والخريصة: عين الجرادة، لكن هذا يحمل على الذهب المفرد دون التابع، ولا ريب أن هذا محرم عند الأئمة الأربعة، لأنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن خاتم الذهب، وإن كان قد لبسه من الصحابة من لم يبلغهم النهي. ولهذا فرق أحمد وغيره بين يسير الحرير مفرداً كالتكة فنهى عنه، وبين يسير غيره تبعاً كالعلم، إذ الاستثناء وقع في هذا النوع فقط. فكما يفرق في الرخصة بين اليسير والكثير، فيفرق بين التابع والمفرد، ويحمل حديث معاوية إلا مقطعاً " على التابع لغيره، وإذا كانت الفضة قد رخص منها في باب اللباس والتحلي من اليسير، وإن كان مفرداً، فالذين رخصوا في اليسير أوالكثير التابع في الآنية ألحقوها بالحرير الذي أبيح يسيره تبعاً للرجال في الفضة التي أبيح يسيرها مفرداً أولاً. ولهذا أبيح -في أحد قولي العلماء-، وهو إحدى الروايتين عن أحمد -حلية المنطقة من الفضة وما يشبه ذلك من لباس الحرب كالخوذة، والجوشن، والران، وحمائل السيف. وأما تحلية السيف بالفضة فليس فيه خلاف. والذين منعوا قالوا: الرخصة وقعت في باب اللباس دون باب الآنية، وباب اللباس أوسع كما تقدم. ¬
وقد يقال: إن هذا أقوى، إذ لا أثر في هذه الرخصة والقياس كما ترى. وأما المضبب بالذهب، فهذا داخل في النهي، سواء كان قليلاً أو كثيراً. والخلاف المذكور في الفضة منتف هنا، لكن في يسير الذهب في الآنية وجه للرخصة فيه (¬1). فمن خلال هذا الكلام لابن تيمية يتبين لنا ما يلي: التفريق في الذهب والفضة بين المفرد والتابع. فيحرم مفرد الذهب ولو يسيراً، ويباح التابع في اللباس. والتفريق بينهما في باب الآنية، وباب اللباس. فباب اللباس أوسع من باب الآنية. كما أنه يدل على إباحة الخاتم من الفضة، وكذلك تحلية السيف، والذي يظهر لي أن الفضة الأصل فيها الحل إلا ما دل عليه الدليل كالنهي عن الأكل والشرب فيها، ولذلك اتخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - خاتماً من ورق، فالفرق بين الذهب والفضة ظاهر من حيث الأدلة، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث في الأواني المضببة بالذهب والفضة
الفصل الثالث في الأواني المضببة بالذهب والفضة ويشتمل على بحثين: المبحث الأول: في تضبيب الأواني بالذهب. المبحث الثاني: خلاف العلماء في التضبيب بالفضة.
المبحث الأول في تضبيب الأواني بالذهب
المبحث الأول في تضبيب الأواني بالذهب تعريف الضبة: جاء في المطلع على أبواب المقنع: المضبب: هو الذي عمل فيه ضبة. قال الجوهري: هي حديدة عريضة يضبب بها الباب - يريد والله أعلم- أنها في الأصل كذلك، ثم تستعمل من غير الحديد، وفي غير الباب. اهـ (¬1). وجاء في المغني في الإنباء: المضبب من الأقداح: هو الذي أصابه صدع: أي شق، فسويت له كتيفة عريضة من الفضة أو غيرها، وأحكم الصدع بها، فالكتفية يقال لها: ضبة، وجمعها: ضبات اهـ (¬2). وفي تحرير ألفاظ التنبية: الضبة: قطعة تسمر بها في الإناء ونحوه (¬3). وإذا عرفنا التضبيب بقي علينا أن نعرف حكم التضبيب بالذهب والفضة. فأما المضبب بالذهب فقد اختلف العلماء في حكم الأكل والشرب في الإناء المضبب بالذهب، فقيل: يجوز الأكل والشرب بالإناء المضبب بالذهب، وهو قول أبي ¬
حنيفة، ومحمد (¬1)، والقاضي أبي بكر من المالكية (¬2)، والخرسانيين من الشافعية، ونقله الرافعي عن معظم أصحاب الشافعي (¬3)، واختاره أبو بكر من الحنابلة (¬4)، وهو مذهب ابن حزم (¬5). وقيل: يكره، وهو اختيار أبي يوسف من الحنفية (¬6)، واختاره بعض المالكية (¬7). ¬
وقيل: يحرم التضبيب بالذهب مطلقا، سواء كثرت الضبة أو قلت، لحاجة أو لزينة، في موضع الاستعمال أو في غيره. وهو المشهور من مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: يباح الإناء المضبب بالذهب للنساء دون الرجال، وهو اختيار ابن حزم رحمه الله (¬4). وقيل: يباح التضبيب بالذهب بشرط أن يكون يسيراً، حكاه صاحب الإنصاف عن ابن تيمية، والمعروف عنه المنع (¬5). ¬
دليل من قال: يباح المضبب بالذهب.
دليل من قال: يباح المضبب بالذهب. الدليل الأول: قالوا: إن المحرم هو آنية الذهب والفضة، والمضبب بالذهب ليس إناء من ذهب، فلم يقع عليه النهي، والأصل الحل حتى يقوم دليل على المنع، والقدر الموجود من الذهب في الإناء هو تابع، وليس بمتبوع، ولذلك لا يجوز لبس الحرير للرجل، وأبيح له لبسه إذا كان تابعاً كما لو كان يسيراً أو كان معلماً بقدر أربعة أصابع فما دون. الدليل الثاني: لما استوت الفضة بالذهب في التحريم في باب الآنية، فيحرم إناء الفضة كما يحرم إناء الذهب، فكذلك ينبغي أن يستويا في الضبة، فإذا كانت الضبة من الفضة جائزة، فكذلك الضبة من الذهب. وأجيب: بأنه لا يصح القياس على الفضة؛ لأن باب الفضة أوسع، ولذلك أبيح منه الخاتم وقبيعة السيف. دليل من قال: يحرم التضبيب بالذهب. قالوا: الأصل أن الضبة محرمة مطلقاً سواء كانت من ذهب أو فضة، جاء الدليل في جواز التضبيب بالفضة، فبقي الذهب على أصله في التحريم. الدليل الثاني: قالوا: إذا استعمل جزءاً من الإناء فقد استعمله كله، فيكون مستعملاً
دليل من قال: يكره التضبيب.
للذهب المحرم (¬1). دليل من قال: يكره التضبيب. قالوا: إن العلة في تحريم الإناء هي الإسراف والخيلاء، وهذه العلة لا تقتضي التحريم، وإنما تقتضي الكراهة. وقد أجيب على هذا التعليل في المسألة السابقة. دليل من قال: يحرم على الرجال خاصة. قال: إن تحريم المضبب من الذهب على الرجال دون النساء، ليس لأنه إناء من ذهب، وإلا لحرم على الرجال والنساء، فالمضبب بالذهب غير إناء الذهب، ولكن لأن الذهب يحرم استعماله مطلقاً على الرجال دون النساء، وإذا كان الذهب حراماً على الرجال، حرم المضبب بالذهب. والله أعلم. ¬
المبحث الثاني خلاف العلماء في التضبيب بالفضة
المبحث الثاني خلاف العلماء في التضبيب بالفضة ذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3) إلى جواز التضبيب بالفضة على خلاف بينهم في شروط جواز ذلك (¬4). ¬
دليل من قال بالجواز.
وقيل: لا يجوز التضبيب بالفضة مطلقاً، سواء كانت الضبة يسيرة أم لا، وسواء ألجأت إلى ذلك حاجة أم لا، وسواء كانت الضبة في مضوع الاستعمال أم لا، وهذا القول هو الأصح من قولي مالك (¬1)، ورواية عن أحمد (¬2) .. قال الخطابي: منعه مطلقاً جماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول الليث (¬3)، وهو مذهب ابن عمر رضي الله عنهما، وعائشة وغيرهما (¬4). وقيل: يكره، وهو قول في مذهب المالكية (¬5). دليل من قال بالجواز. (117) قال البخاري: حدثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن عاصم، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلةً من فضة. قال عاصم: رأيت القدح وشربت فيه (¬6). ¬
الدليل الثاني: من النظر، قالوا: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن آنية الفضة، والمضبب بالفضة ليس إناء فضة فلا يدخل في النهي، والأصل الحل حتى يرد دليل صحيح صريح على تحريم المضبب، ولا دليل. الدليل الثالث: (118) ما رواه الطبراني في المعجم الكبير، قال: حدثنا بابويه بن خالد الأيلي، ثنا عمر بن يحيى الأيلي، ثنا معاوية بن عبد الكريم الضال، ثنا محمد بن سيرين، عن أخته، عن أم عطية قالت: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الذهب وتفضيض الأقداح، فكلمه النساء في لبس الذهب فأبى علينا، ورخص لنا في تفضيض الأقداح (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
دليل من قال بالتحريم.
دليل من قال بالتحريم. الدليل الأول: (119) ما رواه الدارقطني، قال: نا عبد الله بن محمد بن إسحاق الفاكهي، نا أبو يحيى بن أبي ميسرة، نا يحيى بن محمد الجاري، نا زكريا بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من شرب من إناء ذهب أو فضة، أو إناء فيه شيء من ذلك، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم (¬1). [إسناده ضعيف، وزيادة أو إناء فيه شيء من ذلك زيادة منكرة] (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (120) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان لا يشرب من قدح فيه حلقة فضة ولا ضبة فضة (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الثالث: (121) ما رواه البيهقي، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا يحيى بن أبي طالب، أنبأ عبد الوهاب بن عطاء، أنا سعيد، عن ابن سيرين، عن عمرة، أنها قالت: كنا مع عائشة رضي الله عنها فما زلنا بها حتى رخصت لنا في الحلي، ولم ترخص لنا في الإناء المفضض. ¬
قال عبد الوهاب: قال سعيد هو ابن أبي عروبة: حملناه على الحلقة ونحوها (¬1). [في إسناده يحيى بن أبي طالب مختلف فيه، وقد توبع] (¬2). ¬
جواب المانعين من التضبيب عن أدلة القول الأول. أما الجواب عن حديث أنس رضي الله عنه في البخاري، أن قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلةً من فضة، فالفاعل هو أنس رضي الله عنه، وفعله هذا معارض برأي غيره من الصحابة كابن عمر وغيره ممن قدمنا كما في الرواية الأخرى عند البخاري، (122) قال البخاري، حدثنا الحسن بن مدرك، قال: حدثني يحيى بن حماد، أخبرنا أبو عوانة، عن عاصم الأحول، قال: رأيت قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع، فسلسله بفضة، قال: وهو قدح جيد عريض من نضار، قال: قال أنس: لقد سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا القدح أكثر من كذا وكذا. قال: وقال ابن سيرين: إنه كان فيه حلقة من حديد، فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة، فقال له أبو طلحة: لا تغيرن شيئاً صنعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتركه (¬1). ورواه البيهقي من طريق أبي حمزة السكري، عن عاصم بن سليمان، عن ابن سيرين، عن أنس، وفيه: ثم إن قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - انصدع فجعلت مكان الشعب سلسلة من فضة (¬2). ورجاله ثقات. قال الباجي: يحتمل أن يكون أنس سلسله بفضة بعد زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعد وفاة أبي طلحة الذي منعه من ذلك. وجزم بذلك ابن الصلاح، قال رحمه الله: فاتخذ يوهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو ¬
المتخذ: وليس كذلك بل أنس هو المتخذ. ففي رواية قال أنس. فجعلت مكان الشعب سلسلة (¬1). تعقب ذلك ابن حجر في تلخيص الحبير، فقال: فيه نظر؛ لأن في الخبر عند البخاري عن عاصم قال: وقال ابن سيرين إنه كان فيه حلقة من حديد، فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة، فقال أبوطلحة: لا تغيرن شيئاً صنعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فهذا يدل على أنه لم يغير فيه شيئاً. اهـ (¬2). قلت: يحتمل أن يكون الشعب في الحلقة، فأراد أنس أن يغيرها بأن يجعلها من ذهب أو فضة، فنهاه أبو طلحة، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة، وأبقى على حلقة الحديد، ويحتمل أن يكون الشعب في الإناء في غير مكان الحلقة، ويكون الخلاف مع أبي طلحة في الحلقة، ولم يغيرها أنس، أما التضبيب فلم يكن بينهم خلاف، وفرق بين تضبيب الحلقة أو الإناء، وبين أن تكون الحلقة كلها من الذهب أو الفضة الخالص، وعلى كلا الاحتمالين يترجح أن يكون الفاعل هو أنس رضي الله عنه، وإذا كانت الرواية الأولى في البخاري والتي بلفظ " أن قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة، تحتمل أن يكون الفاعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتحتمل أن يكون الفاعل أنساً، فإن الرواية الأخرى صريحة بأن الفاعل هو أنس، وينبغي أن يحمل المتشابه على المحكم. والله أعلم. ومع أنه لا دلالة في حديث أنس كما بينت، إلا أن الراجح أن التضبيب بالفضة جائز، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن الشرب في آنية الفضة، ولا يقال للإناء إذا ضبب بالفضة: إنه إناء من فضة، فلا يدخل في النهي، والله أعلم. ¬
الفصل الرابع في آنية الكفار
الفصل الرابع في آنية الكفار اختلف الفقهاء في حكم آنية الكفار ومثلها ثيابهم، هل يحكم بطهارتها بناء على أن أصلها الطهارة، أو يحكم بنجاستها بناء على أن الظاهر منهم عدم توقيهم النجاسة، اختلف الفقهاء في ذلك: فقيل: يكره استعمال أواني المشركين وثيابهم قبل غسلها، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يجب غسل ما استعملوه من الآنية والثياب، ولا يجب غسل ما صنعوه ولم يستعملوه، وهو مذهب مالك (¬2). ¬
دليل من قال بالكراهة.
وقيل: إن تيقن طهارتها لم يكره له استعمالها، وإن لم يتيقن طهارتها كره له استعمالها مطلقاً حتى يغسلها، سواء كان الكافر كتابياً أو غيره، وسواء كان يتدين باستعمال النجاسة أم لا، وهو مذهب الشافعية (¬1). وقيل: يباح استعمالها حتى يعلم نجاستها، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يجب غسل أواني من لا تحل ذبيحته من المشركين كالمجوس والوثنيين، ونحوهم، بخلاف أهل الكتاب وهو قول في مذهب الحنابلة (¬3). دليل من قال بالكراهة. (123) استدل بما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا حيوة، قال: أخبرني ربيعة بن يزيد الدمشقي، عن أبي إدريس، عن أبي ثعلبة الخشني، قال: قلت يا نبي الله إنا بأرض قوم من أهل الكتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ وبأرض صيد أصيد بقوسي، وبكلبي الذي ¬
دليل المالكية على التفريق بين ما استعملوه وبين ما نسجوه.
ليس بمعلم، وبكلبي المعلم فما يصلح لي؟ قال: أما ما ذكرت من أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل وما صدت بكلبك غير معلم فأدركت ذكاته فكل (¬1). وجه الاستدلال من الحديث: قالوا: نهى عن استعمالها مع وجود غيرها، وهذا مطلق سواء تيقنا طهارتها، أم لا، والأصل في النهي أنه للمنع، لكن لما قال سبحانه وتعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} (¬2)، ومعلوم أن طعامهم مصنوع بأيديهم ومياههم، وفي أوانيهم، فدل ذلك على طهارة ذلك كله، وأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - طعام أهل الكتاب، في أحاديث صحيحة، فدل على أن النهي ليس للتحريم، وإنما هو للكراهة، والله أعلم. دليل المالكية على التفريق بين ما استعملوه وبين ما نسجوه. استدلو بحديث أبي ثعلبة المتقدم على وجوب غسل ما استعملوه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسلها، والأصل في الأمر الوجوب. ولأن الغالب على آنية الكفار وثيابهم النجاسة، لأنهم يطبخون فيها لحوم الخنزير ويأكلون فيها الميتة، وإذا تعارض الأصل (وهي كونها طاهرة) مع الغالب وهو استعمال النجاسة فيها، قدم الغالب على الأصل، فكل ما ¬
دليل من قال: يباح استعمال آنية المشركين.
غلب على ظننا نجاسته حكمنا بنجاسته. ووجه التفريق عند المالكية بين ما استعلموه وبين ما نسجوه، أن ما نسجوا يتقون فيه بعض التوقي، لئلا يفسد عليهم، بخلاف ما لبسوه. وأجاب ابن العربي على ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يصيبون من آنية المشركين وأسقيتهم، فلا يعيب ذلك عليهم، قال: إن صح فمحمول على أنهم كانوا يستعملون ذلك بشرطه، وهو الغسل، أو يكون محمولاً على استعمال الأواني التي لا يطبخ فيها. اهـ (¬1). دليل من قال: يباح استعمال آنية المشركين. الدليل الأول: (124) ما رواه مسلم، قال: حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا سليمان- يعني: ابن المغيرة- حدثنا حميد بن هلال، عن عبد الله بن مغفل قال: أصبت جراباً من شحم يوم خيبر قال: فالتزمته. فقلت: لا أعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً. قال: فالتفت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متبسماً. ورواه البخاري وهذا اللفظ لمسلم (¬2). فالجراب آنية من آنياتهم، ولو كان غسل الإناء واجباً لنجاسته لتنجس الظرف وما فيه. الدليل الثاني: (125) ما أخرجه البخاري بسنده من حديث أبي هريرة، في قصة ¬
الدليل الثالث
وضع اليهود السم للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم؟ قالوا: نعم. قال: هل وضعتم في هذه الشاة سماً؟ قالوا: نعم. قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذباً نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأكل من طعامهم في آنيتهم. الدليل الثالث: (126) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الأعلى، عن برد، عن عطاء، عن جابر، قال: كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم، فنستمتع بها، فلا يعاب علينا (¬2). [إسناده حسن والحديث صحيح لغيره] (¬3). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (127) ما أخرجه البخاري من حديث عمران بن حصين الطويل، وقد ¬
الدليل الرابع
جاء فيه أن النبي وأصحابه شربوا من مزادة امرأة مشركة، وأن أحد الصحابة كان مجنباً فاغتسل من ذلك الماء. والحديث في صحيح مسلم دون قصة اغتسال الجنب (¬1). الدليل الرابع: (128) ما رواه الشافعي في الأم، قال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب توضأ من ماء نصرانية في جرة نصرانية (¬2). [رجاله ثقات إلا أن ابن عيينة لم يسمعه من زيد بن أسلم] (¬3). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: قالوا: الأصل في أواني المشركين الطهارة والحل حتى يقوم دليل على المنع أو على النجاسة، ولم يقم دليل على ذلك، ولا يحكم بنجاستها بمجرد الشك، والشك لا يقضي على اليقين. لكن يشكل على هذا القول حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه حيث نهاهم عنها مع وجود غيرها، فإن لم يوجد إلا هي أذن لهم باستعمالها بعد غسلها. وأجابوا عن ذلك بوجهين: الأول: أن الغسل هو من باب الاحتياط والاستحباب. الثاني: أن حديث أبي ثعلبة الخشني في قوم كانوا يأكلون في آنيتهم الميتة والخنزير، ويشربون فيها الخمر، ولذا أمر بغسلها إن لم يوجد غيرها، أما من يعلم أنهم لا يأكلون فيها الميتة ولا يشربون فيها الخمر فآنيتهم كآنية المسلمين، (129) ويدل على هذا ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، أن أبا ثعلبة الخشني قال: يا رسول الله إنى بأرضٍ أهلها أهل الكتاب، يأكلون لحم الخنزير، ويشربون الخمر، فكيف بآنيتهم وقدورهم؟ فقال: دعوها ما وجدتم منها بداً، فإذا لم تجدوا منها بداً فارحضوها بالماء، أو قال: اغسلوها ثم اطبخوا فيها وكلوا. قال: وأحسبنه قال: واشربوا (¬1). [أبو قلابة لم يسمع من أبي ثعلبة الخشني، واختلف في ذكر زيادة لحم ¬
الخنزير وشرب الخمر، والحديث في الصحيحين وليس فيه هذه الزيادة] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل من فرق بين أهل الكتاب وغيرهم.
دليل من فرق بين أهل الكتاب وغيرهم. قالوا: إن غير أهل الكتاب ذبيحتهم ميتة، فهم يطبخونها في آنيتهم، فتتنجس، بخلاف أهل الكتاب فإن ذبيحتهم طاهرة إذا كانت مما يحل أكله. وهذا القول ضعيف أيضاً، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه شربوا من آنية مزادة امرأة مشركة كما سبق تخريجه من حديث عمران بن حصين، وكانوا يساكنون المشركين الوثنيين في مكة كثيراً، وربما كان المسلم يعيش بين أبوين كافرين، وكان يدعو بعضهم بعضاً إلى الطعام، ولم ينقل أنهم كانوا يدعون ذلك، ويتحاشونه، ولو وجد لنقل، والله أعلم. الراجح من الخلاف: الذي ظهر لي من الأدلة أن حديث أبي ثعلبة الخشني فيه النهي عن استعمالها، والأمر بغسلها إذا لم يوجد غيرها، وكان من الممكن حمل النهي ¬
على ظاهره، وأنه للتحريم لولا الأحاديث الكثيرة من فعله - صلى الله عليه وسلم - وفعل أصحابه من أكلهم في آنية أهل الكتاب، وتطهرهم منها، مما يجعل النهي ليس على ظاهره، وإنما يحمل على الكراهة، وأن الأمر بغسلها لم يكن للوجوب، وهذا يجري على القاعدة الفقهية النافعة: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر بشي، ثم تركه، ولم يأت دليل يدل على الخصوصية، دل ذلك على أن الأمر لم يكن للوجوب، وإنما هو للندب، وإذا نهى عن شيء ثم فعله، ولم يكن فيه دليل يدل على الخصوصية، دل ذلك على أن النهي ليس للتحريم، وإنما هو للكراهة، والله أعلم.
الفصل الخامس في الأواني المتخذة من الميتة
الفصل الخامس في الأواني المتخذة من الميتة ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في الأواني المتخذة من جلود الميتة. المبحث الثاني: في الآنية المتخذة من عظام الميتة وقرنها وحافرها. المبحث الثالث: في الآنية المتخذة من شعر الميتة، وصوفها ووبرها.
المبحث الأول في الأواني المتخذة من جلود الميتة
المبحث الأول في الأواني المتخذة من جلود الميتة الأواني من الجلود كانت معروفةً عند الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا هذا خاصة في بعض المجتمعات الإسلامية، والكلام في جواز الانتفاع من أواني الجلود مبني على خلاف في الدباغ، هل يطهر أم لا؟ وإذا كان لا يطهر، فهل يباح استعماله مع نجاسته، أم لا؟ فكان علينا -حتى نتصور حكم المسألة- أن نبين هل الدباغ يطهر جلود الميتة أم لا؟، وهل يباح الانتفاع به قبل أو بعد الدبغ أم لا؟ فأقول: اختلف العلماء في حكم هذه المسألة: فقيل: الدباغ يطهر جميع الجلود، إلا جلد الإنسان والخنزير، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: لا يطهر جلد الميتة بالدباغ، وقبل الدبغ لا ينتفع بالجلد مطلقاً، وهو مذهب مالك (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وأما بعد الدبغ فيباح استعماله في يابس عندهما، وفي الماء عند ¬
المالكية (¬1). وقيل: الدباغ يطهر جميع جلود الميتة بما في ذلك جلود ما لا يؤكل لحمه، إلا الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما، وهو مذهب الشافعية (¬2). وقيل: الدباغ لا يطهر إلا ما تحله الذكاة، وهو رواية عن مالك (¬3)، واختاره أبو ثور (¬4)، ورجحه بعض الحنابلة كالمجد وابن رزين وابن عبد القوي (¬5)، وابن تيمية (¬6). وقيل: الدباغ يطهر كل حيوان طاهر في الحياة، وهو رواية عن أحمد، واختارها بعض أصحابه، وهو رواية ثانية عن ابن تيمية (¬7). وقيل: الدباغ يطهر جميع الجلود حتى جلد الكلب والخنزير، وهو ¬
دليل من قال الدباغ لا يطهر وينتفع به بعد الدبغ في يابس أو ماء.
مذهب الظاهرية (¬1). فتلخص لنا من هذا الخلاف أمران: أحدهما: يتعلق بطهارة الجلد. وثانيهما: يتعلق بالانتفاع به. فقيل: الدباغ لا يطهر مطلقاً. وقيل: يطهر مطلقاً. وقيل: يطهر جميع الجلود إلا الكلب والخنزير والإنسان. وقيل: يطهر ما تحله الذكاة. وقيل: يطهر ما كان طاهراً في الحياة، وإن كان محرماً أكله. وأما يتعلق بالانتفاع به، فقيل: يباح الانتفاع بالجلود مطلقا، سواء دبغت أم لا (¬2). وقيل: يباح الانتفاع بها بشرط الدبغ. وقيل: يباح الانتفاع بها في يابس وقيل: في يابس وماء. وهاك دليل كل قول من هذه الأقوال: دليل من قال الدباغ لا يطهر وينتفع به بعد الدبغ في يابس أو ماء. قولهم مركب من ثلاث مسائل، لكل مسألة لهم فيها دليل، منها نجاسة ¬
جلد الميتة ولو دبغ، وأن الدباغ لا يطهر، وأنه يباح الانتفاع به في يابس أو ماء. فأما دليلهم على نجاسة جلد الميتة ولو دبغ، فقالوا: إن الجلد جزء من الميتة، وقد قال سبحانه وتعالى: {حرمت عليكم الميتة} (¬1)، فلم يطهر بالدباغ كاللحم. ولأن الجلد حرم بالموت فكان نجساً، كما كان قبل الدبغ. والجواب أن يقال: أولاً: أنتم لا تقولون بنجاسة شعر الميتة إذا جز، وهو جزء من الميتة، وسبب النجاسة في الميتة هو احتقان الدم فيها واحتباسه، ولذلك مالا نفس له سائلة لا ينجس بالموت، والجلد إذا دبغ فالدباغ ينشف رطوبته ويجففه، فالميتة ثلاثة أقسام: منها ما هو طاهر مطلقاً كالشعر إذا جز، سواء جز في حال الحياة، أو بعد الموت. ومنها ما لا يطهر بحال كاللحم، والدم المسفوح. ومنه ما يحكم بنجاسته ما دام متصلاً برطوبة النجاسة ودمها، فإذا دبغ قطعت عنه هذه النجاسات، فأصبح طاهراً. ونجاسة الجلد قبل الدباغ كنجاسة الثوب، فإذا دبغ قطعت عنه النجاسة (¬2). (130) وأما دليلهم على تحريم الانتفاع به قبل الدبغ، فهو ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ¬
ليلى، عن عبد الله بن عكيم، قال: أتانا كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنا غلام، أن لا تنتفعوا بإهاب ميتة، ولا عصب (¬1). [رجاله ثقات إلا أن عبد الله بن عكيم لم يثبت له سماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مرسل، وقد اختلف في إسناده اختلافاً كثيراً] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وأجيب: أولاً: ضعف حديث عبد الله بن عكيم. ثانيا: لو صح الحديث، فلا حجة فيه؛ لأن الإهاب اسم للجلد قبل الدبغ. قال أبو داود: قال النضر بن شميل، وإنما يسمى إهاباً ما لم يدبغ (¬1). وقال البيهقي: وهو محمول عندنا على ما قبل الدبغ ... الخ (¬2). ¬
وقال ابن حبان: ومعنى خبر عبد الله بن عكيم: " أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب " يريد به قبل الدباغ، والدليل على صحته قوله - صلى الله عليه وسلم -: أيما إهاب دبغ فقد طهر (¬1). وقال ابن حجر: وأقوى ما تمسك به من لم يأخذ بظاهره معارضة الأحاديث الصحيحة له، وأنها عن سماع، وهذا عن كتابة، وأنها أصح مخارج. وأقوى من ذلك: الجمع بين الحديثين بحمل الإهاب على الجلد قبل الدباغ، وأنه بعد الدباغ لا يسمى إهاباً، وإنما يسمى قربة وغير ذلك، وقد نقل ذلك عن أئمة اللغة كالنضر بن شميل، وهذه طريقة ابن شاهين، وابن عبد البر، والبيهقي، وأبعد من جمع بينهما بحمل النهي على جلد الكلب والخنزير لكونهما لا يدبغان، وكذا من حمل النهي على باطن الجلد، والإذن على ظاهره " اهـ. وقول الحنابلة: إن حديث عبد الله بن عكيم ناسخ لما قبله، فهذا أيضاً قول فيه ضعف: أولاً: مبني على الحكم بتأخره، وهذا غير مقطوع به، وكونه جاء في حديث عبد الله بن عكيم قبل وفاته بشهر أو بشهرين ليس جزماً بالتأخير؛ لأنه قد يكون قوله " إذا دبغ الإهاب فقد طهر " قبل موته بيوم أو يومين (¬2). ثانياً: لا يصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع، وهذا الجمع غير متعذر، ¬
دليلهم على جواز الانتفاع بعد الدبغ في يابس وماء
كما سبق في حمل الإهاب على الجلد قبل الدبغ. ثالثاً: أن القول بالنسخ إبطال لإحد الدليلين، وعمل بدليل واحد، قد يكون الصواب خلافه، بينما الجمع يقتضي العمل بالدليلين معاً دون مناقضة بينهما. وذهب ابن تيمية إلى أنه ناسخ لإباحة الانتفاع قبل الدبغ، وليس ناسخاً للانتفاع مطلقاً، قال ابن تيمية رحمه الله: " ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إنما حرم من الميتة أكلها، ثم إنه حرم لبسها قبل الدباغ، وهذا وجه قوله في حديث عبد الله بن عكيم: كنت رخصت لكم في جلود الميتة، فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب، فإن الرخصة متقدمة كانت في الانتفاع بالجلود بلا دباغ كما ذهب إليه طائفة من السلف، فرفع النهي عما أرخص فأما الانتفاع بها بعد الدباغ فلم ينه عنه قط، ولهذا كان آخر الروايتين عن أحمد أن الدباغ مطهر لجلود الميتة (¬1). وأما دليلهم على جواز الانتفاع بعد الدبغ في يابس وماء. الدليل الأول: (131) ما رواه مالك، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أمه، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت (¬2). ¬
الدليل الثاني
[إسناده ضعيف] (¬1). ولو صح الحديث لكان فيه دليل على إطلاق الانتفاع، وليس مقصوراً على اليابس والماء. الدليل الثاني: (132) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وابن أبي عمر جميعا، عن ابن عيينة، قال يحيى: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت، فمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به. فقالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها. قال أبو بكر وابن أبي عمر في حديثهما عن ميمونة رضي الله عنها (¬2). ¬
الدليل الثالث
وجه الاستدلال: قوله: هلا أخذتم إهابها فدبغتموه، فانتفعتم به. فجعل الانتفاع مرتباً على الدباغ، فدل على أن الانتفاع قبل الدبغ، لا يجوز. وأجيب: بأن لفظ فدبغتموه غير محفوظ، وسوف يأتي بيان ذلك في أدلة من قال بإباحة الانتفاع مطلقاً بالجلد، سواء دبغ أم لا. الدليل الثالث: (133) ما رواه أحمد، قال: ثنا عفان، ثنا أبو عوانة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ماتت شاة لسودة بنت زمعة، فقالت: ثَمَّ يا رسول الله ماتت فلانة- يعني الشاة- فقال: فلولا أخذتم مسكها، فقالت: ينفذ مسك شاة قد ماتت، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما قال الله عز وجل {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير} (¬1) فإنكم لا تطعمونه أن تدبغوه، فتنتفعوا به، فأرسلت إليها، فسلخت مسكها، فدبغته، فأخذت منه قربة حتى تخرقت عندها (¬2). [إسناده ضعيف رواية سماك عن عكرمة مضطربة] (¬3). ¬
دليل من قال الدباغ يطهر جميع الجلود.
دليل من قال الدباغ يطهر جميع الجلود. الدليل الأول: (134) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، أن عبد الرحمن بن وعلة أخبره، ¬
عن عبد الله بن عباس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا دبغ الإهاب فقد طهر. [صححه مسلم، وضعفه الإمام أحمد] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
فجعل الدباغ شرطاً لطهارة عينه، فإذا دبغ كان طاهراً، وإذا كان طاهراً كان الانتفاع به مباحاً، وقوله: إذا دبغ الإهاب أو إيما إهاب دبغ دليل على العموم، فلا يستثنى منه شيء حتى إهاب الكلب والخنزير. قال ابن عبد البر: المقصود بهذا الحديث مالم يكن طاهراً من الأهب، كجلود الميتات، وما لا تعمل فيه الذكاة من السباع عند من حرمها؛ لأن الطاهر لا يحتاج إلى الدباغ للتطهير، ومستحيل أن يقال في الجلد الطاهر: إنه إذا دبغ فقد طهر، وهذا يكاد علمه يكون ضرورة، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: أيما إهاب دبغ فقد طهر: نص ودليل: فالنص طهارة الإهاب بالدباغ، والدليل منه أن كل إهاب لم يدبغ فليس بطاهر، وإذا لم يكن طاهراً، فهو نجس، والنجس رجس محرم، فبهذا علمنا أن المقصود بذلك القول جلود الميتة. وإذا كان ذلك كذلك، كان هذا الحديث معارضاً لرواية من روى في هذه الشاة الميتة: إنما حرم أكلها، ومبيناً لمراد الله تعالى في قوله عز وجل: {حرمت عليكم الميتة} (¬1). وبطل بنص هذا الحديث قول من قال: إن الجلد من الميتة لا ينتفع به بعد الدباغ، وبطل بالدليل منه قول من قال: إن جلد الميتة وإن لم يدبغ، يستمتع به، وينتفع (¬2). الدليل الثاني: (135) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا مسعر، عن عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن أخيه، ¬
الدليل الثالث
عن ابن عباس قال: أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ من سقاء، فقيل له: إنه ميتة، فقال: دباغه يذهب خبثه أو رجسه أو نجسه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثالث: (136) ما رواه الدارقطني، قال: نا محمد بن مخلد وآخرون، قالوا: ¬
حدثنا إبراهيم بن الهيثم، نا علي بن عياش، نا محمد بن مطرف، نا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: طهور كل أديم دباغه. قال الدارقطني: إسناد حسن كلهم ثقات (¬1). ¬
الدليل الرابع
فقوله: " كل أديم " نص على العموم. الدليل الرابع: (137) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن غيلان، قال: حدثنا رشدين بن سعد، قال: حدثني عمرو بن الحارث، أن كثير بن فرقد حدثه، أن عبد الله بن مالك بن حذافة حدثه، عن أمه العالية بنت سميع أو سبيع- الشك من عبد الله- أن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحمار، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو أخذتم إهابها. قالوا: إنها ميتة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يطهرها الماء والقرظ (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (138) ما رواه الدارقطني، قال: ثنا أبو بكر النيسابوري، نا محمد بن عقيل بن خويلد نا، حفص بن عبد الله، نا إبراهيم بن طهمان، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: أيما اهاب دبغ فقد طهر. ¬
قال الدراقطني: إسناد حسن (¬1). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (139) ما رواه الدراقطني، من طريق فرج بن فضالة، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن أم سلمة، أنها كانت لها شاة تحتلبها، ففقدها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما فعلت الشاة؟ قالوا: ماتت. قال: أفلا انتفعتم بإهابها؟ قلنا: إنها ميتة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن دباغها يحل كما يحل خل الخمر. قال الدراقطني: تفرد به فرج بن فضالة وهو ضعيف (¬1). الدليل السابع: (140) وروى الدارقطني، من طريق الواقدي، نا معاذ بن محمد الأنصاري، عن عطاء الخرساني، عن سعيد بن المسيب، عن زيد بن ثابت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: دباغ جلود الميتة طهورها (¬2). ¬
الدليل الثامن
[ضعيف جداً]. الدليل الثامن: من النظر، قال الطحاوي: رأينا الأصل المجتمع عليه، أن العصير لا بأس بشربه، والانتفاع به، ما لم يحدث فيه صفات الخمر، فإذا حدثت فيه صفات الخمر حرم بذلك، ثم لا يزال حراماً كذلك حتى تحدث فيه صفات الخل، فإذا حدثت فيه صفات الخل حل، فكان يحل بحدوث الصفة ويحرم لحدوث صفة غيرها، وإن كان بدناً واحداً، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك جلد الميتة، يحرم بحدوث صفة الموت فيه، ويحل بحدوث صفة الأمتعة فيه من الثياب وغيرها فيه، وإذا دبغ فصار كالجلود والأمتعة فقد حدثت فيه صفة الحلال، فالنظر على ما ذكرنا أن يحل أيضا بحدوث تلك الصفة فيه. وحجة أخرى أن قد رأينا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أسلموا لم يأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطرح نعالهم وخفافهم وأنطاعهم التي كانوا اتخذوها في حال جاهليتهم، وإنما كان ذلك من ميتة، أو من ذبيحة، فذبيحتهم حينئذ إنما كانت ذبيحة أهل الأوثان، فهي في حرمتها على أهل الإسلام كحرمة الميتة، فلما لم يأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطرح ذلك، وترك الانتفاع به، ثبت أن ذلك كان قد خرج من حكم الميتة ونجاستها بالدباغ إلى حكم سائر الأمتعة وطهارتها، وكذلك كانوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتحوا بلدان المشركين لا يأمرهم بأن يتحاموا خفافهم ونعالهم وأنطاعهم وسائر جلودهم، فلا يأخذوا من ذلك شيئاً، بل كان لا يمنعهم شيئاً من ذلك، فذلك دليل أيضا على طهارة الجلود بالدباغ (¬1). ¬
دليل من استثنى جلد الكلب والخنزير.
دليل من استثنى جلد الكلب والخنزير. أخذ الحنفية والشافعية بعموم حديث: أيما إهاب دبغ فقد طهر (¬1)،وعموم حديث عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت (¬2)، قال الشافعي: وجلود ما لا يؤكل لحمه من السباع قياساً عليها إلا جلد الكلب والخنزير فإنه لا يطهر بالدباغ؛ لأن النجاسة فيهما وهما حيان قائمة، وإنما يطهر بالدباغ ما لم يكن نجسا حياً (¬3). وقالوا: إن العموم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: أيما إهاب دبغ، أراد بهذا العموم الجلود المعهود الانتفاع بها، وأما جلد الخنزير فلم يدخل في هذا المعنى؛ لأنه لم يدخل في السؤال؛ لأنه غير معهود الانتفاع بجلده (¬4). إلا أن الحنفية يرون طهارة جلد الكلب بالدباغ، لأنهم لم يستثنوا إلا الخنزير، فجلد الخنزير عندهم ليست نجاسته لما فيه من الدم والرطوبة، بل هو نجس العين، وبالتالي لا يمكن تطهيره بخلاف الكلب. واستثنى الحنفية جلد الإنسان، وعللوا ذلك بكونه لا يجوز الانتفاع به لاحترامه. دليل من قال بجواز الانتفاع بجلود الميتة ولو لم تدبغ. الدليل الأول: قالوا: لم يصح في الدباغ شيء (¬5). ¬
الدليل الثاني
وأجيب: بأن هذا لو سُلِّم في بعضها، لم يُسَلَّم في المجموع. الدليل الثاني: (141) ما رواه البخاري، قال: حدثنا سعيد بن عفير، حدثنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، حدثني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال وجد النبي صلى الله عليه وسلم شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم هلا انتفعتم بجلدها قالوا إنها ميتة قال إنما حرم أكلها، ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما حرم أكلها، فجعل تحريم الميتة في الأكل خاصة، هذا من وجه، ومن وجه آخر، أنه حضهم على الانتفاع بجلدها، ولم يشترط الدباغ، فلو كان الدباغ شرطاً لذكره. فهذا الحديث يدل على أن التحريم لم يتناول الجلد، وإنما ذكر الدباغ لإبقاء الجلد وحفظه، لا لكونه شرطاً في الحل (¬2). (142) وأما ما رواه مسلم من طريق ابن عيينة، عن ابن شهاب به، بلفظ: هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به، فقالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها (¬3). ¬
فالجواب: أن يقال: انفرد ابن عيينة بذكر الدباغ في هذا الحديث، وهو غير محفوظ (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل من قال: الدباغ لا يطهر إلا ما تطهره الذكاة.
دليل من قال: الدباغ لا يطهر إلا ما تطهره الذكاة. الدليل الأول: (143) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن الحسن، عن جون بن قتادة، عن سلمة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى على بيت قدامه قربة معلقة، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - الشراب، فقالوا: إنها ميتة، فقال: دباغها ذكاتها (¬1). [إسناده ضعيف والحديث روي بلفظين: أحدهما هذا وبلفظ: دباغها طهورها، وعلى اللفظ الثاني ليس فيه دليل لهذا القول] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (144) ما رواه النسائي، قال: أخبرنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد، قال: حدثنا عمي، قال: حدثنا شريك، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جلود الميتة، فقال: دباغها ذكاتها (¬1). ¬
[إسناده ضعيف، واختلف في لفظه ووقفه ورفعه] (¬1). ¬
وجه الاستدلال من الحديثين: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عبر بالذكاة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: دباغها ذكاتها، ومعلوم أن الذكاة لا تطهر إلا ما يباح أكله، أما ما لا يباح أكله فلا تطهره الذكاة، ولو ذكي فهي ميتة، فجلد ما يحرم أكله ولو كان طاهراً في الحياة لا يطهر بالدباغ؛ لأن ما كان طاهراً في الحياة إنما كان طاهراً لمشقة التحرز منه، وهذه ¬
الدليل الثالث
العلة تنتفي بالموت. قال أبو ثور: لا أعلم خلافاً أنه لا يتوضأ في جلد الخنزير وإن دبغ، فلما كان الخنزير حراماً لا يحل أكله، وإن ذكي، وكانت السباع لا يحل أكلها وإن ذكيت، كان حراماً أن ينتفع بجلودها وإن دبغت قياساً على ما أجمعوا عليه من الخنزير إذا كانت العلة واحدة. اهـ (¬1). الدليل الثالث: (145) ما رواه أحمد، قال: حدثنا إسماعيل، أخبرنا سعيد وابن جعفر، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي المليح بن أسامة، عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن جلود السباع (¬2). [حديث صحيح إن شاء الله تعالى] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (146) ما رواه عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أبي شيخ الهنائي أن معاوية قال لنفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن جلود النمور أن تركب عليها؟. قالوا: اللهم نعم. قال: وتعلمون أنه نهى عن لبس الذهب إلا مقطعاً. قالوا: اللهم نعم. قال: وتعلمون أنه نهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة؟ فقالوا: اللهم نعم. قال: وتعلمون أنه نهى عن المتعة؟ -يعني: متعة الحج - قالوا: اللهم لا. قال: بلى إنه في هذا الحديث. قالوا: لا (¬1). [حسن لغيره إن شاء الله تعالى] (¬2). الدليل الخامس: (147) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حيوة بن شريح وأحمد بن عبد الملك، ¬
الدليل السادس
قالا: حدثنا بقية، حدثنا بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن المقدام بن معدي كرب، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحرير والذهب، وعن مياثر النمور (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل السادس: (148) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو داود، حدثنا عمران، عن قتادة، عن زرارة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر (¬3). ¬
الدليل السابع
الدليل السابع: استدلوا بقول النضر بن شميل: إن الإهاب: جلد ما يؤكل لحمه من الإنعام، وأما ما لا يؤكل لحمه فإنما هو جلد ومسك وقد أنكرت طائفة من أهل العلم قول النضر بن شميل هذا، وزعمت أن العرب تسمي كل جلد إهاباً، واحتجت بقول عنترة: فشككت بالرمح الطويل إهابه ليس الكريم على القنا بمحرم (¬1). الدليل الثامن: قالوا: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما أباح الانتفاع بجلد الميتة المدبوغ إذا كان مما يؤكل لحمه؛ لأن الخطاب الوارد في ذلك إنما خرج على شاة ماتت لبعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدخل في ذلك كل ما يؤكل لحمه، وما لم يؤكل لحمه فداخل في عموم تحريم الميتة، واستدلوا بقول أكثر العلماء في المنع من جلد الميتة بعد الدباغ، بأن الذكاة غير عاملة فيه، قالوا: فكذلك السباع لا تعمل فيها الذكاة لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكلها، ولا يعمل فيها الدباغ؛ لأنها ميتة، لم يصح خصوص شيء منها (¬2). الراجح: الذي يظهر لي والله أعلم أن الدباغ يطهر كل إهاب، لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - إذا دبغ الإهاب فقد طهر يعم كل إهاب، فكل إهاب داخل تحت هذا الخطاب ¬
إلا أن يصح إجماع في شيء من ذلك، فيخرج من الجملة، ولم يثبت عندي حديث: "دباغها ذكاتها"، وأما النهي عن جلود السباع فليست العلة فيه كون الدباغ لا يطهره، وإنما كونه من جلود السباع، ولذلك لو كان من جلد حيوان نجس من غير السباع لم يكن داخلاً في النهي عن جلود السباع، فالنهي عن جلود السباع أخص من النهي عن جلود غيرها من الحيوانات النجسة، ولا يستدل بالأخص على الأعم، والله أعلم.
المبحث الثاني في الآنية المتخذة من عظام الميتة وقرنها وحافرها
المبحث الثاني في الآنية المتخذة من عظام الميتة وقرنها وحافرها الآنية المتخذة من عظم حيوان مأكول اللحم مذكى يحل استعمالها إجماعاً، كما أن الآنية المتخذة من عظم الآدمي لا تجوز، ولو من كافر لكرامة المؤمن، وتحريم المثلة في الكافر (¬1). وأما الآنية المتخذة من عظام حيوان غير مذكى، سواء كان مأكول اللحم أم غير مأكول اللحم فإن الخلاف فيها مبني على الخلاف في طهارة عظام الميتة، فمن كان يرى طهارة عظام الميتة مطلقاً لا يرى بأساً من اتخاذ الأواني منها، ومن يرى نجاستها يمنع من ذلك، والخلاف فيها على النحو التالي: فقيل: يجوز اتخاذ الآنية من عظام الميتة، وبيعها، وهو مذهب الحنفية (¬2)، ورجحه ابن تيمية (¬3). وقيل: لا يجوز، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬4)، والشافعية (¬5)، ¬
والحنابلة (¬1). وقيل: لا يجوز بيعها، ويجوز الانتفاع بها، وهو اختيار ابن حزم (¬2). ¬
دليل الحنفية على طهارة عظم الميتة.
وقال بعضهم: إن العظام نجسة، تطهر بالدباغ، ودباغها غليها، اختاره بعض المالكية (¬1). دليل الحنفية على طهارة عظم الميتة. الدليل الأول: قالوا: إن علة نجاسة الميتة، إنما هو لاحتباس الدم فيها، فما لا نفس له سائلة، ليس فيه دم سائل، فإذا مات لم يكن فيه دم يحتبس فيه، فلا ينجس، فالعظم ونحوه أولى بعدم التنجس من هذا، فإن العظم ليس فيه دم سائل، ولا كان متحركاً بالإرادة إلا على وجه التبع، فإذا كان الحيوان الكامل الإحساس، المتحرك بالإرادة، لا ينجس لكونه ليس فيه دم سائل، فكيف ينجس العظم الذي ليس فيه دم سائل. والذي يوضح هذا أكثر أن الله سبحانه وتعالى حرم علينا الدم المسفوح، قال سبحانه وتعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس} الآية (¬2). وعفا عن غير الدم المسفوح، مع أنه من جنس الدم، والله سبحانه وتعالى حرم ما مات حتف أنفه، أو بسبب غير جارح محدد، فحرم المنخنقة ¬
الدليل الثاني
والموقوذة والمتردية والنطيحة، والفرق بينهما إنما هو في سفح الدم، فدل على أن سبب التنجس هو احتقان الدم واحتباسه، وإذا كان كذلك فالعظم والقرن والظلف والظفر وغير ذلك ليس فيه دم مسفوح، ولا يعارض هذا بتحريم تذكية المرتد والمجوسي، ولو سفح الدم؛ لأن التحريم تارة يكون لاحتقان الدم، كما هو الحال في المتردية والنطيحة، وما صيد بعرض المعراض، وتارة تكون لفساد التذكية، كذكاة المجوسي والمشرك (¬1). الدليل الثاني: قالوا: إن هذه الأشياء ليست بميتة، فليست داخلة في عموم تحريم الميتة؛ لأن الميتة من الحيوان في عرف الشارع اسم لما زالت حياته، ولا حياة في هذه الأشياء. فإن قيل: إنها داخلة في الميتة؛ لأنها تحس وتتألم. قيل لهم: أنتم لم تأخذوا في عموم اللفظ، فإن ما لا نفس له سائلة كالذباب والعقرب لا ينجس عند جماهير العلماء، مع أنه ميتة (¬2). الدليل الثالث: أن طهارة العظم أولى من طهارة الجلد بالدباغ، فهذا الجلد، جزء من الميتة، فيه الدم كسائر أجزائها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الدباغ طهارة له؛ لأن الدباغ ينشف رطوبته، فدل على أن سبب التنجس هو الرطوبات، والعظم ليس فيه رطوبة سائلة، وما كان فيه منها يجف وييبس، كما أن العظم يبقى ويحفظ ¬
الدليل الرابع
أكثر من الجلد، فهو أولى بالطهارة من الجلد (¬1). الدليل الرابع: أن طهارة العظم هو المعروف عن سلف هذه الأمة، فقد ذكر البخاري، عن الزهري معلقاً بصيغة الجزم. قال البخاري: قال الزهري في عظام الموتى- نحو الفيل وغيره- أدركت ناساً من سلف العلماء يمتشطون بها، ويدهنون فيها، لا يرون به بأساً (¬2). الدليل الخامس: (149) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الصمد، حدثني أبي، حدثنا محمد بن جحادة، حدثني حميد الشامي، عن سليمان المنبهي، عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر آخر عهده بإنسان فاطمة، وأول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة، قال: فقدم من غزاة له، فأتاها فإذا هو يمسح على بابها، ورأى على الحسن والحسين قلبين من فضة، فرجع ولم يدخل عليها، فلما رأت ذلك فاطمة ظنت أنه لم يدخل عليها من أجل ما رأى، فهتكت الستر، ونزعت القلبين من الصبيين فقطعتهما، فبكى الصبيان فقسمته بينهما، فانطلقا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهما يبكيان، فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهما، فقال: يا ثوبان اذهب بهذا إلى بني فلان أهل بيت بالمدينة، واشتر لفاطمة قلادة من عصب، وسوارين من عاج؛ فإن هؤلاء أهل بيتي، ولا أحب أن يأكلوا ¬
دليل من قال بنجاسة العظم.
طيباتهم في حياتهم الدنيا (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). دليل من قال بنجاسة العظم. الدليل الأول: قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} (¬3)، والعظم جزء من الميتة. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (150) قال الشافعي: روى عبد الله بن دينار، أنه سمع ابن عمر يكره أن يدهن في مدهن من عظام الفيل؛ لأنه ميتة (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). الدليل الثالث: قالوا: إن العظام تحلها الحياة، فتنجس بالموت، قال تعالى: {قال من يحيى العظام وهي رميم} (¬3)، ولأن دليل الحياة: الإحساس والألم، والألم في العظام أشد من الألم في اللحم، فالضرس يألم، ويحس ببرد الماء وحرارته، وما يحله الموت ينجس به كاللحم (¬4). دليل ابن حزم على تحريم البيع وجواز الانتفاع. أما الدليل على تحريم البيع، (151) فقد روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح وهو بمكة: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنها يطلى بها ¬
الراجح
السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: لا هو حرام، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: قاتل الله اليهود؛ إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه (¬1). فحرم البيع وأباح الانتفاع، ولم يكن الانتفاع بكون الميتة يطلى بها السفن ويستصبح بها الناس مسوغاً لإباحة البيع. والدليل على جواز الانتفاع من عظم الميتة قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الميتة: إنما حرم أكلها، (152) فقد روى البخاري، قال: حدثنا سعيد بن عفير، حدثنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، حدثني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال وجد النبي صلى الله عليه وسلم شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم هلا انتفعتم بجلدها قالوا إنها ميتة قال إنما حرم أكلها، ورواه مسلم (¬2). فلا يمنع هذا من الانتفاع بعظم الميتة. الراجح: بعد استعراض الأقوال وأدلتها الذي يظهر لي أن مذهب الحنفية أرجح في هذه المسألة، وأن العظام كلها طاهرة، لأن الأصل في الأعيان الطهاة، ولعدم وجود ما يقتضي نجاستها، وأما من اشترط غلي العظام فالظاهر أن الغلي ليس مقصوداً لذاته، بل المراد أي عمل يزيل رطوبة النجاسة ولحمها من العظام، فهو لا يخرج عن مذهب الحنفية، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في الأنية المتخذة من شعر الميتة ووبرها وصوفها
المبحث الثالث في الأنية المتخذة من شعر الميتة ووبرها وصوفها يعمل بعض الأواني من الشعر والوبروالصوف، كما قال تعالى: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين} (¬1). فإذا كان هذا الشعر والوبر قد جز من حيوان طاهر، وهو حي، فإنه طاهر بالإجماع (¬2)، أما إذا كان الشعر والوبر والصوف من حيوان ميت، فقد اختلف العلماء في ذلك: فقيل: إذا جز الشعر من الحيوان فهو طاهر، سواء كان من حيوان طاهر أم نجس، وهو مذهب الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، ورواية عن أحمد (¬5)، إلا أن ¬
الحنفية استثنوا شعر الخنزير فقط. وقيل: إن كان الحيوان طاهراً في الحياة، ولو كان غير مأكول، فشعره طاهر، وإذا كان الحيوان نجساً، فالشعر تبع له، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: إن الشعر والوبر والصوف من الميتة نجس إلا شعر الآدمي، وهو المشهور مذهب الشافعية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3). وقيل: صوف الميتة وشعرها ووبرها نجس قبل الدباغ حلال بعده، وهو اختيار ابن حزم (¬4). واشترط من قال بطهارته أن يجز. قال ابن نجيم: شعر الميتة إنما يكون طاهراً إذا كان محلوقاً، أو مجزوزاً، وإن كان منتوفاً فهو نجس (¬5). وقال الدردير: والمقصود بالجز: ما يقابل النتف، فيشمل الحلق والإزالة بالنورة، فلو جزت بعد النتف، فالأصل الذي فيه أجزاء الجلد نجس، والباقي طاهر (¬6). ¬
دليل من قال بطهارة شعر الميتة
دليل من قال بطهارة شعر الميتة. الدليل الأول: قال تعالى: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون} (¬1). والدفء: ما يتدفأ به من شعرها ووبرها وصوفها، وذلك يقتضي إباحة الجميع من الميتة والحي (¬2). الدليل الثاني: قال تعالى: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين} (¬3). وجه الاستدلال: أن الآية حكمت على جميع الصوف والوبر والشعر بالإباحة من غير فرق بين المذكى منه وبين الميتة، ومن استثنى صوف الميتة ووبرها وشعرها فعليه الدليل. الدليل الثالث: أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة، فمن منع أو حكم بالنجاسة، فعليه الدليل. الدليل الرابع: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس، وفيه قال رسول الله عن ¬
الدليل الخامس
الميتة: إنما حرم أكلها. (¬1)، وقد سبق الحديث بتمامه. الدليل الخامس: دل الإجماع على طهارة الشعر المأخوذ من الحيوان قبل موته، فلا ننتقل إلى نجاسته إلا بدليل. أو يقال: القياس على الشعر المأخوذ من الحيوان حال الحياة، فإذا كان الشعر المأخوذ من الحيوان حال الحياة طاهراً، كان الشعر بعد الموت طاهراً. قال ابن تيمية: اتفق العلماء على أن الشعر والصوف إذا جز من الحيوان كان طاهراً، فلو كان الشعر جزءاً من الحيوان لما أبيح أخذه في حال الحياة (¬2). (153) فقد روى أحمد، قال: حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الرحمن -يعني: ابن عبد الله بن دينار- عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي واقد الليثي قال: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، والناس يجبون أسنمة الإبل، ويقطعون أليات الغنم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما قطع من البهيمة وهي حية، فهي ميتة (¬3). [الراجح أنه مرسل] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل السادس
فلو كان الشعر جزءاً من الحيوان، لما جاز أخذه من الحيوان الحي، وكان نجساً حكمه حكم ميتته، فلما جاز أخذه علم أنه ليس جزءاً من الحيوان، وأنه طاهر مطلقاً في حياة الحيوان وبعد موته، والله أعلم. الدليل السادس: هناك بعض الأحاديث الضعيفة التي يستدلون بها أذكرها للتنبيه عليها، تحذيراً منها، وإلا فالأدلة السابقة كافية، منها: (154) ما رواه الدراقطني، من طريق عبد الجبار بن مسلم، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: إنما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الميتة لحمها، وأما الجلد والشعر والصوف فلا بأس به (¬1). ¬
[إسناده ضعيف، ومتنه منكر] (¬1). (155) ومنها ما رواه الدراقطني، من طريق أبي بكر الهذلي، أن الزهري حدثهم، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما علي طاعم يطعمه} ألا كل شيء من الميتة حلال إلا ما أكل منها، فأما الجلد والقرن والشعر والصوف والسن والعظم فكل هذا حلال؛ لأنه لا يذكى. قال الدراقطني: أبو بكر الهذلي متروك (¬2). (156) ومنها ما رواه الدراقطني، من طريق يوسف بن السفر، نا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: سمعت أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا بأس بمسك ¬
دليل من قال بنجاسة الشعر ونحوه.
الميتة إذا دبغ، ولا بأس بصوفها وشعرها وقرونها إذا غسل بالماء. قال الدراقطني: يوسف بن السفر متروك، ولم يأت به غيره (¬1). دليل من قال بنجاسة الشعر ونحوه. استدلوا بقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} (¬2)، وهو عام للشعر وغيره، فإن الميتة اسم لما فارقته الروح بجميع أجزائه. وأجيب بجوابين: الأول: أن قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} (¬3)، لا يدخل فيها الشعور وما أشبهها؛ وذلك لأن الميت ضد الحي، والحياة نوعان: حياة الحيوان: وحياة النبات. فحياة الحيوان: خاصتها الحس والحركة الإرادية. وحياة النبات: خاصتها النمو والاغتذاء. وقوله تعالى {حرمت عليكم الميتة} الأية (¬4)، إنما هو بما فارقته الحياة الحيوانية دون النباتية، فإن الشجر والزرع إذا يبس لم ينجس باتفاق المسلمين. وقد قال تعالى {والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها} الأية (¬5). وقال: {اعلموا أن الله يحيى الأرض بعد موتها} الآية (¬6). ¬
الثاني
وإنما الميتة المحرمة: ما فارقها الحس والحركة الإرادية. وإذا كان كذلك فالشعر حياته من جنس حياة النبات، لا من جنس حياة الحيوان، فإنه ينمو ويتغذى ويطول كالزرع. وليس فيه حس، ولا يتحرك بإرادته، فلا تحله الحياة الحيوانية حتى يموت بمفارقتها. فلا وجه لتنجيسه. وأيضاً لو كان الشعر جزءاً من الحيوان لما أبيح أخذه في حال الحياة ... الخ (¬1). الجواب الثاني: قالوا: إن قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة} (¬2) عام، وقوله تعالى: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين} (¬3) خاص في بعضها، وهو الشعر والصوف، والوبر. والخاص مقدم على العام (¬4). دليل ابن حزم على طهارة الشعر بالدبغ. استدل ابن حزم على ذلك بقوله: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم أن على جلود ¬
الراجح من هذه الأقوال
الميتة الشعر والريش والصوف، فلم يأمر بإزالة ذلك، ولا أباح استعمال شيء من ذلك قبل الدبغ، وكل ذلك قبل الدبغ بعض الميتة، فهو حرام، وكل ذلك بعد الدبغ طاهر ليس ميتة، فهو حلال، حاشا أكله، إلا ان ابن حزم استثنى شعر الخنزير، فلا يطهر عنده بالدبغ، وإن طهر جلده بذلك (¬1). الراجح من هذه الأقوال: بعد استعراضنا لأدلة كل قول، يترجح لي أن رأي الحنفية والمالكية أقوى من حيث الدليل، وأن الشعر لا تدخله الحياة الحيوانية، والحياة النباتية لا تكفي لتنجيسه إذا فارقها، وأنه لافرق بين شعر الحيوان الطاهر بالحياة والحيوان النجس، ومن اشتثنى شعر الكلب أو الخنزير إن كان في ذلك إجماع فالدليل الإجماع، وإن لم يصح في المسألة إجماع فلا فرق بين شعره وشعر غيره، وبهذا يتبن لنا أن الميتة ثلاثة أقسام: نجس مطلقاً لا يطهر بحال، وهو اللحم والدم. وطاهر مطلقاً، وهو الشعر والوبر والصوف إذا جز جزاً. وطاهر بشرط الدباغ، وهو الجلد. وبهذا التقسيم يتبين لنا أن الأواني المصنوعة من الشعر أواني طاهرة، والله أعلم. ¬
الخاتمة
الخاتمة الحمد لله على إتمام هذا البحث، له الحمد كله وله الشكر وحده، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} وقد خرجت من هذا البحث بجملة من الفوائد سوف أسوقها على طريق الإختصار، ومن شاء أن ينظر إليها مبسوطة فليطلبها في مظانها من البحث، ومن هذه الفوائد: الأولى: أن ديننا ولله الحمد دين الطهارة والنظافة، طهارة في الباطن في الخلوص من الشرك والرياء، وطهارة في الظاهر وذلك بتطهير البدن تارة بالوضوء وتارة بالغسل، وتارة من الحدث وتارة من الخبث، ويكفي في عناية الإسلام بالطهارة أن جعل الطهور شطر الايمان. الثانية: الأصل في الماء أنه طهور، ولا ينتقل عن هذا الأصل إلا بدليل. الثالثة: أن الراجح في الماء أنه قسمان، لا ثالث لهما. الرابعة: الماء المحرم كسبه لو تطهر الإنسان به من حدث أو خبث حكم بطهارة المحل مع الإثم، فالتحريم والصحة ليس بينهما تلازم. الخامسة: لا يوجد دليل يمنع من رفع الحدث وإزالة الخبث من ماء زمزم، لكن إن وجد غيره في إزالة الخبث فتركه أولى، وإن لم يوجد غيره فلا مانع من إزالة الخبث به. السادسة: الماء المتغير بطاهر سواء كان هذا الطاهر مما يشق التحرز منه أم لا فإن الماء طهور ما دام أنه يسمى ماء، فإذا زال عنه اسم الماء إلى حقيقة أخرى كأن يقال: مرق أو نحوه فلا يتطهر عنه، ولا يكفي مجرد التغير بالطاهر حتى يقال: إنه طاهر غير طهور.
السابعة: طهورية الماء المتغير بمكثه. الثامنة: إذا وقع في الماء نجاسة فلم تغيره فإنه طهور مطلقاً، سواء كان كثيراً أم يسيراً إلا أن تكون النجاسة من ولوغ الكلب في الإناء فإن الماء ينجس ولو لم يتغير. التاسعة: إذا تغير الماء بنجاسة فإنه نجس مطلقاً سواء كان يسيراً أم كثيراً، ومذهب المالكية في حد اليسير أرجح عندي من مذهب الجمهور، والله أعلم. العاشرة: الماء المستعمل في رفع الحدث، أو في طهارة مستحبة، أو في طهارة غير مشروعة أو في التبرد أو في النظافة فإنه طهور تغير أم لم يتغير. الحادية عشرة: الماء المستعمل في إزالة النجاسة إن تغير بالنجاسة فهو نجس، وإلا فهو طهور. الثانية عشرة: الماء المستعمل في غمس يد القائم من النوم طهور غير مكروه، وأما غسل اليد قبل غمسها فهو واجب، ويختص الحكم بنوم الليل خاصة. الثالث عشرة: جواز وضوء الرجال والنساء جميعاً إذا كانوا من المحارم، فلو كشفت المرأة أعضاء الوضوء أمام أبيها أو أخيها أو ابنها فلا حرج إن شاء الله تعالى. الرابع عشرة: جواز الوضوء بفضل المرأة والعكس. الخامس عشرة: اليقين لا يزول بالشك، فمن تيقن الطهارة وشك بالحدث، أو تيقن النجاسة وشك في الطهارة بنى على اليقين، وهذا أصل عظيم في الطهارة.
السادس عشرة: إذا اشتبه الماء الطهور بالنجس وتصور وقوع هذه المسألة كما لو كان الرجل أعمى لا يشاهد لون الماء، أو كان لا يشم رائحة النجاسة، أو كان لا يستطيع التعرف على طعم الماء، فإنه يتحرى، وإلا فالراجح أن الماء الطهور لا يمكن أن يشتبه بالماء النجس؛ لأننا لا نحكم على الماء بأنه نجس حتى يتغير، فإذا تغير أصبح محسوساً. السابع عشرة: لا يمكن أن يشتبه الطهور بالطاهر، لأن الماء إما طهور وإما نجس، ولا ثالث لهما. الثامن عشرة: إذا اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة تحرى. التاسع عشرة: بأي شيء أمكن تطهير الماء المتنجس بنزح أو إضافة أو معالجة كما لو تم تقطيره فإنه يرجع للطهورية. العشرون: حكم المائع من غير الماء تخالطه النجاسة حكم الماء إذا وقعت فيه نجاسة، فإن تغير بالنجاسة نجس، وإلا فهو طاهر، وإذا أمكن تطهيره طهر. الحادية والعشرون: لا يكره الماء المسخن بالشمس ولا بشيء طاهر، بل لا يكره الماء المسخن بالنجاسة. الفائدة الثانية والعشرون: تحريم الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة، وجواز الإتخاذ بل والإستعمال في غير الأكل والشرب. الثالث والعشرون: جواز الطهارة في آنية الذهب والفضة. الرابع والعشرون: يجوز الأكل والشرب في الإناء المضبب لا فرق بين التضبيب بالذهب والفضة. الخامس والعشرون: يكره استعمال أواني المشركين مع وجود غيرها. السادس والعشرون: الدباغ يطهر جميع الجلود، وينهى عن استعمال
جلود السباع. السابع والعشرون: طهارة عظم الميتة وشعرها وقرنها وحافرها. هذه هي الفوائد الفقهية، وقد سردتها لتكون كالإختيارات لمن أراد أن يطلع على رأي الباحث.
[آداب الخلاء]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن من كمال هذه الشريعة ربطها الأمور الجبلية بأنواع من العبادات. فالناظر في الآداب الإسلامية، ومنها آداب الخلاء يلحظ كمال هذه الشريعة وشمولها، بحيث جعلت المسلم في كل أحواله مرتبطاً بعبادة الله سبحانه وتعالى، فالبول والغائط من الأمور الجبلية، ولكن الشارع فتح لعباده في هذا الأمر الجبلي أبواباً من العبادات، ولولا ذلك لكان التقرب بها بدعة، وهكذا سائر الأمور الجبلية، فالأكل والشرب مجبول عليهما الإنسان، ولكن ما يميز المسلم أن جعل من هذا الأمر الذي لا بد منه صفات تجعله مرتبطاً بالله، فالتسمية في أوله، والأكل في اليمين، ومما يلي الإنسان، والحمد في آخره، ونحو ذلك من العبادات التي هي مصداق لقوله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له} (¬1). وقوله تعالى {ما فرطنا في الكتاب من شيء} (¬2). وهكذا البول والغائط ترتبط فيه مجموعة من العبادات تبدأ قبل الدخول في الأماكن المخصصة، وحال قضاء الحاجة، وتنتهي بعد الفراغ من حاجته، ومن هذه الآداب ما هو واجب يأثم الإنسان بتركه، ومنها ما هو مندوب، ومنها ما هو مكروه. وقد قال بعض الكفار ساخراً من تعاليم الإسلام، بأنه يعلم حتى آداب ¬
الخلاء، فأجابه الصحابي سلمان جواب العزيز بدينه، (157 - 1) فقد روى مسلم من طريق الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان، قال: قيل له: قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء، حتى الخراءة؟! قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (¬1). قال الطيبي جواب سلمان من باب أسلوب الحكيم؛ لأن المشرك لما استهزأ كان من حقه أن يهدد أو يسكت عن جوابه، لكن ما التفت سلمان إلى استهزائه، وأخرج الجواب مخرج المرشد الذي يرشد السائل المجد يعني ليس هذا مكان الاستهزاء، بل هو جد وحق، فالواجب عليك ترك العناد والرجوع اليه (¬2). فالحمد لله الذي هدانا لهذا الدين العظيم، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. خطة البحث في هذا الكتاب: خطة البحث مكونة من أبواب وفصول ومباحث وفروع على غرار البحوث السابقة على النحو التالي. التمهيد: في التعريف اللغوي. الباب الأول: في حكم الاستنجاء الفصل الأول: خلاف العلماء في حكم الاستنجاء. ¬
الفصل الثاني: هل الاستنجاء على الفور أم على التراخي. الفصل الثالث: في العاجز عن الاستنجاء. الباب الثاني: في آداب الخلاء. الفصل الأول: في آداب تتعلق بالدخول والخروج وقضاء الحاجة. المبحث الأول: حكم التسمية عند الدخول. المبحث الثاني: في استحباب التعوذ من الخبث والخبائث الفرع الأول: هذه الآداب خاصة في المكان المعد أم في كل مكان الفرع الثاني: متى يقال الذكر الوراد في دخول الخلاء الفرع الثالث: إذا دخل الخلاء بطفل فهل يعيذ الطفل بالذكر الوارد؟ المبحث الثالث: استحباب لبس الحذاء عند الدخول للخلاء. المبحث الرابع: في استحباب تقديم الرجل اليسرى عند الدخول والعكس عند الخروج. المبحث الخامس: في الاعتماء على الرجل اليسرى حال قضاء الحاجة. المبحث السادس: في الكلام أثناء قضاء الحاجة. الفرع الأول: في ذكر الله تعالى داخل الخلاء. الفرع الثاني: في الكلام في الخلاء. المبحث السابع: في اللبث على الحاجة فوق الحاجة. المبحث الثامن: في استحباب تغطية الرأس. المبحث التاسع: في مسح الذكر عند الفراغ من البول. المبحث العاشر: في نتر الذكر. المبحث الحادي عشر: في استحباب قول غفرانك
فرع: مناسبة طلب المغفرة بعد قضاء الحاجة. المبحث الثاني عشر: استحباب الحمد بعد الخروج من الخلاء. المبحث الثالث عشر: في استحباب تنظيف اليد بعد غسل دبره. المبحث الرابع عشر: في البول واقفاً. الفصل الثاني: في آداب قضاء الحاجة المتعلقة بالمكان المبحث الأول: في طلب المكان الرخو. المبحث الثاني: في استحباب الاستتار الفرع الأول: استحباب الابتعاد عن أعين الناس إن كان في الفضاء. الفرع الثاني: في وجوب ستر العورة عن الناس عند قضاء الحاجة. الفرع الثالث: في رفع الثوب قبل الدنو من الأرض. الفرع الرابع: إذا لم يتمكن الإنسان من قضاء الحاجة إلا بالنظر إلى عورته. المبحث الثالث: في حكم استقبال الريح حال البول. المبحث الرابع: في حكم استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط. المبحث الخامس: في حكم استقبال القبلة واستدبارها حال الاستنجاء. المبحث السادس: في استقبال النيرين (الشمس والقمر). المبحث السابع: في البول في الطريق والظل النافع وتحت شجرة مثمرة. المبحث الثامن: في البول في المسجد. المبحث التاسع: في البول في الشق ونحوه.
المبحث العاشر: في البول على القبر. المبحث الحادي عشر: في البول في الإناء المبحث الثاني عشر: في التحول عن موضع قضاء الحاجة عند الاستنجاء. الباب الثالث: في صفة الاستنجاء والاستجمار. الفصل الأول: في التسمية عند الاستنجاء والاستجمار. الفصل الثاني: حكم النية للاستنجاء. الفصل الثالث: يبدأ الرجل بالقبل قبل الدبر. الفصل الرابع: هل يكفي في الاستنجاء غلبة الظن أم لا بد من اليقين الفصل الخامس: في صفة الإنقاء. المبحث الأول: في صفة الإنقاء بالحجر. المبحث الثاني: في صفة الإنقاء بالماء. الفصل السادس: قول العلماء في الأثر المتبقي بعد الاستجمار. فرع: ما تطاير من الماء وقت الاستنجاء. الفصل السابع: القول في قطع الاستنجاء على وتر الفصل الثامن: في صفة المسح بالأحجار. الفصل التاسع: لايباشر الاستنجاء بيده اليمنى ولا يمس الذكر بها حال البول. المبحث الأول: هل يكره مس الذكر مطلقاً، أو حال البول فقط؟ المبحث الثاني: إذا استنجى بيمينه هل يجزئه ذلك؟. المبحث الثالث: اشكال وجوابه.
المبحث الرابع: حكم مس الدبر. المبحث الخامس: حكم مس فرج المرأة. الفصل العاشر: الشك بعد الفراغ من الاستنجاء. الفصل الحادي عشر: نضح الماء على الفرج والسروايل. الباب الرابع: في الاستجمار. الفصل الأول: خلاف العلماء في جواز الاستجمار. الفصل الثاني: في شروط الاستتجمار. الشرط الأول: في اشتراط ثلاثة أحجار. مبحث: في الاكتفاء بحجر واحد له ثلاث شعب. الشرط الثاني: أن تكون الأحجار ونحوها طاهرة. الشرط الثالث: أن يكون المستنجى به غير عظم وروث. مبحث: النهي عن العظام والروث للكراهة أو للتحريم. الشرط الرابع: في اشتراط أن يكون المستجمر به من الأحجار. الشرط الخامس: أن يكون الحجر ونحوه منقياً. خلاف العلماء في الاستنجاء بالزجاج. مبحث: إذا استنجى بزجاج فهل يجزئه الاستجمار أو يتعين الماء؟ الشرط السادس: هل يشترط أن يكون جامداً. الشرط السابع: ألا يكون المستجمر به حممة. الشرط الثامن: أن يكون المستجمر به غير محترم. المبحث الأول: الاستنجاء بالكتب الشرعية. المبحث الثاني: الاستنجاء بما هو طعام للأدمي وغيره.
المبحث الثالث: ألا يكون المستنجى به حيواناً. الفرع الأول: الاستنجاء بشيء من الحيوان متصلاً به. الفرع الثاني: الاستنجاء بجلد الحيوان المنفصل. فرع: ما منع الاستنجاء به لحرمته لا يجوز البول عليه. الباب الخامس: في ما يستنجى منه. الفصل الأول: في الاستنجاء من البول والغائط. الفصل الثاني: في الاستنجاء من المذي الفصل الثالث: في الاستنجاء من الودي الفصل الرابع: في الاستنجاء من المني الفصل الخامس: في الاستنجاء من الحدث الدائم المبحث الأول: هل يعتبر الخروج الدائم للنجاسة حدثاً أم يعفى عنه. المبحث الثاني: في وجوب غسل فرج من به حدث دائم عند الوضوء. المبحث الثالث: شد عصابة الفرج عند الوضوء. الفصل السادس: في الاستنجاء من البعر الناشف والحصاة الفصل السابع: في الاستنجاء من الريح الباب السادس: في الاستنجاء بالماء الفصل الأول: خلاف العلماء في الاستنجاء بالماء الفصل الثاني: أيهما أفضل الاستنجاء أم الاستجمار الفصل الثالث: في الجمع بين الحجارة والماء وأيهما يقدم
الفصل الرابع: متى يتعين الاستنجاء بالماء المبحث الأول: إذا تجاوز الخارج موضع العادة المبحث الثاني: إذا استجمر بمنهي عنه ثم استجمر بعده بمباح فهل يتعين الماء؟ المبحث الثالث: يتعين الماء في الاستنجاء من المذي. المبحث الثالث: يتعين الماء في الاستنجاء من الدم والقيح. المبحث الرابع: هل يتعين الماء في بول المرأة. المبحث الخامس: هل يتعين الماء إذا عرق فسال أثر الاستجمار. المبحث السادس: هل يتعين الماء إذا خرج البول والغائط من غير السبيلين. الباب السابع: حكم الترتيب بين الاستنجاء والوضوء. هذا ما وفقت لجمعه ودراسته، وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، مقرباً إليه، سبباً في مغفرته ورضوانه، مبعداً لي عن سخطه وغضبه، وأن يرزق هذا البحث وغيره القبول والانتفاع من إخواني طلبة العلم، وأن يغفر لي تقصيري وجهلي وتفريطي وإسرافي في أمري، إنه ولي ذلك والقادر عليه. كتبه أبو عمر دبيان بن محمد بن دبيان الدبيان السعودية منطقة القصيم مدينة بريدة في 14/ 2/ 1421 هـ
تمهيد في التعريف اللغوي
تمهيد في التعريف اللغوي الاستنجاء ومثله الاستجمار والاستبراء والاستنقاء كلها ألفاظ لها علاقة في كتابنا، ولذا يحسن بي قبل أن ندخل في تفاصيل أحكام هذه العبادة أن نقدم تعريفها اللغوي، وقد قيل: إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. تعريف الاستنجاء. الاستنجاء: من نجا ينجو نجواً. يقال: نجا الشجرة ينجوها نجواً: إذا قطعها من أصولها. قال شمر: وأرى الاستنجاء في الوضوء من هذا لقطعه العذرة بالماء. ونجا فلان ينجو نجواً: إذا أحدث من ريح أو غائط، يقال: ما نجا منذ أيام: أي ما أتى الغائط. النجو: ما يخرج من البطن من ريح أو غائط. وفي الصحاح: استنجى مسح موضع النجو أو غسله. قال: وقدم المسح على الغسل؛ لأنه هو المعروفكان في بدء الإسلام، وإنما التطهر بالماء زيادة على أصل الحاجة. واستنجى: تحرى إزالة النجو أو طلب نجوة: أي قطعة مدر لإزالة الأذى، كقولهم: استجمر: إذا طلب جماراً أو حجراً. وقال ابن الأثير: الاستنجاء استخراج النجو من البطن، أو إزالته عن بدنه بالغسل والمسح. أو من نجوت الشجرة وأنجيتها: إذا قطعتها، كأنه قطع الأذى عن نفسه، أو من النجوة للمرتفع من الأرض، كأنه يطلبها ليجلس
تعريف الاستجمار.
عليها (¬1). تعريف الاستجمار. الاستجمار: مأخوذ من الجمار: هي الصغار من الأحجار، جمع جمرة، ومنها سموا المواضع التي ترمى جماراً وجمرات لما بينهما من الملابسة. واستجمر: أي استنجى بالجمار: وهي الأحجار الصغار (¬2). وفي اللسان: قيل: الاستجمار هو الاستنجاء، واستجمر واستنجى واحد (¬3). قلت: جاء هذا في حديث سلمان رضي الله عنه في مسلم: لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار (¬4). تعريف الاستطابة. الاستطابة: تطلق كناية على الاستنجاء. وسمي بها من الطيب؛ لأنه يطيب جسده بإزالة ما عليه من الخبث بالاستنجاء: أي يطهره، ويقال منه: استطاب الرجل فهو مستطيب، وأطاب نفسه فهو مطيب، والمطيب، والمستطيب: المستنجي، مشتق من الطيب، وروي عن النبي أنه نهى أن يستطيب الرجل بيمينه. الاستطابة والإطابة كناية عن الاستنجاء (¬5). ¬
تعريف الاستبراء.
(158 - 2) وقد روى أحمد، قال: حدثنا سعيد بن منصور، قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن مسلم بن قرط، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنهن تجزئ عنه (¬1). تعريف الاستبراء. الاستبراء في اللغة: طلب البراءة. والاستبراء في الطهارة: طلب البراءة من البول: وهو أن يستفرغ بقية البول، وينقي موضعه ومجراه حتى يبرئهما منه، أي يبينه عنهما كما يبرأ من الدين والمرض. والاستبراء: استنقاء الذكر عن البول. واستبرأ الذكر: طلب براءته من بقية بول فيه بتحريكه ونتره وما أشبه ذلك (¬2). تعريف الاستنقاء. الاستنقاء: طلب النقاوة، وهي النظافة، ونقاه: أي نظفه. وقال في المغرب: الاستنقاء: المبالغة في تنقية البدن (¬3). قلت: ومنه تنقيته من البول والغائط، وقد جاء في حديث حمنة بنت جحش مرفوعاً: إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت ¬
فصلي ثلاثاً وعشرين ليلة أو أربعاً وعشرين ليلةً. الحديث (¬1). وأما المعنى الاصطلاحي لهذه الألفاظ، فلا يخرج عن المعنى اللغوي، ولذلك تعمدت ألا أذكر تعريفها الاصطلاحي. ¬
الباب الأول في حكم الاستنجاء
الباب الأول في حكم الاستنجاء ويشتمل على ثلاثة فصول: الفصل الأول: خلاف العلماء في حكم الاستنجاء. الفصل الثاني: هل الاستنجاء على الفور أم على التراخي. الفصل الثالث: في العاجز عن الاستنجاء.
الفصل الأول خلاف العلماء في حكم الاستنجاء
الفصل الأول خلاف العلماء في حكم الاستنجاء اختلف العلماء في حكم الاستنجاء، هل هو واجب أم سنة؟ فقيل: إنه سنة (¬1)، وهو مذهب الحنفية (¬2)، وقول في مذهب المالكية (¬3). وقيل: إن الاستنجاء واجب، وهو قول في مذهب المالكية (¬4)، ومذهب الشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6). ¬
دليل من قال: الاستنجاء سنة.
دليل من قال: الاستنجاء سنة. الدليل الأول: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} (¬1) الآية. قال الجصاص في بيان وجه الدلالة: حوت هذه الآية الدلالة من وجهين على ما قلنا: أحدهما: إيجابه على المحدث غسل هذه الأعضاء، وإباحة الصلاة به، وموجب الاستنجاء فرضاً مانع ما أباحته الآية، وذلك يوجب النسخ، وغير جائز نسخ الآية إلا بما يوجب العلم من النقل المتواتر، وذلك غير معلوم في إيجاب الاستنجاء. ومع ذلك فإنهم متفقون على أن هذه الآية غير منسوخة، وأنها ثابتة الحكم، وفي اتفاقهم على ذلك ما يبطل قول موجبي الاستنجاء فرضا. والوجه الآخر من دلالة الآية: قوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} (¬2)، إلى آخرها؛ فأوجب التيمم على من جاء من الغائط، وذلك كناية عن قضاء الحاجة، فأباح صلاته بالتيمم من غير استنجاء، فدل ذلك على أنه غير فرض. وأجيب: بأن الذي يقوم إلى الصلاة لا يجب عليه الاستنجاء، فالاستنجاء واجب في حال خروج النجاسة من المخرج، لا في حال الوضوء، فلو قلنا بوجوب ¬
الدليل الثاني
الاستنجاء عند كل وضوء لصح لكم الاستدلال، فالآية دليل على أن الاستنجاء ليس من أعمال الوضوء، وهذا لا نخالف فيه. ومثله يقال في قوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} (¬1). الدليل الثاني: (159 - 3) ما رواه أحمد، قال: حدثنا سريج بن النعمان، قال: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا ثور بن يزيد، عن حصين الحبراني، عن أبي سعد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج عليه. ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أكل فما تخلل فليلفظ، ومن أكل بلسانه فليبتلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً فليستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج (¬2). [إسناده ضعيف، يرويه مجهول، عن مجهول] (¬3). ¬
وجه الاستدلال: ¬
الدليل الثالث
قال في نصب الراية: الاستدلال به من وجهين: أحدهما: أنه نفى الحرج في تركه، ولو كان فرضاً لكان في تركه حرج. الثاني: أنه قال: من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، ومثال هذا لا يقال في المفروض، وإنما يقال هذا في المندوب إليه والمستحب. والجواب على هذا الدليل من وجهين: الأول: أن نفي الحرج لا يرجع إلى الاستنجاء، وإنما إلى الايتار، لأنه أقرب مذكور، وهو صفة في الاستنجاء، وسوف يأتي حكم الإيتار فيه. الثاني: أن الحديث ضعيف، يرويه مجهول عن مثله، وسبق بيانه في التخريج. الدليل الثالث: قالوا: إن الفقهاء متفقون على العفو عن النجاسة اليسيرة، وهذا منها. والجواب على هذا: أننا وإن سلمنا أن يسير النجاسات معفو عنها في الجملة، فإننا لا نسلم أن أثر الاستنجاء من البول والغائط من اليسير المعفو عنه، وإنما يعفى عن يسير النجاسة في حالتين: الأولى: أن يلحق في الاحتراز منها مشقة عظيمة، ولذلك حكم الهرة بأنه طاهرة لمشقة الاحتراز منها. الثاني: أن لا يمكن إزالتها، كالأثر المتبقي في الاستجمار، فإنه لا يمكن إزالته إلا بالماء، وطهارة من به سلس بول، والمستحاضة ونحو ذلك. وطهارة الاستنجاء لا تلحق مشقة بالاحتراز منها، ويمكن إزالتها بيسر
الدليل الرابع
وسهولة، وكان البول والغائط من الأمور الجبلية التي كانت تتكرر في عهد الصحابة، ولم ينقل في السنة أن الصحابة كانوا يتركون الاستنجاء للعفو عنها، والله أعلم. الدليل الرابع: قالوا: إن الاستنجاء لا يجب بالماء مع وجوده، والقدرة عليه، ومن غير ضرورة توجب تركه، فإذا لم يجب الاستنجاء بالماء، وهو آلة التطهير، فكيف يجب بالحجارة أو غيرها من المخففات، وهي ليست مطهرة (¬1). وأجيب: كون الاستنجاء بالماء ليس واجباً بعينه، لا يعني سقوط الاستنجاء، كما هو الحال في التخيير بين خصال كفارة الأيمان، {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة} (¬2) فلا يقال: كون الإطعام ليس واجباً يدل على أن كفارة الأيمان ليست واجبة، فالواجب في الاستنجاء أحد أمرين إما الماء أو الحجارة أو ما يقوم مقامهما. دليل من قال بوجوب الاستنجاء الدليل الأول: (160 - 4) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا محمد بن عجلان، حدثني القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الخلاء فلا تستقبلوها ولا تستدبروها، ولا ¬
يستنجي بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث والرمة (¬1). [إسناده حسن] (¬2). وجه الاستدلال: قوله: " وكان يأمرنا بثلاثة أحجار" والأصل في الأمر الوجوب. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (161 - 5) ما رواه أحمد، قال: حدثنا سعيد بن منصور، قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن مسلم بن قرط، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنهن تجزئ عنه (¬1). [إسناده أرجو أن يكون حسناً] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (162 - 6) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع، عن الأعمش ح وحدثنا يحيى بن يحيى، واللفظ له، أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان قال: قيل له: قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (¬1). وجه الدلالة: أننا إذا كنا نهينا أن نستنجي بحجر واحد أو حجرين، فما بالك بمن ترك الاستنجاء بالكلية، فهذا أولى بالنهي، والأصل في النهي التحريم. الدليل الرابع: معلوم أن البول والغائط نجسان بالإجماع، وقد كلف الإنسان بإزالة النجاسة عند فعل عبادة تشترط لها الطهارة، منها حديث أسماء في غسل دم الحيض، وهو في الصحيحين، ومنها حديث أنس في بول الأعرابي، وهو متفق عليه، والأحاديث في ذلك كثيرة، فنحتاج إلى دليل على جواز الصلاة، ¬
الدليل الخامس
والإنسان لم يقم بالاستنجاء من البول والغائط، ولا دليل. الدليل الخامس: (163 - 7) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحائط من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة. الحديث ورواه مسلم بنحوه (¬1). وجه الاستدلال: أن الحديث وإن لم يكن صريحاً في وجوب الاستنجاء، لكنه صريح في وجوب إزالة النجاسة من البول، فيبقى الحديث شاملاً لكل بول، سواء كان الأثر المتبقي بعد البول، أو البول نفسه، فمن لم يوجب قطع نجاسة البول بعد الفراغ منه فعليه الدليل. وأخرت هذا الدليل لأن دلالته ليست صريحة. الراجح من الخلاف: لا شك أن قول الشافعية والحنابلة في وجوب الاستنجاء أقوى من حيث الأدلة، وهو الذي يليق بدين الإسلام دين الطهارة والنظافة، وقد جعل الطهور شطر الإيمان، في الحديث الصحيح. ¬
الفصل الثاني هل الاستنجاء على الفور أم على التراخي؟
الفصل الثاني هل الاستنجاء على الفور أم على التراخي؟ لما كان الاستنجاء هو من باب إزالة النجاسة، وإزالة النجاسة واجبة للصلاة صرح الشافعية بأن الاستجمار لا يجب على الفور، بل يجوز تأخيره حتى يريد الطهارة أو الصلاة (¬1)، ويستحب تعجيله. الدليل بأن الاستنجاء على التراخي: قياس إزالة النجاسة على بقية شروط الصلاة، فإذا دخل وقت الصلاة وجب الاستنجاء وجوباً موسعاً بسعة الوقت، ومضيقاً بضيقه كبقية الشروط (¬2). والدليل على أن النجاسة لا تجب إزالتها على الفور (164 - 8) ما رواه البخاري في صحيحه: وقال أحمد بن شبيب، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني حمزة بن عبد الله، عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك (¬3). واستدل به أبو داود في السنن على أن الأرض تطهر إذا لاقتها النجاسة بالجفاف، لقوله " فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك " فإذا نفي الرش كان ¬
الدليل على استحباب تعجيل إزالة النجاسة
نفي صب الماء من باب الأولى، فلولا أن الجفاف يفيد تطهير الأرض ما تركوا ذلك والدليل على استحباب تعجيل إزالة النجاسة. حديث أنس في تطهير بول الأعرابي، فقد بادر النبي - صلى الله عليه وسلم - في إهراق الماء على بوله، (165 - 9) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال حدثنا همام، أخبرنا إسحاق، عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى أعرابياً يبول في المسجد، فقال: دعوه حتى إذا فرغ دعا بماء فصبه عليه، ورواه مسلم (¬1). ¬
الفصل الثالث في العاجز عن الاستنجاء
الفصل الثالث في العاجز عن الاستنجاء إذا عجز الإنسان عن الاستنجاء، فمن يرى أن الاستنجاء سنة فهذا واضح أنه لا يجب عليه شيء، لأنه لو تركه مع القدرة لم يأثم، فكيف إذا تركه مع عدم القدرة عليه، وأما من يرى وجوب الاستنجاء مطلقاً أو يراه واجباً إذا تجاوز المخرج المعتاد فهل ينجيه غيره أم لا؟ فقيل: يسقط عنه الاستنجاء، وهو مذهب الحنفية (¬1)، واختيار الشوكاني (¬2). وقيل: إن أمكنه الاستنجاء بمن يجوز له النظر من زوجة أو أمة لزمه، وإلا سقط عنه، وهذا مذهب الحنابلة (¬3)، ومثله مذهب المالكية في الرجل إلا أنهم قالوا في المرأة: لا يجوز أن توكل غيرها بغسله من جارية أو غيرها لكن إن تطوع زوجها بغسله عنها فبها ونعمت، ولا يجب عليه ذلك، وإن أبى فلها أن تصلي بالنجاسة، ولا تكشف عورتها لإحد (¬4). ¬
دليل من قال بسقوط الاستنجاء عند العجز.
دليل من قال بسقوط الاستنجاء عند العجز. (166 - 10) ما رواه البخاري في صحيحه، قال: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. ورواه مسلم (¬1). دليل من قال: يلزمه إن كان عنده أمة أو زوجة متطوعة. لما كان كشف العورة للأمة والزوجة مباحاً، كان مباشرة الزوجة والأمة للاستنجاء مباحاً أيضاً. والحقيقة أن الخلاف يرجع إلى حكم كشف العورة للحاجة، والذي أراه أن كشف العورة للحاجة جائز للأجنبي. أولاً: لأن كشف العورة محرم لغيره، وما كان محرماً لغيره أباحته الحاجة وذلك كإباحة العرايا، وإباحة كشف العورة للتداوي. فجاز بيع العرايا مع أنه وقوع في ربا الفضل، لمجرد الحاجة إلى أكل الرطب تفكهاً، وقلنا: إنه من باب التفكه لأن الإنسان يملك تمراً، لكن ليس عنده رطب، فإذا كان الشرع نظر إلى حاجة هذا الشخص في التفكه، فكونه يباح له أن يتخلص من النجاسات بواسطة شخص آخر أولى، خاصة أن بقاء النجاسة على البدن يؤذي الرجل كما يؤذي من ¬
يجالسه للرائحة الكريهة التي تنبعث منه. ومثله التداوي فإنه لا يعتبر ضرورة بل يعتبر حاجة بدليل أنه يجوز تركه، ولم يرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأمة السوداء إليه (167 - 11) فقد روى البخاري رحمه الله قال: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن عمران أبي بكر، قال: حدثني عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي. قال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك. فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها. ورواه مسلم (¬1). فأرشدها إلى الصبر، ولو كان التداوي لازماً لأرشدها إليه. (168 - 12) ومنها ما رواه البخاري، قال: حدثنا مسدد، حدثنا حصين بن نمير، عن حصين بن عبد الرحمن، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً، فقال: عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد، ورأيت سواداً كثيراً سد الأفق، فرجوت أن تكون أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي: انظر فرأيت سواداً كثيراً سدَّ الأفق، فقيل لي: انظر هكذا وهكذا فرأيت سواداً كثيراً سدَّ الأفق، فقيل: هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء سبعون ¬
ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، فتفرق الناس ولم يبين لهم، فتذاكر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك، ولكنا آمنا بالله ورسوله، ولكن هؤلاء هم أبناؤنا، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون ... ورواه مسلم بنحوه الحديث (¬1). فقوله: لا يسترقون: أي لا يطلبون الرقية. ومع ذلك أجاز الفقهاء كشف العورة للتداوي، مع أنه حاجة وليس ثمت ضرورة، مع أننا في الاستنجاء لا نحتاج إلى كشف العورة، وإنما يحتاج من ينجي غيره إلى مباشرة العورة بحائل فقط دون النظر إليها. وإذا كان الميت في غسله ينجى فالحي أولى بالاستنجاء من الميت لما يلي: أولاً: أن بقاء النجاسة على الحي يؤذيه أذى شديداً، وإيذاء الحي أشد من إيذاء الميت، ويجب إزالة كل أذى عنه متى ما كان مستطيعاً. ثانياً: أن بقاء النجاسة على غيره يؤذي غيره ممن يخالطه، ولا بد للإنسان من المخالطة. ثالثاً: أن هذا المريض مكلف بأداء الصلاة، ويجب لها الطهارة متى كان مقتدراً بنفسه أو بغيره، وبقاؤه على حالته تلك يوجب له من الحرج والألم النفسي ما لم يعلم قدره إلا الله، فمن أجل هذا وغيره يجب تطهيره من النجاسة وتنقيته منها متى كان ذلك بالإمكان، والله أعلم. ¬
الباب الثاني في آداب الخلاء
الباب الثاني في آداب الخلاء ويشتمل على فصلين: الفصل الأول: في آداب تتعلق بالدخول والخروج وقضاء الحاجة. الفصل الثاني: في آداب قضاء الحاجة المتعلقة بالمكان.
الفصل الأول في آداب تتعلق بالدخول والخروج وقضاء الحاجة.
الفصل الأول في آداب تتعلق بالدخول والخروج وقضاء الحاجة. ويشتمل على أربعة عشر مبحثاً: المبحث الأول: حكم التسمية عند الدخول. المبحث الثاني: في استحباب التعوذ من الخبث والخبائث. المبحث الثالث: استحباب لبس الحذاء عند الدخول للخلاء. المبحث الرابع: في استحباب تقديم الرجل. اليسرى عند الدخول والعكس عند الخروج. المبحث الخامس: في الاعتماء على الرجل اليسرى حال قضاء الحاجة. المبحث السادس: في الكلام أثناء قضاء الحاجة. المبحث السابع: في اللبث على الحاجة فوق الحاجة. المبحث الثامن: في استحباب تغطية الرأس. المبحث التاسع: في مسح الذكر عند الفراغ من البول. المبحث العاشر: في نتر الذكر. المبحث الحادي عشر: في استحباب قول غفرانك. المبحث الثاني عشر: استحباب الحمد بعد الخروج من الخلاء. المبحث الثالث عشر: في استحباب تنظيف اليد بعد غسل دبره. المبحث الرابع عشر: في البول واقفاً.
المبحث الأول حكم التسمية عند الدخول.
المبحث الأول حكم التسمية عند الدخول. ذهب الفقهاء إلى مشروعية التسمية عند دخول الخلاء (¬1). وقيل: لا تشرع التسمية مطلقاً، وهو قول في مذهب المالكية (¬2). وقيل: لا تشرع عند الدخول، وتشرع عند الخروج، وهو قول في مذهب المالكية (¬3). دليل من قال بمشروعية التسمية. الدليل الأول: الإجماع. وممن حكى الإجماع على مشروعية التسمية عند دخول الخلاء النووي، قال: وهذا الأدب -يعني: قول بسم الله- متفق على استحبابه، ويستوي فيه الصحراء والبنيان (¬4). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (169 - 13) قال الحافظ ابن حجر: روى العمري، من طريق عبد العزيز بن المختار، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا دخلتم الخلاء، فقولوا: بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث. [ذكر التسمية في الحديث شاذ] (¬1). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (170 - 14) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، عن أبي معشر، هو نجيح، عن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل الكنيف، قال: بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث (¬1). [سنده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (171 - 15) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا محمد بن حميد الرازي، حدثنا الحكم بن بشير بن سلمان، حدثنا خلاد الصفار، عن الحكم بن عبد الله النصري، عن أبي إسحق، عن أبي جحيفة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: بسم الله. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده ليس بذاك القوي (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المبحث الثاني في استحباب التعوذ من الخبث والخبائث
المبحث الثاني في استحباب التعوذ من الخبث والخبائث ويشتمل على ثلاثة فروع: الفرع الأول: هذه الآداب خاصة في المكان المعد أم في كل مكان. الفرع الثاني: متى يقال الذكر الوراد في دخول الخلاء. الفرع الثالث: إذا دخل الخلاء بطفل فهل يعيذ الطفل بالذكر الوارد؟
المبحث الثاني في استحباب التعوذ من الخبث والخبائث يستحب أن يقول قبل الدخول: أعوذ بالله من الخبث والخبائث (¬1). الدليل على المشروعية. (172 - 16) ما رواه البخاري، رحمه الله: قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، عن عبد العزيز بن صهيب قال: سمعت أنسا يقول كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء قال اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث. ورواه مسلم أيضاً (¬1). الدليل الثاني: الإجماع على مشروعية هذا الذكر، نقل الإجماع جماعة منهم النووي في المجموع (¬2)، وابن قاسم في حاشيته على الروض (¬3)، وغيرهم. وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: وهذا الأدب مجمع على ¬
استحبابه، ولا فرق فيه بين البنيان والصحراء (¬1). قال أحمد: ما دخلت قط المتوضأ، ولم أقلها إلا أصابني ما أكره (¬2). قال الخطابي: الخبُث بضم الباء: جمع خبيث والخبائث جمع خبيثة يريد ذكران الشياطين وإناثهم. اهـ وقيل: الخبث: الشر والمكروه، والخبائث: الشياطين، فكأنه استعاذ من الشر وأهله. وقال ابن العربي: أصل الخبث في كلام العرب المكروه، فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من الملل فهو الكفر، وإن كان من الطعام، فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار. اهـ وقال الخطابي: عامة أصحاب الحديث يقولون الخبْث ساكنة الباء وهو غلط والصواب الخبُث مضمومة الباء (¬3). وجاء في عون المعبود: قال ابن سيد الناس: وهذا الذي أنكره الخطابي هو الذي حكاه أبو عبيد القاسم بن سلام، وحسبك به جلالة، وقال القاضي عياض: أكثر روايات الشيوخ بالإسكان. وقال القرطبي: رويناه بالضم والإسكان (¬4). وقال ابن دقيق العيد: ذكر الخطابي في أغاليط المحدثين روايتهم له بإسكان الباء. ولا ينبغي أن يعد هذا غلطا؛ لأن فُعُل - بضم الفاء والعين- يخفف عينه قياسا. فلا يتعين أن يكون المراد بالخبث -بسكون الباء- ما لا ¬
يناسب المعنى، بل يجوز أن يكون - وهو ساكن الباء - بمعناه، وهو مضموم الباء. نعم من حمله - وهو ساكن الباء - على ما لا يناسب، فهو غالط في الحمل على هذا المعنى، لا في اللفظ (¬1). وقال الحافظ: يجوز إسكان الموحدة كما في نظائره مما جاء على هذا الوجه، ككتب، ورسل (¬2). اهـ وقال ابن تيمية: قال أبو عبيد وابن الأنباري وغيرهما، قالوا: هو الشر والخبائث الشياطين، فكأنه استعاذ من الشر، ومن أهل الشر. وقال الخطابي: إنما هو الخبُث: جمع خبيث والخبائث جمع خبيثة استعاذ من ذكرانهم وإناثهم. قال ابن تيمية: والأول أقوى لأن: فعيل: اذا كان صفة جمع على فعلاء، مثله: ظريف: ظرفاء، وكريم: وكرماء، وإنما يجمع على فُعُل إذا كان اسماً مثل، رغيف: ورغُف ونذير ونُذُر، ولأنه أكثر (¬3). ¬
الفرع الأول هل هذه الآداب خاصة في الأماكن المعدة أم في كل مكان
الفرع الأول هل هذه الآداب خاصة في الأماكن المعدة أم في كل مكان هل الاستعاذة من الخبث والخبائث لا تشرع إلا في الأماكن المعدة لقضاء الحاجة، أو تشرع في كل مكان؟ اختلف في ذلك: فقيل: يشرع في البنيان وفي الصحراء،، لكن إن كان المكان معداً لقضاء الحاجة قال الذكر قبل دخوله المكان، وإن كان في الصحراء قال الذكر قبل أن يشمر ثوبه. قال الحافظ: وهذا مذهب الجمهور (¬1). وقيل: إن هذا الذكر خاص في الأماكن المعدة لقضاء الحاجة (¬2). ¬
دليل من قال: الذكر خاص بالحشوش
دليل من قال: الذكر خاص بالحشوش (173 - 17) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أسباط، حدثنا سعيد وعبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن القاسم الشيباني، عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا أراد أحدكم أن يدخل، فليقل: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث (¬1). [رجاله ثقات، واختلف في إسناده] (¬2). ¬
دليل من قال الذكر ليس خاصا في البنيان
وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بالاستعاذة، ثم علل الأمر بأن هذه الحشوش محتضرة، فظاهره أن غيرها ليس مثلها مما لم يكن معداً لقضاء الحاجة، فوجود الشياطين في هذه الحشوش أكثر من وجودهم في غيرها. دليل من قال الذكر ليس خاصاً في البنيان (174 - 18) ما رواه البخاري، رحمه الله: قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، عن عبد العزيز بن صهيب قال: سمعت أنسا يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث. ورواه مسلم أيضاً (¬1). فالخلاء: هو الموضع الذي يخلو الإنسان بنفسه لقضاء الحاجة، ولا يشترط أن يكون معداً لقضاء الحاجة، كما أطلق الغائط على المكان المنخفض من الأرض، في قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أتيتم الغائط. قال ابن حجر: هل يختص هذا الذكر بالأمكنة المعدة لذلك، لكونها يحضرها الشياطين، كما ورد في حديث زيد بن أرقم في السنن، أو يشمل حتى لو بال في إناء مثلا جانب البيت؟ الأصح الثاني (¬2). ¬
والذي تميل إليه نفسي أن هذا الذكر لا يختص في الأماكن المعدة لقضاء الحاجة، خاصة أن حديث زيد بن أرقم قد تكلم فيه، وحديث أنس أصح منه، وهو مطلق في أماكن الخلاء.
الفرع الثاني متى يقال الذكر الوراد في دخول الخلاء
الفرع الثاني متى يقال الذكر الوراد في دخول الخلاء الخلاف في هذه المسألة ترجع إلى الخلاف في مسألة أخرى، وهي ذكر الله في الخلاء، فمن منعه طلب أن يقول هذا الذكر قبل دخول الخلاء، ومن أجاز ذكر الله في الخلاء لم يمنع، وسوف نأتي على تفصيل هذه المسألة في مبحث مستقل إن شاء الله، والخلاف في هذه المسألة على خمسة أقوال: قيل: يقول هذا الذكر قبل دخول الخلاء إن كان المكان معداً لذلك، وإلا قاله في أول الشروع كتشمير ثيابه، وهذا مذهب الجهمور من الحنفية والشافعية والحنابلة. وقيل: يقوله قبل الدخول إن كان المكان معداً لذلك، وإن كان في مكان لم يعد لذلك فإنه يقول هذا الذكر ما لم يجلس لقضاء الحاجة. وهو قول في مذهب المالكية. وقيل: يقوله: ما لم يكشف عورته. وهو قول في مذهب المالكية. وقيل: يقوله ما لم يخرج منه الحدث، وهو قول في مذهب المالكية. وقيل: يقوله مطلقاً، ولو خرج منه الحدث، هو قول في مذهب المالكية أيضاً. وسوف نأتي على ذكر أدلة المسألة، وعزو الأقوالا إلى كتب المذاهب في مسألة ذكر الله في الخلاء إن شاء الله تعالى.
الفرع الثالث إذا دخل الخلاء بطفل فهل يعيذ الطفل بالذكر الوارد؟
الفرع الثالث إذا دخل الخلاء بطفل فهل يعيذ الطفل بالذكر الوارد؟ قال الرملي: إذا دخل الخلاء بطفل لقضاء حاجة الطفل فهل يسن له أن يقول على وجه النيابة عن الطفل: بسم الله اللهم إني أعوذ بك، أو يقول: اللهم إنه يعوذ بك، أو لا يسن قول شيء من ذلك؟ قال الرملي: فيه نظر، ولا يبعد أن يقول ذلك ويقول إنه يعوذ بك (¬1). والذي يظهر لي أن الجواب مبني على مسألة هل التعوذ من أجل دخول هذه الأماكن المحتضرة من الشياطين، أو من أجل قضاء الحاجة وكشف العورة، أو منهما جميعاً؟ فإن كان من أجل قضاء الحاجة وكشف العورة تعوذ للطفل فقط، وإن كان من أجل أن هذه الحشوش محتضرة، تكثر فيها الشياطين، فيتعوذ له وللطفل، فيقول: اللهم إنا نعوذ بك، أو يتعوذ عن نفسه، ويتعوذ للطفل بقوله: اللهم أني أعيذه بك من الخبث والخبائث، ونحو ذلك، وتعويذ الطفل بالأذكار المشروعة وارد في الشرع. (175 - 19) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسين، ويقول: إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ ¬
بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة (¬1). والله أعلم. ¬
المبحث الثالث استحباب لبس الحذاء عند الدخول للخلاء
المبحث الثالث استحباب لبس الحذاء عند الدخول للخلاء استحب بعض فقهاء الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، لبس الحذاء عند دخول الخلاء. دليل الاستحباب: (176 - 20) ما رواه البيهقي من طريق إسماعيل بن عياش، عن أبي بكر بن عبد الله، عن حبيب بن صالح، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء لبس حذاءه، وغطى رأسه (¬3). [إسناده ضعيف مع إرساله] (¬4). قال النووي: وقد اتفق العلماء على أن الحديث المرسل والضعيف والموقوف يتسامح به في فضائل الأعمال ويعمل بمقتضاه وهذا منها (¬5). قلت: لنا غنية في العمل بالحديث الصحيح عن الضعيف، ثم العمل بالمرسل عند الشافعية يعمل فيه بشروط لم تتوفر في هذا المرسل، منها أن يكون رجاله ثقات، وأن يعتضد، وهذا إسناده ضعيف، ولم يعتضد. ¬
الدليل الثاني: من النظر، قالوا: إن لبس الحذاء يقي الرجل من النجاسة، فإذا دخل حافياً قد تتنجس رجلاه، وقد يكون المحل غير طاهر، فقد يدخله الصغير الذي لا يتوقى عن نشر النجاسة في الأرض، فلبس الحذاء فيه حماية للقدم من التلوث بالنجاسة، وقد يصيب الإنسان شيء من الوسواس، هل تنجست قدماه أم لا؟ وقطع وسواس الشيطان مطلوب. قلت: هذا التعليل ظاهر، لكن ما دام أن المسألة لم يثبت فيها نص، فلو عبر بكلمة: ينبغي أو الأولى أو أي عبارة أخرى لا تكون مشتملة على ألفاظ شرعية من الاستحباب أو الكراهة ونحوها لكن أفضل، والله أعلم.
المبحث الرابع في استحباب تقديم الرجل اليسرى عند الدخول والعكس عند الخروج
المبحث الرابع في استحباب تقديم الرجل اليسرى عند الدخول والعكس عند الخروج استحب الفقهاء تقديم الرجل اليسرى عند دخول الخلاء، وتقديم الرجل اليمنى عند الخروج (¬1). دليل المشروعية: أولاً: الإجماع. قال النووي: وهذا الأدب متفق على استحبابه (¬2). ونقل الإجماع أيضاً ابن قاسم في حاشتيه (¬3). ¬
الدليل الثاني: جاءت نصوص كثيرة أن ما كان من باب التكريم قدم فيه اليمين، وما كان ضده قدم فيه اليسار، ومن هذه النصوص. (177 - 21) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، عن الأسود، عن عائشة أنها قالت: كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمنى لطهوره ولطعامه وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى. قال أحمد: وحدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن رجل عن أبي معشر عن إبراهيم عن عائشة نحوه [الراجح في الحديث أن إسناده منقطع] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
(178 - 22) ومنها: ما رواه أحمد، قال: حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن عاصم، عن المسيب، عن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أخذ مضجعه وضع يده اليمنى تحت خده الأيمن، وكانت يمينه لطعامه وطهوره وصلاته وثيابه، وكانت شماله لما سوى ذلك، وكان يصوم الاثنين والخميس (¬1). [إسناده مضطرب] (¬2). ¬
(179 - 23) ومنها: ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي، عن همام، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه، وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء. رواه مسلم، ورواه البخاري بغير هذا اللفظ (¬1). ¬
فالحديث ظاهر في إكرام اليمين، واختصاص اليسرى بالأذى. (180 - 24) ومنها ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا نزع فليبدأ بالشمال، ليكن اليمنى أولهما تنعل، وآخرهما تنزع (¬1). وهذا الحديث أيضاً ظاهر في إكرام اليمين. ومنها حديث تقديم الرجل اليمنى في دخول المسجد، واليسرى في خروجه، (181 - 25) أخرجه الحاكم، قال: حدثنا أبو حفص عمر بن جعفر المفيد المصري، ثنا أبو خليفة القاضي، ثنا أبو الوليد الطيالسي، ثنا شداد أبو طلحة، قال: سمعت معاوية بن قرة يحدث عن أنس بن مالك، أنه كان يقول: من السنة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى. [إسناده صحيح] (¬2). قال النووي: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: يستحب تقديم اليمنى في كل ما هو من باب التكريم كالوضوء، والغسل ولبس الثوب، والنعل ¬
والخف، والسروايل، ودخول المسجد، والسواك، والاكتحال وتقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط، وحلق الرأس والسلام من الصلاة، والخروج من الخلاء، والأكل والشرب، والمصافحة، واستلام الحجر الأسود، والأخذ والعطاء، وغير ذلك مما هو في معناه. ويستحب تقديم اليسار في ضد ذلك، كالامتخاط والاستنجاء، ودخول الخلاء، والخروج من المسجد، وخلع الخف والسروايل والثوب والنعل، وفعل المستقذارت، وأشباه ذلك. وقال ابن تيمية: قد استقرت قواعد الشريعة على أن الأفعال التي تشترك فيها اليمنى واليسرى تقدم فيها اليمنى إذا كانت من باب الكرامة كالوضوء والغسل، والابتداء بالشق الأيمن في السواك، ونتف الإبط، وكاللباس، والانتعال والترجل، ودخول المسجد والمنزل، والخروج من الخلاء، ونحو ذلك. وتقدم اليسرى في ضد ذلك، كدخول الخلاء، وخلع النعل، والخروج من المسجد، والذي يختص بإحداهما إن كان بالكرامة كان باليمين، كالأكل والشرب والمصافحة، ومناولة الكتب، وتناولها، ونحو ذلك. وإن كان ضد ذلك كان باليسرى، كالاستجمار، ومس الذكر، والاستنثار، والامتخاط، ونحو ذلك. اهـ ولو قيل: إن الأمور ثلاثة: ما كان ظاهراً أنه من باب التكريم، فتقدم فيه اليمنى. وما كان ظاهراً أنه من باب الأذى، فتقدم فيه اليسرى. وما لا يمكن إلحاقه في أحد منهما، فالأصل فيه اليمين، (182 - 26) لما رواه البخاري، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال:
حدثنا شعبة، قال: أخبرني أشعث بن سليم، قال: سمعت أبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، في شأنه كله. ورواه مسلم بنحوه (¬1). ¬
لكان هذا القول أقرب إلى الصواب، وأوفق بالدليل، والله أعلم. ¬
المبحث الخامس في الاعتماد على الرجل اليسرى حال قضاء الحاجة
المبحث الخامس في الاعتماد على الرجل اليسرى حال قضاء الحاجة استحب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، الاعتماد على الرجل اليسرى حال قضاء الحاجة. وقيل: لا يستحب، اختاره بعض المحققين (¬5)، وهو الراجح. دليل من قال بالاستحباب. الدليل الأول: من الأثر. (183 - 27) ما رواه البيهقي من طريق زمعة (¬6)، عن محمد بن عبد الرحمن، عن رجل من بني مدلج، عن أبيه، قال: قدم علينا سراقة بن جعشم فقال: علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل ¬
الدليل الثاني: من النظر.
أحدنا الخلاء أن يعتمد اليسرى، وينصب اليمنى (¬1). [إسناده ضعيف مسلسل بالمجاهيل] (¬2). الدليل الثاني: من النظر. قالوا: الاعتماد على اليسرى أسهل في خروج الحدث، وحكمة ذلك: أن المعدة في الشق الأيمن، فإذا اعتمد على ذلك صار المحل كالمزلق لخروج الحدث، فهي شبه الإناء الملآن الذي أقعد على جنبه للتفريغ منه، بخلاف ما إذا أقعد معتدلاً. ويجاب: بأن هذا الكلام غير دقيق، والمرجع فيه إلى الطب، وليس لنظر الفقهاء، والغائط لا يخرج من المعدة مباشرة إلى الخارج حتى يقال: إن المعدة في الشق الأيمن، ويكون الاعتماد على اليسرى من أجل إفراغها من الفضلات، والله أعلم. الدليل الثالث: أن في الاعتماد على اليسرى إكراماً لليمين. ¬
دليل من قال: لا يشرع.
ويجاب عنه: لو كان ذلك من باب إكرام اليمين لجاء الأمر به، أو فعله من الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلما لم ينقل الأمر به، ولا فعله، وكان يتكرر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن صحابته علم أنه غير مشروع، والله أعلم. دليل من قال: لا يشرع. قالوا: لم يرد في هذه المسألة شيء يثبت به حكم الندب، وما ورد في ذلك فليس بصحيح، ولا حسن، ولا ضعيف خفيف الضعف، وإثبات الأحكام الشرعية بما لا تقوم به حجة لا يجوز. الراجح عدم المشروعية، لأن الدليل الوارد فيه لا يثبت، والأصل عدم المشروعية حتى يثبت فيه دليل صحيح.
المبحث السادس في الكلام أثناء قضاء الحاجة
المبحث السادس في الكلام أثناء قضاء الحاجة ويشتمل على فرعين: الفرع الأول: في ذكر الله تعالى داخل الخلاء. الفرع الثاني: في الكلام في الخلاء.
الفرع الأول في ذكر الله تعالى داخل الخلاء
الفرع الأول في ذكر الله تعالى داخل الخلاء اختلف العلماء في ذكر الله داخل الخلاء، كأن يجيب المؤذن، أو يحمد الله إذا عطس، ومنه دخول الخلاء بشيء فيه ذكر الله، كورقة كتب فيها اسم من أسماء الله، وكالدراهم المنقوش فيها ذكر الله، ونحو ذلك على قولين: فقيل: يكره أن يذكر الله داخل الخلاء، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب المالكية (¬2)، ومذهب الشافعية (¬3) والحنابلة (¬4). وهذا المذهب منسوب إلى ابن عباس رضي الله عنهما (¬5). وقيل: لا مانع من ذكر الله داخل الكنيف، فإذا عطس فليحمد الله ولو كان على حاجته، وهو قول مالك (¬6)، ورجحه القرطبي ¬
دليل من قال يكره ذكر الله تعالى حال قضاء الحاجة.
من المالكية (¬1). وهذا المذهب منسوب إلى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، والنخعي، وابن سيرين والشعبي (¬2). ونقل الإجماع على جواز ذكر الله في القلب حال قضاء الحاجة (¬3). دليل من قال يكره ذكر الله تعالى حال قضاء الحاجة. الدليل الأول: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ قبل دخول الخلاء، ولو كان الأمر غير مكروه لكان التعوذ مصاحباً للفعل عند الشروع في قضاء الحاجة، فلما قدمه على سببه علم كراهيته له فيه. (184 - 28) فقد روى البخاري في الأدب المفرد، قال: حدثنا أبو النعمان، حدثنا سعيد بن زيد، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، قال: ¬
حدثني أنس، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يدخل الخلاء قال: اللهم إني أعو بك من الخبث والخبائث (¬1). [انفرد بقوله: إذا أراد أن يدخل سعيد بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب، والحديث في الصحيحين، من طرق عن عبد العزيز بن صهيب، بلفظ: إذا دخل الخلاء، ولم يقل: إذا أراد أن يدخل] (¬2). ¬
الدليل الثاني
وقد يقال: إن هذه الرواية ليست معارضة لرواية الصحيحين، بل هي مبينة لها؛ فتكون معنى: إذا دخل الخلاء: أي إذا أراد أن يدخل؛ لأن إذا تأتي قبلية، وبعدية، ومصاحبة بحسب القرائن (¬1). الدليل الثاني: (185 - 29) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي، حدثنا سفيان، عن الضحاك بن عثمان، عن نافع، عن ابن عمر، أن رجلا مرَّ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبول، فسلم، فلم يرد عليه (¬2). ¬
وأجيب: بأنه يحتمل أنه لم يرد عليه؛ لأنه على غير طهر، كما جاء في بعض الأحاديث. (186 - 30) فقد روى أبو داود، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن حضين بن المنذر أبي ساسان، عن المهاجر بن قنفذ أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فسلم عليه، فلم ¬
يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه، فقال: إني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر، أو قال: على طهارة (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬
الدليل الثالث
فالحديث ظاهر بأنه لم يترك السلام بناء على أنه في الخلاء، وأن ذكر الله مكروه في هذا المكان، وإنما ترك السلام؛ لأنه ليس على طهارة؛ لأنه لو سلم بعد الفراغ من البول لم يرد عليه أيضاً؛ لأنه يصدق عليه أنه ليس على طهارة. الدليل الثالث: (187 - 31) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا عيسى بن يونس، عن هاشم بن البريد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله، أن رجلا مر على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يبول، فسلم عليه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلم علي؛ فإنك إن فعلت ذلك لم أرد عليك (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (188 - 32) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا نصر بن علي، عن أبي علي الحنفي، عن همام، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء وضع خاتمه (¬1). [الحديث معلول] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: من النظر، قالوا: إن في ذلك تكريماً لاسم الله سبحانه وتعالى، وتكريم ¬
الدليل السادس
اسماء الله تعالى، وإبعادها عن الأماكن الخبيثة، وصونها عن ذلك من تعظيم الله سبحانه وتعالى، فإذا كان الإنسان يستحب له أن لا يذكر الله تعالى إلا على طهارة، كما تقدم من حديث ابن عمر تعظيماً لله سبحانه، وهي طهارة من الحدث، فتعظيم الله عن نجاسة الخبث من باب أولى. الدليل السادس: إذا كان الإنسان مأموراً أن لا يقرأ القرآن، وهو راكع أو ساجد، وشرع في حال القيام، وإن كان الركوع والسجود شرفاً للعبد، لكونه عبداً، لكنه لا يليق بالله سبحانه وتعالى الذي هو صفته، فكونه يعظم أسماء الله عن ذكرها في مكان الخلاء من باب أولى. وهذا الدليل قلته تفقهاً، والله أعلم. الدليل السابع: (189 - 33) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن زمعة، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، قال: كان ابن عباس إذا دخل الخلاء ناولني خاتمه. [إسناده ضعيف فيه زمعة بن صالح، وقد توبع] (¬1). ¬
دليل من قال: يذكر الله حتى في الخلاء.
دليل من قال: يذكر الله حتى في الخلاء. الدليل الأول: (190 - 34) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء وإبراهيم بن موسى قالا: حدثنا ابن أبي زائدة، عن أبيه، عن خالد بن سلمة، عن البهي، عن عروة، عن عائشة قالت كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث:: " كل " وكل من ألفاظ العموم. وقوله: " أحيانه" أي أوقاته، وهي نكرة مضافة، فتعم كل وقت، ومنه حال قضاء الحاجة. وأجيب: بأن المقصود يذكر الله متطهراً ومحدثاً، وجنباً، وفي حال القعود والمشي، والقيام والاضطجاع، وليس المقصود أنه يذكر الله حال قضاء الحاجة، فهذه الحال مخصوصة من الحديث. الدليل الثاني: قالوا: لا يوجد نص صريح في النهي عن ذكر الله، وقد شرع الله لنا ذكره في كل حال، وأمرنا أن نذكره ذكراً كثيراً، وحذر من نسيان ذكره، فلا نترك هذه النصوص إلا لنص صريح لا نزاع فيه، وما ذكرتموه لا يكفي لمعارضة ما ذكر: ¬
الدليل الثالث
فقولكم: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يقول الذكر قبل دخول الخلاء، إذا سلم ذلك فيكون دليلاً على استحباب هذا الذكر قبل الدخول، ولا يلزم منه كراهية ذكره بعد الدخول؛ لأن ترك المستحب لا يلزم منه ارتكاب المكروه، مع أن رواية الأكثر للحديث كان يقول إذا دخل الخلاء، وتفرد بقوله: إذا أراد أن يدخل راو ليس بالقوي. وأما حديث تركه رد السلام على من سلم عليه، فقد سبق الجواب عليه، ولا نجتهد العلة وقد نص عليها: " إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر" وأما حديث وضع الخاتم، فقد علمتم أنه معلول. وأما قولكم: إن فيه تكريماً لذكر الله، فنحن لا نذكر الله إلا تكريماً وتعظيماً له. وأما النهي عن قراءة القرآن حال الركوع والسجود، فكون العلة هي تعظيم القرآن حال الخضوع والذل، فهي علة مستنبطة، فقد تكون هي العلة، وقد تكون غيرها، فلا تخصص الأحاديث المطلقة الآمرة بذكر الله على كل حال، وعلى فرض أن تكون هي العلة، فلا يستوي كلام الله الذي هو صفته بسائر الأذكار الذي هو من كلام المخلوقين، فالفرق بين كلام الله وبين سائر الأذكاركالفرق بين الخالق والمخلوق. فتبين بهذا أنه لا يقوم دليل يخصص الآيات والأحاديث الآمرة بذكر الله تعالى، والله أعلم. الدليل الثالث: (191 - 35) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن سالم، عن كريب،
الدليل الرابع
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا؛ فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً. وأخرجه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: ترجم له البخاري في صحيحه بقوله: باب التسمية على كل حال، وعند الوقاع. قال الحافظ: فيه إشارة إلى تضعيف ما ورد من كراهية ذكر الله في حالين: الخلاء والوقاع (¬2). اهـ فإذا كان الإنسان يذكر الله حال كشف العورة في الجماع، فلا مانع من ذكر الله حال البول والغائط، والله أعلم. الدليل الرابع: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ القرآن، ورأسه في حجر عائشة، وهي حائض، فإذا كان قربه من النجاسة لا يمنعه أن يقرأ القرآن، لم يمنع حال قضاء الحاجة. (192 - 36) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن منصور، عن أمه، عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ القرآن، ورأسه في حجري، وأنا حائض، ورواه مسلم بنحوه (¬3). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: الراجح من أقوال أهل العلم أن الحائض تقرأ القرآن، مع أن حدثها مستمر، ودم الحيض بمنزلة البول، بجامع أن كلا منهما نجس، ومنتن الرائحة، ومن مخرج واحد، ومع ذلك قد تقرأ القرآن ودمها يسيل، فما المانع أن تذكر الله بغير القرآن إذا احتاجت إلى ذلك حال قضاء الحاجة. الدليل السادس: كان معروفاً ذكر الله في حال الخلاء عن بعض السلف، وهذا يذكر للاستئناس، وليس ذكره من باب الاحتجاج (193 - 37) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد -يعني: ابن سيرين- سئل عن الرجل يعطس في الخلاء؟ قال: لا أعلم به بأساً بذكر الله عز وجل (¬1). [وسنده صحيح]. (194 - 38) وروى أيضاً، قال: حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن منصور، عن إبراهيم، قال: يحمد الله فإنه يصعد (¬2). [وسنده صحيح]. (195 - 39) وروى ابن أبي شيبة أيضاً، قال: حدثنا ابن إدريس، عن حصين، عن الشعبي في الرجل يعطس على الخلاء، قال: يحمد الله (¬3). ¬
[رجاله ثقات] (¬1). فهؤلاء ثلاثة من التابعين يرون أنه لا بأس بذكر الله في الخلاء. فالراجح من الخلاف: جواز ذكر الله تعالى ولو كان على حاجته، فإذا عطس فلا يمنع أن يحمد الله، وإذا سمع المؤذن فلا مانع من إجابته، ولم أقف على دليل صحيح صريح يمنع من ذكر الله حال قضاء الحاجة، والله أعلم. ¬
مسألة: لو توضأ في الخلاء هل يأتي بالبسملة أم لا؟
مسألة: لو توضأ في الخلاء هل يأتي بالبسملة أم لا؟ أما من يرى وجوب التسمية في الوضوء، وكذلك يرى إجابة المؤذن فإنه يفعل ذلك ولو كان في الخلاء؛ لأن المكروه تبيحه الحاجة، فلا يبقى مكروهاً مع الحاجة، فما بالك بالواجب. وأما من يرى سنية التسمة وإجابة المؤذن، فهنا تعارض الأمر والنهي على القول بكراهة ذلك، فهل يقدم الأمر، أو يقدم النهي؟ (196 - 40) فالظاهر تقديم النهي؛ لما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، ورواه مسلم (¬1). فالأمر يتعلق بالاستطاعة، والنهي حتم تركه. وسوف نأتي على حكم التسمية في الوضوء في باب سنن الوضوء، والأقوال فيها ثلاثة: فقيل: تجب التسمية. وقيل: بل هي من سنن الوضوء. وقيل: لا تشرع. ومع ذلك لا يبنغي أن يعطى حكماً عاماً، بل يرجع إلى طبيعة الخلاف، فليس كل خلاف يكون الراجح قوياً، والمرجوح ضعيفاً، ففي بعض المسائل تتجاذب الأقوال، فيكون أحدها قوياً، والآخر أقوى منه، وليست المقابلة بين ¬
ضعيف وقوي، والخلاف في التسمية ليس كالخلاف في إجابة المؤذن، وهكذا، وسوف نأتي في سنن الوضوء على أدلة حكم التسمية في الوضوء، وما فيه من آثار إن شاء الله تعالى.
الفرع الثاني في الكلام في الخلاء
الفرع الثاني في الكلام في الخلاء الكلام في الخلاء إن كان في ذكر الله تعالى، فقد سبق بحثه، وإن كان كلاماً غير ذلك، فقد اختلف فيه: فقيل: يكره إلا لحاجة، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: لا يتنحنح (¬2). وقيل: يحرم، اختاره ابن عبيدان من الحنابلة (¬3). وقيل: يحرم إن كان الكلام من رجلين يضربان الغائط كاشفين عن عورتيهما (¬4). وقيل: لا يكره، وهو الراجح. وظاهر كلامهم أن الكراهة لا تختص بحال قضاء الحاجة، بل ما دام في ¬
دليل الكراهة.
المكان المعد لقضاء الحاجة. واختار بعضهم أن الكراهة تختص بقاضي الحاجة دون المكان (¬1). دليل الكراهة. (197 - 41) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن عياض، قال: حدثني أبو سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يخرج الرجلان يضربان الغائط، كاشفان عورتهما، يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك (¬2). [إسناده ضعيف، وفيه اضطراب] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل من قال: يكره التنحنح.
والحديث لو صح لدل على التحريم، وليس على الكراهة، لكن قالوا: إن التحريم خاص بمن جمع كل أوصاف الحديث، رجلان يمشيان إلى الغائط كاشفين عن عورتيهما، يتكلمان، فمن فعل بعض موجبات المقت، فقد ارتكب مكروهاً. قال الشوكاني: القرينة الصارفة إلى معنى الكراهة الإجماع على أن هذا الكلام غير محرم في هذه الحالة (¬1). دليل من قال: يكره التنحنح. لا أعلم له دليلاً، والتنحنح ليس كلاماً، فلو تنحنح الإنسان، وهو في صلاته لم تبطل صلاته، ولو كان متعمداً. وقد نص الشافعية على أنه لا يكره التنحنح. قال في تحفة المحتاج: والأقرب أن مثل التنحنح عند طرق باب الخلاء من الغير ليعلم هل فيه أحد أم لا؟ لا يسمى كلاماً، وبتقديره فهو لحاجة، وهي دفع دخول الغير عليه (¬2). اهـ ¬
دليل من قال: لا يكره.
دليل من قال: لا يكره. حجته أن الكراهة حكم شرعي، يفتقر إلى دليل شرعي، ولا دليل على الكراهة، والأصل في مثل هذا الإباحة حتى يثبت النهي من الشارع، ولم يثبت نهي، والله أعلم.
المبحث السابع في اللبث على الحاجة فوق الحاجة
المبحث السابع في اللبث على الحاجة فوق الحاجة استحب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، أن لا يطيل القعود فوق الحاجة. وفي مذهب الحنابلة ثلاثة أقوال: التحريم، وهو أشهرها (¬3). والكراهة، والجواز بلا كراهة (¬4). دليل من منع المكث فوق الحاجة. الأول: قالوا: إن فيه كشفاً للعورة بلا حاجة. الثاني: ما يروى عن لقمان الحكيم. (198 - 42) ذكره ابن المنذر بلا إسناد، قال: وروينا عن لقمان أنه قال لمولاه: إن طول القعود على الخلاء يجمع منه الكبد، ويأخذ منه الناسور (¬5). ¬
الثالث: الإجماع، قال النووي في المجموع: وهذا الأدب -يعني: عدم إطالة القعود- مستحب بالاتفاق (¬1). وقال ابن قاسم رحمه الله في حاشيته: قد حكي الإجماع على تحريمه. قلت: وفي ذلك نظر، فلعله يعني الإجماع الذي نقله النووي، فإنه ينقل كثيراً من إجماعات النووي، وهو إجماع على الاستحباب، لا على التحريم، وقد ذكرنا وجهاً في مذهب أحمد أنه يجوز بلا كراهة (¬2). هذا غاية ما يمكن أن يستدل به لهذا القول. ويمكن مناقشة هذا القول بما يلي: أما قولهم بأنه كشف للعورة بلا حاجة، فقد سبق تفصيل ذلك في مسألة: رفع الثوب قبل الدنو من الأرض، فارجع إليها إن شئت. وأما الاستدلال بما يروى عن لقمان الحكيم، فهذا لا أصل له. قال الشوكاني: ومما يضحك منه التمسك بما روي عن لقمان الحكيم، أنه يورث الباسور، فيا لله العجب ممن لا يتحاشى عن تدوين مثل هذا الكلام في كتب الهداية، ولقد أبعد النجعة من اعتمد في مثل هذه المسألة الشرعية على لقمان الحكيم (¬3). وأما قولهم: إنه يدمي الكبد، ويورث الناسور، فإن ذلك مرجعه إلى الطب، فإذا أخبر طبيب ثقة، ولو كافراً بأن هذا يحصل منه ذلك، تركناه، وأما قبل فلا. والعجب من الحنابلة كيف يعتبر رفع الثوب قبل دنوه من ¬
الأرض مكروهاً فقط مع أنه كشف للعورة بلا حاجة، ويعتبر إطالة مكثه من المحرمات، مع أنه قد يقال: إن إطالة اللبث في الخلاء تبع لأمر مباح، بخلاف من فعل ذلك ابتداء من غير حاجة، وقد يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، فقد يتسامح في إطالة المكث، ما لايتسامح في كشفه لعورته قبل دنوه من الأرض، والله أعلم. (199 - 43) وأما ما رواه الترمذي في سننه، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن نيزك البغدادي، حدثنا الأسود بن عامر، حدثنا أبو محياة، عن ليث، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إياكم والتعري؛ فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط، وحين يفضي الرجل إلى أهله، فاستحيوهم وأكرموهم. قال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وأبو محياة اسمه يحيى بن يعلى (¬1). [إسناده ضعيف]. فالراجح: أن القول بالتحريم قول ضعيف، وأما الكراهة فيتجه إلا أنه مبني على مسألة حكم كشف العورة والإنسان خالياً، فإن كان ذلك مباحاً فهو مباح، وإلا كان مكروهاً، ولا يتجاوز به الكراهة. ¬
المبحث الثامن في استحباب تغطية الرأس حال قضاء الحاجة
المبحث الثامن في استحباب تغطية الرأس حال قضاء الحاجة استحب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، تغطية الرأس عند قضاء الحاجة. دليل الاستحباب. (200 - 44) ما رواه البيهقي من طريق إسماعيل بن عياش، عن أبي بكر بن عبد الله، عن حبيب بن صالح، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء لبس حذاءه، وغطى رأسه (¬5). [إسناده ضعيف مع إرساله] (¬6). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (201 - 45) ما رواه ابن عدي، من طريق محمد بن يونس، ثنا خالد بن عبد الرحمن المخزومي، ثنا سفيان الثوري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء غطى رأسه، وإذا أتى أهله غطى رأسه (¬1). [موضوع] (¬2). الدليل الثالث: (202 - 46) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن المبارك، عن ¬
الدليل الرابع
يونس، عن الزهري، قال: أخبرني عروة، عن أبيه أن أبا بكر الصديق قال وهو يخطب الناس: يا معشر المسلمين استحيوا من الله، فوالذي نفسي بيده إني لأظل حين أذهب إلى الغائط في الفضاء مغطى رأسي استحياء من ربي (¬1). [رجاله ثقات]. وقال البيهقي: وروي عن أبي بكر، وهو عنه صحيح (¬2). (203 - 47) ومن الآثار، روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن ابن طاوس، قال: أمرني أبي إذا دخلت الخلاء أن أقنع رأسي. قلت: لما أمرك بذلك؟ قال: لا أدري (¬3). [رجاله ثقات]. الدليل الرابع: ذكر بعض الفقهاء جملة من التعاليل لاستحباب تغطية الرأس عند دخول الخلاء، فقالوا منها: يغطي رأسه حياء من الله سبحانه وتعالى. ومنها: أنه أجمع لمسام البدن، وأسرع لخروج الفضلات!! ولأنه قد يصل إلى شعره ريح الخلاء فيعلق به (¬4). وقال الحطاب: إن كشف الرأس حال قضاء الحاجة يصيبه مرض يقال ¬
له: اللوى يمنع الخارج!! (¬1) والذي صح من هذه التعليلات ما ذكره الصديق رضي الله عنه: وهو الحياء من الله سبحانه وتعالى. ولولا ما صح عن الصديق رضي الله عنه لقلت: في استحباب هذا نظر؛ لأن العورة وهي العورة يباح للإنسان إذا أراد الاغتسال أن يغتسل وهو عريان، وإن كان الستر أفضل، كما فعله موسى عليه الصلاة والسلام وأيوب، وهذا ثابت عنهما، فكيف بتغطية الرأس، ولو كان المغطى الوجه لكان له مناسبة، (204 - 48) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا إسحاق بن نصر، قال حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى - صلى الله عليه وسلم - يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فخرج موسى في إثره يقول: ثوبي يا حجر ثوبي يا حجر حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى، فقالوا: والله ما بموسى من بأس، وأخذ ثوبه، فطفق بالحجر ضرباً، فقال أبو هريرة: والله إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة ضرباً بالحجر، ورواه مسلم (¬2). (205 - 49) وروى البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام، ¬
عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بينما أيوب يغتسل عرياناً خر عليه رجل جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، فنادى ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى. قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى بي عن بركتك (¬1). ومع ذلك يكفي في الاستحباب ما جاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فينبغي تعظيم ما يروى عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمنزلتهم عند الله سبحانه، وصحبتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجهادهم في نشر الدين والعلم، وهذا من آحادهم، فكيف إذا كان هذا عن خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن له سنة متبعة، فلا يعظم صحابة رسول الله إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق. ¬
المبحث التاسع في مسح الذكر عند الفراغ من البول
المبحث التاسع في مسح الذكر عند الفراغ من البول سلت الذكر عند الفراغ من البول، ويسميه بعض الفقهاء الاستبراء: وهو طلب البراءة من البول وذلك باستخراج ما في المخرج منه، وهو خاص بالبول دون الغائط (¬1)، وقد اختلف الفقهاء في حكمه: فقيل: يجب سلت الذكر، وهو مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3). وقيل: يستحب، وهو مذهب الشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). وقيل: يختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان من طبعه وعادته أنه لا يطهر إلا بالاستبراء فعله، ومن غلب على ظنه أنه طهر، استنجى، ولو لم يستبرئ، اختاره بعض الحنفية (¬6). ¬
دليل من قال بوجوب الاستبراء بسلت ونحوه.
وقيل: يكره، اختاره بعض المحققين كابن تيمية (¬1)، وهو الراجح. دليل من قال بوجوب الاستبراء بسلت ونحوه. (206 - 50) ما رواه النسائي، قال: أخبرنا محمد بن قدامة، قال حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحائط من حيطان مكة أو المدينة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى كان أحدهما لا يستبرئ من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة. الحديث (¬2). وجه الاستدلال: قالوا: الاستبراء: طلب البراءة من البول، وذلك باستفراغ ما في المخرج منه، كما يقال: براءة الرحم: خلوه من الحمل. فالبراءة من البول: خلو الذكر منه، وذلك بسلته. وأجيب: بأن رواية الأكثر: لا يستتر. وفي رواية لمسلم: لا يستنزه، وهي بمعنى: لا يستتر (¬3). ¬
دليل من قال بالسنية.
ثم لو كان الاستبراء: هو سلت الذكر لنقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعله، فلم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلت ذكره، ولا يتنحنح، ولا يمشي خطوات قبل الاستنجاء، وكل ذلك من فعل أهل الوسوسة، ومن تلاعب الشيطان ببني آدم، ولم ينقل عن الصحابة فعل ذلك، ولو فعلوه لنقل عنهم، والله أعلم. الدليل الثاني: قال محمد عليش: إن الاستبراء شرط مطلق في صحة الوضوء إجماعاً، وعلل ذلك: بأن الباقي من البول في المخرج خارج حكماً، فهو مناف للوضوء، وشرط صحة الوضوء عدم المنافي (¬1). والصحيح أن البول في الذكر ليس في حكم الخارج، ولا ينقض الوضوء إلا بخروجه من الذكر، ومشاهدته، وإذا كان كذلك لم يجب الاستبراء منه، بل نقل ابن تيمية اتفاق العلماء على أنه لا يجب إخرج البول الواقف (¬2). والغريب أن الذين قالوا بوجوب الاستبراء كالحنفية والمالكية هم الذين يقولون: إن الاستنجاء كله ليس بواجب، فلو ترك النجاسة على مخرجيه لم يجب عليه غسلها، فهلا قالوا ذلك في سلت الذكر. دليل من قال بالسنية. (207 - 51) ممكن أن يستدل له بما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا شيبان، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، وإذا بال أحدكم فلا يمسح ذكره بيمينه، وإذا تمسح أحدكم فلا ¬
دليل من قال: لا يشرع.
يتمسح بيمينه، وأخرجه مسلم بنحوه (¬1). فقوله: لا يسمح ذكره بيمينه، مفهومه أنه يمسح ذكره بشماله، ولا يقصد فيه الاستنجاء؛ لأنه قال بعده: ولا يتمسح بيمينه. دليل من قال: لا يشرع. أولاً: أنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أرشد إليه، {وما كان ربك نسياً} (¬2). ثانياً: لأنه مضر بالصحة، يورث السلس، وما كان كذلك يحرم فعله. ثالثاً: ولأن ذلك قد ينتهي به إلى الوسواس والعياذ بالله، والوسواس غلو في الطهارة وتعد وظلم، مع ما يحمل الإنسان من تفويت للواجبات، وأحياناً في الوقوع في المحرمات. رابعاً: اعتبره ابن تيمية من البدع، قال في مجموع الفتاوى: " سلت البول بدعة، لم يشرع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحديث المروي في ذلك ضعيف لا أصل له، والبول يخرج بطبعه، وإذا فرغ انقطع بطبعه، وهو كما قيل: كالضرع، إن تركته قر، وإن حلبته در، وكلما فتح الإنسان ذكره فقد يخرج منه، ولو تركه لم يخرج منه، وقد يخيل إليه أنه خرج منه شيء، ولم يخرج، والبول يكون واقفاً في رأس الإحليل لا يقطر، فإذا عصر الذكر أو الفرج أو الثقب بحجر أو أصبع أو غيره خرجت الرطوبة، فهذا أيضاً بدعة، وذلك أن البول الواقف لا يحتاج إلى إخراج باتفاق العلماء، لا بحجر ولا أصبع، ولا غير ذلك، بل كلما أخرجه جاء غيره؛ فإنه يرشح دائماً (¬3). اهـ ¬
وجه من قال يفعله من يحتاج إليه.
وجه من قال يفعله من يحتاج إليه. نقل النووي عن إمام الحرمين قوله: إن المختار أن هذا يختلف باختلاف الناس، والمقصود أن يظن أنه لم يبق في مجرى البول شيء يخاف خروجه، فمن الناس من يحصل له هذا المقصود بأدنى عصر، ومنهم من يحتاج إلى تكراره، ومنهم من يحتاج إلى تنحنح، ومنهم من يحتاج إلى مشي خطوات، ومنهم من يحتاج إلى صبر لحظة، ومنهم من لا يحتاج إلى شيء من هذا، وينبغي لكل أحد أن لا ينتهي إلى حد الوسوسة (¬1). اهـ قلت: إذا كان البائل يحتاج إلى شيء من ذلك فهذا دليل مرض، لا صحة؛ لأنه خلاف الطبيعة، فينبغي له طلب العلاج، والحمد لله على العافية. الراجح: أنه لا يشرع له شيء من ذلك لعدم وجود دليل يدل على المشروعية، والله أعلم. ¬
المبحث العاشر في نتر الذكر
المبحث العاشر في نتر الذكر تعريف النتر: قال في المصباح المنير: نترته نتراً من باب: قَتَلَ: جذبته في شدة، والنترة المرة، والجمع نترات، مثل سجدة وسجدات (¬1). وفي اللسان: النَّتْر: الجذب بجفاء، واستنتر الرجل بوله: اجتذبه واستخرج بقيته من الذكر عند الاستنجاء (¬2). ومنه نترني فلان بكلامه: إذا شدده لك وغلظه، واستنتر: طلب النتر، وحرص عليه، واهتم به (¬3). وحكم النتر يرجع إلى حكم الاستبراء من البول، فالقائلون بوجوب الاستبراء كالحنفية والمالكية يرون أن على البائل أن يستبرئ من بوله، سواء كان عن طريق النتر أو النحنحة أو المشي خطوات، أو عن طريق مسح الذكر، فلو توقف الاستبراء على النتر كان واجباً عندهم (¬4). وقد تكلمت في مسألة سابقة عن حكم الاستبراء بمسح الذكر من أصله إلى رأسه. ¬
دليل من قال إن النتر مشروع.
بينما الشافعية والحنابلة يرون استحباب النتر (¬1). وقيل: لا يشرع النتر، اختاره ابن تيمية رحمه الله (¬2). دليل من قال إن النتر مشروع. الدليل الأول: وجوب الاستبراء من البول، وقد سبق ذكر الأدلة عليه في مسألة مستقلة. وأجيب عليها، ويزاد: بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان من أكمل الناس طهارة واستتاراً من البول، فإن كان هذا الاستبراء الذي يذكرونه من النتر والنحنحة، والمشي، والقيام والقعود الخ إن كان فعله - صلى الله عليه وسلم - فأين الدليل، وإن لم يفعله لم يكن هذا بياناً للاستتار من البول المذكور في حديث صاحب القبرين المعذبين، وفيه: "كان أحدهما لا يستتر من بوله". فلم يرشد الشرع إلا بالاستنجاء إما بماء أو بأحجار، هذا هو حقيقة الاستبراء. الدليل الثاني: قالوا: إن التوقي من البول والاحتراز منه واجب إجماعاً، وفي النتر تحقيق لذلك. والجواب: أن الذي أوجب الاحتراز من البول والتوقي منه لم يفعله، ولو ¬
الدليل الثالث
كان خيراً لفعله، ولو فعله لنقل إلينا. الدليل الثالث: (208 - 52) ما رواه أحمد، قال: حدثنا روح، حدثنا زكريا بن إسحاق، عن عيسى بن يزداد، عن أبيه فساءة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث مرات (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). دليل من قال لا يشرع النتر. الأدلة التي استدل بها من يقول: لا يشرع سلت الذكر، يستدل بها هنا ¬
على عدم مشروعية النتر، فلو كان النتر مشروعاً، لفعله خير الخلق، ولو فعله لنقل إلينا، هذا مع ما فيه من كونه مضراً للذكر، جالباً للوسوسة. قال ابن تيمية: التنحنح بعد البول والمشي، والطفر إلى فوق، والصعود في السلم، والتعلق في الحبل، وتفتيش الذكر بإسالته وغير ذلك كل ذلك بدعة، ليس بواجب ولا مستحب عند أئمة المسلمين، بل وكذلك نتر الذكر بدعة على الصحيح، لم يشرع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك سلت البول بدعة لم يشرع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والحديث المروي في ذلك ضعيف، لا أصل له، والبول يخرج بطبعه، فإذا فرغ انقطع بطبعه، وهو كما قيل: كالضرع إن تركته قر، وإن حلبته در (¬1). ¬
المبحث الحادي عشر في استحباب قول غفرانك
المبحث الحادي عشر في استحباب قول غفرانك استحب الفقهاء أن يقول: إذا خرج من الخلاء غفرانك (¬1). والدليل على هذا: (209 - 53) ما رواه أحمد، قال: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا إسرائيل، عن يوسف بن أبي بردة، عن أبيه قال: حدثتني عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج من الغائط قال غفرانك (¬2). [حديث حسن] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
مبحث مناسبة طلب المغفرة بعد قضاء الحاجة ذكر النووي وجهين: أحدهما: أنه استغفر من ترك ذكر الله تعالى، حال لبثه على الخلاء، وكان لا يهجر ذكر الله تعالى إلا عند الحاجة (¬1). اهـ وقد تعقبه بعضهم: بأنه امتنع عن ذكر الله بأمر الله، فهو محمود في ذلك غير مذموم، ومن فعل فعلاً محموداً كان المناسب له الشكر، وليس الاستغفار. وممكن أن يقال: إن المرأة ناقصة عن الرجل في دينها، وقد فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها إذا حاضت لم تصل ولم تصم، مع أنها تركت الصلاة اتباعاً للشرع، وهي محمودة في تركها للصلاة، ولو فعلت لكانت مستحقة للذم. والذي يترجح لي أن المرأة لا تثاب على تركها للصلاة؛ لأنها ليست مكلفة في الصلاة حال حيضها، ثم تركت الصلاة لوجود عذر، وإنما هي ليست مخاطبة بالصلاة حال الحيض، بخلاف من كان من عادته فعل شيء، وكان مخاطباً به مطلوباً منه فعله، ثم تركه لعذر، فإنه يكتب له، وقد بحثت هذه المسألة في كتابي الحيض والنفاس، وذكرت أقوال أهل العلم فيها، والله أعلم. الوجه الثاني: قال النووي: إنه استغفر خوفاً من تقصيره في شكر نعمة الله تعالى التي أنعمها عليه، فقد أطعمه، ثم هضمه، ثم سهل خروجه، فرأى شكره قاصراً ¬
عن بلوغ هذه النعمة، فتداركه بالاستغفار (¬1). اهـ الوجه الثالث: قال ابن القيم: في هذا من السر -والله أعلم- أن النجو يثقل البدن ويؤذيه باحتباسه، والذنوب تثقل القلب وتؤذيه باحتباسها فيه، فهما مؤذيان مضران بالبدن والقلب، فحمد الله عند خروجه على خلاصه من هذا المؤذي لبدنه، وسأل أن يخلصه من المؤذي الآخر، ويريح قلبه منه، ويخففه، وأسرار كلماته وأدعيته فوق ما يخطر بالبال (¬2). اهـ فيكون بذهاب الأذى الحسي، تذكر الأذى المعنوي: وهو الذنوب، فسأل الله المغفرة. الوجه الرابع: يذكره بعض الفقهاء، وليس له أصل. قال الخرشي: لما كان خروج الأخبثين بسبب خطيئة آدم، ومخالفة الأمر حيث جعل مكثه في الأرض، وما تنال ذريته فيها عظة للعباد، وتذكرة لما تئول إليه المعاصي، فقد روي: " أنه حين وجد من نفسه ريح الغائط، قال: أي رب، ما هذا؟ فقال تعالى: هذا ريح خطيئتك، فكان نبينا - صلى الله عليه وسلم -، يقول: حين خروجه من الخلاء: غفرانك، التفاتاً إلى هذا الأصل، وتذكيراً لأمته بهذه العظة (¬3). ولا يبعد أن يكون هذا التعليل من الإسرائيليات، خاصة أن النصارى هم الذين يرون أن بني آدم يحملون خطيئة أبيهم، فيحتاجون إلى الاستغفار عن ذنب لم يعملوه، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني عشر استحباب الحمد بعد الخروج من الخلاء
المبحث الثاني عشر استحباب الحمد بعد الخروج من الخلاء استحب الفقهاء أن يقول بعد خروجه من الخلاء: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني (¬1). دليل الاستحباب. الدليل الأول: (210 - 54) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا هارون بن إسحق، حدثنا عبد الرحمن المحاربي، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن وقتادة، عن أنس بن مالك قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (211 - 55) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبدة بن سليمان ووكيع، عن سفيان، عن منصور، عن أبي علي، أن أبا ذر كان يقول إذا خرج من الخلاء: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني (¬1). [موقوف، وإسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (212 - 56) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبدة، عن جويبر، عن الضحاك، قال: كان حذيفة إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله ... وذكر الحديث (¬1). ¬
الدليل الرابع
[ضعيف جداً] (¬1). الدليل الرابع: (213 - 57) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، قال: حدثنا هريم، عن ليث، عن المنهال بن عمرو، قال: كان أبو الدرداء إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي أماط عني الأذى وعافاني (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬
فصار الحديث يروى من حديث أنس مرفوعاً، وهو ضعيف، ومن حديث أبي ذر، الصواب موقوف من قوله، وفيه ضعف، وعن حذيفة، وهو ضعيف جداً، وعن أبي الدرداء موقوفاً عليه، وهو ضعيف، وعليه فلا يثبت في الباب شيء، والله أعلم. قال أبو حاتم الرازي: أصح حديث في هذا الباب -يعني في باب الدعاء عند الخروج من الخلاء -حديث عائشة (¬1). اهـ والذي فيه قول: غفرانك- وسبق الكلام عليه وقال الترمذي: لا نعرف في هذا الباب إلا حديث عائشة (¬2). وضعف الحديث النووي في الخلاصة (¬3). وقال في مصباح الزجاجة: هذا حديث ضعيف ولا يصح فيه بهذا اللفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء (¬4). ¬
المبحث الثالث عشر في استحباب تنظيف اليد بعد غسل دبره
المبحث الثالث عشر في استحباب تنظيف اليد بعد غسل دبره يستحب له أن يدلك يده في الأرض أو بغيرها من المطهرات بعد غسل دبره لقطع الرائحة عنها، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: يجب غسلها، وهو قول في مذهب الحنفية (¬5). وهل يشترط ذهاب الرائحة، على قولين في مذهب الحنفية (¬6). ¬
الدليل الأول
دليل الاستحباب. الدليل الأول: (214 - 58) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة فغسل فرجه بيده ثم دلك بها الحائط ثم غسلها ثم توضأ وضوءه للصلاة فلما فرغ من غسله غسل رجليه (¬1). ولفظ مسلم: " ثم أدخل يده في الإناء، أفرغ بها على فرجه، وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكاً شديداً، ثم توضأ وضوءه للصلاة (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (215 - 59) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حجاج، قال: أخبرنا شريك، عن إبراهيم بن جرير، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء دعا بماء، فاستنجى، ثم مسح بيده على الأرض ثم توضأ (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
والدليل الأول كاف في الاستدلال، وهذا الأدب ظاهر أثراً ونظراً، وهو شاهد على أن الدين الإسلامي ولله الحمد لم يترك صغيرة ولا كبيرة مما قد يحتاجها الإنسان إلا وقد أرشد إليها، فأين هذا من الديانات التي تدين بالقذارة والنجاسة، وصدق الله {ما فرطنا في الكتاب من شيء} (¬1). وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلا تجد خيراً في أي نحلة أو ملة إلا وتجد في هذه الشريعة ما هو أكمل وأتم، فلله الحمد على إكمال دينه، {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} (¬2). رضينا بالله ربا، وبالإسلام ديناً وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيناً. ¬
المبحث الرابع عشر في البول واقفا
المبحث الرابع عشر في البول واقفاً اختلف الفقهاء في البول، والإنسان قائم: فقيل: يكره من غير عذر، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3). وقيل: لا بأس به إن أمن التلوث والناظر، وهو نص المدونة (¬4)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬5). واستحب بعض المالكية البول جالساً، وهو نص خليل في مختصره (¬6)، ¬
ولا يلزم من ترك المستحب الوقوع في المكروه. فإن كان البول واقفاً من عذر جاز بالاتفاق (¬1). الدليل الأول: لم يأت نهي من الشارع عن البول واقفاً، والأصل الإباحة حتى يأتي دليل يدل على المنع. الدليل الثاني: (216 - 60) ما رواه البخاري، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة قال أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - سباطة قوم، فبال قائماً، ثم دعا بماء، فجئته بماء فتوضأ (¬2). الدليل الثالث: (217 - 61) ما رواه أحمد، قال: أبي ثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، أنا ¬
عاصم بن بهدلة وحماد، عن أبي وائل، عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى على سباطة بني فلان، فبال قائماً. قال حماد بن أبي سليمان: ففحج رجليه (¬1). [المحفوظ حديث أبي وائل، عن حذيفة، وحديث أبي وائل عن المغيرة وهم، والله أعلم] (¬2). ¬
الدليل الرابع: (218 - 62) من الآثار، ما رواه ابن أبي شيبة، عن ابن إدريس، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، قال: رأيت علياً بال قائماً، ثم توضأ، ومسح على نعليه، ثم أقام المؤذن، فخلعهما (¬1). [رجاله ثقات] (¬2). ¬
دليل من قال يكره البول قائما.
الدليل الخامس: (219 - 63) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن زيد، قال: رأيت عمر بال قائماً. [إسناده صحيح] (¬1). دليل من قال يكره البول قائماً. (220 - 64) ما رواه أحمد، قال: وكيع، عن سفيان، عن المقدام بن شريح بن هانئ، عن أبيه، قالت عائشة: من حدثك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال قائماً فلا تصدقه، ما بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً منذ أنزل عليه القرآن (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). ¬
فقالوا: إن قول عائشة هذا ناسخ لحديث حذيفة. وأجيب عنه. قال الحافظ: الصواب أنه غير منسوخ، والجواب عن حديث عائشة أنه مستند إلى علمها، فيحمل على ما وقع منه في البيوت، وأما في غير البيوت فلم تطلع هي عليه، وقد حفظه حذيفة، وهو من كبار الصحابة، وقد بينا أن ذلك كان بالمدينة، فتضمن الرد على ما نفته من أن ذلك لم يقع بعد نزول القرآن (¬1). الدليل الثاني: (221 - 65) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج، عن عبد الكريم بن أبي أمية، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر قال: رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبول قائماً، فقال: يا عمر لا تبل قائماً، فما بلت قائماً بعد (¬2). [إسناده ضعيف جداً، ومتنه منكر] (¬3). ¬
ويعارضه ما تقدم عن عمر في أدلة القول الأول أن زيد بن وهب الجهني، قال: رأيت عمر بال قائماً. ¬
الدليل الثالث: (222 - 66) ما رواه البخاري في التاريخ الكبير (¬1)، والبزار (¬2)، والطبراني في الأوسط (¬3)، من طريق سعيد بن عبيد الله بن جبير، حدثنا عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث من الجفاء: أن يبول الرجل قائماً، أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته، أو ينفخ في سجوده. قال البزار: لا نعلم رواه عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، إلا سعيد، ورواه عن سعيد عبد الله بن داود وعبد الواحد بن واصل. [ضعفه الترمذي وغيره] (¬4). ¬
الدليل الرابع: (223 - 67) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عاصم، عن المسيب بن رافع، قال: قال عبد الله: من الجفاء أن يبول قائماً (¬1). [المسيب لم يسمع من ابن مسعود] (¬2). الدليل الخامس: (224 - 68) ما رواه البيهقي من طريق عدي بن الفضل، عن علي، عن الحكم، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد الله قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبول الرجل قائماً (¬3). [ضعيف جداً] (¬4). وأجابوا عن كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - بال قائماً بعدة أجوبة منها: ¬
الأول: أنه كان به - صلى الله عليه وسلم - وجع الصلب، وأن العرب كانت تستشفي لوجع الصلب، ولا دليل على هذا. الثاني: أنه فعل ذلك لوجع في مأبضه، (225 - 69) فقد أخرج الحاكم، ومن طريقه البيهقي من طريق حماد بن غسان الجعفي، ثنا معن بن عيسى، نا مالك بن أنس، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بال قائماً من جرح كان بمأبضه. [إسناده ضعيف] (¬1). الثالث: قالوا: إنه لم يجد مكاناً يصلح للقعود، فاحتاج إلى القيام، وقد يكون خشي أن يرتد عليه بوله خاصة أنه بال على سباطة القوم. الرابع: قالوا: إنما بال قائماً؛ لأنها حالة يؤمن معها خروج الريح، ففعل ذلك لكونه قريباً من الديار. (226 - 70) ويؤيده ما رواه ابن المنذر، من طريق سعيد بن عمرو بن سعيد، قال: قال عمر: البول قائماً أحصن للدبر (¬2). [رجاله ثقات إلا أن سعيد بن عمرو بن سعيد لم يدرك عمر]. فالوجوه المتقدمة كلها ضعيفة، والصواب أنه فعل ذلك لبيان الجواز، بل إن العرب كانت تعد البول قاعداً من شأن المرأة. ¬
(227 - 71) فقد روى أحمد، قال: حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن بن حسنة، قال: كنت أنا وعمرو بن العاص جالسين، قال: فخرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه درقة أو شبهها، فاستتر بها، فبال جالساً. قال: فقلنا: أيبول كما تبول المرأة؟! قال: فجاءنا، فقال: أو ما علمتم ما أصاب صاحب بني إسرائيل؟ كان الرجل منهم إذا أصابه شيء من البول، قرضه، فنهاهم عن ذلك، فعذب في قبره (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). قال السيوطي: قال الشيخ ولي الدين العراقي: هل المراد التشبه بها في الستر أو الجلوس أو فيهما؟ محتمل، وفهم النووي الأول، فقال في شرح أبي داود: معناه أنهم كرهوا ذلك، وزعموا أن شهامة الرجال لا تقتضي الستر على ما كانوا عليه في الجاهلية. ¬
الراجح من الخلاف
قال الشيخ ولي الدين: ويؤيد الثاني رواية البغوي في معجمه، فإن لفظها، فقال بعضنا لبعض: يبول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما تبول المرأة، وهو قاعد. وفي معجم الطبراني: " يبول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس كما تبول المرأة " وفي سنن بن ماجة: قال أحمد بن عبد الرحمن المخزومي: كان من شأن العرب البول قائماً، ألا تراه في حديث عبد الرحمن بن حسنة يقول يقعد ويبول (¬1). الراجح من الخلاف: جواز البول واقفاً بشرطه، وهو الأمن من الناظر. وأما الأمن من التلوث فليس بشرط؛ لأن التلوث بالنجاسة ليس محرماً، وإنما يشترط أن يتخلى من النجاسة عند إرادة العبادة التي من شرطها الطهارة كالصلاة، والله أعلم. ¬
المبحث الخامس عشر استحباب أن يهيء ما يستجمر به قبل جلوسه
المبحث الخامس عشر استحباب أن يهيء ما يستجمر به قبل جلوسه استحب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، أن يهيء ما يستجمر به قبل جلوسه. دليل الاستحباب. الدليل الأول: (228 - 72) ما رواه أحمد، قال: حدثنا سعيد بن منصور، قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن مسلم بن قرط، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنهن تجزئ عنه (¬4). [إسناده أرجو أن يكون حسناً] (¬5). الدليل الثاني: (229 - 73) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل، ¬
الدليل الثالث
قال: حدثنا مخلد بن خالد، قال: حدثنا ابراهيم بن خالد الصنعاني، قال: حدثنا رباح بن زيد، عن معمر، عن سماك بن الفضل، عن أبي رشدين، عن سراقة بن مالك بن جعشم، أنه كان إذا جاء من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدث قومه وعلمهم، فقال له رجل يوماً- وهو كأنه يلعب- ما بقي لسراقة إلا أن يعلمكم كيف التغوط؟ فقال سراقة: إذا ذهبتم الى الغائط فاتقوا المجالس على الظل، والطريق، خذوا النبل واستنشبوا على سوقكم، واستجمروا وتراً (¬1). [إسناده ضعيف مع أنه موقوف] (¬2). قال النووي: النُبَل بضم النون وفتح الموحدة: هي الحجارة الصغيرة (¬3). الدليل الثالث: من النظر، قالوا: لأنه إذا لم يعد الأحجار أو الماء، وتحرك لتحصيل المزيل ربما انتشرت النجاسة فلا يكفيه إلا الماء، وربما تلوثت ثيابه بالنجاسة، فكان الأفضل أن يعدها قبل جلوسه ليزيلها مباشرة. ¬
الفصل الثاني في آداب قضاء الحاجة المتعلقة بالمكان
الفصل الثاني في آداب قضاء الحاجة المتعلقة بالمكان ويشتمل على اثني عشر مبحثاً: المبحث الأول: في طلب المكان الرخو. المبحث الثاني: في استحباب الاستتار. المبحث الثالث: في حكم استقبال الريح حال البول. المبحث الرابع: في حكم استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط. المبحث الخامس: في حكم استقبال القبلة واستدبارها حال الاستنجاء. المبحث السادس: في استقبال النيرين (الشمس والقمر). المبحث السابع: في البول في الطريق والظل النافع وتحت شجرة مثمرة. المبحث الثامن: في البول في المسجد. المبحث التاسع: في البول في الشق ونحوه. المبحث العاشر: في البول على القبر. المبحث الحادي عشر: في البول في الإناء المبحث الثاني عشر: في التحول عن موضع قضاء الحاجة عند الاستنجاء.
المبحث الأول في طلب المكان الرخو
المبحث الأول في طلب المكان الرخو يستحب أن يطلب لبوله موضعاً رخواً، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). دليل المشروعية. الدليل الأول: الإجماع. قال النووي: وهذا الأدب متفق على استحبابه (¬2). الدليل الثاني: أن طلب المكان الرخو مشروع حتى يأمن التلوث بالبول، حتى لا يرتد عليه رشاش من بوله. (230 - 74) فقد روى البخاري، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحائط من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يعذبان، وما ¬
الدليل الثالث
يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة. الحديث ورواه مسلم بنحوه (¬1). قال الشوكاني: إن كان البول في الصلب مما يتأثر عنه عود شيء منه إلى البائل، فتجنب ذلك واجب؛ لأن التلوث به حرام، وما يتسبب عن الحرام حرام (¬2). الدليل الثالث: (231 - 75) ما رواه أحمد، قال: حدثنا بهز، حدثنا شعبة، حدثنا أبو التياح، عن شيخ لهم، عن أبي موسى، قال: مال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى دمث إلى جنب حائط، فبال قال: شعبة فقلت لأبى التياح جالساً قال لا أدري قال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن بني إسرائيل كانوا إذا أصابهم البول قرضوه بالمقاريض، فإذا بال أحدكم فليرتد لبوله (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (232 - 76) روى الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا بشر بن موسى، ثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني، ثناسعيد بن زيد، عن واصل مولى أبي عيينة، عن يحيى بن عبيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتبوأ لبوله كما يتبوأ لمنزله (¬1). [إسناده ضعيف]. قال السيوطي: يتبوأ بالهمز لبوله كما يتبوأ لمنزله: أي يطلب موضعاً يصلح كما يطلب موضعاً يصلح للسكنى، يقال: تبوأ منزلاً: أي اتخذه، فالمراد: اتخاذ محل يصلح للبول فيه. قال الحافظ العراقي: واستعمال هذه اللفظة على جهة التأكيد، والمراد: أنه يبالغ في طلب ما يصلح لذلك، ولو قصر زمنه، كما يبالغ في استصلاح المنزل الذي يراد للدوام، وفيه أنه يندب لقاضي الحاجة أن يتحرى أرضاً لينة من نحو تراب أو رمل، لئلا يعود عليه الرشاش، ¬
الدليل الخامس
فينجسه، فإذا لم يجد إلا صلبة لينها بنحو عود، والله أعلم (¬1). الدليل الخامس: (233 - 77) روى الحارث بن أبي أسامة، قال: حدثنا الحكم بن موسى، نا الوليد-هو ابن مسلم- عن الوليد بن سليمان بن أبي السائب، عن طلحة بن أبي قنان، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يبول فوافى عزازاً من الأرض أخذ عوداً فنكت به في الأرض حتى يثير التراب، ثم يبول فيه (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). الدليل السادس: (234 - 78) ما رواه ابن عدي في الكامل (¬4)، وابن حبان في المجروحين (¬5)، من طريق عمر بن هارون البلخي، عن الأوزاعي، عن يحيى ¬
بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتبوأ للبول، كما يتبوأ الرجل لنفسه منزلاً. [إسناده ضعيف جداً] (¬1). ¬
المبحث الثاني في استحباب الاستتار
المبحث الثاني في استحباب الاستتار ويشتمل على خمسة فروع: الفرع الأول: استحباب الابتعاد عن أعين الناس إن كان في الفضاء. الفرع الثاني: في وجوب ستر العورة عن الناس عند قضاء الحاجة. الفرع الثالث: في رفع الثوب قبل الدنو من الأرض. الفرع الرابع: إذا لم يتمكن الإنسان من قضاء الحاجة إلا بالنظر إلى عورته. الفرع الخامس: إذا اضطر إلى كشف العورة أمام الغير لقضاء الحاجة.
الفرع الأول استحباب الابتعاد عن أعين الناس إن كان في الفضاء
الفرع الأول استحباب الابتعاد عن أعين الناس إن كان في الفضاء ذكر المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، إلى أنه يندب لقاضي الحاجة إذا كان في الفضاء التباعد عن الناس. دليل المشروعية. الدليل الأول: (235 - 79) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن مغيرة بن شعبة، قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فقال: يا مغيرة خذ الإداوة، فأخذتها، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توارى عني، فقضى حاجته. الحديث، ورواه مسلم (¬4). الدليل الثاني: (236 - 80) ما رواه مسلم، قال: حدثنا شيبان بن فروخ وعبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي، قالا: حدثنا مهدي -وهو ابن ميمون- حدثنا ¬
الدليل الثالث
محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي، عن عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم خلفه، فأسر إلي حديثاً لا أحدث به أحداً من الناس، وكان أحب ما استتر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحاجته هدف، أو حائش نخل (¬1). الدليل الثالث: (237 - 81) ما رواه أحمد، قال: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن المغيرة بن شعبة قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، وكان إذا ذهب أبعد في المذهب، فذهب لحاجته وقال يا مغيرة اتبعني بماء فذكر الحديث .. (¬2). [إسناده حسن، والحديث صحيح] (¬3). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (238 - 82) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، حدثنا يحيى بن سعيد، عن أبي جعفر الخطمي، قال: حدثنا عمارة بن خزيمة والحارث بن فضيل، عن عبد الرحمن بن أبي قراد قال: خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حاجاً، فرأيته خرج من الخلاء، فاتبعته بالإداوة أو القدح، فجلست له بالطريق، وكان إذا أتى حاجته أبعد (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (239 - 83) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا مسدد بن مسرهد، حدثنا عيسى بن يونس، أخبرنا إسمعيل بن عبد الملك، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (240 - 84) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب، حدثنا يحيى بن سليم، عن ابن خثيم، عن يونس بن خباب، عن يعلى بن مرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ذهب إلى الغائط أبعد (¬1). [إسناده فيه ضعف] (¬2). ¬
الدليل السابع
الدليل السابع: (241 - 85) ما رواه أبو يعلى في مسنده، قال: حدثني أبو بكر الرمادي، حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا نافع -يعني: ابن عمر- عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذهب لحاجته إلى المغمس. قال نافع: نحو ميلين عن مكة (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬
الدليل الثامن
الدليل الثامن: (242 - 86) ما رواه أبو يعلى، قال: حدثنا محمد بن بكار، حدثنا يوسف بن عطية، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن أنس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انطلق لحاجته تباعد حتى لا يكاد يرى (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل التاسع
الدليل التاسع: (243 - 87) ما رواه أحمد، قال: حدثنا سريج بن النعمان، قال: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا ثور بن يزيد، عن حصين الحبراني، عن أبي سعد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج عليه. ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أكل فما تخلل فليلفظ، ومن أكل بلسانه فليبتلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً فليستدبره، فإن الشيطان يلعب ¬
الدليل العاشر
بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج (¬1). [إسناده ضعيف، يرويه مجهول، عن مجهول] (¬2). ولو كان الحديث صحيحاً لكان الاستتار واجباً؛ فإذا كان تركه يفضي إلى أن يتلاعب بمقاعد بني آدم، كيف يكون الاستتار مستحباً. الدليل العاشر: (245 - 89) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا هاشم بن مرثد، ثنا آدم، نا حبان بن علي، نا سعد بن طريف الإسكاف، عن عكرمة، عن ابن عباس قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد الحاجة أبعد المشي، فانطلق ذات يوم لحاجته، ثم توضأ، ولبس أحد خفيه، فجاء طائر أخضر، فأخذ الخف الآخر، فارتفع به، ثم ألقاه، فخرج منه أسود سابح، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذه كرامة أكرمني الله بها، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم إني أعوذ بك من شر من يمشي على بطنه، ومن شر من يمشي على رجلين، ومن شر من يمشي على أربع (¬3). [إسناده ضعيف جداً] (¬4). هذه الأدلة من السنة، وقد كان يكفي ذكر الصحيح عن الضعيف، لكن أردت أن أستوعب تخريج الأحاديث لمن أراد أن ينظر في صحتها، والله أعلم. ¬
الدليل الحادي عشر
الدليل الحادي عشر: استدلوا على مشروعية الإبعاد في الفضاء بالإجماع. قال النووي: وهذان الأدبان -يعني: البعد والاستتار- متفق على استحبابهما (¬1). وابتعاد الإنسان هل يشرع للبول والغائط، أو للغائط فقط؟ فقد يقال يشرع للغائط فقط، (246 - 90) لما أخرج مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، أخبرنا أبو خيثمة، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائماً، فتنحيت فقال: ادنه، فدنوت حتى قمت عند عقبيه، فتوضأ فمسح على خفيه. وأخرجه البخاري (¬2). فهنا بال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمر حذيفة أن يكون قريباً منه: فقيل: فعله لبيان الجواز. وقيل: استدناه ليستتر به عن أعين الناس، واستدبره حذيفة، (247 - 91) فقد روى الطبراني من حديث عصمة بن مالك، قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض سكك المدينة، فانتهى إلى سباطة قوم، فقال: يا حذيفة استرني، وسكت عليه الحافظ في الفتح. وقيل: فعله؛ لأنه في البول خاصة، وهو أخف من الغائط؛ لاحتياجه إلى زيادة تكشف، ولم يقترن به من الرائحة. ولإن الغرض من الإبعاد هو التستر، ¬
وهو حاصل لمن بال قائماً بإرخاء ذيله، ودنوه من الساتر. وقيل: فعله؛ لأنه بال قائماً، ولو بال قاعداً لتباعد، فلا بأس لمن بال قائماً أن يبول بقرب الناس؛ لأن البول قائماً أحصن للدبر (¬1)، وقد روي عن عمر، ولا أظنه يصح. (248 - 92) فقد روى ابن المنذر، حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن مطرف، عن سعيد بن عمرو بن سعيد، قال: قال عمر: البول قائماً أحصن للدبر (¬2). [ورجاله كلهم ثقات إلا أن سعيد بن عمرو بن سعيد لم يدرك عمر]. (249 - 93) وقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن إدريس وابن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر: مابلت قائماً منذ أسلمت (¬3). [إسناده صحيح]. ¬
الفرع الثاني في وجوب ستر العورة عن الناس عند قضاء الحاجة
الفرع الثاني في وجوب ستر العورة عن الناس عند قضاء الحاجة يجب ستر العورة عن الناس (¬1). أدلة وجوب ستر العورة والدليل على ذلك من الكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} (¬2). (250 - 94) ومن السنة: ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد وإسماعيل بن إبراهيم، عن بهز قال: حدثني أبي، عن جدي قال قلت يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر قال احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قال قلت يا رسول الله فإذا كان القوم بعضهم في بعض قال إن استطعت أن لا يراها أحد فلا ¬
يرينها قلت فإذا كان أحدنا خاليا قال فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه. حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن بهز فذكر مثله قال فالله عز وجل أحق أن يستحيا منه ووضع يده على فرجه (¬1). [إسناده حسن] (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (251 - 95) روى مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، عن الضحاك بن عثمان قال: أخبرني زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد (¬1). الدليل الثالث: من الإجماع. قال النووي: ستر العورة عن العيون واجب بالإجماع (¬2). ونقل الإجماع معه جماعة (¬3). ¬
الفرع الثالث في رفع الثوب قبل الدنو من الأرض
الفرع الثالث في رفع الثوب قبل الدنو من الأرض استحب الفقهاء أن لا يرفع ثوبه قبل الدنو من الأرض، وبعضهم عبر بكراهة رفع الثوب. وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). وقيل: يحرم، وهي رواية عن الإمام أحمد (¬2). وقيل: يجوز بلا كراهة، يعني: ولم يكن ثم ناظر ينظر إلى عورته (¬3). قال الطيبي: يستوي فيه الصحراء والبنيان؛ لأن رفع الثوب فيه كشف العورة، وهو لا يجوز إلا عند الحاجة، ولا ضرورة في الرفع قبل القرب من الأرض (¬4). ¬
دليل من قال: يستحب أن لا يرفع ثوبه من الأرض.
دليل من قال: يستحب أن لا يرفع ثوبه من الأرض. الدليل الأول: الإجماع، قال النووي: هذا الأدب مستحب بالاتفاق. الدليل الثاني: (252 - 96) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن رجل، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد حاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثالث: (253 - 97) ما رواه الطبراني، من طريق الحسين بن عبيد الله العجلي، ثنا شريك، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، ¬
دليل من قال: يحرم كشف ثوبه قبل دنوه من الأرض.
عن جابر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض (¬1). [موضوع] (¬2). دليل من قال: يحرم كشف ثوبه قبل دنوه من الأرض. الدليل الأول: قال دلت السنة على تحريم كشف العورة، ولو كان الإنسان خالياً. (254 - 98) لما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد وإسماعيل بن إبراهيم عن بهز قال حدثني أبي، عن جدي قال: قلت: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك. قال قلت: يا رسول الله فإذا كان القوم بعضهم في بعض قال: إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها. قلت: فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه (¬3). [إسناده حسن] (¬4) ¬
وجه الاستدلال: قال ابن حجر: ظاهر حديث بهز يدل على أن التعري في الخلوة غير جائز مطلقاً. اهـ قلت: لأن وجوب ستر العورة عن الناس لا ينازع فيه أحد، فإذا كان الله أحق أن يستحيا منه من الناس، كان ستر العورة خالياً أولى بالمنع هذا ما يفيده قوله: " فالله أحق" كما استدل به في قوله: " اقضوا الله فالله أحق بالقضاء" (255 - 99) فقد روى البخاري، قال: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، عن أبي بشر قال: سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتى رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: إن أختي قد نذرت أن تحج، وإنها ماتت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم. قال: فاقض الله، فهو أحق بالقضاء (¬1). وكونه ثبت عن موسى وأيوب عليهما السلام اغتسالهما عريانين، فهذا في شريعتهما، وقد جاء في شريعتنا ما يدل على وجوب ستر العورة خالياً. قال الشوكاني: أصل ستر العورة الوجوب، فلا يحل كشف شيء منها إلا لضرورة، كما يكون عند خروج الحاجة، فالاستتار قبل حالة الخروج واجب، فيكشف عورته حالا الانحطاط لخروج الخارج، لا حال كونه قائماً، ولا حال كونه ماشياً إلى قضاء الحاجة (¬2). اهـ ¬
وممكن أن يجاب. بأن يقال: قوله: فالله أحق بالقضاء، هذا التعبير لا يدل على الوجوب، فالصيام عن الميت، ووفاء نذره لا يجب على غير الميت، ولكن القضاء عنه من الوفاء له والبر به، لكن الأصل في العبادة أنها واجبة على الإنسان نفسه، لكن إن تطوع أحد من الورثة كان محسناً، فلا يدل تعبير " فالله أحق " على وجوب قضاء العبادة عن الميت، وبالتالي لا يدل على وجوب ستر العورة والإنسان خالياً، والله أعلم.
الفرع الخامس: إذا اضطر إلى كشف العورة أمام الغير لقضاء الحاجة
الفرع الخامس (*): إذا اضطر إلى كشف العورة أمام الغير لقضاء الحاجة إذا لم يتمكن الإنسان من قضاء الحاجة إلا بالنظر إليه، فعل ذلك بعد أن يأمرهم بكف أبصارهم، وبالانكار عليهم إن لم يفعلوا؛ لأن كشف العورة محرم لغيره (¬1)، فتبيحه مجرد الحاجة، فكيف وهو هنا مضطر إلى كشفها، ولذلك يجوز كشف عورته للتداوي مع أن التداوي ليس بواجب، ولو تركه لا يلام. وأما الاستنجاء فيتركه، ولا يجب عليه فعله مع النظر إليه؛ لأن إزالة النجاسة ليست واجبة على الفور، ويحاول تخفيفها وتقليلها بنحو حجر ونحوه من تحت ساتر ما أمكن (¬2)، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في كراهية استقبال الريح
المبحث الثالث في كراهية استقبال الريح يكره استقبال الريح حال البول، وهو مذهب الجمهور (¬1). دليل الكراهة. الدليل الأول: (256 - 100) ما رواه الطحاوي، قال: حدثنا روح، قال: ثنا سعيد بن كثير بن عفير، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا خرج أحدكم لغائط أو بول فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ولا يستقبل الريح (¬2). [زيادة ولا يستقبل الريح زيادة منكرة انفرد بها ابن لهيعة، وحديث أبي هريرة في صحيح مسلم وليس فيه هذه الزيادة] (¬3). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (257 - 101) ما رواه الدارقطني من طريق مبشر بن عبيد، حدثني الحجاج بن أرطاة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ثم مر سراقة بن مالك المدلجي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن التغوط، فأمره أن يتنكب القبلة ولا يستقبلها ولا يستدبرها، ولا يستقبل الريح، وأن يستنجي بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع، أو ثلاثة أعواد، أو ثلاث حثيات من تراب. قال الدارقطني: لم يروه إلا مبشر بن عبيد، وهو متروك الحديث (¬1). وجاء من مسند سراقة مرفوعاً، والراجح وقفه (¬2). الدليل الثالث: (258 - 102) ما رواه ابن عدي، من طريق يوسف بن السفر بن الفيض أبو الفيض، ثنا الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره البول في الهواء. ¬
الدليل الرابع
حكم عليه ابن عدي بالوضع (¬1). الدليل الرابع: (259 - 103) قال الحافظ: روى ابن قانع عن الحضرمي رفعه: إذا بال أحدكم فلا يستقبل الريح ببوله، فترده عليه. قال الحافظ: وإسناده ضعيف جداً (¬2). الدليل الخامس: من النظر أن في استقبال الريح قد يتلوث بالنجاسة بأن ترد عليه بوله. هذا ما وقفت عليه مما ورد في الباب، والمعتمد في الكراهة التعليل، وإلا فالدليل لا يثبت فيه شيء، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع في حكم استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط
المبحث الرابع في حكم استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط اختلف العلماء في حكم استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة إلى سبعة أقوال، فقيل: يحرم مطلقاً، وهو المشهور من مذهب الحنفية (¬1)، ورجحه من المالكية ابن العربي (¬2)، ورواية في مذهب أحمد (¬3)، واختاره ابن حزم (¬4). وهو قول أبي أيوب الأنصاري، وأبي هريرة، وابن مسعود، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، والثوري، وأبي ثور، وعطاء، والأوزاعي وغيرهم. وقيل: يجوز مطلقاً، وهو قول عائشة رضي الله عنها، وعروة، وربيعة، وداود (¬5). وقيل: يحرم استقبال القبلة واستدبارها في الصحراء، ويجوز في البنيان ونحوه، وهو مذهب المالكية (¬6)،والشافعية (¬7)، ¬
دليل من قال بالتحريم مطلقا في الصحراء والبنيان.
والحنابلة (¬1)، ونسبه الحافظ في الفتح إلى الجمهور، واختاره البخاري في صحيحه، قال ابن حجر: وهو أعدل الأقوال. وقيل: يكره استقبال القبلة واستدبارها، وهو الراجح. وقيل: يحرم الاستقبال والاستدبار في الصحراء والبنيان، ويحل الاستدبار فيهما، وهو رواية عن أبي حنيفة، وأحمد (¬2). وقيل: يجوز الاستدبار في البنيان فقط، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: إن التحريم مختص بأهل المدينة، ومن كان على سمتها، وأما من كانت قبلته في جهة المشرق أو المغرب فيجوز له الاستقبال والاستدبار مطلقاً، وهذا أضعف الأقوال، والله أعلم. دليل من قال بالتحريم مطلقاً في الصحراء والبنيان. الدليل الأول: (260 - 104) ما رواه البخاري، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا. قال أبو أيوب: ¬
الدليل الثاني
فقدمنا الشأم، فوجدنا مراحيض بنيت قبل القبلة، فننحرف ونستغفر الله تعالى، ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال من الحديث: أن النهي عن استقبال القبلة واستدبارها مطلق، فيشمل ما إذا كان في الصحراء أو في البنيان، وهذا هو الذي فهمه أبو أيوب راو الحديث رضي الله عنه، فإنه كان ينحرف عن القبلة في المرحاض، وهو بنيان، ويستغفر الله؛ لأنه اعتبر ذلك ذنباً ممن فعله، ومشروع للمسلم أن يستغفر الله إذا رأى كثرة المعاصي حتى لا تشمله عقوبة عامة، وغضب من الله {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} (¬2). الدليل الثاني: (261 - 105) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أحمد بن الحسن بن خراش، حدثنا عمر بن عبد الوهاب، حدثنا يزيد -يعني: ابن زريع- حدثنا روح، عن سهيل، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها (¬3). ولم يستثن الحديث من ذلك شيئاً، فوجب أن يشمل الصحراء والبنيان. الدليل الثالث: (262 - 106) ما رواه مسلم من طريق الأعمش، عن إبراهيم، عن ¬
الدليل الرابع
عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان، قال: قيل له: قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء، حتى الخراءة؟! قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (¬1). الدليل الرابع: (263 - 107) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا أحمد بن حرب الموصلي، حدثنا القاسم بن يزيد الجرمي، عن إبراهيم بن طهمان، عن حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من لم يستقبل القبلة، ولم يستدبرها في الغائط كتب له حسنة، ومحي عنه سيئة. قال الطبراني: لم يروه عن يحيى إلا حسين، ولا عنه إلا إبراهيم، ولا عنه إلا القاسم، تفرد به أحمد [إسناده حسن] (¬2). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (264 - 108) ما رواه البزار في مسنده، قال: حدثنا الحسن بن يحيى وإبراهيم بن عبد الله قالا: نا مسدد، قال: نا حصين بن نمير قال: نا سفيان بن حسين، عن الحكم، عن إبراهيم، عن علقمة قال: قال رجل من المشركين لعبد الله: إني لأحسب صاحبكم قد علمكم كل شيء، حتى علمكم كيف تأتون الخلاء. قال: إن كنت مستهزئاً، فقد علمنا أن لا نستقبل القبلة بفروجنا، وأحسبه قال: ولا نستنجي بأيماننا، ولا نستنجي بالرجيع، ولا نستنجي بالعظم، ولا نستنجي بدون ثلاثة أحجار (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (265 - 109) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا ليث -يعني: ابن سعد، عن يزيد -يعني: ابن أبي حبيب- أنه سمع عبد الله بن الحارث الزبيدي يقول: أنا أول من سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يبولُ أحدكم مستقبل القبلة، وأنا أول من حدث الناس بذلك (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬
الدليل السادس.
الدليل السادس. أن العلة في النهي تكريم القبلة، ولذلك قال: لا تستقبلوا القبلة. وهذا موجود في الصحاري والبنيان، ولو كان مجرد الحائل كافياً لجاز في الصحاري لوجود الجبال والأشجار بيننا وبين الكعبة، وأما جهة القبلة فلا حائل بيننا وبينها. قال ابن العربي: ظاهر الأحاديث يقتضي أن الحرمة إنما هي للقبلة، لقوله: " لا تستقبلوا القبلة " فذكرها بلفظها، فأضاف الاحترام لها. اهـ (266 - 110) على أن الدارقطني روى في سننه، قال: نا محمد بن إسماعيل الفارسي، ثنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد، نا عبد الرزاق، عن زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، قال: سمعت طاووساً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى أحدكم البراز، فليكرم قبلة الله، فلا يستقبلها، ولا يستدبرها، ثم ليستطب بثلاثة أحجار، أو ثلاثة أعواد، أو ثلاث حثيات من تراب، ثم ليقل: الحمد لله الذي أخرج ما يؤذيني، وأمسك ما ينفعني (¬1). ¬
دليل من قال بالجواز مطلقا.
[إسناده ضعيف، ورفعه منكر، والصواب وقفه على طاووس] (¬1). دليل من قال بالجواز مطلقاً. الدليل الأول: الأصل الحل، فلا يجوز المنع إلا بدليل لا معارض له، وقد نظرنا في الأدلة فإذا هي متعارضة، فلم يجب العمل بشيء منها، فرجعنا إلى الأصل، وهو الحل (¬2). الدليل الثاني: (267 - 111) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يعقوب، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني أبان بن صالح، عن مجاهد بن جبر، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهانا عن أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا أهرقنا الماء، قال: ثم رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة (¬3). ¬
[إسناده حسن] (¬1). ¬
ولا يعتبر هذا الحديث مخالفاً لحديث أبي أيوب وسلمان وأبي هريرة حتى يضعف لذلك، بل هو موافق لها في كونه نهى عن استقبال القبلة أولاً، ولكنه زاد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رآه يفعل ذلك، ومخرج الحديث ليس واحداً حتى يقال بشذوذه، فلا أجد مناصاً من قبوله. وقد أجيب عنه بأجوبة منها: أولاً: أنه حكاية فعل للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلا يقدم على القول، ولا يعارضه أيضاً، فيحتمل أن يكون خاصاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والقول تشريع للأمة. وهذا الاحتمال ضعيف؛ لأن الأصل التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (¬1)، حتى يأتي دليل صحيح صريح بأن ذلك خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: يحتمل أن فعله لبيان الجواز، ولبيان أن النهي ليس للتحريم، وإنما هو للكراهة فقط. وهذا هو الذي يتمشى مع القواعد. ¬
الدليل الثالث
وقيل: يحتمل أن كان يبول إلى ساتر، ولا يتعين الساتر أن يكون بناء؛ لأن ذلك هو المعهود من حاله - صلى الله عليه وسلم - لمبالغته في التستر، ولا فرق في الساتر بين الجدار والدابة وكثيب الرمل، ونحوها. الدليل الثالث: (268 - 112) ما رواه أحمد، قال: ثنا وكيع، ثنا حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، عن خالد بن أبي الصلت، عن عراك، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد فعلوها؟ استقبلوا بمقعدتي القبلة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
قال ابن حزم: حديث عائشة ساقط؛ لأن روايه خالد الحذاء، وهوثقة، عن خالد بن أبي الصلت، وهو مجهول. ثم قال: ولو صح لما كان لهم فيه ¬
الدليل الثالث
حجة، لأن نصه يبين أنه إنما كان قبل النهي؛ لأن من الباطل المحال أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهاهم عن استقبال القبلة بالبول والغائط، ثم ينكر عليهم طاعته في ذلك، هذا ما لا يظنه مسلم، ولا ذو عقل، وفي هذا الخبر إنكار ذلك عليهم، فلو صح لكان منسوخاً بلا شك. الدليل الثالث: (269 - 113) استدل بعضهم بما رواه البخاري، قال: عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن عبد الله بن عمر، أنه كان يقول: إن ناساً يقولون إذا قعدت على حاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس، فقال عبد الله بن عمر: لقد ارتقيت يوماً على ظهر بيت لنا، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على لبنتين مستقبلا بيت المقدس لحاجته. الحديث (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن استقبال القبلة واستدبارها، فكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - استدبر القبلة في حديث ابن عمر، وحديث جابر دليل على جواز استقبالها، فهذا دليل على أن النهي عن الاستقبال والاستدبار منسوخ، وأن الاستقبال والاستدبار كلاهما جائز. ونوزع هذا الاستدلال بما يلي: أما القائلون بتحريم الاستقبال والاستدبار، فأجابوا عن حديث ابن ¬
عمر بما يلي: يحتمل أن يكون فعل ابن عمر قبل النهي عن استدبار القبلة، لأنه على البراءة الأصلية. قال ابن حزم: " ليس فيه -يعني: حديث ابن عمر- أن ذلك كان بعد النهي، وإذا لم يكن ذلك فيه، فنحن على يقين من أن ما في حديث ابن عمر موافق لما كان الناس عليه قبل أن ينهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وهذا ما لا شك فيه، فحكم حديث ابن عمر منسوخ قطعاً بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، هذا يعلم ضرورة، ومن الباطل المحرم ترك اليقين بالظنون، وأخذ المتيقن نسخه، وترك المتيقن أنه ناسخ، وقد رجحنا في غير هذا المكان أن كل ما صح أنه ناسخ، لحكم منسوخ، فمن المحال الباطل أن يكون الله تعالى يعيد الناسخ منسوخاً، والمنسوخ ناسخاً، ولا يبين ذلك تبياناً لا إشكال فيه، إذ لو كان هذا لكان الدين مشكلاً غير بين، ناقصاً غير كامل، وهذا باطل، قال الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} (¬1) وقال تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} (¬2). انتهى كلام ابن حزم (¬3). وقالوا أيضاً: إن حديث ابن عمر فعل، وأحاديث النهي قول، والقول مقدم على الفعل؛ لأن الفعل قد يكون فعله معذوراً أو ناسياً بخلاف القول، وقد يكون الفعل خاصاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬
دليل من فرق بين الصحراء والبنيان.
والجواب: أن الأصل عدم العذر والنسيان، وكونه خاصاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - سبق الجواب عليه. وقالوا أيضاً: إننا لو أخذنا به لكان ليس فيه إلا جواز الاستدبار، وليس فيه جواز الاستقبال. وهذا القول بناء على أن حديث جابر لم يثبت عندهم، أو لم يطلعوا عليه، وسبق لنا أنه حديث حسن إن شاء الله تعالى. أما القائلون بالتفريق بين الصحراء وغيرها، فأجابوا عن حديث ابن عمر: بأن حديث ابن عمر دليل على جواز ذلك في البنيان، وأن المنع مختص بالصحراء؛ لأننا لما رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استقبل القبلة واستدبرها، واستحال أن يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما نهى عنه، علمنا أن الحال التي استقبل فيها القبلة واستدبرها غير الحال التي نهى عنها، فأنزلنا النهي عن ذلك في الصحاري، والرخصة في البيوت؛ لأن حديث ابن عمر في البيوت، ولم يصح لنا أن يجعل أحد الخبرين ناسخاً للآخر؛ لأن الناسخ يحتاج إلى تاريخ، أو دليل لا معارض له، ولا سبيل إلى القول بالنسخ ما وجد إلى استعمال الدليلين، والقول بالنسخ إبطال لأحدهما (¬1). دليل من فرق بين الصحراء والبنيان. الدليل الأول: حملوا حديث أبي أيوب الأنصاري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا. ورواه ¬
مسلم (¬1). ومثله حديث سلمان وابن مسعود وأبي هريرة حملوا هذه الأحاديث على الصحراء. وحملوا حديث ابن عمر رضي الله عنهما: لقد ارتقيت يوماً على ظهر بيت لنا، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على لبنتين مستقبلا بيت المقدس لحاجته. الحديث (¬2). على جواز استدبار القبلة إذا كان ذلك في البنيان. وحملوا حديث جابر رضي الله عنه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهانا عن أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا أهرقنا الماء، قال: ثم رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة (¬3). حملوا هذا الحديث على جواز الاستقبال إذا كان هناك ساتر من جدار أو غيره، مع أن حديث جابر ليس فيه ذكر الساتر، لكن قالوا: هو المعهود من حاله - صلى الله عليه وسلم - لمبالغته في التستر حال قضاء الحاجة. قال الحافظ ابن حجر: دل حديث ابن عمر على جواز استدبار القبلة في الأبنية، وحديث جابر على جواز استقبالها، ولولا ذلك لكان حديث أبي أيوب لا يخص من عمومه بحديث ابن عمر إلا جواز الاستدبار فقط، ولا يلحق به الاستقبال قياساً؛ لأنه لا يصح إلحاقه به، لكونه فوقه (¬4). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (270 - 114) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، ثنا صفوان بن عيسى، عن الحسن بن ذكوان، عن مروان الأصفر، قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن هذا؟ قال: بلى إنما نهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس (¬1). [إسناده فيه لين] (¬2). ¬
وجه الاستدلال: قالوا: إن قول ابن عمر: إنما نهي عن هذا في الفضاء، يدل على أنه علم ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيكون له حكم الرفع. وأجيب: هذا القول من ابن عمر يحتمل أن يكون قال ذلك فهماً منه للفعل الذي شاهده من النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواه، فكأنه لما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت حفصة مستدبراً ¬
الدليل الثالث
للقبلة، فهم اختصاص النهي بالبنيان، فلا يكون هذا الفهم حجة، ولا يصلح هذا للاستدلال به، خاصة وقد عارضه غيره من الصحابة، منهم أبو أيوب، فلا يكون حجة، وقد خالف الصحابي صحابي آخر، هذا على التسليم بأن قول ابن عمر: إنما نهي عن هذا بالفضاء صحيح، ومع تضعيفه يكون لا حاجة إلى هذا التوجيه، والله أعلم. الدليل الثالث: من النظر، قالوا: إن التكريم وإن كان لجهة القبلة، فإن التفريق بين البنيان والصحراء له حظ من النظر، وذلك أن الأمكنة المعدة لقضاء الحاجة تكون مأوى للشياطين، فليست صالحة لكونها قبلة؛ ولأن الحديث يقول: إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة. وحقيقة الغائط: هو المكان المطمئن من الأرض في الفضاء، وهذه حقيقته اللغوية، فلا يدخل فيه البنيان أصلاً، وإن كان قد صار يطلق على كل مكان أعد لذلك مجازاً، فيختص النهي به؛ إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة. قال الحافظ: وهذا الجواب للإسماعيلي، وهو أقواها. وقالوا أيضاً: إن استقبال القبلة إنما يتحقق في الفضاء، وأما الجدار والأبنية، فإنها إذا استقبلت أضيف إليها الاستقبال عرفاً (¬1). الدليل الرابع: (271 - 115) ما رواه الدراقطني (¬2) من طريق موسى بن وارد. ورواه البيهقي (¬3) من طريق يعقوب بن كعب الحلبي، كلاهما عن حاتم ¬
بن إسماعيل، عن عيسى بن أبي عيسى، قال: قلت للشعبي: عجبت لقول أبي هريرة، ونافع عن ابن عمر. قال: وما قالا؟ قلت: قال أبو هريرة: لا تستقبلوا القبلة ولا تسدبروها. وقال نافع، عن ابن عمر: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب مذهباً مواجه القبلة. فقال: أما قول أبي هريرة ففي الصحراء. إن لله تعالى خلقاً من عباده يصلون في الصحراء، فلا تستقبلوهم، ولا تستدبروهم، وأما بيوتكم هذه التي يتخذونها للنتن،، فإنه لا قبلة لها. [إسناده ضعيف جداً] (¬1). ومع ضعفه، فإن متنه منكر؛ فإنه علله بوجود المصلين في الصحراء، لا تكريماً للقبلة، وقد رده ابن العربي من خمسة أوجه: الأول: أنه موقوف على الشعبي. الثاني: أنه إخبار عن غيب، فلا يثبت إلا عن الشارع. الثالث: أنه لو كان لحرمة المصلين ما جاز التشريق والتغريب؛ لأن العورة لا تخفى معه أيضاً عن المصلين، وهذا يعرف باختبار المعاينة. الرابع: أن النهي علل بحرمة القبلة، لقوله: لا تستقبلوا القبلة، فذكرها بلفظها، وأضاف الاحترام لها. الخامس: أن الاسناد فيه رجل متروك (¬2). ¬
وقال النووي: قول المصنف: ولأن في الصحراء خلقاً من الملائكة والجن يصلون. هكذا قال أصحابنا واعتمدوه، ورواه البيهقي بإسناد ضعيف، عن الشعبي التابعي من قوله. وهو تعليل ضعيف؛ فإنه لو قعد قريباً من حائط، واستقبله، ووراءه فضاء واسع، جاز بلا شك، صرح به إمام الحرمين والبغوي وغيرهما، ويدل على ما قدمناه عن ابن عمر، أنه أناخ راحلته، وبال إليها، فهذا يبطل هذا التعليل، فإنه لو كان صحيحاً لم يجز في هذه الصورة، فإنه مستدبر الفضاء الذي فيه المصلون، ولكن التعليل الصحيح أن جهة القبلة معظمة، فوجب صيانتها في الصحراء، ورخص فيها بالنباء للمشقة (¬1). اهـ قلت: الأحاديث القولية مطلقة، تشمل الاستقبال والاستدبار، والصحراء والبنيان، وكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك في البنيان، هل ورد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين أنه إنما خالف النهي؛ لأنه كان في البنيان، أم أن كونه في البنيان وقع اتفاقاً، وإلا فهو وصف غير مؤثر في الحكم؟ الذي يترجح لي الثاني. ولو كان البنيان مؤثراً لما أطلق الرسول - صلى الله عليه وسلم - النهي في أحاديث كثيرة منها حديث أبي أيوب، وسلمان وابن مسعود وأبي هريرة، وغيرها. والذي يؤيد ذلك حديث جابر، فإن الراوي لم يذكر أنه كان في البنيان، ولم يذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عمد إلى ساتر، فاعتماد أن البنيان مؤثر في الحكم، ويلحق به الساتر علة مظنونة مستنبطة، قد تكون علة مؤثرة، وقد لا تكون، وفهم جابر رضي الله عنه في حديثه قد بين أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن استقبال القبلة، ثم وقع منه مخالفة لما نهى، وهو واضح أن النهي كان مطلقاً، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد خالف ذلك بعد أن نهى، واعتبار أن الفعل يكون ¬
دليل من قال بكراهة الاستقبال والاستدبار.
ناسخاً للقول ضعيف أيضاً، فالراجح عندي القول بالكراهة، وانظر وجهه في الكلام الآتي. دليل من قال بكراهة الاستقبال والاستدبار. قالوا: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا نهى عن شيء، فالأصل فيه التحريم، وإذا خالف النهي انتقل من التحريم إلى الكراهة. وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر بشيء اقتضى الوجوب، فإذا خالف ذلك الأمر انتقل الأمر إلى الاستحباب، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الاستقبال والاستدبار مطلقاً، ثم خالف ذلك في الاستدبار كما في حديث ابن عمر، وخالف ذلك في الاستقبال كما في حديث جابر، فانتقل النهي من التحريم إلى الكراهة، والله أعلم. دليل من قال يحرم الاستقبال مطلقاً ويحل الاستدبار مطلقاً. وأما الذين قالوا بتحريم الاستقبال في الصحراء والبنيان، وجواز الاستدبار فيهما فاستدلوا بتحريم الاستقبال بحديث أبي أيوب وسلمان وغيرهما. وقد تقدم ذكر الأحاديث. واستدلوا بجواز الاستدبار مطلقاً بحديث ابن عمر: ارتقيت فوق ظهر بيت حفصة لبعض حاجتي .. الحديث. ومنعنا الاستقبال مطلقاً؛ لأنه لم يقم دليل على جوازه (¬1)، ولا يصح قياس الاستقبال على الاستدبار لعدم مساواة الفرع بالأصل، لكون الاستقبال أشد قبحاً من الاستدبار. ¬
دليل من قال بجواز الاستدبار في البنيان فقط.
دليل من قال بجواز الاستدبار في البنيان فقط. تمسك هذا القائل بظاهر حديث ابن عمر، فإنه - صلى الله عليه وسلم - استدبر القبلة في البنيان، فيخصص النهي عن استدبار القبلة، ويبقى النهي عن الاستقبال مطلقاً بلا مخصص، شاملاً للصحراء والبنيان، والله أعلم. دليل من قال: يحرم حتى في القبلة المنسوخة. الدليل الأول: (272 - 116) ما رواه ابن أبي شيبة، من طريق سليمان بن بلال، ووهيب، فرقهما، قالا: حدثنا عمرو بن يحيى المازني، عن أبي زيد، عن معقل الأسدي، وقد صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلتين بعائط أو بول (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
وقد نقل الخطابي الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس لمن لا يستدبر في استقباله الكعبة، والله أعلم. وفي هذا الإجماع نظر، فقد خالف فيه ابن سيرين وإبراهيم النخعي، نقله عنهما الحافظ في الفتح (¬1). (273 - 117) وقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، عن ابن عون، عن ابن سيرين، قال: كانوا يكرهون أن يستقبلوا واحدة من القبلتين (¬2). ¬
دليل من قال: التحريم خاص بأهل المدينة ومن على سمتها.
[رجاله ثقات]. وقول التابعي: كانوا يكرهون يقصد به الصحابة رضوان الله عليهم، ولعل الصحابة كانوا يكرهون ذلك؛ لأن استقبالهم بيت المقدس يستلزم استدبار الكعبة، فالعلة استدبار القبلة، لا استقبال بيت المقدس، فقد ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - استقبل بيت المقدس حال قضاء الحاجة، كما في حديث ابن عمر، وقد تقدم. دليل من قال: التحريم خاص بأهل المدينة ومن على سمتها. وهذا القول هو أضعف الأقوال، وقد أخذوه من عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولكن شرقوا أو غربوا" قاله أبو عوانة، صاحب المزني، وهذه ظاهرية بحتة، ولا يوجد حكم يخص به أهل المدينة دون غيرهم، والعلة تكريم القبلة، وهم وغيرهم سواء في ذلك. بقي أن نشير قبل ختام هذا البحث أن القائلين بالتفريق بين الصحراء والبنيان لا فرق عندهم في الساتر بين الجدار والدابة والوهدة، وكثيب الرمل، ونحو ذلك، ولو أرخى ذيله في قبالة القبلة فهل يحصل به الستر، وجهان عند الشافعية والحنابلة، الصحيح منهما عندهما الاكتفاء بذلك حيث أمن التنجس؛ لأن المقصود أن لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بسوأته، وهذا المقصود يحصل بالذيل، وبه قال المالكية (¬1). وإذا قلنا: إن الساتر مؤثر في جواز الاستقبال والاستدبار حال قضاء الحاجة، ومعلوم أن الفضاء فيه جبال وأشجار وغيرها، فهل يشترط مسافة ¬
معينة من الساتر حتى يكون مؤثراً، أو يكفي وجود الساتر ولو بعد من الإنسان، وهل يشترط في الساتر قدراً معيناً في ارتفاعه، أو لا يشترط. أما القائلون بالتحريم مطلقاً كالحنفية فلا يحتاجون إلى هذا التفصيل. وأما القائلون بالتفريق بين الصحراء والبنيان، فهم يفصلون في ذلك: قال ابن ناجي من المالكية: لم أقف عندنا على مقدار السترة (¬1). وأما الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، فقالوا: إن كان قضاء الحاجة في بيت بني لذلك كالمرحاض ونحوه، فلا يشترط أن يكون قريباً من الساتر، وإن كان في غيره، فقالوا: يشترط أن يكون بينه وبين الساتر نحو ثلاثة أذرع، فما دونها، وأن يكون ارتفاع الساتر مرتفعاً قدر مؤخرة الرحل، فإن زاد ما بينهما على ثلاثة أذرع، أو قصر الحائل عن مؤخرة الرحل، فهو حرام. وإنما اعتبروا في المسافة ثلاثة أذرع كسترة الصلاة، واعتبروا مؤخرة الرحل في الارتفاع من أجل أن تستر أسفله ليحصل المقصود. وكل هذه الشروط تدل على أن اشتراط الساتر فيه ضعف، لأن كل هذه المقادير تحتاج إلى توقيف، ولا توقيف هنا. وهذا التفصيل لا يلزمنا إذا رجحنا القول بكراهة استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة، في الصحراء والبنيان، والله أعلم. ¬
المبحث الخامس في حكم استقبال القبلة واستدبارها حال الاستنجاء
المبحث الخامس في حكم استقبال القبلة واستدبارها حال الاستنجاء اختلف العلماء في استقبال القبلة واستدبارها عند الاستنجاء: فقيل: يكره الاستقبال والاستدبار، وهو المشهور من مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يكره الاستقبال فقط، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: لا يكره الاستقبال والاستدبار حال الاستنجاء، ومثله الجماع، وخروج الريح، وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). وقال المراداوي من الحنابلة: ويتوجه التحريم (¬5). ولم أقف على نص في مذهب المالكية إلا أن تكون مقيسة على الجماع، وهم قد نصوا على تحريم الوطء في الفضاء مستقبلاً القبلة أو مستدبرها (¬6). ¬
ويرجع اختلافهم إلى اختلافهم في علة المنع من استقبال القبلة بالبول والغائط، هل هو للخارج النجس، أو لكشف العورة ونحوها؟ فمن علل بالأول أباح الاستنجاء، ومن علل بالثاني منعه، والله أعلم. والصحيح جواز الاستنجاء مستقبل القبلة، لعدم وجود الدليل المقتضي للتحريم، أو الكراهة، {وما كان ربك نسياً} (¬1). ولأن الأصل في الأشياء الحل. فلا نحرم ولا نكره شيئاً إلا بنص. وتكريم القبلة في مثل هذا الأمر يحتاج إلى توقيف، نعم جاء النص فيه بالبول والغائط، فلا يتعداه إلى غيره، ولو كان الانحراف عن القبلة من شرع الله حال الاستنجاء أو الوطء لجاء النص فيه من الشرع لحاجة الناس إليه، بل قد بالغ الحنفية حتى كرهوا مد الرجل إلى القبلة في النوم وغيره عامداً، وهذا تكلف لا يعرف عن السلف رحمهم الله (¬2). ¬
المبحث السادس في استقبال النيرين (الشمس والقمر)
المبحث السادس في استقبال النيرين (الشمس والقمر) كره جمهور الفقهاء من الحنفية (¬1)، وقول في مذهب المالكية (¬2)، وعليه جمهور الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، استقبال عين الشمس والقمر (¬5)،. وقيل: يكره استقبالهما واستدبارهما، اختاره بعض الحنفية. (¬6)، وبعض الشافعية (¬7). وقيل: لا يكره مطلقاً الاستقبال والاستدبار، اختاره بعض المالكية (¬8)، وبعض ¬
دليل من قال بالكراهة.
الشافعية (¬1)، وبعض الحنابلة (¬2)، ورجحه الشوكاني (¬3). دليل من قال بالكراهة. (274 - 118) ما رواه الحكيم الترمذي في كتاب المناهي، كما في تلخيص الحبير، من طريق عباد بن كثير، عن عثمان الأعرج، عن الحسن، قال: حدثني سبعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم أبو هريرة وجابر، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك يزيد بعضهم على بعض في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبال في المغتسل، ونهى عن البول في الماء الراكد، ونهى عن البول في المشارع، ونهى أن يبول الرجل، وفرجه باد إلى الشمس والقمر ... وذكر حديثاً طويلاً في نحو خمسة أوراق (¬4). [قال الحافظ: وهو حديث باطل لا أصل له، بل هو من اختلاق عباد] (¬5). الدليل الثاني: أوردوا تعاليل فيها نظر كثير، فقالوا: كره؛ لأن معهما ملائكة؛ ولأن ¬
دليل من قال: لا يكره استقبال الشمس والقمر.
أسماء الله مكتوبة عليهما، ولأنهما يلعنانه؛ ولأن نورهما من نور الله، وقيل: لشرفهما بالقسم بهما، فأشبهتا الكعبة (¬1). أما قولهم: إن معهما ملائكة، فلا يقتضي ذلك كراهة؛ لأن كثيراً من مخلوقات الله قد وكل فيها ملائكة كالسحاب، والجبال وغيرهما، فهل يكره استقبال الغيم مثلا؟ وأما القول بأن أسماء الله مكتوبة عليهما، فهذا يحتاج إلى توقيف، فأين الدليل عليه؟ وكذلك يقال عن قولهم: بأنهما يلعنان من يستقبلهما. وأما قولهم بأن فيهما من نور الله، فلا شك أن نورهما نور مخلوق، وليس المقصود بنور الله الذي هو صفته، وإذا كان كذلك فلا يقتضي هذا التعليل كراهة، ولو أخذنا بهذا التعليل لكره استقبال ضوئهما، بحيث لا يستقبل ضوء الشمس والقمر حال البول، وأنتم إنما كرهتم استقبال عينهما. وأما قولهم: إن الله قد أقسم بهما، فقد أقسم الله بالنجوم أيضاً، وأقسم بالضحى، وأقسم بالليل، فلا تقضى فيها الحاجات إذاً، فهذه التعاليل هالكة. دليل من قال: لا يكره استقبال الشمس والقمر. الدليل الأول: عدم الدليل على الكراهة، والكراهة حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي. الدليل الثاني: (275 - 119) ما رواه البخاري، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: ¬
حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا. قال أبو أيوب: فقدمنا الشأم، فوجدنا مراحيض بنيت قبل القبلة، فننحرف، ونستغفر الله تعالى، ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: قوله: " ولكن شرقوا أو غربوا " فيه الإذن باستقبال الشرق أوالغرب واستدبارهما، فلا بد أن يكونا أو أحدهما في الشرق أو الغرب، والله أعلم. فالراجح: جواز استقبال النيرين. قال ابن القيم: لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك كلمة واحدة، لا بإسناد صحيح، ولا ضعيف، ولا مرسل، ولا متصل، وليس لهذه المسألة أصل في الشرع (¬2). وقال الشوكاني: وأما استقبال النيرين فهذه من غرائب أهل الفروع، فإنه لم يدل على ذلك دليل لا صحيح، ولا حسن، ولا ضعيف، وما روي في ذلك فهذا كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن رواية الكذابين، وإن كان ذلك بالقياس على القبلة، فقد اتسع الخرق على الراقع، ويقال لهذا القائس: ما هكذا تورد يا سعد الإبل .. وأعجب من هذا إلحاق النجوم النيرات بالقمرين، فإن الأصل باطل، فكيف بالفرع، وكان ينبغي لهذا القائس أن يلحق السماء، فإن لها شرفاً عظيماً، لكونها مستقر الملائكة، ثم يلحق الأرض؛ لأنه مكان العبادات والطاعات، ومستقر عباد الله الصالحين، فحينئذ تضيق على قاضي ¬
الحاجة الأرض بما رحبت، ويحتاج أن يخرج عن هذا العالم عند قضاء الحاجة، وسبحان الله ما يفعل التساهل في إثبات أحكام الله من الأمور التي يبكى لها تارة، ويضحك منها أخرى (¬1). ¬
المبحث السابع في البول في الطريق والظل النافع وتحت شجرة مثمرة
المبحث السابع في البول في الطريق والظل النافع وتحت شجرة مثمرة اختلف العلماء في حكم البول في الطريق والظل النافع: فقيل: يكره البول فيها، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، واختاره بعض المالكية (¬2)، وعليه أكثر أصحاب الشافعية (¬3)، ورواية في مذهب أحمد (¬4). وقيل: يستحب اتقاء هذه الأماكن. اختارها من المالكية الخرشي (¬5). وقيل: يحرم البول فيها، اختاره بعض المالكية (¬6)، ورجحه النووي من الشافعية (¬7)، وهو رواية في مذهب أحمد، جزم بها في ¬
أدلة القائلين بالتحريم.
المغني وغيره (¬1). أدلة القائلين بالتحريم. الدليل الأول: من الكتاب، قوله تعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً} (¬2). ولا شك أن الذي يتغوط في طريق الناس، وفي ظلهم ومجالسهم أنه قد آذى المؤمنين بذلك. الدليل الثاني: (276 - 120) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر جميعاً، عن إسمعيل بن جعفر -قال ابن أيوب- حدثنا إسمعيل، أخبرني العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اتقوا اللعانين. قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس، أو في ظلهم (¬3). الدليل الثالث: (277 - 121) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا إسحق بن سويد الرملي ¬
وعمر بن الخطاب أبو حفص وحديثه أتم، أن سعيد بن الحكم حدثهم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، حدثني حيوة بن شريح، أن أبا سعيد الحميري حدثه، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ومعنى قوله: " اتقوا اللاعنين، أو الملاعن " يحتمل أن يكون المعنى: أي الملعون فاعلهما. فيكون المراد من اسم الفاعل اسم المفعول. ويحتمل أن يكون المعنى: أي الجالبين للعن، أي الباعثين للناس عليه، فإنه سبب للعن من فعله في هذه المواضع، وهذا المعنى يرجع إلى الأول؛ لأن المسلمين لا يلعنون ولا ينبغي لهم أن يلعنوا أحداً إلا لشخص مستحق للعن، ولو كان غير مستحق لنهى الشرع عن لعنه، فبأي المعنيين حملناه، فإنه دليل ¬
الدليل الرابع
على أن صاحبه ملعون، والعياذ بالله، وهذا دليل على أن فعله محرم، وليس مكروهاً كما قيل، أو أن اتقاءه مستحب على قول. الدليل الرابع: (278 - 122) ما رواه أحمد، قال: حدثنا محمد بن سلمة، عن هشام، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا سرتم في الخصب فأمكنوا الركاب أسنانها، ولا تجاوزوا المنازل، وإذا سرتم في الجدب فاستجدوا، وعليكم بالدلج؛ فإن الأرض تطوى بالليل، وإذا تغولت لكم الغيلان فنادوا بالأذان، وإياكم والصلاة على جواد الطريق، والنزول عليها؛ فإنها مأوى الحيات والسباع، وقضاء الحاجة فإنها الملاعن (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (279 - 123) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عتاب بن زياد، حدثنا عبد الله قال: أخبرنا ابن لهيعة قال: حدثني ابن هبيرة، قال: أخبرني من سمع ابن عباس يقول: ¬
الدليل السادس
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول اتقوا الملاعن الثلاث. قيل: ما الملاعن يا رسول الله؟ قال: أن يقعد أحدكم في ظل يستظل فيه، أو في طريق، أو في نقع ماء (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). قال في فيض القدير: نقع ماء: أي ماء ناقع: أي مجتمع ومستنقع الماء (¬3). الدليل السادس: (280 - 124) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمد بن حبان بن بكر الباهلي البصري ببغداد، ثنا كامل بن طلحة الجحدري، ثنا محمد بن عمرو الأنصاري، عن محمد بن سيرين، قال: قال رجل لأبي هريرة: قد أفتيتنا في كل شيء، يوشك أن تفتينا في الخرء. فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من سل سخيمته على طريق ¬
الدليل السابع
عامرة من طرق المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل السابع: (281 - 125) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا عمرو بن خالد، حدثنا ابن لهيعة، عن قرة، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يصلى على قارعة الطريق، أو يضرب الخلاء عليها، أو يبال فيها (¬3). ¬
[إسناده ضعيف] (¬1). ¬
الدليل الثامن
الدليل الثامن: (282 - 126) ما رواه الطبراني من طريق شعيب بن بيان، ثنا عمران القطان، عن قتادة، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسيد، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من آذى المسلمين في طرقهم، وجبت عليه لعنتهم (¬1). [إسناده فيه لين] (¬2). ¬
الدليل التاسع
الدليل التاسع: (283 - 127) ما رواه الطبراني من طريق فرات بن السائب، عن ميمون بن مهران، عن ابن عمر، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتخلى الرجل تحت شجرة مثمرة، ونهى أن يتخلى على ضفة نهر جار (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). الدليل العاشر: (284 - 128) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل، قال: حدثنا مخلد بن خالد، قال: حدثنا ابراهيم بن خالد الصنعاني، قال: حدثنا رباح بن زيد، عن معمر، عن سماك بن الفضل، ¬
عن أبي رشدين، عن سراقة بن مالك بن جعشم، أنه كان إذا جاء من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدث قومه وعلمهم، فقال له رجل يوماً- وهو كأنه يلعب- ما بقي لسراقة إلا أن يعلمكم كيف التغوط؟ فقال سراقة: إذا ذهبتم الى الغائط فاتقوا المجالس على الظل، والطريق، خذوا النبل واستنشبوا على سوقكم، واستجمروا وتراً (¬1). [إسناده ضعيف مع أنه موقوف] (¬2). ¬
الدليل الحادي عشر
الدليل الحادي عشر: (285 - 129) ما رواه الخطيب في تاريخه، من طريق داود بن عبد الجبار، حدثنا سلمة بن المجنون، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من تغوط على ضفة نهر يتوضأ منه ويشرب، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). الدليل الثاني عشر: (286 - 130) حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعاً: اتقوا الملاعن. [رجح الدراقطني وقفه] (¬3). ¬
تنبيهات على هذه المسألة
هذه الأدلة من السنة، وإن كان في بعضها ضعف، إلا أن أكثرها من الضعف المنجبر، وقد كان يكفي في الاستدلال حديث أبي هريرة في مسلم، إلا أن الكتاب كان من شرطه أن يأتي على أغلب الأحاديث الواردة في الباب، الصحيح منها والسقيم. والله أعلم. تنبيهات على هذه المسألة: التنبيه الأول: الطريق إذا لم تكن مطروقة فلا بأس بالتبول فيها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " في طريق الناس " أي الذي يحتاجون إليه بطرقه. وفي حديث أبي هريرة: " من سل سخيمته في طريق عامرة من طرق المسلمين " وسبق تخريجه (¬1). وفي حديث حذيفة: " من آذى المسلمين في طرقهم ". والطريق المهجور لا يؤذي المسلمين، فالحكم يدور مع علته. التنبيه الثاني: الظل الذي لا ينتفع به فلا بأس بالتبول فيه، فالمراد هنا بالظل: هو الظل الذي اتخذه الناس مقيلاً ومنزلاً ينزلونه، وليس كل ظل يحرم قضاء الحاجة تحته، ولأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن جعفر: كان أحب ما استتر به النبي - صلى الله عليه وسلم - لحاجته هدف أو حائش نخل. وقال ابن خزيمة في تفسير قوله: هدف أو حائش نخل، فقال: الهدف: هو الحائط. والحائش من النخل: هو النخلات المجتمعات، وإنما سمي البستان ¬
التنبيه الثالث
حائشاً لكثرة أشجاره، ولا يكاد الهدف يكون إلا وله ظل إلا وقت استواء الشمس، فأما الحائش من النخل فلا يكون وقت من الأوقات بالنهار إلا ولها ظل، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد كان يستحب أن أن يستتر الإنسان في الغائط بالهدف والحائش، وإن كان لهما ظل انتهى (¬1). ولقوله في حديث أبي هريرة: " قيل: وما اللعنان يا رسول الله: قال الذي يتبول في طريق الناس أو في ظلهم " فحين أضاف الظل إليهم علم أنه الظل الذي يستظلون به، أما الظل الذي لا يستظلون به، فليس هو من ظلهم، والله أعلم. التنبيه الثالث: ذكر بعض الفقهاء من الحنفية والمالكية بأنه يلحق بالظل في الصيف محل الاجتماع في الشمس في الشتاء. وهذا قياس جلي؛ لأن العلة ليست من أجل الظل أو من أجل الشمس، إنما العلة أذية المؤمنين في أماكن اجتماعهم، ويدخل فيه محل مدارسهم، وأماكن بيعهم، ونحوها (¬2). قال ابن عابدين: ينبغي تقييده بما إذا لم يكن محلاً للاجتماع على محرم، أو مكروه، وإلا فقد يقال بطلب ذلك لدفعهم عنه. قلت: قد يقول قائل: إن النهي مطلق، فيدخل حتى هذا في النهي عن البول، وقد يقال: بأن ذلك يغتفر؛ لأنه من باب إزالة المنكر، كما أن هجر ¬
التنبيه الرابع
المسلم محرم، ويغتفر إذا كان ذلك رادعاً له أو لغيره عن بدعة ونحوها، لكن ينبغي ألا يفعل ذلك حتى يغلب على ظنه أن الفعل يحقق المصلحة منه، ولا يحملهم على منكر أكبر منه، وأن النصيحة لا تجدي في تغيير المنكر، ولا يفعل ذلك إلا إذا كان ما يفعل في تلك الأماكن محرماً، وليس مكروهاً، والله أعلم. التنبيه الرابع: اشتملت الأحاديث على النهي عن الموارد. والمقصود بالموارد، قال الخطابي: هي طرق الماء، واحده: مورد (¬1). وفي فيض القدير: المراد بها: مناهل الماء، أو الأمكنة التي يأتي إليها الناس، ورجح الأول بموافقته لقوله في الحديث: " أو نقع ماء " والحديث يفسر بعضه بعضاً، وإرادة طرق الماء بعيدة هنا. والله أعلم (¬2). أو يكون مقصوده النهي عن البول في الماء الراكد، وقد ذكرنا أحاديث النهي عنه في مباحث المياه، وذكرنا حكم البول في الماء الراكد، فقيل: يحرم البول في الماء القليل مطلقاً؛ لأنه ينجسه ويتلفه على نفسه وعلى غيره. ولأن الأصل في النهي التحريم. وقد اختار هذا بعض الحنفية وبعض المالكية، والنووي من الشافعية. وقيل: يكره مطلقاً، كما هو مذهب الشافعية. وفرق الحنابلة بين البول والتغوط، فحرموا التغوط فيه، وكرهوا البول، والله أعلم (¬3). ¬
التنبيه الخامس
التنبيه الخامس: قوله: " اتقوا اللاعنين " وقوله: " اتقوا الملاعن " قال النووي في الأذكار: ظاهر هذه الأحاديث تدل على جواز لعن العاصي مع التعيين، أي أنه لو لم يجز لعنه كانت اللعنة على لاعنه، والمشهور حرمة لعن المعين. وأجاب الزين العراقي: بأنه قد يقال: إن ذلك من خصائص المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لقوله: اللهم إني اتخذ عهداً عندك أيما مسلم سببته أو لعنته. الحديث. والله أعلم (¬1). التنبيه السادس: قيد جمهور الفقهاء بأن تكون الشجرة لها ثمرة. قال النووي: وإنما لم يقولوا بتحريم ذلك؛ لأن تنجس الثمار به غير متيقن (¬2). وفي حاشية ابن عابدين: ذكر العلة، فقال: خوفاً من إتلاف الثمر، وتنجسه، والمتبادر أن المراد وقت الثمرة، ويلحق به ما قبله بحيث لا يأمن زوال النجاسة بمطر أو نحوه كجفاف أرض من بول، ويدخل فيه الثمر المأكول وغيره، ولو مشموماً لاحترام الكل، والانتفاع به (¬3). قال النووي: وهذ الذي ذكره - يعني: من كراهية البول في مساقط الثمار- متفق عليه، ولا فرق بين الشجر المباح (غير المملوك) والذي يملكه، ¬
ولا بين وقت الثمر، وغير وقته؛ لأن الموضع يصير نجساً، فمتى وقع الثمر تنجس، وسواء البول والغائط، وإنما ذكروا البول تنبيهاً للأعلى على الأدنى (¬1). اهـ قلت: قد يأتي إلى الشجرة صاحبها لسقي أو تقليم أو غيره، ولو لم يكن تحتها ثمرة، فيتأذى من النجاسة، ويدخل في عموم النهي عن أذية المؤمنين. وقيل: بتحريم ذلك، وهي رواية في مذهب أحمد بشرط أن يكون عليها ثمرة مقصودة، فإن لم يكن عليها ثمرة، ولم يكن لها ظلاً مقصوداً لم يحرم، والله أعلم. ¬
المبحث الثامن في البول في المسجد
المبحث الثامن في البول في المسجد يحرم البول في المسجد. وهل يحرم إذا بال في إناء في المسجد؟ فيه خلاف: فقيل: يحرم، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وظاهر مذهب المالكية (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3)، ومذهب الحنابلة (¬4). وقيل: يجوز، اختاره بعض الشافعية (¬5). دليل من قال يحرم البول في المسجد. الدليل الأول: (287 - 131) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، ¬
الدليل الثاني
أن أبا هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعوه، وهريقوا على بوله سجلاً من ماء، أو ذنوباً من ماء؛ فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين (¬1). وجه الاستدلال: قال ابن حجر: وفي هذا الحديث من الفوائد: تعظيم المسجد وتنزيهه عن الأقذار، وأن الاحتراز من النجاسة كان مقرراً في نفوس الصحابة، ولهذا بادروا إلى الإنكار بحضرته - صلى الله عليه وسلم - قبل استئذانه، ولما تقرر عندهم أيضا من طلب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصحابة، ولم يقل لهم: لم نهيتم الأعرابي؟ بل أمرهم بالكف عنه للمصلحة الراجحة، وهو دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما. وفيه المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع لأمرهم عند فراغه بصب الماء (¬2). الدليل الثاني: (288 - 132) ما رواه مسلم، قال: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا عمر بن يونس الحنفي، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا إسحق بن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك -وهو عم إسحق- قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مه مه. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تزرموه، دعوه، فتركوه حتى بال ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه فقال له: إن هذه المساجد لا ¬
الدليل الثالث
تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فأمر رجلا من القوم، فجاء بدلو من ماء، فشنه عليه. ورواه البخاري دون قوله: إن هذه المساجد ... الخ (¬1). فقوله: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والقذر. نص على شيئين: النجاسات، وذلك مثل البول، فتنزه المساجد عن سائر النجاسات. والقذر: أي ما يستقذر، وإن لم يكن نجساً، كالمخاط والبصاق والرائحة الكريهة كالثوم والبصل، ونحوهما، فينزه المسجد عنها، وإن لم تكن من النجاسات. الدليل الثالث: (289 - 133) ما رواه البخاري، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا قتادة، قال: سمعت أنس بن مالك قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها. ورواه مسلم (¬2). فإذا نزه المسجد من البصاق، وهو طاهر، فتنزيه المسجد من النجاسات أولى. الدليل الرابع: (290 - 134) ما رواه البخاري، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى، ¬
دليل من قال: يجوز البول في إناء في المسجد.
عن عبيد الله قال: حدثني نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في غزوة خيبر: من أكل من هذه الشجرة -يعني الثوم- فلا يقربن مسجدنا، ورواه مسلم (¬1). دليل من قال: يجوز البول في إناء في المسجد. (291 - 135) ما رواه أحمد، قال: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا ابن لهيعة، قال: كتب إلي موسى بن عقبة يخبرني عن بسر بن سعيد، عن زيد بن ثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم في المسجد. قلت لابن لهيعة: في مسجد بيته؟ قال: لا، في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). قال النووي: فيه احتمالان لابن الصباغ، أحدهما: الجواز؛ كالفصد والحجامة (¬4). قلت: إن كان تجويز الحجامة على حديث ابن لهيعة فهو ضعيف. أولاً: ابن لهيعة لا يحتمل تفرده بمثل هذا الحكم. ثانياً: قد وهم فيه ابن لهيعة، كما ذكره مسلم في كتابه القيم التمييز، قال رحمه الله: وهذه رواية فاسدة من كل جهة، فاحش خطؤها في المتن والاسناد جميعاً، وابن لهيعة المصحِّف في متنه المغفل في إسناده، وإنما الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجر في المسجد بخوصة أو حصير يصلي فيها، وسنذكر صحة ¬
الرواية في ذلك إن شاء الله، ثم ساق بإسناده إلى موسى بن عقبة، قال: سمعت أبا النضر يحدث، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن ثابت، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ حجرة في المسجد من حصير، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها ليالي حتى اجتمع اليه أناس، ثم فقدوا صوته ليلة وظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح بأن يخرج اليهم، وساقه (¬1). ثالثاً: لو تنزلنا، وقلنا بصحة الحديث، فإنه لا يصح القياس، فالبول غير الدم، فإن قلنا بنجاسته، وهو قول ضعيف، فإن الدم يعفى عن يسيره، والبول لا يعفى عن يسيره، وإن قلنا بطهارة الدم، وهو الصحيح، فإنه لا مجال لقياس النجس على الطاهر، وليس هذا موضع بحث طهارة الدم، لكن أسوق فيه ما وقع من حدوثه في المسجد. (292 - 136) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا زكرياء بن يحيى، قال: حدثنا عبد الله بن نمير قال: حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: أصيب سعد يوم الخندق في الأكحل، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلم يرعهم -وفي المسجد خيمة من بني غفار- إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دماً، فمات فيها، ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬2). ¬
المبحث التاسع في البول في الشق ونحوه
المبحث التاسع في البول في الشق ونحوه كره الفقهاء البول في الشق ونحوه كالجحر: وهو ما يحفره الهوام والسباع لأنفسها. وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). دليل الكراهة. الدليل الأول: الإجماع. قال النووي: وهذا الذي قاله المصنف من الكراهة -يعني: من البول في الثقب ونحوه- متفق عليه، وهي كراهة تنزيه (¬2). الدليل الثاني: (293 - 137) ما رواه أحمد، قال: حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن عبد الله بن سرجس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يبولن أحدكم في الجحر. الحديث وفيه: قالوا لقتادة: ما يكره من البول في الجحر؟ قال ¬
يقال: إنها مساكن الجن (¬1). [إسناده صحيح، إن سلم من عنعنة قتادة] (¬2). ¬
وما يقال: إنها مساكن الجن، هذا قول قتادة، ليس قولاً مرفوعاً، وقد ساقه بصيغة: يقال إنها مساكن الجن. وهذا لا يقبل إلا بتوقيف. (294 - 138) وقد روى الطبراني، قال: حدثنا أبو مسلم الكشي، ثنا أبو عاصم، عن ابن عون، عن ابن سيرين قال: بينا سعد يبول قائماً إذ اتكأ، فمات قتلته الجن فقالوا: نحن قتلنا سيد الخزر ... ج، سعد بن عبادة رميناه بسهمين ... فلم يخطىء فؤاده (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الثالث
وقال بعضهم: لعله أراد صغار الحيات، فإنها يقال لها جن، وجنان، وأحدها جانٌّ. الدليل الثالث: من النظر، فإنه ينهى عن البول في الجحر؛ لإن في ذلك مفسدتين: الأولى: أن هذه الهوام قد تخرج من جحرها، فيفزع منها، فيتلوث بالنجاسة. الثانية: أن في ذلك اعتداء على هذه الهوام، وإفساد لمساكنها، دون أن ¬
تؤذيه، وقد علم أن الحشرات والهوام أقسام: منها ما أمرنا بقتله ابتداء، لكونه معتدياً بطبعه، كالحية والعقرب. ومنها: ما نهينا عن قتله كالنملة والنحلة. ومنها ما سكت عنه، فهذا النوع لا يعتدى عليه إلا إذا اعتدى أو آذى، ولذا جاء في حديث أبي هريرة في الصحيحين: " إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ... الحديث. مع أن غمسه قد يكون سبباً في هلاكه أحياناً كما لو كان الشراب حاراً، أو دهناً، أو نحوهما، ولكنه حين اعتدى وسقط في الإناء أمرنا بذلك، ولم يأت نص بقتله ابتداء.
المبحث العاشر في البول على القبر
المبحث العاشر في البول على القبر اختلف العلماء في البول على القبر: فقيل: يكره البول على القبر، وهو مذهب الحنفية، ولعلها كراهة تحريم (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يحرم البول على القبر، وهو مذهب الجمهور (¬3). وأما البول بقربه، فقيل: يكره البول بقربه (¬4). وقيل: لا يكره، وهو رواية عن أحمد (¬5). ¬
دليل من قال: يحرم البول عليه.
دليل من قال: يحرم البول عليه. (295 - 139) ما رواه مسلم، قال: وحدثني زهير بن حرب، حدثنا جرير، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر (¬1). وجه الاستدلال: إذا كان الجلوس على القبر محرماً، فالبول والتغوط عليه أشد حرمة، مع أن أبا حنيفة (¬2) ومالكاً (¬3) فسرا الجلوس على القبر كناية عن الجلوس عليه لقضاء الحاجة، فيكون الاستدلال إما بالقياس الجلي، وإما بالنص حسب تفسير المالكية، وإن كان تفسير المالكية فيه ضعف (¬4). ¬
دليل من قال: يكره البول بقربه.
دليل من قال: يكره البول بقربه. قالوا: إن هذا قد يؤذي الإحياء ممن يأتي لزيارة القبور، وأذية المؤمنين لا تجوز، وإذا كان قد ثبت النهي عن البول في طرق المسلمين وظلهم، فإنه البول بالقرب من القبر في معنى المنهي عنه، بجامع الأذية في الكل. التعليل الثاني: أن حرمة الميت كحرمة الحي، قال في الفصول: وحرمته -يعني الميت-باقية ولهذا يمنع من جميع ما يؤذي الحي أن يناله به، كتقريب النجاسة منه (¬1). دليل من قال: لا يكره البول بقرب القبر. (296 - 140) روى ابن ماجه، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة، ثنا المحاربي، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي أحب إلي من أن أمشي على قبر مسلم، وما أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي، أو وسط السوق (¬2). [المحفوظ فيه وقفه على عقبة] (¬3). ¬
المبحث الحادي عشر في البول في الإناء
المبحث الحادي عشر في البول في الإناء يجوز البول في إناء، وهو مذهب الشافعية (¬1)، واختاره ابن قدامة في المغني (¬2). وقيل: يكره إن كان بلا حاجة، وهو مذهب الحنابلة (¬3). وخص المالكية الكراهة بالآنية النفيسة كالذهب والفضة (¬4). دليل من جوز البول في إناء. الدليل الأول: الأصل الجواز، وقد حكى الشوكاني في جوازه الإجماع. قال الشوكاني: جواز إعداد الآنية للبول فيها بالليل، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً (¬5). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (297 - 141) ما رواه النسائي، قال: خبرنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أزهر، أنبأنا ابن عون، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: يقولون إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى إلى علي، لقد دعا بالطست؛ ليبول فيها، فانخنثت نفسه وما أشعر، فإلي من أوصى؟ (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الثالث: (298 - 142) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن عيسى، ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن حكيمة بنت أميمة بنت رقيقة، عن أمها أنها قالت: كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - قدح من عيدان تحت سريره يبول فيه بالليل (¬3). ¬
دليل من قيده بالحاجة.
[إسناده فيه لين] (¬1). دليل من قيده بالحاجة. لعلهم رأوا أن ذلك كان في وقت قبل أن تنتشر الحشوش في البيوت في المدينة، وكان الخروج لقضاء الحاجة ليلاً فيه مشقة، أو رأوا أن في ذلك نجاسة للآنية، فيقيد بالحاجة، أو رأوا أن الأدلة الدالة على الجواز تشعر بقيد الحاجة؛ لأنها إما بوقت مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - أو في وقت الليل، وكلها تدل على وجود الحاجة إلى هذا الفعل، فقيدوه بالحاجة، والله أعلم. دليل من خص الكراهة بالآنية النفيسة. دليله أن البول في الآنية الثمينة يدل على السرف والخيلاء، وهذا منهي عنه في آيات وأحاديث كثيرة، وليس النهي عائداً إلى ذات البول، وإنما ما يكون فيه من إسراف وخيلاء، ولا شك أن من يبول في آنية الذهب والفضة أنه مسرف، مع ما قد يقال: إن البول في آنية الذهب والفضة يدخل في الاستعمال، وقد حررت الخلاف في حكم استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب في مسألة مستقلة من هذا الكتاب. والقول الأول أقوى، وهو الراجح أن البول في الإناء جائز، والأصل الحل، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني عشر في التحول عن موضع قضاء الحاجة عند الاستنجاء
المبحث الثاني عشر في التحول عن موضع قضاء الحاجة عند الاستنجاء استحب الجمهور أن يتحول عن موضع قضاء الحاجة عند الاستنجاء (¬1)، بشرطين: الأول: أن يكون الاستنجاء بالماء، فإن كان الاستنجاء بالحجارة، فلا يشرع له التحول؛ لأن التحول قد يزيده تلوثاً. الثاني: عند خوف التلوث، فإن أمن التلوث لم يشرع له الانتقال، كما في المرحاض؛ لأن التلوث فيه مأمون. دليل الاستحباب. الدليل الأول: (299 - 143) روى الإمام أحمد في مسنده، قال: حدثنا يونس وعفان، قالا: ثنا أبو عوانة، عن داود بن عبد الله الأودي، عن حميد الحميري، قال: لقيت رجلاً صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع سنين، ¬
الدليل الثاني
كما صحبه أبوهريرة أربع سنين قال: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أن يمتشط أحدنا كل يوم، وأن يبول في مغتسله. الحديث (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الثاني: (300 - 144) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، أخبرني أشعث، عن الحسن، عن عبد الله بن مغفل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يبولن أحدكم في مستحمه، ثم يتوضأ فيه؛ فإن عامة الوسواس منه (¬3). [اختلف في وقفه ورفعه، والحسن قد سمع من عبد الله بن مغفل] (¬4). ¬
قال الخطابي: المستحم: المغتسل، ويسمى مستحماً باسم الحميم، وهو الماء الحار الذي يغتسل به، وإنما نهي عن ذلك إذا لم يكن المكان جدداً صلباً، أو لم يكن مسلك ينفذ فيه البول، ويسيل فيه الماء، فيوهم المغتسل أنه أصابه من قطره ورشاشه، فيورثه الوسواس (¬1). ¬
الباب الثالث في صفة الاستنجاء والاستجمار
الباب الثالث في صفة الاستنجاء والاستجمار ويشتمل على إحدى عشر فصلاً: الفصل الأول: في التسمية عند الاستنجاء والاستجمار. الفصل الثاني: حكم النية للاستنجاء. الفصل الثالث: يبدأ الرجل بالقبل قبل الدبر. الفصل الرابع: هل يكفي في الاستنجاء غلبة الظن أم لا بد من اليقين الفصل الخامس: في صفة الإنقاء. الفصل السادس: قول العلماء في الأثر المتبقي بعد الاستجمار. الفصل السابع: القول في قطع الاستنجاء على وتر. الفصل الثامن: في صفة المسح بالأحجار. الفصل التاسع: لايباشر الاستنجاء بيده اليمنى ولا يمس الذكر بها حال البول. الفصل العاشر: الشك بعد الفراغ من الاستنجاء. الفصل الحادي عشر: نضح الماء على الفرج والسروايل.
الفصل الأول في التسمية عند الاستنجاء والاستجمار
الفصل الأول في التسمية عند الاستنجاء والاستجمار لم أقف على كلام لأحد من أهل أنه أستحب للإنسان أن يسمي إذا أراد الشروع في الاستنجاء أو الاستجمار. وقد ذكرنا الخلاف في مشروعية التسمية عند إرادة الدخول لمكان الخلاء في فصل مستقل، فلعلهم رأوا أن التسمية السابقة لدخول الخلاء إنما هي للبول والغائط والاستنجاء منهما، خاصة إذا علمنا أن الجمهور يكرهون ذكر الله في الخلاء، كما أني لا أعلم دليلاً من السنة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يسمي عند مباشرته للاستنجاء، فنستطيع أن نقول: بأن التسمية عند البدء بالاستنجاء أو الاستجمار غير مشروعة، فلا قائل بها فقهاً، ولم يرد فيها أثر منقول فيما أعلم، والله أعلم. (301 - 145) ولا يستدل للتسمية للاستنجاء بما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن مبارك، عن الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله، فهو أبتر أو قال: أقطع (¬1). [فإن إسناده ضعيف ومتنه مضطرب] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ومع ضعف الحديث فإن هناك عبادات لا تشرع فيها التسمية، منها الأذان، والدخول في الصلاة، فلا يقال: إن التسمية مشروعة في كل شيء، والاستنجاء شيء، لأننا نقول: إن الاستنجاء يتكرر من النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيراً، فهل نقل من فعله أنه كان يسمي، أو نقل من قوله: أن الإنسان يسمي إذا شرع في الاستنجاء، وإذ لم يوجد تكون التسمية في الاستنجاء بدعة، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني حكم النية للاستنجاء
الفصل الثاني حكم النية للاستنجاء اتفق الجمهور على أن الطهارة من الخبث لا تشترط له نية، ومنه الاستنجاء (¬1)، وخالف أكثر المالكية فاشترطوا النية في الاستنجاء من المذي خاصة، وهو المعتمد في المذهب (¬2). وقال القرافي: تشترط النية في إزالة كل النجاسات، وهو خلاف شاذ (¬3). ¬
دليل الجمهور على عدم اشتراط النية
دليل الجمهور على عدم اشتراط النية. الدليل الأول: الإجماع. حكى الإجماع على أن طهارة الخبث لا تجتاج إلى نية جماعة، منهم القرطبي في تفسيره (¬1)، وابن بشير وابن عبد السلام من المالكية (¬2)، والبغوي، وصاحب الحاوي من الشافعية (¬3). الدليل الثاني: قالوا: إن الطهارة من الخبث من باب التروك، وهو لا يحتاج إلى نية كترك الزنا والخمر، فلو أن المطر نزل على ثوب نجس، فزالت النجاسة طهر الثوب ولو لم ينو؛ لأن النجاسة عين خبيثة متى زالت زال حكمها. دليل المالكية على اشتراط النية. (302 - 146) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا زائدة، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن، عن علي قال كنت رجلا مذاء فأمرت رجلا أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته فسأل فقال توضأ واغسل ذكرك (¬4). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: اغسل ذكرك، حقيقة في جميع الذكر، فهو مفرد مضاف، فيعم جميع الذكر، فيغسل مخرج الذكر من أجل النجاسة، أما بقية الذكر فالراجح عندهم أن غسله تعبدي غير معقول المعنى، وهذا سبب اشتراط النية. وقال بعضهم: إن غَسْل الذكر إنما هو من أجل قطع مادة المذي، فهو ¬
كغسل النجاسات، لا يفتقر إلى نية، والمعتمد القول الأول (¬1). والراجح قول الجمهور، وأن طهارة الخبث لا تفتقر إلى نية، وسوف يأتي بحث مستقل هل يغسل الذكر كله، أو يغسل رأس الحشفة منه، أو يغسل الذكر كله مع الإنثيين في الاستنجاء من المذي، وكلها أقوال فقهية للأئمة، رجحت منها أن غسل الذكر كله لا يجب، وإنما الواجب غسل رأس الحشفة، وبالتالي يكون قول المالكية قولاً مرجوحاً، لأنه بني على قول مرجوح، وهو وجوب غسل جميع الذكر، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث يبدأ الرجل بالقبل قبل الدبر
الفصل الثالث يبدأ الرجل بالقبل قبل الدبر اختلف الفقهاء أيهما أفضل يبدأ في الاستنجاء بالقبل أم بالدبر: فقيل: يبدأ بالدبر قبل القبل، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله (¬1). وقيل: يبدأ بالقبل قبل الدبر، وهو مذهب أبي يوسف ومحمد من الحنفية (¬2)، وقيل: يبدأ بالقبل قبل الدبر إلا إن كان القبل يقطر عند ملاقاة الماء لدبره، اختاره بعض المالكية (¬3). وقيل: يستحب إن كان يستنجي بالماء تقديم القبل على الدبر، وإن كان بالحجر قدم الدبر على القبل، اختاره بعض الشافعية (¬4). وقيل: يبدأ ذكر وبكر بقبل، والثيب تخير بأيهما تبدأ، وهو مذهب الحنابلة (¬5). ¬
وقيل: إن المرأة تتخير مطلقاً بكراً كانت أو ثيباً، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬1). هذه هي الأقوال في المسألة، ولا أعلم أن هناك نصاً في استحباب تقديم القبل أو العكس، وإنما المسألة مبنية على تعاليل استنبطها بعض القوم، ورأى أنها كافية في الاستحباب، فمن استحب تقديم القبل على الدبر، قال: من أجل أن يأمن التلوث عند الاستنجاء بالدبر، لأن يده قد تمس ذكره، فتتنجس يده. ومن استحب تقديم الدبر على القبل، قال: لأنه إذا قام بدلك دبره وما حوله قطر البول كما هو مشاهد، فلا تكون هناك فائدة في تقديم القبل، وهذا اختيار أبي حنيفة، وهو الذي جعل المالكية يستحبون تقديم القبل على الدبر إلا في رجل يعرف من نفسه أنه إذا مس الماء الدبر قطر بوله. وأما من فرق بين البكر والثيب، رأى أن البكر يخرج بولها فوق الفرج، والعذرة تمنع نزول البول فيه، فأشبهت الرجل من هذا الوجه بخلاف الثيب، والصحيح أن المرأة ليست كالرجل، فإن ذكر الرجل يتدلى وقد يلوث اليد إذا لم يبدأ بالقبل قبل الدبر بخلاف المرأة. وبهذه التعليلات نعرف أنها كلها مبنية على استحسان ليس أكثر، وليس في المسألة نص، والأمر واسع، ولو كان هناك صفة مشروعة لجاء الشرع بها {وما كان ربك نسياً} (¬2) والله أعلم. ¬
الفصل الرابع هل يكفي في الاستنجاء غلبة الظن أم لا بد من اليقين
الفصل الرابع هل يكفي في الاستنجاء غلبة الظن أم لا بد من اليقين اختلف الفقهاء في هذا، فقيل: يكفي فيه غلبة الظن، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: لا بد من اليقين، وهو قول في مذهب الحنفية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). دليل من قال: يكفي غلبة الظن. الدليل الأول: (303 - 147) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره حتى إذا ظن ¬
أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده، وقالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسلم من إناء واحد، نغرف منه جميعاً، ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬1). وجه الاستدلال: قوله: " حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته " وغسل الجنابة إحدى الطهارتين، لأن الطهارة إما عن حدث، وإما عن خبث، فإذا جاز الاكتفاء بالظن في طهارة الحدث، جاز في طهارة الخبث. ويناقش هذا الاستدلال: أولاً: يحتمل أن يكون الظن هنا، بمعنى العلم، فيكون معناه: حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته: أي حتى إذا علم. وإطلاق الظن على العلم كثير في اللغة العربية، قال تعالى: {إني ظننت أني ملاق حسابيه} (¬2)، وقال: {وظنوا أنهم مواقعوها} (¬3)، وقد يطلق العلم على الظن، قال تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات} (¬4)، فالعلم هنا متعذر؛ لأن الإيمان أمر قلبي، لكن يراد به غلبة الظن. ثانياً: على التسليم أن الظن في الحديث على بابه، فلم يكتف بالظن، ألا ترى أنه حين ظن أنه أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات، فيحصل العلم بتعميم الماء، والله أعلم. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: جاء العمل بالظن في كثير من العبادات، والطهارة من الاستنجاء مقيسة عليها. (304 - 148) منها ما رواه البخاري، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: قال عبد الله: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم -قال إبراهيم: لا أدري زاد أو نقص- فلما سلم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجليه، واستقبل القبلة، وسجد سجدتين، ثم سلم، فلما أقبل علينا بوجهه قال: إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى، كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: قوله: فليتحر الصواب. فالتحري عمل بالظن، وإذا جاز العمل بالظن في الصلاة وهي مقصودة، جاز العمل بالظن في الطهارة لها، والله أعلم. (305 - 149) ومنها: ما رواه البخاري، قال: حدثني عبد الله بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن فاطمة، عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: أفطرنا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم غيم ثم طلعت الشمس (¬2). ¬
الدليل الثالث
ولو أمروا بالقضاء لنقل، فإذا جاز التحري بدخول وقت الصلاة، جاز التحري للطهارة لها. الدليل الثالث: قالوا: إن طلب اليقين في مثل هذه الأشياء يكون فيه حرج ومشقة، والحرج مدفوع عن هذه الأمة، قال سبحانه: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (¬1)، وقال سبحانه {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} (¬2). دليل من قال: لا بد من اليقين. الدليل الأول: قالوا: إن النجاسة متيقنة، ولا يطهر المحل بمجرد غلبة الظن، فلا بد من اليقين أن المحل قد طهر، وإنما يكتفى بغلبة الظن إذا تعذر اليقين، واليقين هنا غير متعذر. الدليل الثاني: (306 - 150) ربما يستدل بعضهم بما رواه البخاري، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحائط من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة. الحديث ورواه مسلم بنحوه (¬3). ¬
ويجاب بأن الحديث ليس في رجل يستنجي، ويعمل بغلبة ظنه، وإنما رجل لا يستنزه من بوله، ولا يقوم بما أوجب الله عليه من الطهارة، والتحرز من البول، والله أعلم.
الفصل الخامس في صفة الإنقاء
الفصل الخامس في صفة الإنقاء ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: في صفة الإنقاء بالحجر. المبحث الثاني: في صفة الإنقاء بالماء.
المبحث الأول: في صفة الإنقاء بالحجر
المبحث الأول: في صفة الإنقاء بالحجر اختلف العلماء في صفة الإنقاء بالحجر على قولين: فقيل: بقاء أثر لا يزيله إلا الماء، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: خروج الحجر الأخير لا أثر به إلا يسيراً، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬3)، ورجحه ابن تيمية (¬4). والثاني أقوى؛ والقول الأول فيه حرج ومشقة، والحرج مرفوع عن هذه الإمة إن شاء الله، والنجاسة اليسيرة معفو عنها إجماعاً كما سيأتي بحثه ¬
إن شاء الله في فصل لا حق، وقد اختار الحنفية والمالكية أن الاستنجاء كله ليس بواجب ما دام أن النجاسة لم تتجاوز الموضع المعتاد، فما بالك بالأثر اليسير جداً يبقى على المحل.
المبحث الثاني في صفة الإنقاء بالماء
المبحث الثاني في صفة الإنقاء بالماء اختلف الفقهاء في صفة الإنقاء بالماء، فقيل: لا يعتبر عدد معين، بل المطلوب أن يعود المحل كما كان، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4)، وقيل: المطلوب غسل المحل سبع غسلات، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬5). وقيل: ثلاث غسلات، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬6)، والراجح الأول. ¬
دليل من قال: لا يشترط في الاستنجاء عدد معين.
دليل من قال: لا يشترط في الاستنجاء عدد معين. الدليل الأول: قالوا: القياس على الطهارة من دم الحيض، فإذا كان دم الحيض لا يشترط لطهارته عدد معين، فكذلك البول والغائط. (307 - 151) فقد روى البخاري، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن هشام، قال: حدثتني فاطمة عن أسماء، قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب، كيف تصنع. قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه، وتصلي فيه. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: فهنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر عدداً في غسل نجاسة دم الحيض، والمقام مقام بيان، وجواب عن سؤال كيف يطهر الثوب، وقد أرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى حته، وقرصه، وغسله، مع أن الحت ليس بواجب مع الغسل، فيبعد أن ينص على ما ليس بواجب، ويهمل ما هو واجب، فدل على أن تكرار الغسل ليس بواجب. الدليل الثاني: (308 - 152) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله ¬
الدليل الثالث
إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا إنما ذلك عرق وليس بحيض فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي قال وقال أبي ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرها بغسل الدم، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فاغسلي عنك الدم، ثم صلي ". ولو كان العدد معتبراً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد علم أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة كما هو مقرر في أصول الفقه. الدليل الثالث: (309 - 153) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني ثابت أبو المقدام، قال: حدثني عدى بن دينار، قال: سمعت أم قيس بنت محصن قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثوب يصيبه دم الحيض. قال: حكيه بضلع، واغسليه بالماء والند وسدر. [إسناده صحيح] (¬2). ¬
الدليل الرابع
وجه الاستدلال: الاستدلال بهذا الحديث كالاستدلال بالذي قبله، وقد ذكر السدر مع كونه ليس وجباً، فكيف يترك ذكر العدد لو كان العدد واجباً. الدليل الرابع: من النظر، قالوا: النجاسة عين محسوسة، ووجوب غسلها معلل ببقائها، فإذا زالت من الغسلة الأولى ارتفع حكمها. دليل من قال: يجب غسل النجاسة في الاستنجاء سبع مرات. قال ابن قدامة: روي عن ابن عمر أنه قال: أمرنا بغسل الأنجاس ¬
سبعاٌ (¬1). والجواب على هذا من وجهين. الأول: أن هذا الأثر لا يعرف مسنداً في كتب الحديث، إنما ذكره الحنابلة في كتبهم الفقهية، فلا حجة فيه. الثاني: على فرض صحته قد روي ما يدل على أنه منسوخ. (310 - 154) فقد روى أحمد، قال: ثنا حسين بن محمد، ثنا أيوب بن جابر، عن عبد الله ـ يعنى بن عصمة ـ عن ابن عمر قال: كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرار، والغسل من البول سبع مرار، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل حتى جعلت الصلاة خمساً، والغسل من الجنابة مرة، والغسل من البول مرة (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬
الدليل على وجوب غسل نجاسة الكلب سبعا
الدليل الثاني: قالوا: ثبت الأمر بغسل نجاسة الكلب سبعاً، وغيرها من النجاسات قياساً عليه. والدليل على وجوب غسل نجاسة الكلب سبعاً. (311 - 155) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا. ورواه مسلم (¬1). وأجيب: بأن نجاسة الكلب مغلظة لا يمكن قياس النجاسة العادية على النجاسة المغلظة، أرأيت نجاسة دم الحيض مع أنه مجمع على نجاسته كما قدمنا إلا أنه لم يرد فيه تكرار الغسل، ولم يرد ذكر التراب في تطهير شيء من النجاسات إلا نجاسة الكلب، والرواية التي فيها ذكر التراب رواها مسلم في صحيحة، ¬
دليل من قال: يشترط ثلاث غسلات.
(312 - 156) قال مسلم: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب (¬1). دليل من قال: يشترط ثلاث غسلات. الدليل الأول: (313 - 157) روى مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع، عن الأعمش ح وحدثنا يحيى بن يحيى، واللفظ له، أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان قال: قيل له: قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (¬2). وجه الاستدلال: قالوا: إذا كان الاستجمار لا بد فيه من ثلاثة أحجار، فكذلك الاستنجاء بالماء لا بد فيه من ثلاث غسلات. ¬
الدليل الثاني
وأجيب: بأن هناك فرقاً بين الماء والأحجار، فالأحجار لا تزيل النجاسة بالكلية، ولذلك اشترط العدد بخلاف الماء فإنه يزيل عين النجاسة حتى لا يبقي لها أثراً. الدليل الثاني: (314 - 158) ما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر البكراوي، قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده. وهو في البخاري دون قوله: ثلاثاً (¬1). وجه الاستدلال: إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر القائم من نوم الليل أن يغسل يده ثلاثاً معللاً بتوهم النجاسة، فوجوب الثلاث مع تحققها أولى. وأجيب: بأنه قد تقدم الخلاف في العلة من أمر القائم بغسل يده ثلاثاً من نوم الليل، وأن هناك خلافاً هل غسل اليد تعبدي أو معقول المعنى، وهل هو للوجوب أم للاستحباب؟ ولو كان غسلها من أجل النجاسة لكفى غسلها مرة واحدة، ولن تكون أكثر نجاسة من دم الحيض، ومع ذلك لم يطلب تكرار الغسل. الراجح: القول بأن الاستنجاء في الماء ليس فيه عدد معين، وإنما يغسل حتى يغلب على ظنه أن المحل رجع كما كان قبل البول والغائط، والله أعلم. ¬
الفصل السادس قول العلماء في الأثر المتبقي بعد الاستجمار
الفصل السادس قول العلماء في الأثر المتبقي بعد الاستجمار أثر الاستنجاء قيل: نجس، معفو عن يسيره. وقيل: طاهر (¬1). وحكي الإجماع على أنه معفو عنه. قال ابن قدامة: وقد عفي عن النجاسات المغلظة لأجل محلها في ثلاثة مواضع: أحدها: محل الاستنجاء، فعفي فيه عن أثر الاستجمار بعد الإنقاء واستيفاء العدد بغير خلاف نعلمه. واختلف أصحابنا في طهارته، فذهب أبو عبد الله بن حامد وأبو حفص بن المسلمة إلى طهارته، وهو ظاهر كلام أحمد، فإنه قال في المستجمر يعرق في سراويله: لا بأس به، ولو كان نجساً لنجسه. ثم قال: وقال أصحابنا المتأخرون: لا يطهر المحل، بل هو نجس. اهـ أي نجس معفو عنه (¬2). وقال البهوتي: وأثر الاستجمار نجس؛ لأنه بقية الخارج من السبيل، يعفى عن يسيره بعد الإنقاء واستيفاء العدد، بغير خلاف نعلمه (¬3). الدليل على أن الاستنجاء مطهر. (315 - 159) ما رواه الدارقطني، من طريق يعقوب بن حميد ¬
بن كاسب، نا سلمة بن رجاء، عن الحسن بن فرات القزاز، عن أبيه، عن أبي حازم الأشجعي، عن أبي هريرة، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يستنجى بروث أو عظم، وقال: إنهما لا يطهران (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن النجاسة تزال بأي مزيل، ولا يتعين الماء في إزالتها، فكيف زالت زال حكمها، فإذا استنجى الإنسان، وأزال عين النجاسة فقد طهر المحل، والدليل على أن الماء لا يتعين في إزالة النجاسة أحاديث كثيرة في تطهير ذيل المرأة بالتراب، وتطهير النعل بدلكه في التراب، (316 - 160) فقد روى أحمد، قال: ثنا أبو كامل، ثنا زهير -يعنى ابن معاوية- ثنا عبد الله بن عيسى، عن موسى بن عبد الله، قال: وكان رجل صدق، عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: قلت: يا رسول الله إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة، فكيف نصنع إذا مطرنا؟ قال: أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ قالت: قلت: بلى. قال: فهذه بهذه (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). (317 - 161) ومنها ما رواه أحمد، قال: ثنا يزيد، أنا حماد بن سلمة، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى، فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت ¬
فخلعنا. قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعله فلينظر فيها فإن رأى بها خبثاً فليمسه بالأرض ثم ليصل فيهما (¬1). [الحديث إسناده صحيح] (¬2). (318 - 162) ومنها ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: قالت عائشة: ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم، قالت بريقها فقصعته بظفرها (¬3). فإذا كانت النعل تطهر بالتراب، وكان التراب لها طهوراً، وكان ذيل المرأة يطهره ما بعده من التراب الطيب، وكان الريق ربما طهر الثوب يصيبه شيء من دم الحيض، فكذلك مكان البول والغائط يطهره الأحجار ونحوها، والله أعلم. ¬
فرع ما تطاير من الماء وقت الاستنجاء جاء في المعيار المعرب: وسئل أبو حفص عما تطاير في الثوب وقت الاستنجاء؟ فأجاب: إن كان أول شروعه فهو نجس، وإن كان مما بعده فهو طاهر. قلت: ينبغي أن يفصل إن كان يسيراً جداً فهو من المعفو عنه؛ لأن المشقة قد تلحق به، وقد حكي الإجماع في العفو عن أثر الاستجمار مع بقاء قدر من النجاسة لا يزيلها إلا الماء، وإن كان كثيراً عرفاً كان التفصيل الذي ذكره جيداً (¬1). ¬
الفصل السابع القول في قطع الاستنجاء على وتر
الفصل السابع القول في قطع الاستنجاء على وتر استحب الفقهاء قطع الاستنجاء على وتر، على خلاف بينهم هل يتحقق الوتر بحجر واحد، أم يتحقق الوتر بعد المسحات الثلاث بحسب اختلافهم في وجوب الاستنجاء: فمن يرى أن الاستنجاء سنة، كما هو المشهور من مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، أو يرى أن الاستنجاء واجب، ولكن لا يشترط ثلاثة أحجار، بل المقصود الإنقاء ولو بحجر واحد، فيرى أن تحقيق السنة في قطعه على وتر يتحقق ولو بحجر واحد إذا أنقى (¬3). ¬
دليل استحباب قطع الاستنجاء على وتر
وأما من يرى وجوب الثلاث مسحات أو ثلاثة أحجار، فيكون قطعه على وتر بعدها مستحباً، كما لو أنقى بأربعة أحجار، يستحب له حجر خامس، أو أنقى بستة أحجار يستحب له حجر سابع، أما لو أنقى بثلاث أو خمس، فلا يستحب له الزيادة، وهذا مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: يجب الوتر في الاستنجاء بالحجارة مطلقاً، اختاره بعض الشافعية (¬3)، وهو رأي ابن حزم (¬4). دليل استحباب قطع الاستنجاء على وتر. (319 - 163) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه، ثم لينثر، ومن استجمر فليوتر، وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده. ورواه مسلم (¬5). ¬
الدليل الثاني: (320 - 164) ما رواه مسلم، قال: حدثنا إسحق بن إبراهيم ومحمد بن رافع، قال ابن رافع: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا استجمر أحدكم فليوتر (¬1). الدليل الثالث: (321 - 165) ما روه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر (¬2). الدليل الرابع: (322 - 166) ما رواه ابن أبي شيبة، عن أبي الأحوص، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن سلمة بن قيس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا توضأت فانتثر، وإذا استجمرت فأوتر (¬3) [إسناده صحيح] (¬4). ¬
الدليل الخامس: (323 - 167) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حسن ويحيى بن إسحاق، قالا: حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو يونس، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا اكتحل أحدكم فليكتحل وتراً، وإذا استجمر فليستجمر وتراً (¬1). [إسناده ضعيف من أجل ابن لهيعة] (¬2). ¬
الدليل السادس: (324 - 168) ما رواه ابن خزيمة، قال: أخبرنا أبو غسان مالك بن سعد القيسي، نا روح -يعني: ابن عبادة- ثنا أبو عامر الخزاز، عن عطاء، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا استجمر أحدكم فليوتر، فإن الله وتر يحب الوتر، أما ترى السموات سبعاً، والأرض سبعاً، والطواف سبعاً ... وذكر أشياء (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل السابع: (325 - 169) ما رواه أبو يعلى، قال: حدثنا الأخنسي أحمد بن عمران، حدثنا محمد بن فضيل وسمعته يقول: حدثنا إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله وتر يحب الوتر، فإذا استجمرت فأوتر (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬
دليل من قال: إن الإيتار واجب.
دليل من قال: إن الإيتار واجب. استدل بحديث أبي هريرة في الصحيحين مرفوعاً: ومن استجمر فليوتر. وبحديث جابر عند مسلم: إذا استجمر أحدكم فليوتر. وسبق تخريجهما في أدلة القول الأول. وجه الاستدلال: قالوا: قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فليوتر أمر، والأصل في الأمر الوجوب، ولا يوجد صارف يمنع من حمله على الوجوب. والشافعية والحنابلة حملوا الأمر بالإيتار إن كان في الثلاث مسحات، فالأصل فيها الوجوب، وما زاد حملوه على الاستحباب، وأخذاو من مفهوم حديث سلمان في مسلم: ونهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار. مفهومه: ¬
دليل من قال: يحصل الإيتار ولو بحجر واحد.
الاكتفاء بثلاثة فما زاد، ومما زاد الأربعة والستة ونحوها. دليل من قال: يحصل الإيتار ولو بحجر واحد. (326 - 170) استدلوا بما رواه أحمد، قال: حدثنا سريج بن النعمان، قال: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا ثور بن يزيد، عن حصين الحبراني، عن أبي سعد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج عليه. ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أكل فما تخلل فليلفظ، ومن أكل بلسانه فليبتلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً فليستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج (¬1). [إسناده ضعيف، يرويه مجهول، عن مجهول] (¬2). قالوا: فالمعتبر بالاستجمار: هو الإنقاء، دون العدد، فإن حصل بحجر واحد كفاه، وتحقق له سنة الإيتار. ورد عليهم: أولاً: أن هذا الحديث ضعيف، لا يرد الأحاديث الصحيحة كحديث سلمان، وحديث أبي هريرة، وحديث عائشة وغيرها. ¬
ثانياً: لو ثبت أن الحديث صحيح، فلا بد من الجمع بينه وبين الأحاديث التي تنهى عن الاستنجاء دون ثلاثة أحجار، فيحمل الإيتار بما زاد على الثلاثة. ثالثاً: إذا كان المقصود هو الإنقاء كما تقولون، فإنه معلوم أن الإنقاء لا يحصل بحجر واحد غالباً، هذا من جهة. ولو كفى الإنقاء لم يكن لإشتراط العدد معنى في حديث سلمان وحديث أبي هريرة وحديث عائشة وغيرها، فإنا نعلم أن الإنقاء قد يحصل بواحد، وليس هذا كالماء إذا أنقى كفى لأن الماء يزيل العين والأثر، فدلالته قطعية، فلم يحتج إلى الاستظهار بالعدد، وأما الحجر فلا يزيل الأثر، وإنما يفيد الطهارة ظاهراً لا قطعاً، فاشترط فيه العدد. (327 - 171) رابعاً: يرد عليهم بما رواه أحمد، قال: ثنا علي بن بحر، حدثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثاً (¬1). [إسناده حسن إن كان أبو سفيان سمعه من جابر، وقد رواه أبو الزبير عن جابر في مسلم، ولم يقل: ثلاثاً] (¬2). وسوف يأتي مزيد بحث في الكلام على مسألة هل يشترط ثلاثة أحجار، أم يكفي حجر واحد؟ وإنما الكلام في مسألتنا هنا هل قطع الاستنجاء على وتر تتحقق السنة ¬
فيه بالحجر الواحد، أم تتحقق فيما زاد على الثلاث، والله أعلم. كما أن الكلام في قطعه بالأحجار، أم الماء فالصحيح أنه لا يشرع فيه الإينار لعدم الدليل وقد تقدم الكلام عليه في الفصل الذي قبل هذا، والله الموفق.
الفصل الثامن في صفة المسح بالأحجار
الفصل الثامن في صفة المسح بالأحجار اختلف الفقهاء في صفة المسح بالأحجار: فقيل: لا كيفية له، فكيف حصل الإنقاء أجزأ. رجحه السرخسي من الحنفية، ومال إليه ابن نجيم، وهو المنصوص عليه في السراج الوهاج والمجتبى (¬1)، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2).وهو الراجح. وقيل: كيفية الاستنجاء أن يمسح بالحجر الأول من جهة المقدم إلى خلف، وبالثاني من خلف الى قدام، وبالثالث من قدام الى خلف إذا كانت الخصية مدلاة، وإن كانت غير مدلاة يبتدىء من خلف الى قدام، والمرأة تبتدىء من قدام الى خلف خشية تلويث فرجها، وهو قول في مذهب الحنفية (¬3). وقيل: كيفيته في المقعد في الصيف للرجل إدبار الحجر الأول والثالث، وفي الشتاء العكس، اختاره بعض الحنفية (¬4). ¬
وقيل: يعم بكل حجر موضع النجو، وهو مذهب المالكية (¬1)، والحنابلة (¬2). وفي مذهب الشافعية ثلاثة أوجه: فقيل: يمر حجراً من مقدم الصفحة اليمنى ويديره عليها، ثم على اليسرى حتى يصل الموضع الذي بدأ منه، ثم يمر الحجر الثاني من أول الصفحة اليسرى إلى آخرها، ثم على اليمنى حتى يصل موضع ابتدائه، ثم يمر بالثالث على المسربة، وهو الراجح في مذهب الشافعية (¬3)، وذكره بعض الحنفية (¬4)، واختاره القاضي من الحنابلة (¬5). الوجه الثاني: أن يمسح بحجر الصفحة اليمنى وحدها، ثم بحجر اليسرى وحدها، وبالثالث المسربة (¬6)، واختاره بعض الحنابلة (¬7). والوجه الثالث: يضع حجراً على مقدم المسربة ويمره إلى آخرها، ثم حجراً على مؤخرة المسربة ويمره إلى أولها، ثم يحلق بالثالث، حكاه البغوي ¬
دليل من قال: لا كيفية للاستنجاء.
قال النووي: وهو غريب. واختلف الشافعية في هذا الخلاف، هل هو على الوجوب أو الاستحباب على قولين (¬1). وقيل: يكفي لكل جهة مسحها ثلاثا بحجر، والوسط مسحه ثلاثاً بحجر، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). دليل من قال: لا كيفية للاستنجاء. الدليل الأول: قال: إن استحباب كيفية معينة تحتاج إلى توقيف من كتاب أو سنة أو إجماع أو قول صاحب، ولم يصح دليل في المسألة. الدليل الثاني: قالوا: إن المطلوب في الاستنجاء هو الإنقاء وإزالة النجاسة فكيف زالت النجاسة حصل المقصود، فلا يتكلف صفة معينة. دليل من قال: يمسح بالأول من المقدم إلى خلف، وبالثاني من خلف إلى قدام، وبالثالث من قدام الى خلف. علل هذا الاستحباب بأنه إذا بدأ من جهة الخلف في أول مرة ربما لوث ¬
دليل من طلب تعميم المحل بكل حجر
الخصية بالنجاسة، فتنتشر النجاسة إلى غير موضعها المعتاد، ثم لا تكفي إزالتها بالأحجار في حقه، ولكن إذا بدأ من جهة المقدم أمن تلوث الخصية بالنجاسة، ولذلك قال: إذا كانت الخصية غير مدلاة بدأ من جهة الخلف. وهذا التعليل لا يكفي في استحباب هذه الصفة في الاستنجاء، بل إن التعليل السابق أقوى، وأن المقصود من الاستجمار هو إزالة النجاسة، فكيف زالت حصل مقصود الشارع من مشروعية الاستجمار. دليل من طلب تعميم المحل بكل حجر قالوا: إن المطلوب أن يعم المحل بكل حجر حتى يصدق عليه أنه مسح المحل ثلاث مسحات، فإذا لم تعم كل مسحة المحل كله لم تكن مسحة، بل كانت بعضها. دليل من فرق الأحجار بين الصفحتين والمسربة. (328 - 172) ما رواه الدارقطني، قال: نا علي بن أحمد بن الهيثم العسكري، نا علي بن حرب، نا عتيق بن يعقوب الزبيري، نا أبي بن العباس بن سهل بن سعد، عن أبيه، عن جده سهل بن سعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الاستطابة؟ فقال: أولا يجد أحدكم ثلاثة أحجار: حجرين للصفحتين، وحجراً للمسربة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
والراجح أن الاستجمار لم يرد له في الشرع صفة معينة، بل المطلوب أمران: الأول: الإنقاء، وهو إزالة عين النجاسة، على الصفة المطلوبة التي قدمناها في صفة الإنقاء. الثاني: استعمال ثلاثة أحجار، بحيث لا يكتفي بحجر واحد، وكيف استعمل هذه الأحجار أجزأه، والكلام على استحباب صفة معينة يحتاج إلى توقيف، ولا توقيف في المسألة، والله أعلم. ¬
الفصل التاسع لا يباشر الاستنجاء بيده اليمنى ولا يمس الذكر بها حال البول
الفصل التاسع لا يباشر الاستنجاء بيده اليمنى ولا يمس الذكر بها حال البول ويشتمل على خمس مباحث: المبحث الأول: هل يكره مس الذكر مطلقاً، أو حال البول فقط؟ المبحث الثاني: إذا استنجى بيمينه هل يجزئه ذلك؟. المبحث الثالث: اشكال وجوابه. المبحث الرابع: حكم مس الدبر. المبحث الخامس: حكم مس فرج المرأة.
الفصل التاسع لا يباشر الاستنجاء بيده اليمنى ولا يمس ذكره بها كره الفقهاء مس الفرج باليمين حال البول، واستنجاؤه واستجماره بها، وهو مذهب الأئمة (¬1). وقيل: يحرم الاستنجاء باليمين، رجحه ابن نجيم من الحنفية (¬2)، واختاره ابن حزم (¬3)، ورجحه الشوكاني (¬4). وقيل: يكره مس الذكر باليمين، ويحرم الاستنجاء بها (¬5). ¬
*
دليل من قال: يحرم الاستنجاء باليمين قال: ورد النهي عن الاستنجاء باليمين في أحاديث كثيرة، والأصل في النهي التحريم. ومن تلك الأحاديث مايلي: الدليل الأول: (329 - 173) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن يوسف، قال: حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه، ولا يستنجي بيمينه، ولا يتنفس في الإناء، ورواه مسلم (¬1). الدليل الثاني: (330 - 174) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع، عن الأعمش ح وحدثنا يحيى بن يحيى، واللفظ له، أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان قال: قيل له: قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (331 - 175) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا محمد بن عجلان، حدثني القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الخلاء فلا تستقبلوها ولا تستدبروها، ولا يستنجي بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث والرمة (¬1). [إسناده حسن] (¬2). الدليل الرابع: (332 - 176) روى أحمد، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، عن الأسود، عن عائشة أنها قالت: كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمنى لطهوره ولطعامه وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى. قال أحمد: وحدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن رجل عن أبي معشر عن إبراهيم عن عائشة نحوه [الحديث الراجح فيه أن إسناده منقطع] (¬3). فهذه الأحاديث فيها النهي عن مس الذكر باليمين، وعن الاستنجاء باليمين، وأخذ بظاهرها ابن حزم فقال بتحريم الاستنجاء باليمين. ¬
دليل من قال: يكره الاستنجاء باليمين.
دليل من قال: يكره الاستنجاء باليمين. حملوا النهي في الأحاديث السابقة على الكراهة، والقرينة الصارفة عندهم أن ذلك أدب من الآداب، فلا يصل النهي فيها للتحريم، فيحتمل أن تكون الحكمة من النهي كون اليد اليمنى معدة للأكل بها، فلو استنجى بها لأمكن أن يتذكر ذلك عند الأكل فيتأذى بذلك، والله أعلم. دليل من حرم مس الذكر باليمين وكره الاستنجاء بها. قالوا: ثبت النهي عن مس الذكر باليمين، وعن الاستنجاء باليمين كما في حديث أبي قتادة المتقدم، لكن قالوا: إن الاستنجاء باليمين أقبح من مس الذكر حال البول؛ لأن في الأولى مباشرة إزالة النجاسة من طريق اليد اليمنى، وفي الثاني مسه فقط دون الاستنجاء، والذكر في نفسه طاهر، وليس بنجس، لهذا حملنا النهي على الأصل في إزالة النجاسة باليمين، وأنه للتحريم، وحملنا النهي على الكراهة في مس الذكر، لأنه بضعة من الإنسان، والله أعلم. القول بالتحريم قول قوي؛ لأن الصارف ليس واضحاً؛ نعم يتساهل الفقهاء بالصارف لو وجد، ويصرفون اللفظ من الوجوب للندب، ومن التحريم للكراهة لأدنى صارف، لكن لم يظهر لي حكمة كونه أدباً من الآداب أن نحمله على الكراهة، ولا يخفى أن هذا الصارف ليس نصاً منصوصاً عليه، إنما هو شيء انقدح في النفس، وهي علة مستنبطة، فلا بد من حمله على الكراهة من قرينة جلية تكون سبباً في نقله من أصله الذي هو التحريم إلى الكراهة، والله أعلم.
المبحث الأول هل يكره مس الذكر باليمين مطلقا أو حال البول فقط
المبحث الأول هل يكره مس الذكر باليمين مطلقاً أو حال البول فقط فقيل: يكره مس الذكر باليمين مطلقاً حال البول وغيره (¬1). وقيل: يكره حال البول فقط، وهو الظاهر (¬2). دليل من قال: يكره حال البول. استدلوا بأدلة منها: الدليل الأول: (333 - 177) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي، عن همام، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه، وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء، ورواه البخاري بنحوه (¬3). وفي رواية للبخاري: إذا بال أحدكم فلا يأخذ ذكره بيمينه. وتقدم تخريجها. فقوله: وهو يبول: أي حالة كونه يبول، فلا يتعدى النهي إلى غيرها؛ ¬
الدليل الثاني
لأن الأصل الحل، فلا يكره شيء، ولا يحرم إلا بيقين. الدليل الثاني: (334 - 178) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه قال: خرجنا وفداً حتى قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبايعناه وصلينا معه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله ما ترى في مس الذكر في الصلاة؟ فقال: وهل هو إلا بضعة أو مضغة منك (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل من قال يكره مس الذكر مطلقا.
وجه الاستدلال: قوله: إنما هو بعضة منك: دل على جواز مسه بكل حال، خرجت حالة البول بحديث أبي قتادة المتفق عليه، وبقي ما عداها على الإباحة. دليل من قال يكره مس الذكر مطلقاً. قالوا: إذا نهي عن مس الذكر حال البول، مع مظنة الحاجة في تلك الحالة، فيكون النهي في غيرها مع عدم الحاجة من باب أولى. ¬
والراجح القول بجواز مس الذكر في غير حالة البول، ولا يمكن القياس على النهي عن مسه حال البول؛ لأن الشارع حريص على عدم ملابسة النجاسة، أما إذا انقطع البول فلا فرق بين الذكر وغيره من الأعضاء، ولا يقاس الأخف على الأغلظ، ولو كان مسه منهياً عنه مطلقاً لجاءت النصوص الواضحة التي تنهى عن مسه مطلقاً، والإنسان قد لا ينفك عن الحاجة إلى مسه، فالقول بالمنع مع عدم قيام الدليل المانع فيه حرج وكلفة بلا دليل واضح، والله أعلم.
المبحث الثاني إذا استنجى بيمينه هل يجزئه ذلك؟
المبحث الثاني إذا استنجى بيمينه هل يجزئه ذلك؟ أما القائلون بالكراهة، فظاهر أنه يجزئ بلا إثم. وأما القائلون بالتحريم، فقد اختلفوا: فقيل: يجزئ مع الإثم (¬1). وقيل: لا يجزئ، وهو اختيار ابن حزم (¬2). دليل من قال: لا يجزئ. قال: إذا صححنا الفعل المحرم نكون بذلك قد رتبنا على الفعل المحرم أثراً صحيحاً، وهذا فيه مضادة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولأن تصحيح الفعل المحرم فيه تشجيع على فعله، بخلاف ما إذا جعل لغواً، فهذا يحمله على تركه. (335 - 179) وقد روى مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد، جميعاً، عن أبي عامر، حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري، عن سعد بن إبراهيم، قال: سألت القاسم بن محمد عن رجل له ثلاثة مساكن، فأوصى بثلث كل مسكن منها، قال يجمع ذلك كله في مسكن واحد، ثم قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد (¬3). وروى البخاري القدر المرفوع منه معلقاً (¬4). ¬
دليل من قال يجزئ مع الإثم.
وجه الاستدلال: قال ابن القيم: وقوله: " فهو رد " الرد: فَعْل بمعنى المفعول، أي فهو مردود، وعبر عن المفعول بالمصدر مبالغة، حتى كأنه نفس الرد، وهذا تصريح بإبطال كل عمل على خلاف أمره ورده، وعدم اعتباره في حكم المقبول، ومعلوم أن المردود هو الباطل بعينه، بل كونه رداً أبلغ من كونه باطلاً، إذ الباطل قد يقال لما لا نفع فيه أو منفعته قليلة جداً، وقد يقال لما ينتفع به ثم يبطل نفعه، وأما المردود فهو الذي لم يجعله شيئاً ولم يترتب عليه مقصوده أصلاً (¬1). دليل من قال يجزئ مع الإثم. قالوا: إن التحريم والصحة غير متلازمين، فتلقي الجلب منهي عنه، وإذا تُلُقِيَ كان البيع صحيحاً، وللبائع الخيار إذا أتى السوق، فثبوت الخيار فرع عن صحة البيع، ومثله الصلاة في الأرض المغصوبة، والصلاة في الثوب المسروق الصحيح صحة الصلاة مع الإثم، والله أعلم. ومن النظر: قالوا: لا يمكن أن نحكم بنجاسة المحل، مع زوال النجاسة، فالحكم مرتبط بعلته، فإذا ذهبت النجاسة طهر المحل. ولأن القاعدة الشرعية: أن العبادة الواقعة على وجه محرم: إن كان التحريم عائداً إلى ذات العبادة، كصوم يوم العيد، لم تصح العبادة. وإن كان التحريم عائداً إلى شرطها على وجه يختص بها كالصلاة بالثوب النجس على القول بأن الطهارة من النجاسة شرط، لم تصح إلا لعاجز ¬
أو عادم. وإن كان التحريم عائداً إلى شرط العبادة، ولكن لا يختص بها، ففيها روايتان: فقيل: يصح، وهو الأرجح. وقيل: لا يصح، وهو المشهور من مذهب الحنابلة. وإن كان التحريم عائداً على أمر خارج لا يتعلق بشرطها، كالوضوء من الإناء المحرم، فالراجح صحة العبادة، وعليه الأكثر (¬1). وهنا المنع ليس عائداً على شرط العبادة التي هي الطهارة، وإنما عائد على أمر خارج، وهو الاستنجاء باليمين، فيصح الاستنجاء مع الإثم، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث إشكال وجوابه
المبحث الثالث إشكال وجوابه نهي عن الاستنجاء باليمين، وعن مس الذكر بها، فإن استنجى باليد اليسرى، لزم منه مس الذكر باليمين، وهو منهي عنه، وإن استنجى باليمين وقع في النهي، فما المخرج من ذلك؟ قال النووي: الصحيح الذي قاله الجمهور أنه يأخذ الحجر بيمينه، والذكر بيساره، ويحرك اليسار دون اليمين، فإن حرك اليمين، أو حركهما كان مستنجياً باليمين، مرتكباً لكراهة التنزيه (¬1). اهـ وقال الخطابي في معالم السنن: الصواب في مثل هذا أن يتوخى الاستنجاء بالحجر الضخم الذي لا يزول عن مكانه بأدنى حركة تصيبه، أو بالجدار، أو بالموضع الناتئ من وجه الأرض، أو بنحوها من الأشياء، فإن أدته الضرورة إلى الاستنجاء بالحجارةوالنبل ونحوها، فالوجه أن يتأتى بأن يلصق مقعدته إلى الأرض، ويمسك الممسوح بين عقبيه، ويتناول عضوه بشماله، فيمسحه به، وينزه عنه يمينه (¬2). اهـ وتعقبه ابن حجر، فقال: وأثار الخطابي هنا بحثاً، وبالغ في التبجح به، وقال عن رأي الخطابي: بأنه هذه هيئة منكرة، بل يتعذر فعلها في غالب ¬
الأوقات (¬1). وذكر النووي قولاً ثالثاً، ونسبه لبعض أصحابهم: بأنه يأخذ الذكر بيمينه، والحجر بيساره، ويحرك اليسار، لئلا يستنجي باليمين. حكاه صاحب الحاوي وغيره. قال النووي: وهذا غلط؛ فإنه منهي عن مس الذكر باليمين. ¬
المبحث الرابع حكم مس الدبر
المبحث الرابع حكم مس الدبر المس وإن كان منصوصاً على الذكر، لكن يلحق به الدبر قياساً، والتنصيص على الذكر لا مفهوم له. وقال ابن حزم: بأن النهي عن الاستنجاء باليمين خاص بالدبر، ويرى أن مسح البول باليمين جائز. وتعليل ابن حزم: بأنه لم ينه عنه، وإنما نهي عن الاستنجاء باليمين، ومسح البول لا يسمى استنجاء. وهذا القول ضعيف جداً؛ لأنه إذا نهي عن مس الذكر، وهو يبول، فنهيه عن مباشرة البول من باب أولى، ثم هل يسلم له بأن مسح البول لا تسمى استنجاء؟ فإذا نظرنا إلى أصل النجو في اللغة وجدنا أن من معانيه القطع، من قولهم: نجوت الشجرة: إذا قطعتها. وفي الاستنجاء من البول ونحوه قطع له، والمسح الذي لم يره ابن حزم استنجاء هو بحد ذاته قطع وإزالة للنجاسة، فاتضح أن مسح البول يمكن أن يسمى استنجاء، والله أعلم.
المبحث الخامس حكم مس فرج المرأة
المبحث الخامس حكم مس فرج المرأة التنصيص على الذكر لا مفهوم له، بل فرج المرأة كذلك، وإنما خص الذكر بالذكر لكون الرجال في الغالب هم المخاطبين، والنساء شقائق الرجال في الأحكام إلا ما خصه الدليل. وقال ابن حزم: ومس المرأة فرجها بيمينها وشمالها جائز (¬1). ودليل ابن حزم. أخذ ابن حزم رحمه الله بالظاهر، وأن المنهي عنه هو مس الذكر، لا مس فرج المرأة، وكل ما لا نص في تحريمه، فهو مباح بقوله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} (¬2). وبحديث: " دعوني ما تركتكم ". ولكن يقال: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (¬3). ¬
الفصل العاشر الشك بعد الفراغ من الاستنجاء
الفصل العاشر الشك بعد الفراغ من الاستنجاء لو شك بعد الاستنجاء هل غسل ذكره أم لا، وهل مسح ثنتين أم ثلاثاً لم تلزمه إعادته كما لو شك بعد الوضوء (¬1). وقد نص الفقهاء على أن الشك بعد الفراغ من العبادة لا يؤثر فيها (¬2). ¬
الفصل الحادي عشر نضح الماء على الفرج والسراويل
الفصل الحادي عشر نضح الماء على الفرج والسراويل إذا فرغ من الاستنجاء بالماء استحب له أن ينضح فرجه أو سراويله بشيء من الماء، إن كان الشيطان يريبه كثيراً، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2). وقيل: يستحب مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، قطعاً للوسواس. ¬
دليل من قال: ينضح فرجه.
وقيل: لا ينتضح في الاستنجاء كما لا ينتضح في الاستجمار، وهو رواية عن أحمد (¬1). دليل من قال: ينضح فرجه. الدليل الأول: (336 - 180) ما رواه أحمد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي الحكم أو الحكم بن سفيان الثقفي قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال، ثم توضأ، ونضح فرجه. قال أحمد: حدثنا أسود بن عامر، قال: قال شريك: سألت أهل الحكم بن سفيان فذكروا أنه لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). [اختلف في إسناده، وهل هو متصل أم منقطع] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وعلى تقدير صحته فليس فيه دليل؛ لأنه يحتمل أن يكون النضح هنا بمعنى الغسل، فيكون إشارة إلى الاستنجاء، كما قال في المذي: توضأ وانضح فرجك كما هو في مسلم سواء بسواء. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (337 - 181) رواه أحمد، قال: ثنا عفان، ثنا: حماد، ثنا علي بن زيد، عن سلمة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن عمار بن ياسر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن من الفطرة - أو الفطرة - المضمضة والاستنشاق وقص الشارب والسواك وتقليم الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط والاستحداد والاختتان والانتضاح. [ضعيف] (¬1). الدليل الثالث: (338 - 182) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وأحمد بن أبي عبيد الله السليمي البصري، قالا: حدثنا أبو قتيبة سلم بن قتيبة، عن الحسن بن علي الهاشمي، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: جاءني جبريل، فقال: يا محمد إذا توضأت فانتضح (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (339 - 183) ما رواه أحمد، قال: حدثنا هيثم -قال عبد الله: وسمعته أنا من الهيثم بن خارجة- حدثنا رشدين بن سعد، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن أسامة بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن جبريل عليه السلام لما نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلمه الوضوء، فلما فرغ من وضوئه أخذ حفنة من ماء فرش بها نحو الفرج، قال فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرش بعد وضوئه. [إسناده ضعيف] (¬1). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (340 - 184) ما رواه أبو داود، قال: أخبرنا قبيصة، أنبأ سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة، ونضح فرجه. [إسناده ضعيف] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (341 - 185) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا قيس، عن ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابر قال توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنضح فرجه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). دليل من قال: لا ينضح فرجه. الدليل الأول: القياس على الاستجمار، كما أن الاستجمار لا ينضح الإنسان فرجه، فكذلك الاستنجاء بالماء. الدليل الثاني: أن الأحاديث الصحيحة في وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين وغيرها من حديث عثمان وحديث عبد الله بن زيد وغيرهما لم تذكر ¬
الدليل الثالث
النضح، وهي مقدمة على غيرها. الدليل الثالث: أن أحاديث النضح في الوضوء لا تخلو من مقال، وبالتالي لو كان النضح ثابتاً لجاء فيه حديث صحيح، ولا أرى في مثل هذه المسألة التي تتكرر أن يتساهل فيها فيصحح النضح بالشواهد، بل كون الأحاديث التي جاءت فيها كلها ضعيفة دليل على ضعف القول. دليل من قال: ينضح إن كان الشيطان يريبه كثيراً. رأى أن هذا من العلاج للوسواس، وأن فيه نوعاً من قطع الوسوسة، حتى إذا رابه شيء قال: هذا من الماء، والقول به كعلاج لقطع الوسواس جيد، ومجرب، ولكن لا يقال: إنه سنة، وإنما يفعله لعارض، وإن كان العبد يقدر على دفع الوسوسة بدونه فهو أحب إلي، ومتى ما فتح الإنسان باباً للشيطان أفسد عليه عبادته إما بغلو وإما بتقصير، والله المستعان وحده على شر الشيطان وشركه.
الباب الرابع في الاستجمار
الباب الرابع في الاستجمار ويشتمل على فصلين: الفصل الأول: خلاف العلماء في جواز الاستجمار. الفصل الثاني: في شروط الاستتجمار.
الفصل الأول خلاف العلماء في جواز الاستجمار
الفصل الأول خلاف العلماء في جواز الاستجمار اختلف العلماء في جواز الاستجمار بالحجارة: فقيل: يجوز الاستجمار بالحجارة، ولو مع وجود الماء والقدرة عليه، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1)،مع أن الحجر قد لا ينقي المحل، فلا بد أن يبقى به أثر لا يزيله إلا الماء، وهذا من تيسير الشريعة، ومن التخفيف الذي وضعه الله سبحانه وتعالى عن عباده، خاصة أن الإنسان قد يحتاج إلى البول والغائط في مكان لا يوجد فيه ماء، فكان من سعة الله على عبادة أن يسر لهم إزالتها بأي مزيل من أجحار ونحوها. وقيل: لا يجوز الاستجمار بالحجارة إلا لمن عدم الماء، وادعى أن العمل بالاستجمار قد ترك العمل به، اختاره ابن حبيب من المالكية (¬2). ¬
الأدلة على جواز الاستجمار بالحجارة.
الأدلة على جواز الاستجمار بالحجارة. الدليل الأول: (341 - 185) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا محمد بن عجلان، حدثني القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الخلاء فلا تستقبلوها ولا تستدبروها، ولا يستنجي بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث والرمة (¬1). [إسناده حسن] (¬2). الدليل الثاني: (342 - 186) ما رواه أحمد، قال: حدثنا سعيد بن منصور، قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن مسلم بن قرط، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنهن تجزئ عنه (¬3). ¬
الدليل الثالث
[إسناده أرجو أن يكون حسناً] (¬1). الدليل الثالث: (343 - 187) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع، عن الأعمش ح وحدثنا يحيى بن يحيى، واللفظ له، أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان قال: قيل له: قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (¬2). الدليل الرابع: (344 - 188) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا بكر، ثنا عمرو بن هاشم، ثنا الهقل بن زياد، عن الأوزاعي، عن عثمان بن أبي سودة، عن أبي شعيب الحضرمي، عن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا تغوط أحدكم فليتمسح بثلاثة أحجار، فإن ذلك كافيه (¬3). [إسناده فيه لين إلا أنه صالح في الشواهد] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (345 - 189) ما أخرجه الطبراني، كما في مجمع البحرين، قال: حدثنا أحمد، ثنا محمد بن يحيى النيسابوري، ثنا أبو غسان محمد بن يحيى الكناني، حدثني أبي، عن ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، قال: أخبرني ابن خلاد، أنا أباه سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا تغوط أحدكم فليتمسح ثلاث مرات. [إسناده حسن لولا أن فيه يحيى بن علي بن عبد الحميد لم أقف له على ترجمة] (¬1). الدليل السادس: (346 - 190) ما رواه أحمد، قال: ثنا علي بن بحر، حدثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثاً (¬2). [إسناده حسن إن كان أبو سفيان سمعه من جابر، ورواه أبو الزبير عن جابر في مسلم، ولم يقل: ثلاثاً] (¬3). ¬
الدليل السابع
الدليل السابع: (347 - 191) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن نمير وعبدة، عن هشام بن عروة، عن عمرو بن خزيمة، عن عمارة بن خزيمة، عن خزيمة بن ثابت، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الاستطابة بثلاثة أحجار، ليس فيها رجيع (¬1). [إسناده فيه لين] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثامن
الدليل الثامن: ما ثبت من فعله - صلى الله عليه وسلم - أنه اكتفى بالحجارة في الاستنجاء، من ذلك: (348 - 192) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل/ حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، قال: أخبرني جدي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه كان يحمل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها فقال: من هذا؟ فقال: أنا أبو هريرة. فقال: ابغني أحجاراً أستنفض بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعت إلى جنبه، ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت، فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نصيبين، ونعم الجن، فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعاماً (¬1). ¬
الدليل التاسع
الدليل التاسع: (349 - 193) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زهير، عن أبي إسحاق قال: ليس أبو عبيدة ذكره ولكن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة، فأتيته بها، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة وقال: هذا ركس (¬1). فلجميع هذه النصوص يجزم المسلم أن الحجارة تكفي في إزالة النجاسة من البول والغائط، وللاستجمار بالحجارة شروط، سوف نذكرها، ونذكر كلام أهل العلم حولها إن شاء الله تعالى في المباحث التالية. دليل من قال: الاستجمار لا يجزي إلا لمن عدم الماء. لا أعلم له دليلاً من السنة على أن الاستنجاء بالحجارة مشروط بعدم القدرة على الماء، وأحاديث الاستجمار مطلقة، وليست مقيدة. قال ابن رشد: لا اختلاف في أن من اكتفى في استنجائه بالأحجار دون الماء، فصلى أن صلاته تامة، ولا إعادة عليه في وقت ولا غيره، لما جاء أن النبي عليه السلام سئل عن الاستطابة، فقال: أو لا يجد أحدكم ثلاثة أحجار إلا أن الماء أطهر وأطيب، ومن قدر على الجمع بين الأحجار والماء فهو أولى وأحسن (¬2). ¬
الفصل الثاني في شروط الاستجمار
الفصل الثاني في شروط الاستجمار ويشتمل على ثماني شروط: الشرط الأول: في اشتراط ثلاثة أحجار. الشرط الثاني: أن تكون الأحجار ونحوها طاهرة. الشرط الثالث: أن يكون المستنجى به غير عظم وروث. الشرط الرابع: في اشتراط أن يكون المستجمر به من الأحجار. الشرط الخامس: أن يكون الحجر ونحوه منقياً. الشرط السادس: هل يشترط أن يكون جامداً. الشرط السابع: ألا يكون المستجمر به حممة. الشرط الثامن: أن يكون المستجمر به غير محترم.
الشرط الأول في اشتراط ثلاثة أحجار
الشرط الأول في اشتراط ثلاثة أحجار اختلف الفقهاء هل يشترط في الاستجمار ثلاثة أحجار، أم لا؟ فقيل: لا يجب العدد، بل المعتبر الإنقاء، فكيف حصل أجزأ، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2). وقيل: لا بد من ثلاثة أحجار، فأكثر، وهو مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، واختيار ابن حزم (¬5). دليل الحنفية والمالكية على الاكتفاء بحجر واحد. الدليل الأول: (350 - 194) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زهير، عن أبي إسحاق، قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن ¬
الأسود، عن أبيه، أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة وقال: هذا ركس (¬1). وجه الاستدلال: قال الطحاوي: ففي هذا الحديث ما يدل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قعد للغائط في مكان ليس فيه أحجار، لقوله لعبد الله: ناولني ثلاثة أحجار، ولو كان بحضرته من ذلك شيء لما احتاج إلى أن يناوله من غير ذلك المكان، فلما أتاه عبد الله بحجرين وروثة، فألقى الروثة، وأخذ الحجرين، دل ذلك على استعماله الحجرين، وعلى أنه قد رأى أن الاستجمار بهما يجزيء، ولو كان لا يجزيء الاستجمار بما دون الثلاث لما اكتفى بالحجرين، ولأمر عبد الله أن يبغيه ثالثاً، ففي تركه ذلك دليل على اكتفائه بالحجرين (¬2). وطريق آخر للاستدلال على جواز الأقل من ثلاثة: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - طلب من ابن مسعود ثلاثة أحجار، فأتاه بحجرين، فإما أن يكون ابن مسعود لم يأته بالثالث، أو أنه أتاه به، وعلى الحالين ففيه دليل على عدم اشتراط ثلاثة أحجار؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - اقتصر في الموضعين على ثلاثة، فحصل لكل منهما أقل من ثلاثة. وأجيب عن هذا الدليل: قالوا: كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يطلب حجراً ثالثاً لاحتمال أن يكون اكتفى ¬
بالأمر الأول في طلب ثلاثة أحجار، فلم يجدد الأمر بطلب الثالث، أو اكتفى بطرف أحدهما عن الثالث؛ لأن المقصود بالثلاث أن يمسح بها ثلاث مسحات، وذلك حاصل ولو بواحد. قال ابن حزم رحمه الله: وليس في الحديث أنه عليه السلام اكتفى بالحجرين، وقد صح أمره - صلى الله عليه وسلم - له أن يأتيه بثلاثة أحجار، فالأمر باق لازم، لابد من إبقائه (¬1). أما قولكم: إنه استعمل في الموضعين ثلاثة، فحصل لكل منهما أقل من ثلاثة، فيحتمل أن يكون لم يخرج منه شيء إلا من سبيل واحد، خاصة إذا علمنا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عادته إذا أراد الغائط أبعد، حتى يستتر عن أعين الناس، بحيث لا يراه أحد، ولم يكن يفعل هذا في البول، فقد بال - صلى الله عليه وسلم - قائماً، وحذيفة عند عقبه، فقول ابن مسعود: " أتى الغائط، فأمرني " ظاهره أنه لم يأمره حتى أتى مكان قضاء الحاجة، وهذا يرجح أنه كان للبول فقط. وقال الحافظ: وعلى تقدير أن يكون خرج منهما، فيحتمل أن يكون اكتفى للقبل بالمسح في الأرض، وللدبر بالثلاثة، أو مسح من كل منهما بطرفين. وأجاب ابن حزم بجواب آخر، وقصر وجوب ثلاثة أحجار للغائط فقط دون البول. قال رحمه الله: فإن قيل: أمره عليه السلام بثلاثة أحجار، هو للغائط والبول معاً، فوقع لكل منهما أقل من ثلاثة أحجار. قلنا: هذا باطل؛ لأن النص ورد بأن لا يستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، ¬
ومسح البول لا يسمى استنجاء (¬1). وقال ابن حزم أيضاً: فإن بدأ بمخرج البول، أجزأت تلك الأحجار بأعيانها لمخرج الغائط، وإن بدأ بمخرج الغائط لم يجزه من تلك الأحجار إلا ما كان لا رجيع عليه فقط، والله أعلم (¬2). (351 - 195) وقد روى أحمد رحمه الله، قال: ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن أبي إسحاق، عن علقمة بن قيس، عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب لحاجته، فأمر ابن مسعود أن يأتيه بثلاثة أحجار، فجاءه بحجرين وبروثه، فألقى الروثة وقال: إنها ركس ائتني بحجر (¬3). [إسناده منقطع] (¬4). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (352 - 196) استدلوا بما رواه أحمد، قال: حدثنا سريج بن النعمان، قال: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا ثور بن يزيد، عن حصين الحبراني، عن أبي سعد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج عليه. ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أكل فما تخلل فليلفظ، ومن أكل بلسانه فليبتلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً فليستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج (¬1). [إسناده ضعيف، يرويه مجهول، عن مجهول] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: من النظر، قالوا: إن المقصود من الاستنجاء: هو الإنقاء، فلا معنى لاشتراط الزيادة بالثلاث بعد حصوله، ولهذا لو لم يحصل الإنقاء بالثلاث يزاد عليها إجماعاً، لكونه هو المقصود. وأجيب عن هذا: قولكم: إن المقصود: هو الإنقاء غير صحيح، فلو كان المقصود هو الإنقاء لخلا اشتراط العدد عن فائدة، فلما اشترط العدد لفظا، وعلم الإنقاء به معنى، دل على إيجاب الأمرين، ونظيره العدة بالأقراء، فإن العدد معتبر، ولو تحققت براءة الرحم بقرء. دليل الشافعية والحنابلة على اشتراط الثلاث. الدليل الأول: (352 - 196) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع، عن الأعمش ح وحدثنا يحيى بن يحيى، واللفظ له، أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان قال: قيل له: قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (¬1). ¬
الدليل الثاني
وجه الاستدلال: قوله: " نهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار" والأصل في النهي التحريم، ولا صارف له عنه. الدليل الثاني: (353 - 197) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا محمد بن عجلان، حدثني القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الخلاء فلا تستقبلوها ولا تستدبروها، ولا يستنجي بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث والرمة (¬1). [إسناده حسن] (¬2). وجه الاستدلال: قوله: " وكان يأمر بثلاثة أحجار" والأصل في الأمر الوجوب، ولا صارف له عنه. الدليل الثالث: (354 - 198) ما رواه أحمد، قال: حدثنا سعيد بن منصور، قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن مسلم بن قرط، عن عروة بن الزبير، ¬
الدليل الرابع
عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنهن تجزئ عنه (¬1). [إسناده أرجو أن يكون حسناً] (¬2). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: فليذهب معه بثلاثة أحجار. فهذا أمر، والأصل فيه الوجوب. الدليل الرابع: (355 - 199) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا بكر، ثنا عمرو بن هاشم، ثنا الهقل بن زياد، عن الأوزاعي، عن عثمان بن أبي سودة، عن أبي شعيب الحضرمي، عن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا تغوط أحدكم فليتمسح بثلاثة أحجار، فإن ذلك كافيه (¬3). [إسناده فيه لين إلا أنه صالح في الشواهد] (¬4). الدليل الخامس: (356 - 200) ما أخرجه الطبراني، كما في مجمع البحرين، قال: حدثنا أحمد، ثنا محمد بن يحيى النيسابوري، ثنا أبو غسان محمد بن يحيى الكناني، ¬
الدليل السادس
حدثني أبي، عن ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، قال: أخبرني ابن خلاد، أنا أباه سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا تغوط أحدكم فليتمسح ثلاث مرات. [إسناده حسن لولا أن فيه يحيى بن علي بن عبد الحميد لم أقف له على ترجمة] (¬1). الدليل السادس: (357 - 201) ما رواه أحمد، قال: ثنا علي بن بحر، حدثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثاً (¬2). [إسناده حسن إن كان أبو سفيان سمعه من جابر، ورواه أبو الزبير عن جابر في مسلم، ولم يقل: ثلاثاً] (¬3). الدليل السابع: (358 - 202) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن نمير وعبدة، عن هشام بن عروة، عن عمرو بن خزيمة، عن عمارة بن خزيمة، عن خزيمة بن ثابت، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الاستطابة بثلاثة أحجار، ليس فيها رجيع (¬4). ¬
الدليل الثامن
[إسناده فيه لين] (¬1). الدليل الثامن: من النظر، قالوا: ليس الحجر كالماء، إذا أنقى كفى؛ لأن الماء يزيل العين والأثر فدلالته قطعية، فلم يحتج إلى الاستظهار بالعدد، وأما الحجر فلا يزيل الأثر، وإنما يفيد الطهارة ظاهراً لا قطعاً، فاشترط فيه العدد (¬2). جواب الحنفية والمالكية عن أدلة الشافعية والحنابلة: أجابوا عن الأحاديث السابقة بأن ذكر الأحجار الثلاثة خرجت مخرج الغالب والعادة؛ لأن النقاء يحصل بها غالباً، أو أن الثلاثة تحمل على الكمال والاستحباب (¬3). وقال ابن الهمام: وما رووه من الأحاديث متروك ظاهرها، فإنه لو استنجى بحجر واحد له ثلاثة أحرف جاز بالإجماع (¬4). ويجاب عن هذا: بأن حمل الأحاديث على الاستحباب خلاف الأصل، لإن الأصل في الأمر الوجوب، وفي النهي التحريم. كما أن القول بأنها خرجت مخرج الغالب يحتاج إلى دليل، وكما قلنا سابقاً، لما كان الماء يطهر طهارة كاملة، لم يشترط عدد، ولما كانت الحجارة ¬
يبقى منها أثر معفو عنه، اشترط لحصول العفو عن هذا النجاسة عدد معين، وهو ثلاثة أحجار. أما قولكم: إن الأحاديث التي تنص على ثلاثة أحجار متروك ظاهرها بالإجماع كما لو استنجى بحجر واحد له ثلاث شعب. فيقال: حكاية الإجماع ليست دقيقة، فإن ابن المنذر وابن حزم يريان وجوب ثلاثة أحجار، ولا يكفي ثلاث مسحات بحجر واحد له شعب. وعلى التنزل فمن تمسح بثلاث مسحات لا يكون بمنزلة من تمسح بحجر واحد مرة واحدة. فالقول الراجح أنه لا بد من ثلاثة أحجار أو ثلاثة مسحات، والله أعلم.
دليل من قال: يكفي حجر واحد له ثلاث شعب.
المبحث الأول في الاكتفاء بحجر واحد له ثلاث شعب اختلف القائلون باشتراط ثلاثة أحجار، هل المطلوب ثلاث مسحات، بحيث يكفي الحجر الواحد إذا كان ذا ثلاث شعب، أو لا بد من ثلاثة أحجار. فقيل: يكفي الحجر الواحد إذا كان له ثلاث شعب، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: لا بد من ثلاثة أحجار مطلقاً، هو رواية عن أحمد (¬3)، واختاره ابن المنذر (¬4)، ورجحه ابن حزم (¬5). دليل من قال: يكفي حجر واحد له ثلاث شعب. قالوا: إن الشارع لما نص على ثلاثة الأحجار أراد من المستجمر ألا يتكفي بمسح المحل مرة واحدة، بل يكرر المسح ثلاث مرات، فكان المعنى ثلاثة أحجار: أي ثلاث مسحات، وإذا كان ذلك كذلك كان هذا حاصلاً ولو بحجر واحد، والدليل على صحته أنه لو مسح بطرف واحد وروماه، ثم ¬
دليل من قال: لا بد من ثلاثة أحجار.
جاء شخص آخر، فمسح بطرفه الآخر لأجزأهما بلا خلاف، واعتبر لكل واحد منهما مسحة. وأيضاً لو استجمر، ثم كسر المتنجس منها، واستجمر به ثانية لعد حجرين، وكذا لو غسله، ثم استنجى به. دليل من قال: لا بد من ثلاثة أحجار. الدليل الأول: حديث سلمان رضي الله عنه: " ونهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار" فمن استنجى بحجر واحد ثلاث مسحات يكون قد استنجى بحجر واحد، وقد وقع في ما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان المقصود ثلاث مسحات لجاء بها النص، والرسول - صلى الله عليه وسلم - أعطي جوامع الكلم، فلما لم يأت نص بالتعبير بالمسح، لزم الأخذ بظاهر النص، وأنه لا بد من ثلاثة أحجار. الدليل الثاني: قال ابن المنذر: ليس يخلو الأمر بثلاثة أحجار من أحد أمرين: إما أن يكون أريد بها إزالة نجاسة، فإن كان هكذا فبما أزيلت النجاسة يجزي بحجر وغير حجر ولو أزيلت بحجر واحد. أو يكون عبادة فلا يجزي أقل من العدد. أو معنى ثالثاً. فيقال: أريد بها إزالة نجاسة وعبادة، فلما بطل المعنى الأول لم يبق إلا هذان المعنيان، ولا يجزي في واحد من المعنيين إلا بثلاثة أحجار؛ لأن العبادات لا يجوز أن ينتقص عددها، والخبر يدل على صحة ما قاله هذا القائل، وذلك موجود في حديث سلمان: "لا يكفي أحدكم دون ثلاثة أحجار" وكلما أمر الناس بعدد شيء لم يجز أقل منه، ولا يجزي أن أن ترمي الجمرة مع سبع
حصيات، مع أن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستغنى به عن غيره، ولا تأويل لما قال: " لا يكفي أحدكم دون ثلاثة أحجار " لمتأول معه (¬1). وهذا الكلام جيد، إلا أن قياسه على الرمي فيه نظر، فالرمي عبادة غير معقولة المعنى، بخلاف إزالة النجاسة. فالراجح مذهب الشافعية والحنابلة، وأن المقصود من ثلاثة الأحجار تكرار المسح ثلاث مرات، كما أن المعتبر بقطع الاستنجاء على وتر إنما هو في المسح، وليس في عدد الأحجار، فلو مسح المستنجي ست مرات من ثلاثة أحجار لم يكن قد أتى بسنة الإيتار، لأن الإيتار المقصود به في عدد المسحات، لا عدد الأحجار، والله أعلم. ¬
الشرط الثاني أن تكون الأحجار ونحوها طاهرة
الشرط الثاني أن تكون الأحجار ونحوها طاهرة يشترط في ما يستجمر به أن يكون طاهراً، لا نجساً، ولا متنجساً (¬1)، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: يجزئ الاستجمار بكل ما يزيل العين من طاهر ونجس، وهو مذهب الحنفية (¬5)، وقول للإمام ¬
الدليل على اشتراط الطهارة.
الطبري رحمه الله (¬1)، واختاره ابن تيمية (¬2). الدليل على اشتراط الطهارة. الدليل الأول: (359 - 203) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زهير، عن أبي إسحاق قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة، فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا ركس (¬3). وجه الاستدلال: قوله: هذا ركس. فإن معنى الركس في اللغة يحتمل أمرين: ¬
الدليل الثاني
الأول: الركس بمعنى: الرجيع. والثاني: الركس بمعنى: النجس. فعلل النبي - صلى الله عليه وسلم - تركه بأنه رجس. وقد قال بعضهم: ليس في الحديث دليل على اشتراط الطهارة، وإنما فيه ترك الاستنجاء بالروث، ولا يلزم من ذلك النجاسة، كما لم يلزم من تركه الاستنجاء بالعظم والمحترمات. فأجاب النووي بقوله: إن الاعتماد في الاستدلال على قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنها ركس" وليس على مجرد تركه الاستنجاء بها، قال: ولا يجوز أن يحمل على أنه مجرد إخبار بأنها رجيع، فإن ذلك إخبار بالمعلوم، فيؤدي الحمل عليه إلى خلو الكلام عن فائدة، فوجب حمل الكلام على ما ذكرناه من تفسير الركس بمعنى: النجس (¬1). الدليل الثاني: (360 - 204) ما رواه الدارقطني، من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب، نا سلمة بن رجاء، عن الحسن بن فرات القزاز، عن أبيه، عن أبي حازم الأشجعي، عن أبي هريرة، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يستنجى بروث أو عظم، وقال: إنهما لا يطهران (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: من جهة النظر، قالوا: إن النجس: نجس في نفسه، فلا يمكن أن يطهر غيره. الدليل الرابع: قالوا: إن الاستجمار رخصة عندهم؛ لأن الأصل في إزالة النجاسة هو الماء، والرخصة لا تحصل بحرام، يعني: بملابسة النجاسة. والصحيح أن الاستجمار على وفق القياس، وليس هو رخصة، لأن إزالة النجاسة إذا أزيلت بأي مزيل زال حكمها، ولا يختص هذا في محل الاستجمار، كما قدمنا في دلك النعل بالتراب (¬1)، وفي تطهير ذيل المرأة (¬2)، ونحوهما. دليل من قال: يجزئ الاستجمار بكل مزيل ولو كان نجساً. قالوا: إن النجاسة عين خبيثة متى زالت زال حكمها، وحديث ابن مسعود غايته عدم الاستنجاء بالنجس، لكن إذا استنجى فقد طهر مع الإثم، لكن لا يمكننا الحكم بنجاسة المحل، وقد ارتفعت النجاسة، فالنهي والصحة غير متلازمين، فقد تجتمع الصحة والتحريم. وهذا القول فيه قوة، ولا يقال هذا القول ابتداء، لكن لو استنجى أحد بما نهي عن الاستنجاء به، وجاء يسأل هل يجزؤه ذلك؟ قلنا: يجزؤك، ولا تعد. ¬
الشرط الثالث أن يكون المستنجى به غير عظم وروث
الشرط الثالث أن يكون المستنجى به غير عظم وروث لا يستنجي بعظم، ولا روث، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، وابن حزم من الظاهرية (¬3). وقيل: يستنجي بهما، وهو اختيار أشهب من المالكية (¬4). وقيل: لا يستنجي بهما، وإن خالف واستنجى أجزأه، وهو مذهب الحنفية (¬5)، والمالكية (¬6)، وابن تيمية من الحنابلة (¬7). ¬
دليل من قال: لا يستنجي بعظم وروث.
دليل من قال: لا يستنجي بعظم وروث. الدليل الأول: (361 - 205) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زهير، عن أبي إسحاق قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة، فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا ركس (¬1). الدليل الثاني: (362 - 206) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع، عن الأعمش ح وحدثنا يحيى بن يحيى، واللفظ له، أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان قال: قيل له: قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (363 - 207) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل/ حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، قال: أخبرني جدي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه كان يحمل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها فقال: من هذا؟ فقال: أنا أبو هريرة. فقال: ابغني أحجاراً أستنفض بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعت إلى جنبه، ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت، فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نصيبين، ونعم الجن، فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعاماً (¬1). الدليل الرابع: (364 - 208) ما رواه مسلم، قال: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا زكرياء بن إسحق، حدثنا أبو الزبير، أنه سمع جابراً يقول: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتمسح بعظم أو ببعر (¬2). الدليل الخامس: (365 - 209) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا محمد بن عجلان، حدثني القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، ¬
الدليل السادس
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الخلاء فلا تستقبلوها ولا تستدبروها، ولا يستنجي بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث والرمة (¬1). [إسناده حسن] (¬2). قال الطحاوي: الرمة: العظام. الدليل السادس: (366 - 210) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن غيلان، قال: حدثنا المفضل، قال: حدثني عياش بن عباس، أن شييم بن بيتان أخبره، أنه سمع شيبان القتباني يقول: استخلف مسلمة بن مخلد رويفع بن ثابت الأنصاري على أسفل الأرض، قال: فسرنا معه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رويفع لعل الحياة ستطول بك بعدي، فأخبر الناس أنه من عقد لحيته، أو تقلد وتراً، أو استنجى برجيع دابة أو بعظم فإن محمداً - صلى الله عليه وسلم - بريء منه (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬
الدليل السابع
الدليل السابع: (367 - 211) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني
عبد الكريم بن أبي المخارق، أن الوليد بن مالك بن عبد القيس أخبره، أن محمد بن قيس مولى سهل بن حنيف أخبره، أن سهل بن حنيف أخبره، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: أنت رسولي إلى أهل مكة. قل: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسلني يقرأ السلام عليكم، ويأمركم بثلاث لا تحلفوا بغير الله، وإذا تخليتم فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولا تستنجوا بعظم ولا ببعرة (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). والعلة في النهي: إما أن يكون الروث والعظم طاهرين، أو نجسين: ¬
(368 - 212) فإن كانا طاهرين، فالعلة فيهما ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، عن داود، عن عامر قال: سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن، قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود، فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل. قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء. قال: فقلنا: يا رسول الله فقدناك، فطلبناك، فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن قال: فانطلق بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما طعام إخوانكم (¬1). فإن كان العظم والروث طاهرين، فعلة النهي أنهما طعام إخواننا من الجن وطعام دوابهم. (369 - 213) وإن كان العظم والروث نجسين، فالعلة ماروه البخاي ما ورد في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة، فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا ¬
دليل من قال: يجوز الاستنجاء بالعظم والروث.
ركس (¬1). وسقنا إسناده في أول دليل في مسألتنا هذه. فقوله - صلى الله عليه وسلم -: هذا ركس: أي نجس كما بيناه من قبل، ولا ينبغي أن يفسر الركس بمعنى الرجيع،، فإن ذلك إخبار بالمعلوم، فيؤدي الحمل عليه إلى خلو الكلام من فائدة، والله أعلم. دليل من قال: يجوز الاستنجاء بالعظم والروث. لا أعلم له دليلاً، وقد صرح أشهب بأنه لا يعلم فيه نهياً، وهذا دليل على أنه لم يبلغه النهي، ولو بلغه لقال به، لأن النهي ثابت في صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة وابن مسعود وغيرهما كما سقناه في أدلة القول الأول. دليل من قال: لا يستنجي، وإذا استنجى أجزأ. قالوا: إن كان العظم والروث طعام إخواننا من الجن، فإن هذا لا يمنع من صحة الاستنجاء، كما لو استنجى بثوب غيره، فكون اعتدى على ثوب غيره لم يمنع من الاستنجاء به، وإن كان العظم والروث نجسين فإن هذا أيضاً لا يمنع من صحة الاستنجاء، لإن العظم نجاسته لا تتعدى كما لو كان خالياً من الرطوبة، وكذلك البعر الناشف لا تتعدى نجاسته إلى البدن، فهو يزيل النجاسة، ولا ينجس غيره، وبالتالي فإن النهي عن الاستنجاء منهما منفك عن كونهما ينظفان المحل، وكيف نحكم على المحل بالنجاسة وقد زالت عينها. ¬
فرع النهي عن العظام والروث للكراهة أو للتحريم اختلف الفقهاء هل النهي عن الاستجمار بالروث والعظام هل هو للكراهة أم للتحريم؟ فقيل: يكره، اختاره بعض الحنفية (¬1). وقيل: يكره في العظم والروث الطاهرين، وهو مذهب المالكية (¬2). وقيل: يحرم، اختاره بعض الحنفية (¬3)، واختاره أيضاً بعض المالكية (¬4)، وهو مذهب الشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6). ¬
دليل من قال: يكره.
دليل من قال: يكره. قالوا: إن الأصل في النهي التحريم، لكن مقتضى التعليل بأنه زاد إخواننا من الجن جعلنا نحمل النهي على أنه مكروه، وليس بمحرم. دليل من قال: يحرم. قالوا: الأصل في النهي التحريم، ولا توجد قرينة صارفة للنهي عن هذا الأصل. بل قالوا: إن مقتضى التعليل يقتضي التحريم؛ لأن العظم والروث لما كان طعام إخواننا من الجن، كان في الاستنجاء به، تعد وإفساد له، أما التعدي فظاهر، فلأن كل عظم وروث جعل من طعامهم وطعام دوابهم، فكانوا أحق به. وأما الإفساد، فلأن هذا الطعام إذا استنجي به أدى إلى إفساده عليهم، وما جمع بين التعدي والإفساد كيف لا يكون حراماً. دليل من قال: يكره إن كان العظم والروث طاهرين ويحرم إن كانا نجسين. لعلهم سبب التفريق عندهم إن العظم والروث إن كانا طاهرين كان في الاستنجاء به ملابسة النجاسة، وهي مكروهة عندهم، بخلاف ما إذا كانا طاهرين. ولو عكسوا لم يبعدوا، لأن العظم والروث إن كانا نجسين فاستعمال النجاسة على وجه لا يتعدى لا يمنع منه، كما انتفع من شحم الميتة، فإنه يطلى به السفن ويدهن به الجلود ويستصبح به الناس كما في حديث جابر
المتفق عليه. (370 - 214) فقد روى البخاري، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح، وهو بمكة: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة، فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا هو حرام، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: قاتل الله اليهود؛ إن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه، ورواه مسلم (¬1). وأما إذا كان العظم والروث طاهرين فإن فيه كما بينا سابقاً تعدياً وإفساداً فينبغي أن يكون حراماً، لو قيل هذا لم يبعد. الراجح أن النهي للتحريم، لأنه الأصل في نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإذا خالف، واستنجى به، فهل يجزؤه أم لا؟ أما القائلون بالكراهة فظاهر، وأما القائلون بالتحريم فهل يصح أم لا فيه خلاف بيناه في مسألة مستقلة في اشتراط أن يكون المستنجى به طاهراً، وفي ما سبق من الفصول، والله أعلم. ¬
الشرط الرابع في اشتراط أن يكون المستجمر به من الأحجار
الشرط الرابع في اشتراط أن يكون المستجمر به من الأحجار اختلف الفقهاء هل يشترط أن يكون الاستجمار من الأحجار، أو يجوز أن يكون من الخشب والورق ونحوهما؟ فقيل: يجوز الاستجمار بكل طاهر منق من حجر أو ورق أو خشب ونحوها، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: لا يجوز إلا الماء أو الأحجار ونحوها مما هو من جنس الأرض، ولا يجوز بالورق والخشب وغيرها من غير جنس الأحجار، وهو اختيار أصبغ من المالكية (¬5)، وابن حزم من الظاهرية (¬6). ¬
دليل الجمهور على جواز الورق والخشب.
دليل الجمهور على جواز الورق والخشب. الدليل الأول: (371 - 215) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل/ حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، قال: أخبرني جدي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه كان يحمل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها فقال: من هذا؟ فقال: أنا أبو هريرة. فقال: ابغني أحجاراً أستنفض بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعت إلى جنبه، ثم انصرفت. الحديث (¬1). فقوله: " ولا تأتني بعظم ولا روثة " لما خص النهي بالعظم والروثة دل على جواز غيرهما، ولو لم يكن حجراً كالورق والخشب. الدليل الثاني: (372 - 216) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زهير، عن أبي إسحاق قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة، فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا ركس (¬2). ¬
الدليل الثالث
وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علل منع الاستنجاء بها بكونها ركساً، ولم يعلل بكونها غير حجر. وهذا يعني جواز الاستنجاء بكل طاهر منق لم يكن رجساً. الدليل الثالث: (373 - 217) ما رواه البيهقي، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يحيى بن عبد الجبار السكري ببغداد، نا إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا عباس بن عبد الله الترقفي، نا يحيى بن يعلى، نا أبي، عن غيلان، عن أبي إسحاق، عن مولى عمر يسار بن نمير، قال كان عمر رضي الله عنه إذا بال قال: ناولني شيئا أستنجي به، قال: فأناوله العود والحجر، أو يأتي حائطاً يتمسح به، أو يمس الأرض ولم يكن يغسله. قال البيهقي: وهذا أصح ما روي في هذا الباب وأعلاه (¬1). [رجاله ثقات إلا أن غيلان بن جامع لم أقف هل سمع من أبي إسحاق قبل أو بعد تغيره] (¬2). الدليل الرابع: (374 - 218) ما رواه الدارقطني من طريق مبشر بن عبيد، حدثني الحجاج بن أرطاة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ثم مر سراقة بن مالك المدلجي على ¬
الدليل الخامس
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن التغوط، فأمره أن يتنكب القبلة ولا يستقبلها ولا يستدبرها، ولا يستقبل الريح، وأن يستنجي بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع، أو ثلاثة أعواد، أو ثلاث حثيات من تراب. قال الدارقطني: لم يروه إلا مبشر بن عبيد، وهو متروك الحديث (¬1). الدليل الخامس: (375 - 219) ما رواه الدارقطني، قال: نا عبد الباقي بن قانع، نا أحمد بن الحسن المضري، نا أبو عاصم، نا زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن طاوس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قضى أحدكم حاجته فليستنج بثلاثة أعواد، أو ثلاثة أحجار، أو بثلاث حثيات من التراب. قال زمعة: فحدثت به ابن طاوس، فقال: أخبرني أبي عن ابن عباس بهذا سواء (¬2). [ضعيف جداً أو موضوع] (¬3). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: من النظر، قالوا: إن النجاسة عين خبيثة، متى زالت بأي مزيل زال حكمها، وليس التعبد بالمزيل، ولكن التعبد بالإزالة، فالحجر وما كان مثله أو أنقى منه يحصل به المقصود، وهو طهارة المحل، والله أعلم. دليل ابن حزم على وجوب الاقتصار على الماء أو الحجارة. يرى ابن حزم أن الاستنجاء يقتصر على ما رود فيه النص، وقد جاء الاستنجاء بالماء في أحاديث كثيرة سوف نسوق ما وقفنا عليه منها في باب الاستنجاء بالماء، وجاء الاستنجاء بالحجارة، وقد ذكرنا ما وقفت عليه منها في باب الاستجمار بالحجارة، ولم يرد النص في الاستنجاء إلا بالماء أو الحجارة، فطلب الاستنجاء بغيرهما لم يدل عليه الدليل، فلا يجوز الاستنجاء به، ولا يرى ابن حزم القياس حتى يقيس على الحجارة غيرها مما يزيل النجاسة، أو ربما يكون أنقى منها في الإزالة. ¬
ويقال لابن حزم: كيف جوزت الاستجمار بالرمل والتراب مع أنه لم يأت به نص، فإن كان الدليل هو الاستجمار بالحجارة، فهذا باب من القياس، وأنت لا ترى القياس، وإن كان اتباعاً للدليل فلا أعلم نصاً في السنة في الاستجمار بالرمل والتراب. واستدل بعضهم من وجه آخر، فقال: إن الاستجمار رخصة، فيقتصر بها على ما ورد (¬1). وقال ابن المنذر: لا نحفظ عن رسول الله شيئاً من الأخبار أنه أمر بالاستنجاء بغير الحجارة، ومن استنجى بالحجارة كما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أتى بما عليه، وإن استنجى بغير الحجارة، فالذي نحفظ عن جماعة من أهل العلم أنه قالوا: ذلك جائز، والاستنجاء بالحجارة أحوط (¬2). ¬
الشرط الخامس أن يكون الحجر ونحوه منقيا
الشرط الخامس أن يكون الحجر ونحوه منقياً اشترط الفقهاء أن يكون الحجر أو ما يقوم مقامه منقياً (¬1). لأن المقصود من الاستجمار هو الإنقاء، فالذي لا ينقي لا حاجة إلى الاستجمار به. وعليه فقيل: يكره الاستجمار بزجاج، وهو مذهب الحنفية (¬2). وقيل: لا يجوز الاستجمار بالزجاج، وهو مذهب الجمهور (¬3). ¬
علة النهي عن الاستنجاء بالزجاج.
علة النهي عن الاستنجاء بالزجاج. علل الفقهاء النهي عن الاستنجاء بالزجاج بأمرين: الأول: أنه لا ينقي، والمقصود من الاستجمار هو الإنقاء، فإذا كان الزجاج لا ينقي المحل كان الاستنجاء به عبثاً. الثاني: أن الزجاج قد يضر بالمقعدة. والذي يظهر من التعليل أنه لا يوجد نص في النهي عن الاستنجاء بالزجاج أو بالحجر الأملس، وإذا استنجى به فإن تم المقصود، وأزل عين النجاسة فقد طهر المحل، وإن لم ينق فإنه يكون مطالباً بالاستنجاء حتى يطهر المحل، والله أعلم. ¬
فرع إذا استنجى بالزجاج، فهل يجزئه الاستجمار أو يتعين الماء
فرع إذا استنجى بالزجاج، فهل يجزئه الاستجمار أو يتعين الماء اختلف الفقهاء في هذه المسألة: فقيل: إن كان حين استنجى بالزجاج بسط النجاسة بحيث تعدت محلها، فإن الماء يتعين في هذه الحالة، وإلا فتكفيه الحجارة، وهذا مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2). وفي مذهب الحنابلة ثلاثة أقوال فيما إذا استجمر بمنهي عنه، ثم استجمر بمباح: فقيل: لا يجزئ مطلقاً، ويتعين الماء. وقيل: يجزئ مطلقاً الاستجمار بالحجارة. وقيل: إن أزال شيئاً أجزأ، وإلا تعين الماء (¬3). وأما من يرى أن الاستجمار مجزئ، ولو تعدت النجاسة مخرجها المعتاد، فإنه ليس بحاجة إلى هذا التفصيل، وهو الراجح، وسوف يأتي الكلام في مسألة مستقلة: خلاف الفقهاء فيما إذا تجاوزت النجاسة مخرجها المعتاد، في بحث: متى يتعين الماء، فانظره إن شئت. ¬
الشرط السادس هل يشترط أن يكون جامدا
الشرط السادس هل يشترط أن يكون جامداً اختلف الفقهاء فيما يستجمر به هل يشترط أن يكون جامداً، أو يجزئ الاستنجاء بكل رطب أو مائع غير الماء؟ فقيل: يجزئ كل مائع طاهر مزيل للنجاسة، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: لا يجزئ إلا ما كان جامداً، أما الرطب والمائع من غير الماء فلا يجزئ الاستنجاء به، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: يجزئ كل مزيل، سواء كان مائعاً أو جامداً أو رطباً، وهو اختيار ابن تيمية (¬5). ¬
دليل الحنفية على إزالة الاستجمار بكل مائع ورطب.
دليل الحنفية على إزالة الاستجمار بكل مائع ورطب. قالوا: إن كل مائع مزيل فإنه يطهر النجاسة، قياساً على إزالة النجاسة بالماء بناء على أن الطهارة بالماء معلولة بعلة كونه قالعاً لتلك النجاسة، والمائع قالع فهو محصل ذلك المقصود فتحصل به الطهارة. وقيدوا المائع بكونه مزيلاً ليخرج الدهن والسمن واللبن وما أشبه ذلك؛ لأن الإزالة إنما تكون بأن يخرج أجزاء النجاسة مع المزيل شيئا فشيئاً، وذلك إنما يتحقق فيما ينعصر بالعصر بخلاف الخل وماء الباقلاء الذي لم يثخن فإنه مزيل، وكذا الريق، وعلى هذا فرعوا طهارة الثدي إذا قاء عليه الولد ثم رضعه حتى أزال أثر القيء (¬1)، وكذا إذا لحس أصبعه من نجاسة بها حتى ذهب الأثر، أو شرب خمراً ثم تردد ريقه في فيه مراراً طهر (¬2) حتى لو صلى صحت صلاته (¬3). دليل الجمهور على اشتراط الماء أو الجامد. قالوا: جاءت أحاديث كثيرة في الاستنجاء بالماء (¬4)، كما جاءت أحاديث كثيرة بجواز الاستجمار بالحجارة (¬5)، قالوا: والأصل في النجاسات ¬
الدليل على أن النجاسة لا تزال إلا بالماء
كلها أنها لا تزال إلا بالماء، جاء الاستجمار بالأحجار على خلاف الأصل فقبلناه في محله، ولا نتعداه لغيره، فلا نزيل النجاسة بالأحجار إذا كانت النجاسة على غير المخرج، ولا نزيلها بمائع غير الماء لعدم الدليل، بل إن المائع غير الماء قد ينشر النجاسة أكثر؛ لأنه سوف يتنجس المائع بمجرد الملاقاة، فيكون ما يصيب البدن منه يكون نجساً، والنجس لا يطهر. والدليل على أن النجاسة لا تزال إلا بالماء أدلة كثيرة منها: قوله تعالى: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} (¬1). وجه الاستدلال: قال النووي: ذكر الله سبحانه امتناناً، فلو حصل -يعني التطهير- بغيره لم يحصل الامتنان (¬2). الدليل الثاني: (376 - 220) ما رواه البخاري، قال: حدثنا خالد بن مخلد، قال: وحدثنا سليمان، عن يحيى بن سعيد، قال: سمعت أنس بن مالك: قال جاء أعرابي، فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما قضى بوله أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذنوب من ماء، فأهريق عليه. ورواه مسلم (¬3). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أراد تطهير المسجد من بول الأعرابي أمر بالماء لقوله ¬
في الحديث: " أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذنوب من ماء " فهذا الأمر دال على اختصاص الماء بالتطهير. الدليل الثالث: (377 - 221) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن هشام، قال: حدثتني فاطمة، عن أسماء قالت: جاءت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب كيف تصنع؟ قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه وتصلي فيه، ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرشد في تطهير الثوب من دم الحيض إلى الماء، ولم يرشد إلى غيره، فتعين الماء لإزالة النجاسة من دم الحيض، لكونه منصوصاً عليه، وباقي النجاسات مقيسة عليه. وأجيب عن هذه الأدلة: بأن هذه الأدلة تدل على أن الماء يزيل النجاسة، وهذا لا إشكال فيه، وهو محل إجماع، لكن ليس فيها دلالة على أن النجاسة لا تزال إلا بالماء .. وفرق بين المسألتين. الدليل الرابع: قالوا: إذا كانت طهارة الحدث لا تكون إلا بالماء مع وجوده، فكذلك إزالة النجاسة لا تكون إلا بالماء. ¬
دليل من قال: تزال النجاسة بأي مزيل
وأجيب: بأن القياس على طهارة الحدث قياس مع الفارق. أولا: طهارة الحدث من باب فعل المأمور، وأما طهارة الخبث فمن باب ترك المحضور. ثانياً: طهارة الحدث تشترط لها النية على الصحيح خلافاً للحنفية، بخلاف طهارة الخبث فهي من باب التروك لا تشترط لها النية كترك الزنا والخمر ونحوها. ثالثاً: طهارة الحدث طهارة تعبدية محضة غير معقولة المعنى، فبدن المحدث وعرقه وريقه طاهر، وأما طهارة الخبث فإنها طهارة معللة بوجود النجاسة الحسية. رابعاً: طهارة الحدث الصغرى تختص بأعضاء مخصوصة، ربما ليس لها علاقة بالحدث، فالحدث: الذي هو البول والغائط موجب لغسل الأعضاء الأربعة الطاهرة، بينما طهارة الخبث تتعلق بعين النجاسة أين ما وجدت. خامساً: طهارة الحدث لا تسقط بالجهل والنسيان على الصحيح بخلاف طهارة الخبث. دليل من قال: تزال النجاسة بأي مزيل. الدليل الأول: الاستجمار ليس رخصة على خلاف القياس، بل إذا صح الاستجمار بالحجارة صح إزالة النجاسة بأي مزيل، فلما سقط تعين الماء في الاستجمار سقط تعين الماء في غير الاستجمار. الدليل الثاني: صح تطهير النعلين بالتراب، وهو غير الماء، وليس في محل الاستجمار،
(378 - 222) فقد روى أحمد، قال: ثنا يزيد، أنا حماد بن سلمة، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى، فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا. قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعله فلينظر فيها فإن رأى بها خبثاً فليمسه بالأرض ثم ليصل فيهما (¬1). [الحديث إسناده صحيح] (¬2). وصح تطهير ذيل المرأة بغير الماء، وفي غير محل الاستجمار أيضاً (379 - 223) روى أحمد، قال: ثنا أبو كامل، ثنا زهير -يعنى ابن معاوية- ثنا عبد الله بن عيسى، عن موسى بن عبد الله، قال: وكان رجل صدق، عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: قلت: يا رسول الله إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة، فكيف نصنع إذا مطرنا؟ قال: أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ قالت: قلت: بلى. قال: فهذه بهذه (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). فسقط دعوى أن إزالة النجاسة في الاستجمار بالحجارة على خلاف ¬
القياس، وأنه لا يتعدى فيها محلها، بل تزال النجاسة بأي مزيل كان. الدليل الرابع: من النظر، قالوا: إن النجاسة عين خبيثة لها طعم أو لون أو رائحة، والمطلوب ازالة كل ذلك فإذا ذهب طعمها ولونها ورائحتها بأي مزيل زال حكمها وأصبح المحل طاهراً. وهذا هو القول الراجح، والله أعلم.
الشرط السابع ألا يكون المستجمر به حممة
الشرط السابع ألا يكون المستجمر به حُمَمَة وقع خلاف بين الفقهاء في حكم الاستنجاء بالحمم، ومثله الرماد (¬1). فقيل: يكره الاستنجاء به، وهو مذهب الحنفية (¬2)، وقول في مذهب المالكية (¬3). وقيل: لا يجزئ مطلقاً، اختاره العراقيون من الشافعية (¬4). وقيل: إن كان صلباً لا يتفتت أجزأ الاستنجاء به، وإن كان رخواً يتفتت لم يجزئ، اختاره الخرسانيون من الشافعية (¬5). ¬
دليل من قال: بالكراهة أو المنع
وقيل: يجزئ الاستنجاء بالحممة، وهو قول في مذهب المالكية (¬1). دليل من قال: بالكراهة أو المنع. (380 - 224) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا حيوة بن شريح الحمصي، ثنا ابن عياش، عن يحيى بن أبي عمرو السيباني، عن عبد الله بن الديلمي، عن عبد الله بن مسعود، قال: قدم وفد الجن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا محمد إنه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حممة؛ فإن الله تعالى جعل لنا فيها رزقاً. قال: فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك (¬2). [حديث ابن مسعود في مسلم وليس فيه إلا العظم والروثة] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . ¬
دليل من قال يجزئ الاستنجاء بالحممة
الدليل الثاني: (381 - 225) ما رواه البزار، من طريق أبي الأسود، قال: أنا ابن لهيعة، عن ابن المغيرة -يعني عبيد الله- عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستنجي أحد بعظم أو روثة أو حممة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثالث: من النظر: قالوا: إن الحممة إن كانت صلبة فقد تسود الجسم، وإن كانت تتفتت فلا يحصل منها الإنقاء المطلوب. دليل من قال يجزئ الاستنجاء بالحممة. الدليل الأول: لم يثبت نهي عن الاستنجاء بالحممة، والأصل الجواز، فقد نقل عن ¬
الدليل الثاني
مالك أنه قال: ما سمعت فيها نهياً (¬1). الدليل الثاني: كونها قد تتفتت هذا لا يكفي دليلاً في المنع، فقد ذهب كثير من الفقهاء إلى الاستنجاء بالرمل، وهو أكثر نعومة من الفحم إذا تتفتت، ومع ذلك فالرمل ينقي، وكونها قد تسود الجسم، فإنها عين طاهرة لا تنجس البدن حتى يتقى هذا، وقد يحتاج إلى الاستنجاء بها، ويكفي أن الكلام هذا لا يصح أن يكون دليلاً شرعياً في المنع من الاستنجاء بها. الراجح: إن ثبت النهي عن الاستنجاء بالحممة قلت به، وإن كان النهي غير محفوظ، فالأصل الجواز، والله أعلم. ¬
الشرط الثامن أن يكون المستجمر به غير محترم
الشرط الثامن أن يكون المستجمر به غير محترم
المبحث الأول الاستنجاء بالكتب الشرعية
المبحث الأول الاستنجاء بالكتب الشرعية لا يستنجي بالكتب الشرعية، وهل هو على التحريم أو الكراهة خلاف؟ فقيل: يكره، ويجزئ، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يحرم ويجزئ، وهو مذهب المالكية (¬2). وقيل: يحرم ولا يجزئ، وهو مذهب الحنابلة (¬3)، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬4). تعليل الكراهة أو المنع. قالوا: إن الكتب الشرعية يجب احترامها، لما فيه من علم محترم، والاستنجاء بها إهانة، وهذا منهي عنه. ولأن الكتب الشرعية تعتبر من المال، فهي لها قيمة شرعاً، والاستنجاء ¬
تعليل من قال: إن استنجى بها، فأنقى أجزأ
بها إفساد لهذا المال، وإفساد الأموال منهي عنه. ولأن الكتب الشرعية لا تخلو من أسماء الله سبحانه وتعالى ومن أحاديث شريفة يجب توقيرها، ولا يجوز إهانتها. وقياساً على النهي عن الاستنجاء بالعظم والروث؛ لأنه طعام إخواننا من الجن وطعام دوابهم، فإذا كان زاد الأبدان منهياً عنه، فكذلك زاد الأرواح من العلوم الشرعية. والكراهة التي عند الحنفية لا يبعد أن تكون كراهة تحريم، لا كراهة تنزيه. تعليل من قال: إن استنجى بها، فأنقى أجزأ. قالوا: إن النجاسة قد زالت، فلا يمكن أن نحكم للمحل بالنجاسة وقد زالت عين النجاسة، والتحريم والصحة غير متلازمين، خاصة أن النهي عن الاستنجاء بها لمعنى آخر وهو احترام ما فيها، فكما نصحح الصلاة في الأرض المغصوبة، والصلاة في الثوب المسروق؛ لأن النهي ليس عائداً للصلاة، وإنما لوصف الغصب والسرقة، وهذا لا يختص بالصلاة، فكذلك الا ستنجاء بالكتب الشرعية، والله أعلم. تعليل من قال: لا يجزئ. الدليل الأول: قالوا: إن الاستجمار بغير الماء رخصة؛ لأن الأصل أن الاستنجاء يكون بالماء وحده، والرخصة لا تستباح بمعصية. الدليل الثاني: قال: أن هذا مخالف لأمر الله ورسوله، فإذا صححنا الفعل المحرم نكون
بذلك قد رتبنا على الفعل المحرم أثراً صحيحاً، وهذا فيه مضادة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولأن تصحيح الفعل المحرم فيه تشجيع على فعله، بخلاف ما إذا جعل لغواً، فهذا يحمله على تركه. (382 - 226) وقد روى مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد، جميعاً، عن أبي عامر، حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري، عن سعد بن إبراهيم، قال: سألت القاسم بن محمد عن رجل له ثلاثة مساكن، فأوصى بثلث كل مسكن منها، قال يجمع ذلك كله في مسكن واحد، ثم قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد (¬1). وروى البخاري القدر المرفوع منه معلقاً (¬2) .. وقد سبق أن نقلنا كلام ابن القيم في شرحه لقوله: فهو رد. وأن الرد: فَعْل بمعنى المفعول، أي فهو مردود، وعبر عن المفعول بالمصدر مبالغة، حتى كأنه نفس الرد، وهذا تصريح بإبطال كل عمل على خلاف أمره ورده، وعدم اعتباره في حكم المقبول، ومعلوم أن المردود هو الباطل بعينه، بل كونه رداً أبلغ من كونه باطلاً، إذ الباطل قد يقال لما لا نفع فيه أو منفعته قليلة جداً، وقد يقال لما ينتفع به ثم يبطل نفعه، وأما المردود فهو الذي لم يجعله شيئاً ولم يترتب عليه مقصوده أصلاً (¬3). ¬
الراجح من الخلاف
الراجح من الخلاف: القول بتحريم الاستجمار بالكتب الشرعية، وإذا خالف فعليه التوبة وعدم العود إلى هذا الفعل، مع الإجزاء، وقولهم: إن الاستنجاء بغير الماء رخصة، والرخصة لا تستباح بالمعصية غير مسلم لا في مقدمتها ولا في نتيجتها، أما المقدمة: وهو قولهم: إن الاستجمار رخصة، فنقول: الصحيح أن الاستجمار ليس برخصة، وأن النجاسة إذا زالت بأي مزيل زال حكمها، وقد ناقشنا هذا في مسألة مستقلة، وقدمت أدلة كثيرة على إزالة النجاسة بغير الماء، فإذا لم تصح المقدمة لم تسلم النتيجة، وعلى فرض أن تكون المقدمة صحيحة فلا نسلم النتيجة، وأن الرخصة لا تستباح بمعصية، بل الرخصة إذا حصل سببها إبيحت، فالمسح على الخفين يمسح المسافر مطلقاً سواء كان المسافر في سفر طاعة أم معصية، وكذلك يقصر الصلاة ويفطر في رمضان، لأن النصوص مطلقة غير مقيدة، ولا يقيد النص الشرعي إلا نص مثله، وقد ناقشت هذه المسألة بشيء من التفصيل في كتابي المسح على الحائل، فليراجعه من شاء، والله أعلم.
المبحث الثاني ألا يكون المستنجى به مطعوما
المبحث الثاني ألا يكون المستنجى به مطعوماً ذهب الأئمة الأربعة (¬1) إلى تحريم الاستنجاء بالطعام. وإذا خالف واستنجى أجزأه إذا حصل الإنقاء عند الحنفية والمالكية. وقيل: لا يجزئ في مذهب الشافعية والحنابلة. ومثل طعام الآدمي طعام البهيمة فلا يستنجي به (¬2). ¬
دليل المنع من الاستنجاء بالطعام
دليل المنع من الاستنجاء بالطعام. (383 - 227) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، عن داود، عن عامر قال: سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن، قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود، فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل. قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء. قال: فقلنا: يا رسول الله فقدناك، فطلبناك، فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن قال: فانطلق بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما طعام إخوانكم (¬1). وجه الاستدلال: فإذا نهي عن الاستنجاء بالعظم والروث؛ لأنه طعام الجن وطعام دوابهم، فالنهي عن طعام الإنس وطعام دوابهم من باب أولى. الدليل الثاني: أن الاستنجاء بالطعام مناف لشكر النعمة وتعظيمها، وعدم امتهانها، ¬
الراجح
وقد ينتفع بها حيوان أو طير أو غيرهما من دواب الأرض، وعلى هذا ما يفعله بعض الناس من وضع بقايا الطعام مع حفائظ الأطفال المتنجسة، ودفعها على عمال النظافةواختلاطها بها من المنكر الذي يجب الابتعاد عنه شكراً لنعمة الله، وحرصاً على المحافظ عليها. وأما أدلة الخلاف هل يجزئ فيما لو خالف واستنجى بطعام وأنقى المحل فانظره في المسألة التي قبل هذه، وهي الاستنجاء بالكتب الشرعية؛ فإن الأدلة فيها واحدة، بجامع أن كلا منهما محترم شرعاً. والراجح في هذه المسألة هو ما رجحته في المسألة التي قبل هذه، من صحته مع الإثم، والله أعلم.
المبحث الثالث أن يكون المستنجى به مباحا
المبحث الثالث أن يكون المستنجى به مباحاً اشترط الحنابلة إباحة المستجمر به، فلا يجوز الاستجمار بشيء مغصوب كورق وحجر ونحوها، قال المرداوي: وهو من المفرادت (¬1). دليل اشتراط الإباحة. قالوا: إن الاستجمار يرونه رخصة، والرخصة لا تسباح بمحرم. والشيء المغصوب كسبه محرم بالاتفاق، (384 - 228) فقد روى البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، قال: حدثنا حماد، عن أيوب، عن محمد، عن ابن أبي بكرة، عن أبي بكرة ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فإن دماءكم وأموالكم، قال محمد: وأحسبه قال: وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب (¬2). فإذا كان كسبه محرماً وصححنا الوضوء به نكون بذلك قد رتبنا على الفعل المحرم أثراً صحيحاً، وهذا فيه مضادة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. (385 - 229) وقد روى مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم ¬
وعبد بن حميد جميعاً عن أبي عامر، قال عبد: حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري، عن سعد بن إبراهيم، قال: سألت القاسم بن محمد، عن رجل له ثلاثة مساكن، فأوصى بثلث كل مسكن منها، قال: يجمع ذلك كله في مسكن واحد، ثم قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد (¬1). ومعنى رد: أي مردود عليه، والوضوء بالماء المغصوب خلاف أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن حزم رحمه الله: من توضأ بماء مغصوب، أو أخذ بغير حق، أو اغتسل به، أو من إناء كذلك، فلا خلاف بين أحد من أهل الإسلام أن استعماله ذلك الماء وذلك الإناء في غسله ووضوئه حرام، وبضرورة يدري كل ذي حس سليم أن الحرام المنهي عنه هو غير الواجب المفترض عمله، فإذ لا شك في هذا فلم يتوضأ الوضوء الذي أمره الله تعالى به، والذي لا تجزئ الصلاة إلا به، بل هو وضوء محرم، هو فيه عاص لله تعالى، وكذلك الغسل، والصلاة بغير الوضوء الذي أمر الله تعالى به وبغير الغسل الذي أمر الله تعالى به لا تجزئ، وهذا أمر لا إشكال فيه. ونسأل المخالفين لنا عمن عليه كفارة إطعام مساكين، فأطعمهم مال غيره، أو من عليه صيام أيام، فصام أيام الفطر والنحر والتشريق، ومن عليه عتق رقبة فأعتق أمة غيره، أيجزيه ذلك مما افترض الله تعالى عليه؟ فمن قولهم: لا. فيقال لهم: فمن أين منعتم هذا وأجزتم الوضوء والغسل بماء مغصوب وإناء مغصوب؟ وكل هؤلاء مفترض عليه عمل ¬
موصوف في مال نفسه، محرم عليه ذلك من مال غيره بإقراركم سواء سواء. وهذا لا سبيل لهم إلى الانفكاك منه. وليس هذا قياساً، بل هو حكم واحد داخل تحت تحريم الأموال، وتحت العمل بخلاف أمر الله تعال، ى وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وكل هؤلاء عمل عملا ليس عليه أمر الله تعالى وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مردود بحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وأجيب: بأن التحريم والصحة غير متلازمين، فتلقي الجلب منهي عنه، وإذا تُلُقِيَ كان البيع صحيحاً، وللبائع الخيار إذا أتى السوق، فثبوت الخيار فرع عن صحة البيع. وانظر بقية الأقوال وأدلتها ومناقشتها في باب المياه في الوضوء بالماء المحرم. ¬
المبحث الرابع ألا يكون المستنجى به حيوانا
المبحث الرابع ألا يكون المستنجى به حيواناً
الفرع الأول الاستنجاء بشيء من الحيوان متصلا به
الفرع الأول الاستنجاء بشيء من الحيوان متصلا به اختلف الفقهاء في الاستنجاء بشيء متصل بالحيوان كالذنب والصوف والأذن ونحوها: فقيل: يكره الاستجمار بشيء متصل بحيوان، وهو مذهب المالكية (¬1). وقيل: لا يجوز الاستنجاء بها، وعليه أكثر الشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: يصح الاستجمار بما اتصل بالحيوان، واختاره الماوردي والشاشي من الشافعية (¬4)، والأزجي من الحنابلة (¬5). دليل من حرم الاستنجاء بما هو متصل بحيوان. الدليل الأول: قالوا: إ الحيوان محترم فأشبه الاستنجاء بالطعام. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: القياس على النهي عن الاستنجاء بعلف الدواب، فإذا كان قد نهي عن الاستنجاء بعلف الدواب، فالاستنجاء بها أولى بالنهي. دليل من قال: بالجواز. الدليل الأول: قالوا: الأصل الجواز، ومن منع كلف الدليل، وقد نهي عن الاستنجاء بالروث والعظام، ولم يأت نهي عن الاستنجاء بالحيوان. الدليل الثاني: قالوا: إن حرمة الحيوان بمنع إيلامه، لا منع ابتذاله بخلاف المطعوم. الدليل الثالث: إذا صححنا الاستنجاء بالشعر والصوف إذا جز من الحيوان، صح الاستنجاء بهما وهما على الحيوان، غاية ما هنالك أن الحيوان قد تنجس، وتنجس بدن الحيوان في مقابلة منفعة الآدمي لا يمنع منها. دليل من قال: يكره الاستنجاء بالحيوان. قال: إن في الاستنجاء به تنجيس لبدن الحيوان الطاهر، وتنجيسه بلا حاجة مكروه. الراجح: جواز الاستنجاء به إذا احتاج إليه الإنسان كما لو لم يجد بقربه إلا ذيل حيوان طاهر، لكن مع الحاجة قد يتجه القول بأنه خلاف الأولى، والله أعلم.
الفرع الثاني الاستنجاء بجلد الحيوان المنفصل
الفرع الثاني الاستنجاء بجلد الحيوان المنفصل اختلف الفقهاء في الاستنجاء بالجلد. فقيل: يجوز بالجلد المدبوغ دون غيره، وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬1). وقيل: يجوز بالجلد مطلقاً مدبوغاً كان أو غير مدبوغ، وهو قول في مذهب الشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: لا يجوز مطلقاً، وهو قول في مذهب الشافعية (¬4). وقيل: لا يجوز إن كان مذكى، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬5). وقيل: لا يجوز إن كان مدبوغاً (¬6). دليل من قال: يجوز بالجلد إن كان مدبوغاً. قال: إنه بالدباغ خرج الجلد من كونه من اللحوم إلى كونه من الثياب، ¬
دليل من قال: لا يستنجى به إن كان غير مدبوغ
والاستنجاء بالثياب جائز. ثم إن الدباغ مطهر له على الراجح، فيكون الاستنجاء بجلد طاهر منق أشبه الاستنجاء بالخزف. دليل من قال: لا يستنجى به إن كان غير مدبوغ. إن كان من ميتة فمانع الاستنجاء به هو النجاسة، والاستنجاء بالنجس عنده لا يجوز، وقد ناقشت هذه المسألة في مبحث مستقل، وهو اشتراط طهارة ما يستنجى به، فليراجع. وإن كان من حيوان مذكى فإنه رطب، فينشر النجاسة، ولا يزيلها، وقد ذكرنا في مبحث مستقل هل يشترط أن يكون جامداً، والجمهور على اشتراطه، والصحيح خلافه. دليل من قال: يشترط أن يكون مذكى. من اشترط أن يكون مذكى حتى يخرج من كون الجلد نجساً، لأن النجس عنده لا يطهر، والصحيح أن النجس إن كان منقياً جاز الاستجمار به، إلا العظم والروث. دليل من قال بالجواز مطلقاً. قال: إن المقصود هو الإنقاء، فإذا أنقى الجلد وطهر المحل حكمنا بطهارة المحل، سواء كان الجلد مدبوغاً أم غير مدبوغ. والراجح جوز الاستنجاء به مطلقاً، ولا يوجد دليل يمنع من الاستنجاء به، وعلى فرض أن يكون الاستنجاء به ينجسه، فإن تنظيفه ممكن، كما لو وقع على الثوب نجاسة، والله أعلم.
فرع ما منع الاستنجاء به لحرمته لا يجوز البول عليه
فرع ما منع الاستنجاء به لحرمته لا يجوز البول عليه لا يبول على ما منع الاستنجاء به لحرمته: كالروث والعظم والطعام (¬1). التعليل: لأنه إذا نهي عن الاستنجاء به، فالبول عليه من باب أولى، وهذا ما يسميه الفقهاء بالقياس الجلي. ¬
الباب الخامس في ما يستنجى منه
الباب الخامس في ما يستنجى منه
الفصل الأول في الاستنجاء من البول والغائط
الفصل الأول في الاستنجاء من البول والغائط أجمع العلماء على مشروعية الاستنجاء من البول والغائط، بالماء أو بالإحجار على خلاف بينهم هل هو واجب أو مستحب -على التفصيل المذكور في حكم الاستنجاء- وذلك للإجماع على نجاسة البول والغائط، وقد نقل الإجماع على نجاستهما خلق كثير من العلماء: منهم الطحاوي والسرخسي والعيني وعلي القارئ، وابن عبد البر وابن جزي وابن رشد، وابن المنذر والنووي والخطابي وابن تيمية وغيرهم، وإليك النقول عنهم: قال الطحاوي: لحوم بني آدم قد أجمع أنها لحوم طاهرة، وأن أبوالهم حرام نجسة (¬1). وقال العيني: بول الآدمي الكبير فحكمه أنه نجس مغلظ بإجماع المسلمين من أهل الحل والعقد (¬2). وقال علي القاري: وقد قال أبو حنيفة: لو قلت بالرأي لأوجبت الغسل بالبول؛ أي لأنه نجس متفق عليه، والوضوء بالمني؛ لأنه نجس مختلف فيه (¬3). وقال ابن عبد البر: أجمع المسلمون على أن بول كل آدمي يأكل الطعام نجس (¬4). ¬
وقال ابن رشد: وأما أنواع النجاسات فإن العلماء اتفقوا من أعيانها على أربع، ثم قال: وعلى بول ابن آدم ورجيعه (¬1). وقال ابن جزي: وأما الأبوال والرجيع فذلك من ابن آدم نجس إجماعاً. وقال أيضاً: النجاسات المجمع عليها في المذاهب اثنتا عشرة: بول ابن آدم الكبير ورجيعه (¬2). وقال ابن المنذر: وأجمعوا على إثبات نجاسة البول (¬3). وقال النووي: فأما بول الآدمي الكبير فنجس بإجماع المسلمين، نقل الإجماع فيه ابن المنذر وأصحابنا وغيرهم، ودليله الأحاديث السابقة مع الإجماع (¬4). وقال أبو الخطاب: البول مجمع على نجاسته (¬5). وحكى الإجماع الزركشي في شرحه (¬6). وقال ابن تيمية: قد أجمع المسلمون على جواز الاستجمار (¬7). وجاءت أحاديث كثيرة تدل على نجاسة البول، منها: (386 - 230) ما وراه البخاري، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، ¬
عن ابن عباس قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحائط من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة. الحديث ورواه مسلم بنحوه (¬1). فظاهر الحديث أن ترك الاستنجاء كبيرة من كبائر الذنوب، كيف والطهارة تتعلق بأعظم أركان الإسلام العملية، ألا وهي الصلاة. (387 - 231) وروى البخاري أيضاً، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن أبا هريرة قال: قام أعرابي، فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء؛ فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين (¬2). وجاء قصة بول الأعرابي من مسند أنس في الصحيحين (¬3). (388 - 232) وروى البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصبي، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فأتبعه إياه، ورواه مسلم (¬4). ¬
الفصل الثاني في الاستنجاء من المذي
الفصل الثاني في الاستنجاء من المذي ذهب الأئمة الأربعة إلى مشروعية الاستنجاء من المذي على خلاف بينهم هل يجب الماء، أو تكفي الحجارة؟ فقيل: يجب غسل موضع الحشفة فقط، وهو مذهب الحنفية (¬1) والشافعية (¬2)، ونسبه النووي للجمهور (¬3)، ورجحه ابن عبد البر (¬4). وقيل: يجب غسل الذكر كله، ولا يجزئ الأحجار في المذي، وعليه أكثر أصحاب مالك (¬5). وقيل: يجب غسل الذكر كله مع الأنثيين، وهو مذهب الحنابلة، وذكروه من المفردات (¬6)، وهو مذهب ابن حزم (¬7). وقيل: يجزئ الاستجمار، وهو قول في مذهب الشافعية (¬8). ¬
الدليل على مشروعية الاستنجاء من المذي
وقيل: المذي طاهر، وهو رواية عن أحمد (¬1). أما الدليل على مشروعية الاستنجاء من المذي. حكى الإجماع على نجاسته، وعلى وجوب الوضوء. قال ابن عبد البر: وأما المذي المعهود المتعارف عليه، وهو الخارج عند ملاعبة الرجل أهله لما يجده من اللذة، أو لطول عزبة، فعلى هذا المعنى خرج السؤال في حديث علي هذا، وعليه وقع الجواب، وهو موضع إجماع لا خلاف بين المسلمين في إيجاب الوضوء منه، وإيجاب غسله لنجاسته (¬2). وقال النووي: أجمعت الأمة على نجاسة المذي والودي (¬3). وسبق لنا أن الإمام أحمد في رواية عنه أن المذي طاهر، فالخلاف محفوظ، لكنه خلاف شاذ. دليل من قال: يغسل موضع الحشفة. (389 - 233) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع وأبو معاوية وهشيم، عن الأعمش، عن منذر بن يعلى -ويكنى أبا يعلى- عن ابن الحنفية، عن علي قال كنت رجلا مذاء وكنت أستحيي أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال يغسل ذكره ويتوضأ، ¬
ورواه البخاري بنحوه (¬1). وجه الاستدلال: قالوا: إن من غسل مخرج المذي من الذكر، فقد غسل ذكره، فإيجاب غسل الذكر كله لا دليل عليه من الشرع. الدليل الثاني: أن ابن عباس تارة يقول: "يغسل ذكره" وتارة يقول: "يغسل حشفته" فدل على أن مراده بقوله: " اغسل ذكرك" أي الحشفة، وفهم الصحابي أولى من فهم غيره؛ لأنه عربي قح لم تدخل لسانه العجمة، وهو ممن روى عن علي حديث غسل الذكر من المذي، فلو كان يقتضي ذلك غسل الذكر كله لكان ابن عباس أولى بفهم ذلك من غيره، كما أن ابن عباس لم يذكر غسل الأنثيين، فلو كان غسل الأنثيين محفوظاً من حديث علي لقال به، خاصة أنه كما قلنا: ممن روى عن علي حديثه في طهارة المذي، وإليك تخريج الروايات التي جاءت عن ابن عباس. (390 - 234) روى عبد الرزاق، عن الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال في المذي والودي والمني: من المني الغسل، ومن المذي والودي الوضوء، يغسل حشفته ويتوضأ (¬2). [إسناده صحيح]. وهذا يفسر ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، ¬
عن ابن عباس، قال: المني والودي والمذي، فأما المني ففيه الغسل، وأما المذي والودي ففيهما الوضوء، ويغسل ذكره (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). فصار مقصود ابن عباس بقوله: يغسل ذكره، أي: يغسل حشفته. الدليل الثالث: من النظر، قال الطحاوي في شرح معاني الآثار: رأينا خروج المذي حدثاً، فأردنا أن ننظر في خروج الأحداث ما الذي يجب به؟ فكان خروج ¬
دليل من قال: يجب غسل ذكره كله ولا يكفي الاستجمار
الغائط يجب به غسل ما أصاب البدن منه، ولا يجب غسل ما سوى ذلك إلا التطهر للصلاة، وكذلك خروج الدم في أي موضع خرج -في قول من جعل ذلك حدثاً- فالنظر على ذلك أن يكون كذلك خروج المذي، الذي هو حدث، ولا يجب غسل غير الموضع الذي أصاب من البدن غير التطهر للصلاة، فثبت ذلك أيضاً بما ذكرنا من طريق النظر، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم الله تعالى (¬1). دليل من قال: يجب غسل ذكره كله ولا يكفي الاستجمار. (391 - 235) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا زائدة، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن، عن علي قال كنت رجلا مذاء فأمرت رجلا أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته فسأل فقال توضأ واغسل ذكرك (¬2). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: اغسل ذكرك، حقيقة في جميع الذكر، فهو مفرد مضاف، فيعم جميع الذكر. فيغسل مخرج الذكر من أجل النجاسة، أما بقية الذكر فهل غسله تعبدي غير معقول المعنى، بحيث يحتاج الأمر إلى نية؟ أو غسله من أجل قطع مادة المذي، فهو كغسل النجاسات، لا يفتقر إلى نية، قولان في مذهب مالك (¬3). ¬
دليل من قال: يغسل ذكره وأنثييه
وقوله في الحديث: " يغسل ذكره " دليل على أن الاستجمار لا يكفي، قال ابن عبد البر: وليس في أحاديث المذي على كثرتها ذكر الاستجمار (¬1). وقال ابن دقيق العيد: الحديث دليل على تعين الماء فيه دون الأحجار، لأن ظاهره يعين الغسل، والمعين لا يقع الامتثال إلا به (¬2). دليل من قال: يغسل ذكره وأنثييه. الدليل الأول: (392 - 236) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه: قال: قال علي كنت رجلا مذاء، وكنت أستحي أن أسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته، فأمرت المقداد، فسأله، فقال: يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ (¬3). [رجاله ثقات إلا أن إسناده منقطع، وذكر غسل الأنثيين ليس محفوظاً] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (393 - 237) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا إبراهيم بن موسى، قال: أخبرنا عبد الله بن وهب، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن حزام بن حكيم، عن عمه عبد الله بن سعد الأنصاري، قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عما يوجب الغسل، وعن الماء يكون بعد الماء؟ فقال: ذلك المذي، وكل فحل يمذي، فتغسل من ذلك فرجك وإنثييك، وتوضأ وضوءك للصلاة (¬1). ¬
دليل من قال: يجزئ الاستجمار بالحجارة
[إسناده ضعيف] (¬1). دليل من قال: يجزئ الاستجمار بالحجارة. الدليل الأول: القياس على البول، بجامع أن كلاً منهما سائل نجس، خرج من مخرج واحد، فإذا ثبتت الطهارة من البول بالحجارة ثبتت الطهارة بالحجارة من المذي، ولا فرق، ولا يجمع الشارع بين متفرقين، ولا يفرق بين متماثلين. الدليل الثاني: أن الماء لا يتعين في إزالة النجاسات، فالنجاسة تزال بأي مزيل كان سواء كانت النجاسة مذياً أم بولاً أم غائطاً أم غيرها من النجاسات، وقد دلت أحاديث كثيرة على اعتبار التطهير بغير الماء، أسوق منها: تطهير ذيل المرأة، وتطهير النعل، وتطهير دم الحيض، وغيرها من النجاسات. (394 - 238) فقد روى أحمد، قال: ثنا أبو كامل، ثنا زهير -يعنى ابن معاوية- ثنا عبد الله بن عيسى، عن موسى بن عبد الله، قال: وكان رجل صدق، عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: قلت: يا رسول الله إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة، فكيف نصنع إذا مطرنا؟ ¬
قال: أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ قالت: قلت: بلى. قال: فهذه بهذه (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). (395 - 239) ومنها ما رواه أحمد، قال: ثنا يزيد، أنا حماد بن سلمة، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى، فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا. قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً فإذا جاء أحدكم ¬
المسجد فليقلب نعله فلينظر فيها فإن رأى بها خبثاً فليمسه بالأرض ثم ليصل فيهما (¬1). [الحديث إسناده صحيح] (¬2). ¬
(396 - 240) ومنها ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: قالت عائشة: ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم، قال بريقها فقصعته بظفرها (¬1). ومن النظر: أن النجاسة عين خبيثة لها طعم، أو لون، أو رائحة. والمطلوب هو إزالة كل ذلك، فإذا ذهب طعمها، ولونها ورائحتها بأي مزيل زال حكمها، وأصبح المحل طاهراً، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. هذا ما وقفت عليه من أدلة كل قول، والحق أن غسل الأنثيين لا يثبت الأمر فيه، وأحاديث الصحيحين ليس فيها غسل الأنثيين، وأما هل تكفي الحجارة أم لا؟ الحديث نص على الماء، فمن عمل به، فهو أسعد بالدليل، ومن طهره بغيره، فالقياس جوازه، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث في الاستنجاء من الودي
الفصل الثالث في الاستنجاء من الودي الودي نجس، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). وقيل: طاهر، وهو رواية عن أحمد (¬2). وعلى القول بنجاسته، فهل يجب الماء في الاستنجاء منه، أم يكفي فيه الحجارة؟ اختلف الفقهاء، فقيل: يجب منه ما يجب من البول. وهو قول الجمهور (¬3). ¬
وقيل: لا بد من الماء في إزالته، وهو قول في مذهب المالكية (¬1)، وقول في ¬
دليل من قال: يتعين الماء
مذهب الشافعية (¬1). دليل من قال: يتعين الماء. الدليل الأول: (397 - 241) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن الركين، عن حصين بن قبيصة الفزاري، عن علي قال: كنت رجلا مذاء، وكانت تحتي بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكنت أستحي أن أسأله، فأمرت رجلاً فسأله فقال: إذا رأيت المذي فتوضأ، واغسل ذكرك، وإذا رأيت الودي فضخ الماء فاغتسل (¬2). [رجاله ثقات إلا أن ذكر الودي فيه غير محفوظ] (¬3). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (398 - 242) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: المني والودي والمذي، فأما المني ففيه الغسل، وأما المذي والودي ففيهما الوضوء، ويغسل ذكره (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). دليل من قال: يكفي فيه الاستجمار. ذكرنا أدلتهم في باب الخلاف في الاستنجاء من المذي، فارجع إليها إن شئت، فلا داعي لإعادتها هنا، والله أعلم. دليل من قال: إن الودي طاهر. قالوا: لا نعلم في الكتاب، ولا في السنة المرفوعة نصاً بأن الودي نجس، وإذا كان كذلك فالأصل طهارته، ولا يكفي في كونه يخرج من من مخرج البول حتى يعطى حكمه، فهذا المني يخرج من نفس المخرج، ومع ذلك فهو طاهر، وإذا كان يخرج عقب البول، كان الاستنجاء منه بسبب البول، لا ¬
بسببه. قلت: لا شك أن أكثر الأقوال على أن الودي يخرج عقب البول، لكن قال بعض الفقهاء أن خروج الودي بعد البول غالب لا دائم، فقد يخرج بعد حمل شيء ثقيل، وقد يخرج وحده بلا سبب (¬1). ¬
الفصل الرابع في الاستنجاء من المني
الفصل الرابع في الاستنجاء من المني اختلف العلماء في الاستنجاء من المني لاختلافهم في طهارته. فقيل: يستنجي منه إن كان رطباً بكل مائع مزيل (¬1)، ولا يكفي الاستجمار بالحجارة، وإن كان يابساً ففيه قولان في مذهب الحنفية: فقيل: يكفي فركه، اختاره الكرخي من الحنفية. وقيل: لا يكفي بل لا بد من غسله، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة (¬2). ¬
وقيل: يتعين الماء وحده، ولا يجزئ الفرك، اختاره أبو يوسف من الحنفية (¬1)، وهو مذهب المالكية (¬2). ¬
دليل من قال يستنجى من المني، وأنه نجس
وقيل: لا يستنجي منه بناء على أن المني طاهر، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، ورجحه ابن حزم (¬3). دليل من قال يستنجى من المني، وأنه نجس. الدليل الأول: (399 - 243) قال البخاري: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ¬
الدليل الثاني
ابن عباس، عن ميمونة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة، فغسل فرجه بيده، ثم دلك بها الحائط، ثم غسلها، ثم توضأ وضوءه للصلاة، فلما فرغ من غسله غسل رجليه. رواه البخاري ومسلم واللفظ للأول (¬1). قال ابن تيمية: الاستنجاء من المني فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على الدوام، ولا أعلم إخلالهم به بحال (¬2). الدليل الثاني: الأدلة الدالة على نجاسة المني، وإذا كان نجساً كان الاستنجاء منه مشروعاً، ومن هذه الأدلة. (400 - 244) ما رواه أبو يعلى، قال: حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا ثابت بن حماد أبو زيد، حدثنا علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن عمار، قال: مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أسقي ناقة لي فتنخمت، ¬
فأصابت نخامتي ثوبي، فأقبلت أغسل ثوبي من الركوة التي بين يدي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا عمار ما نخامتك ولا دموع عينيك إلا بمنزلة الماء الذي في ركوتك، إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني من الماء الأعظم والدم والقيء (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
(401 - 245) ومنها أيضاً ما رواه مالك في الموطأ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أنه اعتمر مع عمر بن الخطاب في ركب فيهم عمرو بن العاص، وأن عمر بن الخطاب عرس ببعض الطريق قريباً من بعض المياه، فاحتلم عمر، وقد كاد أن يصبح فلم يجد مع الركب ماء، فركب حتى جاء الماء، فجعل يغسل ما رأى من ذلك الاحتلام حتى أسفر، فقال له عمرو بن العاص: أصبحت ومعنا ثياب، فدع ثوبك يغسل. فقال عمر بن الخطاب: واعجباً لك يا عمرو بن العاصي، لئن كنت تجد ¬
ثياباً أفكل الناس يجد ثياباً، والله لو فعلتها لكانت سنة، بل أغسل ما رأيت، وأنضح ما لم أر (¬1). [إسناده منقطع] (¬2). وجه الاستدلال: قال الباجي: قوله " فجعل يغسل ما رأى من الاحتلام حتى أسفر" يريد أنه تتبع ما كان في ثوبه من المني حتى أسفر الصبح، رأى أن تطهير ثوبه الذي هو فرض، أولى من مبادرة أول الوقت الذي هو أفضل، وهذا يدل على نجاسة المني؛ لأن اشتغاله به وتتبعه له حتى ذهب أكثر الوقت وخيف عليه من ضيقه، وأنكر عليه عمرو بن العاص التأخير، وأمره باستبدال ثوب دليل على نجاسة الثوب عندهم، ولو لم يكن نجساً عندهم لما اشتغل عمر بغسله، ولو اشتغل به لقيل له: تشتغل عن الصلاة بإزالة ما لم تلزم إزالته (¬3). (402 - 246) ومنها ما استدل به فقهاء الحنفية مما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعائشة: إذا وجدت المني رطباً فاغسليه، وإذا وجدته يابساً فحتيه. [لا أصل له] (¬4). ¬
(403 - 247) ومنها ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا عمرو بن ميمون الجزري، عن سليمان بن يسار، عن عائشة قالت: كنت أغسل الجنابة من ثوب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه. ورواه مسلم بنحوه (¬1). وجه الاستدلال: قالوا: إن غسل المني دليل على نجاسته، لأن الطاهر لا يطهر، ولا يقال: إن غسله للنظافة؛ لأن الأصل في الغسل أنه للنجاسة، إذ هي المأمور بغسلها. وتعقب هذا: بأن عائشة رضي الله عنها كانت تفركه يابساً، ولا تغسله، فلو كان نجساً لما اكتفت بفركه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذا مجرد فعل من عائشة، وفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - المجرد لا يدل على الوجوب، فكيف بفعل غيره، ثم إن الثوب قد يغسل من المخاط والبصاق وكل ما يستقذر، ولا يكون هذا كافياً في الدلالة على نجاسته. الدليل الخامس: (404 - 248) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا خالد بن عبد الله، عن خالد، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، أن رجلاً نزل بعائشة، فأصبح يغسل ثوبه، فقالت عائشة: إنما كان يجزئك إن رأيته أن تغسل مكانه، فإن لم تر نضحت حوله، ولقد رأيتني أفركه من ¬
الدليل الثالث
ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركاً فيصلي فيه. وجه الاستدلال: قال القرطبي: وهذا من عائشة يدل على أن المني نجس، وأنه لا يجزئ فيه إلا غسله، فإنها قالت: إنما: وهي من حروف الحصر، ويؤيد هذا ويوضحه قولها: فإن لم تر نضحت حوله، فإن النضح إنما مشروعيته حيث تحققت النجاسة، وشك في الإصابة، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث أصبح يغسل جنابة من ثوبه، فقال: أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أر (¬1). فإن قيل: ألم تقل: ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركاً، فيصلي فيه، ألا يدل هذا على طهارته؟ قيل: لا يدل؛ لأن النجاسة تزال بأي مزيل، والفرك في حق النجاسة اليابسة كاف في تطهيرها، كما كانت طهارة النعل بدلكه في الأرض، وسنذكره إن شاء الله مخرجاً في أدلة القول الثاني. الدليل الثالث: قالوا: إن المني فضلة مستحيلة عن الغذاء، يخرج من مخرج البول، فكانت نجسة كالبول، ولا يرد علينا البصاق والمخاط والدمع والعرق؛ لأنها لا تخرج من مخرج البول (¬2). وأجيب: بأن حكمك بالنجاسة إما أن يكون للاستحالة عن الغذاء، أو للخروج من مخرج البول، أو لمجموع الأمرين: ¬
الدليل الرابع
فالأول باطل؛ إذ مجرد استحالة الفضله عن الغذاء لا يوجب الحكم بنجاستها، كالدمع والمخاط والبصاق. وإن كان لخروجه من مخرج البول، فهذا إنما يفيدك أنه متنجس لنجاسة مجراه، لا أنه نجس العين كما هو أحد الأقوال فيه، وهو فاسد؛ فإن المجرى والمقر الباطن لا يحكم عليه بالنجاسة، وإنما يحكم بالنجاسةبعد الخروج والانفصال، ويحكم بنجاسة المنفصل لخبثه وعينه لا لمجراه ومقره، وقد علم بهذا بطلان الاستناد إلى مجموع الأمرين، والذي يوضح هذا أنا رأينا الفضلات المستحلة عن الغذاء تنقسم إلى: طاهر: كالبصاق والعرق والمخاط. ونجس: كالبول والغائط، فدل على أن جهة الاستحالة غير مقتضية للنجاسة، ورأينا أن النجاسة دارت مع الخبث وجودا وعدماً فالبول والغائط ذاتان خبيثتان منتنتان مؤذيتان متميزتان عن سائر فضلات الآدمى بزيادة الخبث والنتن والاستقذار، تنفر منهما النفوس، وتنأى عنهما وتباعدهما عنها أقصى ما يمكن، فلا يحلق المني بالبول والغائط بل يحلق بالمخاط والبصاق (¬1). الدليل الرابع: قالوا: إن الأحداث الموجبة للطهارة نجسة كالبول والغائط والمذي. والمني من الأحدث الموجبة للطهارة، فيكون نجساً. وأجيب: لا نسلم أن الأحداث الموجبة للطهارة كلها نجسة، فأكل لحم الإبل حدث على الصحيح يوجب الطهارة، وهو ليس نجساً. ¬
الدليل الخامس
ومس الفرج على الصحيح حدث، ولم يكن ثمة نجاسة، بل لو مس بولاً أو غائطاً لم ينتقض وضوؤه، بخلاف ما لو مس ذكره. والريح طاهرة، ومع ذلك هي حدث إجماعاً، ولم يوجب كونها حدثاً أن يستنجى منها، ولا أن تغسل الثياب والأبدان بسببها. وهذا الجماع الخالي من الإنزال يتطهر منه، ولم يدل على حصول نجاسة. قال الشافعي رحمه الله: أرأيت الرجل إذا غيب ذكره في الفرج الحلال، ولم يأت منه ماء، فأوجبت عليه الغسل، وليست في الفرج نجاسة، وإن غيب ذكره في دم خنزير أو خمر أو عذرة، وذلك كله نجس، أيجب عليه الغسل؟ فإن قال: لا. قيل: فالغسل، إن كان إنما يجب من نجاسة كان هذا أولى أن يجب عليه الغسل مرات ومرات من الذي غيبه في حلال نظيف، ولو كان يكون لقذر ما يخرج منه كان الخلاء والبول أقذر منه، ثم ليس يجب عليه غسل موضعهما الذي خرجا منه، ويكفيه من ذلك المسح بالحجارة، الخ كلامه رحمه الله (¬1). فدل على إن إيجاب الغسل ليس معناه نجاسة المني، وإلا لوجب الغسل من البول والغائط، للإجماع على نجاستهما. الدليل الخامس: قالوا: إن المني خارج من أحد السبيلين، فكان نجساً كسائر النجاسات من البول والغائط والمذي والودي. ألا ترى أن الفضلات الخارجة من أعالي البدن ليست نجسة، وفي أسافله ¬
الدليل السادس
تكون نجسة. وأجيب: بأن قياسه على جميع الخارجات بجامع إشتراكهن في المخرج ليس دليلا شرعياً، وهو منقوض بالدبر، فإنه مخرج الريح الطاهر، ومخرج الغائط النجس، وبالفم فانه مخرج النخامة والبصاق الطاهرين، ومخرج القيء النجس على قول. الدليل السادس: قياس المني على المذي، فالمني من جنس المذي؛ وذلك أن المذي يخرج عند مقدمات الشهوة، والمني يخرج عند استكمالها. قال الباجي: دليلنا من جهة القياس أنه مائع تثيره الشهوة، فوجب أن يكون نجساً كالمذي (¬1). وأجيب: بأن المني غير المذي، فالأول يتكون منه الولد الذي هو أصل الإنسان، والمذي بخلافه، ألا ترى أن عدم الإمناء عيب، وكثرة الإمذاء ربما كانت مرضاً، وكون الجامع بين المني والمذي هو الشهوة قياس لا يصح؛ وذلك لأن الشهوة ليست هي مناط التنجيس حتى تكون علة في إلحاق الفرع بالأصل. قال ابن القيم: المني والمذي هما حقيقتان مختلفتان في الماهية والصفات والعوارض والرائحة والطبيعة فدعوى أن المذي مبدأ المني، وأنه مني لم تستحكم طبخه دعوى مجردة عن دليل نقلي وعقلي وحسي فلا تكون ¬
دليل من قال بطهارة المني
مقبولة (¬1). دليل من قال بطهارة المني. الدليل الأول: الأصل في الأعيان الطهارة، ولا يقال بنجاسة شيء حتى يأتي دليل صحيح صريح سالم من المعارضة، ولا دليل على نجاسة المني. الدليل الثاني: قالوا: لو كان المني نجساً لجاء الأمر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغسله، خاصة أن البلوى فيه شديدة في الأبدان والثياب والفرش وغيرها، فلما لم يأمرهم - صلى الله عليه وسلم - بغسل ما أصابهم علم أن المني طاهر، إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحائض أن تغسل ما أصاب ثوبها من دم الحيض، مع أن البلوى في المني أكثر وأشد، وأمر بغسل المذي أيضاً، ولم يأمر بغسل المني، فعلم أن غسله ليس واجباً، وأن عينه ليست نجسة. الدليل الثالث: (405 - 249) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أحمد بن جواس الحنفي أبو عاصم، حدثنا أبو الأحوص، عن شبيب بن غرقدة، عن عبد الله بن شهاب الخولاني، قال: كنت نازلاً على عائشة، فاحتلمت في ثوبي، فغمستهما في الماء، فرأتني جارية لعائشة، فأخبرتها، فبعثت إلي عائشة، فقالت: ما حملك على ما صنعت بثوبيك. قال: قلت: رأيت ما يرى النائم في منامه. قالت: هل رأيت فيهما شيئاً. قلت: لا. ¬
قالت: فلو رأيت شيئاً غسلته، لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يابساً بظفري. وجه الاستدلال: أن عائشة كانت تفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركاً، وهذا دليل على طهارته؛ إذ لو كان نجساً لوجب غسله كسائر النجاسات. وأجيب بأجوبة منها: أولاً: ثبت في طهارة النعل الدلك بالتراب، وكان ذلك طهارة له. (406 - 250) فقد روى أحمد، قال: يزيد، أنا حماد بن سلمة، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى، فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا. قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعله فلينظر فيها فإن رأى بها خبثاً فليمسه بالأرض ثم ليصل فيهما (¬1). [الحديث إسناده صحيح] (¬2). ¬
فإذا كان الدلك في النعل لم يدل على طهارة الأذى الذي في النعل، لم ¬
يكن دلك المني دليلاً على طهارة المني. نعم يصح الاستدلال على طهارة المني لو أن عائشة تركت المني على ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم تغسله رطباً، ولم تفركه يابساً، أو اكتفت بفركه، وهو رطب، أما ما دامت تغسله رطباً، وتفركه يابساً فليس فيه دليل على طهارته، والله أعلم. ثانياً: ذكر بعض الحنفية: أن هذه الآثار إنما جاءت في ذكر ثياب ينام فيها، ولم تأت في ثياب يصلي فيها، وقد رأينا الثياب النجسة بالغائط والبول والدم لا بأس بالنوم فيها، ولا تجوز الصلاة فيها، وأما الثياب الذي يصلي فيها فإن عائشة كانت تغسله من الثوب، فقد قالت رضي الله عنها: كنت أغسل الجنابة من ثوب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه (¬1). (407 - 251) وقد روى أحمد، قال: ثنا حجاج وشعيب بن حرب قالا: ثنا ليث، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن سويد بن قيس، عن معاوية بن خديج، عن معاوية بن أبي سفيان، أنه سأل أخته أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في الثوب الواحد الذي يجامعها فيه؟ قالت: نعم، إذا لم يكن فيه أذى (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). ¬
وقد روي عن عائشة ما يوافق ذلك، (408 - 252) فقد روى أبو داود (¬1)، قال: حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا الأشعث، عن محمد بن سيرين عن عبد الله بن شقيق، عن ¬
عائشة قالت: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يصلي في شعرنا أو لحفنا ". قال عبيد الله: شك أبي. [إسناده صحيح، والمحفوظ فيه ذكر اللحاف فقط] (¬1). فثبت بما ذكرنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يصلي في الثوب الذي ينام فيه إذا أصابه شيء من الجنابة، وثبت أن ما ذكرته عائشة، من فرك المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو في ثوب النوم، لا في ثوب الصلاة (¬2). وأن أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلقت على المني اسم الأذى، والأذى هو ¬
النجس، كما قال تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى} (¬1). ورد هذا الجواب: بأن حديث عائشة لفظه: كان لا يصلي في لحاف نسائه، ولم تقل: لا يصلي في ثوبه، فلا يقال: إن هذا في ثوب ينام فيه، وفرق بين كونه لا يصلي في لحاف نسائه، وبين كونه لا يصلي في ثوبه الذي ينام فيه، على أن ترك لحاف نسائه في الصلاة لا يدل على نجاسة المني، فإن لحاف المرأة قد يصيبه من دم حيضها، وهي لا تشعر، كما أن ترك الصلاة في لحاف المرأة ليس بواجب، فقد ورد أنه كان يصلي وعليه ثوب، وبعضه على بعض نسائه، وهي حائض، مع أن دم الحيض نجس إجماعاً (¬2). ¬
الدليل الرابع
وقول أم حبيبة: إذا لم يكن فيه أذى لا يدل على أن مرادها بالأذى المني لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام، فإنها إنما أخبرت بأنه يصلي في الثوب الذي يضاجعها فيه ما لم يكن فيه أذى، فلو قال قائل: بأن المراد بالأذى: دم الحيض كان أقرب. وعلى التنزل أن مرادها المني، فالأذى ليس نصاً في النجاسة، فقد قال تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية} (¬1)، والأذى في الآية ليس النجس. الدليل الرابع: بأنه ورد أن النبي كان يسلت المني من ثوبه، وهو رطب، من غير غسل، وهذا يدل على طهارته؛ لأن سلت الرطب لا يزيل العين بالكلية، بخلاف ما قد يقال في فرك اليابس. (409 - 253) فقد روى أحمد، قال: حدثنا معاذ بن معاذ، قال: حدثنا عكرمة بن عمار، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر، ثم يصلي فيه، ويحته من ثوبه يابساً ثم يصلي فيه. [إسناده حسن إن شاء الله] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما صلى، وهو في ثوبه، فتحته عائشة من ثوبه، وهو في الصلاة، وهذا فيه إشارة إلى أن إزالته من باب الاستقذار، لأنه لم يكن يتفقد ثوبه قبل صلاته. (410 - 254) فقد روى ابن خزيمة، قال: حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا إسحاق، يعني: الأزرق، قال: حدثنا محمد بن قيس، عن محارب بن دثار، عن عائشة، أنها كانت تحت المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يصلي (¬1). [رجاله ثقات]. الدليل السادس: قالوا: كل ما لا يمكن الاحتراز عن ملابسته معفو عنه، ومعلوم أن المني يصيب أبدان الناس وثيابهم وفرشهم بغير اختيارهم أكثر مما يلغ الهر في آنيتهم، فهو طواف الفضلات، بل قد يتمكن الإنسان من الاحتراز من البصاق والمخاط المصيب ثيابه، ولا يقدر على الاحتراز من مني الاحتلام والجماع، وهذه المشقة الظاهرة توجب طهارته لو كان المقتضي للتنجيس قائماً، ألا ترى أن الشارع خفف في النجاسة المعتادة فاجتزأ فيها بالجامد مع أن إيجاب الاستنجاء عند وجود الماء أهون من إيجاب غسل الثياب من المني لا ¬
الدليل السابع
سيما في الشتاء في حق الفقير، ومن ليس له إلا ثوب واحد (¬1). الدليل السابع: (411 - 255) ما رواه الشافعي، قال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار وابن جريج، كلاهما يخبر عن عطاء، عن ابن عباس أنه قال في المني يصيب الثوب: أمطه عنك. قال أحدهما: بعود أو إذخرة، وإنما هو بمنزلة البصاق أو المخاط (¬2). [إسناده صحيح، وروي مرفوعاً ولم يصح] (¬3). الدليل الثامن: قال الشافعي في الأم: بدأ الله جل وعز خلق آدم من ماء وطين، ¬
وجعلهما معاً طهارة، وبدأ خلق ولده من ماء دافق، فكان في ابتدائه خلق آدم من الطهارتين اللتين هما الطهارة دلالة أن لا يبدأ خلق غيره إلا من طاهر لا من نجس. وأجيب: بأن قولكم إن المنى مبدأخلق بشر، فكان طاهراً كالتراب غريب، فالتراب وضع طهوراً ومساعداً للطهور في الولوغ، ويرفع الحدث أو حكمه، فأين ما يتطهر به إلى ما يتطهر منه؟ على أن الاستحالات تعمل عملها، فأين الثواني من المبادىء، وهل الخمر إلا ابنة العنب، والمني إلا المتولد من الأغذية في المعدة ذات الإحالة لها إلى النجاسة، ثم إلى الدم، ثم إلى المني (¬1). ورد هذا الجواب: أما كون المني يتطهر منه، فقد أجبنا على هذا، وأن هذا لا يقتضي تنجيسه. وأما اعتبار الإحالة، فهذا صحيح، وهو حجة عليكم، فالاستحالة تقلب الطيب إلى خبيث، كالغذاء ينقلب إلى عذرة، وتقلب الخبيث إلى طيب، كاللبن من دم الحيض، فلو اعتبرنا الإحالة لحكمنا بطهارة المني، فإن كان المني قد استحال من الدم، فالدم على الصحيح طاهر، وسوف نذكر الخلاف فيه إن شاء الله في باب النجاسات. وإن كان قد استحال من البول والغائط، فأين الغائط النتن من المني ذو الرائحة الطيبة، فلو أعطينا الاستحالة حكمها لحكمنا بطهارة المني، والله أعلم. ¬
الدليل التاسع
الدليل التاسع: قالوا: إن المني مبتدأ خلق الأنبياء والرسل وبني آدم الذين كرمهم الله، فلا يليق أن يكون أصل هؤلاء نجساً. قال ابن القيم: الله تعالى أحكم من أن يجعل محال وحيه ورسالاته وقربه مبادئهم نجسة، فهو أكرم من ذلك، وأيضا فإن الله تعالى أخبر عن هذا الماء وكرر الخبر عنه في القرآن، ووصفه مرة بعد مرة، وأخبر أنه دافق يخرج من بين الصلب والترائب، وأنه استودعه في قرار مكين، ولم يكن الله تعالى ليكرر ذكر شيء كالعذرة والبول ويعيده ويبديه ويخبر بحفظه في قرار مكين، ويصفه بأحسن صفاته من الدفق وغيره، ولم يصفه بالمهانة إلا لإظهار قدرته البالغة أنه خلق من هذا الماء الضعيف هذا البشر القوي السوي، فالمهين هاهنا الضعيف، وليس هو النجس الخبيث، وأيضا فلو كان المني نجساً، وكل نجس خبيث لما جعله الله تعالى مبدأخلق الطيبين من عبادة والطيبات، ولهذا لا يتكون من البول والغائط طيب، فلقد أبعد النجعة من جعل أصول بني آدم كالبول والغائط في الخبث والنجاسة والناس إذا سبوا الرجل قالوا: أصله خبيث، وهو خبيث الأصل (¬1). وتعقب هذا الاستدلال: بأنه ليس عيباً أن يكون أصل خلق الإنسان نجساً، ولا يلحقهم عيب من ذلك، كما أن الله يجعل خواص عباده ظروفاً وأوعيةً للنجاسة كالبول والغائظ والدم والمذي ولا يكون ذلك عائداً عليهم بالعيب والذم. ¬
ورد هذا الجواب: بأن الإنسان ليس ظرفاً للنجاسة البتة، وإنما تصير الفضلة بولاً وغائطاً إذا فارقت محلها فحينئذ يحكم عليها بالنجاسة، وإلا فما دامت في محلها فهي طعام وشراب طيب غير خبيث، فالمؤمن لا ينجس كما أخبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ولا يكون وعاء للنجاسة (¬1). الراجح من الخلاف. القول بطهارة المني قول قوي جداً، والاستنجاء منه ليس بواجب، ويكفي حجة لهذا القول أن الشارع لم يأت منه أمر بغسله، ولو كان نجساً لجاء الأمر بغسله والتوقي منه كما جاء الأمر بالاستتار من البول، وغسل دم الحيض، وغسل المذي، وغيرها من سائر النجاسات، ولا مع من قال بنجاسته إلا مجرد أن عائشة كانت تغسله من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتفركه إذا كان يابساً، ولو كان الفاعل هو النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ذلك حجة على نجاسة المني؛ لأن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - المجردة لا تقتضي الوجوب، والله أعلم. ¬
الفصل الخامس في الاستنجاء من الحدث الدائم
الفصل الخامس في الاستنجاء من الحدث الدائم
المبحث الأول هل يعتبر الخروج الدائم للنجاسة حدثا أم يعفى عنه
المبحث الأول هل يعتبر الخروج الدائم للنجاسة حدثاً أم يعفى عنه اختلف العلماء هل يعتبر خروج دم الاستحاضة، وكذا من به حدث دأئم هل يعتبر حدثاً يوجب الوضوء، وبالتالي يكون الاستنجاء منه مشروعاً أم لا؟ فقيل: يعتبر حدثاً، على خلاف بينهم هل يجب الوضوء منه لوقت كل صلاة كما هو مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2)، أو لكل فريضة مؤداة أو مقضية بخلاف النافلة، كما هو مذهب الشافعية (¬3)، أو يجب الوضوء لكل صلاة مطلقاً فرضاً كانت أو نفلاً، خرج الوقت أو لم يخرج، وهو اختيار ابن حزم (¬4). وقيل: لا يعتبر خروج دم الاستحاضة حدثاً ناقضاً للوضوء، بل يستحب منه الوضوء ولا يجب، وبالتالي لا يستنجي منه. وهو مذهب المالكية، وهو الراجح (¬5). ¬
دليل من اعتبره الخروج الدائم للبول ونحوه حدثا
دليل من اعتبره الخروج الدائم للبول ونحوه حدثاً. الدليل الأول: (412 - 256) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، قال: ثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا؛ إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (¬1). ¬
[زيادة قال هشام: قال أبي، الراجح أنها موقوفة على عروة، ورفعها غير محفوظ] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (413 - 257) ما رواه أحمد، قال: ثنا وكيع، ثنا الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة، جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: لا، اجتنبي الصلاة أيام محيضك، ثم اغتسلي، وتوضئي لكل صلاة، ثم صلي وإن قطر الدم على الحصير (¬1). ¬
[الحديث ضعيف، وفيه عنعنة حبيب بن أبي ثابت، وعروة مختلف فيه، قيل: عروة المزني، وهو مجهول، وقيل: عروة بن الزبير] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (414 - 258) ما رواه الدرامي، قال: أخبرنا محمد بن عيسى، ثنا شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها في كل شهر، فإذا كان عند انقضائها اغتسلت وصلت، وصامت، وتوضأت عند كل صلاة (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (415 - 259) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا أحمد بن القاسم الطائي، ثنا بشر بن الوليد الكندي، ثنا أبو يوسف القاضي، عن عبد الله بن علي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه مر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن أبي أيوب الأفريقي، وهو عبد الله ابن علي، إلا أبو يوسف (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (416 - 260) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا مورع بن عبد الله، ثنا الحسن بن عيسى، ثنا حفص بن غياث، عن العلاء بن المسيب، عن الحكم بن عتيبة عن جعفر، عن سودة بنت زمعة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تجلس فيها، ثم تغتسل غسلاً واحداً ثم تتوضأ لكل صلاة " (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). فتبين أن الأمر بالوضوء لكل صلاة من حديث عائشة، المحفوظ أنه موقوف على عروة، ورفعه شاذ، والشاذ غير صالح للاعتبار. ومن حديث غيرها ضعيف، ومن يحسن بالشواهد مطلقاً، فإن الحديث عنده قد يرقى إلى الحسن. فحمل الحنفية والحنابلة على أن المراد: توضئي لكل صلاة: أي لوقت كل صلاة. وحمل الشافعية على أن المراد: توضئي لكل صلاة فريضة، بخلاف النافلة، فاعتبروه خروجه حدثاً في صلاة الفرض، ولم يتعبروه حدثاً في صلاة النفل. وحمله ابن حزم على ظاهره، فقال بوجوب الوضوء لكل صلاة، وقد ¬
دليل المالكية على أن الخارج الدائم ليس حدثا، ولا يجب منه الوضوء
ذكرنا دليل كل قول في كتابي الحيض والنفاس، فليراجعه من شاء، لأن البحث هنا هو في اعتبار الخارج حدثاً، وليس في ما يترتب على ذلك من حيث الصلاة، والله أعلم. دليل المالكية على أن الخارج الدائم ليس حدثاً، ولا يجب منه الوضوء. الدليل الأول: قالوا: إن من كان به حدث دائم لو تطهر فلن يرتفع حدثه، وإذا كان كذلك، كان طهارته استحباباً لا وجوباً. الدليل الثاني: إذا كان دم الاستحاضة لايبطل الطهارة بعد الوضوء، وقبل الصلاة، لم يكن حدثاً يوجب الوضوء عند تجدد الصلاة أو خروج الوقت، ولذا حملنا الأمر على الاستحباب. الدليل الثالث: دم العرق لاينقض الوضوء، فلو خرج دم من عرق اليد، أو الرجل لم ينتقض وضوءه على الصحيح، فكذلك دم الاستحاضة، فإنه دم عرق كما في أحاديث الصحيحين، ولا يقال: إن خروجه من الفرج جعل حكمه يختلف؛ لأن المني يخرج من الفرج، ومع ذلك هو طاهر. الدليل الرابع: الشارع حكيم، لا يؤاخذ الإنسان إلا بما فعل، فإذا كان خروج الدم ليس من فعل الإنسان، ولا من قصده، لم تفسد عبادته، ولهذا لايؤاخذ الإنسان باللغو في اليمين لعدم توفر القصد.
قال ابن المنذر في الأوسط: والنظر دال على ما قال ربيعة -يعني: في عدم وجوب الوضوء- إلا أنه قول لا أعلم أحداً سبقه إليه. وإنما قلت: النظر يدل عليه؛ لأنه لافرق بين الدم الذي يخرج من المستحاضة قبل الوضوء، والذي يخرج في أضعاف الوضوء، والدم الخارج بعد الوضوء؛ لأن دم الاستحاضة إن كان يوجب الوضوء فقليل ذلك وكثيره في أي وقت كان يوجب الوضوء، فإذا كان هكذا، وابتدأت المستحاضة في الوضوء، فخرج منها دم بعد غسلها بعض أعضاء الوضوء، وجب أن ينتقض ما غسلت من أعضاء الوضوء، لأن الدم الذي يوجب الطهارة في قول من أوجب على المستحاضة الطهارة قائم. وإن كان ما يخرج منها بين أضعاف الوضوء، وما خرج منها قبل أن تدخل الصلاة، وما حدث في الصلاة منه لاينقض طهارة، وجب كذلك أن ما خرج منها بعد فراغها من الصلاة لا تنقض طهارة إلا بحدث غير دم الاستحاضة هذا الذي يدل عليه النظر. اهـ (¬1). فالراجح ما ذهب إليه مالك رحمه الله، ولا ينهض عندي تحسين الأحاديث الضعيفة بالشواهد؛ لأن اللفظ في حديث عائشة بالأمر بالوضوء لكل صلاة شاذ، والشاذ لا يصلح للشواهد، وما عداه لا يكفي للتحسين بمثل هذه المسألة التي يحتاج إليها، وقد وقعت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتكرر وقوعه مرات، فلو كان الأمر بها محفوظاً لجاءت الأحاديث الصحيحة التي تبين وجوب الوضوء بصورة تقوم بمثلها الحجة. والله أعلم. ولو قلنا: بموجب حديث: توضيء لكل صلاة، لكان الوضوء واجباً ¬
لكل صلاة، فرضاً كانت أو نفلاً، خرج الوقت أو لم يخرج، وهذا رأي ابن حزم، للأمر بالوضوء لكل صلاة وأما حمل الأمر بالوضوء لكل صلاة: أي لوقت كل صلاة، كما هو مذهب الحنفية فيحتاج الأمر إلى دليل على أن المراد الوقت، وليس خروج الوقت حدثاً، ويكفي أن حملهم خلاف ظاهر اللفظ بلا مسوغ. والجواب عما قاله الحنفية رحمهم الله: أن إطلاق الصلاة قد يطلق ويراد بذلك الوقت إذا صح إنما يصح لقرينة تمنع من إرادة الصلاة نفسها، وإلا فالأصل في الكلام عدم الحذف وعدم التقدير، ولا قرينة هنا تمنع من إرادة الصلاة، أي فعلها، فوجب حمل اللفظ على ظاهره، لو قلنا بصحة الحديث. وأما حمل الشافعية الصلاة بأن المراد بها الفريضة دون النافلة، فهذا من أضعف الأقوال.
المبحث الثاني الكلام في غسل فرج من به حدث دائم عند الوضوء
المبحث الثاني الكلام في غسل فرج من به حدث دائم عند الوضوء لم يذكر ذلك الحنفية، ولعل ذلك لأن الاستنجاء ليس بواجب عندهم (¬1) وغسله إنما هو من قبيل الاستنجاء (¬2). وأوجب غسل الفرج الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وهل يكفي غسله مرة واحدة؟ أو تغسله لكل صلاة. المشهور من مذهب الشافعية ما قاله النووي: في شرح صحيح مسلم: قال: وأما تجديد غسل الفرج وحشوه، وشده لكل فريضة، فينظر فيه: فإن زالت العصابة عن موضعها زوالاً له تأثير، أو ظهر الدم على جوانب ¬
أدلة الشافعية والحنابلة على وجوب غسل الفرج
العصابة وجب التجديد، وإن لم تزل العصابة عن موضعها ولا ظهر الدم، ففيه وجهان لأصحابنا، أصحهما: وجوب التجديد كما يجب تجديد الوضوء. اهـ (¬1). وأما المشهور من المذهب الحنبلي، أنه لا يلزمها غسل الفرج لكل صلاة إذا لم تفرط (¬2). وفي مذهب الحنابلة قولان آخران: قيل: يلزمها ذلك. وقيل: يلزمها إن خرج شيء، وإلا فلا (¬3). أدلة الشافعية والحنابلة على وجوب غسل الفرج. استدلوا بأدلة عامة، وخاصة. أما الدليل الخاص. (417 - 261) فاستدلوا بما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، قال: ثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا؛ إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا ¬
أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: " فاغسلي عنك الدم وصلي ". قال ابن رجب في شرحه للبخاري: واختلفوا هل يجب عليها غسل الدم، والتحفظ والتلجم عند كل صلاة؟ فيه قولان: هما روايتان عن أحمد. وربما يرجع هذا الاختلاف إلى الاختلاف المشهور في أن الأمر المطلق هل يقتضي التكرار أم لا؟ وفيه خلاف مشهور، لكن الأصح هنا أنه لايقتضي التكرار لكل صلاة، فإن الأمر بالاغتسال وغسل الدم إنما هو معلق بانقضاء الحيضة وإدبارها فإذا قيل: إنه يقتضي التكرار، فالجواب أنه لم يقتضيه إلا عند إدبار كل حيضة فقط. اهـ (¬2). وأما الأدلة العامة: فهي من قبيل القياس، فيقاس غسل الفرج من دم الاستحاضة بأحاديث الاستنجاء والاستجمار، بجامع أن كلاً منها قطع للنجاسة من السبيلين. وأحاديث الاستنجاء كثيرة، ويكفي منها: (418 - 262) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع والأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان، قال: قيل له: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة. قال: أجل، لقد ¬
دليل الحنفية على أن الاستنجاء ليس بواجب، ومنه غسل الفرج من دم الاستحاضة
نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم. رواه مسلم (¬1). ولا يسلم القياس إلا بتحقق أمرين: أولهما: أن يكون غسل الفرج قاطعاً للخارج، كما أن الاستنجاء يقطع الخارج. وهذا لا يتحقق هنا؛ لأن الاستنجاء هنا لن يقطع دم الاستحاضة. وثانيهما: أن يكون دم الاستحاضة نجساً، كالحال في الاستنجاء من البول والغائط، وأما من رأى أن دم الاستحاضة طاهر؛ لأنه دم عرق، مثله مثل دم سائر العروق من البدن، فلا يسلم القياس، ولا يوجب غسل الفرج؛ لأنه كالمني لا يجب الاستنجاء منه، والله أعلم. دليل الحنفية على أن الاستنجاء ليس بواجب، ومنه غسل الفرج من دم الاستحاضة. سقت أدلتهم في مسألة مستقلة في حكم الاستنجاء، وأجيب عنها، فانظرها غير مأمور. ¬
المبحث الثالث شد عصابة الفرج عند الوضوء
المبحث الثالث شد عصابة الفرج عند الوضوء ذهب الحنفية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3) إلى أنه يجب على المستحاضة ¬
أن تشد فرجها وتعصبها، وهل يجب عليها ذلك في كل صلاة؟ على الخلاف السابق في غسل الفرج. الأدلة على وجوب التلجم والتحفظ. الدليل الأول: (419 - 263) ما رواه مالك في الموطأ، قال: عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن امرأة كانت تهراق الدماء في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر، قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت فلتغتسل، ثم لتستثفر، ثم لتصلي (¬1). [والحديث رجاله ثقات، إلا أنه أعل بالانقطاع، وفي إسناده اضطراب] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال: قوله: " ثم لتستثفر بثوب ". قال ابن منظور في اللسان: وهو أن تشد فرجها بخرقة عريضة أو قطنة تحتشي بها، وتوثق طرفيها في شيء تشده على وسطها فتمنع سيلان الدم وهو مأخوذ من: ثَفَر الدابة الذي يجعل تحت ذنبها. وفي نسخة: " وتوثق طرفيها، ثم تربط فوق ذلك رباطاً، تشد طرفيه إلى حقب تشده كما تشد الثفر تحت ذنب الدابة " (¬1). وقال في تاج العروس: " والاستثفار أن يدخل الإنسان إزاره بين فخذيه ملوياً ثم يخرجه، والرجل يستثفر بإزاره عند الصراع، إذا هو لواه على فخذيه فشد طرفيه في حجزته وزاد ابن ظفر في شرح المقامات: حتى يكون كالتُّبان، وقد تقدم أن التبان هو السراويل الصغير، لا ساقين له .. الخ كلامه (¬2). وورد كذلك التلجم والتحفظ في حديث حمنة بنت جحش، ¬
(420 - 264) فقد رواه أحمد، وفيه: فقلت: يا رسول الله، إني استحاض حيضة كثيرة شديدة، فما ترى فيها، قد منعتني الصلاة والصيام، قال: أنعت لك الكرسف؛ فإنه يذهب الدم، قالت: هو أكثر من ذلك. قال: فتلجمي. قالت: إنما اثج ثجاً ... الحديث (¬1). [والحديث ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال: قوله: "تلجمي"، قال ابن منظور في اللسان: تلجمت المرأة، إذا استثفرت لمحيضها. واللجام: ما تشده الحائض، وفي حديث المستحاضة: "تلجمي " أي شدي لجاماً، وهو شبيه بقوله: " استثفري " أي: ألجمي موضع خروج الدم عصابة تمنع الدم، تشبيهاً بوضع اللجام في فم الدابة (¬1). وقال: نحوه في تاج العروس (¬2). وكانت النساء تستثفر ولو لم تجب عليها الصلاة حرصاً على عدم تلوثها ¬
في الدم. (421 - 265) فجاء في حديث جابر عند مسلم في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه، حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف أصنع؟ قال: اغتسلي، واستثفري، وأحرمي (¬1)، والله أعلم. ¬
الفصل السادس في الاستنجاء من البعر الناشف والحصاة والدود
الفصل السادس في الاستنجاء من البعر الناشف والحصاة والدود إذا خرج البعر ناشفاً وكذلك الحصاة والدود، فاختلف الفقهاء هل يستنجي منها أم لا؟ فقيل: لا يستنجي، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والأظهر عند الشافعية (¬3)، ورحجه بعض الحنابلة (¬4). وقيل: يشرع الاستنجاء، وهو قول في مذهب الشافعية (¬5)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬6). ¬
دليل من قال: لا يستنجي
دليل من قال: لا يستنجي. الدليل الأول: الاستنجاء إنما شرع لإزالة النجاسة، ولا نجاسة هنا. فالاستنجاء والمحل نظيف شبيه بالعبث. الدليل الثاني: قالوا: الحصاة طاهرة خاصة إذا خرجت، وهي ناشفة، فهي تشبه الريح، ¬
دليل من قال: يستنجي منها
بل هي أولى من الريح بعدم الاستنجاء، لأن الريح لها رائحة منتنة بخلاف الحصاة. وكيف يستنجي أو يستجمر من طاهر؟ فإن قيل: قد يتصور وجود بلة يسيرة. قيل: إن كان يسيراً فهو معفو عنه، كما يعفى عن أثر الاستجمار، وإن كانت البلة كثيرة خرج البحث عن مسألتنا؛ لأن البحث فيما لو خرجت الحصاة ناشفة، أو البعرة جافة. دليل من قال: يستنجي منها. لا أعلم له دليلاً من كتاب أو سنة إلا القياس على البول والغائط، وهو قياس مع الفارق، لأن البول الغائط نجسان ملوثان، فيحتاج المحل إلى الإنقاء منهما، وأما الحصاة والدودة وحتى البعرة الناشفة فهي أشياء غير ملوثة، فالمحل يعتبر طاهراً فلم يحتج إلى تطهير. وقد يقولون: إن المحل لا يسلم من بلة يسيرة، وهذا غير كاف في مشروعية الاستنجاء، وقد أجبت عنه في ما تقدم. وبناء على ذلك فلا يجب الاستنجاء مما خرج ناشفاً غير منجس للمحل؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فمتى وجدت العلة: وهي النجاسة هنا وجد الحكم، وهو تطهير المحل بالاستنجاء، ومتى عدمت العلة المذكورة عدم الحكم.
الفصل السابع في الاستنجاء من الريح
الفصل السابع في الاستنجاء من الريح لا يشرع الاستنجاء من الريح، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: يستنجي، اختاره حنابلة الشام (¬5)، وهو خلاف شاذ. وهل الاستنجاء منها على الكراهة أو التحريم فيه خلاف: فقيل: للتحريم، وهو ظاهر مذهب الحنفية حيث أطلقوا على الاستنجاء من ¬
دليل من قال: لا يستنجي
الريح بأنه بدعة (¬1)، واختاره بعض الشافعية (¬2). وقيل: يكره الاستنجاء من الريح، وهو مذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4). وقيل: لا يكره الاستنجاء من الريح إن خرجت والمحل رطب، قاله بعض الشافعية (¬5). دليل من قال: لا يستنجي. الدليل الأول: الإجماع على أن الاستنجاء لا يجب من الريح، حكى الإجماع جماعة منهم النووي في المجموع (¬6)، وابن قدامة في المغني (¬7) وغيرهما. الدليل الثاني: الأصل عدم الوجوب حتى يوجد دليل من كتاب أو سنة أو إجماع على مشروعية الاستنجاء، ولم ينقل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - استنجى من الريح، ولا ¬
الدليل الثالث
صحابته الكرام، ولا أنه أمر بالاستنجاء منها، وهذا كاف في عدم المشروعية. الدليل الثالث: قالوا: إن الريح ليس بنجس، ولو وجب منه الاستنجاء لوجب غسل الثوب؛ لأنه يلقاه. فإن قيل: تصحبه أجزاء نجسة، قيل: هذا لا سبيل إلى علمه، ولو ثبت فقدر ذلك وأكثر منه يبقى بعد مسح الأحجار، ومع ذلك يحكم بطهارة المحل بعده (¬1). الدليل الرابع: من النظر قالوا: إن الاستنجاء مأخوذ من النجو فإذا لم يكن نجو لم يشرع الاستنجاء، فإذا خرجت الريح لم يكن على السبيل منها شيء من الغائط، فيكون الاستنجاء عبثاً؛ لأن المحل نظيف. وبعضهم يعلل بقوله: إن الريح عرض بإجماع الأصوليين (¬2). الدليل الخامس: (422 - 266) ما رواه ابن عدي (¬3)، ومن طريقه أبو القاسم الجرجاني في تاريخ جرجان (¬4)، من طريق محمد بن زياد بن زبار، حدثنا شرقي بن قطامي، عن أبي الزبير، عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من استنجى من الريح فليس منا. ¬
دليل من قال: يشرع الاستنجاء منها
[إسناده ضعيف جداً] (¬1). دليل من قال: يشرع الاستنجاء منها. ذهب إلى أن الريح نجسة، وأنها خرجت وقد لا مست النجاسات. قالوا: ولأن الفرج ترمص كما ترمص العين!! والصحيح الأول، وأنها طاهرة، وكون رائحتها خبيثة لا يكفي دليلاً على نجاستها، ولو كانت نجسة لوجب غسل الثياب إذا خرجت الريح ولاقت ثياباً رطبة، والله أعلم. ¬
الباب السادس في الاستنجاء بالماء
الباب السادس في الاستنجاء بالماء
الفصل الأول خلاف العلماء في الاستنجاء بالماء
الفصل الأول خلاف العلماء في الاستنجاء بالماء يجوز الاستنجاء بالماء، ويجوز تركه إلى الحجارة ولو كان قادراً على الماء، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: لا يجوز الاستنجاء بالماء، حكي هذا القول عن بعض السلف، وهو مرجوح (¬2). ¬
دليل من قال: يجوز الاستنجاء بالماء
دليل من قال: يجوز الاستنجاء بالماء. الدليل الأول: (423 - 267) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن عطاء بن أبي ميمونة، سمع أنس بن مالك يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل الخلاء، فأحمل أنا وغلام إداوة من ماء وعنزة يستنجي بالماء (¬1). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (424 - 268) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حجاج، قال: أخبرنا شريك، عن إبراهيم بن جرير، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء دعا بماء، فاستنجى، ثم مسح بيده على الأرض ثم توضأ (¬1). ¬
الدليل الثالث
[إسناده ضعيف] (¬1). الدليل الثالث: (425 - 269) ما رواه أحمد، قال: ما رواه أحمد، قال: حدثنا بهز، قال: حدثنا همام، قال: حدثنا قتادة، عن معاذة، عن عائشة قالت: مرن أزواجكن يغسلوا عنهم أثر الخلاء والبول، فإنا نستحيي أن ننهاهم عن ذلك، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (426 - 270) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا هناد بن السري، ثنا ¬
الدليل الخامس
أبو الأحوص، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من غائط قط إلا مس ماء (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الخامس: (427 - 271) ما رواه إسحاق بن راهوية في مسنده، قال: أخبرنا يحيى بن آدم، نا شريك، عن جابر، عن زيد العمي، عن أبي الصديق الناجي، عن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسل مقعدته ثلاثاً. وقال ابن عمر: قد فعلناه فوجدناه دواءً وطهوراً (¬3). [إسناده ضعيف جداً] (¬4). ولا أعلم دليلاً في مشروعية العدد في الاستنجاء بالماء، إنما جاء العدد في الاستجمار بالحجارة في أحاديث صحيحة سوف نعرض لها إن شاء الله تعالى. ¬
دليل من قال: لا يستنجي بالماء
دليل من قال: لا يستنجي بالماء. استدل من منع الاستنجاء بالماء بأدلة منها: أولاً: قالوا: إن الماء مطعوم، فيجب تكريمه، والاستنجاء به إهانة له. وثانياً: أن في الاستنجاء بالماء تلفاً للماء. وثالثاً: أنه يبقى في اليد نتن بعد الاستنجاء. وللجواب على هذا أن يقال: أما دعوى أنه يبقى في اليد نتن بعد الاستنجاء، فممكن علاجها بتنظيف اليد بعده بالصابون ونحوه، وغاية ما فيه تفضيل الحجارة على الماء، مع أن الماء أبلغ في التطهير. وأما دعوى أنه تلف للمال، فقد كان إتلافه في مقابل منفعة، وليس بدون مقابل، وبذل المال في مقابل أمر واجب، وهو طهارة المحل، لا يعتبر إتلافاً. وأما دعوى أن المال مطعوم، ويجب صونه، فكما ثبت في تطهير دم الحيض بالماء، وهو في الصحيحين، وبول الأعرابي بالماء، وهو في الصحيحين كذلك، فدل على أن ذلك لا يعتبر امتهاناً للماء، وقد أنزل الله الماء مطهراً {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} (¬1)، فامتن الله علينا بكونه مطهراً لنا من النجاسات والأحداث، والماء النازل من السماء ماء عذب، فهذا تعليل في مقابل النص، فيطرح. ¬
الفصل الثاني أيهما أفضل الاستنجاء أم الاستجمار
الفصل الثاني أيهما أفضل الاستنجاء أم الاستجمار الاستنجاء بالماء أفضل، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). وقيل: الاستجمار أفضل، وهو رواية عن أحمد (¬2)، ومنقول عن بعض السلف (¬3). دليل من قال: الماء أفضل. الدليل الأول: قالوا: إن الماء قالع للنجاسة، والحجر مخفف لها، وما كان قالعاً للنجاسة فهو أفضل. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (428 - 272) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن العلاء أخبرنا، معاوية بن هشام، عن يونس بن الحارث، عن إبراهيم بن أبي ميمونة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثالث: قالوا: إن الماء هو الأصل في تطهير النجاسات، وقد نص عليه في تطهير بول الأعرابي، وفي تطهير الثوب من دم الحيض، وفي تطهير المذي وفي غيرها، بينما يرى كثير من الفقهاء أن الاستجمار على خلاف الأصل، وأنه رخصة تخفيفاً عن الأمة، لأن الماء قد لا يكون موجوداً في كل مكان، والبول والغائط قد يأتي فجأة. دليل من قال: الحجر أفضل. عللوا بعلل منها: أولاً: قالوا: إنه هو المعروف عند أكثر الصحابة. وثانياً: أن الماء مطعوم، فيجب تكريمه، والاستنجاء به إهانة له. ¬
وثالثاً: أن في الاستنجاء بالماء تلفاً للماء. ورابعاً: أنه يبقى في اليد نتن بعد الاستنجاء. وقد أجبت عن هذه الأدلة في ما سبق. والقول الأول هو الراجح؛ لقوة دليله وتعليله، والتمكن من الرد على إيرادات المخالف، والله أعلم.
الفصل الثالث في الجمع بين الحجارة والماء وأيهما يقدم
الفصل الثالث في الجمع بين الحجارة والماء وأيهما يقدم ذهب الجمهور إلى استحباب الجمع بين الحجارة والماء، فيقدم الحجارة لتخفيف النجاسة، ثم يتبعها الماء (¬1). وقيل: لا تجزئ الحجارة مع القدرة على الماء، اختاره ابن حبيب من المالكية (¬2). وقيل: لا يجوز الاستنجاء بالماء، وهو مذهب قديم مهجور لبعض ¬
دليل من قال باستحباب الجمع بين الحجارة والماء
السلف، وسبق ذكر دليله والجواب عنه. ومنع بعض العلماء المعاصرين الجمع بينهما، واعتبر الجمع بين الحجارة والماء من البدع، حيث لم يثبت في السنة الجمع بينهما (¬1). دليل من قال باستحباب الجمع بين الحجارة والماء. ذكروا دليلين، صريح ضعيف، وصحيح غير صريح. الدليل الأول: (429 - 273) ما رواه البزار، قال: حدثنا عبد الله بن شبيب، حدثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز، وجدت في كتاب أبي، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس: لما نزلت هذه الآية في أهل قباء {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} فسألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: إنا نتبع الحجارة الماء. قال البزار: لا نعلم أحداً رواه عن الزهري إلا محمد بن عبد العزيز، ولا عنه إلا ابنه. اهـ [إسناده ضعيف جداً، والمعروف من حديث أهل قباء ذكر الاستنجاء بالماء دون ذكر الحجارة] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: وأما الدليل الصحيح في الجمع بين الحجارة والماء، إلا أنه ليس صريحاً. (430 - 275) ما رواه البخاري، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، قال: أخبرني جدي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه كان يحمل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها، فقال: من هذا؟ فقال: أنا أبو هريرة، فقال: أبغني أحجاراً أستنفض بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعت إلى جنبه، ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت. فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نصيبين، ونعم الجن، فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعاماً (¬1). وجه الاستدلال: قوله: "كان يحمل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إداوة لوضوئه وحاجته" فالماء كان ¬
الدليل الثالث
للوضوء والحاجة، أي لطهارة الحدث والخبث، قال: فقال: "أبغني أحجاراً استنفض بها" وقد طلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحجارة، فيبعد أن يسعى أبو هريرة بحمل الماء لحاجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم لا يستعمله، وهو أولى من الحجارة، وأشد أنقاء، فربما طلب الحجارة ليخفف أثر النجاسة، ثم يزيل عينها بالماء، وهو ليس صريحاً بأنه استعملهما معاً. الدليل الثالث: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ربما جمع بين التراب والماء في طهارة غير الاستنجاء، والاستنجاء مقيس عليها. (431 - 276) قال البخاري: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة فغسل فرجه بيده، ثم دلك بها الحائط، ثم غسلها، ثم توضأ وضوءه للصلاة، فلما فرغ من غسله غسل رجليه. رواه البخاري اللفظ له ومسلم (¬1). ولفظ مسلم: ثم أدخل يده في الإناء، ثم أفرغ به على فرجه، وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض، فدلكها دلكاً شديداً، ثم توضأ وضوءه للصلاة. الحديث. الدليل الرابع: (432 - 277) من الآثار، ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يحيى بن يعلى، عن عبد الملك بن عمير، قال: قال علي: إن من كان قبلكم كانوا ¬
يبعرون بعراً، وإنكم تثلطون ثلطاً، فأتبعوا الحجارة بالماء (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
دليل من قال: لا يجمع بين الحجارة والماء
دليل من قال: لا يجمع بين الحجارة والماء. قال بعض العلماء المعاصرين: الجمع بين الحجارة والماء في الاستنجاء لم يصح عنه - صلى الله عليه وسلم -، فأخشى أن يكون من الغلو في الدين؛ لأن هديه - صلى الله عليه وسلم - الاكتفاء بأحدهما، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها (¬1). وأخشى أن يكون المنع منه فيه غلو أيضاً، وإزالة النجاسة ليست كالعبادات التوقيفة التي يطلب منها موافقة الشارع في الجنس والصفة والمقدار، والوقت؛ فمناديل الورق ليست موجودة في ذلك العهد، ولو أزال بها الإنسان ابتداء، ثم أتبع الماء لكان ذلك من النظافة، وباب التروك أخف من باب فعل المأمورات، والله أعلم. ¬
الفصل الرابع متى يتعين الاستنجاء بالماء
الفصل الرابع متى يتعين الاستنجاء بالماء
المبحث الأول إذا تجاوز الخارج موضع العادة
المبحث الأول إذا تجاوز الخارج موضع العادة سبق أن ذكرنا الأدلة الكثيرة على جواز الاستجمار، وهو مذهب السواد الأعظم من الناس، واختلف الفقهاء في بعض الصور، هل يجزئ الاستجمار أو يتعين الماء، فمن هذه الصور التي يتعين فيها الماء عند بعض الفقهاء إذا تجاوز الخارج الموضع المعتاد. فقيل: لا تجزئ الحجارة، وهو مذهب الحنفية (¬1) والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، إلا أن الحنفية قالوا: يكفي أي مائع طاهر مزيل (¬5). وقال الباقي: يتعين الماء الطهور. واختلفوا في مقدار التجاوز: فقيل: أن يكون انتشار النجاسة أكثر من قدر الدرهم مع سقوط موضع الاستنجاء، وهو مذهب الحنفية (¬6). ¬
وقيل: إذا انتشر انتشاراً كثيراً: وهو ما زاد على ما جرت العادة بتلويثه كأن ينتهي إلى الألية. وهو مذهب المالكية، والشافعية (¬1)، ¬
وقيل: إلى نصف الألية اختاره بعض الحنابلة. وقيل: المخرج فقط، وهو قول في مذهب الحنابلة أيضاً (¬1). وقيل: يجزئ الاستجمار مطلقاً، تجاوز الخارج أو لم يتجازو، وهو اختيار ابن تيمية (¬2). وسبب الاختلاف اختلافهم في الاستجمار هل هو رخصة، فلا يستعمل إلا فيما جرت فيه العادة، أو ليس برخصة، فيستعمل مطلقاً سواء تجاوز الحدث الموضع المعتاد أم لا؟ ¬
دليل من قال: يتعين الماء إذا انتشر الخارج
وعلى القول بأنه رخصة، فلا يستعمل إلا في الموضع المعتاد، فإذا تجاوز الخارج الموضع المعتاد، فهل النجاسة لا تزال إلا بالماء فيتعين كمذهب الجمهور، أو تزال بكل مائع مزيل طاهر كمذهب الحنفية، أو تزال بكل مزيل مائعاً كان أو غير مائع، كما هو اختيار ابن تيمية؟ وهذه مسألة بحثناها في مسألة مستقلة، وذكرنا أدلة كل قول، فلا داعي لإعادتها. دليل من قال: يتعين الماء إذا انتشر الخارج. الدليل الأول: قالوا: الرخصة في استعمال الحجارة ورد في المحل المعتاد؛ للمشقة في غسله، لتكرار النجاسة فيه، فما لا يتكرر لا يجزئ فيه إلا الماء. الدليل الثاني: لو كانت النجاسة على سائر البدن تعين الماء، كما لو كان البول أو الغائط على يد الإنسان أو ثوبه، فإذا كانت النجاسة على غير المخرج المعتاد، تعين الماء قياساً عليها. دليل من قال: يجزئ الاستجمار مطلقاً تجاوز أم لا. الدليل الأول: قال: استعمال الحجارة في الاستجمار جاء في النصوص مطلقاً، غير مقيد بأن تكون النجاسة على المخرج المعتاد، وما كان مطلقاً من النصوص لا يجوز تقييده إلا بنص مثله.
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أين الدليل على أن استعمال الحجارة في الاستجمار رخصة، حتى يقال: لا تستعمل الرخصة إلا بمقدار ما ورد، بل إن القول في تعين الماء في إزالة النجاسة قول تخالفه النصوص الكثيرة، منها طهارة النعل بدلكه بالتراب (¬1)، ومنها طهارة ذيل المرأة (¬2)، فليس الاستجمار على خلاف القياس، بل إنه دليل على جواز إزالة النجاسة بكل مزيل. فإن قيل: إن الاستجمار قد يبقى بعده أثر يسير، قلنا: إن اليسير من النجاسات معفو عنه مطلقاً في مكان الاستجمار وفي غيره. الراجح: بعد استعراض الأدلة نرى أن قول ابن تيمية قول قوي جداً، وأن النجاسات كل النجاسات تزال بأي مزيل كان، فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فمتى زالت النجاسة زال حكمها، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني إذا استجمر بمنهي عنه ثم استجمر بعده بمباح فهل يتعين الماء
المبحث الثاني إذا استجمر بمنهي عنه ثم استجمر بعده بمباح فهل يتعين الماء إذا استجمر بمنهي عنه، ثم استجمر بمباح، فاختلف الفقهاء هل يتعين الماء في مثل هذه الصورة، أم يكفي الأحجار. فقيل: إن أنقى المنهي عنه أجزأ مع الإثم. وهو مذهب الحنفية والمالكية. وقيل: لا يجزئ، ولو أنقى، لكن إن انتشرت النجاسة تعين الماء، ويكفيه الحجر إن لم تنتشر. وهو مذهب الشافعية. وقيل: يتعين الماء، ولو أنقى المنهي عنه، ولا يكفيه الحجارة، وهو المشهور عند متأخري الحنابلة. وسبق بحث هذه المسألة والإحالة على المراجع في أكثر من مسألة منها لو استنجى بمطعوم وأنقى، أو استنجى بروث أو عظم كذلك، ومنها لو استنجى بزجاج، فارجع إليها غير مأمور.
المبحث الثالث يتعين الماء في الاستنجاء من المذي
المبحث الثالث يتعين الماء في الاستنجاء من المذي اختلف الفقهاء في الطهارة من المذي، هل يتعين الماء، أو تكفي الحجارة؟ فقيل: يتعين الماء وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، على خلاف بينهم هل يجب غسل موضع الحشفة فقط كما هو مذهب الحنفية والشافعية، ونسبه النووي للجمهور (¬5)، ورجحه ابن عبد البر (¬6). أو يجب غسل الذكر كله، وعليه أكثر أصحاب مالك (¬7)، وهو رواية عن أحمد (¬8). أو يجب غسل الذكر كله مع الإنثيين، كما هو مذهب الحنابلة، وذكروه ¬
من المفردات، وهو مذهب ابن حزم (¬1). وقيل: يجزئ الاستجمار، وهو قول في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: المذي طاهر، وهو رواية عن أحمد (¬3). وقد سبق لنا عند ذكر ما يستنجى منه بحث الاستنجاء من المذي، وذكر أدلة كل قول، والراجح، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع يتعين الماء في الاستنجاء من الدم والقيح
المبحث الرابع يتعين الماء في الاستنجاء من الدم والقيح إذا خرج من مقعد الرجل دم أو قيح وصديد بسبب بواسير أو خرج من فرج المرأة دم لمرض أو حيض (¬1)، فهل يجزئ الاستجمار أو يتعين الماء، فيه خلاف. فقيل: يتعين المائع، ولا تكفي الحجارة، وهو مذهب الحنفية (¬2)، وقيل: يتعين الماء، وهو مذهب المالكية (¬3)، وقول في مذهب الشافعية (¬4)، ¬
وقيل: يجزئ الحجر، وهو أصح القولين في مذهب الشافعية (¬1)، وهو الراجح. وأدلة هذه المسألة هي أدلة المسائل السابقة من كون الاستجمار رخصة في ما رود من بول أو غائط، وقد أجبت على هذا، وأن الاستجمار على وفق القياس. لكن الطهارة من دم الحيض والنفاس هي طهارة من الحدث، وليست من الخبث، فلا يجزئ فيها الاستجمار، اللهم ألا أن تكون المرأة عادمة للماء، ويكون التيمم هو المشروع في حقها فإنه تستجمر، ثم تتيمم، والله أعلم. ¬
المبحث الخامس هل يتعين الماء في بول المرأة
المبحث الخامس هل يتعين الماء في بول المرأة يجزئ المرأة الاستجمار من الغائط بالاتفاق، واختلفوا في البول. فقيل: لا يجزئ الاستجمار مطلقاً بكراً كانت أو ثياباً، بل يتعين الماء، وهو مذهب المالكية (¬1). وقيل: يجزئ البكر، وهو مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، واختلفوا في الثيب. فقيل: لا يجزئ الاستجمار بحقها مطلقاً، وهو وجه شاذ في مذهب الشافعية (¬4)، وقول في مذهب الحنابلة (¬5). وقيل: يجزئ الاستجمار بحقها مطلقاً، وهو قول في مذهبهما (¬6)، وهو الراجح. وقيل: إن نزل البول إلى ظاهر المهبل، كما هو الغالب لم يكف الا الماء، وإلا كفى، وهو الراجح عند الشافعية (¬7) والحنابلة (¬8). ¬
دليل من قال يتعين الماء في بول المرأة مطلقا
دليل من قال يتعين الماء في بول المرأة مطلقاً. قالوا: إن المرأة لا يجزيها المسح بالحجر من البول لتعديه مخرجه إلى جهة المقعدةوحملوا كلام ابن المسيب قوله عن الاستنجاء بالماء: هذا وضوء النساء، قالوا: يريد أن ذلك إنما يكون في حق النساء، فإن المرأة لا يجزيها المسح بالحجر من البول؛ لأنه يتعدى مخرجه ويجري إلى مقاعدهن وكذلك الخصي (¬1). فرجع الدليل إلى مسألة إذا تجاوز الخارج موضع العادة، وقد ذكرنا بحثه في مسألة مستقلة. دليل من قال: يتعين الماء إذا نزل إلى ظاهر المهبل. دليله ما ذكرناه في مسألة مستقلة من أن الخارج إذا تعدى الموضع المعتاد وجب الماء، وأن حقيقة الاستنجاء إنما هو في إزالة الخارج على مخرج البول والغائط، فإذا كانت النجاسة ليست عليهما فلا يسمى استنجاء، وإذا لم يكن استنجاء تعين الماء؛ لأن الاستجمار إنما ورد رخصة في مكانه المعتاد. وقد أجبت عنه هناك، وأنه لا يوجد قيد في الاستجمار أن يكون على الموضع المعتاد. دليل من قال: يجزئ الاستجمار مطلقاً. الدليل الأول: قال: إن الأحاديث في الاستجمار وردت مطلقة، في حق الرجل والمرأة، ولو قدر أنها وردت في الرجال فما ثبت للرجل ثبت للمرأة إلا بدليل، ولا ¬
الدليل الثاني
يوجد دليل يخص المرأة من الاستجمار بالأحجار، فمن ادعى خروج المرأة فعليه الدليل. الدليل الثاني: أن نزول البول إلى ظاهر المهبل معتاد من المرأة، فلم يخرج عن قاعدتكم إن الخارج تجاوز الموضع المعتاد، وما كان معتاداً لم يستثن من الاستجمار، وهذا على وفق ما قعدتوه. الدليل الثالث: قدمنا أن الصحيح في إزالة النجاسة إزالتها بأي مزيل، فإذا زالت فقد زال حكمها، واشتراط أن تكون النجاسة على المخرج شرط غير معتبر على الصحيح، بدليل مسألتنا، فالمرأة معتاد أن البول قد ينزل على ظاهر المهبل، ومع ذلك لم تأت نصوص من الشرع تمنع المرأة من الاستجمار، والله أعلم.
المبحث السادس هل يتعين الماء إذا عرق فسال أثر الاستجمار
المبحث السادس هل يتعين الماء إذا عرق فسال أثر الاستجمار إذا عرف فسأل أثر الاستجمار على بدنه أو سراويله، فهل ينجس أم لا؟ فيه خلاف. فقيل: إنه نجس. وقيل: طاهر، ولا تتنجس الملابس بذلك. وهذه المسألة ترجع إلى مسألة سابقة قد تم بحثها، بعد الاتفاق على أن أثر الاستجمار معفو عنه، فهل هو طاهر أم نجس؟ فمن قال: إنه نجس فإنه ينجس الثياب والماء والأبدان إذا سال أثر الاستجمار. ومن قال: إن الاستجمار مطهر، فإنه لا ينجس الثياب ولا الأبدان ولا المياه فيما لو جلس في ماء قليل فسال أثر الاستجمار، فإن أردت الوقوف على أدلة كل فريق فارجع إليه في مسألة أثر الاستجمار هل هو طاهر أم نجس؟
المبحث السابع هل يتعين الماء إذا خرج الحدث من غير السبيلين
المبحث السابع هل يتعين الماء إذا خرج الحدث من غير السبيلين قد يفتح للإنسان فتحة في بدنه يخرج منها البول والغائط تكون بديلة عن السبيلين، فإذا خرج منها الحدث هل يكفي الاستجمار أم يتعين الماء؟ فقيل: إذا انسد المخرج المعتاد، وكانت الفتحة تحت المعدة أجزأ الاستجمار قولاً واحداً في مذهب المالكية (¬1)، واختاراه بعض الحنابلة (¬2). وإن كانت الفتحة فوق المعدة، أو لم ينسد المخرجان فقولان في مذهب المالكية أرجحهما وجوب الماء؛ لأنه غير ناقض. وقيل: يجزئ الاستجمار مطلقاً إذا انسد المخرج سواء كانت الفتحة فوق أو تحت المعدة، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: لا يجزئ فيه الاستجمار مطلقاً، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة (¬4). دليل من قال: يجزئ فيه الاستجمار مطلقاً. قدمنا في مسألة مستقلة أن النجاسة أي نجاسة لا يتعين في إزالتها الماء، ¬
دليل من قال: يتعين الماء
بل إذا زالت بأي مزيل زال حكمها، وسقنا الأدلة على ذلك من تطهير النعل بالتراب وكذلك ذيل المرأة وغيرها وقد خرجناها في مكانها، ومثله الاستجمار بالأحجار عزيمة وليس رخصة حتى يقيد ذلك بالسبيلين، والله أعلم. دليل من قال: يتعين الماء. رأوا أن الاستجمار رخصة ورد في نجاسة معينة وهي البول والغائط على مخرج معين هما السبيلين، أما إذا خرج من غير السبيلين فإنه مخرج نادر بالنسبة إلى سائر الناس فلم يثبت فيه أحكام الفرج، ولأن لمسه لا ينقض الوضوء، ولا يتعلق بالإيلاج فيه شيء من أحكام الوطء أشبه سائر البدن. والصحيح أن هذه التعاليل لا علاقة لها في إباحة الاستجمار على المخرجين فما أبيح الاستجمار على السبيلين لكون مسه ناقضاً، ولا لكون الفرج محلاً للوطء، فهذه أوصاف لا علاقة لها بالاستجمار، وبالتالي لا يستدل بها على رد الاستجمار على غير السبيلين، وإنما أبيح الاستجمار نظراً إلى أنه محل تنجس، وأمكن إزالته بحجر أو ورق ونحوها، وهذا لايمنع من إزالته من سائر البدن إما بالقياس الجلي، أو بعموم النص. دليل من فرق بين ما تحت المعدة وما فوق المعدة. رأى أن ما تحت المعدة يلحق بالبول والغائط، لأن الجسم يكون قد انتهى من الانتفاع منه وحوله إلى فضلات، وأما ما فوق المعدة فيلحق بالقيء، وهذا له وجه من النظر من حيث الحكم عليه أنه بول أو غائط، لكننا لا نقصر إزالة النجاسة بالاستجمار على البول والغائط، بل إن سائر النجاسات تزال بأي مزيل طاهر، نعم نقول ما كان فوق المعدة ممكن أن نحكم له
دليل من اشترط أن ينسد المخرج المعتاد
بالطهارة، فإن الصحيح أن القيء طاهر، وليس بنجس، وبالتالي لا يحتاج إلى استنجاء أو استجمار، والله أعلم. دليل من اشترط أن ينسد المخرج المعتاد. لأنه لا يعطى حكمه حتى يقوم مقامه، ولا يقوم مقامه حتى ينسد المخرج الأصلي. والراجح كما قلنا أن الاستجمار يجزئ مطلقاً، وأن النجاسة تزال بأي مزيل، وأن الاستجمار عزيمة وليس رخصة، وأنه على وفق القياس، والله أعلم.
الباب السابع حكم الترتيب بين الاستنجاء والوضوء
الباب السابع حكم الترتيب بين الاستنجاء والوضوء اختلف الفقهاء في الاستنجاء هل يشترط أن يكون قبل الوضوء، أم يجوز تقديم الوضوء عليه؟ فقيل: يصح الوضوء قبل الاستنجاء، ويستحب أن يكون الوضوء بعده، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)،والشافعية (¬3)، ورواية في مذهب الحنابلة (¬4). ¬
دليل الجمهور
وقيل: لا يصح الوضوء قبل الاستنجاء، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). دليل الجمهور. الدليل الأول: لا يوجد دليل يقضي بوجوب تقدم الاستنجاء على الوضوء، وإذا لم يوجد دليل فالأصل عدم التكليف، فمن توضأ قبل أن يستنجي، وكان قد لف على يده خرقة حتى لا يمس فرجه، فإن طهارته صحيحة، ومن حكم ببطلانها فعليه الدليل. الدليل الثاني: قياس النجاسة التي على السبيلين بالنجاسة على غير السبيلين، فإذا كان يصح وضوء الرجل مع وجود نجاسة على البدن، فكذلك ينبغي أن نصحح الوضوء مع وجود نجاسة على المخرج؛ إذ لا فرق. الدليل الثالث: حقيقة الوضوء هو مرور الماء على أعضاء الوضوء، وقد فعل، فيجب أن يرتفع حدثه. دليل من قال: يجب تقدم الاستنجاء على الوضوء (433 - 278) استدلوا بما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع وأبو معاوية وهشيم، عن الأعمش، عن منذر بن يعلى ¬
ويكنى أبا يعلى، عن ابن الحنفية، عن علي قال كنت رجلا مذاء، وكنت أستحيي أن أسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته، فأمرت المقداد بن الأسود، فسأله، فقال: يغسل ذكره ويتوضأ. ورواه البخاري بنحوه (¬1). وأجيب: أولاً: أن رواية البخاري: توضأ واغسل ذكرك، فقدم ذكر الوضوء. (434 - 288) قال البخاري: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا زائدة، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن، عن علي قال كنت رجلا مذاء فأمرت رجلا أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته فسأل فقال توضأ واغسل ذكرك (¬2). ثانياً: أن الواو لا تقتضي ترتيباً، بل هي لمطلق الجمع قال تعالى: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} (¬3)، فعطف الركوع على السجود، فإذا قلت: جاء محمد وصالح، فقد يكون قدوم محمد سابقاً لقدوم صالح، وقد يكون متراخياً عنه، وقد يكون قدومهما معاً. الراجح: جواز تقدم الاستنجاء على الوضوء، لأن الاستنجاء طهارة خبث لا علاقة لها بطهارة الحدث، إنما يكون الإنسان مطلوباً أن يتخلى عن النجاسة إذا كان يريد أن يؤدي عبادة من شرطها الطهارة من الخبث كالصلاة على قول، وبالتالي فيستطيع أن يمس المصحف قبل الاستنجاء؛ ¬
ويستطيع أن يلبس خفيه قبله؛ لأن الطهارة من الخبث ليست شرطاً في مس المصحف، ولا شرطاً في لبس الخف، قال ابن حجر رحمه الله: يجوز تقديم غسله -أي الذكر- على الوضوء، وهو أولى، ويجوز تقديم الوضوء على غسله، لكن من يقول بمسه، يشترط أن يكون ذلك بحائل (¬1). ¬
خاتمة البحث
خاتمة البحث الحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد في السموات والأرض، وهو الحكيم الخبير، أسأله سبحانه وتعالى أن يجعل خير أعمالنا أواخرها، وخير أيامنا يوم لقاه، وأشكره سبحانه ما أنعم علي من إتمام هذا البحث جعله الله سبحانه وتعالى خالصاً لوجهه صواباً على منهج السلف، سائلاً الله سبحانه وتعالى أن يمن علي بإكمال هذا المشروع، وسوف أستعرض بإيجاز الفوائد التي خرجت بها من هذا البحث. الفائدة الأولى: كمال شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، التي ما تركت شيئاً يحتاج إليه الإنسان إلا وقد ورد فيه ما يبين حكمه الشرعي، وانتظمت هذه الأمور الجبلية بعبادات رتب عليها ثواب من الشارع، ففي قضاء الحاجة مر معنا ما يقارب من تسعين مسألة فقهية إن لم تزد. الفائدة الثانية: حاجة الفقه الإسلامي إلى جهد الباحثين، فإن مسائل آداب الخلاء على كثرتها لم يصنف فيها مصنفاً منفرداً، بل تجدها مبثوثة في الكتب المطولة، وفي شروح السنة. الفائدة الثالثة: الناظر في كتب الفقهاء في أحكام الخلاء خاصة، قد استحبوا أفعال قد تؤدي بالإنسان إلى الوسوسة من النحنحة والقفز، وسلت الذكر ونتره ونحوها من الأمور التي صرح بعض العلماء بأنه من البدع. الفائدة الرابعة: وجوب الاستنجاء، وأنه على التراخي، وأن القول بعدم الوجوب قول ضعيف، كما هو مذهب الحنفية والمالكية. الفائدة الخامسة: العاجز عن الاستنجاء بنفسه وبغيره يسقط عنه، كسائر الواجبات، وإن وجد من ينجيه فله ذلك، ولكن لا يباشر مس عورته.
الفائدة السادسة: لا تستحب التسمية عند دخول الخلاء. السابعة: يستحب أن يتعوذ عند دخول الخلاء من الخبث والخبائث، ولا يختص هذا الذكر في الأمكنة المعدة، بل في كل مكان. الثامنة: يستحب أن يعيذ الطفل إذا أدخله الخلاء. التاسعة: إذا خشي من تلوث رجليه بالنجاسة من أرض الخلاء كان الأولى في حقه أن يدخل الخلاء بنعليه. العاشرة: لا يستحب له أن يعتمد على رجله اليسرى حال قضاء الحاجة. الحادية عشرة: لا يكره الكلام أثناء قضاء الحاجة، ولا حتى ذكره لله فيه. الثانية عشرة: يكره لبثه على الحاجة فوق الحاجة. الثالث عشرة: يستحب له أن يغطي رأسه حال قضاء الحاجة. الرابع عشرة: يستحب قول غفرانك عند الخروج من الخلاء. الخامس عشرة: يستحب له أن ينظف يده بعد غسل دبره. السادسة عشرة: لا يكره له البول واقفاً بشرطه. السابع عشرة: يكره استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة، ولا يكره ذلك حال الاستنجاء. الثامن عشرة: يحرم البول في الطريق والظل النافع وفي المسجد وعلى القبر، ولا يكره البول في الإناء. التاسع عشرة: لا تشرع التسمية عند الاستنجاء، ولا تشترط النية للطهارة من النجو، ويكفي في الاستنجاء غلبة الظن، وصفة الإنقاء أن يرجع
الحجر ليس فيه إلا أثر يسير جداً، ويستحب قطع الإستجمار على وتر، ويجب في الثلاث، ولا يستنجي بيده اليمنى، ولا يمس ذكره بها حال البول. العشرون: لا يلتفت إلى الفراغ بعد الاستنجاء. الحادية والعشرون: لا يستجمر بنجس، وإن استجمر أجزأه إن أنقى. الثانية والعشرون: لا يستجمر بما هو محترم، سواء كان محترماً لحق الله كالكتب الشرعية، أو لحق الآدمي كطعامه وثيابه، أو لحق الحيوان، كالاستنجاء بالعلف، وطعام الدواب. الثالث والعشرون: يستنجى من البول والمذي والمني وإن كان طاهراً، ويستنجى من الحدث الدائم، ولا يستنجى من الريح. الرابع والعشرون: لا يتعين الماء أبداً في الاستنجاء، حتى ولو تجاوز الخارج موضع العادة. الخامس والعشرون: لا ترتيب بين الاستنجاء والوضوء، فالاستنجاء عبادة مستقلة، والله أعلم.
[سنن الفطرة]
مقدمة الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فإن دين الإسلام دين الفطرة، كما قال سبحانه وتعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} (¬1). فإذا كان الدين الإسلامي دين الفطرة، فلا يأمر بشيء إلا كان نفعه عائداً على العبد في الدنيا والآخرة، وما ينهى عن شيء قط إلا كان ضرره عائداً على العبد في الدارين، لا تنفع ربنا طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين. أخي القارئ الكريم هذا الكتاب عمل فقهي ضمن مشروع صدر منه فيما يخص الطهارة: كتاب الحيض والنفاس في ثلاثة مجلدات، والمسح على الحائل في مجلد كبير، وهذا الكتاب مكمل لما سبق. وقد درست من خلاله سنن الفطرة. حسب ما ورد في حديث عائشة عند مسلم، وهو أكثر حديث اشتمل على سنن الفطرة. (437 - 1) قال مسلم رحمه الله: حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قالوا: حدثنا وكيع عن زكرياء بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت: قال - صلى الله عليه وسلم -:عشر من الفطرة قص الشارب، وإعفاء .. ¬
اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء. قال زكرياء: قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. زاد قتيبة: قال وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء (¬1). وألحقت بها ما كان شبهاً بها، وإن كان لم ينص عليه أنه من سنن الفطرة، لكن جرياً على عادة الفقهاء في ذكر هذه المسائل. فكان ما اشتمل عليه حديث عائشة: 1 - السواك. 2 - قص الشارب. 3 - وإعفاء اللحية. 4 - وقص الأظفار. 5 - وحلق العانة. 6 - ونتف الإبط. 7 - وغسل البراجم. 8 - 9 - المضمضة والاستنشاق. 10 - انتقاص الماء (الاستنجاء). وسنأتي على شرح سنن الفطرة واحدة واحدة وأجلت الكلام على أحكام الاستنجاء ليخرج في كتاب مستقل؛ نظراً لكثرة أحكامه، وجرياً على عادة الفقهاء بذكره مفرداً عن سنن الفطرة. وأما المضمضة والاستنشاق، فسوف يأتي التعرض لأحكامها في سنن ¬
خطة البحث
الوضوء، وهو كتاب مستقل قد فرغت من جمع مادته العلمية، وسيطبع قريباً إن شاء الله تعالى. وكان منهجي في هذا البحث هو منهجي في الكتب التي قبله من حيث ذكر الأقوال، وعرض المذاهب الأربعة، وأقوال المجتهدين من علماء السلف، مع ذكر حجة كل قول، والترجيح بينها بما يقتضيه الدليل بدون تعصب لقول معين، والكلام على الأحاديث، ونقدها بمقتضى قواعد أهل الحديث، والعناية بالمتون، وبيان المحفوظ من الشاذ بدون تقليد لأحد في هذا، وقد كانت خطة البحث مشتملة على ثمانية أبواب، وكل باب مشتمل على فصول، وبعضها مشتمل على مباحث، والمباحث على فروع، وهي كما يلي. خطة البحث. التمهيد: تعريف الفطرة. وفيه مبحثان: المبحث الأول: في تعريف الفطرة. المبحث الثاني: في ذكر خصال الفطرة. الباب الأول: في الختان. وفيه فصول ومباحث. الفصل الأول: في تعريف الختان. الفصل الثاني: كيفية الختان. الفصل الثالث: في ذكر أول من اختتن. الفصل الرابع: في وقت الختان. الفصل الخامس: في حكم الختان.
وفيه مباحث: المبحث الأول: في حكم الختان للذكر. المبحث الثاني: في حكم الختان للأنثى. فرع: في أنواع الخفاض. المبحث الثالث: في حكم الختان للخنثى. فرع: حكم ما لوكان للرجل ذكران. المبحث الرابع: في حكم ختان الميت. الفصل السادس: في من يولد، وهو مختون. الفصل السابع: في موانع الختان. الفصل الثامن: في عبادات الأقلف. المبحث الأول: في طهارة الأقلف. المبحث الثاني: في إمامة الأقلف. المبحث الثالث: في ذبيحة الأقلف. المبحث الرابع: في حج الأقلف. المبحث الخامس: في شهادة الأقلف. الفصل التاسع: في إجابة الدعوة في وليمة الختان. الفصل العاشر: في ضمان ما أتلف بالختان. فرع: في أجرة الخاتن. الفصل الحادي عشر: في فوائد الختان. الباب الثاني: في الاستحداد ويشتمل على تمهيد وفصول.
التمهيد: في تعريفه الفصل الأول: حكم الاستحداد. فرع: إجبار الزوج زوجه على الاستحداد. الفصل الثاني: وقت الاستحداد. الفصل الثالث: في كيفية الاستحداد. الفصل الرابع: في حلق شعر الدبر. الفصل الخامس: الاستحداد للميت. الفرع الأول: إذا قيل بجواز الاستحداد للميت كيف تؤخذ. الفرع الثاني: في دفن ما أخذ من البشرة. الفرع الثالث: لا يحلق العانة أجنبي. الفرع الرابع: في استخدام النورة. الباب الثالث: في تقليم الأظفار. تمهيد: وفيه مبحثان. الأول: تعريف التقليم لغة. الثاني: الأدلة على أن تقليم الأظفار من السنة. الفصل الأول: في حكم تقليم الأظفار. الفرع الأول: هل للزوج إجبار زوجه على تقليم الأظفار. الفرع الثاني: توفير الأظفار في الحرب. الفصل الثاني: هل يستحب تقليم الأظفار في يوم معين. الفصل الثالث: في كيفية تقليم الأظفار. الفصل الرابع: في إزلة الوسخ الذي تحت الظفر.
الفصل الخامس: في دفن الظفر والشعر. الفصل السادس: في من قلم أظفاره هل يعيد وضوءه. فرع: غسل رؤوس الأصابع بعد قص الأظفار. الباب الرابع: في نتف الإبط. تعريف الإبط. الفصل الأول: حكم نتف الإبط والتوقيت فيه. الفصل الثاني: في كيفية نتف الإبط. الفصل الثالث: الوضوء من نتف الإبط. الباب الخامس: في الشارب. تمهيد: الفصل الأول: حكم قص الشارب. الفصل الثاني: هل يقص الشارب أو يحلق؟. فرع: كلام أهل العلم في السبالين. الفصل الثالث: التوقيت في قص الشارب. الباب السادس: في اللحية. تعريف اللحية. الفصل الأول: ما جاء في أن إعفاء اللحية من الفطرة. الفصل الثاني: في حكم إعفاء اللحية. الفصل الثالث: حلق ما تحت الذقن. الفصل الرابع: في نتف الشيب. الفصل الخامس: في تغيير الشيب.
الباب السابع: في شعر الرأس. الفصل الأول: في حلق شعر الرأس. الفصل الثاني: في النهي عن القزع. وفيه مبحثان: المبحث الأول: في تعريف القزع. المبحث الثاني: في حكم القزع. الفصل الثالث: في الترجل وصفته. الباب الثامن: في غسل البراجم. الكتاب الثاني: في أحكام السواك. ويشتمل على تهميد، وخمسة أبواب، وستة عشر فائدة فقهية وسلوكية متفرقة، وخاتمة. على النحو التالي. التمهيد ويشتمل على خمسة مباحث: المبحث الأول: في تعريف السواك. المبحث الثاني: في فضل السواك. المبحث الثالث: بيان أن السواك من سنن الفطرة. المبحث الرابع: ما ورد في كون الصلاة بسواك أفضل من سبعين ... صلاة بغير سواك. المبحث الخامس: هل السواك في شريعة من قبلنا.
الباب الأول: في ذكر جنس ما يتسوك به. ويشتمل على خمسة فصول: الفصل الأول: في التسوك بالعود وبيان الأفضل منه. الفصل الثاني: لا يتسوك بعود يضر اللثة. الفصل الثالث: التسوك بما له رائحة ذكية. الفصل الرابع: التسوك بالأصبع والخرقة. الفصل الخامس: معجون الأسنان هل يحصل به إصابة السنة. الباب الثاني: صفة السواك. ويشتمل على ثلاثة فصول: الفصل الأول: هل الأفضل اليابس من السواك أو الرطب؟ الفصل الثاني: الكلام في طول السواك وعرضه. الفصل الثالث: التسوك بعود لا يعرفه. الباب الثالث: في حكم السواك ويشتمل على سبعة أبو اب، ومبحث واحد. الفصل الأول: حكم السواك، وفيه مبحثان: المبحث الأول: حكم السواك للصائم. المبحث الثاني: هل خلوف الصائم أطيب عند الله من رائحة في الدنيا والآخرة أم في الآخرة فقط؟ الفصل الثالث: حكم التسوك في المسجد. الفصل الرابع: حكم السواك بحضرة الناس.
الفصل الخامس: التسواك في الخلاء. الفصل السادس: إمكانية ترتيب الأجر على التسوك بما يضر. الفصل السابع: في التسمية للسواك. الباب الرابع: في ذكر المواضع التي يتأكد فيها السواك. ويشتمل على عشرة فصول، ومبحثين: الفصل الأول: السواك عند الصلاة. الفصل الثاني: السواك عند الوضوء. الفصل الثالث: في مشروعية السواك للغسل والتيمم. الفصل الرابع: يستحب السواك عند الانتباه من النوم. الفصل الخامس: يستحب السواك عند تغير الفم. الفصل السادس: استحباب السواك عند دخول البيت. الفصل السابع: حكم السواك عند دخول المسجد. الفصل الثامن: التسوك عند قراءة القرآن. المبحث الأول: حكم السواك لسجود التلاوة والشكر. المبحث الثاني: الاستياك للقراءة بعد السجود. الفصل التاسع: من المواضع التي يتأكد فيها السواك يوم الجمعة. الفصل العاشر: هل يستحب السواك عند الاحتضار. الباب الخامس: في صفة التسوك. ونشتمل على تسعة فصول: الفصل الأول: كيفية التسوك. الفصل الثاني: هل يبدأ المتسوك بجانب فمه الأيمن أو الأيسر؟
الفصل الثالث: أفضيلة السواك بيده اليمنى أم اليسرى؟ الفصل الرابع: في كيفية أخذ السواك. الفصل الخامس: الكلام في قبض السواك. الفصل السادس: في موضع السواك من الرجل. الفصل السابع: في الاستياك حال الاضطجاع. الفصل الثامن: أقل ما تحصل به السنة من الاستياك. الفصل التاسع: هل يحتاج المتسوك إلى نية؟ فوائد متفرقة: متممة لبحوث السواك. وتشتمل على ستة عشر فائدة: الفائدة الأولى: استحباب غسل السواك. الفائدة الثانية: إباحة التسوك بسواك الغير. الفائدة الثالثة: إذا دفع السواك للغير يبدأ بالأكبر، وليس بالأيمن. الفائدة الرابعة: في بلع الريق عند ابتداء السواك. الفائدة الخامسة: في الدعاء عند السواك. الفائدة السادسة: في منافع السواك. الفائدة السابعة: ذكر بعض فقهاء الحنفية أن العلك يقوم مقام ... السواك بالنسبة للمرأة. الفائدة الثامنة: التسوك والإمام يصلي. الفائدة التاسعة: في الوضوء من فضل السواك. الفائدة العاشرة: استحب فقهاء الحنفية أن يكون السواك من شجر مر. الفائدة الحادية عشرة: نهى بعض الفقهاء أن يتسوك بطرف السواك الآخر.
الفائدة الثانية عشرة: نهى بعض الفقهاء عن التسوك بالقصب. الفائدة الثالثة عشرة: قال النووي: يستحب أن يعود الصبي السواك ... ليألفه كسائر العبادات. الفائدة الرابعة عشرة: في لقطة السواك. الفائدة الخامسة عشرة: يتسوك المحرم، كما يتسوك الحلال. الفائدة السادسة عشرة: بحث طبي في السواك. الخاتمة. أسأل الله سبحانه وتعالى بمنه وكرمه أن يجعل العمل خالصاً لوجهه، وأن يتقبله مني بقبول حسن، وأن يعظم به الأجر ويكفر به السئيات لي ولوالدي، ولجميع مشايخي، وأهل بيتي إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
التمهيد
التمهيد وفيه مبحثان: المبحث الأول: في تعريف الفطرة. المبحث الثاني: في ذكر خصال الفطرة.
المبحث الأول في تعريف الفطرة
المبحث الأول في تعريف الفطرة تعريف الفطرة من حيث اللغة: جاء في اللسان: فَطَرَ الشيء يَفْطُرُه فَطْراً فانْفَطَر. وفَطَّره: شقه، وتَفَطَّر الشيء: تشقق، والفَطْر: الشق، وجمعه فُطُور. وفي التنزيل العزيز: {هل ترى من فطور} (¬1). وأصل الفَطْر: الشق، ومنه قوله تعالى: {إذا السماء انفطرت} (¬2): أي انشقت. وفي الحديث: " قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تَفَطَّرت قدماه: أي انشقتا. يقال: تَفَطَّرت وانْفَطَرت بمعنى. وفي التنزيل العزيز: {السماء منفطر به} (¬3)، كما قالوا: سيف فطار: فيه صدوع وشقوق. قال عنترة: وسيفي كالعقيقة وهو كمعي ... سلاحي لا أفل ولا فطارا (¬4). وجاء في كتاب العين: الفُطْر: ضرب من الكَمْأة. والفُطْرُ: شيء قليل من اللبن يحلب ساعتئذ، تقول: ما احتلبناها إلا فُطْراً. قال المرار: عاقر لم يحتلب منها فُطُرْ. ¬
وفَطَرْت الناقة: أفْطِرُها فَطْراً: أي حلبتها بأطراف الأصابع. وقطر ناب البعير: طلع. وفَطَر الله الخلق: أي خلقهم وابتدأ صنعة الأشياء، وهو فاطر السموات والأرض. والفطرة: التي طبعت عليها الخليقة من الدين، فطرهم الله على معرفته بربوبيته، ومنه حديث: " كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه (¬1). اختلف العلماء في تعريف الفطرة فقال بعضهم: الفطرة: الخلقة، والفاطر الخالق. فكأن معنى: كل مولود يولد على الفطرة: أي على خلقة يعرف بها ربه، إذا بلغ مبلغ المعرفة سالماً في الأغلب خلقة وطبعاً، مهيأ لقبول الدين، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت على ذلك القبول، وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام. وقيل: معنى الفطرة هي الابتداء. وفطر الله الخلق: أي بدأهم. ويقال: أنا فطرت الشيء: أي أول من ابتدأه. ¬
فيكون المراد: البداءة التي ابتدأهم عليها: أي على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة، والموت، والشقاء، والسعادة، وإلى ما يصيرون عليه عند البلوغ من ميولهم عن آبائهم واعتقادهم. وذلك ما فطرهم الله عليه مما لا بد من مصيرهم إليه، فقد يفطر على الكفر وقد يفطر على الإيمان (¬1). وقيل: الفطرة هي السنة (¬2). وقيل: الفطرة، هي الإسلام. قال ابن عبد البر: وهو المعروف عند عامة السلف من أهل العلم بالتأويل (¬3). ونسبه ابن عبد البر والقرطبي إلى أبي هريرة، وابن شهاب وغيرهما (¬4). وقيل: الفطرة المقصود بها ما أخذ الله من ذرية آدم من الميثاق قبل أن يخرجوا إلى الدنيا يوم استخرج ذرية آدم من ظهره، فخاطبهم {ألست بربكم قالوا بلى} (¬5)، فأقروا له جميعاً بالربوبية عن معرفة منهم، ثم أخرجهم من أصلاب آبائهم مخلوقين مطبوعين على تلك المعرفة، وذلك الإقرار. قالوا: وليست تلك المعرفة بإيمان، ولا ذلك الإقرار بإيمان، ولكنه إقرار من الطبيعة للرب، فطرة ألزمها قلوبهم، ثم أرسل إليهم الرسل، فدعوهم إلى الاعتراف له بالربوبية، فمنهم من أنكر بعد المعرفة؛ لأنه لم يكن الله عز وجل ليدعو خلقه ¬
دليل من قال الفطرة: الخلقة
إلى الإيمان به، وهو لم يعرفهم نفسه (¬1). فتلخص من هذا أن الخلاف في الفطرة على النحو التالي: قيل: الفطرة: الخلقة، والسلامة، والتهيؤ للقبول. وقيل: الفطرة: البداءة. وقيل: الفطرة الإسلام. وقيل: الفطرة: السنة. وقيل: الفطرة، الميثاق والعهد المأخوذ على ذرية آدم. وإليك أدلة كل قول، وما يمكن أن يناقش به. دليل من قال الفطرة: الخلقة. استدلوا بقوله تعالى: {قل أغير الله اتخذ ولياً فاطر السموات والأرض} (¬2). وقوله تعالى: {ومالي لا أعبد الذي فطرني} (¬3) أي خلقني. وأصحاب هذا القول أنكروا أن يفطر المولود على كفر وإيمان، أو معرفة أو إنكار، قالوا: وإنما يولد المولود على السلامة في الأغلب خلقة وطبعاً، وبنية ليس معها إيمان ولا كفر، ولا إنكار ولا معرفة، ثم يعتقدون الكفر أو الإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا، واحتجوا بقوله في الحديث كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء يعني: سالمة. هل تحسون فيها من جدعاء - يعني: مقطوعة الأذن، ¬
دليل من قال: الفطرة: البداءة، والفاطر البادئ
فمثلوا قلوب بني آدم بالبهائم؛ لأنها تولد كاملة الخلق، ليس فيها نقصان، ثم تقطع آذانها بعد، وأنوفها، فيقال: هذه بحائر، وهذه سوائب. فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفر حينئذٍ ولا إيمان، ولا معرفة ولا إنكار، كالبهائم السالمة فلما بلغوا استهوتهم الشياطين، فكفر أكثرهم، وعصم الله أقلهم، ولو كان الأطفال قد فطروا على شيء على الكفر أو الإيمان في أولية أمرهم ما انتقلوا عنه أبداً، ومحال أن يعقل الطفل حال ولادته كفراً أو إيماناً. والله سبحانه وتعالى يقول: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً} (¬1)، فمن لا يعلم شيئاً استحال منه كفر وإيمان، أو معرفة أو إنكار. قال ابن عبد البر: هذا القول أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الناس عليها، والله أعلم؛ وذلك أن الفطرة السلامة والاستقامة بدليل حديث عياض بن حمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاكياً عن ربه عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء. يعني: على استقامة وسلامة. والحنيف في كلام العرب: المستقيم السالم. وإنما قيل للأعرج: أحنف على جهة الفأل. كما قيل للقفر: مفازة. دليل من قال: الفطرة: البداءة، والفاطر البادئ. الدليل الأول: (438 - 2) استدلوا بما روى الطبري في تفسيره، قال: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان، إبراهيم بن مهاجر، ¬
عن مجاهد، قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر. فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها. يقول: أنا ابتدأتها (¬1). [ابن وكيع ضعيف، لكنه قد توبع، وباقي الإسناد رجاله ثقات إلا إبراهيم بن مهاجر فإنه صدوق في حفظه شيء] (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (439 - 3) واحتجوا بما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا عبد الله ابن مسلمة بن قعنب، حدثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن رقبة بن مصقلة، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً، ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً (¬1). وفي صحيح البخاري: عن ابن عباس أنه كان يقرأ أما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين (¬2). فهنا أطلق على الغلام أنه كافر، وهذا باعتبار أنه فطر أول ما فطر على الكفر. فكان ابتداء خلقه أن يكون كافراً، فهو صائر إليه لا محالة. الدليل الثالث: (440 - 4) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن طلحة بن يحيى، عن عمته عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين قالت: دعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنازة صبي ¬
من الأنصار، فقلت: يارسول الله طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه. قال: أو غير ذلك يا عائشة؛ إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم (¬1). ورده ابن عبد البر، فقال: إن أراد هؤلاء أن الله خلق الأطفال، وأخرجهم من بطون أمهاتهم ليعرف منهم العارف، ويعترف فيؤمن، وينكر منهم المنكر، فيكفر، كما سبق له القضاء، وذلك حين يصح منهم الإيمان والكفر، فذلك ما قلنا. وإن أرادوا أن الطفل يولد عارفاً مقراً، مؤمناً، وعارفاً جاحداً كافراً في حين ولادته، فهذا يكذبه العيان والعقل. وقال ابن عبد البر: " وهذا المذهب ـ يعني هذا القول ـ شبيه بما حكاه أبو عبيد، عن عبد الله بن المبارك، أنه سئل عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كل مولود يولد على الفطرة " فقال:" يفسره الحديث الآخر حين سئل عن أطفال المشركين، فقال: الله أعلم بما كانوا يعملون " (¬2). (441 - 5) قال ابن عبد البر: حدثنا عبد الوارث بن سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا محمد بن الجهم، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا موسى بن عبيدة، قال: سمعت محمد بن كعب القرظي في قوله عز وجل: {كما بدأكم تعودون فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة} (¬3). ¬
قال: من ابتدأ الله خلقه للضلالة صيره إلى الضلالة، وإن عمل بأعمال الهدى، ومن ابتدأ الله خلقه على الهدى صيره الله إلى الهدى، وإن عمل بأعمال الضلالة، ابتدأ خلق إبليس على الضلالة، وعمل بعمل السعادة مع الملائكة، ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه من الضلالة، وكان من الكافرين، وابتدأ خلق السحرة على الهدى، وعملوا بعمل الضلالة، ثم هداهم الله إلى الهدى والسعادة، وتوفاهم عليها مسلمين (¬1). ورده ابن عبد البر، فقال: ليس في قوله: {كما بدأكم تعودون} (¬2) دليل على أن الطفل يولد حين يولد مؤمناً أو كافراً لما شهدت به العقول أنه في ذلك الوقت ليس ممن يعقل إيماناً ولا كفراً. ومن الحجة أيضاً قوله تعالى: {إنما تجزون ما كنتم تعملون} (¬3). وقوله تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} (¬4). ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء. وقال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} (¬5). ولما أجمعوا على دفع القود والقصاص والحدود والآثام عنهم في دار الدنيا كانت الآخرة أولى بذلك. وقال القرطبي: قال شيخنا أبو العباس: من قال: هي سابقة السعادة ¬
دليل من قال: الفطرة السنة
والشقاوة، فهو إنما يليق بالفطرة المذكورة في القرآن؛ لأن الله تعالى قال: {لا تبديل لخلق الله} (¬1)، وأما في الحديث فلا؛ لأنه قد أخبر في بقية الحديث بأنها تبدل وتغير (¬2). دليل من قال: الفطرة السنة. الدليل الأول: (442 - 6) ما رواه البيهقي، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو عبد الله محمد بن يعقوب إملاء، ثنا حامد بن أبي حامد المقري، ثنا إسحاق بن سليمان، ثنا حنظلة بن أبي سفيان، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من السنة قص الشارب، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار. قال البيهقي: رواه البخاري في الصحيح، عن أحمد بن أبي رجاء، عن إسحاق بن سليمان اهـ (¬3). أراد البيهقي أصل الحديث وإلا فلفظ البخاري: "من الفطرة " (¬4)،وهو ¬
المحفوظ (¬1). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (443 - 7) ما رواه أبو عوانة في مسنده، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن أبي رجاء المصيصي، قال: ثنا وكيع بن الجراح، قال: ثنا زكريا بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن ابن الزبير، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر من السنة: قص الشارب، وإعفاء اللحى، والسواك، والاستنثار بالماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء ـ يعني الاستنجاء بالماء. قال زكريا: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة (¬1). [المحفوظ أنه من قول طلق، ورفعه شاذ، كما أن المحفوظ أن الأثر بلفظ: " عشر من الفطرة " وليس عشر من السنة] (¬2). ¬
دليل من قال الفطرة هي الإسلام
قال أبو عمر بن الصلاح: " هذا فيه إشكال لبعد معنى السنة عن معنى الفطرة في اللغة (¬1)،قال: فلعل وجهه أن أصله سنة الفطرة، أو أدب الفطرة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه " اهـ. وإذا قلنا إن المراد بالفطرة: السنة. فإن السنة معناها الطريقة: أي أن معنى ذلك من سنن الأنبياء والمرسلين وطريقتهم. دليل من قال الفطرة هي الإسلام. الدليل الأول: قوله تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس ¬
الدليل الثاني
عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (¬1). قال ابن عبد البر: قد أجمعوا في قول الله عز وجل: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} (¬2)، على أن قالوا فطرة الله دين الله الإسلام. ثم قال: وذكروا عن عكرمة ومجاهد والحسن وإبراهيم والضحاك وقتادة في قوله عز وجل: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} قالوا: دين الله الإسلام. {لا تبديل لخلق الله} قالوا: لدين الله (¬3). الدليل الثاني: (444 - 8) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله، أخبرنا يونس، عن الزهري، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أوينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم (¬4). ولما كان الإسلام هو دين الفطرة، لم يحتج أن يقول: فأبواه يسلمانه. وتعقبه ابن عبد البر، فقال: يستحيل أن تكون الفطرة المذكورة في قول ¬
الدليل الثالث
النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كل مولود يولد على الفطرة " الإسلام؛ لأن الإسلام والإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح. وهذا معدوم من الطفل، لا يجهل بذلك ذو عقل (¬1). الدليل الثالث: (445 - 9) ما رواه البخاري، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة، عن سليمان قال: سمعت زيد بن وهب قال: رأى حذيفة رجلاً لا يتم الركوع والسجود، قال: ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - عليها (¬2). مت على غير الفطرة: أي على غير الدين والملة والإسلام. قال ابن حجر: قال الخطابي: الفطرة الملة أو الدين. قال: ويحتمل أن يكون المراد بها هنا السنة، كما جاء " خمس من الفطرة " الحديث. ويكون حذيفة قد أراد توبيخ الرجل ليرتدع في المستقبل، ويرجحه وروده من وجه آخر بلفظ " سنة محمد " (¬3). الدليل الرابع: (446 - 10) ما رواه مسلم، قال: حدثني أبو غسان المسمعي ومحمد بن ¬
المثنى ومحمد بن بشار بن عثمان ـ واللفظ لأبي غسان وابن المثنى ـ قالا: حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عياض بن حمار المجاشعي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم في خطبته: ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً. الحديث قطعة من حديث طويل (¬1). فقوله: " حنفاء " أي مسلمين. قال ابن عبد البر: ومما يدل على أن الحنفية الإسلام قوله الله عز وجل: {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين} (¬2). وقوله سبحانه: {هو سماكم المسلمين} (¬3) (¬4). وإنما سمي إبراهيم حنيفاً؛ لأنه كان حنف عما كان يعبد أبوه وقومه من الآلهة، إلى عبادة الله وحده: أي عدل عن ذلك ومال. وأصل الحنف ميل من إبهامي القدمين، كل واحدة منهما على صاحبتها. قال الأوزاعي: سألت الزهري عن رجل عليه رقبة، أيجزئ عنه الصبي أن ¬
الدليل الخامس
يعتقه، وهو رضيع؟ قال: نعم؛ لأنه ولد على الفطرة، يعني: الإسلام. ورده ابن عبد البر، وقال: إنما أجزأ عتقه في الرقاب الواجبة عند من أجازه؛ لأن حكمه حكم أبويه (¬1). الدليل الخامس: (447 - 11) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يونس، حدثنا أبان، عن قتادة، عن الحسن، عن الأسود بن سريع، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية يوم حنين، فقاتلوا المشركين فأفضى بهم القتل إلى الذرية، فلما جاءوا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما حملكم على قتل الذرية؟ قالوا: يا رسول الله إنما كانوا أولاد المشركين. قال: أوهل خياركم إلا أولاد المشركين، والذي نفس محمد بيده ما من نسمة تولد إلا على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها (¬2). [رجاله ثقات، وإسناده منقطع، لم يسمع الحسن من الأسود، وقتادة مدلس] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل من قال الفطرة الميثاق والعهد
دليل من قال الفطرة الميثاق والعهد. (448 - 12) دليلهم ما رواه أحمد، قال: ثنا حسين بن محمد، ثنا جرير - يعنى ابن حازم - عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان - يعنى عرفة- فاخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلا قال {ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون} (¬1) (¬2). ¬
[قال النسائي: الحديث غير محفوظ (¬1)، ورجح ابن كثير وقفه] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الراجح من هذه الأقوال
قال ابن عبد البر: قد قال هؤلاء: ليست تلك المعرفة بإيمان، ولا ذلك الإقرار بإيمان، ولكنه إقرار من الطبيعة للرب، فطرة ألزمها قلوبهم، فكفونا بهذه المقالة أنفسهم. الراجح من هذه الأقوال: أن الفطرة في قوله: " كل مولود يولد على الفطرة " أي على خلقة يعرف بها ربه، إذا بلغ مبلغ المعرفة سالماً في الأغلب خلقة وطبعاً، مهيأ لقبول الدين. وهذا الذي رجحه ابن عبد البر. قال القرطبي: " وإلى ما اختاره أبو عمر، واحتج له غير واحد من المحققين، منهم ابن عطية في تفسيره في معنى الفطرة، وشيخنا أبو العباس. قال ابن عطية: والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنه الخلقة والهيئة ¬
التي في نفس الطفل معدة ومهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى، ويستدل بها على ربه، ويعرف شرائعه، ويؤمن به، فكأنه تعالى قال: أقم وجهك للدين الذي هو الحنيف، وهو فطرة الله الذي على الإعداد له فطر البشر، لكن تعرضهم العوارض، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه " فذكر الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة، وقال شيخنا في عبارته: " إن الله تعالى خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول، وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام، وهو الدين الحق، وقد دل على صحة هذا المعنى قوله: " كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء، يعني: أن البهيمة تلد ولدها كامل الخلقة، سليماً من الآفات، فلو ترك على أصل تلك الخلقة لبقي كاملاً بريئاً من العيوب، لكن يتصرف فيه فيجدع أذنه، ويوسم وجهه، فتطرأ عليه الآفات والنقائض، فيخرج عن الأصل، وكذلك الإنسان، وهو تشبيه واقع، ووجهه واضح (¬1). ¬
فرع مناسبة تسمية هذه الخصال خصال الفطرة
فرع مناسبة تسمية هذه الخصال خصال الفطرة قال القرطبي في المفهم: " في هذه الخصال مجتمعة في أنها محافظة على حسن الهيئة والنظافة، وكلاهما يحصل به البقاء على أصل كمال الخلقة التي خلق الإنسان عليها، وبقاء هذه الأمور وترك إزالتها يشوه الإنسان، ويقبحه بحيث يستقذر، ويجتنب، فيخرج عما تقتضيه الفطرة الأولى، فسميت هذه الخصال فطرة لهذا المعنى. والله أعلم (¬1). ¬
المبحث الثاني ذكر خصال الفطرة
المبحث الثاني ذكر خصال الفطرة ورد فيه حديث ابن عمر رضي الله عنه. (449 - 13) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا أحمد بن أبي رجاء، حدثنا إسحاق بن سليمان، قال: سمعت حنظلة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من الفطرة حلق العانة وتقليم الأظفار وقص الشارب (¬1). (450 - 14) ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: الفطرة خمس، الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الآباط (¬2). (451 - 15) ومنها حديث عائشة، في مسلم، قال رحمه الله: حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قالوا: حدثنا وكيع عن زكرياء بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت: قال - صلى الله عليه وسلم -:عشر من الفطرة قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف ¬
الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء. قال زكرياء: قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. زاد قتيبة: قال وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء. [المحفوظ أنه من قول طلق، وسيأتي تخريجه في كتاب السواك] (¬1). فأكثر ما ورد فيه من خصال الفطرة حديث عائشة. وسنأتي على شرحها واحدة واحدة، أما السواك، فعقدت له كتاباً خاصاً لأهميته، وكثرة مباحثه. وكذلك الاستنجاء. وأما المضمضة والاستنشاق، فسوف يأتي التعرض لأحكامها في سنن الوضوء. بقي معنا ما ورد في حديث أبي هريرة الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الآباط، فسوف نعرض لها فصلاً فصلاً سائلين المولى سبحانه وتعالى عونه وتوفيقه. ¬
الباب الأول في الختان
الباب الأول في الختان وفيه أحد عشر فصلاً: الفصل الأول: في تعريف الختان. الفصل الثاني: كيفية الختان. الفصل الثالث: في ذكر أول من اختتن. الفصل الرابع: في وقت الختان. الفصل الخامس: في حكم الختان. الفصل السادس: في من يولد، وهو مختون. الفصل السابع: في موانع الختان. الفصل الثامن: في عبادات الأقلف. الفصل التاسع: في إجابة الدعوة في وليمة الختان. الفصل العاشر: في ضمان ما أتلف بالختان. الفصل الحادي عشر: في فوائد الختان.
الفصل الأول في تعريف الختان
الفصل الأول في تعريف الختان تعريف الختان في اللغة: جاء في لسان العرب: ختن: خَتَنَ الغلامَ والجارية يَخْتِنُهما ويَخْتُنُهما خَتْناً. والاسم: الخِتانُ والخِتانَةُ، وهو مَخْتُونٌ. وقيل: الخَتْن للرجالِ والخَفْضُ للنساء. والخَتِين: المَخْتُونُ الذكر والأُنثى في ذلك سواء. والخِتانة: صناعة الخاتِنِ. والخَتْنُ: فِعْل الخاتن الغُلامَ والخِتان ذلك الأَمْرُ كُلُّه وعِلاجُه. والخِتانُ: موضع الخَتْنِ من الذكرِ وموضع القطع من نَواة الجارِيةِ. قال أَبو منصور: هو موضع القطع من الذكر والأُنثى، ومنه الحديث المرويُّ: "إِذا الْتَقَى الخِتانانِ فقد وجب الغسلُ " وهما موضع القطع من ذكر الغلام وفرج الجارية. ويقال لقَطْعهما: الإِعْذارُ والخَفْضُ. ومعنى التقائهما: غُيُوبُ الحشفة في فرج المرأَة حتى يصيرِ خِتانه بحِذاء خِتَانِهاِ؛ وذلك أَن مدخل الذكر من المرأَة سافل عن ختانها؛ لأَن ختانها مستعلٍ، وليس معناه أَن يَماسَّ خِتانُه خِتانها، هكذا قال الشافعي في كتابه. وأَصل الخَتْن: القطعُ ويقال: أُطْحِرَتْ خِتانَتُه: إِذا اسْتُقْصِيَتْ في
القَطْعِ وتسمى الدَّعْوَةُ لذلك خِتاناً. (¬1). وقال الحافظ: ويسمى ختان الرجل اعذاراً بذال معجمة، وختان المرأة خفضاً بخاء وضاد معجمتين. وقال أبو شامة: كلام أهل اللغة يقتضي تسمية الكل اعذاراً، والخفض يختص بالأنثى. قال أبو عبيدة: عذرت الجارية والغلام وأعذرتهما ختنتهما وأختنتهما وزنا ومعنى. قال الجوهري: والأكثر خفضت الجارية (¬2). ¬
الختان في الاصطلاح
ويقال للذي لم يختن: أقلف. والمرأة قلفاء. والفقهاء يخصون أحكام الأقلف بالرجل دون المرأة. وإزالة القلفة من الأقلف تسمى ختاناً في الرجل، وخفضاً في المرأة. والحشفة في اللغة: ما فوق الختان من الذكر. ويقال لها: الكمرة أيضاً. الختان في الاصطلاح: لا يخرج المعنى اللغوي عن المعنى الاصطلاحي؛ لأن المعنى اللغوي: هو القطع. وفي الاصطلاح: قال الحافظ: قطع بعض مخصوص، من عضو مخصوص (¬1). وقال النووي: الختان: هو قطع الجلدة التي تغطي الحشفة حتى تنكشف جميع الحشفة (¬2). وقال في شرحه لصحيح مسلم: والختان في المرأة: قطع أدنى جزء من الجلدة التي في أعلى الفرج (¬3). اهـ وهي فوق مخرج البول، تشبه عرف الديك. ¬
الفصل الثاني في كيفية الختان
الفصل الثاني في كيفية الختان نقل الحافظ عن الماوردي قوله: "ختان الذكر قطع الجلدة التي تغطي الحشفة، والمستحب أن تستوعب من أصلها عند أول الحشفة، وأقل ما يجزئ أن لا يبقى منها ما يتغشى به شيء من الحشفة. وقال إمام الحرمين: المستحق في الرجال قطع القلفة، وهي الجلدة التي تغطي الحشفة حتى لا يبقى من الجلدة شيء متدل. وقال ابن الصباغ: حتى تنكشف جميع الحشفة. وقال ابن كج، فيما نقله الرافعي: يتأدى الواجب بقطع شيء مما فوق الحشفة، وإن قل بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها. قال النووي: وهو شاذ، والأول هو المعتمد. قال الإمام (¬1): والمستحق من ختان المرأة ما ينطلق عليه الاسم. قال الماوردي: ختانها قطع جلدة تكون في أعلى فرجها فوق مدخل الذكر كالنواة، أو كعرف الديك، والواجب قطع الجلدة المستعلية منه دون استئصاله، وقد أخرج أبو داود من حديث أم عطية أن امرأة كانت تختن بالمدينة، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تنهكي؛ فإن ذلك أحظى للمرأة، وقال: إنه ليس بالقوي. قلت (¬2): وله شاهدان من حديث أنس، ومن حديث أم أيمن عند أبي الشيخ في كتاب العقيقة، وآخر عن الضحاك بن قيس عند البيهقي اهـ. ¬
وإليك تخريج الأدلة التي أشار إليها الحافظ: (452 - 16) أما حديث أم عطية فقد أخرجه أبو داود، قال: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي وعبد الوهاب بن عبد الرحيم الأشجعي، قالا: ثنا مروان، ثنا محمد بن حسان. قال عبد الوهاب الكوفي: عن عبد الملك ابن عمير، عن أم عطية الأنصارية أن امرأة كانت تختن بالمدينة، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تنهكي؛ فإن ذلك أحظى للمرأة، وأحب إلى البعل. قال أبو داود: روي عن عبيد الله بن عمرو، عن عبد الملك بمعناه وإسناده. قال أبو داود: ليس هو بالقوي، وقد روي مرسلا. قال أبو داود: ومحمد بن حسان مجهول، وهذا الحديث ضعيف. [مضطرب الإسناد على ضعفه]. وله شواهد من حديث أنس، ومن حديث علي، ومن حديث ابن عمر. (453 - 17) أما حديث أنس، فقد رواه الطبراني في المعجم الصغير، قال: حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب النحوي، حدثنا محمد بن سلام الجمحي، حدثنا زائدة بن أبي الرقاد، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأم عطية خاتنة كانت بالمدينة: إذا خفضت فأشمي، ولا تنهكي؛ فإنه أسرى للوجه، وأحظى عند الزوج. قال الطبراني: لم يروه عن ثابت إلا زائدة، تفرد به محمد بن سلام. ورواه الطبراني في الأوسط بالإسناد نفسه. [إسناده ضعيف]. (454 - 18) وأما حديث علي بن أبي طالب. فرواه الخطيب،
من طريق عوف بن محمد أبي غسان، حدثنا أبو تغلب عبد الله بن أحمد ابن عبد الرحمن الأنصاري، حدثنا مسعر، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي، قال: كانت خفاضة بالمدينة، فأرسل إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا خفضت فأشمي، ولا تنهكي، فإنه أحسن للوجه، وأرضى للزوج. [إسناده ضعيف]. (455 - 19) وأما حديث ابن عمر، فقد رواه البزار في مسنده، قال: حدثنا سهل بن بحر، ثنا علي بن عبد الحميد، ثنا مندل بن علي، عن ابن جريج، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر، قال: دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - نسوة من الأنصار، فقال: يا نساء الأنصار اختضبن غمساً، واخفضن، ولا تنهكن؛ فإنه أحضى عند أزواجكن، وإياكن وكفر المنعمين. قال مندل: يعنى الزوج (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . ¬
قال المنذري: ليس في الختان خير يرجع إليه (¬1)، ولا سند يتبع (¬2). وقال في عون المعبود: وحديث ختان المرأة روي من أوجه كثيرة، وكلها ضعيفة معلولة مخدوشة، لا يصح الاحتجاج بها (¬3). وقال ابن عبد البر في التمهيد: والذي أجمع المسلمون عليه الختان في الرجال (¬4). ¬
الفصل الثالث ذكر أول من اختتن
الفصل الثالث ذكر أول من اختتن ذكر بعض الفقهاء: أن أول من ختن من الرجال إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ومن الإناث هاجر رضي الله تعالى عنها (¬1). دليلهم على ذلك: الأول: الإجماع. قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن إبراهيم أول من اختتن (¬2). وقال القرطبي: أجمع العلماء على أن إبراهيم أول من اختتن (¬3). الدليل الثاني: (456 - 20) ما رواه مالك في الموطأ، قال: عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه قال: كان إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أول الناس ضيَّف الضيف، وأول الناس اختتن، وأول الناس قص الشارب، وأول الناس رأى الشيب فقال: يا رب ما هذا؟ فقال: الله تبارك وتعالى وقار يا إبراهيم. فقال: رب زدني وقاراً (¬4). [رجاله ثقات، إلا أنه موقوف على سعيد] (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . ¬
إلا أن قوله: " أول من رأى الشيب " مشكل. فقد ذكر الحافظ ابن رجب عن الحسن أنه ضعف هذا القول، واستحسنه الحافظ. قال: "وقد استدل الحسن على إبطال قول من قال: أول من رأى الشيب إبراهيم عليه السلام، بعموم قوله الله عز وجل: {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل ¬
من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة} (¬1). قال الحافظ: وهو استدلال ظاهر حسن (¬2). وقال الباجي عن الآية: يحتمل ـ والله أعلم ـ أنه يخاطب بها هذه الأمة، أو من شاب من زمن إبراهيم عليه السلام إلى يوم القيامة. ويحتمل أنه خوطب بها جميع الخلق، من شاب ومن لم يشب، إلا أنه جمع مع الضعف الأخير الشيب؛ لأن من الخلق من لم يشب، ولم يرد أن جميعهم يشيب، كما أنه لم يرد أن جميعهم يضعف، بل منهم من يموت في الضعف الأول، ومنهم من يموت في حال القوة قبل الضعف الثاني. والله أعلم وأحكم (¬3). والأول أقوى، ويؤيده أن الختان من سنن الفطرة التي فطر الله عليها بني آدم، والفطرة ملازمة، وليست مكتسبة، لكن إن صح الإجماع الذي حكاه ابن عبد البر والقرطبي بأن أول من اختتن إبراهيم، فالحجة الإجماع، ولا كلام مع صحته. وإن لم يصح الإجماع، فالنظر له مجال في عدم ثبوت ذلك. والله أعلم. ¬
الفصل الرابع في وقت الختان
الفصل الرابع في وقت الختان لم يقدر الإمام أبو حنيفة وقتاً معلوماً لعدم ورود النص به، ولم يرو عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فيه شيء، وقدره المتأخرون واختلفوا: فقيل: أول وقته من سبع سنين، وآخره اثنتا عشرة سنة. قال في الفتاوى الهندية، وهو المختار كذا في السراجية (¬1). وقيل: لا يختن حتى يبلغ. وقيل: تسع سنين. وقيل: عشر سنين. وهذه كلها أقوال في مذهب الحنفية (¬2). وقيل: إذا ثُغِر الصبي: أي القى ثغره، وهو مقدم أسنانه، اختاره مالك. وفي رواية عن مالك: من سبع إلى عشر (¬3)، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: وقت وجوب الختان عند البلوغ، ويستحب ختانه في الصغر ¬
هذا هو المشهور من مذهب الشافعية والحنابلة (¬1). إلا أن الشافعية استحبوه في اليوم السابع، إلا أن يكون الصبي ضعيفاً. وهو رواية عن أحمد (¬2). وهل يحسب يوم الولادة من السبعة، فيه وجهان في مذهب الشافعية: الأول: يحسب. اختاره أبو علي بن أبي هر يرة. الثاني: لا يحسب. وهو قول الأكثرين. فإن أخر عن السابع استحب ختانه في الأربعين، فإن أخر استحب في السنة السابعة. (¬3). وقيل: يكره يوم السابع، وهو مذهب المالكية (¬4)، والصحيح من مذهب الحنابلة (¬5). ¬
أدلة القائلين من سبع إلى عشر
وقيل: يجب على الولي أن يختن الصغير قبل البلوغ، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬1). وقيل: يحرم الختان قبل استكمال عشر سنين، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬2). أدلة القائلين من سبع إلى عشر. قالوا: بأن صاحب السبع سنين، يفهم الأمر ولذلك يؤمر بالصلاة. (457 - 21) فقد روى أحمد، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، وعبد الله بن بكر السهمي، المعنى واحد قالا: حدثنا سوار أبو حمزة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله: مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع. وإذا أنكح أحدكم عبده فلا ينظرن إلى شيء من عورته، فإنما أسفل من سرته إلى ركبته من عورته (¬3). [صحيح لغيره] (¬4). أدلة القائلين بالاستحباب في اليوم السابع. الدليل الأول: (458 - 22) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا أحمد بن القاسم، قال: ¬
حدثنا أبي وعمي عيسى بن المساور، قالا: حدثنا رواد بن الجراح، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن ابن عباس قال: سبعة من السنة في الصبي: يوم السابع يسمى ويختن ويماط عنه الأذى وتثقب أذنه ويعق عنه ويحلق رأسه ويلطخ بدم عقيقته ويتصدق بوزن شعره في رأسه ذهبا أو فضة. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن عبد الملك إلا رواد (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (459 - 23) ما رواه الطبراني في الصغير، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن الوليد البغدادي، حدثنا محمد بن أبي السري العسقلاني، حدثنا الوليد بن مسلم، عن زهير بن محمد، عن محمد بن المنكدر، عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين وختنهما لسبعة أيام. قال الطبراني: لم يروه عن محمد بن المنكدر إلا زهير بن محمد، ولم يقل أحد ممن روى هذا الحديث: وختنهما لسبعة أيام إلا الوليد بن مسلم (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل القائلين بكراهة اليوم السابع
دليل القائلين بكراهة اليوم السابع. عللوا ذلك بأنه من فعل اليهود. نقله الباجي عن مالك، كما في المنتقى (¬1) وغيره. دليل القائلين بأنه يحرم ختانه قبل عشر سنين. قالوا: لأن الم الختان فوق ألم الضرب، ولا يضرب على الصلاة إلا بعد عشر سنين. قال النووي: هذا القول ليس بشيء؛ وهو كالمخالف للإجماع (¬2). دليل من قال: لا يجب الختان إلا بالبلوغ. (460 - 24) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحيم، أخبرنا عباد بن موسى، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن إسرائيل، عن أبي ¬
دليل من قال: يجب على الولي أن يختن الصغير قبل البلوغ
إسحاق، عن سعيد بن جبير، قال: سئل ابن عباس مثل من أنت حين قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أنا يومئذ مختون. قال: وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك (¬1). فقوله: " حتى يدرك " أي حتى يبلغ. قال في تاج العروس: أدرك الشيء إدراكاً بلغ وقته وانتهى (¬2). وقال الشوكاني: الإدراك في أصل اللغة بلوغ الشيء وقته. وأراد به ههنا البلوغ (¬3). الدليل الثاني من النظر: قالوا: إن الختان يجب إذا وجبت الطهارة والصلاة، وهما لا يجبان إلا بالبلوغ. دليل من قال: يجب على الولي أن يختن الصغير قبل البلوغ قالوا: إن هذا من مصلحة الصبي، فيجب على الولي القيام بما فيه مصلحته. قال ابن القيم: وعندي أنه يجب على الولي أن يختن الصبي قبل البلوغ، بحيث يبلغ مختوناً؛ فإن ذلك مما لا يتم الواجب إلا به. وأما قول ابن عباس: كانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك: أي حتى يقارب البلوغ، كقوله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} (¬4). ¬
وبعد بلوغ الأجل لا يتأتى الإمساك. وقد صرح ابن عباس أنه كان يوم يموت النبي - صلى الله عليه وسلم - مختوناً، وأخبر في حجة الوداع التي عاش بعدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعة وثمانين يوماً أنه قد ناهز الاحتلام، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الآباء أن يأمروا أولادهم بالصلاة لسبع، وأن يضربوهم على تركها لعشر، فكيف يسوغ لهم ترك ختانهم حتى يجاوزوا البلوغ (¬1). وقول ابن القيم كان في حجة الوداع قد ناهز الاحتلام. (461 - 25) الحديث رواه البخاري، قال: حدثنا إسحاق، أخبرنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن أخي بن شهاب، عن عمه، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: أقبلت، وقد ناهزت الحلم أسير على أتان لي، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي بمنى حتى سرت بين يدي بعض الصف الأول، ثم نزلت عنها فرتعت فصففت مع الناس وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال البخاري: وقال يونس عن ابن شهاب: بمنى في حجة الوداع (¬2). الراجح: قال ابن المنذر: ليس في باب الختان نهي يثبت، ولا لوقته حد يرجع إليه، ولا سنة تتبع، والأشياء على الإباحة، ولا يجوز حظر شيء منها إلا بحجة، ولا نعلم مع من منع أن يختن الصبي لسبعة أيام حجة (¬3). ¬
الراجح من الخلاف
وقد قال سفيان بن عيينة: قال لي سفيان الثوري: أتحفظ في الختان وقتاً؟ قلت: لا. قلت: وأنت لا تحفظ فيه وقتاً؟ قال: لا (¬1). وقد قال أحمد في وقت الختان: لم أسمع فيه شيئاً (¬2). وقال ابن تيمية: أما الختان فمتى شاء اختتن، لكن إذا راهق البلوغ فينبغي أن يختن كما كانت العرب تفعل، لئلا يبلغ إلا وهو مختون (¬3). وقوله: " ينبغي " لا يدل على الوجوب. الراجح من الخلاف الصحيح أن الختان لا يجب إلا بالبلوغ؛ لأنه وقت التكليف. وأما قول ابن القيم رحمه الله: يجب على الصبي الختان قبل البلوغ؛ لأن ذلك مما لا يتم الواجب إلا به. فإن كان يقصد وجوب الصلاة فإن صلاة الأقلف صحيحة، وليس الختان شرطاً في صحة الصلاة. وأما الاستدلال بحديث: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع" فليس فيه دليل على مسألتنا؛ لأن الصلاة نفسها لا تجب قبل البلوغ على الصحيح، وإنما الأمر للتربية والتعليم. وأما تطهير النجاسة المحتقنة في القلفة فإنه يمكنه تطهيرها بالمبالغة في الاستنجاء، وتتبع أماكن احتقان البول في القلفة لتكون طهارته صحيحة، وبالتالي صحة صلاته. فالختان كسائر التكاليف لا تجب على الصبي إلا بالبلوغ. والله أعلم. ¬
الفصل الخامس في حكم الختان
الفصل الخامس في حكم الختان وفيه مباحث: المبحث الأول: في حكم الختان للذكر. المبحث الثاني: في حكم الختان للأنثى. المبحث الثالث: في حكم الختان للخنثى. المبحث الرابع: في حكم ختان الميت.
المبحث الأول في ختان الذكر
المبحث الأول في ختان الذكر اختلف الفقهاء في حكم ختان الذكر. فقيل: الختان سنة وهو مذهب الحنفية (¬1)،والمالكية (¬2)، واختاره بعض الشافعية (¬3). ¬
دليل القائلين بأن الختان سنة
وقيل: بل هو واجب. وهو المشهور من مذهب الشافعة (¬1)، والحنابلة (¬2). دليل القائلين بأن الختان سنة الدليل الأول: (462 - 26) ما رواه أحمد، قال: ثنا سريج، ثنا عباد - يعنى ابن العوام - عن الحجاج، عن أبي المليح بن أسامة، عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الختان سنة للرجال، مكرمة للنساء (¬3). ¬
[الحديث ضعيف] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ولو صح، لم يكن المراد بالسنة خلاف الواجب، بل السنة في اللغة وفي لسان الشارع تطلق على الطريقة، وهي تشمل الواجب والمستحب. بل إن إطلاق السنة على المستحب إصطلاح حادث. قال ابن دقيق العيد: كون السنة في مقابلة الواجب وضع اصطلاحي لأهل الفقه، والوضع اللغوي غيره، وهو الطريقة (¬1). وتعقب هذا الجواب: بأنه لما وقع التفرقة بين الرجال والنساء في ذلك دل على أن المراد افتراق الحكم. ورد: بأنه لم ينحصر في الوجوب، فقد يكون في حق النساء للإباحة، بل ¬
إن قوله: " مكرمة " قد يشعر بأن المراد بالسنة الواجب. لأن المكرمة: المقصود بها: الكرامة، والكرامة بمعنى المستحب، فتكون مقابلة للواجب. على أنهم اختلفوا في معنى مكرمة. فقيل: معنى ذلك: أي محل لكرمهن، أي بسببه يصرن كرائم عند أزواجهن (¬1)، فتكون ذات منزلة وكرامة. وقيل: مكرمة؛ لأنه يتسبب عنه رونق الوجه وبريقه ولمعانه، ويطيب الجماع للزوج، وقد جاء في الحديث: " اخفضي ولا تنهكي؛ فإنه أنضر للوجه وأحظى عند الزوج " (¬2). وقد سبق تخريجه. وقد فسره الحنفية في كتبهم بأن معنى مكرمة: أي أطيب وألذ في الجماع (¬3). ولو صح الحديث لكان معنى مكرمة والله أعلم: أي أن الشارع أكرمها بهذا التشريع. وإكرامها إما لأنه لم يلزمها فجعل الخيار لها؛ لأنه جعله في مقابل السنة في ختان الرجل أي لا زم له، وإما إن هذا التشريع قصد به إكرامها، ولم يقصد به إهانتها، كما هو سائر الأحكام التي تخص المرأة، إلا أنه يشكل عليه أنه مكرمة للرجل أيضاً، وليس له معنى تخصيص المرأة بهذا. والله أعلم. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرنه في المستحبات دون الواجبات فيأخذ حكمهن. (463 - 27) فقد روى البخاري رحمه الله قال: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: الفطرة خمس: الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار، ونتف الآباط. ورواه مسلم (¬1). فإذا كانت هذه الخصال المذكورة مع الختان مستحبة، فكذلك الختان. وأجيب على ذلك: أولاً: دلالة الاقتران من أضعف الدلالات. وقد قال سبحانه وتعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} (¬2). وإتيان الحق واجب والأمر مباح، ومثله قوله تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم} (¬3)، والإيتاء واجب، والكتابة سنة، فالأمر المباح أو المندوب حين اقترن بالأمر الواجب لم يعط حكمه. فكذلك الختان (¬4). ثانياً: لا نسلم أن هذه الأمور الخمسة مستحبة، بل واجبة؛ فالأمور التي من الفطرة، وفطر عليها البشر لا يمكن أن تكون مخالفتها مخالفة لأمور مستحبة فقط. ¬
قال ابن العربي: " والذي عندي أن الخصال الخمس المذكورة في هذا الحديث كلها واجبة؛ فإن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين، فكيف من جملة المسلمين " (¬1). (464 - 28) وقد روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد كلاهما، عن جعفر - قال يحيى أخبرنا جعفر بن سليمان - عن أبي عمران الجوني، عن أنس بن مالك قال: قال أنس: وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وقول الصحابي: " وقت لنا " على البناء للمجهول له حكم الرفع، كقول الصحابي: " أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا ". قال الشوكاني: المختار أنه يضبط بالأربعين التي ضبط بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يجوز تجاوزها (¬1). (465 - 29) ومما يدل أيضاً على الوجوب ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى، عن يوسف بن صهيب (ح) ووكيع، ثنا يوسف، عن حبيب بن يسار، عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من لم يأخذ من شاربه فليس منا (¬2). ¬
[إسناده صحيح] (¬1). فهذا الحديث يدل على أن الأخذ من الشارب واجب، بل لو قيل: إن تاركه مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب لم يكن بعيداً لهذا العقاب. فهذا الحديث، والحديث الذي قبله يدلان أن سنن الفطرة ليست مستحبة، وإنما هي واجبة، فيسقط القول بأن الختان قرن بما هو مستحب، ¬
الدليل الثالث
فيكون مستحباً (¬1). الدليل الثالث: (466 - 30) ما رواه البخاري في الأدب المفرد، قال: حدثنا محمد، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا معتمر، قال: حدثني سلم بن أبي الذيال (وكان صاحب حديث) قال: سمعت الحسن يقول: أما تعجبون لهذا (يعني مالك بن المنذر) عمد إلى شيوخ من أهل كسكر أسلموا ففتشهم، فأمر بهم فختنوا في هذا الشتاء فبلغني أن بعضهم قد مات، ولقد أسلم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرومي والحبشي فما فتشوا عن شيء (¬2). [رجاله ثقات] ورده ابن القيم، فقال: جوابه أنهم استغنوا عن التفتيش بما كانوا عليه من الختان، فإن العرب قاطبة كانوا يختتنون، واليهود قاطبة تختتن، ولم يبق إلا النصارى، وهم فرقتان: فرقة تختتن، وفرقة لا تختتن، وقد علم كل من دخل الإسلام منهم ومن غيرهم أن شعار الإسلام الختان، فكانوا يبادورن إليه بعد الإسلام، كما يبادرون إلى الغسل " (¬3). قلت: ومما يؤيد كلام ابن القيم، ان قيصر أطلق على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ملك ¬
دليل القائلين بالوجوب
الختان كما في البخاري (¬1). دليل القائلين بالوجوب. الدليل الأول: اختتن إبراهيم، وكان الختان مما ابتلى الله به إبراهيم، فكان من شريعته، وقد أمرنا باتباع ملته عليه الصلاة والسلام، كما في قوله تعالى: {ثم أو حينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً} (¬2). (467 - 31) أما الدليل على اختتانه، فقد أخرج البخاري رحمه الله، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن القرشي، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اختتن إبراهيم عليه السلام، وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم. ورواه مسلم (¬3). وأما الدليل على كون الختان مما ابتلى الله به إبراهيم (468 - 32) فقد روى البيهقي، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا ¬
أبو زكريا العنبري، ثنا: محمد بن عبد السلام، ثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا عبد الرزاق، ثنا: معمر عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله عز وجل: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} قال: ابتلاه الله عز وجل بالطهارة، خمس في الرأس وخمس في الجسد: في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل مكان الغائط والبول بالماء. [وإسناده صحيح] (¬1). والابتلاء غالباً إنما يقع بما يكون واجباً وأما الدليل على كوننا مأمورين باتباع ملته، فقال سبحانه وتعالى: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً} (¬2) (¬3). وتعقب هذا الاستدلال: بأنه لا يلزم ما ذكر إلا إذا كان إبراهيم فعله على سبيل الوجوب، فإن من الجائز أن يكون فعله على سبيل الندب، فيحصل امتثال الأمر باتباعه على وفق ما فعل، وقد قال الله سبحانه وتعالى في حق نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: {واتبعوه لعلكم تهتدون} (¬4)، ومع هذا الأمر باتباعه فقد تقرر في الأصول أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - بمجردها لا تدل على الوجوب، وأيضاً هناك قرينة من الحديث أنه ليس ¬
الدليل الثاني
بواجب، لأن من الخصال العشر ما ليس بواجب علينا كالسواك وفرق الرأس. والله أعلم. الدليل الثاني: (469 - 33) ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الرزاق أنا ابن جريح قال أخبرت، عن عثيم بن كليب، عن أبيه، عن جده، أنه جاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: قد أسلمت. فقال: ألق عنك شعر الكفر. يقول: أحلق. قال: وأخبرني آخر معه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لآخر: ألق عنك شعر الكفر واختتن (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬
الدليل الثالث
ولو صح لم يدل على الوجوب، لأن حلق شعر الكافر ليس بواجب، فكذلك الختان. الدليل الثالث: قالوا: إن القلفة تحبس النجاسة، فتتوقف على قطعها صحة الصلاة، كمن أمسك نجاسة في فمه. وفي هذا نظر: من وجهين: الوجه الأول: أن الفم في حكم الظاهر، بدليل أن وضع المأكول فيه لا ¬
الدليل الرابع
يفطر به الصائم، بخلاف داخل القلفة فإنه في حكم الباطن، وقد صرح أبو الطيب الطبري بأن هذا القدر مغتفر. الوجه الثاني: أن بإمكانه تطهير القلفة من النجاسة كل ما تبول، والأقلف صلاته صحيحة، وليس الختان شرطاً في صحة الطهارة. الدليل الرابع: جواز كشف العوارة من المختون، وجواز نظر الخاتن إليها - وقد ذكرنا أنه يشرع الختان لمن بلغ أو قارب البلوغ - وكشف العورة والنظر إليها حرام، فلو لم يجب لما أبيح ترك واجبين، وارتكاب محظورين. وتعقب: بأن كشف العورة مباح للحاجة، وليس للضروة، فالحاجة تبيح كشف العورة، ولذلك أبيح النظر إلى العورة بالمداواة، وليس ذلك واجباً إجماعاً، وإذا جاز في المصلحة الدنيوية، كان في المصلحة الشرعية أولى. وقد قال بعضهم: قد يترك الواجب لغير الواجب كترك الإنصات للخطبة يوم الجمعة بالتشاغل بركعتي تحية المسجد، وكشف العورة للمداواة مثلها. الدليل الخامس: أن الولي يؤلم فيه الصبي إيلاماً بالغاً، ويخرج من ماله أجرة الخاتن، وثمن الدواء، ولا يضمن سرايته بالتلف، ولو لم يكن واجباً لما جاز ذلك، فإنه لا يجوز له إضاعة ماله، وإيلامه الألم البالغ، وتعريضه للتلف بفعل مالا يجب فعله. الدليل السادس: قالوا: بأن الختان واجب؛ لأنه من شعار الدين، وبه يعرف المسلم من
الدليل السابع
الكافر، حتى ولو وجد مختوناً بين جماعة قتلى غير مختونين صلي عليه، ودفن في مقابر المسلمين. وأجيب: بأن شعائر الدين ليست كلها واجبة، فمنها ما هو واجب، كالصلوات الخمس والحج والصيام، ومنها ما هو مستحب كالتلبية وسوق الهدي وتقليده، ومنها ما هو مختلف في وجوبه كالأذان والعيدين والأضحية والختان. وما ذكر في المقتول مردود؛ لأن اليهود وكثيراً من النصارى يختتنون، فليقيد ما ذكر بالقرائن. الدليل السابع: الختان قطع عضو سليم من البدن، فلو لم يجب لم يجز كقطع الأصبع، فإن قطعها إذا كانت سليمة لا يجوز إلا إذا وجب بالقصاص. وتعقب: بأن قطع العضو إذا كان فيه مصلحة للبدن، يجوز، ولو لم يكن القطع واجباً، والختان فيه عدة مصالح كمزيد الطهارة والنظافة، فإن القلفة من المستقذارت عند العرب، وقد كثر ذم الأقلف في أشعارهم، وكان للختان عندهم قدر، وله وليمة خاصة به. الدليل الثامن: (470 - 34) ذكر ابن حجر في التلخيص، ما رواه حرب بن إسماعيل في مسائله عن الزهري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أسلم فليختتن (¬1). ¬
الدليل التاسع
وهذا مرسل، ومراسيل الزهري من أضعف المراسيل (¬1). الدليل التاسع: (471 - 35) ما رواه البيهقي في السنن الكبرى، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن بندار القزويني بمكة، ثنا أبو محمد بن سهل بن أحمد الديباجي، ثنا أبو علي محمد بن محمد بن الأشعث (ح) وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو بكر محمد بن داود بن سليمان الصوفي، قال: قرئ على أبي علي محمد بن محمد بن الأشعث الكوفي، حدثني موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب، ثنا أبي، عن أبيه، عن جده جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين بن علي، عن أبيه، عن أبيه علي رضي الله تعالى عنه قال: وجدنا في قائم سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيفة، إن الأقلف لا يترك في الإسلام حتى يختتن، ولو بلغ ثمانين سنة. قال البيهقي: وهذا حديث ينفرد به أهل البيت عليهم السلام بهذا ¬
الإسناد (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). وهناك أدلة ذكروها في عدم صحة إمامته وذبيحته وحجة، نترك ذكرها لأني أفردتها في بحث مستقل. هذه أهم الأدلة التي استدل بها من يرى الوجوب. ¬
المبحث الثاني في ختان المرأة
المبحث الثاني في ختان المرأة فقيل: الختان سنة في حق الرجل مكرمة في حق المرأة (أي مستحب) ولو تركته لم تجبر عليه. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2). وقيل: ختان المرأة سنة. اختاره بعض الحنفية (¬3)، وبعض المالكية (¬4)، ¬
دليل القائلين بأنه سنة
وبعض الشافعية (¬1)، وهو رواية عن أحمد (¬2). وقيل: يجب ختان المرأة، كما يجب على الرجل، وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). دليل القائلين بأنه سنة. استدل القائلون بأن الختان سنة في حق المرأة بنفس أدلتهم في قولهم بأن الختان سنة في حق الرجل. دليل القائلين بأنه واجب في حق المرأة. ساقوا الأدلة في وجوب الختان، قالوا: وهي مطلقة، فتشمل الرجل والمرأة، انظر أدلتهم في القول بوجوب الختان على الرجل في المسألة التي قبل هذه. دليل القائلين بأنه مستحب وليس بسنة. قالوا: إن الختان في حق الرجل يتعلق بالطهارة من النجاسة المحتقنة في القلفة، والطهارة شرط في صحة الصلاة التي هي الركن الثاني من أركان ¬
الإسلام، بينما المقصود من ختان المرأة تعديل شهوتها، فإنها إذا كانت قلفاء كانت مغتلمة شديدة الشهوة، وهي طلب كمال لا أكثر فلا ترقى إلى الاستحباب. والذي تميل له نفسي بعض الميل أن الختان واجب في حق الرجل، سنة في حق المرأة. قال ابن قدامة: " فأما الختان فواجب على الرجال، ومكرمة في حق النساء، وليس بواجب عليهن. هذا قول كثير من أهل العلم. قال أحمد: الرجل أشد؛ وذلك أن الرجل إذا لم يختتن فتلك الجلدة مدلاة على الكَمَرَة، ولا يُنَقَّى ما ثَمَّ، والمرأة أهون " (¬1). ¬
شبهة وردها
شبهة وردها: في بعض البلاد الإسلامية صدق قرار وزاري بمنع إجراء ختان الإناث بالمستشفيات أو العيادات العامة والخاصة، وقصر إجرائها على الحالات المرضية. وقامت على إثره هجمة شرسة على ختان المرأة. وقد ألغت محكمة القضاء الإداري في تلك البلاد قرار وزير الصحة. وجاء في جريدة القبس في تاريخ 14/ 11/ 1989 بأن نحو مائتي مسلم في بلغاريا قتلوا، وهم يقاومون أوامر صدرت بتحريم الختان، سواء بالنسبة للذكور والإناث. وهناك من يصف خفاض الإناث بأنه وحشية، وهي حملة غربية ودخيلة على الأمة الإسلامية، تدعي أن خفاض الإناث ينجم عنه أضرار سيئة تلحق بالفتاة من الناحية الصحية كالنزيف وإصابة مجرى البول إلى آخر ما هنالك من أضرار تنجم عن سوء إجراء عملية الخفاض. وأريد أن أثبت أن ختان المرأة مشروع في الإسلام، وليس فيه خلاف في مشروعيته، وإنما الخلاف في وجوبه. قال ابن حزم في مراتب الإجماع: " واتفقوا على إباحة الختان للنساء" (¬1). وقال ابن القيم: لا خلاف في استحبابه للأنثى، واختلف في وجوبه (¬2). (472 - 36) وقد روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، ثنا هشام وشعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، ¬
عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قعد بين شعبها الأربع، وألزق الختان بالختان فقد وجب الغسل (¬1). (473 - 37) وفي مسلم أيضاً، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا هشام بن حسان، حدثنا حميد بن هلال، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري (ح) وحدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى - وهذا حديثه - حدثنا هشام، عن حميد بن هلال، قال: ولا أعلمه إلا عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق أو من الماء، وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل. قال: قال أبو موسى فأنا أشفيكم من ذلك، فقمت، فاستأذنت على عائشة، فأذن لي. فقلت: لها يا أماه أو يا أم المؤمنين إني أريد أن أسألك عن شيء، وإني أستحييك. فقالت: لا تستحيي أن تسألني عما كنت سائلاً عنه أمك التي ولدتك، فإنما أنا أمك. قلت: فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان فقد وجب الغسل (¬2). فقوله: " وألزق الختان بالختان " دليل على أن المرأة تختن، وأن هذا معروف في زمن الصحابة، وواضح أن من عادتهم ختان الأنثى. نعم قد يقوم بالختان من لا يحسن الختان من النساء والرجال، ورأيت ¬
كثيراً في مجتمعنا في السابق من يذهب في ختان الأولاد إلى الحلاقين، والعوام الذين لا يحسنون المهنة، فينجم عن ذلك أضرار بالغة، ولا يعنى هذا أن يترك الختان من أجل سوء التصرف، بل ينبغي أن تكون هناك توعية للناس بأن يذهبوا إلى الأطباء المتخصصين. والله الموفق. قال أحد الأطباء: أن ما يتم في مناطق كثيرة من العالم، ومنه بعض بلاد المسلمين مثل الصومال والسودان وأرياف مصر من أخذ البظر بأكمله، أو أخذ البظر والشفرين الصغيرين، أو أخذ ذلك كله مع إزالة الشفرين الكبيرين، فهو مخالف للسنة، ويؤدي إلى مضاعفات كثيرة، وهو الختان المعروف باسم الختان الفرعوني، وهو على صفة لا علاقة له بالختان الذي أمر به المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. ومضار هذا النوع من الختان المخالف للسنة، كما يلي: أولاً: المضاعفات الحادة: مثل النزيف والالتهابات الميكروبية نتيجة إجراء عملية الختان في مكان غير معقم، وأدوات غير معقمة، وبواسطة خاتنة لا تعرف من الطب والجراحة إلا ما تعلمته من الخاتنات مثلها. ثانياً: مضاعفات متأخرة: مثل البرود الجنسي، والرتق، وهو التصاق فتحة الفرج مما يؤدي إلى صعوبة الجماع، وصعوبة الولادة، وتعسرها عند حدوثها. وهذا كله ناتج عن مخالفة السنة، واتباع الأهواء، والعادات الفرعونية، ولا بد أن يجري الختان كما أمر المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ثم يجب أن يتم بواسطة طبيبة لديها التدريب الكافي لإجراء الختان، وفي مكان معقم، وبأدوات معقمة، مثل أي عملية جراحية.
ولذا فإن الضجة المفتعلة ضد ختان البنات لا مبرر لها؛ لأن المضاعفات والمشاكل ناتجة عن شيئين لا ثالث لهما: مخالفة السنة، والثاني: إجراء العملية بدون تعقيم، ومن قبل غير الأطباء. ولو تمت أي عملية بدون تعقيم، وكان الذي يجريها لا علاقة له بالطب فإن مضاعفاتها ستكون مروعة (¬1). ¬
فرع في أنواع الخفاض
فرع في أنواع الخفاض جاء في تقرير الدكتور مأمون الحاج إبراهيم: أستاذ أمراض النساء والولادة بكلية الطب بجامعة الكويت بيان أنواع كيفية ممارسة الخفاض: النوع الأول: يقصد به إزالة قطعة الجلد التي تكون في أعلى الفرج - كما سبق- وقد يزاد على ذلك. النوع الثاني: خياطة الشفرين الصغيرين، من غير إزالة أجزاء منهما، وذلك لتضييق فتحة المهبل. وهذا مخالف للشرع. النوع الثالث: ويعرف باسم الخفاض الفرعوني، وهو أشدها، والذي بدأت ممارسته في مصر القديمة أيام الفراعنة. وفي هذا النوع تتم إزالة البظر، والشفرين الصغيرين، ومعضم الشفرين الكبيرين، ثم تتم عملية خياطة الجانبين لقفل فتحة المهبل، وتترك فتحة صغيرة جداً في الجزء الأسفل من المهبل لخروج البول، ودم الحيض. والشفران الصغيران يقعان بين الشفرين الكبيرين، وفيهما الأنسجة الدموية والأعصاب، ويشكلان مع البظر أكثر الأعضاء الجنسية حساسية. أما البظر فيقع في مقدمة الأعضاء التناسلية الخارجية، فوق فتحة البول،
وهو أكثر الأعضاء حساسية عند المرأة. ويصاحب هذا النوع كثير من المضاعفات مثل النزيف الحاد، والتهاب مجاري البول، والالتهاب التناسلي، والصدوة أو الموت، خاصة أنه يعمل بواسطة نساء غير مؤهلات طبياً، وليس لهن دراية بالعمليات الجراحية (¬1). ¬
المبحث الثالث في ختان الخنثى
المبحث الثالث في ختان الخنثى اختلف العلماء في ختان الأنثى فقيل: يختن الخنثى، ولكن لا يختنه أجنبي بعد المراهقة، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: لا يجوز ختانه. وهو وجه في مذهب المالكية (¬2)، وأصح الوجهين ¬
في مذهب الشافعية (¬1). وقيل: يختن نفسه. اختاره بعض المالكية (¬2). وقيل: لا يختن في صغره، فإذا بلغ وجب ختان فرجيه. وهو وجه مرجوح في مذهب الشافعية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). فتلخص من هذه الأقوال أربعة أقوال: - أنه لا يختن بعد البلوغ إلا من أمته أو زوجته، وأما قبل المراهقة فيجوز مطلقاً. - أنه يجب على الإمام أن يزوجه ختانة. - أنه لا يجوز ختانه مطلقاً. - أنه يجب ختان فرجيه بعد البلوغ مطلقاً فإن أمكن أن يختنه من يحل له النظر إلى عورته، وإلا جاز ختانه من أجنبي ضرورة. ¬
دليل القائلين بأنه يختن ولكن من أمته أو زوجته
دليل القائلين بأنه يختن ولكن من أمته أو زوجته. قالوا: لا يجوز للرجل أن يختنه لاحتمال أنه أنثى، ولا يحل له النظر إلى عورتها، ولا يحل لامرأة أجنبية أن تختنه لاحتمال أنه رجل، فلا يحل لها النظر إلى عورته، فيجب الاحتياط في ذلك، وذلك أن يشترى له من ماله جارية تختنه إن كان له مال؛ لأنه إن كان أنثى فالأنثى تختن الأنثى عند الحاجة. وإن كان ذكراً فتختنه أمته؛ لأنه يباح لها النظر إلى فرج مولاها، وإن لم يكن له مال يشتري له الإمام من مال بيت المال جارية ختانة، فإذا ختنته باعها، ورد ثمنها إلى بيت المال؛ لأن الختان من سنة الإسلام، وهذا من مصالح المسلمين، فيقام من بيت مالهم عند الحاجة والضرورة، ثم تباع ويرد ثمنها إلى بيت المال لاندفاع الحاجة والضرورة (¬1). دليل القائلين بأن على الإمام أن يزوجه امرأة ختانة. قالوا: لأنه إن كان ذكراً فللمرأة أن تختن زوجها، وإن كان أنثى فالمرأة تختن المرأة عند الحاجة (¬2). وتعقب هذا بقولهم: إن زجناه كان عقد النكاح مشكوكاً فيه، فإن صح كانت المرأة معلقة لا يمكنها الخلاص منه، ولا يتيقن أيضاً وجوب المهر بالعقد، ولا وجوب الميراث إن مات وهو مشكل، ولا يدرى هل تلزمه نفقة أم لا (¬3). ¬
دليل القائلين لا يجوز ختانه مطلقا
دليل القائلين لا يجوز ختانه مطلقاً. قال البغوي: لا يختن الخنثى المشكل؛ لأن الجرح على الإشكال لا يجوز. قال النووي: وهذا الذي ذكره البغوي هو الأظهر والمختار. والله أعلم (¬1). دليل من قال يجب ختان فرجيه بعد البلوغ. قالوا: إن ختن أحد فرجيه واجب، ولا يتوصل للواجب إلا بختنهما جميعاً، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (¬2). الراجح: يترك الأمر للطبيب الثقة، فلا شك أن الطب تقدم في هذا المجال، وأصبح باستطاعته أن يتحقق من الخنثى، هل هي رجل أو امرأة، وكان بالإمكان إجراء جراحة طبية لتغليب أحد الجنسين، فإذا قال الطبيب: إن هذا الخنثى امرأة، إما لوجود رحم في جوفها، ووجود مبايض، ونحو ذلك من جريان الحيض ونحوه كان الحكم فيها حكم ختان الأنثى. وإن قال الطبيب: إنه رجل، إما لوجود خصيتين مختفيتين، ولوجود ¬
هرمون الذكورة فيه، فيكون الخلاف فيه كالخلاف في ختان الرجل. وإن عجز الطب عن تحديد جنس الرجل، كان ختانه إن كان الأمر يتعلق بالطهارة من النجاسة، فله حكم الرجل، وإلا كان له حكم ختان الأنثى. والله أعلم.
فرع حكم ما لوكان للرجل ذكران
فرع حكم ما لوكان للرجل ذكران قال النووي: لوكان لرجل ذكران. قال صاحب البيان: إن عرف الأصلي منهما ختن وحده. قال صاحب الإبانة: يعرف الأصلي بالبول. وقال غيره: بالعمل، فإن كانا عاملين أو يبول منهما، وكانا على منبت الذكر على السواء، وجب ختانهما (¬1). ¬
المبحث الرابع في حكم ختان الميت
المبحث الرابع في حكم ختان الميت اختلف الفقهاء في المسلم يموت غير مختون هل يختن بعد موته. فقيل: لا يختن، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3)، واختيار ابن تيمية (¬4). وقيل: يختن مطلقاً الكبير والصغير، وهو وجه مرجوح في مذهب الشافعية (¬5)، واختيار ابن حزم (¬6). وقيل: يختن الكبير دون الصغير، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬7). دليل من قال لا يختن مطلقاً. التعليل الأول: قالوا: إن الختان كان تكليفاً، وقد زال التكليف بالموت. ¬
التعليل الثاني
التعليل الثاني: قالوا: المقصود من الختان الطهارة من النجاسة، وقد زالت الحاجة بموته. التعليل الثالث: قالوا: إن الختان جزء من الميت، فلا يقطع كيده المستحقة في قطع السرقة أو القصاص، وهي لا تقطع من الميت. ويمكن مناقشة هذا التعليل: بأن هذا قياس مع الفارق؛ لأن عدم قطع جزء من الميت في القصاص لحق الآدمي، وقد فات بالموت، وأما في مسألة الختان فهي عبادة وقربة، كتغسيله بعد الموت، والله أعلم. دليل من قال يختن مطلقا. الدليل الأول: قال: ثبت أن حلق العانة من الفطرة، فلا يجوز أن يجهز إلى ربه تعالى إلا على الفطرة التي مات عليها. الدليل الثاني: (474 - 38) روى عبد الرزاق في مصنفه، قال: عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، أن سعد بن مالك حلق عانة ميت (¬1). إسناده صحيح إن كان سمع أبو قلابة من أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. ولا يعلم له مخالف من الصحابة، وإذا جاز هذا في العانة جاز في الختان، لأن محلهما العورة. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: القياس على أخذ شاربه، وتقليم أظفاره، ونتف إبطه. وأجيب: بأن أخذ الشارب، وتقليم الظفر، ونتف الإبط من تمام طهارته، وإزالة وسخه ودرنه، بخلاف الختان فهو قطع عضو من أعضائه، والمعنى الذي شرع له في الحياة قد زال بالموت، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه يبعث يوم القيامة غراً غير مختون، فما الفائدة في قطع عضو منه، سوف يبعث به يوم القيامة، وهو من تمام خلقه في النشأة الأخرى (¬1). (475 - 39) والدليل على كونه يحشر غير مختون، ما رواه البخاري، قال: حدثني محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قام فينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فقال: إنكم تحشرون حفاة عراة غرلا، كما بدأنا أول خلق نعيده. الآية الحديث قطعة من حديث طويل (¬2). دليل من قال يختن إن كان كبيراً. قالوا: إن الصغير قد مات قبل زمن التكليف، فلا يختن، بخلاف من مات، وهو مكلف، فقد وجب في حقه الختان فيختن ¬
الفصل السادس في من يولد وهو مختون
الفصل السادس في من يولد وهو مختون اختلف الفقهاء فيمن ولد مختوناً. فقيل: يستحب إمرار الموسى على موضع الختان. اختاره بعض المالكية (¬1). وقيل: من ولد مختوناً بلا قلفة، فلا ختان عليه لا إيجاباً ولا استحباباً، فإن وجد في القلفة شيء يغطي الحشفة أو بعضها قطع، كما لو ختن ختاناً غير كامل، فإنه يجب تكميله حتى يبين جميع القلفة التي جرت العادة بإزالتها في الختان. رجحه ابن رشد من المالكية (¬2)، وهو مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). دليل من قال يجب إمرار الموسى. الدليل الأول: قالوا: قياس على إمرار الموسى على رأس الأقرع في حلق الرأس في الحج. ونظيره أيضاً إمرار السواك على فم من ذهبت أسنانه (¬5). ¬
الدليل الثاني
والصحيح أنه لا يجب إمرار الموسى على رأس الأقرع، وإذا سقط المقيس، سقط المقيس عليه. وأما إمرار السواك على فم من ذهبت أسنانه فإن السواك لا يختص بالأسنان، فالسواك مشروع للثة واللسان، كما هو مشروع للأسنان، فلا يصح القياس عليه أيضاً. الدليل الثاني: (476 - 40) ما رواه البخاري في صحيحه، قال: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. ورواه مسلم (¬1). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " فكان الواجب أمرين: مباشرة الحديدة والقطع، فإذا سقط القطع فلا أقل من استحباب مباشرة الحديدة. دليل من قال لا يجب. قالوا: إن مجرد امرار الموسى على ذكره عبث، ولا فائدة منه، ولا يتقرب إلى الله تعالى بمثله، وتنزه عنه الشريعة، وإمرار الموسى غير مقصود، بل هو وسيلة إلى فعل المقصود، فإذا سقط المقصود لم يبق للوسيلة معنى (¬2). وهذا القول هو الراجح المتعين. ¬
فرع
فرع ذكر ابن القيم: أن العرب تزعم أن من ولد في القمر تقلصت قلفته، وتجمعت، ولهذا يقولون: ختنه القمر!! قال ابن القيم: وهذا غير مطرد، ولا هو أمر مستمر، فلم يزل الناس يولدون في القمر، والذي يولد بلا قلفة نادر جداً، ومع هذا فلا يكون زوال القلفة تاماً، بل يظهر رأس الحشفة، بحيث يبين مخرج البول، ولهذا لا بد من ختانه ليظهر تمام الحشفة، وأما الذي يسقط ختانه بإن تكون الحشفة كلها ظاهرة، وأخبرني صاحبنا محمد بن عثمان الخليلي المحدث ببيت المقدس أنه ممن ولد كذلك (¬1). فرع آخر سئل ابن الصلاح عن صبي شمر غرلته وربطها بخيط، وتركها مدة، فتشمرت، وانقطع الخيط، وصار كالمختون بحيث لا يمكن ختانه؟ فأجاب: بأنه إن صار بحيث لا يمكن قطع غرلته، ولا شيء منها إلا بقطع غيرها، سقط وجوبه. وإن أمكن: فإن كانت الحشفة قد انكشفت كلها سقط أيضاً إلا أن يكون تقلص الغرلة واجتماعها بحيث ينقص عن المقطوع في طهارته وجماعه، فالذي يظهر وجوب قطع ما يمكن قطعه منها حتى يلتحق بالمختون في ذلك، وإن لم تنكشف كلها فيجب من الختان ما يكشف جميعها (¬2). ¬
الفصل السابع في موانع الختان
الفصل السابع في موانع الختان يسقط وجوب الختان لأمور، منها: الأول: أن يولد الرجل ولا قلفة له، وقد ذكرت خلاف العلماء فيه، والراجح أنه لا يجب عليه ختان. الثاني: ضعف المولود عن احتماله، بحيث يخاف عليه من التلف، ويستمر به الضعف كذلك، فهذا يعذر في تركه إذ غايته أنه واجب فيسقط بالعجز عنه كسائر الواجبات الثالث: أن يسلم الرجل كبيراً، ويخاف على نفسه منه، فهذا يسقط عنه عند الجمهور، ونص عليه أحمد في رواية جماعة من أصحابه، وذكر قول الحسن أنه قد أسلم في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - الرومي والحبشي والفارسي فما فتش عن أحد منهم. وخالف سحنون بن سعيد الجمهور فلم يسقطه عن الكبير الخائف على نفسه. وهو قول في مذهب أحمد حكاه ابن تميم وغيره. الرابع: الموت. قال ابن القيم: فلا يجب ختان الميت باتفاق الأمة، وهل يستحب؟ فجمهور أهل العلم على أنه لا يستحب، وهو قول الأئمة الأربعة، وذكر بعض الأئمة المتأخرين أنه مستحب. وقد ذكرت أدلة كل قول في مسألة مستقلة (¬1). هذه بعض الموانع التي يذكرها الفقهاء، ويضع بعض الأطباء موانع أخرى نلحقها بهذه الموانع: ¬
الخامس
الخامس: إذا كان الطفل مصاباً بتشوهات خلقية في الأعضاء التناسلية. السادس: إذا كان الطفل يعاني من أمراض الدم مثل الهيموفيليا (الناعور)، أو نزف دموي، أو زيادة كبيرة في مادة البيليروبين (Bilirubin) (مادة الصفراء) في الدم، وهذه الأسباب كلها وقتيه، وبالتالي يمكن إجراء الختان بعد استقرار حالة الطفل، وحصوله على المواد المانعة للنزف، فمريض الناعور مثلا يمكن إجراء العمليات الجراحية بعد أخذ حقنة من الجلوبيولين المضاد للناعور، وهكذا في سائر أمراض الدم. أما إذا كان مصاباً بسرطان خلايا الدم البيضاء (اللوكميا) أو غيرها من الأمراض الخطيرة فلا داعي آنذاك لأجراء الختان. السابعة: أن تكون حالة الوليد غير مستقرة ويحتاج إلى إجراءات إدخاله الحضانة، فيترك حتى تتحسن حالته وتستقر (¬1). ¬
الفصل الثامن في عبادة الأقلف
الفصل الثامن في عبادة الأقلف وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: في طهارة الأقلف. المبحث الثاني: في إمامة الأقلف. المبحث الثالث: في ذبيحة الأقلف. المبحث الرابع: في حج الأقلف. المبحث الخامس: في شهادة الأقلف.
المبحث الأول في طهارة الأقلف
المبحث الأول في طهارة الأقلف. اتفق الفقهاء على أنه إذا كان هناك حرج في غسل ما تحت القلفة فلا يطلب تطهيرها دفعاً للحرج. أما إذا كان تطهيرها ممكناً من غير حرج فالشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2) ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬3)، يوجبون تطهير ما تحت القلفة في الاستنجاء. لأنها واجبة الإزالة، وما تحتها له حكم الظاهر. وذهب الحنفية والمالكية (¬4)، إلى استحباب غسلها في الاستنجاء، لأن الاستنجاء عندهم سنة، وليس بواجب. وأما في الغسل الواجب: فقال المرداوي من الحنابلة: " لو خرج المني إلى قلفة الأقلف أو فرج ¬
المرأة وجب الغسل رواية واحدة. وجزم به في الرعاية، وحكاه ابن تميم عن بعض الأصحاب " (¬1). وقال الكاساني أيضاً: يجب على الأقلف إيصال الماء إلى القلفة. وقال بعضهم: لا يجب. وليس بصحيح؛ لإمكان إيصال الماء إليه من غير حرج (¬2). واختلف الحنفية في وجوب غسل القلفة في الغسل الواجب. فقال الزيلعي: لا يجب عليه أن يدخل الماء داخل جلدة الأقلف؛ لأن خِلْقَةً كقصبة الذكر. قال: وهذا مشكل؛ لأنه إذا وصل البول إلى القلفة ينتقض الوضوء، فجعلوه كالخارج في هذا الحكم، وفي حق الغسل كالداخل حتى لا يجب إيصال الماء إليه عند بعض المشايخ. وقال الكردي: يجب إيصال الماء إليه عند بعض المشايخ، وهو الصحيح، فعلى هذا لا إشكال فيه (¬3). ¬
المبحث الثاني في إمامة الأقلف
المبحث الثاني في إمامة الأقلف اختلف الفقهاء في إمامة الأقلف فقيل: تصح إمامته بلا كراهة، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: تكره مع الصحة، وهو مذهب الجمهور من المالكية (¬2)،والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4). ¬
وقال بعضهم: هذا إذا كان معذوراً في ترك الختان، فإن أصر على تركه بلا عذر، لم تصح إمامته (¬1). وقيل: تصح إمامته بمثله، وهو رواية عن أحمد (¬2). وقيل: لا تصح مطلقاً، وهي رواية عن أحمد (¬3). وقيل: لا تكره إمامته، وإنما يكره أن يكون إماماً راتباً اختاره بعض المالكية (¬4). هذه ملخص الأقوال في المسألة، وإليك دليل كل قول ¬
دليل من قال تصح إمامته
دليل من قال تصح إمامته. قالوا: الأصل الصحة، ولا تبطل العبادة، أو تكره إلا بدليل شرعي، ولا دليل هنا. ولأن العدالة لا تختل بترك الختان، لأن الختان سنة عندنا. ولأن صلاته لنفسه صحيحة، فكذلك صلاته لغيره. دليل من قال تكره إمامته. الدليل الأول: وجه الكراهة عند الشافعية: احتمال وجود النجاسة تحت القلفة. ووجه الكراهة عند الحنابلة، قالوا: أما صحة الصلاة؛ فلأنه ذكر مسلم عدل قارئ، فصحت إمامته كالمختون، والنجاسة تحت القلفة بمحل لا تمكنه إزالتها منه معفو عنها لعدم إمكان إزالتها، وكل نجاسة معفو عنها لا تؤثر في بطلان الصلاة. وأما الكراهة، فلأنه مختلف في صحة إمامته. فكرهنا إمامته خروجاً من الخلاف (¬1). والحقيقة أن الكراهة حكم شرعي، يفتقر إلى دليل شرعي، والخلاف ليس من أدلة الشرع، لا المتفق عليها، ولا المختلف فيها. دليل من قال لا تصح صلاته. استدل من قال بعدم صحة إمامة الأقلف: بأن الختان واجب عليه، وأن تركه للختان موجب للفسق، ولا يرى صحة إمامة الفاسق إلا إذا كان ذلك ¬
الإمام الأعظم. قال في مجمع البحرين: إن كان تاركاً للختان من غير خوف ضرر، وهو يعتقد وجوبه، فسق على الأصح. وفيه الروايتان لفسقه، لا لكونه أقلف، وإن تركه تأولاً أو خائفاً على نفسه التلف لكبر ونحوه: صحت إمامته. انتهى. قال المرداوي متعقباً: الذي قطع به المصنف، والشارح، وابن منجا وغيرهم: أن المنع لعجزه عن غسل النجاسة (¬1). قال في الإنصاف: هل المنع من صحة إمامته لترك الختان الواجب، أو لعجزه عن غسل النجاسة؟ اختلف الأصحاب في مأخذ المنع: فقال بعضهم: تركه الختان الواجب، فعلى هذا إن قلنا: بعدم الوجوب، أو سقط القول به لضرر صحت إمامته. وقال جماعة آخرون: هو عجزه عن شرط الصلاة، وهو التطهر من النجاسة فعلى هذا: لا تصح إمامته إلا بمثله (¬2). والصحيح أنه حتى على القول بفسقه، فإن إمامة الفاسق صحيحة، ولا دليل على البطلان، وكل من صحت صلاته لنفسه صحت صلاته لغيره. ومسألة صحة صلاة الفاسق فيها خلاف بين أهل العلم، وليس هذا مكان بحثها، ولعل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني لإكمال هذا المشروع فأصل إليها إن شاء الله في فقه الصلاة. والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ¬
المبحث الثالث في ذبيحة الأقلف
المبحث الثالث في ذبيحة الأقلف اختلف في ذبيحة الأقلف فقيل: يجوز، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: لا يجوز. وهو مذهب ابن عباس (¬4)، ورواية عن أحمد (¬5). وقيل: تكره ذبيحته، وهو مذهب المالكية (¬6)، ورواية عن أحمد (¬7). دليل من قال لا تحل ذبيحته. الدليل الأول: (477 - 41) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن جابر بن زيد، ¬
الدليل الثاني
عن ابن عباس، قال: الأقلف لا تجوز شهادته، ولا تقبل له صلاة، ولا تؤكل له ذبيحة. قال: وكان الحسن لا يرى ذلك (¬1). [رجال ثقات، ومحمد بن بشر ممن سمع من سعيد بن أبي عروبة قبل الاختلاط] (¬2). الدليل الثاني: (478 - 42) ما رواه البيهقي، قال: أخبرنا أبو طاهر الفقيه، أنبأ أبو طاهر المحمد آباذي، أنبا أبو قلابة، ثنا يحيى بن أبي بكير، ثنا أبو شهاب عبد ربه، عن حمزة الجزري، عن عبد الكريم، عن إبراهيم، عن علقمة، ¬
دليل من قال يجوز أكل ذبيحته
أن علياً رضي الله تعالى عنه كان لا يجيز شهادة الأقلف (¬1). [ضعيف جداً. قال البيهقي: حمزة الجزري تركوه لا يجوز الاحتجاج بخبره]. دليل من قال يجوز أكل ذبيحته. الدليل الأول: عموم قوله سبحانه وتعالى: {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} (¬2). فلو كان الختان شرطاً لبينه سبحانه وتعالى، ولما أغفل الله سبحانه وتعالى ذكره. الدليل الثاني: أن الله سبحانه وتعالى قد أباح ذبائح أهل الكتاب، ومنهم الأقلف، فالمسلم أولى. قال ابن قدامة: إذا أبيحت ذبيحة القاذف والزاني وشارب الخمر، مع تحقيق فسقه، وذبيحة النصراني، وهو كافر أقلف، فالمسلم أولى (¬3). الدليل الثالث: أن الله سبحانه وتعالى خاطب كل مسلم ومسلمة بقوله سبحانه: {إلا ما ذكيتم} (¬4) ولم يستثن الأقلف. ¬
دليل من قال بالكراهة
دليل من قال بالكراهة. دليلهم على الكراهة قول ابن عباس المتقدم، فلعلهم حين رأوا أن هذا قول صحابي، ولا يعلم له مخالف من الصحابة كرهوا ذلك لقوله. الراجح حل ذبيحته. قال ابن حجر: قال ابن عباس في قوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} (¬1) قال: طعامهم ذبائحهم، رواه البخاري معلقاً (¬2)، وهو موصول عند البيهقي من طريق على بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} قال: ذبائحهم (¬3). وقائل هذا يلزمه أن يجيز ذبيحة الأقلف؛ لأن كثيراً من أهل الكتاب لا يختتنون، وقد خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - هرقل وقومه بقوله: {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} (¬4) وهرقل وقومه ممن لا يختتن وقد سموا أهل الكتاب (¬5). ¬
المبحث الرابع في حج الأقلف
المبحث الرابع في حج الأقلف اختلف الفقهاء في حج الأقلف، فقيل: حجه معتبر. وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: لا حج له. وهو رواية عن أحمد، نقلها عنه حنبل، وعلل ذلك بأنها من تمام الإسلام (¬2). الراجح: ما سبق ترجيحه في إمامة الأقلف، وذبيحته، وشهادته هو الراجح هنا. والختان ليس شرطاً في صحة الحج، أو الصلاة أو غيرها، بل ولا شرطاً في صحة الطهارة على الصحيح إذا كان يمكنه تنظيف القلفة، هذا على القول بأنه ليس معفواً عنها، ولا يختلف الحكم هنا سواء كان الختان واجباً أم سنة، وسواء كان ترك الختان لعذر أو لغير عذر. ¬
المبحث الخامس في شهادة الأقلف
المبحث الخامس في شهادة الأقلف اختلف في قبول شهادة الأقلف. فقيل: تقبل شهادته إذا كان عدلاً لم يترك الختان رغبة عن السنة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب المالكية (¬2). وقيل: لا تقبل شهادته، وهو قول في مذهب المالكية (¬3)، والمفهوم من مذهب الشافعية والحنابلة؛ لأنهم يقولون بوجوب الاختتان، وترك الواجب يوجب الفسق، وشهادة الفاسق مردودة (¬4). دليل من قال تقبل شهادته. قالوا: إن الختان سنة، وتركه لا يخل بالعدالة، ولا يوجب الفسق، إلا إذا كان تاركاً للختان استخفافاً بالدين، فهنا ترد شهادته؛ لأن عدالته مجروحة. ¬
دليل من قال ترد شهادته
دليل من قال ترد شهادته. الدليل الأول: (479 - 43) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، قال: الأقلف لا تجوز شهادته، ولا تقبل له صلاة، ولا تؤكل له ذبيحة. قال: وكان الحسن لا يرى ذلك (¬1). الدليل الثاني: قالوا: إن ترك الختان يوجب الفسق، لأن الختان واجب، وهو من فطرة الإسلام. والفاسق ترد شهادته، هذا دليل من يوجب الختان، وأما دليل المالكية القائلين بأن الختان سنة، قالوا: إن الشهادة ترد بترك المروءة. والله أعلم. ¬
الفصل التاسع إجابة الدعوة في وليمة الختان
الفصل التاسع إجابة الدعوة في وليمة الختان فقيل: وليمة الختان سنة، وإجابته كذلك وهو مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب الشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: استحباب وليمة الختان محله في الذكرو دون الإناث، لأنه يخفى ويستحيا من إظهارها، لكن الأوجه استحبابه فيما بينهن خاصة، اختاره ¬
الأذرعي من الشافعية (¬1). وقيل: عمل الوليمة مباح، وإجابة دعوتها مباحة، وهو مذهب المالكية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: الوليمة مكروهة، وحضورها مكروه، اختاره بعض المالكية (¬4)، وهو رواية عن أحمد (¬5). فتلخص لنا أن الأقوال كالتالي: قيل: سنة. وقيل: يستحب إظهار وليمة ختان الذكور دون الإناث. وقيل: مباحة. ¬
دليل من قال بالسنية
وقيل: مكروهة. دليل من قال بالسنية. الدليل الأول: (480 - 44) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن الأوزاعي، قال: أخبرني ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول حق المسلم على المسلم خمس رد السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس (¬1). الدليل الثاني: (481 - 45) ما رواه البخاري، قال: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، حدثني منصور، عن أبي وائل، عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: فكوا العاني، وأجيبوا الداعي (¬2). وهذه الأحاديث في إجابة الداعي، وهي مطلقة، فتشمل كل دعوة، سواء كانت دعوة عرس أم غيرها، أما من حيث مشروعية الوليمة؛ فلما فيها من إطعام الطعام، وهو مشروع في الجملة. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (482 - 46) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها (¬1). الدليل الرابع: (483 - 47) مار واه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: نبئت أن عمر كان إذا سمع صوتاً أنكره، وسأل عنه، فإن قيل: عرس أو ختان أقره (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). الدليل الخامس: (484 - 48) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن ليث، عن نافع، قال: كان ابن عمر يطعم على ختان الصبيان (¬4). ¬
دليل من قال بالكراهة
وإسناده ضعيف من أجل ليث. دليل من قال بالكراهة. (485 - 49) ما رواه أحمد، قال: ثنا محمد بن سلمة الحراني، عن ابن إسحاق يعني محمداً، عن عبيد الله أو عبد الله بن طلحة بن كريز، عن الحسن قال: دعي عثمان بن أبي العاص إلى ختان، فأبى أن يجيب، فقيل له، فقال: إنا كنا لا نأتي الختان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا ندعى له (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). وحمله بعضهم على أنه كان دعوة لختان أنثى، والمستحب إخفاؤه. دليل من قال بالإباحة. قالوا: قلنا بالإباحة لأن الأصل في الأشياء الإباحة. (486 - 50) ولما رواه مسلم، من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ائتوا الدعوة إذا دعيتم (¬3). ولم نقل بالاستحباب، لأثر عثمان المتقدم، حيث قال: كنا لا نأتي الختان، ولا ندعو إليه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد سبق تخريجه، وبيان أنه ¬
الراجح
ضعيف (¬1). الراجح أن إجابة الدعوة مطلقاً واجبة، وهي حق للمسلم على أخيه، ولا دليل في صرفها عن الوجوب، خاصة إذا دعاك بعينك، أما إذا كان أخوك لا يفقدك، وكانت الدعوة عامة للناس، ولم تقصد بالدعوة، ولا يحزن أخوك لفقدك، أو كان يلحقك ضرر بالحضور، إما في مالك أو نفسك، فلا بأس بالتخلف. والله أعلم. ¬
الفصل العاشر في ضمان ما أتلف بالختان
الفصل العاشر في ضمان ما أتلف بالختان الخاتن إذا أذن له في ذلك، وكان الإذن معتبراً، وكان حاذقاً، ولم تجن يده، ولم يتجاوز ما أذن له فيه، وسرى إليه التلف؛ فإنه لا يضمن لأنه فعل فعلاً مباحاً مأذوناً له فيه، ولم يتعد ولم يفرط. قال غانم البغدادي من الحنفية: والفصاد والبزاغ، والحجام والختان لا يضمنون بسراية فعلهم إلى الهلاك إذا لم يجاوز الموضع المعتاد المعهود المأذون فيه، هذا إذا فعلوا فعلاً معتاداً، ولم يقصروا في ذلك العمل (¬1). وقال في التبصرة وهو من المالكية: إذا أذن الرجل لحجام يفصده، أو يختن ولده، أو البيطار في دابة، فتولد من ذلك الفعل ذهاب نفس أو عضو أو تلف الدابة أو العبد، فلا ضمان عليه؛ لأجل الإذن (¬2). وقال ابن قدامة من الحنابلة: " وإذا ختن الولي الصبي في وقت معتدل في الحر والبرد، لم يلزمه ضمان إن تلف به؛ لأنه فعل مأمور به في الشرع، فلم يضمن ما تلف به. اهـ (¬3). وقال أيضاً: إذا فعل الحجام والختان والمطبب ما أمروا به، لم يضمنوا بشرطين: أحدهما: أن يكونوا ذوي حذق في صناعتهم، ولهم بها بصارة ومعرفة؛ لأنه إذا لم يكن كذلك لم يحل له مباشرة القطع، وإذا قطع مع هذا كله كان ¬
مذهب الحنفية
فعلاً محرماً، فيضمن سرايته. الثاني: ألا تجني أيديهم، فيتجاوز ما ينبغي أن يقطع، فإن كان حاذقاً، وتجاوز قطع الختان إلى الحشفة، أو قطع في غير محل القطع، أو في وقت لا يصلح فيه القطع، وأشباه هذا ضمن فيه كله؛ لأنه إتلاف، لا يختلف ضمانه بالعمد والخطأ، فأشبه إتلاف المال، ولأن هذا فعل محرم، فيضمن سرايته كالقطع ابتداء (¬1) أما إذا تعدى، بأن فعل ما لا يجوز له فعله، أو فرط: ترك ما يجب فعله فمات، فقد اختلفوا في مقدار ما يجب عليه، وإليك النقول عنهم: مذهب الحنفية قالوا: لو قطع الختان حشفة الصبي، فمات منه، يجب عليه نصف الدية، وإن برئ منها يجب عليه الدية كاملة؛ لأنه إذا مات حصل موته بفعلين: أحدهما مأذون فيه: وهو قطع الجلدة. والثاني: غير مأذون فيه، وهو قطع الحشفة، فكان ضامناً نصف الدية. وأما إذا برئ جعل قطع الجلدة كأنه لم يكن، وقطع الحشفة غير مأذون فيه، فوجب فيه ضمان الحشفة كاملة، وهو الدية كاملة؛ لأنه عضو مقصود، لا ثاني له في النفس، فيقدر ضمانه بالدية كاملة (¬2). مذهب المالكية: جاء في التبصرة: " إذا كان الخاتن جاهلاً، أو فَعَلَ فعلاً غير ما أذن له ¬
المذهب الشافعي
فيه خطأ، أو يجاوز الحد فيما أذن له فيه، أو قصر فيه عن المقدار المطلوب ضمن ما تولد عن ذلك. قال ابن عبد السلام: وينفرد الجاهل بالأدب، ولا يؤدب المخطئ، وهل يؤدب من لم يؤذن له، فيه نظر " (¬1). وجاء في التاج والإكليل: وإذا أخطأ في فعله، مثل أن يسقي الطبيب المريض ما لا يوافق مرضه، أو تزل يد الخاتن أو القاطع فتجاوز في القطع، أو الكاوي فتجاوز في الكي، أو يد الحجام فيقطع غير الضرس التي أمر بها، فإن كان من أهل المعرفة، ولم يَغُرَّ من نفسه فذلك خطأ يكون على العاقلة، إلا أن يكون أقل من الثلث فيكون في ماله، وإن كان مما لا يحسن، وغَرَّ من نفسه، فعليه العقوبة. واختلف على من تكون الدية، فقال ابن القاسم: على العاقلة، وظاهر قول مالك أنها عليه، ورجحه الدسوقي في حاشيته، وقال: لأن فعله عمد، والعاقلة لا تحمل عمداً (¬2). المذهب الشافعي: ومن ختنه: أي الصبي من ولي أو غيره في سن لا يحتمله، فمات لزمه القصاص، إن علم أنه لا يحتمله، لتعديه بالجرح المهلك؛ لأنه غير جائز في ¬
المذهب الحنبلي
هذه الحالة قطعاً، فإن ظن احتماله، كأن قال له أهل الخبرة يحتمله، فمات، فلا قصاص، ويجب دية شبه العمد، بحثه الزركشي إلا والداً وإن علا ختنه في سن لا يحتمله، فلا قصاص عليه للبعضية، ويجب عليه دية مغلظة في ماله؛ لأنه عمد محض. والسيد في ختان رقيقه لا ضمان عليه، والمسلم في ختان الكافر لا قصاص عليه، فإن احتمله وختنه ولي، فمات، فلا ضمان عليه في الأصح؛ لأنه لابد منه، والتقديم أسهل من التأخير لما فيه من المصلحة. والثاني: يضمن؛ لأنه غير واجب في الحال، فلم يبح إلا بشرط سلامة العاقبة. ويشمل قوله: (ولي) الأب والجد والحاكم والقيم والوصي: وهو كذلك، واقتضى كلامه أن من ليس بولي يضمن قطعاً. قال الأذرعي: وبه صرح الماوردي وغيره، ونص عليه في الأم لتعديه، فيقتص منه. قال الزركشي: إلا إذا قصد بذلك إقامة الشعار، فلا يتجه القصاص؛ لأن ذلك يضمن شبهة في التعدي (¬1). المذهب الحنبلي: وقال البهوتي: وإن أمره بالختان ولي الأمر في حر أو برد أو مرض يخاف من مثله الموت من الختان فتلف بسببه ضمنه؛ لأنه ليس له. أو أمره ولي الأمر به، وزعم الأطباء أنه يتلف، أو ظن تلفه ضمن؛ لأنه ليس له (¬2). وقيل: لا يضمن، وهو رواية عن أحمد (¬3). ¬
فملخص البحث أنه إن تعدى أو فرط ضمن لأنه جان والحالة هذه، وإن لم يتعد ولم يفرط لم يضمن؛ لأن ما ترتب على المأذون غير مضمون، وهذه قاعدة فقهية. والله أعلم.
الفرع الأول في أجرة الخاتن الاستئجار على الختان جائز. قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافاً؛ لأنه فعل يحتاج إليه، مأذون فيه شرعاً، فجاز الاستئجار عليه، كسائر الأفعال المباحة (¬1). وأجرة الختان في مال الصبي، فإن لم يكن له مال، فالأجرة تكون على أبيه، أو على من تجب عليه نفقته (¬2). وقال القاضي حسين والبغوي: يجب على السيد أن يختن عبده، أو يخلي بينه وبين كسبه ليختن نفسه. قال القاضي: فإن كان العبد زمناً فأجرة ختانه في بيت المال. قال النووي: وهذا الذي قاله فيه نظر، وينبغي أن يجب على السيد كالنفقة (¬3). ¬
الفصل الحادي عشر في فوائد الختان
الفصل الحادي عشر في فوائد الختان ذكر الطبيب محمد علي البار في كتابه الختان فصلاً مهماً في ذكر فوائد الختان، وقد نقل بحثه من مقالات، وبحوث غربية عن أضرار ترك الختان، وسوف أنقل لك هذا الفصل لأهميته. نقل الطبيب من مقابلة للدكتور البرفيسور Te Wiseewell نشرته المجلة الأمريكية لطبيب الأسرة، وقد استعرض المكاسب الصحية الهامة للختان من أهمها ما يلي: الأول: الوقاية من الالتهابات الموضعية، في القضيب الناتجة عن وجود القلفة، ويسمى ضيق القلفة (phimosis) ويؤدي إلى حقب البول، والتهابات حشفة القضيب (Glans penis) ويدعى (Balanitis) ، أما التهابات الحشفة والقلفة معاً فيدعى (palani psthitis) وهذه كلها تستدعي إجراء الختان لعلاجها، أما إذا أزمنت فإنها تعرض الطفل المصاب لأمراض عديدة في المستقبل من أخطرها سرطان القضيب. الثاني: التهابات المجاري البولية. وقد أثبتت الأبحاث العديدة أن الأطفال غير المختونين يتعرضون لزيادة كبيرة في التهابات المجاري البوليه، وفي بعض الدراسات بلغت النسبة 39 ضعف ما هي عليه عند الأطفال غير المختونين، وفي دراسات أخرى كانت النسبة عشرة أضعاف، وفي دراسة أخرى تبين أن 95 % من الأطفال الذين يعانون من التهابات المجاري البوليه هم من غير المختونين، بينما كانت نسبة الأطفال المختونين لا تتعدى 5 %.
الثالث
والتهابات المجاري البوليه عند الأطفال خطيرة في بعض الأحيان، ففي دراسة ويزويل على 88 طفلاً أصيبوا بالتهابات المجاري البوليه كان لدى 36 % منهم نفس البكتريا الممرضة في الدم، وعانى ثلاثة من هؤلاء من التهابات السحايا، وأصيب اثنان منهم بالفشل الكلوي، ومات اثنان آخران بسبب انتشار الميكروبات الممرضة في الجسم. الثالث: الوقاية من سرطان القضيب قد أجمعت الدراسات على أن سرطان القضيب يكاد يكون معدوماً لدى المختونين، بينما نسبته لدى غير المختونين ليست قليلة، ففي الولايات المتحدة بلغت نسبة الإصابة بسرطان القضيب لدى المختونين صفر، بينما هي 2.2 من كل مائة ألف من السكان غير المختونين، وبما أن أغلبية السكان في الولايات المتحدة هم من المختونين فإن حالات السرطان هناك في حدود 750 إلى ألف حالة في كل سنة، ولو كان السكان غير مختونين لتضاعف العدد إلى ثلاثة آلاف حالة. وفي البلاد التي لا يختن فيها إلا الأقليات المسلمة مثل الصين ويوغندا فإن سرطان القضيب يشكل ما بين 12 إلى 22 % من مجموع السرطانات التي تصيب الرجال، وهي نسبة عالية جداً. الرابع: الأمراض الجنسية. فقد وجد الباحثون أن الأمراض الجنسية التي تنتقل عبر الاتصال الجنسي (غالباً بسبب الزنا واللواط) تنتشر بصورة أكبر وأخطر لدى غير المختونين، وخاصة الهربس والقرحة الرخوة (Chancroid) والزهري، والكانديدا (فطر المبيضة) والسيلان والثآليل الجنسية. وهناك أبحاث عدة تؤكد أن الختان يقلل من احتمال الإصابة بالإيدز،
الخامس
وأن غير المختونين يصابون بالإيدز بنسبة أعلى من قرنائهم من غير المختونين، ولكن ذلك لا ينفي أن المختون إذا تعرض للعدوى نتيجة اتصال جنسي بشخص مصاب بالإيدز قد يصاب بهذا المرض الخطير، وليس الختان واقياً منه، وليست هناك وسيلة حقيقية للوقاية من هذه الأمراض الجنسية العديدة سوى الابتعاد عن الزنا والخنا واللواط، وغيرها من القاذورات. الخامس: وقاية الزوجة من سرطان عنق الرحم. يرتبط سرطان عنق الرحم بعوامل عديدة أهمها: عدد المخاللين لهذه المرأة، وكلما زاد الزنا، وزاد عدد المخللين والمتصلين بها كلما زادت احتمالات الإصابة بهذا المرض الخبيث .. وهذا هو أهم العوامل. وهناك عامل الزمن، فكلما كان التعرض للاتصال الجنسي مبكراً في حياة المرأة كلما كان احتمال الإصابة بهذا المرض أكثر. وقد لاحظ الباحثون أيضاً أن زوجات المختونين أقل تعرضاً للإصابة بسرطان عنق الرحم من غير المختونين. وقد تبين أن سرطان القضيب، وسرطان عنق الرحم كلاهما مرتبط بفيروسات الثآليل الإنساني (Human Papilloma Viruses) وخاصة المجموعة رقم 16، ورقم 18. وبما أن هذه الثآليل الجنسية معدية، وبما أن غير المختونين أكثر تعرضاً لهذا، فإن احتمال إصابة زوجة غير المختون أكبر بكثير مما هي عليه عند المختون. السادس: إن عملية الختان بسيطة وسهلة، وغير مكلفة إذا تم إجراؤها في الطفل المولود. ففي الولايات المتحدة تتم ولادة 1.8 مليون طفل ذكر سنوياً، وتبلغ كلفة العملية مائة دولار لكل طفل مولود. أما إذا ترك هؤلاء
السابع
الأطفال دون ختان فإن 10 إلى 15 % منهم سيحتاجون للختان في سن متقدمة بسبب ضيق القلفة، وحقب البول، والتهابات الحشفة، والتهابات الحشفة والقلفة، وذلك يحتاج إلى إدخال المريض المستشفى، وإجراء العملية تحت التخدير العام، وتصل كلفة العملية ما بين 2000 إلى 5000 دولار بالإضافة إلى التغيب عن الدراسة أو العمل. ومعنى ذلك ببساطة أن إجراء عملية الختان لليافعين والمراهقين سيكلف مابين 360 و 900 مليون دولار. هذا إذا لم نحسب الأمراض التي يصاب بها غير المختونين، وكلفتها الباهظة .. ولهذا فإن عملية الختان في أثناء الطفولة الباكرة هو عمل اقتصادي كبير. السابع: إن مضاعفات عملية الختان في الطفولة إذا تم إجراؤها بيد طبيب مجرب ضئيلة جداً، وهي لا تتعدى اثنين من كل ألف طفل، وأغلبها من النوع البسيط مثل النزف الذي يمكن التحكم فيه بسرعة. وقد أظهرت الدراسات التي شملت أكثر من مليوني طفل مختون حدوث وفاة واحدة بسبب الختان، وكان الطفل مصاباً بالناعور (الهيموفيليا) والذي أجرى عملية الختان غير طبيب. الثامن: إن عملية تنظيف القلفة لدى غير المختونين التي يدعو لها بعض الأطباء في الغرب غير مجدية كما يقول البرفيسور ويزويل في مقاله الذي نشرته مجلة طبيب الأسرة الأمريكية، وقد أثبتت الأبحاث العديدة التي أجريت على الأطفال غير المختونين في الولايات المتحدة وأوربا صعوبة تنظيف القلفة (الغرلة) وما تحتها بانتظام، ولا يوجد أي دليل على أن عملية التنظيف ستقي من السرطان والمضاعفات الأخرى المرتبطة بعدم الختان، بل إن الأطباء أنفسهم لا يعرفون كيف يتم تنظيف القلفة بالطريقة المثلى، إذ لا توجد هذه
الطريقة مما حدى بجمعية الأطفال في الولايات المتحدة الأمريكية إن تنصح بترك قضيب الطفل دون محاولات التنظيف، وشد القلفة التي قد تنتهي بنزف. والحل الصحيح هو إجراء عملية الختان في وقت مبكر (¬1). هذه بعض الفوائد لعملية الختان، والتي ننهي بها بحث الختان، والذي أرجو أن أكون قد أتيت فيه على جل مباحث الختان. والله الموفق والهادي سواء السبيل. ¬
الباب الثاني في الاستحداد
الباب الثاني في الاستحداد ويشتمل على تمهيد وخمسة فصول. التمهيد: في تعريفه. الفصل الأول: حكم الاستحداد. الفصل الثاني: وقت الاستحداد. الفصل الثالث: في كيفية الاستحداد. الفصل الرابع: في حلق شعر الدبر. الفصل الخامس: الاستحداد للميت.
تمهيد في تعريف الاستحداد
تمهيد في تعريف الاستحداد تعريف الاستحداد: لغة واصطلاحاً الاستحداد لغة: مأخوذ من الحديدة، يقال: استحد إذا حلق عانته قال أبو عبيدة كما في تاج العروس: الاستحداد استفعال من الحديدة يعني الاحتلاق بالحديد، استعمله على طريق الكناية والتورية (¬1). الاستحداد اصطلاحاً: لا يفترق المعنى اللغوي عن المعنى الاصطلاحي، حيث عرفه الفقهاء بقولهم: الاستحداد حلق العانة (¬2). وقال النووي: الاستحداد: إزالة شعر العانة: هو الذي حول الفرج، سواء إزالته بنتف أو نورة أو حلق، مأخوذ من الحديدة: وهي الموسى التي يحلق بها (¬3). وعرفه النفراوي من المالكية، فقال: حلق العانة: هي ما فوق العسيب والفرج، وما بين الدبر والأنثيين (¬4). (487 - 51) وقد روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا محمد بن ¬
الوليد، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن سيار، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا دخلت ليلا فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فعليك بالكيس الكيس (¬1). ¬
الفصل الأول حكم الاستحداد
الفصل الأول حكم الاستحداد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الاستحداد سنة (¬1). وقيل: الاستحداد واجب، اختاره ابن العربي والشوكاني دليل الجمهور على الاستحباب. (488 - 52) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: الفطرة خمس، الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الآباط (¬2). قال ابن قدامة: وهو ـ يعني الاستحداد ـ مستحب؛ لأنه من الفطرة، ويفحش بتركه (¬3). وقال النووي: معظم هذه الخصال ليست بواجبة عند العلماء، وفي ¬
دليل القائلين بالوجوب
بعضها خلاف في وجوبه كالختان، والمضمضة والاستنشاق (¬1)، ولا يمتنع قرن الواجب بغيره، كما قال تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} (¬2)، والإيتاء واجب، والأكل ليس بواجب (¬3). دليل القائلين بالوجوب. الدليل الأول: قال ابن العربي: " والذي عندي أن الخصال الخمس المذكورة في هذا الحديث كلها واجبة؛ فإن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين، فكيف من جملة المسلمين" (¬4). الدليل الثاني: (489 - 53) ومما يدل على الوجوب ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى، عن يوسف بن صهيب (ح) ووكيع، ثنا يوسف، عن حبيب بن يسار، عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من لم يأخذ من شاربه فليس منا (¬5). [إسناده صحيح] (¬6). ¬
الراجح من الخلاف
فهذا الحديث يدل على أن الأخذ من الشارب واجب، بل لو قيل: إن تاركه مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب لم يكن بعيداً لهذا العقاب. فهذا الحديث، والحديث الذي قبله يدلان أن سنن الفطرة ليست مستحبة، وإنما هي واجبة. والاستحداد من سنن الفطرة. الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأدلة أجد أن القول بوجوب سنن الفطرة هو ما تميل إليه نفسي، والله أعلم بالصواب.
فرع إذا قلنا بأن الاستحداد سنة فهل له أن يجبر زوجته على الاستحداد
فرع إذا قلنا بأن الاستحداد سنة فهل له أن يجبر زوجته على الاستحداد قيل: له أن يجبرها إذا طال، وهو أصح القولين في مذهب الشافعية (¬1)، وقولاً واحداً في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: ليس له إجبارها حتى يفحش بحيث ينفر التواق (¬3) والراجح أن لكل الزوجين أن يجبر الآخر على التنظف له، وهو من العشرة بالمعروف المأمور بها الزوج بقوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} (¬4). وكما أنه يجب للزوج على الزوجه، يجب على الزوج أيضاً قال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن} (¬5). ¬
الفصل الثاني في وقت الاستحداد
الفصل الثاني في وقت الاستحداد قيل: يستحب أن يحلق عانته كل جمعة، وبعضهم قال في كل أسبوع مرة. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3). وقيل: لا وقت له، ويقدر بالحاجة، وهو يختلف من شخص إلى آخر، والمعتبر طولها، فمتى طالت حلقها، وهو مذهب الشافعية (¬4)،وقال ¬
دليل من وقت بالأربعين
ابن عبد البر إنه قول الأكثر (¬1). وأما ترك الاستحداد أكثر من أربعين يوماً فقيل: يحرم. وهو مذهب الحنفية (¬2)، ورجحه الشوكاني (¬3). وقيل: يكره كراهية شديدة، وهو مذهب الشافعية (¬4)، والمشهور عند الحنابلة (¬5). دليل من وقت بالأربعين. (490 - 54) سلم في صحيحه، قال: حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد كلاهما، عن جعفر - قال يحيى أخبرنا جعفر بن سليمان - عن أبي عمران الجوني، ¬
وأجاب القائلون بعدم التوقيب عن هذا الحديث
عن أنس بن مالك قال: قال أنس: وقت لنا في قص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة (¬1). وقول الصحابي: " وقت لنا " على البناء للمجهول له حكم الرفع، كقول الصحابي: " أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا ". قال الشوكاني: المختار أنه يضبط بالأربعين التي ضبط بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يجوز تجاوزها (¬2). وأجاب القائلون بعدم التوقيب عن هذا الحديث. قال النووي: معنى هذا الحديث أنهم لا يؤخرون فعل هذه الأشياء عن وقتها، فإن أخروها فلا يؤخرونها أكثر من أربعين يوماً، وليس معناه الإذن في التأخير أربعين مطلقاً، وقد نص الشافعي والأصحاب ـ رحمهم الله ـ على أنه يستحب تقليم الأظفار، والأخذ من هذه الشعور يوم الجمعة، والله أعلم. وقال القرطبي: هذا تحديد أكثر المدة، والمستحب تفقد ذلك من الجمعة إلى الجمعة، وإلا فلا تحديد فيه للعلماء إلا أنه إذا كثر ذلك أزيل. اهـ والراجح أنه لا يجوز تجاوز ما وقت لنا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن قبل الأربعين من ترك ذلك لا يعتبر مخالفاً للسنة، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث في كيفية الاستحداد
الفصل الثالث في كيفية الاستحداد اختلف العلماء في كيفية الاستحداد، فقيل: السنة في الرجل حلق العانة، فلو نتفها أو قصها أو أزلها جاز، وكان تاركاً للأفضل وهو الحلق، والسنة في المرأة نتف العانة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2). وقيل: السنة الحلق مطلقاً للجنسين، ويكره إزلة شعر العانة بالنتف للرجال والنساء. وهو مذهب المالكية (¬3). وقيل: إن كانت شابة فالنتف في حقها أولى، وإن كانت كهلة فالأفضل في حقها الحلق، اختاره ابن العربي (¬4). وقيل: بأي شيء أزاله صاحبه فلا بأس، وهو مذهب الحنابلة (¬5). ¬
دليل من قال السنة الحلق ويكره النتف للجنسين
دليل من قال السنة الحلق ويكره النتف للجنسين. الدليل الأول: (491 - 55) أخرجه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: الفطرة خمس، الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الآباط (¬1). (492 - 56) وروى البخاري، قال: حدثنا أحمد بن أبي رجاء، حدثنا إسحاق بن سليمان، قال: سمعت حنظلة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من الفطرة حلق العانة وتقليم الأظفار وقص الشارب (¬2). (493 - 57) ومنها حديث عائشة، في مسلم، قال رحمه الله: حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قالوا: حدثنا وكيع عن زكرياء بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله ابن الزبير، عن عائشة قالت: قال - صلى الله عليه وسلم -:عشر من الفطرة قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء. قال زكرياء: قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. ¬
الدليل الثاني
زاد قتيبة: قال وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء. [المحفوظ أنه من قول طلق، وسيأتي تخريجه في كتاب السواك] (¬1). وجه الاستدلال: قوله في حديث أبي هريرة: " الاستحداد " فالمقصود: استعمال الحديدة في حلق العانة. وأما حديث ابن عمر وعائشة فصريحان في حلق العانة. الدليل الثاني: (494 - 58) روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا محمد بن الوليد، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن سيار، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا دخلت ليلا فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فعليك بالكيس الكيس (¬2). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " تستحد المغيبة " فالاستحداد، هو استعمال الحديدة بالحلق، كما قدمنا. الدليل الثالث: قال العراقي: الحكمة في تخصيص الإبط بالنتف، والعانة بالحلق على وجه الأفضلية أن الإبط محل الرائحة الكريهة، والنتف يضعف الشعر فتخف الرائحة الكريهة،، والحلق يكثف الشعر، فتكثر فيه الرائحة (¬3). وقال ابن دقيق العيد: " والأولى في إزالة الشعر هنا الحلق اتباعاً، ويجوز ¬
دليل من قال يزيل الشعر بأي شيء
النتف بخلاف الإبط، فإنه بالعكس؛ لأنه تحتبس تحته الأبخرة بخلاف العانة. والشعر من الإبط بالنتف يضعف، وبالحلق يقوى، فجاء الحكم في كل من الموضعين بالمناسب " (¬1). وأما التعليل على كراهة النتف، فقالوا: إن النتف يرخي المحل بالنسبة للمرأة، ويؤذي الرجل، كما أخبر بذلك بعض الأطباء (¬2). دليل من قال يزيل الشعر بأي شيء. قالوا: إن المقصود هو إزالة الشعر، فبأي شيء زال فقد حصل المقصود (¬3). دليل من قال الحلق للرجل والنتف للمرأة. قالوا: الحكمة إن النتف يضعف الشهوة، والحلق يقويها (¬4). ولو قيل: إن النتف يضعف الشعر، والحلق يقويه، والنتف يؤخر نموه، بخلاف الحلق لكان أوجه. الراجح: الأحاديث لم تفرق بين المرأة والرجل، وكلاهما الوارد في حقه الحلق، وإزالتها بأي مزيل مباح إذا كان لا ضرر فيه. لكن السنة الحلق؛ لأنه المنصوص عليه، وغيره لم ينه عنه. ¬
الفصل الرابع في حلق شعر الدبر
الفصل الرابع في حلق شعر الدبر اختلف العلماء في حلق شعر الدبر. فقيل: يستحب حلق شعر الدبر، اختاره بعض الحنفية (¬1). وقيل: لا يشرع. اختاره ابن العربي، والفاكهي (¬2). وقيل: يباح. وهو الصواب، وهو مذهب المالكية (¬3)، واختاره النووي من الشافعية (¬4). ¬
دليل من قال بالاستحباب
دليل من قال بالاستحباب. قال ابن عابدين: " والعانة: الشعر القريب من فرج الرجل والمرأة، ومثلها شعر الدبر، بل هو أولى بالإزالة، لئلا يتعلق به شيء من الخارج عند الاستنجاء بالحجر (¬1). وقال ابن دقيق العيد: كأن الذي ذهب إلى استحباب حلق ما حول الدبر ذكره بطريق القياس (¬2). دليل من قال لا يشرع. قال: لم نقف في حلق شعر الدبر، لا من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا من فعله، ولا من فعل أصحابه، وعليه فلا يشرع. قال الشوكاني: الاستحداد إن كان في اللغة حلق العانة كما ذكره النووي، فلا دليل على سنية حلق الشعر النابت حول الدبر، وإن كان المعنى هو الاحتلاق بالحديد كما في القاموس، فلا شك أنه أعم من حلق العانة، ولكنه وقع في مسلم وغيره بدل الاستحداد في حديث: "عشر من الفطرة" حلق العانة، فيكون مبيناً لإطلاق الاستحداد في حديث: "خمس من الفطرة" فلا يتم دعوى سنية حلق شعر الدبر، أو استحبابه إلا بدليل، ولم نقف على حلق شعر الدبر من فعله - صلى الله عليه وسلم -، ولا من فعل أحد من أصحابه (¬3). وهذا الكلام وإن سلم للشوكاني رحمه الله إلا أن نفي الاستحباب لا يدل على نفي الإباحة. ¬
دليل من قال بالإباحة
دليل من قال بالإباحة. قالوا: إن الشعر ثلاثة أقسام: قسم نهينا عن حلقه، كشعر اللحية، وقسم أمرنا بحلقه، كشعر العانة والإبط، وقسم سكت عنه، فلم نؤمر بحلقه ولم ننه عنه، فهو على العفو والإباحة، كشعر الساق واليدين، وممكن أن ندخل في هذا شعر الدبر. الراجح أن حلق شعر الدبر على الإباحة، على أنه إن كان بقاؤه يؤثر في طهارة الاستنجاء كما لو كان كثيفاً وطويلاً، ولا يمكن تنظيفه إلا بالماء بحيث لا يطهره الاستجمار، فهنا لا شك أن القول باستحبابه قول قوي، أو الاقتصار على الاستنجاء، والله أعلم.
الفصل الخامس في حلق شعر عانة الميت
الفصل الخامس في حلق شعر عانة الميت اختلف الفقهاء في حلق عانة الميت إذا كانت طويلة: فقيل: يحرم حلق عانته، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يكره، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬3)،والشافعية (¬4). قال مالك: إن ذلك بدعة (¬5). وقيل: لا يكره، ولا يستحب، وهو قول عند الشافعية (¬6). ¬
وقيل: إن كانت عانته طويلة استحب حلقها، وهو رأي الشافعي في الجديد (¬1)، ¬
دليل من قال بالتحريم
وقول عند الحنابلة (¬1)، واختيار ابن حزم (¬2). دليل من قال بالتحريم. قالوا: لأنه يحتاج في أخذها إلى كشف العورة ولمسها، وهتك الميت، وذلك محرم، ولا يرتكب المحرم لتحقيق سنة، تعليل آخر: قالوا: إن لم يأت فيه شيء من الشرع، ولذلك اعتبره مالك بدعة. وقال النووي: لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء، فكره فعله (¬3)، بل ثبت الأمر بالإسراع بالجنازة المنافي لذلك. تعليل آخر: قالوا بأن العورة مستورة فيستغنى بسترها عن إزالتها تعليل آخر: قالوا: إذا كان الراجح أنه لا يختن، فكذلك لا تحلق عانته، ولأن شعر العانة جزء من الميت، وأجزاؤه محترمة. دليل من قال بالكراهة. استدل القائلون بالكراهة بما استدل به من قال بالتحريم، وقد سبق ذكر أدلة من قال بالتحريم. ¬
دليل من قال بالجواز أو الاستحباب
دليل من قال بالجواز أو الاستحباب. التعليل الأول: قالوا: بأن حلق العانة من باب التنظيف، فيشرع حلقها كإزالة الوسخ. التعليل الثاني: قالوا: إذا كان حلق العانة من الفطرة، فلا يترك الميت من تحقيقها. قال ابن حزم: وإن كانت أظفار الميت وافرة، أو شاربه وافياً أو عانته أخذ كل ذلك؛ لأن النص قد ورد وصح بأن كل ذلك من الفطرة، فلا يجوز أن يجهز إلى ربه تعالى إلا على الفطرة التي مات عليها (¬1). الدليل الثالث: (495 - 59) روى عبد الرزاق في مصنفه، قال: عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، أن سعد بن مالك حلق عانة ميت (¬2). إسناده صحيح إن كان سمع أبو قلابة من أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وهذا لا يعرف له مخالف من الصحابة، فيكون فعله حجة. الدليل الرابع: أن كشف العورة يجوز للحاجة، كالتداوي والختان، ونحوهما، فهذا منه، ويقتصر على قدر الحاجة، مع أنه قد يمكنه إزالة عانته بلا نظر إلى العورة، وبدون أن يباشر مسها، كما في النورة. والله أعلم. ¬
الراجح من الخلاف
الراجح من الخلاف: الذي يظهر لي أن كشف العورة من الميت لا يجوز، لكن إن كان الذي يحلق عانته ممن يجوز له الاطلاع على عورته جاز له أخذه، وإلا حرم، لأن حرمة الميت كحرمة الحي، والله أعلم.
الفرع الأول إذا قيل بجواز حلق عانة الميت فكيف تؤخذ؟
الفرع الأول إذا قيل بجواز حلق عانة الميت فكيف تؤخذ؟ إذا قلنا تزال هذه الشعور، فللغاسل أن يأخذ شعر الإبط والعانة بالمقص أو الموسى أو النورة، وهو مذهب الشافعية قال النووي: هذا هو المذهب والمنصوص في الأم، وبه قطع الجمهور (¬1)، وهو مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يتعين إزالتها بالنورة في العانة لئلا ينظر إلى عورته، وهو وجه في مذهب الشافعية، قال النووي: وبهذا قطع البندنيجي والمحاملي في المجموع (¬3)، واختاره بعض الحنابلة (¬4). وقيل: يستحب النورة في العانة والإبط جميعاً، وهو وجه في مذهب الشافعية. قال النووي: وبه جزم صاحب الحاوي (¬5). قال المرداوي: وعلى كل قول، لا يباشر ذلك بيده، بل يكون عليها ¬
حائل (¬1). وعلى كل إذا أمكن إزالتها بدون النظر إلى العورة، وبدون ملامسة البشرة تعين ذلك؛ لأنه المقصود هو إزالة شعر الميت، وهذا حاصل فلا يجوز كشف العورة مع عدم الحاجة. والله أعلم. ¬
الفرع الثاني هل يدفن مع الميت ما أخذ من شعره وظفره
الفرع الثاني هل يدفن مع الميت ما أخذ من شعره وظفره قال النووي: في الشعور المأخوذة من شاربه وإبطه وعانته وأظفاره، وما انْتُتِف من تسريح شعره ولحيته، وجلدة الختان إذا قلنا: يختن، وجهان: أحدهما: يستحب أن يصر كل ذلك معه في كفنه، ويدفن، وبهذا قطع القاضي حسين، وصاحبه البغوي، والغزالي في الوسيط والخلاصة، وصاحب العدة، والرافعي، وغيرهم. وأشار إليه المصنف في كتابه في الخلاف. والثاني: يستحب أن لايدفن معه، بل يوارى في الأرض غير القبر، وهذا اختيار صاحبه، فإنه حكى عن الأوزاعي استحباب دفنها معه، ثم قال: والاختيار عندنا أنها لا تدفن معه؛ لأنه لم يرد فيه خبر، ولا أثر، والله أعلم (¬1). قلت: والقول بأنها تدفن معه، هو مذهب الحنابلة، فقد قال المرداوي: وكل ما أخذ، فإنه يجعل مع الميت، كما لو كان عضو سقط منه (¬2). والذي يظهر لي أنها لا تدفن معه، وليست كالعضو منه، لأنها في حكم المنفصل، ويكفي أنه لم يأت نص من كتاب أو سنة يأمر بذلك، والأصل عدم المشروعية حتى يرد دليل على ذلك. ¬
الفرع الثالث لا يلي حلق العانة أجنبي
الفرع الثالث لا يلي حلق العانة أجنبي لا يجوز أن يلي حلق العانة أجنبي، فيطلع على العورة، وهذا مما لا خلاف فيه مع القدرة قال ابن قدامة في المغني: وإذا طلى بنورة فلا بأس، إلا أنه لا يدع أحداً يلي عورته، إلا من يحل له الاطلاع عليها من زوجة أو أمه (¬1). وقال ابن حجر عن كشف العورة من أجل حلق العانة: " وأما من لا يحسن الحلق، فقد يباح له إن لم تكن له زوجة تحسن الحلق أن يستعين بغيره بقدر الحاجة، لكن محل هذا إذا لم يجد ما يتنور به، فإنه يغني عن الحلق، ويحصل به المقصود، وكذا من لا يقوى على النتف، ولا يتمكن من الحلق إذا استعان بغيره في الحلق لم تهتك المروءة من أجل الضرورة " (¬2). قلت: الحاجة تبيح كشف العورة، كالتداوي ونحوه، والقاعدة: أن كل ما كان محرماً لغيره فإن الحاجة تبيحه، وكل ما كان محرماً لذاته لا تبيحه إلا الضروة. ولذلك أبيحت العرايا، مع أن فيها وقوعاً في ربا الفضل، قالوا: لأن ربا الفضل محرماً لغيره، والله أعلم. ¬
الفرع الرابع في استخدام النورة
الفرع الرابع في استخدام النورة التنور: الطلاء بالنورة، يقال: تنور: تطلى بالنورة ليزيل الشعر ولا أعلم خلافاً في جواز إزالة شعر العانة بالنورة (¬1). ويحصل أصل السنة بأي وجه كان من الحلق والقص والنتف واستعمال النورة؛ إذ المقصود حصول النظافة إلا أن الأفضل الحلق؛ لأنه المنصوص عليه. وهل ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنور؟ (496 - 60) الجواب، روى أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا كامل بن العلاء، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتنور، ويلى عانته بيده (¬2). ¬
[إسناده منقطع، ورجح البيهقي إرساله] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وقد روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتنور، وهو ضعيف أيضاً. (497 - 61) فقد روى أبو داود في المراسيل، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق، حدثنا عبد الوهاب - يعني ابن عطاء - عن سعيد، عن قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتنور، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان (¬1). ¬
[إسناده حسن لولا أنه مرسل] (¬1). (498 - 62) وأخرج ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن هشام، عن الحسن، قال: كان رسول الله صلى الله وأبو بكر وعمر لا يطلون (¬2). رجاله ثقات، إلا أنه مرسل، ومرسلات الحسن من أضعف المراسيل. (499 - 63) وروى البيهقي، قال: أخبرنا أبو نصر بن قنادة، ثنا أبو علي الرفاء، ثنا أبو العباس أحمد بن عبد الله الطائي ببغداد، ثنا أبو عمار الحسن بن حارث المروزي (¬3)، ثنا علي بن الحسن بن شقيق، عن أبي حمزة السكري، عن مسلم الملائي، عن أنس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتنور، فإذا كثر شعره حلقه. قال البيهقي: مسلم الملائي ضعيف في الحديث، فإن كان حفظه فيحتمل أن يكون قتادة أخذه أيضا عن أنس (¬4). ¬
وأما الصحابة رضي الله عنهم، فقد ورد عن ابن عمر، ويعلى بن مرة الثقفي، وغيرهما. (500 - 64) روى البخاري في الأدب المفرد، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا سكين بن عبد العزيز بن قيس، عن أبيه، قال: دخلت على عبد الله بن عمر وجارية تحلق الشعر وقال النورة ترق الجلد (¬1). ¬
[إسناده ضعيف] (¬1). (501 - 65) وروى البيهقي في السنن الكبرى، قال: أخبرناه يحيى بن إبراهيم بن محمد بن يحيى، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا بحر بن نصر، ثنا ابن وهب، أخبرني أسامة بن زيد الليثي، عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يطلي فيأمرني أطليه حتى إذا بلغ سفلته وليها هو. وبهذا الإسناد قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الله بن عمر، عن نافع، أن بن عمر كان لا يدخل الحمام، وكان يتنور في البيت، ويلبس إزاراً، ويأمرني أطلي ما ظهر منه، ثم يأمرني أن أؤخر عنه فيلي فرجه (¬2). [حسن لغيره، أسامة وعبد الله بن عمر فيهما ضعف ويقوي أحدهما الآخر] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
(502 - 66) أما ماورد عن يعلى بن مرة، فقد روى الطبراني في المعجم الكبير، قال: حدثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني، ثنا محمد بن المنهال - أخو حجاج - ثنا عبد الواحد بن زياد، ثنا عبد الرحمن بن إسحاق، حدثني عبد الله بن يعلى بن مرة الثقفي، عن أبيه، قال: أطليت يوماً، ثم تخلقت، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فناولته يدي، فقلت: يا رسول الله صل علي، فقال: ما هذا الذي على يدك؟ ¬
فقلت: إني تنورت، ثم تخلقت، فقال: ألك امرأة؟ قلت: لا. قال: ألك سرية؟ قلت: لا. قال: فانطلق فاغسله، ثم اغسله ثلاث مرات (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). فالراجح أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما تنور قط، ولكن ابن عمر لا يبعد أن يكون قد تنور بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ¬
والنورة وإن كانت جائزة إلا أنها لا تخلو من مواد كيماوية قد تؤثر على الجلد، وبعض الناس يكون لديه حساسية منها، فلا يستطيع استعماله، وإذا استعمله التهب جلده، وكأنه أصابته نار، فالأفضل في إزالة شعر العانة ما أرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو، والله أعلم.
الباب الثالث في تقليم الأظفار
الباب الثالث في تقليم الأظفار
[تمهيد]
[تمهيد] المبحث الأول تعريف تقليم الأظفار تعريف تقيلم الأظفار قلم: من باب ضرب. يقال: قَلَمَ الظفر والحافر والعود: يَقْلِمه قَلْماً، وقَلَّمَه تقليماً. وقلمت الظفر: إذا أخذت ما طال منه، فالقلم أخذ الظفر. وقلَّم أظفاره: شدد للكثرة. والقُلاَمة بالضم: ما سقط منها. وقيل: ما قطع منها. والأظفار: جاء في لسان العرب جمع: ومفرده: ظُفْر وظُفُر. ويجمع على أظفار وأُظْفور، وأظافير. ويكون للإنسان وغيره. وأما قراءة من قرأ: كل ذي ظِفْر بالكسر، فشاذ غير مأنوس به، إذ لا يعرف ظِفر بالكسر. وقالوا: الظفر لما لا يصيد. والمخلب لما يصيد. وكله مذكر، صرح به اللحياني.
المبحث الثاني الدليل على أن تقليم الأظفار من سنن الفطرة
المبحث الثاني الدليل على أن تقليم الأظفار من سنن الفطرة الدليل على ذلك: (503 - 67) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: الفطرة خمس، الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الآباط (¬1). الحديث الثاني: (504 - 68) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أحمد ابن أبي رجاء، حدثنا إسحاق بن سليمان، قال: سمعت حنظلة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من الفطرة حلق العانة وتقليم الأظفار وقص الشارب. ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬2). الدليل الثالث: (505 - 69) ما رواه مسلم، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قالوا: حدثنا وكيع عن زكرياء بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت: قال - صلى الله عليه وسلم -:عشر من الفطرة قص الشارب، وإعفاء ¬
اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء. قال زكرياء: قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. زاد قتيبة: قال وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء. [المحفوظ أنه من قول طلق، وقد سبق تخريجه في كتاب السواك] (¬1). ¬
الفصل الأول في حكم تقليم الأظفار
الفصل الأول في حكم تقليم الأظفار الخلاف فيها كالخلاف في الاستحداد، وقد سقنا الخلاف فيها في ماسبق، والأئمة الأربعة يرون استحباب قص الأظفار (¬1). أما ابن العربي والشوكاني فيريان وجوب إزالتهما. وقد ذكرنا دليل كل قول في مسألة الخلاف في الاستحداد، فارجع إليها غير مأمور. قال النووي: " وأما تقليم الأظفار فمجمع على أنه سنة، وسواء فيه الرجل والمرأة، واليدان والرجلان ... الخ كلامه رحمه الله (¬2). والصحيح أن الخلاف في وجوب التقليم محفوظ، والقول بأن تقليم الأظفار سنة مطلقاً حتى ولو فحشت، ليس بالقوي، فإن ترك الأظفار حتى تطول فيه من القبح والتوحش وشناعة الصورة، ومخالفة الآدمية ما فيه، كما أنه قد يتعلق بتركها تقصير في تحصيل الطهارة الشرعية. قال ابن دقيق العيد: ¬
وفي ذلك - يعني: تقليم الأظفار - معنيان: أحدهما: تحسين الهيئة، والزينة، وإزالة القباحة من طول الأظفار. والثاني: أنه أقرب إلى تحصيل الطهارة الشرعية على أكمل الوجوه، لما عساه قد يحصل تحتها من الوسخ المانع من وصول الماء إلى البشرة، وهذا على قسمين: أحدهما: أن لا يخرج طولها عن العادة خروجاً بيناً، وهذا الذي أشرنا إلى أنه أقرب إلى تحصيل الطهارة الشرعية على أكمل الوجوه، فإنه إذا لم يخرج طولها على العادة يعفى عما يتعلق بها من يسير الوسخ، وأما إذا زاد على المعتاد فما يتعلق بها من الأوساخ مانع من حصول الطهارة، وقد ورد في بعض الأحاديث الأشارة إلى هذا (¬1). اهـ (506 - 70) وأما ما رواه أحمد، قال: ثنا حسن، ثنا ابن لهيعة، ثنا يزيد بن عمرو المعافري، عن رجل من بنى غفار، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من لم يحلق عانته، ويقلم أظفاره، ويجز شاربه فليس منا (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬
قال العراقي بعد أن ساق هذا الحديث: "رواه أحمد في مسنده، وهذا يدل على وجوب ذلك، والجواب عنه من وجهين: أحدهما: إن هذا لا يثبت؛ لأن في إسناده ابن لهيعة، والكلام فيه معروف، وإنما يثبت منه الأخذ من الشارب فقط، كما رواه الترمذي وصححه، والنسائي من حديث زيد بن أرقم (¬1)، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من لم يأخذ من شاربه فليس منا". والثاني: أن المراد على تقدير ثبوته ليس على سنتنا وطريقتنا، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن " (¬2). والصحيح أنه إذا ثبت في الشارب، ثبت في بقية خصال الفطرة، ولا فرق، وأن قوله: " من لم يأخذ من شاربه فليس منا " مثله كقوله - صلى الله عليه وسلم - لصاحب الصبرة من الطعام: " من غش فليس مني " فكما أن الغش حرام، فكذلك ترك الشارب وباقي سنن الفطرة. (507 - 71) والحديث رواه مسلم، قال: حدثني يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر جميعا، عن إسماعيل بن جعفر - قال ابن أيوب: حدثنا إسماعيل - قال: أخبرني العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على صبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللا، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام، كي يراه الناس من غش فليس مني (¬3). ¬
الفرع الأول هل يجبر الزوج زوجه على تقليم الأظفار
الفرع الأول هل يجبر الزوج زوجه على تقليم الأظفار إذا قيل بأن تقليم الأظفار سنة، فهل للزوج إجبار زوجه على تقليم الأظفار إذا طالت: فيه قولان، هما وجهان في مذهب الحنابلة. الأول: له إجبارها على ذلك، وهو رأي الشافعي (¬1). والثاني: ليس له إجبارها. والصحيح الأول: قال المرداوي في تصحيح الفروع: فيه وجهان: أحدهما: له إجبارها، وهو الصحيح في التصحيح، وقطع به في الوجيز والحاوي الصغير، وقدمه في الرعايتين. والوجه الثاني: ليس له إجبارها على أخذ ذلك. وقال في الرعاية الكبرى: وقيل: إن طال الشعر والظفر وجب إزالتهما، وإلا فلا (¬2). والراجح أن تقليم الأظفار من النظافة المأمور بها كل من الزوجين، وكما قلنا في الاستحداد في قوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن} (¬3). ¬
الفرع الثاني توفير الأظفار في الحرب
الفرع الثاني توفير الأظفار في الحرب استحسن الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2) توفير الأظفار في الحرب والسفر دليلهم على هذا الاستحباب. الدليل الأول: (508 - 72) ما رواه مسدد كما في المطالب العالية، قال: حدثنا عيسى - هو ابن يونس - عن أبي بكر بن أبي مريم، عن أشياخه، قال: إن عمر رضي الله عنه قال: وفروا أظفاركم في أرض العدو؛ فإنها سلاح (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). الدليل الثاني: (509 - 73) قال أبو بكر الجصاص، حدثنا عبد الباقي، قال: حدثنا جعفر بن أبي القتيل، قال: حدثنا يحيى بن جعفر، قال: حدثنا كثير بن هشام، ¬
قال: حدثنا عيسى بن إبراهيم، عن الحكم بن عمير الثمالي، قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا نحفي الأظفار في الجهاد، وقال: إن القوة في الأظفار (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
وقال ابن قدامة في المغني: قال أحمد: قال عمر: وفروا الأظفار في أرض العدو، فإنه سلاح. قال أحمد: يحتاج إليها في أرض العدو، ألا ترى أنه إذا أراد أن يحل الحبل أو الشيء، فإذا لم يكن له أظفار لم يستطع (¬1). وذكر ابن نجيم علة أخرى، فقال: " ويندب للمجاهد في دار الحرب توفير الأظفار، وإن كان قصها من الفطرة؛ لأنه إذا سقط السلاح من يده، ودنا منه العدو، ربما يتمكن من دفعه بأظافيره (¬2). قال في الآداب الشرعية بعد أن ذكر أنه يسن أن لا يحيف على الأظفار في الغزو والسفر، وذكر أثر عمر، وكلام أحمد، قال: وفي معناه السفر. يعني: إذا استحب هذا في الجهاد، فالسفر يستحب له أيضاً، لأنه بمعناه. قلت: أما استحسان مثل هذا فلا بأس، لكن التعبير بالسنية ينبغي أن يقتصر فيه على ما ورد فيه دليل شرعي، من كتاب أو سنة، أو إجماع، أو قياس صحيح، أو قول صحابي لا يعلم له مخالف، لأن التعبير بالسنية حكم شرعي، يفتقر إلى دليل شرعي. والله أعلم. ¬
الفصل الثاني هل يستحب تقليم الأظفار يوما معينا
الفصل الثاني هل يستحب تقليم الأظفار يوماً معيناً قيل: يستحب تقليم الأظفار كل جمعة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، ومذهب المالكية (¬2)،وقول في مذهب الحنابلة، إلا أن الحنفية استحبوا أن يكون ذلك بعد صلاة الجمعة (¬3)، وأما الحنابلة فاستحبوا أن يكون ذلك قبل الزوال: أي قبل الصلاة (¬4). وقيل: كل خميس، وهو قول أيضاً في مذهب الحنابلة (¬5). ¬
دليل من قال يستحب التقليم يوم الجمعة
وقيل: يخير، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬1). قال النووي: إن التوقيب في تقليم الأظفار معتبر بطولها، فمتى طالت قلمها، ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأحوال. وأخرج عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، أنه كان يقلم أظفاره يوم الخميس، فقيل له غداً يوم الجمعة، فقال: إن السنة لا تؤخر. دليل من قال يستحب التقليم يوم الجمعة. الدليل الأول (510 - 74) روى الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني، قال: حدثنا عتيق بن يعقوب الزبيري، قال: حدثنا إبراهيم بن قدامة، عن أبي عبد الله الأغر، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقلم أظفاره، ويقص شاربه يوم الجمعة، قبل أن يروح إلى الصلاة (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (511 - 75) روى أبو الشيخ، قال: حدثنا ابن أبي عاصم النبيل، نا الحسن بن علي الحلواني، نا عمرو بن محمد، نا محمد بن القاسم الأسدي، نا محمد بن سليمان المشمولي، نا عبيد الله بن سلمة بن وهرام، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ شاربه وأظفاره كل جمعة (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (512 - 76) روى أبو الشيخ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن داود بن منصور، نا عثمان بن خرزاذ، نا العباس بن عثمان الراهبي، نا الوليد بن مسلم، عن عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، ¬
الدليل الرابع
عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقص أظفاره يوم الجمعة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الرابع: (513 - 77) روى أبو الشيخ، قال: علي بن الحسين الدوري، نا أبو مصعب، حدثني إبراهيم بن قدامة، عن عبد الله بن محمد بن حاطب، عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ من شاربه، أو ظفره يوم الجمعة (¬3). [ضعيف] (¬4). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (514 - 78) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سلم، قال: حدثنا أحمد بن ثابت فرخويه الرازي، قال: حدثنا العلاء بن هلال الرقي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قلم أظفاره يوم الجمعة ¬
الدليل السادس
وقي من السوء مثلها (¬1). [موضوع] (¬2). الدليل السادس: (515 - 79) ما رواه أبو نعيم في أخبار أصبهان، عن أبي داود، ثنا طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس مرفوعاً: من قلم أظافيره يوم الجمعة قبل الصلاة أخرج الله منه كل داء، وأدخل مكانه الشفاء والرحمة (¬3). ¬
الدليل السابع
[ضعيف جداً] (¬1). الدليل السابع: (516 - 80) وروى البيهقي في السنن الكبرى، قال: أخبرنا أبو بكر بن الحسن وأبو زكريا بن أبي إسحاق، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، هو الأصم، ثنا بحر بن نصر، قال: قرئ على ابن وهب، أخبرك حيوة بن شريح، عن بكر بن عمرو، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان يقلم أظفاره، ويقص شاربه في كل جمعة (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). (517 - 81) وهو أصح مما رواه البخاري في الأدب المفرد، قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثني ابن أبي رواد قال أخبرني نافع، أن ابن عمر كان يقلم أظافيره في كل خمس عشرة ليلة ويستحد في ¬
دليل من قال: يستحب تقليم الأظفار يوم الخميس
كل شهر (¬1). دليل من قال: يستحب تقليم الأظفار يوم الخميس. قال الحافظ في الفتح: " لم يثبت في استحباب قص الظفر يوم الخميس حديث، وقد أخرجه جعفر المستغفري بسند مجهول، ورويناه في مسلسلات التيمي من طريقه. اهـ (¬2). (518 - 82) وأخرج الديلمي في مسند الفردوس، عن أبي هريرة من أراد أن يأمن من الفقر وشكاية العمى والبرص والجنون، فليقلم أظفاره يوم الخميس بعد العصر (¬3). ولا أعلم له أصلاً (519 - 83) وروى ابن الجوزي في الموضوعات من من طريق هناد بن ¬
إبراهيم، قال: أنبأنا إسماعيل بن محمد بن علي البخاري، قال: حدثنا محمد بن نصر بن خلف، قال: حدثنا سيف بن حفص السمرقندي، قال: حدثنا علي بن الحسين، قال: حدثنا الحسن بن شبل، قال: أنبأنا الفضل بن خالد النحوي، عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قلم أظفاره يوم السبت خرج منه الداء ودخل فيه الشفاء، ومن قلم أظفاره يوم الأحد خرجت منه الفاقة، ودخل فيه الغنى، ومن قلمها يوم الأثنين خرجت منه العلة، ودخلت فيه الصحة، ومن قلمها يوم الثلاثاء خرج منه البرص، ودخل فيه العافية، ومن قلمها يوم الأربعاء خرج منه الوسواس والخوف، ودخل فيه الأمن والصحة، ومن قلمها يوم الخميس خرج منه الجذام، ودخلت فيه العافية، ومن قلمها يوم الجمعة دخلت فيه الرحمة، وخرجت منه الذنوب (¬1). وهو حديث موضوع. قال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو من أقبح الموضوعات وأبردها، وفيه مجهولون وضعفاء، ففي أوله هناد، ولا يوثق به، وفي أخره نوح، قال يحيى: ليس بشيء، ولا يكتب حديثه، وقال السعدي: سقط حديثه، وقال الدارقطني: متروك اهـ (¬2). وما نسب للحافظ ابن حجر من أبيات في تقليم الأظفار مكذوبة عليه. فقد ذكرها العجلوني، وقال السخاوي: وحاشاه من ذلك: ¬
دليل من قال لا توقيت في تقليم الأظفار والمعتبر طولها
في قص أظفارك يوم السبت آكلة ... تبدو وفيما يليه يذهب البركة وعالم فاضل يبدو بتلوهما ... وإن يكن في الثلاثاء فاحذر الهلكة ويورث السوء في الأخلاق رابعها ... وفي الخميس الغنى يأتي لمن سلكه والعلم والرزق زيدا في عروبتها ... عن النبي روينا فاقتفوا نسكه دليل من قال لا توقيت في تقليم الأظفار والمعتبر طولها. قالوا: إن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فبعض الناس يطول ظفره أسرع من بعض، فإذا طال الظفر شرع تقليمه، ولم يأت في الشرع وقت معين في تقليم الأظفار. (520 - 84) وأما مارواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد كلاهما، عن جعفر - قال يحيى أخبرنا جعفر بن سليمان - عن أبي عمران الجوني، عن أنس بن مالك قال: قال أنس: وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة (¬1). فمعنى هذا الحديث أنهم لا يؤخرون فعل هذه الأشياء عن وقتها، فإن أخروها فلا يؤخرونها أكثر من أربعين يوماً، وليس معناه الأذن في التأخير أربعين مطلقاً، وقد نص الشافعي والأصحاب - رحمهم الله - على أنه يستحب تقليم الأظفار، والأخذ من هذه الشعور يوم الجمعة، والله أعلم. وقال القرطبي: هذا تحديد أكثر المدة، والمستحب تفقد ذلك من الجمعة إلى الجمعة، وإلا فلا تحديد فيه للعلماء إلا أنه إذا كثر ذلك أزيل" اهـ ¬
وقال العجلوني: قال في المقاصد: لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء، وما يعزى من النظم في ذلك لعلي رضي الله عنه، ثم لشيخنا - يعني الحافظ - فباطل عنهما، وقد أفردت لذلك مع بيان الآثار الواردة فيه جزءا. اهـ والراجح من هذه الأقوال أنه لا يجوز تجاوز ما وقت لنا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن قبل الأربعين من ترك ذلك لا يعتبر مخالفاً للسنة، والكلام في هذه المسألة هو عين الكلام في الاستحداد، والله أعلم
الفصل الثالث في كيفية تقليم الأظفار
الفصل الثالث في كيفية تقليم الأظفار اختلف العلماء في كيفية تقليم الأظفار: فقيل: يبدأ بخنصر اليمنى، ثم الوسطى، ثم الإبهام، ثم البنصر، ثم السباحة، ثم إبهام اليسرى، ثم الوسطى، ثم الخنصر، ثم السباحة، ثم البنصر. وهو المشهور عند المتأخرين من الحنابلة (¬1). وقيل: يبدأ فيهما بالوسطى، ثم الخنصر، ثم الإبهام، ثم البنصر، ثم السباحة، وهو قول أيضاً في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يبدأ بإبهام اليمنى، ثم الوسطى، ثم الخنصر، ثم السباحة، ثم البنصر، ثم كذلك اليسرى، اختاره الأمدي من الحنابلة (¬3). وقيل: يبدأ بسبابة يمناه بلا مخالفة إلى خنصرها، ثم بخنصر اليسرى إلى إبهامها، ويختم بإبهام اليمنى، ويبدأ بخنصر رجله اليمنى، ويختم بخنصر اليسرى، اختاره الغزالي من الشافعية (¬4)، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬5). وقيل: أن يبدأ بمسبحة يمينه إلى خنصرها، ثم إبهامها، ثم بخنصر يسراه إلى إبهامها على التوالي، والرجلين أن يبدأ بخنصر اليمين إلى خنصر اليسار على التوالي، والفرق بينه وبين القول الذي قبله هو الختم بإبهام اليمنى، ¬
دليل الشافعية على تقديم المسبحة ثم الوسطى
وهو مذهب الحنفية (¬1)، والراجح في مذهب الشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: لم يثبت عن الشارع كيفية معينة، فيقلمها كيف شاء، وهو مذهب المالكية (¬4)، وهو الراجح. دليل الشافعية على تقديم المسبحة ثم الوسطى. قالوا: قلنا يبدأ بالمسبحة من يده اليمنى؛ لأنها أشرف؛ إذ يشار إليها إلى التوحيد في التشهد، أما اتباعها بالوسطى، فلأن غالب من يقلم أظفاره يقلمها من قبل ظهر الكف، فتكون الوسطى جهة يمينه، فيستمر إلى أن يختم بالخنصر، ثم يكمل اليد بقص الأبهام، وأما في اليسرى فإذا بدأ بالخنصر لزم أن يستمر على جهة اليمين إلى الإبهام وأما دليلهم في تقديم اليدين على الرجلين، فيمكن أن يؤخذ ذلك في القياس على الوضوء، وأما دليلهم في تقديم اليمنى على اليسرى، فلحديث عائشة، كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره في شأنه كله، وسبق تخريجه (¬5). ¬
دليل استحباب المخالفة بتقديم الخنصر ثم الوسطى ثم الإبهام
دليل استحباب المخالفة بتقديم الخنصر ثم الوسطى ثم الإبهام قال ابن تيمية: وروى عبيد الله بن بطة بإسناده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من قص أظفاره مخالفاً لم ير في عينيه رمداً. قال ابن تيمية: وفسر أبو عبد الله بن بطة ذلك بأن يقص الخنصر من اليمنى، ثم الوسطى، ثم الإبهام، ثم البنصر، ثم السباحة، ويقص اليسرى الإبهام، ثم الوسطى، ثم الخنصر، ثم السباحة، ثم البنصر، وذكر أن عمر بن رجاء فسره كذلك (¬1). [والصحيح أنه لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئ في ذلك] (¬2). قال العراقي: " قال الغزالي في إحياء علوم الدين: لم أر في الكتب خبراً مروياً في ترتيب قلم الأظفار، ولكن سمعت أنه روي أنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ بمسبحة اليمنى، وختم بإبهام اليمنى، وابتداء في اليسرى بالخنصر إلى الإبهام، وفي اليمنى من المسحبه إلى الخنصر، ويختم بإبهام اليمنى، ثم ذكر لذلك حكمة، وقد تعقبه الإمام أبو عبد الله المازري المالكي في كتاب وقفت عليه له في الرد عليه، وبالغ في هذا المكان في إنكار هذا عليه، وقال: إنه يريد أن يخلط ¬
الشريعة بالفلسفة، هذا حاصل كلامه، وبالغ في تقبيح ذلك (¬1). قال العراقي: لم يثبت في كيفية تقليم الأظفار حديث يعمل به (¬2). وقال ابن حجر: لم يثبت في ترتيب الأصابع عند القص شيء من الأحاديث، ثم قال: وقد أنكر ابن دقيق العيد الهيئة التي ذكرها الغزالي ومن تبعه، وقال: كل ذلك لا أصل له، وإحداث استحباب لا دليل عليه، وهو قبيح عندي بالعالم، ولو تخيل متخيل أن البداءة بمسبحة اليمنى من أجل شرفها فبقية الهيئة لا يتخيل فيه ذلك، نعم البداءة بيمنى اليدين ويمنى الرجلين له أصل، وهو كان يعجبه التيامن. اهـ (¬3). والعجب من النووي رحمه الله، فقد صرح أن الحديث في صفة تقليم الأظفار باطل لا أصل له، ثم يقول مع ذلك عن الصفة التي ذكرها الغزالي بأنه لا بأس بها (¬4)، وهذا من غلبة طريقة الفقهاء على المحدث في استحسان ما لا أصل له، والله المستعان. وأما ما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في كيفية التقليم فهي موضوعة عليه. قال العجلوني: ومن هذا القسم الثاني، ما ذكره بعضهم، ونسبه إلى علي كرم الله وجهه، قال السخاوي: وكذب القائل: أبدأ بيمناك بالخنصر ... في قص أظفارك واستبصر ¬
الخلاصة
وثن بالوسطى وثلث كما ... قد قيل بالإبهام والبنصر واختتم الكف بسبابة ... في اليد والرجل ولا تمتر وفي اليد اليسرى بإبهامها ... والأصبع الوسطى وبالخنصر وبعد سبابتها بنصر ... فإنها خاتمة الأيسر فذاك أمن خذ به يافتى ... من رمد العين فلا تزدر هذا حديث قد روي مسنداً ... عن الإمام المرتضى حيدر ونقل السيوطي عن الزركشي في شرح التنبيه أنه قال: وأصل هذا الأثر المشار إليه عند عبيد الله بن بطة: " من قص أظفاره مخالفاً لم ير في عينيه رمداً " ثم قال السيوطي: قد أنكر ابن دقيق هذه الأبيات، وقال: لا يعتبر هيئة مخصوصة، وما اشتهر من قصها على وجه مخصوص لا أصل له في الشريعة، ثم ذكر الأبيات، وقال: هذا لا يجوز اعتقاد استحبابه؛ لأن الاستحباب حكم شرعي، لا بد له من دليل، وليس استسهال ذلك بصواب. اهـ الخلاصة: الراجح أنه يقدم في تقليم الأصابع ما يشاء، ولا سنة في ذلك، حيث إن مثل هذا العمل كان يتكرر في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو قدم اليمنى على اليسرى مستدلاً بعموم حديث عائشة: " كان يعجبه التيامن في تنعله وترجله وطهور، في شأنه كله" فلا حرج إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
الفصل الرابع في إزلة الوسخ التي تحت الظفر
الفصل الرابع في إزلة الوسخ التي تحت الظفر إذا كان تحت الظفر وسخ يمنع وصول الماء، فهل يصح وضوءه؟ فقيل: تجب إزلته مطلقاً، ولا يصح الوضوء مع وجوده، اختاره المتولي من الشافعية (¬1)، وابن عقيل من الحنابلة (¬2). وقيل: لا تجب إزلته مطلقاً، ويعفى عنه، اختاره الغزالي من الشافعية (¬3)، ومال إليه ابن قدامة من الحنابلة (¬4). وقيل: إن كان يسيراً عفي عنه، وإن فحش وجبت إزالته، وهو مذهب المالكية (¬5)، وأومأ إليه ابن دقيق العيد (¬6)، ورجحه ¬
دليل من قال تجب إزالته ولا يصح الوضوء معه
ابن تيمية (¬1). دليل من قال تجب إزالته ولا يصح الوضوء معه. الدليل الأول: قال ابن عقيل: لأنه محل من اليد استتر بما ليس من خلقة الأصل، ستراً منع إيصال الماء إليه، مع إمكان إيصاله، وعدم الضرر به، فأشبه ما لو كان عليه شمع أو غيره (¬2). الدليل الثاني: ولأن هذا الوسخ لو كان في موضع آخر من البدن لم تصح الطهارة، فكذلك إذا كان تحت الأظفار. الدليل الثالث: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على بقاء الجنابة تحت الأظفار، (521 - 85) فقد روى أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا قريش ¬
بن حيان، عن واصل بن سليم (¬1)، قال: أتيت أبا أيوب الأزدي، فصافحته، فرأى أظفاري طوالا، فقال: أتى رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله، فقال: يسألني أحدكم عن خبر السماء، ويدع أظافره كأظفار الطير، يجتمع فيها الجنابة والتفث. قال المسعودي: عن العقدي، عن قريش، عن سليمان بن فروخ، قال: لقيت أبا أيوب الأنصاري، ولم يقل: الأزدي، فذكر نحوه [رجاله ثقات، إلا أنه مرسل، أبو أيوب هو العتكي وليس الأنصاري] (¬2). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (522 - 86) وروى الطبراني في الكبير، قال: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، ثنا إبراهيم بن محمد المقدمي، ثنا عبد الله بن عثمان بن عطاء الخراساني، ثنا طلحة بن زيد، عن راشد بن أبي راشد، قال: سمعت وابصة بن معبد يقول: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل شيء، حتى سألته عن الوسخ الذي يكون في الأظفار، فقال: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (¬1). ¬
الدليل الخامس
[إسناده ضعيف جداً] (¬1). الدليل الخامس: قال ابن حجر: قد يعلق بالظفر إذا طال النجو لمن استنجى بالماء، ولم يمعن غسله فيكون إذا صلى حاملا للنجاسة (¬2). ¬
دليل من قال: لا تجب إزالته
دليل من قال: لا تجب إزالته. أولاً: لأنه تشق إزالته، ويشق الاحتراز منه. وثانياً: لو كان غسله واجباً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وثالثاً: غالب الأعراب في وقت الوحي كانوا لا يتعاهدون ذلك، ومع ذلك لم يرد في شيء من الآثار أمرهم بإعادة الصلاة. رابعاً: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما أنكر عليهم طول الأظفار، لم يأمرهم بإعادة الصلاة (523 - 87) فقد روى البزار، قال: حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، ثنا عبد الملك بن مروان، ثنا الضحاك بن زيد، عن إسماعيل، عن قيس، عن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما لي لا إيهم (¬1)، ورفغ (¬2) أحدكم بين أنملته وظفره. قال البزار: لا نعلم أحداً أسنده إلا الضحاك، وروي عن قيس مسنداً ¬
ومرفوعاً (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
دليل من قال يعفى عن يسير النجاسة في الظفر وغيره
وجه الاستدلال: قال ابن قدامة: عاب عليهم نتن ريح أظفارهم، لا بطلان طهارتهم، ولو كان مبطلاً للطهارة كان ذلك أهم من نتن الريح، فكان أحق بالبيان (¬1). خامساً: أن التشدد في ذلك ليس من هدي السلف، وقد يدخل المرء في الوسواس. قال البُرْزُلي: سئل السُّيُورِي هل يلزم زوال وسخ الأظفار في الوضوء؟ فأجاب: لا تُعَلق قلبك بهذا إن أطعتني، واترك الوسواس، واسلك ما عليه جمهور السلف الصالح تسلم (¬2). دليل من قال يعفى عن يسير النجاسة في الظفر وغيره. (524 - 88) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: قالت عائشة: ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم، قال بريقها فقصعته بظفرها (¬3). وهذا دليل على أنه معفو عنه لأن الريق لا يطهره،، قال ابن حجر: يحمل حديث الباب على أن المراد: دم يسير يعفى عن مثله. اهـ وفعلها: إخبار عن دوام هذا الفعل منها، وهو في زمن التشريع، ومثل هذا لا يخفى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، والفعل يتكرر في بيته - صلى الله عليه وسلم -، ولو لم يطلع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد اطلع ¬
الراجح
الله، ولو لم يكن صواباً لم يقره الله (¬1). الراجح أنه معفو عنه مطلقاً؛ إذ لو كان غسله وجباً لجاء الأمر بغسله، والله أعلم. ¬
الفصل الخامس في دفن الظفر والشعر
الفصل الخامس في دفن الظفر والشعر استحب بعض الفقهاء دفن ما قلم من أظفاره أو أزال من شعره، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). دليلهم على هذا الاستحباب. (525 - 89) ما رواه الطبراني في الكبير، قال: حدثنا محمد بن محمد التمار البصري، ثنا يونس بن موسى الشامي (¬4) وسليمان بن داود الشاذكوني، قالا: ثنا محمد بن سليمان بن مسمول، حدثني عبيد الله بن سلمة بن وهرام، ¬
عن ميل بنت مشرح (¬1) قالت: رأيت أبي قلم أظفاره، ثم دفنها، وقال: أي بنية هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (526 - 90) روى البيهقي في شعب الإيمان، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن الحارث الفقيه، أنا أبو محمد بن حيان الأصبهاني، ثنا علي بن سعيد العسكري، ثنا عمر بن محمد بن الحسن، ثنا أبي، ثنا قيس بن الربيع، عن عبد الجبار بن وائل، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بدفن الشعر والأظفار. قال البيهقي: هذا إسناد ضعيف، وروى من أوجه كلها ضعيفة (¬1). [إسناده ضعيف، وفيه انقطاع] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (527 - 91) روى ابن عدي، قال: ثنا محمد بن الحسن السكوني النابلسي بالرملة، قال: حدث أحمد بن سعيد البغدادي وأنا حاضر، ثنا عبد الله بن عبد العزيز بن أبي رواد، حدثني أبي، عن نافع، عن ابن عمر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ادفنوا الأظفار والشعر والدم؛ فإنها ميتة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (528 - 92) قال العراقي في طرح التثريب: روى الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من رواية عمر بن بلال، قال: سمعت عبد الله بن بسر يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قصوا أظفاركم ودفنوا قلائمكم، وانقوا براجمكم. الحديث. قال العراقي: وعمر بن بلال ليس بالمعروف، قاله ابن عدي (¬1). قلت: والحكيم الترمذي ليس بالحكيم. الدليل الخامس: قال مهنا: سألت أحمد، عن الرجل يأخذ من شعره وظفره، أيدفنه أم يلقيه؟ قال: يدفنه. قلت: بلغك فيه شيء؟ ¬
قال: كان ابن عمر يدفنه (¬1). ولم أقف على إسناد ابن عمر، وراجعت مصنف ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق وقد ذكر الأول جملة من الآثار عن التابعين، ولم يذكر أثر ابن عمر. ¬
الفصل السادس في من قلم أظفاره هل يعيد الوضوء
الفصل السادس في من قلم أظفاره هل يعيد الوضوء من توضأ، ثم قلم أظفاره بعد الوضوء أو حلق شعر رأسه، فهل يعيد غسل موضع الأظفار؟ فيه خلاف بين العلماء. فقيل: لا يعيد. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، واختاره ابن حزم (¬5). وقيل: عليه الوضوء، اختاره مجاهد (¬6)، وابن جرير (¬7). وقيل: يغسلها بالماء، اختاره عطاء (¬8)، إبراهيم ¬
دليل من قال ليس عليه شيء
النخعي (¬1)، وحماد (¬2)، وعبد العزيز بن أبي سلمة (¬3) دليل من قال ليس عليه شيء. (529 - 93) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن التيمي، عن أبي مجلز، قال: رأيت ابن عمر أخذ من أظفاره. فقلت له: أخذت من أظفارك ولا تتوضأ ؟ قال: ما أكيسك، أنت أكيس ممن سماه أهله كيساً (¬4). الدليل الثاني: (530 - 94) روى مسدد في مسنده، قال: حدثنا ابن داود، عن شيخ يكنى أبا عبد الله، عن عمر بن قيس، قال: إن علياً رضي الله عنه، قال: ما زاده إلا طهارة - يعني: الأخذ من الشعر والظفر - (¬5). [إسناد ضعيف] (¬6). الدليل الثالث: قالوا: إن من توضأ الوضوء الشرعي فإنه طاهر بالكتاب والسنة، ¬
دليل من قال عليه الوضوء أو مسحه بالماء
ولا تنتقض طهارته إلا بدليل شرعي، وليس قص الشعر والظفر حدثاً حتى ينتقض وضوءه. دليل من قال عليه الوضوء أو مسحه بالماء. لا أعلم له دليلاً من الكتاب أو السنة، أو من قول الصحابة، وقد يكون من رأى الوضوء أن الشعر والظفر إذا حلق، فقد زال الممسوح الذي تعلق به الفرض، وبالتالي فلا بد من إعادة الوضوء أو المسح. والله أعلم. الراجح أنه لا يشرع الوضوء ولا المسح بعد تقليم الأظفار أو حلق الشعر؛ لأن إيجاب ذلك أو استحبابه يحتاج إلى دليل ولا دليل.
فرع في غسل رؤوس الأصابع بعد القص
فرع في غسل رؤوس الأصابع بعد القص استحب الشافعية والحنابلة غسل رؤوس الأصابع بعد قص الأظفار قال ابن قدامة: قيل إن الحك قبل غسلها يضر بالجسد (¬1). وقال في حاشية الجمل: إن الحك بها قبل الغسل يورث البرص (¬2). ولا أعلم دليلاً على هذا الاستحباب، ولا يصح الضرر من جهة الطب. ¬
الباب الرابع في نتف الإبط
الباب الرابع في نتف الإبط
تعريف الإبط. الإبط: بالكسر باطن المنكب، وقيل: باطن الجناج. وهو مذكر، وقد يؤنث، قاله اللحياني، والتذكير أعلى. وحكى الفراء عن بعض العرب: فرفع السوط حتى برقت إبطه. والجمع: آباط. وتأبطه: وضعه تحت إبطه. ومنه تأبط شراً (¬1). ونتف الإبط: هو إزالة ما عليه من الشعر عن طريق النتف. ¬
الفصل الأول حكم نتف الإبط والتوقيت فيه
الفصل الأول حكم نتف الإبط والتوقيت فيه الخلاف فيه كالخلاف في الاستحداد، وتقليم الأظفار فالجمهور على أنه سنة، حتى قال النووي: متفق على أنه سنة (¬1). واختار ابن العربي، والشوكاني أنه واجب. راجع أدلة كل قول في حكم الاستحداد وتقليم الأظفار. وأما التوقيت فيه، فالقول فيه كالقول في التوقيت في حلق العانة، وقد فصلنا الأقوال فيه والراجح، فارجع إليه غير مأمور. وملخص الأقوال فيه كالتالي: قيل: يستحب أن ينتف إبطه كل جمعة، وبعضهم قال في كل أسبوع مرة. وهو مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). ¬
وقيل: لا وقت له، ويقدر بالحاجة، وهو يختلف من شخص إلى آخر، والمعتبر طولها، فمتى طال الشعر نتفه. وهو مذهب الشافعية (¬1)، وقال ابن عبد البر إنه قول الأكثر (¬2). وأما ترك النتف أكثر من أربعين يوماً فقيل: يحرم. وهو مذهب الحنفية (¬3)، ورجحه الشوكاني (¬4). وقيل: يكره كراهية شديدة، وهو مذهب الشافعية (¬5)،والمشهور عند ¬
الحنابلة (¬1). ¬
الفصل الثاني في كيفية نتف الإبط
الفصل الثاني في كيفية نتف الإبط تكلم الفقهاء في كيفية نتف الإبط، فقيل: له إزالة الإبط بما شاء (¬1). وقيل: لا تحصل السنة إلا بالنتف، وإن كان غيره جائزاً، فالنتف أفضل (¬2). تعليل من أجازه بأي شيء، قال: إن المقصود النظافة، وهذا حاصل إذا زال بأي مزيل. دليل من قال بأن السنة النتف. (531 - 95) استدل بالخبر، فقد روى البخاري، قال: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: الفطرة خمس، الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الآباط (¬3). قال ابن دقيق العيد: نتف الآباط: إزالة ما عليها من الشعر بهذا الوجه: أعني النتف، وقد يقوم مقامه ما يؤدي إلى المقصود، إلا أن استعمال مادلت عليه السنة أولى، وقد فرق لفظ الحديث بين إزالة شعر العانة، وإزالة شعر ¬
الإبط، فذكر في الأول (الاستحداد)، وفي الثاني: (النتف) وذلك مما يدل على رعاية هاتين الهيئتين في محلهما، ولعل السبب فيه أن الشعر بحلقه يقوي أصله، ويغلظ جرمه، ولهذا يصف الأطبار تكرار حلق الشعر في المواضع التي يراد قوته فيها، والإبط إذا قوي فيه الشعر وغلظ جرمه كان أفوح للرائحة الكريهة المؤذية لمن يقاربها، فناسب أن يسن فيه النتف المضعف لأصله، المقلل للرائحة الكريهة، وأما العانة فلا يظهر فيها من الرائحة الكريهة ما يظهر في الإبط، فزال المعنى المقتضي للنتف، فُرِجع إلى الاستحداد؛ لأنه أيسر وأخف على الإنسان من غير معارض (¬1). وقال ابن دقيق العيد أيضاً: " من نظر إلى اللفظ وقف مع النتف، ومن نظر إلى المعنى أجازه بكل مزيل، لكن بين أن النتف مقصود من جهة المعنى، فذكر نحو ما تقدم، ثم قال: وهو معنى ظاهر لا يهمل، فإن مورد النص إذا احتمل معنى مناسباً يحتمل أن يكون مقصوداً في الحكم لا يترك، والذي يقوم مقام النتف في ذلك التنور، لكنه يرق الجلد فقد يتأذى صاحبه به، ولا سيما إن كان جلده رقيقاً (¬2). وقد صرح الشافعي بأن السنة النتف فقط، فقد أخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي، عن يونس بن عبد الأعلى، قال: دخلت على الشافعي، ورجل يحلق إبطه، فقال: إني علمت أن السنة النتف، ولكن لا أقوى على الوجع. قال الغزالي: هو في الابتداء موجع، ولكن يسهل على من اعتاده (¬3). ¬
الفصل الثالث الوضوء من نتف الإبط
الفصل الثالث الوضوء من نتف الإبط الخلاف في الوضوء من نتف الإبط كالخلاف فيه من تقليم الأظفار وحلق الشعر. وقد ذكرنا هناك ثلاثة أقوال: الأول: ليس عليه شيء، وهو الراجح. الثاني: عليه إعادة الوضوء. الثالث: عليه غسل موضعه فقط أو مسحه إن كان ممسوحاً. وقد نسبنا كل قول إلى قائله، وذكرنا أدلة كل قول، فارجع إليه غير مأمور. ونذكر من الآثار ما لم نذكره هناك، منها: (532 - 96) روى ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا ابن علية، عن عبيد الله بن العيزار، عن طلق بن حبيب، قال: رأى عمر بن الخطاب رجلا حك إبطه أو مسه، فقال: قم فاغسل يديك أو تطهر (¬1). [رجاله ثقات إلا أنه مرسل، طلق لم يدرك عمر] (¬2). ¬
(533 - 97) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو أنه كان يغتسل من نتف الإبط (¬1). [إسناده صحيح والأعمش عده الحافظ ممن تقبل عنعنته] والاغتسال هنا كالاغتسال للتبرد، فلعله فعله طلباً للنظافة من أثر الشعر، كما يغتسل الإنسان بعد حلق شعره، وليس هذا كالاغتسال للجنابة أو للجمعة، إذ لو كان واجباً لبينه الرسول - صلى الله عليه وسلم -. (534 - 98) وروى ابن أبي شيبة أيضاً، قال: حدثنا خلف بن خليفة، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: ليس عليه وضوء في نتف الإبط (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬
(535 - 99) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن الحسن أنه سئل عن الرجل يمس إبطه، فلم ير به بأساً إلا أن يدميه (¬1). ¬
[إسناده صحيح] (536 - 100) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن ابن عون، عن محمد، قال: هؤلاء يقولون: من مس إبطه أعاد الوضوء، وأنا لاأقول ذلك، ولا أدري ما هذا (¬1). [إسناده صحيح] قال ابن حزم: برهان إسقاطنا الوضوء من كل ما ذكرنا، هو أنه لم يأت قرآن ولا سنة ولا إجماع بإيجاب وضوء في شيء من ذلك، ولا شرع الله تعالى على أحد من الإنس والجن إلا من أحد هذه الوجوه، وما عداها فباطل، ولا شرع إلا ما أوجبه الله تبارك وتعالى، وأتانا به رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ¬
الباب الخامس في الشارب
الباب الخامس في الشارب
تمهيد
تمهيد المسلم مطلوب منه التميز عن غيره من الكفار، ولهذا نهي أن يلبس لباسهم، وأن يوافقهم في الظاهر، لما في ذلك من التشبه فيهم، والتشبه في الظاهر يقود إلى التشبه بالباطن، وفي الحديث: "من تشبه بقوم فهو منهم" (¬1). ¬
وفي قص الشارب وإحفاؤه تحقيق لجانب من جوانب التميز من جهة، وفيه أيضاً من النظافة ما فيه. قال ابن دقيق العيد: " في قص الشارب واحفائها وجهان: أحدهما: مخالفة زي الأعاجم، وقد وردت هذه العلة منصوصة في الصحيح، حيث قال: " خالفوا المجوس ". والثاني: أن زوالها عن مدخل الطعام والشراب أبلغ في النظافة وأنزه من وضر الطعام (¬1). وقال الشيخ ولي الدين العراقي في شرح سنن أبي داود: " الحكمة في قص الشوارب أمر ديني، وهو مخالفة شعار المجوس في إعفائه، كما ثبت التعليل ¬
به في الصحيح، وأمر دنيوي: وهو تحسين الهيئة، والتنظف مما يعلق به من الدهن، والأشياء التي تلصق بالمحل كالعسل، والأشربة، ونحوها. وقد يرجع تحسين الهيئة إلى الدين؛ لأنه يؤدي إلى قبول قول صاحبه، وامتثال أمره من أرباب الأمر كالسلطان، والمفتي والخطيب، ونحوهم، ولعل في قوله تعالى: {وصوركم فأحسن صوركم} (¬1) إشارة إليها، فإنه يناسب الأمر بما يزيد في هذا، كأنه قال: قد أحسن صوركم فلا تشوهوها بما يقبحها، وكذا قوله تعالى حكاية عن إبليس {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} (¬2) فإن إبقاء ما يشوه الخلقة تغيير لها، لكونه تغييراً لحسنها، ذكر ذلك كله تقي الدين السبكي (¬3). المقصود بالشارب: الشعر النابت على الشفة العليا، واختلف في جانبيه، وهما السبالان: فقيل: هما من الشارب، فيشرع قصهما. وقيل: هما من جملة شعر اللحية. ذكر ذلك الحافظ في الفتح، وسيأتي مزيد بحث إن شاء الله عن ذلك. وقص الشارب: هو الإطار، وهو طرف الشعر المستدير على الشفة (¬4). وقيل: الشارب: اسم لمحل الشعر، كما ذكره في التحقيق. ¬
الفصل الأول حكم قص الشارب
الفصل الأول حكم قص الشارب اختلف الفقهاء في قص الشارب فقيل: سنة، وهو مذهب جمهور الفقهاء (¬1). وقيل: فرض، وهو اختيار ابن حزم (¬2)، وابن العربي (¬3) والشوكاني دليل القائلين بالوجوب. الدليل الأول: أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإحفاء الشوارب، والأصل في الأمر ¬
الوجوب، قال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب اليم} (¬1). (537 - 101) فقد روى البخاري، قال: حدثنا محمد بن منهال، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا عمر بن محمد بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: خالفوا المشركين: وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب. وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر، قبض على لحيته فما فضل أخذه. وهو في مسلم دون الموقوف على ابن عمر (¬2). وفي رواية للبخاري: " أنهكوا الشوارب " (¬3). وفي رواية لمسلم: " أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى " (¬4). (538 - 102) وروى مسلم، قال: حدثني أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا ابن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، أخبرني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس (¬5). (539 - 103) وروى مسلم، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، عن مالك بن أنس، عن أبي بكر بن نافع، عن أبيه، ¬
الدليل الثاني
عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بإحفاء الشوارب، وإعفاء اللحية (¬1). وإذا كان إعفاء اللحية واجباً، كان قص الشارب كذلك. ووجه آخر دليل على الوجوب أن قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: " خالفوا المشركين " وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " خالفوا المجوس " هذه الصيغة تقتضي التحريم؛ لأن التشبه بالمشركين لا يجوز، فلما أمر بإحفاء الشارب، وقرن ذلك بمخالفة أهل الشرك والضلال تأكد الوجوب. الدليل الثاني: (540 - 104) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى، عن يوسف بن صهيب (ح) ووكيع، ثنا يوسف، عن حبيب بن يسار، عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من لم يأخذ من شاربه فليس منا (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). فهذا الحديث يدل على أن الأخذ من الشارب واجب، بل لو قيل: إن تاركه مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب لم يكن بعيداً لهذا الوعيد. دليل القائلين بأن قص الشارب سنة. حملوا الأمر في الأحاديث على الاستحباب، ولا أعلم لهم صارفاً مقبولاً. وحملوا حديث: " من لم يأخذ من شاربه فليس منا " حملوه على ¬
حديث: " من لم يتغن بالقرآن فليس منا " أي ليس على طريقتنا، وسنتنا. وقد أجبت عن ذلك فيما سبق في باب الاستحداد.
الفصل الثاني هل يقص الشارب أو يحلق؟
الفصل الثاني هل يقص الشارب أو يحلق؟ اختلف الفقهاء في قص الشارب وحلقه. فقيل: يقص، ولا يحلق، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، وقول في مذهب أحمد (¬3). قال مالك: أرى أن يؤدب من حلق شاربه، وقال أيضاً: حلقه من البدع، وكان يرى أن حلقه مثلة (¬4). وقيل: الحف أولى من القص، قال الطحاوي: وهو مذهب أبي حنيفة، ¬
دليل من قال: السنة قص الشارب
وأبي يوسف (¬1)، وهو رواية عن أحمد (¬2). وقيل: يخير بين القص والإحفاء، وهو مذهب الإمام الطبري (¬3). دليل من قال: السنة قص الشارب. الدليل الأول: (541 - 105) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: الفطرة خمس، الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الآباط (¬4). الدليل الثاني: (542 - 106) روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد كلاهما، عن جعفر - قال يحيى أخبرنا جعفر بن سليمان - عن أبي عمران الجوني، عن أنس بن مالك قال: وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة (¬5). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (543 - 107) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى، عن يوسف بن صهيب (ح) ووكيع، ثنا يوسف، عن حبيب بن يسار، عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من لم يأخذ من شاربه فليس منا (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الرابع: (544 - 108) روى أبو داود الطيالسي، قال: قال حدثنا المسعودي، قال: أخبرني أبو عون الثقفي محمد بن عبد الله (¬3)، عن المغيرة بن شعبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا طويل الشارب، فدعا بسواك وشفرة، فوضع السواك تحت الشارب فقص عليه (¬4). [لم أقف على سماع أبي عون من المغيرة، فإن ثبت فالحديث صحيح، وقد تابع أبا دواد عمرو بن مرزوق، وهو ممن سمع من المسعودي قبل أختلاطه، والله أعلم] (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس (545 - 109) روى أحمد، قال: ثنا هشيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، يعني: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصوا الشوارب واعفوا اللحى (¬1). [إسناده حسن إن شاء الله] (¬2). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (546 - 110) روى الطبراني في المعجم الكبير، قال: حدثنا عبدان بن أحمد، ثنا الفضل بن سهل الأعرج، ثنا يحيى بن أبي بكير، ثنا الحسن بن صالح عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقص شاربه، وأن إبراهيم الخليل كان يقص شاربه (¬1). [إسناده ضعيف، واختلف في رفعه ووقفه] (¬2). ¬
الدليل السابع
الدليل السابع: (547 - 111) روى البيهقي، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو زكريا العنبري، ثنا: محمد بن عبد السلام، ثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا عبد الرزاق، ثنا: معمر عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله عز وجل: {وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} (¬1)، قال: ابتلاه الله عز وجل بالطهارة، خمس في الرأس وخمس في الجسد: في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل مكان الغائط والبول بالماء. [وإسناده صحيح] (¬2) ¬
الدليل الثامن
الدليل الثامن: (548 - 112) روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قالوا: حدثنا وكيع، عن زكريا بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عشر من الفطرة، قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء. قال زكريا: قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة، زاد قتيبة: قال وكيع انتقاص الماء يعني الاستنجاء. [المحفوظ أنه من قول طلق، ورفعه شاذ] (¬1). الدليل التاسع (549 - 113) روى ابن أبي شيبة قال: نا ابن نمير، عن عبد الملك، عن عطاء، عن ابن عباس قال: التفث: الرمي والذبح والحلق والتقصير والأخذ من الشارب والأظفار واللحية. [رجاله ثقات] (¬2). ¬
الدليل العاشر
الدليل العاشر (550 - 114) روى مالك في الموطأ، قال: عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه قال: كان إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أول الناس ضيف الضيف، وأول الناس اختتن، وأول الناس قص الشارب، وأول الناس رأى الشيب، فقال: يا رب ما هذا؟ فقال: الله تبارك وتعالى: وقاراً ياإبراهيم فقال: رب زدني وقاراً. قال يحيى: وسمعت مالكا يقول: يؤخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة، وهو الإطار، ولا يجزه فيمثل بنفسه (¬1). [رجاله ثقات، إلا أنه موقوف على سعيد] (¬2). الدليل الحادي عشر: (551 - 115) روى الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا هيثم بن خلف، ثنا الحسن بن حماد الوراق، ثنا أبو يحيى الحماني، عن يوسف بن ميمون، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، قال: إن الله ورسوله حرم عليكم شرب الخمر، وثمنها، وحرم عليكم أكل الميتة، وثمنها، وحرم عليكم الخنازير وأكلها وثمنها، وقال: قصوا الشوارب، وأعفوا اللحى، ولا تمشوا في الأسواق إلا وعليكم الأزر، إنه ليس منا من ¬
الدليل الثاني عشر
عمل سنة غيرنا (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثاني عشر: (552 - 116) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عائد بن حبيب، عن أشعث، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: كنا نؤمر أن نوفي السبال، ونأخذ من الشوارب (¬3). ¬
الدليل الثالث عشر
[إسناده ضعيف] (¬1). الدليل الثالث عشر: (553 - 117) روى البيهقي، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا عبيد بن شريك، ثنا عبد الوهاب بن نجدة، ثنا إسماعيل بن عياش، ثنا شرحبيل بن مسلم الخولاني، قال: رأيت خمسة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقصون شواربهم، ويعفون لحاهم، ويصفرونها: أبو أمامة الباهلي وعبد الله بن بسر وعتبة بن عبد السلمي والحجاج بن عامر الثمالي والمقدام بن معد يكرب الكندي، كانوا يقصون شواربهم مع طرف الشفة (¬2). [إسناده حسن، وابن عياش روايته عن أهل بلده حسنة] (¬3). ¬
الدليل الرابع عشر
الدليل الرابع عشر: (554 - 118) روى الطبراني، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، ثنا إسحاق بن عيسى الطباع، قال: رأيت مالك بن أنس وافر الشارب، فسألته عن ذلك، فقال: حدثني زيد بن أسلم، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، أن عمر بن الخطاب كان إذا غضب فتل شاربه ونفخ (¬1). [رجاله ثقات إلا إسحاق بن عيسى فإنه صدوق، ولكن إسناده منقطع، عامر بن عبد الله لم يدرك عمر] (¬2). دليل من قال: السنة الحلق. الدليل الأول: (555 - 119) روى البخاري، قال: حدثنا محمد بن منهال، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا عمر بن محمد بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: خالفوا المشركين: وفروا اللحى، واحفوا الشوارب. وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر، قبض على لحيته فما فضل أخذه، وهو في مسلم دون الموقوف (¬3). وفي رواية للبخاري: " أنهكوا الشوارب " (¬4). وفي رواية لمسلم: " أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى " (¬5). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (556 - 120) وروى مسلم، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، عن مالك بن أنس، عن أبي بكر بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بإحفاء الشوارب، وإعفاء اللحية (¬1). الدليل الثالث: (557 - 121) روى مسلم، قال: حدثني أبو بكر بن إسحاق أخبرنا بن أبي مريم أخبرنا محمد بن جعفر أخبرني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس (¬2). قوله: " جزوا " محتمل للحف، وللقص. قال الطحاوي: يحتمل أن يكون جزاً معه الإحفاء، ويحتمل أن يكون ما دون ذلك (¬3). الدليل الرابع: (558 - 122) سروى ابن حبان في صحيحه، قال: أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا ابن أبي أويس، حدثنا أخي، عن سليمان بن بلال، عن محمد بن عبد الله بن أبي مريم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن فطرة الإسلام الغسل يوم ¬
الدليل الخامس
الجمعة، والاستنان، وأخذ الشارب وإعفاء اللحى، فإن المجوس تعفي شواربها وتحفي لحاها، فخالفوهم، حدوا شواربكم واعفوا لحاكم (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). وجه الاستدلال منه قوله: " حدوا شواربكم ". الدليل الخامس: (559 - 123) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن عثمان الحاطبي، قال: رأيت ابن عمر يحفي شاربه. [إسناده فيه لين، وهو ثابت عنه من فعله رضي الله عنه] (¬3). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (560 - 124) روى ابن أبي شيبة أيضاً، قال: حدثنا كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، عن حبيب، قال: رأيت ابن عمر قد جز شاربه كأنه قد حلقه (¬1). [إسناده حسن إن ثبت سماع حبيب بن أبي مرزوق من ابن عمر] الدليل السابع: (561 - 125) روى الطبراني في الكبير، قال: حدثنا يحيى بن أيوب العلاف المصري، ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا إبراهيم بن سويد، حدثني عثمان بن عبيد الله بن رافع، أنه رأى أبا سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر، وسلمة بن الأكوع، وأبا أسيد البدري، ورافع بن خديج، وأنس بن مالك رضي الله تعالى عنهم يأخذون من الشوارب كأخذ الحلق، ويعفون اللحى وينتفون الآباط (¬2). ¬
[شيخ الطبراني صدوق، وعثمان بن عبيد الله بن رافع لم يذكر فيه شيء، وبقية رجاله ثقات] (¬1). ¬
الدليل الثامن
الدليل الثامن: (562 - 126) روى الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا محمد بن أبان، نا أحمد بن علي بن شوذب، ثنا أبو المسيب سلام بن مسلم، نا ليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أظنه مرفوعاً: " قال: ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وإن تسليم النصارى بالأكف، ولا تقصوا النواصي، وأحفوا الشوارب، ولا تمشوا في المساجد والأسواق، وعليكم القمص إلا وتحتها الأزر (¬1). [سلام بن مسلم إن كان الطويل فهو متروك] (¬2). ¬
دليل من قال بالتخيير بين الحلق والقص
دليل من قال بالتخيير بين الحلق والقص استدل بأدلة الفريقين، وأعمل أدلة كل قول، فرأى أن الأمر واسع إن شاء قصر، وإن شاء حلق. جواب القائلين بأن السنة القص. قال ابن عبد البر: في هذا الباب أصلان: أحدهما: أحفوا الشوارب، وهو لفظ مجمل، محتمل للتأويل. والثاني: قص الشارب، وهو مفسر، والمفسر يقضي على المجمل مع ما روي فيه أن إبراهيم أول من قص شاربه، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قص الشارب من الفطرة: يعني: فطرة الإسلام، وهو عمل أهل المدينة، وهو أولى ما قيل به في هذا الباب. والله الموفق للصواب. وأجابوا عن الإحفاء الوادر في الحديث: روى ابن القاسم عن مالك، أن تفسير حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في إحفاء الشوارب إنما هو أن يبدو الإطار، وهو ما احمر من طرف الشفة والإطار جوانب الفم المحدقة به. اهـ وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " انهكوا الشوارب " لا حجة فيه؛ لأن إنهاك الشيء لا ¬
جواب القائلين بالحلق
يقتضي إزالة جميعه، وإنما يقتضي إزالة بعضه. قال: صاحب الأفعال: نهكته الحمى نهكاً: أثرت فيه، وكذلك العبادة (¬1). جواب القائلين بالحلق. قال الطحاوي: رأينا الحلق قد أمر به في الإحرام، ورخص في التقصير فكان الحلق أفضل من التقصير، وكان التقصير من شاء فعله ومن شاء زاد عليه، إلا أنه يكون بزيادته عليه أعظم أجرا ممن قص، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك حكم الشارب، قصه حسن وإحفاؤه أحسن وأفضل (¬2). وقال أيضاً: وما احتج به مالك أن عمر كان يفتل شاربه إذا غضب أو اهتم، فجائز أن يكون كان يتركه حتى يمكن فتله، ثم يحلقه كما ترى كثيراً من الناس يفعله (¬3). وقال أيضاً: " وأما حديث المغيرة، فليس فيه دليل على شيء؛ لأنه يجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك، ولم يكن بحضرته مقراض يقدر على إحفاء الشارب. وقال أيضاً: " فهؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كانوا يحفون شواربهم، وفيهم أبو هريرة، وهو ممن روينا عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من الفطرة قص الشارب ". ويحتمل أن حديث: " من الفطرة قص الشارب " يحتمل أن تكون الفطرة هي التي لا بد منها، وهي قص الشارب، وما سوى ذلك فضل ¬
الراجح
حسن، وأن مابعد ذلك من الإحفاء هو أفضل، وفيه من إصابة الخير ما ليس في القص (¬1). الراجح والله أعلم جواز الحلق والتقصير، وإن كان التقصير عندي أولى، لأن أحاديثه أكثر وأصح، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - فعله كما في حديث المغيرة، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستطيع أن ينهكه أكثر مما فعل مما يدل على أن التقصير حتى تظهر الشفة أفضل، والله أعلم. ¬
فرع كلام أهل العلم في السبالين
فرع كلام أهل العلم في السبالين اختلف أهل العلم في السبال (¬1)، فقيل: يكره بقاء السبال، وهو الراجح في مذهب الحنفية، واختاره العراقي من الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة أنه يسن قصهما (¬2). وقيل: لا بأس بترك سباليه، اختاره الغزالي وعليه أكثر الشافعية (¬3)، سبب الخلاف اختلافهم هل السبالان من اللحية أو الشارب. فمن قال: هما من الشارب استحب قصهما إسوة بالشارب. ومن قال: هما من اللحية: قال بتركهما. دليل من قال [بترك] (*) بقص السبالين. الدليل الأول: (563 - 127) روى أبو داود، قال: حدثنا ابن نفيل، ثنا زهير، قرأت على عبد الملك بن أبي سليمان، وقرأه عبد الملك على أبي الزبير، ورواه أبو الزبير، عن جابر قال كنا نعفي السبال إلا في حج أو عمرة (¬4). ¬
الدليل الثاني
[إسناده حسن] (¬1). الدليل الثاني: قالوا من النظر: لا بأس بترك السبال؛ لأن ذلك لا يستر الفم، ولا يبقي فيه غمرة الطعام؛ إذ لا يصل إليه. قال العراقي: اختلفوا في كيفية قص الشارب، هل يقص طرفاه أيضاً، وهما المسميان: بالسبالين، أم يترك السبالان كما يفعله كثير من الناس؟ فقال الغزالي في إحياء علوم الدين: لا بأس بترك سباليه، وهما طرفا الشارب. فعل ذلك عمر رضي الله عنه وغيره؛ لأن ذلك لا يستر الفم، ولا يبقي فيه غمرة الطعام؛ إذ لا يصل إليه. اهـ (¬2). دليل من قال بقص السبالين. الدليل الأول: (564 - 128) روى الطبراني، قال: حدثنا أحمد قال حدثنا النفيلي قال ¬
قرأت على معقل بن عبيد الله عن ميمون بن مهران عن ابن عمر قال ذكر رسول الله المجوس فقال إنهم يوفرون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم (¬1). [إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (565 - 129) روى أحمد في مسنده، قال: ثنا زيد بن يحيى، ثنا عبد الله بن العلاء بن زبر، حدثني القاسم، قال: سمعت أبا أمامة يقول: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم، فقال: يا معشر الأنصار حمروا وصفروا وخالفوا أهل الكتاب، قال: فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزرون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تسرولوا وائتزروا وخالفوا أهل الكتاب. قال: فقلنا يا رسول الله: إن أهل الكتاب يتخففون ولا ينتعلون، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فتخففوا وانتعلوا وخالفوا أهل الكتاب، قال: فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم، ويوفرون سبالهم، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قصوا سبالكم ووفروا عثانينكم، وخالفوا أهل الكتاب (¬1). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: كره بعضهم بقاء السبال لما فيه من التشبه بالعجم، بل بالمجوس وأهل ¬
الكتاب، قال العراقي: وهذا أولى بالصواب، لما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر، قال: ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - المجوس، فقيل: إنهم يوفرون سبالهم، ويحلقون لحاهم، فخالفوهم " فكان ابن عمر يجز سباله كما تجز الشاة أو البعير. اهـ كلام العراقي (¬1)، وحديث ابن عمر سبق تخريجه (¬2). ¬
الفصل الثالث في التوقيت في قص الشارب
الفصل الثالث في التوقيت في قص الشارب لا يترك الشارب أكثر من أربعين يوماً، والخلاف في المسألة كالخلاف في تقليم الأظفار، ونتف الإبط وحلق العانة، وقد سبق ذكر الخلاف في تلك المسائل، والأقول فيها لا تخرج عن ثلاثة أقوال: قول: يقول بعدم التوقيت مطلقاً، فمتى طال الشارب عن المعتاد قصه. وقول: يقول لا يجوز تركه أكثر من أربعين يوماً. وقول: يقول يكره تركه أكثر من أربعين يوماً. وارجع إلى أدلة كل قول في مسألة التوقيت في الاستحداد إن شئت.
الباب السادس في أحكام اللحية
الباب السادس في أحكام اللحية
تمهيد
تمهيد تعريف اللحية. اللحية: بالكسر هذا هو المشهور المعروف. حكى الزمخشري فيه الفتح، وقال: إنه قرئ به قوله تعالى: {لا تأخذ بلحيتي} (¬1)، قال: وهو غريب. وقال الجوهري: اللحية معروف، جمع لِحَي بالكسر، ولُحَى أيضاً بالضم، مثل ذروة، وذرى. واللحية: اسم يجمع من الشعر ما نبت على الخدين والذقن (¬2). وقال في المصباح: الشعر النازل على الذقن (¬3). هذا كلام أهل اللغة، فتبين أن في اللحية عند أهل اللغة قولين: الأول: قيل: اللحية ما نبت من الشعر على الخدين والذقن. وقيل: هي الشعر النازل على الذقن. والأول عندي أصح؛ لأن اللحية إنما سميت لحية؛ لأنها والله أعلم تنبت على اللحى، واللحى: هو عظم الحنك، وهو الذي عليه الأسنان، وهو منبت اللحية من الإنسان وغيره، والله أعلم. هذا فيما يتعلق بتعريف اللحية لغة، وأما تعريفها عند الفقهاء. قال ابن نجيم من الحنفية: اللحية الشعر النابت بمجتمع اللحيين والعارض ¬
وما بينهما وبين العذار (¬1)، وهو القدر المحاذي للأذن يتصل من الأعلى بالصدغ، ومن الأسفل بالعارض (¬2). ونقله ابن عابدين في حاشيته (¬3). وقال الدسوقي من المالكية: لحية بكسر اللام وفتحها: وهي الشعر النابت على اللحيين، تثنية لحى بفتح اللام، وحكي كسرها في المفرد: وهو فك الحنك الأسفل (¬4). وقال في الشرح الصغير من المالكية: الذقن: بفتح الذال المعجمة والقاف: مجمع اللحيين بفتح اللام: تثنية لحى: وهو فك الحنك الأسفل. واللحية: بفتح اللام: هي الشعر النابت على ذلك (¬5). وقال الخرشي: اللحية: هي ما ينبت من الشعر على ظاهر اللحى، بفتح اللام، وحكي كسرها في المفرد والتثنية، وهو فك الحنك الأسفل (¬6). وقال في حاشية العدوي: واختار ابن عرفة: جواز إزالة شعر الخد (¬7). ¬
فظاهره أنه لا يرى أن شعر الخد من اللحية. وقال النووي: اللحية: هي الشعر النابت على الذقن، قاله المتولي والغزالي في البسيط، وغيرهما، وهو ظاهر معروف لكن يحتاج إلى بيانه بسبب الكلام في العارضين كما سنوضحه إن شاء الله تعالى. ثم وضحه بقوله: " وأما شعر العارضين: فهو ما تحت العذار، كذا ضبطه المحاملي، وإمام الحرمين، ابن الصباغ والرافعي وغيرهم، وفيه وجهان: الصحيح الذي قطع به الجمهور أن له حكم اللحية، فيفرق بين الخفيف والكثيف، كما سبق الخ كلامه (¬1). فقوله: " له حكم اللحية " لو كان عندهم من اللحية لم يقل فيه: له حكم اللحية، وهذا ظاهر وقال في تحفة المحتاج: " واللحية بكسر اللام أفصح من فتحها: وهي الشعر النابت على الذقن التي هي مجتمع اللحيين، ومثلها العارض (¬2). ¬
الفصل الأول ما جاء في أن إعفاء اللحية من الفطرة
الفصل الأول ما جاء في أن إعفاء اللحية من الفطرة الدليل على ذلك. (566 - 130) روى الإمام أحمد، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا زكريا بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن ابن الزبير، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عشر من الفطرة قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق بالماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء: يعني الاستنجاء. قال زكريا: قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. [المحفوظ أنه من قول طلق، ورفعه شاذ] (¬1). ولم أقف على حديث يذكر أن إعفاء اللحية من الفطرة سوى هذا الحديث، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني في حكم إعفاء اللحية
الفصل الثاني في حكم إعفاء اللحية
المبحث الأول في تحريم حلق اللحية
المبحث الأول في تحريم حلق اللحية يحرم حلق اللحية (¬1). وقيل: يجوز إزالة شعر الخدين دون الذقن، اختاره ابن عرفة من المالكية (¬2). وقيل: حلق اللحية مكروه، وليس بمحرم، وهو وجه ضعيف عند الشافعية (¬3). ¬
دليل تحريم حلق اللحية
دليل تحريم حلق اللحية. الدليل الأول: الإجماع فقد نقل ابن حزم الإجماع على أن إعفاء اللحية فرض (¬1). قال في مراتب الإجماع: اتفقوا أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز (¬2). وقال ابن عابدين: الأخذ من اللحية دون القبضة كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال لم يبحه أحد (¬3). الدليل الثاني: من السنة فقد ورد عدة أحاديث تأمر بإعفاء اللحية، والأصل في الأمر الوجوب، قال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصبهم عذاب أليم} (¬4). ومن هذه الأحاديث ما يلي: الحديث الأول: حديث ابن عمر. (567 - 131) رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن منهال، حدثنا يزيد ¬
الحديث الثاني
بن زريع، حدثنا عمر بن محمد بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب، وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه (¬1). الحديث الثاني: (568 - 132) ما رواه مسلم، قال: حدثني أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا ابن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، أخبرني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس (¬2). الحديث الثالث: (569 - 133) ما رواه أحمد في مسنده، قال: ثنا زيد بن يحيى، ثنا عبد الله بن العلاء بن زبر، حدثني القاسم، قال: سمعت أبا أمامة يقول: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم، فقال: يا معشر الأنصار حمروا وصفروا وخالفوا أهل الكتاب، قال: فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزرون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تسرولوا وائتزروا وخالفوا أهل الكتاب. قال: فقلنا يا رسول الله: إن أهل الكتاب يتخففون ولا ينتعلون، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فتخففوا وانتعلوا وخالفوا أهل الكتاب، قال: فقلنا: يا رسول الله إن أهل ¬
الحديث الرابع
الكتاب يقصون عثانينهم، ويوفرون سبالهم، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قصوا سبالكم ووفروا عثانينكم، وخالفوا أهل الكتاب (¬1). [إسناده فيه لين، وقال الهيمثي في المجمع (¬2) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح خلا القاسم، وهو ثقة، وفيه كلام لا يضر] (¬3). الحديث الرابع: (570 - 134) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا هيثم بن خلف، ثنا الحسن بن حماد الوراق، ثنا أبو يحيى الحماني، عن يوسف بن ميمون، عن عطاء، عن ابن عباس قال: لما افتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة، قال: إن الله ورسوله حرم عليكم شرب الخمر وثمنها، وحرم عليكم أكل الميتة وثمنها، وحرم عليكم الخنازير وأكلها وثمنها، وقال: قصوا الشوارب وأعفوا اللحى، ولا تمشوا في الأسواق إلا وعليكم الأزر، إنه ليس منا من عمل سنة غيرنا (¬4). [إسناده ضعيف] (¬5). ¬
دليل من قال بجواز حلق شعر الخدين
دليل من قال بجواز حلق شعر الخدين. الظاهر أن قوله يرجع إلى أن شعر الخد ليس داخلاً في حد اللحية لغة، وقد قدمت في تعريف اللحية أن أهل اللغة ومثلهم الفقهاء قد اختلفوا في حد اللحية: فقيل: الشعر النابت على الخد والذقن. وقيل: شعر الذقن خاصة. فمن رأى أن اللحية: شعر الذقن خاصة، لم يمنع من حلق شعر الخد، والله أعلم. والراجح والله أعلم شمول اللحية للشعر النابت على الذقن وعلى الخدين، وأما من قال: إن اللحية هي شعر الذقن خاصة، فلا يعني هذا والله أعلم أنهم أرادوا أن شعر الخد يجوز حلقه، وإنما أرادوا هل يدخل في مسمى اللحية حقيقة، أو يدخل حكماً، ولم أقف على أحد من السلف كان يحلق شعر خديه، بل لم أقف على فقيه يرى جواز حلق شعر الخدين إلا ما نقلته ¬
دليل من قال: حلق اللحية مكروه
عن ابن عرفة من المالكية، وهو رأي مرجوح مخالف لما عليه الأكثر، والله أعلم. دليل من قال: حلق اللحية مكروه. قالو: إن كل حكم كانت علته: مخالفة المشركين، وعدم التشبه بهم، فإنه لا يصل إلى التحريم، غاية ما يقال فيه: إنه مكروه (¬1). والجواب على هذا: أولاً: يقال: إن كل حكم كانت علته مخالفة المشركين لو قيل: إنه كبيرة من كبائر الذنوب لم يكن بعيداً؛ لأن التشبه بالكفار لا يكفي فيه التحريم بل يقال فيه: إنه كبيرة من كبائر الذنوب. ثانياً: لا يعلم القول بالكراهة إلا وجه عند الشافعية، وهو وجه ضعيف عندهم، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني حكم الأخذ من اللحية
المبحث الثاني حكم الأخذ من اللحية اختلفوا في حكم الأخذ من اللحية من غير حلق، فقيل: يكره أن يأخذ منها في غير النسك، وهو مذهب الشافعية (¬1). ¬
وقيل: له الأخذ منها، وهو مذهب كثير من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، والحسن وابن سيرين (¬2)، وقتادة (¬3)، وعطاء (¬4)، والشعبي (¬5)، والقاسم بن محمد (¬6)، وطاووس (¬7)، وإبراهيم النخعي (¬8)، ومذهب الحنفية والمالكية ¬
والحنابلة (¬1)، واستحبه الشافعي في النسك (¬2)، واختاره الطبري (¬3)، ورجحه ابن عبد البر (¬4)،والقاضي عياض (¬5)، والغزالي من الشافعية (¬6)، والحافظ ابن حجر (¬7)، وغيرهم. والقائلون بالأخذ منها اختلفوا في المقدار على قولين: الأول: أنه لا حد لمقدار ما يؤخذ منها، إلا أنه لا يتركها لحد الشهرة، وهو مذهب المالكية (¬8). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
والقول الثاني: أنه يؤخذ منها ما زاد على القبضة، وهو فعل ابن عمر (¬1). ثم اختلفوا في حكم أخذ ما زاد على القبضة على خمسة أقوال: فقيل: يجب أخذ ما زاد على القبضة، وهو قول في مذهب الحنفية (¬2)، واختاره الطبري رحمه الله (¬3). وقيل: إنه سنة، وهو المشهور من مذهب الحنفية (¬4)، واستحسنه الشعبي وابن سيرين (¬5). وقيل: إنه بالخيار، فله أخذ ما زاد على القبضة وله تركه، نص عليه أحمد (¬6)، وظاهر هذا القول أنه يرى أن الأخذ من اللحية وتركها على الإباحة. وقيل: الترك أولى، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬7). ¬
دليل من كره أن يأخذ من اللحية شيئا إلا في النسك
وقيل: يكره الأخذ منها إلا في حج أو عمرة (¬1). دليل من كره أن يأخذ من اللحية شيئاً إلا في النسك. الدليل الأول: (571 - 135) روى البخاري، قال: حدثني محمد، أخبرنا عبدة، أخبرنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انهكوا الشوارب وأعفوا اللحى (¬2). وفي رواية لمسلم: " أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى " (¬3). (572 - 136) وروى مسلم، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، عن مالك بن أنس، عن أبي بكر بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بإحفاء الشوارب، وإعفاء اللحية (¬4). (573 - 137) وروى مسلم، قال: حدثني أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا ابن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، أخبرني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جزوا الشوارب، وأرخوا ¬
اللحى، خالفوا المجوس (¬1). وجه الاستدلال: قوله: " أعفوا اللحى ". وأجيب بأجوبة منها: الأول: إذا كان لفظ أعفوا: هو التكثير، كما يفهم من قوله تعالى: {حتى عفوا} أي حتى كثروا، فمن أعفى لحيته بمقدار القبضة، فقد كثرت لحيته، وصدق على لحيته أنها قد عفت، وأن صاحبها قد أعفاها، وهذا ما فهمه الصحابة رضوان الله عليهم. جاء في المصباح المنير: " عفا الشيء: كثر، وفي التنزيل: {حتى عفوا} (¬2): أي حتى كثروا. ومنه عفا بنو فلان إذا كثروا. وعفوت الشعر: أي تركته حتى يكثر ويطول، ومنه: "أحفوا الشوار وأعفوا اللحى" (¬3). وجاء في إكمال المعلم في شرح فوائد مسلم: " قوله: " وأعفوا اللحى " وفي رواية: " أوفوا اللحى "، وهما بمعنى: أي اتركوها حتى تكثر وتطول. ثم قال: وقال أبو عبيد: في إعفاء اللحى: هو أن توفر، وتكثر، يقال: عفا الشيء: إذا كثر وزاد، وأعفيته أنا. وعفا: إذا درس، وهو من الأضداد، ومنه الحديث: " فعلى الدنيا العفا" ¬
أي الدروس (¬1). وجاء في فتح الباري: ذهب الأكثرون إلى أنه بمعنى وفروا أو كثروا، وهو الصواب. قال ابن دقيق العيد: لا أعلم أحداً فهم من الأمر في قوله:" أعفوا اللحى " تجويز معالجتها بما يغزرها كما يفعله بعض الناس (¬2). الثاني: قال: معنى أعفوا اللحى: أي أعفوها من الإحفاء. قال القاضي أبو الوليد: ويحتمل عندي أنه يريد أن تعفى من الإحفاء؛ لأن كثرتها ليس بمأمور بتركه (¬3). وقال السندي: المنهي قصها كصنع الأعاجم، وشعار كثير من الكفرة، فلا ينافيه ما جاء من أخذها طولاً ولا عرضاً للاصلاح (¬4). الجواب الثالث: وهذا قوي قال: إن اللفظ المطلق أو العام يقيد ويخصص بعمل الصحابة، أو بعضهم، وهي مسألة خلافية بعد الاتفاق على ¬
أن الصحابي إذا وجد من يخالفه فلا يخص به النص العام، ولا يقيد به المطلق (¬1). قال بعض العلماء المعاصرين: إذا كان عمل الصحابة خلاف العام أو خلاف المطلق، يكون العام والمطلق غير مراد، أو بعبارة أخرى، إذا كان فرد من أفراد العموم أو المطلق لم ¬
أدلة القائلين بالأخذ من اللحية
يجر العمل به، كان هذا الفرد غير مراد، وعليه فالمطلق في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أعفوا اللحى" غير مراد، لعدم جريان العمل به، فقد ثبت عن السلف الأخذ من اللحية، وكان معروفاً عندهم، وفيهم من روى العموم المذكور، كابن عمر، وحديثه في الصحيحين، وأبي هريرة وحديثه في مسلم وغيرهما. اهـ وسوف أسوق الآثار عن الصحابة في أدلة القول الثاني إن شاء الله تعالى. ولا يقال: إن فعل الصحابة يعارض النص، نعم يعارض النص لو أن ما جاء عن الصحابة يقتضي حلق اللحية، والنص يأمر بإعفاء اللحية، فحينئذ يقال: بينهما تعارض؛ لأنه يلزم من فعل هذا إبطال ذاك، أما الإعفاء فحقيقته لفظ مجمل، يصدق عليه إذا ترك اللحية حتى تكثر، فإذا أخذ ما زاد على القبضة لا يقال: إن هذا لم يعف لحيته، والله أعلم. الدليل الثاني على كراهة الأخذ من اللحية خارج النسك: أن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أعفوا اللحى " حيث لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا قولاً ولا فعلاً أنه أخذ من لحيته، فيكون فعله مبيناً للمجمل في أمره - صلى الله عليه وسلم - بإعفاء اللحية، وقول الشارع لا يقيده إلا نص منه، فالمطلق باق على إطلاقه، وكذا العام، وفعل الراوي ليس بحجة، لأن الحجة فيما روى، لا فيما رأى، خاصة أن فعله لم ينسبه للشرع، وقد يفهم الراوي خلاف المراد، وإن كان هذا نادراً، وقد ينسى، ويبقى الشأن ليس للرواي عصمة، وإنما العصمة للنص، والله أعلم. أدلة القائلين بالأخذ من اللحية. الدليل الأول: (574 - 138) روى البخاري في صحيحه، قال: قال: حدثنا محمد
الدليل الثاني
بن منهال، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا عمر بن محمد بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: خالفوا المشركين: وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب. وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر، قبض على لحيته فما فضل أخذه (¬1). قال الكرماني: لعل ابن عمر أراد الجمع بين الحلق والتقصير في النسك، فحلق رأسه كله، وقصر من لحيته ليدخل في عموم قوله تعالى: {محلقين رؤسكم ومقصرين} (¬2) وخص ذلك من عموم قوله: " وفروا اللحى " فتعقبه الحافظ، فقال: " والذي يظهر أن ابن عمر كان لا يخص هذا التخصيص بالنسك، بل كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تتشوه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللحية أو عرضه (¬3). قلت: هذا محتمل ويؤيده أن المنقول عن أبي هريرة أن كان يأخذ منها مطلقاً، ولم يقيد بحج أو عمرة، ويحتمل أن ابن عمر يراه من قضاء التفث، كما نقل عن ابن عباس وجماعة من التابعين كما سيأتي إن شاء الله تعالى. الدليل الثاني: (575 - 139) رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن شعبة، عن عمرو بن أيوب من ولد جرير، عن أبي زرعة، قال: كان أبو هريرة يقبض على لحيته ثم يأخذ ما فضل منها (¬4). ¬
الدليل الثالث
[ضعيف] (¬1). الدليل الثالث: (576 - 140) ما رواه ابن أبي شيبة قال: نا ابن نمير، عن عبد الملك، عن عطاء، عن ابن عباس قال: التفث: الرمي والذبح والحلق والتقصير والأخذ من الشارب والأظفار واللحية. ¬
[سنده صحيح] (¬1) وقد فسر الآية بمثل ما فسرها ابن عباس تابعيان جليلان: مجاهد، ومحمد بن كعب القرضي. أما تفسير مجاهد، فقد أخرجه الطبري، قال: ثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى (ح) (577 - 141) وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، ثم ليقضوا تفثهم. قال: حلق الرأس وحلق العانة وقص الأظفار وقص الشارب، ورمي الجمار، وقص اللحية (¬2). ¬
الدليل الرابع
(578 - 142) وأما تفسير محمد القرظي، فهو عند الطبراني أيضاً: قال: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول في هذه الآية: ثم ليقضوا تفثهم: رمي الجمار، وذبح الذبيحة، وأخذ من الشاربين واللحية، والأظفار، والطواف بالبيت وبالصفا والمروة (¬1). الدليل الرابع: (579 - 143) روى أبو داود، قال: حدثنا ابن نفيل، ثنا زهير، قرأت على عبد الملك بن أبي سليمان، وقرأه عبد الملك على أبي الزبير، ورواه أبو الزبير عن جابر قال: كنا نعفي السبال إلا في حج أو عمرة (¬2). [إسناده حسن] (¬3). ¬
قال الحافظ في الفتح: قوله: " نعفي " بضم أوله وتشديد الفاء أي نتركه وافراً، وهذا يؤيد ما نقل عن ابن عمر، فإن السبال بكسر المهملة وتخفيف الموحدة: جمع سبلة بفتحتين: وهي ما طال من شعر اللحية، فأشار جابر إلى أنهم يقصرون منها في النسك (¬1). وقوله: " كنا نعفي " حكاية عن الصحابة، كلهم أو أكثرهم، وهذا يؤيد أن الأخذ من اللحية لم يكن من فعل ابن عمر وحده، ولكن من فعل غالب الصحابة، وهذا الاستدلال يسلم إن كان يطلق السبال على اللحية. والحق أن السبال فيه سبعة أقوال، كلها تدور حول الشارب واللحية، فقيل: السبلة: مقدم اللحية، وما أسبل منها على الصدر، وهذا نص الأزهري. وقيل: ما على الذقن إلى طرف اللحية كلها أو مقدمها خاصة. وقيل: السبلة: هي الدائرة في وسط الشفة العليا. وقيل: ما على الشارب من الشعر. وقيل: مجتمع الشاربين. وقيل: طرف الشارب (¬2). (580 - 144) وقد روى ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا عائذ بن حبيب، عن أشعث، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: كنا نؤمر أن نوفي السبال، ونأخذ من الشارب (¬3). ¬
(581 - 145) وروى الطبراني في المعجم الكبير، قال: حدثنا أحمد بن داود المكي، ثنا قيس بن حفص الدارمي، ثنا سليمان بن الحارث (¬1)، ثنا جهضم بن الضحاك، قال: مررت بالنرجيج، فرأيت به شيخاً، قالوا: هذا العداء بن خالد بن هوذة، فقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: صفه لي، قال: كان حسن السبلة. وكانت العرب تسمي اللحية السبلة [إسناده ضعيف] (¬2). (582 - 146) وجاء إطلاق السبال على الشارب في السنة الصحيحة، فقد روى ابن حبان في صحيحه من طريق معقل بن عبيد الله، عن ميمون ¬
بن مهران، عن ابن عمر، قال: ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - المجوس، فقال: إنهم يوفون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم، فكان ابن عمر يجز سباله، كما يجز الشاة والبعير (¬1). والذي يظهر أن السبال على القول بأنه يطلق على اللحية والشارب، فإن المراد منه بحديث جابر: " كنا نعفي السبال " اللحية خاصة، لأن قص الشارب غير موقت بالحج أو العمرة، بل مطلوب أن لا يتركه أكثر من أربعين يوماً، فليس متوقعاً من الصحابة أنهم يعفون شواربهم إلا في الحج أو العمرة، فهذا قرينة أن المراد به شعر اللحية، وعلى هذا التفسير يطابق ما كان يفعله ابن عمر رضي الله عنه، وبه يصح أن الصحابة كلهم أو غالبهم كانوا يأخذون من شعر اللحية في النسك، والله أعلم. وإذا ثبت أن الصحابة يأخذون من اللحية في النسك، فإن هناك مقدمتين ونتيجة: المقدمة الأولى: هل كان الصحابة يجهلون الأمر بإعفاء اللحية، هذا الحكم الذي يعرفه آحاد المسلمين في بلادنا؟ المقدمة الثانية: إذا كانوا لا يجهلون الأمر بإعفاء اللحية، فإن السؤال، هل كان الصحابة لا يعرفون لغة مدلول كلمة الإعفاء في الأمر النبوي، وهذا أيضاً لا يمكن أن يقال: إن الصحابة، وهم أهل اللسان، وبلغتهم نزل التشريع، لا يمكن أن يقال: لا يعرفون مدلول كلمة الإعفاء. فبقي أن نقول بعد التسليم بالمقدمتين: وهو كون الأمر بإعفاء اللحية معلوماً لدى الصحابة، ومعنى ¬
الإعفاء معلوم أيضاً، فيبقى التسليم لفهم الصحابة أولى من التسليم لفهم من دونهم. فإن قيل: إن الصحابة لم يأخذوا إلا في النسك. قيل: ثبوته في النسك دليل على جوازه خارج النسك؛ ولأن النسك قيد غير مؤثر، كما لو قرأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - سورة في صلاة، وكانت الصلاة في السفر، لايقال: إن ذكر السفر قيد في استحباب قراءة هذه السورة، والدليل على هذا: أولاً: اللحية لا تعلق لها بالنسك، وإنما النسك في شعر الرأس خاصة، وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - النسك من قوله، ومن فعله، وقال: خذوا عني مناسككم، ولم ينقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بيان النسك أن اللحية لها تعلق به، فبطل اعتقاد أن الأخذ منها خاص بالنسك. وثانياً: أن السلف فهموا جواز الأخذ منها ملطقاً، ولم يقيدوه في النسك فيما أعلم إلا الشافعية فإنه كرهوه خارج النسك، ولم يحرموه، وعبر بعضهم بالأولى كما هي عبارة العراقي، وقد سقتها عند عرض الأقوال. ثالثاً: ولأني لا أعرف أحداً من السلف حرم الأخذ من اللحية مطلقاً، فمن ادعى تحريم أخذ ما زاد من القبضة من فهم السلف فليأت به، ولا أعلم أحداً قال به إلا من بعض المعاصرين في البلاد النجدية، قاله الشيخ تفقهاً، وقلده طلابه من غير بحث، وهو فهم لم يسبق إليه، ولم يوافق عليه من سائر البلاد الإسلامية، ومن ادعى فهماً من النص لم يسبق إليه فهو رد عليه، وإني أدعو القوم إلى ترك أقوالهم إلى أقوال السلف، ومن دعانا إلى تقليده تاركين مذهب السلف فقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
الدليل الرابع
رابعاً: ولأن أحداً لا يستطيع أن يقول إن الصحابة الذين أخذوا من اللحية في النسك لم يعفوا لحاهم حينئذ، وقد تشبهوا في المشركين في ترك الإعفاء. أو يقول: إن التشبه بالمشركين في ترك إعفاء اللحية داخل النسك مباح، وإذا كان خارج النسك كان محرماً، فلابد من القول بأن الصحابة، وإن أخذوا من لحاهم داخل النسك لم يخرجوا عن حد الإعفاء، وإذا كانوا لم يخرجوا عنه داخل النسك، لم يخرجوا عنه خارج النسك، والعجب أن قوماً من الحنابلة ينقمون علينا اتباع الدليل وتعظيم الآثار في مسائل كثيرة يكون فيها المذهب الحنبلي خلاف القول الراجح، ويدعوننا إلى التقليد واتباع الرجال، وترك الاجتهاد، وفي هذه المسألة التي وافقت مذهب أحمد من قوله وفعله لم تعجبهم، فخالفوا منهجهم في اتباع التقليد، فإن كان التقليد لمذهب الحنابلة هو الراجح عندهم فلما الغضب والمسألة لم تخرج عن مذهب الحنابلة؟ وإن كان التقليد باطلاً والمسألة من باب تعظيم الدليل، فلماذا ينقمون علينا في هذه المسألة وفي غيرها حرصنا على اتباع الدليل ومخالفة المذهب، ولكن كما يقال: لهوى النفوس سريرة لا تعلم. الدليل الرابع: (583 - 147) وقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن منصور، قال: سمعت عطاء بن أبي رباح قال: كانوا يحبون أن يعفوا اللحية إلا في حج أو عمرة (¬1). ¬
الدليل الخامس
وهذا إسناد صحيح، وظاهره أنه يحكي فعل من شاهد من الصحابة، وعلى أسوأ الأحوال أن يكون هذا فعل غالب التابعين، وإنما أخذوا مثل ذلك من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. الدليل الخامس: (584 - 148) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عائذ بن حبيب، عن أشعث، عن الحسن، قال: كانوا يرخصون فيما زاد على القبضة من اللحية أن يؤخذ منها (¬1). [وسنده ضعيف، ولكن يشهد له ما حكاه عطاء بسند صحيح]. وهل هذا خاص في النسك، فيه احتمال، وسبق الإشارة إليه، وقد روي عن ابن عمر الأخذ من اللحية بدون فعل الحج أو العمرة، كما سبق نقاشه، وعلى فرض أن هذا خاص في النسك، فإن فيه دلالة على أن الأخذ منها في النسك لا ينافي الإعفاء المأمور به في حديث ابن عمر وأبي هريرة، وإذا كان لا ينافي الإعفاء جاز أخذه في غير النسك، ولكن يكون أخذه في النسك من العبادة، وأخذه في غيره من الأمور الجائزة، والله أعلم. الدليل السادس: (585 - 149) ما وراه الترمذي، قال: حدثنا هناد، حدثنا عمر بن هارون، عن أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ من لحيته، من عرضها وطولها. [إسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل السابع
الدليل السابع: (586 - 150) ما رواه البيهقي في شعب الإيمان، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي ومحمد بن موسى بن الفضل، ثنا أبو العباس الأصم، ثنا يحيى بن أبي طالب، ثنا شبابة، أنا أبو مالك النخعي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً مجفل الرأس واللحية، فقال: على ما شوه أحدكم أمس، قال: وأشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى لحيته ورأسه يقول: خذ من لحيتك ورأسك (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
وله شاهدان مرسلان صحيحا الإسناد: (587 - 151) فقد روى أبو داود في المراسيل، قال: حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا مروان - يعني ابن معاوية - عن عثمان بن الأسود، سمع مجاهداً يقول: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً طويل اللحية، فقال: لم يشوه أحدكم نفسه (¬1). وأما الشاهد الثاني: (588 - 152) فقد رواه مالك في الموطأ، قال: عن زيد بن أسلم، أن عطاء بن يسار أخبره، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فدخل رجل ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده أن اخرج، كأنه يعني إصلاح شعر رأسه ولحيته، ففعل الرجل، ثم رجع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس، كأنه شيطان (¬2). [ورجاله ثقات إلا أنه مرسل، وليس صريحاً في الأخذ من اللحية] (¬3). ¬
الدليل الثامن
الدليل الثامن: (589 - 153) ما ررواه الخطيب في تاريخه، قال: أخبرنا علي بن المحسن المعدل، حدثنا أبو غانم محمد بن يوسف الأزرق، حدثنا محمد بن مخلد العطار، حدثنا أحمد بن الوليد وإبراهيم بن الهيثم البلدي، قالا: حدثنا أبو اليمان، حدثنا عفير بن معدان، عن عطاء، عن أبي سعيد، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا يأخذ أحدكم من طول لحيته، ولكن من الصدغين. قال أبو عبد الله: ابن مخلد هذا أحمد بن الوليد المخرمي لا يسوى فلساً (¬1). [ضعيف أو ضعيف جداً] (¬2). ¬
الدليل التاسع
الدليل التاسع: (590 - 154) روى ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن زمعة، عن ابن طاوس، عن سماك بن يزيد قال كان علي يأخذ من لحيته مما يلي وجهه (¬1). [ضعيف] (¬2). الدليل العاشر: (591 - 155) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: ثنا وكيع، عن أبي هلال، عن قتادة، قال: قال جابر: لا نأخذ من طولها إلا في حج أو عمرة (¬3). [حسن لغيره] (¬4). الراجح من الأقوال: أرى أن القول بأن الأخذ من اللحية بما زاد على القبضة جائز، ¬
الأدلة على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان كثيف اللحية
ولا يجب، (592 - 156) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو خالد، عن ابن جريج، عن ابن طاووس، عن أبيه أنه كان يأخذ من لحيته، ولا يوجبه (¬1). ولم أقل بوجوبه، لأن الأمر لم يثبت فيه قول أو فعل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، غاية ما فيه النقل عن بعض الصحابة، وأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا تدل على الوجوب، فكذلك أفعال غيره من باب أولى، ولو كان مستحباً أو واجباً لجاء الأمر به من الشارع، وما كان ربك نسياً، ولا يقال: إن هذا الفعل بيان للمجمل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أعفوا " فيأخذ حكمه؛ لأن فعل بعض الصحابة لا يعطى حكم فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع إمكان الفعل من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإما أن يقال: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإن كانت له لحية كبيرة إلا أنها لم تبلغ ما يدعو إلى الأخذ منها، فلم تتجاوز القبضة، وهذا هو المنصوص عليه كما سيأتي. وإما أن يقال: عدم النقل ليس نقلاً للعدم، وهذا مسلم في ظاهره، لكن يبعد أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - يفعله، ولا ينقل بالوقت الذي نقل فيه فعل بعض الصحابة رضوان الله عليهم. والأدلة على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان كثيف اللحية، (593 - 157) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا موسى، قال: حدثنا عبد الواحد، قال: حدثنا الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي معمر، قال: قلنا لخباب: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر، قال: نعم. قلنا: بم كنتم تعرفون ذاك؟ قال: باضطراب لحيته (¬2). ¬
(594 - 158) وروى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن سماك أنه سمع جابر بن سمرة يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد شمط مقدم رأسه ولحيته، وكان إذا أدهن لم يتبين، وإذا شعث رأسه تبين، وكان كثير شعر اللحية. الحديث (¬1). والله أعلم. (595 - 159) وروى النسائي، قال: أخبرنا علي بن الحسين، عن أمية بن خالد، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً مربوعاً، عريض ما بين المنكبين، كث اللحية، تعلوه حمرة، جمته إلى شحمتي أذنيه، لقد رأيته في حلة حمراء، ما رأيت أحسن منه (¬2). [رجاله ثقات، والحديث في الصحيحين وليس فيه كث اللحية] (¬3). ¬
وله شاهد من حديث علي عند أحمد، وفيه ابن عقيل (¬1)، ومن حديث هند بن أبي هالة وهو ضعيف (¬2). وكونه - صلى الله عليه وسلم - كث اللحية لا يلزم منه أنها طويلة؛ فقد فسر أهل اللغة من اللغويين والفقهاء أن كلمة كث تعني الشعر الكثير غير الطويل. جاء في تاج العروس: " كث اللحية وكثيثها، أراد كثرة أصولها ¬
وشعرها، وأنها ليست بدقيقة، ولا طويلة، ولكن فيها كثافة. وجاء في النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، وهو من أهل اللغة والفقه، قال: كث اللحية: الكثاثة في اللحية: أن تكون غير رقيقة ولا طويلة، ولكن فيها كثافة (¬1). فهذا تفسير أهل اللغة والفقه: أن لحية الرسول - صلى الله عليه وسلم - كثيرة الشعر، ليست بالطويلة، وإذا لم تكن طويلة لم يستدل على كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأخذ من لحيته على تحريم الأخذ من اللحية الطويلة. وكذلك جاء في مسلم: " كان كثير شعر اللحية " لا يلزم منه أن تكون طويلة إلى حد تتجاوز القبضة، والله أعلم. والأخذ من اللحية ليس واجباً؛ لكون النصوص عن الصحابة مجرد فعل، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، وفي دلالته على الاستحباب نظر، فإن كان من أمور العبادات كان مستحباً، وإن كان من قبيل العادات كان مباحاً. والقول بتحريم أخذ ما زاد على القبضة قول شاذ، لا أعلم أحداً من السلف قال به، فهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم، يحكى عن غالبهم كما في أثر جابر وعطاء بن أبي رباح، ومن فعل ابن عمر، ولم ينقل إنكار الصحابة رضوان الله عليهم. أيظن بالصحابة أنهم يجهلون الأمر بإعفاء اللحية الذي يعرفه عوام المسلمين في بلادنا، خاصة وفيهم ممن روى أحاديث الإعفاء. أو يظن بهم أنهم لا يعرفون مدلول كلمة (أعفوا) وهم أهل اللسان، وبلسانهم نزل القرآن، أو يظن أننا أشد غيرة من الصحابة، حيث ننكر على ¬
من أخذ من لحيته، وقصر في هذا صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم أنصح الناس. وهؤلاء أئمة التابعين، عطاء في مكة، والقاسم في المدينة، وقتادة، والحسن وابن سيرين في البصرة (¬1)، والشعبي (¬2)، وإبراهيم النخعي في الكوفة (¬3)، وطاوس في اليمن، وغيرهم من أئمة الفقه والدين يرون جواز الأخذ من اللحية، فهذه بلاد المسلمين في زمن التابعين لا تكاد ترى بلداً إلا وفيه من العلماء من يذهب إلى جواز الأخذ من اللحية، ولا يعلم لهم مخالف، أيظن بهم أنهم قد ظلوا في هذه المسألة؟ قد ظللت إذاً، وما أنا من المهتدين. وهؤلاء الأئمة الأربعة يذهبون إلى جواز الأخذ منها وأضيق المذاهب مذهب الشافعي رضي الله عنه فإنه قيد جواز الأخذ في النسك (¬4)، وإذا كان الأخذ ¬
منها في النسك لا ينافي الإعفاء، فكذلك الأخذ منها في غير النسك (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وهذا ابن عبد البر (¬1)، والقاضي عياض (¬2)، وابن جرير الطبري (¬3)، ¬
والطيبي (¬1) والغزالي من الشافعية (¬2)، والحافظ ابن حجر (¬3) يرون جواز الأخذ من اللحية. وقال ابن تيمية: وأما إعفاء اللحية فإنه يترك، ولو أخذ ما زاد على القبضة لم يكره، نص عليه (¬4). فقل بالله عليك مَنِ العلماء غيرهم؟ أفيكون قول يراه كل هؤلاء من لدن الصحابة حتى عصر الإمام أحمد، أفيكون قولاً شاذاً مخالفاً لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد اعترض على أحمد ابن هانئ بأحاديث الأعفاء، فأخبربأن هذا من الإعفاء والله أعلم. ¬
الفصل الثالث حلق ما تحت الذقن
الفصل الثالث حلق ما تحت الذقن اختلف الفقهاء في حلق ما تحت الذقن. فقيل: يجوز حلق ما تحت الذقن، وهو مذهب الحنابلة (¬1)، واختاره أبو يوسف من الحنفية (¬2). وقيل: يكره، وهو مذهب الحنفية (¬3)، ونقل عن مالك كراهة حلق ماتحت الحنك، حتى قال: إنه من فعل المجوس (¬4)، وهو مذهب الشافعية (¬5). فإن كان ما تحت الذقن من الشعر يعتبر من اللحية كان حلقه محرماً، وإن لم يكن من اللحية، فلم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حلقه، ولا يدخل هذا في أخذ ما زاد على القبضة حتى يستدل بفعل الصحابة، ولم أقف على نص يبيح ¬
أخذه. وتعريف اللحية في الفقه واللغة لم يتناوله، فقد سبق لنا في تعريف اللحية قولان: فقيل: اللحية: شعر الخدين والذقن. وقيل: الشعر النازل على الذقن. فليس داخلاً في مسمى اللحية على كلا القولين، وما تحت الذقن من الشعر ليس له حكم شعر الوجه في وجوب غسله في الوضوء. فهل يعتبر ما تحت الذقن من الشعر من المسكوت عنه، فيكون الأصل جواز حلقه، أو يعتبر من اللحية فيحرم، فيه تأمل، وإن كنت أميل للأول، وأن كل شعر ليس على اللحيين فإنه غير داخلا في شعر اللحية، والله أعلم.
الفصل الرابع في نتف الشيب
الفصل الرابع في نتف الشيب فقيل: يكره نتف الشيب، وهو مذهب المالكية (¬1)، ومذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، واختاره ابن تيمية (¬4). وقيل: لا بأس بنتف الشيب، اختاره بعض الحنفية (¬5). وقيل: يتوجه احتمال أنه يحرم، قاله ابن مفلح (¬6)، ولم يستبعده ¬
دليل من قال بالكراهة
النووي (¬1)، وحكى ابن الرفعة تحريمه عن نص الأم (¬2). دليل من قال بالكراهة. (596 - 160) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تنتفوا الشيب؛ فإنه ما من عبد يشيب في الإسلام شيبة إلا كتب الله له بها حسنة، وحط عنه بها خطيئة (¬3). [إسناده حسن] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وله شواهد، منها. الشاهد الأول: حديث أبي هريرة (597 - 161) روى ابن حبان في صحيحه، قال: خبرنا أحمد بن علي بن المثنى، قال: حدثنا إبراهيم بن الحجاج السامي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تنتفوا الشيب؛ فإنه نور يوم القيامة، ومن شاب شيبة في الإسلام كتب له بها حسنة، وحط عنه بها ¬
خطيئة، ورفع له بها درجة (¬1). [إسناده حسن إن شاء الله] (¬2) ¬
الشاهد الثاني: حديث فضالة بن عبيد. (598 - 162) رواه أحمد، قال: ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد العزيز بن أبي الصعبة، عن حنش، عن فضالة بن عبيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من شاب شيبة في سبيل الله كانت نوراً له يوم القيامة، فقال رجل عند ذلك: فإن رجالا ينتفون الشيب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من شاء فلينتف نوره. [فيه ابن لهيعة، لكن الراوي عنه قتيبة بن سعيد، وروايته عنه أعدل من غيرها، وقد توبع فالحديث حسن] (¬1). ¬
الشاهد الثالث: (599 - 163) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا هشام، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة اليعمري، عن أبي نجيح السلمي، قال: حاصرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصن الطائف، فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من بلغ بسهم في سبيل الله فهو له عدل محرر، فبلغت يومئذ بستة عشر سهماً، فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من رمى بسهم في سبيل الله عز وجل فهو له درجة في الجنة، ومن شاب شيبة في الإسلام كانت به نوراً يوم القيامة، وأيما رجل مسلم أعتق رجلا مسلماً فإن الله عز وجل جاعل وفاء كل عظم من عظامها محرراً من النار، وأيما امرأة مسلمة أعتقت فان الله عز وجل جاعل وفاء كل عظم من عظامها محرراً من النار (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬
الشاهد الرابع: عن أنس موقوفاً. ¬
دليل من قال بالتحريم
(600 - 164) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي، حدثنا أبي، حدثنا المثنى بن سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: يكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من رأسه ولحيته (¬1). وفيه شواهد أخرى تركتها اقتصاراً واختصاراً، عن عمر بن الخطاب (¬2)، وعن كعب بن مرة (¬3)، وعن غيرهما. دليل من قال بالتحريم. حمل النهي عن نتف الشيب بأنه للتحريم، وحمله غيره بأنه للكراهة. دليل من قال بالجواز. بنى على الأصل، ولعله لم يثبت عنده هذا الحديث، أو لم يبلغه، ولذلك حين سئل الإمام مالك رحمه الله عن نتف الشيب، قال: ما علمته حراماً، وتركه أحب إلي " (¬4). وقال عمر بن بدر الموصلي: لا يصح في هذا الباب شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ¬
الفصل الخامس في تغيير الشيب
الفصل الخامس في تغيير الشيب
المبحث الأول تغيير الشيب بغير السواد
المبحث الأول تغيير الشيب بغير السواد اختلف العلماء في تغيير الشيب بغير السواد، فقيل: يسن خضاب الشيب بغير السواد من حمرة أو صفرة. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وقيل: مباح تغيير الشيب، وهو ظاهر مذهب المالكية (¬4). ¬
وقيل: لا يسن تغيير الشيب، وهذا القول مروي عن عمر (¬1)،وسعيد بن جبير (¬2). ¬
دليل من قال بالسنية
وقيل: يجب تغيير الشيب، وهو رواية عن أحمد (¬1). دليل من قال بالسنية. الدليل الأول (601 - 165) ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، قال: حدثني إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب قال: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: إن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم. ورواه مسلم (¬2). فأمر بالصبغ مخالفة لليهود والنصارى، كما أمر بإعفاء اللحية مخالفة للمشركين. ¬
الدليل الثاني
قال أحمد: ما رأيت أحداً أكثر خضاباً من أهل الشام، ثم قال: الخضاب هو عندي كأنه فرض، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم (¬1). الدليل الثاني: (602 - 166) حدثنا محمد بن بكار بن الريان، حدثنا إسمعيل بن زكرياء، عن عاصم الأحول، عن ابن سيرين، قال: سألت أنس بن مالك هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خضب؟ فقال: لم يبلغ الخضاب كان في لحيته شعرات بيض. قال: قلت له: أكان أبو بكر يخضب؟ قال: فقال: نعم بالحناء والكتم (¬2). وأبو بكر له سنة متبعة. دليل من قال يباح تغيير الشيب وليس بسنة. قال: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يصبغ كما في حديث أنس في الصحيح، وصبغ جمع من الصحابة، وترك جمع من الصحابة أيضاً، فدل على أن الأمر واسع. قال ابن عبد البر: جاء عن جماعة من السلف من الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين أنهم خضبوا بالحمرة والصفرة، وجاء عن جماعة كثيرة منهم أنهم لم يخضبوا، وكل ذلك واسع كما قال مالك والحمد لله (¬3). وقال الحافظ: " ترك الخضاب علي وأبي بن كعب وسلمة بن الأكوع ¬
وأنس وجماعة " (¬1). (603 - 167) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن إسماعيل، عن الشعبي، قال: رأيت علياً أبيض الرأس واللحية، وقد ملأت ما بين منكبيه (¬2). [إسناده صحيح]. (604 - 168) روى ابن أبي شيبة أيضاً، قال: حدثنا ابن إدريس، عن شعبة، عن يونس، عن الحسن، عن عيسى التيمي، قال: رأيت أبي أبيض الرأس واللحية (¬3). [إسناده صحيح، وعيسى هو ابن طلحة بن عبيد الله]. (605 - 169) ورواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا أبو عامر صالح بن رستم، قال: حدثنا حميد بن هلال، قال: حدثني الأحنف بن قيس، قال: قدمت المدينة، فدخلت مسجدها، فبينما أنا أصلي إذ دخل رجل طويل آدم، أبيض اللحية، والرأس محلوق يشبه بعضه بعضاً، فخرجت فاتبعته، فقلت: من هذا؟ قال: أبو ذر. [رجاله ثقات إلا صالح بن رستم صدوق كثير الخطأ] (¬4). وجمع الطبري، فقال: بأن من صبغ منهم كان اللائق به كمن يستشنع ¬
دليل من قال لا يسن تغيير الشيب
شيبه، ومن ترك كان اللائق به كمن لا يستشنع شيبه، وعلى ذلك حمل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر الذي أخرجه مسلم في قصة أبي قحافة حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: لما رأى رأسه كأنها الثغامة بياضاً: غيروا هذا وجنبوه السواد، ومثله حديث أنس الذي تقدمت الإشارة إليه ثم قال: فمن كان في مثل حال أبي قحافة استحب له الخضاب؛ لأنه لا يحصل به الغرور لأحد، ومن كان بخلافه فلا يستحب في حقه، ولكن الخضاب مطلقاً أولى؛ لأنه فيه إمتثال الأمر في مخالفة أهل الكتاب، وفيه صيانة للشعر عن تعلق الغبار وغيره به إلا إن كان من عادة أهل البلد ترك الصبغ، وأن الذي ينفرد بدونهم بذلك يصير في مقام الشهرة فالترك في حقه أولى. الخ كلامه رحمه الله (¬1). دليل من قال لا يسن تغيير الشيب. الدليل الأول: (606 - 170) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي، حدثنا أبي، حدثنا المثنى بن سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: يكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من رأسه ولحيته (¬2). الدليل الثاني: (607 - 171) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا هشام، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة اليعمري، ¬
الدليل الثالث
عن أبي نجيح السلمي، قال: حاصرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصن الطائف، فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من بلغ بسهم في سبيل الله فهو له عدل محرر، فبلغت يومئذ بستة عشر سهماً، فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من رمى بسهم في سبيل الله عز وجل فهو له درجة في الجنة، ومن شاب شيبة في الإسلام كانت به نوراً يوم القيامة، وأيما رجل مسلم أعتق رجلا مسلماً فإن الله عز وجل جاعل وفاء كل عظم من عظامها محرراً من النار، وأيما امرأة مسلمة أعتقت فان الله عز وجل جاعل وفاء كل عظم من عظامها محرراً من النار (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). وجه الاستدلال قوله: " من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة " والصبغ يذهب الشيب. والله أعلم. الدليل الثالث: (608 - 172) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا قيس، عن الركين بن الربيع، عن القاسم بن حسان، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن عبد الله بن مسعود، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره عشرة: الصفرة - يعني الخلوق -والتختم بالذهب، والرقى إلا بالمعوذات، وعزل الماء عن محله، والتبرج بالزينة لغير محلها، وعقد التمائم، وجر الإزار، ¬
وإفساد الصبي غير محرمه، وتغيير الشيب، والضرب بالكعاب (¬1). [انفرد به عبد الرحمن بن حرملة دون سائر أصحاب ابن مسعود، وليس بالقوي، وفسر جرير تغيير الشيب بنتفه عند أحمد] (¬2). ¬
وأجيب: بأن هناك فرقاً بين تغيير الشيب، وبين نتفه، قال ابن العربي وإنما نهى عن النتف دون الخضب؛ لأن فيه تغيير الخلقة من أصلها بخلاف الخضب فإنه لا يغير الخلقة علىالناظر إليه والله أعلم (¬1). ¬
المبحث الثاني تغيير الشيب بالسواد
المبحث الثاني تغيير الشيب بالسواد خضاب الشيب بالسواد اتفقوا على جوازه في الحرب (¬1)، واختلفوا في غير الحرب: فقيل: يحرم. وهو قول في مذهب الشافعية، اختاره جماعة منهم، ورجحه النووي (¬2). وقيل: يكره بالسواد لغير حرب، وهو قول في مذهب الحنفية (¬3)، ومذهب المالكية (¬4)،وقول في مذهب ¬
الشافعية (¬1)، والمشهور في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: جائز بلا كراهة، وهو قول في مذهب الحنفية (¬3)، واختيار أبي يوسف، (¬4) ومحمد بن الحسن (¬5)، ومذهب بعض الصحابة (¬6)، واختاره جماعة من التابعين منهم ابن سيرين (¬7)،وأبو سلمة (¬8)، ونافع ¬
دليل القائلين بالتحريم
بن جبير (¬1)، وموسى بن طلحة (¬2)، وإبراهيم النخعي (¬3) وغيرهم. وقيل: يجوز للمرأة، ولا يجوز للرجل، وهو قول إسحاق (¬4)، واختاره الحليمي (¬5). دليل القائلين بالتحريم. الدليل الأول (609 - 173) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثني أبو الطاهر، أخبرنا عبد الله بن وهب، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: أتي بأبي قحافة يوم فتح مكة، ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غيروا هذا بشيء، واجتنبوا السواد (¬6). ¬
[الحديث صحيح، واختلف في قوله: وجنبوه السواد] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
فقيل: إنها ليست من الحديث، لأن أبا الزبير أنكرها من رواية زهير ابن معاوية عنه، ولم يذكرها عزرة بن ثابت عن أبي الزبير، وإذا اختلف في ثبوتها عن أبي الزبير فإن المرجع هو أبو الزبير، وقد صرح أنها ليست في الحديث. وثانياً: أن ابن جريج كان يصبغ بالسواد، وهو ممن روى الحديث عن أبي الزبير. وأجيب: أولاً: أنه قد رواه جملة من الرواة غير زهير بن معاوية بإثبات: "وجنبوه السواد " منهم ابن جريج وهو في مسلم، وأيوب السختياني عند أبي عوانة بسند صحيح. وليث بن أبي سليم، وأجلح وفي إسناديهما ضعف منجبر، فلا يتصور وقوع إدراج في الحديث؛ لأن الإدراج يحتمل وروده من الواحد، أما من الجماعة فبعيد وعليه فيكون نفي أبي الزبير محمولاً على نسيانه لها، وهذا قد يحدث ¬
لبعض الحفاظ الكبار كما هو معروف. قلت: ليست العلة في الحديث إدراج لفظة: " وجنبوه السواد " إنما علته تردد أبي الزبير، فتارة يثبتها، وتارة ينفيها، ولو كان أبوالزبير يشك في ثبوتها أو يتردد لقيل: من حفظ مقدم على من لم يحفظ، وإذا اختلف على الراوي فتارة يذكرها، وتارة ينفيها كان هذا سبباً في إضعاف روايته، ولا أحمل على أحد من الرواة عن أبي الزبير، وإنما الحمل عليه هو. وأبو الزبير ليس بالمتقن (¬1). ¬
قالوا: وأما كون ابن جريج يصبغ، فليس بحجة في قوله ولا في فعله، فالحجة في روايته، فكيف تبطلون ما روي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بفعل تابعي غير معصوم؟!!! ثانياً: أن الإمام أحمد قد جاء عنه ما يدل على تصحيحه لهذه اللفظة، (610 - 174) جاء في كتاب الترجل والوقوف: أخبرني عصمة بن عصام، حدثنا حنبل، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: وأكره السواد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: وجنبوه السواد " (¬1). وجَزْمُ إمام أهل السنة بنسبة الحديث إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدل على ثبوته عنده، فلو كان الاختلاف على أبي الزبير مؤثراً لأعله إمام أهل السنة، فإنه في العلل سل به خبيراً. قلت: فأما كراهيته للسواد فهذا ثابت عن أحمد، لا نزاع في ثبوته عنه، ولا يلزم من كراهيته له أن تكون زيادة: " وجنبوه السواد ثابتة "؛ لأن الإمام قد يأخذ به فقهاً لإمور ودواع أخرى مما يوافق أصوله، ولا يراه ثابتاً من ¬
ناحية الإسناد، فهذا حديث التسمية في الوضوء يرى الإمام أحمد أنه لا يصح في الباب شيء، ومع ذلك يراه فقهاً، وأمثلة هذا كثيرة. وأما نسبة الحديث إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فجاء من طريق عصمة بن عصام، عن حنبل بن إسحاق، عن أحمد، فلا أظنها تثبت عنه (¬1). ثالثاً: أن الإمام مسلماً قد أخرجها في صحيحه، وهو أصح كتاب بعد البخاري، وقد تلقته الأمة بالقبول، وإخراجها في كتابه تصحيح لها، وهذا يدل على أن الحديث ثابت عنده، وكفى بذلك تصحيحاً. ¬
وأجيب: لا يلزم من إيراد مسلم له في صحيحه أن يكون قد صحح هذه الزيادة، فقد قال لي بعض الإخوة في المذاكرة: إذا ساق مسلم الحديث بلفظ، ثم أعقبه بلفظ آخر يخالفه كان ذلك منه تنبيهاً على علته، ولو لم يصرح، وقد أكثر من هذا أبو داود في سننه. وهذا يمكن أن يقبل لو نص عليه إمام، أوكان نتيجة للدارسة والسبر، فإن كان هذا مسلماً فذاك، وإن كان غير مسلم، فإنه قد انتقدت بعض الأحاديث في البخاري ومسلم، وسُلِّم للدارقطني وغيره بعض الإعتراضات على بعض الأحاديث، وما انتقده العلماء ليس داخلاً في تلقي الأمة له بالقبول، وهذا الحديث منها، والله أعلم. ثم وجدت من نص على هذه الحقيقة، وقد أثبت ذلك من خلال دراسته لصحيح مسلم (¬1). ¬
جواب آخر ذكره أبو حفص الموصلي: قال: والجواب عن حديث وجنبوه السواد من وجهين: الأول: أن أحاديث مسلم لا تقاوم أحاديث البخاري!! يقصد حديث أبي هريرة في الصحيحين: إن اليهود والنصارى لايصبغون فخالفوهم، فأمر بالصبغ وأطلق ولم يقيد بشيء. والجواب: أحاديث البخاري أقوى من أحاديث مسلم بالجملة هذا مسلم، ولا نحتاج إلى الترجيح إلا حيث يوجد التعارض بحيث لا يمكن العمل بكلا الدليلين، وحديث البخاري لا يعارض هنا حديث مسلم، لأن مطلق حديث أبي هريرة بالأمر بالصبغ مقيد بحديث جابر في تجنيب السواد، والمطلق لا يعارض المقيد، كما أن العام لا يعارض الخاص، وهذا الجواب قوي لو صح الحديثان، فالمقيد يقدم على المطلق إذا كانا صحيحين، وإلا فلايقيد الحديثَ الصحيحَ حديثُ ضعيفُ، والله أعلم. الوجه الثاني: قال: إن الحسن والحسين وسعد بن أبي وقاص قد صبغوا بالسواد، فلو كان حراماً لما فعلوه، وكذلك كانوا في زمان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فلو كان حراماً لأنكروا عليهم (¬1). وأجيب: بأن العصمة إنما هي للوحي، وكم من حديث صحيح ثابت خالفه أفراد من الصحابة، فنعتذر للصاحب بأنه لا يتعمد الخطأ، لكن لا نبطل النص الشرعي لمخالفة بعض الصحابة، والله أعلم. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (611 - 175) فقد روى أحمد بن حنبل، قال: ثنا محمد بن سلمة الحراني، عن هشام، عن محمد بن سيرين، قال: سئل أنس بن مالك عن خضاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن شاب إلا يسيراً، ولكن أبا بكر وعمر بعده خضبا بالحناء والكتم، قال: وجاء أبو بكر بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة يحمله حتى وضعه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: لو أقررت الشيخ في بيته لأتيناه مكرمة لأبي بكر، فأسلم، ولحيته ورأسه كالثغامة بياضاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غيروهما، وجنبوه السواد (¬1). [لم يذكر قصة أبي قحافة في الحديث إلا محمد بن سلمة عن هشام، وقد رواه غيره عن هشام، ولم يذكرها، كما رواه جمع من الرواة عن أنس بدون ذكرها، والحديث في الصحيحين بدون ذكر قصة أبي قحافة فلا أظنها محفوظة من حديث أنس] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (612 - 176) ما رواه الطحاوي، قال: حدثنا فهد بن سليمان، قال: حدثنا أحمد ابن حميد ختن عبيد الله بن موسى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن أسماء قالت: لما كان يوم الفتح أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي قحافة، وكأنَّ رأسه ولحيته ثغامة، قال: غيروه، وجنبوه السواد (¬1). [إسناده ضعيف فيه المحاربي وقد عنعن، ورواه غيره لم يقل: وجنبوه السواد] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (613 - 177) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا عبدان بن أحمد، قال: حدثنا محبوب بن عبد الله النميري أبو غسان، قال: حدثنا أبو سفيان المديني، عن داود بن فراهيج، عن أبى هريرة، قال: لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة، وأبو بكر قائم على رأسه، قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إن أبا قحافة شيخ كبير، وإنه بناحية مكة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قم بنا إليه. فقال: يا رسول الله هو أحق أن يأتيك، فجيء بأبي قحافة كأن لحيته ورأسه ثغامة بيضاء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غيروه، وجنبوه السواد (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (614 - 178) ما رواه أحمد، قال: ثنا حسين وأحمد بن عبد الملك، قالا: ثنا عبيد الله يعنى ابن عمرو، عن عبد الكريم، عن ابن جبير - قال أحمد: عن سعيد بن جبير - عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بهذا السواد. قال حسين: كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة (¬1). [رجاله ثقات إلا أنه اختلف في وقفه ورفعه] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وأجيب بأجوبة: ¬
الأول: ضعف الحديث لأن في إسناده اختلافاً، وقد ناقشت هذا في التخريج. قال أبو حفص الموصلي: قد ورد: " يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد، لا يريحون رائحة الجنة، ولا يصح في هذا الباب شيء غير قوله في حق أبي قحافة: " وجنبوه السواد " والجواب عنه من وجهين: ثم ذكرهما (¬1). الجواب الثاني: أن الوعيد الشديد ليس على الصبغ بالسواد، وإنما هو على معصية أخرى لم تذكر، كما قال الحافظ ابن أبي عاصم في كتاب الخضاب له (¬2)، وابن الجوزي كما سيأتي عنه، ويدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد، وقد عرفت وجود طائفة قد خضبوا بالسواد في أول الزمان وبعده من الصحابة والتابعين وغيرهم رضي الله عنهم، فظهر أن الوعيد المذكور ليس على الخضاب بالسواد؛ إذ لو كان الوعيد على الخضب بالسواد لم يكن لذكر قوله في آخر الزمان فائدة، فالاستدلال بهذا الحديث على كراهة الخضب بالسواد ليس بصحيح. قلت: قد يكون فائدة ذكر آخر الزمان أنه يكثر فيه، وينتشر، بخلاف ما وجد في العصر الأول، فإن الصبغ من آحادهم، وعلى كل حال هذا تأويل للنص والذي ينبغي على طالب العلم أن يترك تأويل النصوص وحملها على خلاف الظاهر، وإذا كنا نعيب على أهل البدع تأويل نصوص الصفات، ¬
فكيف نسمح لأنفسنا أن نقبل به هنا، وما الفائدة من ذكر هذا الخبر إذا كان على معصية لم تعلم، ويكون الخبر لغواً لا فائدة فيه؛ لأننا لا نعلم جرمهم لنتقيه، غاية ما فيه أن في آخر الزمان قوماً لايريحون رائحة الجنة، ثم القاعدة الأصولية: أن الحكم إذا رتب على وصف فإنه يدل على أن الوصف علة في الحكم، فلو قال قائل: إن قوله تعالى: {والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} (¬1). لو قال: إن الجلد ليس على الزنا، وإنما هو على معصية أخرى لم تذكر هل يمكن أن يقبل ذلك منه؟ الثالث: أن المراد بالخضب بالسواد في هذا الحديث الخضب به لغرض التلبيس والخداع، لا مطلقا جمعاً بين الأحاديث المختلفة، وهو حرام بالاتفاق (¬2). قال ابن الجوزي: إنما كرهه - يعني الصبغ بالسواد - قوم لما فيه من التدليس، فأما أن يرتقي إلى درجة التحريم إذا لم يدلس، فيجب به هذا الوعيد، فلم يقل بذلك أحد، ثم نقول على تقدير الصحة يحتمل أن يكون المعنى: لا يريحون ريح الجنة لفعل صدر منهم أو اعتقاد، لا لعلة الخضاب، ويكون الخضاب سيماهم، فعرفهم بالسيما، كما قال في الخوارج: سيماهم التحليق، وإن كان تحليق الشعر ليس بحرام (¬3). ¬
الجواب الرابع عن الحديث: لقد صبغ جماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسواد، أيكون الصبغ متوعداً عليه بأنه لا يريح رائحة الجنة، ثم هؤلاء يصبغون؟!!، ولا ينقل إنكار من الصحابة رضوان عليهم، وهم أكمل الأمة في النصح والعلم والقيام بالواجب، لا يخافون في الله لومة لائم. وأجيب: بأننا إنما نحتاج إلى الرد إلى أقوال الصحابة وأفعالهم فيما لم يرد فيه نص، أما ما رود فيه نص فلا يحتاج الأمر إلى الرجوع إلى أفعال الصحابة، قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فروده إلى الله والرسول} (¬1)، فإذا كانت السنة واضحة صريحة فلا ترد إلى غيرها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى هناك مسائل كثيرة خالف فيها بعض الصحابة النص المتفق عليه، ومع ذلك لم يقدح هذا في النص، أرأيت إلى لبس خاتم الذهب جاء فيه النص واضحاً بتحريمه، ومع ذلك جاء عن عدد من الصحابة كانوا يلبسون خاتم الذهب، فهل كان ذلك علة في رد النص؟ وقد يقال: إن الرجوع إلى فهم الصحابة يتعين لفهم النص، وفهمهم أولى من فهم غيرهم، فيحمل على أن النهي للكراهة لمخالفتهم النهي، لكن يشكل عليه قوله في الحديث: " لا يرح رائحة الجنة " لا يقال مثل هذا في المكروه، والله أعلم. ¬
الجواب الخامس: أن العقوبة الواردة في الحديث مبالغ فيها، وقد يكون من أسباب ضعف الحديث أن يرتب على العمل اليسير ثواب عظيم، أو عقاب كبير كما ذكر ذلك العلماء، وهذا يقال هنا لأن الإسناد ليس من القوة (¬1)، فالتحريم نحتاج للقول به إلى إسناد صحيح خال من النزاع؛ لأن الأصل الحل، ولا ننتقل عنه إلا بدليل صحيح صريح خال من النزاع. وأجيب: بأن الشرع هو الذي يقدر أن الذنب يسير أو عظيم، ولذلك ورد وعيد ¬
الدليل السادس
شديد في المسبل إزاره، (615 - 179) فقد روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن المثنى وابن بشار، قالوا: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن علي بن مدرك، عن أبي زرعة، عن خرشة بن الحر، عن أبي ذر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، قال: فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرار. قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل، والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب (¬1). فلا يمكن أن نعل الحديث بأن ذنب الإسبال يسير فكيف يتوعد عليه بمثل هذه العقوبة، والله أعلم. الدليل السادس: (616 - 180) ما رواه ابن عدي في الكامل، قال: حدثنا صدقة بن منصور بحران، قال: ثنا أبو معمر، قال: ثنا عاصم بن سليمان التميمي، عن إسماعيل بن أمية، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: جيء بأبي قحافة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، ورأسه ولحيته كأنها ثغامة، فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم -: غيروا هذا الشيب، وجنبوه السواد (¬2). [موضوع بهذا الإسناد] (¬3). ¬
الدليل السابع
الدليل السابع: (617 - 181) قال ابن سعد: أخبرنا معن بن عيسى، قال: حدثني عبد الله بن المؤمل، عن عكرمة بن خالد، قال: أتي بأبي قحافة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكأن رأسه ثغامة، فبايعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: غيروا رأس الشيخ بحناء. [ضعيف وذكر الحناء فيه منكر] (¬1). ¬
الدليل الثامن
الدليل الثامن: (618 - 182) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن عبد الملك، قال: سئل عطاء عن الخضاب بالوسمة؟ فقال: هو مما أحدث الناس، وقد رأيت نفراً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما رأيت أحداً منهم يختضب بالوسمة، ما كانوا يخضبون إلا بالحناء والكتم وهذه الصفرة (¬1). [إسناده صحيح] وأجيب: أولاً: لا شك أنه ثبت عن بعض الصحابة الصبغ بالأسود، ثبت عن الحسن من طرق كثيرة وبعضها صحيح، وثبت عن عقبة بن عامر بسند صحيح، وسيأتي النقول عنهم إن شاء الله. (619 - 183) ثانياً: قد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن نمير، عن إسرائيل، عن عبد الأعلى، قال: سألت ابن الحنفية عن الخضاب بالوسمة؟ فقال: هي خضابنا أهل البيت (¬2). [وسنده حسن] ثالثاً: أن الصبغ بالأسود على فرض أن جميع الصحابة لم يصبغوا به، لم ينقل عن الصحابة أيضاً أنهم كرهوه أو منعوه، ولو نقل لكان صالحاً للحجة. وقال بعضهم: إن الوسمة صبغ ليس بالأسود، قيل: إن كان كذلك لم يكن قول عطاء بأن الصبغ به حدث دليل أن الصحابة لم يصبغوا بالأسود، ¬
الدليل التاسع
فأما أن تعتبره أسود فالجواب عنه ما علمت، أو ليس بالأسود فلا تستدل به على أن الصحابة لم يصبغوا بالأسود. الدليل التاسع: (620 - 184) ما رواه ابن عدي من طريق رشدين بن سعد، عن أبي صخر حميد بن زياد، عن يزيد بن قسيط، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله يبغض الشيخ الغربيب. قال أحمد: قال رشدين: الذي يخضب بالسواد (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
دليل القائلين بكراهة الخضاب بالسواد
دليل القائلين بكراهة الخضاب بالسواد. جمعوا بين النهي عن الخضاب بالسواد، وبين فعل الصحابة على أن النهي ليس للتحريم، ولو كان للتحريم لما خضب جمع من السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. قال ابن القيم: " صح عن الحسن والحسين رضي الله عنهما أنهما كان يخضبان بالسواد، ذكر ذلك عنهما ابن جرير في كتاب تهذيب الآثار، وذكره عن عثمان بن عفان، وعبد الله بن جعفر، وسعد بن أبي وقاص، وعقبة بن عامر، والمغيرة بن شعبة، وجرير بن عبد الله، وعمرو بن العاص، وحكاه عن جماعة من التابعين منهم عمرو بن عثمان، وعلي بن عبد الله بن عباس، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبد الرحمن بن الأسود، وموسى بن طلحة، والزهري، وأيوب، وإسماعيل بن معدي كرب، وحكاه ابن الجوزي عن محارب بن دثار، ويزيد، وابن جريج، وأبي يوسف، وأبي إسحاق، وابن أبي ليلى، وزياد بن علاقة، وغيلان بن جامع، ونافع بن جبير، وعمرو بن علي ¬
المقدمي، والقاسم بن سلام (¬1). فذكر ابن القيم ثمانية من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبغون بالسواد، أيكون الصبغ متوعداً عليه بأنه لا يريح رائحة الجنة، ثم هؤلاء يصبغون!! ولا ينقل إنكار من الصحابة رضوان عليهم، وهم أكمل الأمة في النصح والعلم والقيام بالواجب، لا يخافون في الله لومة لائم، فإما أن نقول: إن فعل مثل هؤلاء يقدح في المنقول من النهي، وهذا غير جيد، أو نقول: إن فعل هؤلاء يبين أن النهي ليس للتحريم، وإنما هو للكراهة، فيكون من أجازه لم يعارض من كرهه، والجواز لا ينافي الكراهة كما هو معروف، ومن خضب بالسواد فهم أن الأمر على التخيير. والله أعلم. قال ابن القيم: وأما الخضاب بالسواد، فكرهه جماعة من أهل العلم، وهو الصواب بلا ريب (¬2). وسوف أحاول تخريج بعض الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم، لأن أقوالهم ليست كأقوال غيرهم. (621 - 185) فقد روى عبد الرزاق في المصنف، قال: عن معمر، عن الزهري، قال: إن الحسين بن علي يخضب بالسواد. قال معمر: رأيت الزهري يغلف بالسواد وكان قصيراً (¬3). ¬
(622 - 186) وروى عبد الرزاق أيضاً، قال: عن معمر، عن الزهري قال: كان الحسن بن علي يخضب بالسواد (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الأثر الثاني: (623 - 187) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا شبابة، قال: حدثنا ليث بن سعد، قال: حدثنا أبو عشانة المعافري، قال: رأيت عقبة بن عامر يخضب بالسواد ويقول: نسود أعلاها وتأبى أصولها ......... (¬1). الأثر الثالث: (624 - 188) روى ابن أبي الدنيا في العمر والشيب، قال: حدثنا أبو كريب، حدثنا زكريا بن عدي، عن زاجر بن الصلت، عن الحارث بن عمرو، عن البحتري بن عبد الحميد، أن عمر بن الخطاب قال: نعم الخضاب ¬
السواد هيبة للعدو ومسكنة للزوجة (¬1). [سنده ضعيف] (¬2). الأثر الرابع: (625 - 189) روى الطبراني في الكبير، قال: حدثنا أحمد بن رشدين المصري، ثنا نعيم بن حماد، ثنا رشدين بن سعد، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن سعد بن أبي وقاص كان يخضب بالسواد. [سنده ضعيف] (¬3). ¬
الأثر الخامس: (626 - 190) روى الطبراني، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ثنا محمد بن منصور الكلبي قال حدثني سليم أبو الهذيل قال: رأيت جرير بن عبد الله يخضب رأسه ولحيته بالسواد (¬1). الأثر السادس: (627 - 191) قال الهيثمي في المجمع: وعن عبد الله بن عمرو، أن عمر بن الخطاب رأى عمرو بن العاص وقد سود شيبه فهو مثل جناح الغراب، فقال: ما هذا يا أبا عبد الله؟ فقال: يا أمير المؤمنين أحب أن يرى في بقية، فلم ينهه عن ذلك ولم يعبه عليه. قال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه راو لم يسم، قال سعيد بن أبي مريم: حدثني من أثق به، وعبد الرحمن بن أبي الزناد وبقية رجاله ثقات (¬2). أما الآثار عن التابعين فهي كثيرة جداً، ولكن لما كانت المسألة فيها أحاديث أكتفيت بها، لأن الاستدلال بأقوال التابعين إنما يستأنس به إذا لم يكن في المسألة سنة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه، فإننا نرجع إلى آثار السلف من التابعين رضوان الله عليهم أجمعين ¬
دليل من قال يجوز تغيير الشيب بالسواد
دليل من قال يجوز تغيير الشيب بالسواد. الدليل الأول: لم يثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهي في التحريم، والأصل في الأشياء الإباحة. قال يحيى: سمعت مالكاً يقول في صبغ الشعر بالسواد: لم أسمع في ذلك شيئاً معلوماً، وغير ذلك من الصبغ أحب إلي. قال: وترك الصبغ كله واسع إن شاء الله، ليس على الناس فيه ضيق (¬1). وإمام بمثل مالك، وهو في المدينة قد رأى فقهاء التابعين وأخذ منهم يرى أنه لم يسمع في الصبغ بالسواد شيئاً دليل على أن أحاديث النهي في الباب لاتصح. الدليل الثاني: (628 - 192) ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، قال: حدثني إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب قال: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن، إن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم. ورواه مسلم (¬2). وجه الاستدلال: أن الحديث يقتضي الأمر بالصبغ، ولم يقيد صبغاً دون صبغ، فبأي شيء صبغ الرجل فقد امتثل الأمر ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (629 - 193) ما رواه أحمد، قال: ثنا يزيد وابن نمير قالا ثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى (¬1). [إسناده حسن] (¬2). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بتغيير الشيب، فله أن يغيره بأي شيء؛ لأن الحديث مطلق لم يقيد بشيء. الدليل الرابع: (630 - 194) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو خيثمة، عن أبي الزبير، عن جابر قال: أتي بأبي قحافة - أو جاء عام الفتح أو يوم الفتح- ورأسه ولحيته مثل الثغام أو الثغامة، فأمر أو فأمر به إلى نسائه، قال: غيروا ¬
الدليل الخامس
هذا بشيء (¬1). وجه الاستدلال من الحديث كالاستدلال بالحديثين السابقين. وأجيب عن هذا: بأن الأمر المطلق بتغيير الشيب مقيد بالأحاديث الأخرى، وهو النهي عن الأسود، كما في حديث جابر وأنس وغيرهما. الدليل الخامس: (631 - 195) ما رواه ابن ماجه قال: حدثنا أبو هريرة الصيرفي محمد بن فراس، نا عمر بن الخطاب بن زكريا الراسبي، ثنا دفاع بن دغفل السدوسي، عن عبد الحميد ابن صيفي، عن أبيه، عن جده صهيب الخير قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أحسن ما اختضبتم به لهذا السواد؛ أرغب لنسائكم فيكم، وأهيب لكم في صدور عدوكم. [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: أن أبا بكر صبغ بالحناء والكتم، والحناء والكتم يعطي نوعاً من اللون الأسود، وذلك لأن الأسود درجات، منه: الأسود الداكن، ومنه الأسود الفاتح، وبينهما درجات، يسميه بعضهم باللغة المعاصرة البني الغامق، وهي لون من درجات اللون الأسود، فلما أذن في الحناء والكتم دل على إذنه بالأسود، لكن قد يكون الحناء له نفع للبشرة والشعر، فخص بالنص، وهو دليل على جوازه بغير الحناء والكتم مما يعطي لونهما. والله أعلم. دليل القائلين بأنه يجوز للمرأة دون الرجل. قالوا: إن الزينة للمرأة مطلوبة، ولذلك جاز لها خضاب اليدين والرجلين، ولا يجوز ذلك في حق الرجل، وجاز لها لبس الذهب دون الرجل، والأحاديث الواردة إنما ثبتت في حق الرجل، كحديث: "وجنبوه السواد " وحديث يكون قوم آخر الزمان يخضبون بهذا السواد، قد جاء في بعض الفاظه: " يخضبون لحاهم بالسواد. والله أعلم. هذا بعض ما وقفت عليه من أدلة الفريقين، والقول بالتحريم قول قوي، والقول بالكراهة أقوى، وهو قول السواد الأعظم من الأمة، بل إن التحريم إنما هو وجه عند بعض أصحاب الشافعي فقط، والوجه الآخر مكروه فحسب. وما عداهم من المذاهب الأربعة بين مجيز وكاره، ¬
فهذا أبو يوسف ومحمد بن الحسن يريان الجواز، وقال ابن عابدين: ومذهبنا أن الصبغ بالحناء والوسمة حسن كما في الخانية. وهذا مالك يقول: لا أعلم فيه شيئاً. وهذا الإمام أحمد يكره الصبغ، ويفسرها أكثر أصحابه بأنها كراهة تنزيه. والصواب أن كل ما قيل: مكروه في كتب المذاهب الفقهية، ولم نعلم أنهم يريدون به كراهة التحريم، فإنه يحمل على كراهة التنزيه: أولاً: لأن اصطلاح الكراهة عند الفقهاء يختلف اصطلاحه في نص الشارع، وإنما اشتهر هذا المصطلح أعني إطلاق الكراهة على كراهة التنزيه عند الفقهاء. ثانياً: أنهم صرحوا بالمقصود به، فلا نتكلف في صرفه (¬1). ¬
وقد حاولت قدر الإمكان عرض أدلة الفريقين بكل حياد؛ لأن نصوص المعرفة حق للقارئ، لا يجوز إذا رجحت قولاً أن أغمط أدلة القول الآخر؛ ولأن فهم النص قد اُوافَق عليه وقد أُخَالف، وفرق بين رأي العالم واجتهاده وبين النص؛ لأن لو جعلنا فهم النص بمنزلة النص ألغينا الاجتهاد، والعصمة ¬
إنما هي للنص، وليست لفهم النص، فلا يخلط بينهما، فيبقى على طالب العلم أن يذكر النصوص، والقارئ يرجح ما يراه، ولا ينبغي أن نصادر حق القارئ بالترجيح، فأتحامل فأسوق كل دليل أراه يؤيد رأيي، ولو كان بتأويل سائغ أو غير سائغ، وأغض الطرف عن أدلة القول الآخر بسبب أنه لم يترجح لي، وأتكلف التأويل، ورحم الله ابن القيم فإنك حين تقرأ له مسألة خلافيه، يجمع لكل قول ما يمكن أن يكون مؤيداً له، ويسوق له الأدلة من هنا وهناك حتى تظن أنه يرى هذا القول، ثم في آخر الأمر يتبين لك أنه لا يراه، ولكن فرق بين أن أعطي كل قول حقه من الأدلة، وبين أن أغمط أدلته خشية أن يترجح لغيري خلاف ما ترجح لي. وأحكام الإسلام منها ما هو واضح بين، ومنها ما هو خفي، وهو ما عناه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات " فبعض المسائل من الأمور المتشابهة، والذي ينبغي على طالب العلم أن يستفرغ وسعه في فهم النص ودلالته، وليست كل مسألة يكون الفرق بين القولين فيهما كما بين السماء والأرض، ففي أحيان كثيرة يكون الترجيح هو اطمئنان النفس وميلها إلى أحد القولين، وهذا الميل يكفي في ترجيح أحد القولين؛ ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولكن إذا كانت المسألة كذلك ينبغي أن يتورع الإنسان من الطعن في أي من الأقوال المحتملة، والله أعلم. وإني حين أرجح كراهية تغيير الشيب بالسواد، ذلك لأن ما يختاره الإنسان للناس غير ما يختاره الإنسان لنفسه، فإن على الباحث أن لا يوقِّع بتحريم شيء إلا وقد ظهر له ظهوراً جلياً من نص صريح لا خلاف في ثبوته، وذلك لأنه يخبر عن حكم الشرع، لا عن سلوك يرتضيه لنفسه، والاحتياط
ليس في جانب المنع، بل الاحتياط هو أن لا يتجرأ أحد على التحريم إلا بدليل صريح صحيح، فمن ظهر له هذا، فهو وذاك، ومن لم يظهر له، فمن أين يقوله، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (¬1) بل إن التحريم أشد من الإباحة، وذلك أن الإباحة لا تحتاج إلى دليل، لأنها الأصل بخلاف التحريم. ¬
الباب السابع في شعر الرأس
الباب السابع في شعر الرأس وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: في حلق شعر الرأس. الفصل الثاني: في النهي عن القزع. الفصل الثالث: في الترجل وصفته
الفصل الأول في حلق شعر الرأس
الفصل الأول في حلق شعر الرأس اختلف العلماء في حلق شعر الرأس. فقيل: سنة، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يكره حلق شعر الرأس لغير نسك ولا حاجة، وهو مذهب المالكية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3). ¬
دليل من قال: تركه أفضل إذا كان قادرا على تعهده وتنظيفه
وقيل: لا يكره حلقه، وتركه أفضل إلا إن شق تعهده فالحلق أفضل، وهو مذهب الشافعية (¬1). وقيل: يباح حلقه، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة عند المتأخرين (¬2). دليل من قال: تركه أفضل إذا كان قادراً على تعهده وتنظيفه. الدليل الأول: قال النووي: لم يصح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلقه إلا في الحج أو العمرة (¬3). ¬
الدليل الثاني
قلت: والتأسي بتركه - صلى الله عليه وسلم - كالتأسي بفعله - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثاني: كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء عليهم السلام لهم شعر كثير، وهذا دليل على أن تركه أفضل، وإليك النصوص في صفاتهم: ما ورد في صفة شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (639 - 203) روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مربوعاً بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء، لم أر شيئاً قط أحسن منه. قال يوسف بن أبي إسحاق، عن أبيه إلى منكبيه، هذا لفظ البخاري، وقد رواه مسلم (¬1). وفي رواية لمسلم: " عظيم الجمة إلى شحمة أذنيه " (¬2). والجمة، جاء في القاموس: الجَمُّ: الكثيرُ من كلِ شيءٍ. وأما ماورد في صفة شعر الأنبياء عليهم السلام، فقد جاء في الصحيحين، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الإسراء، قال: "ورأيت إبراهيم صلوات الله عليه، وأنا أشبه ولده به " (¬3). وقد سبق لنا صفة شعر الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ¬
وأما ما جاء في صفة شعر موسى عليه الصلاة والسلام، (640 - 204) فقد روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا إسرائيل، أخبرنا عثمان بن المغيرة، عن مجاهد، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - رأيت عيسى وموسى وإبراهيم، فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر، وأما موسى فآدم، جسيم، سبط كأنه من رجال الزط (¬1). فقوله: " سبط " قال الحافظ في الفتح: " السبط بفتح المهملة، وكسر الموحدة: أي ليس بجعد، وهذا نعت لشعر رأسه " (¬2). وأما ما جاء في صفة شعر عيسى عليه الصلاة والسلام، (641 - 205) فقد روى البخاري، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا أبو ضمرة، حدثنا موسى، عن نافع، قال عبد الله: ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً بين ظهري الناس المسيح الدجال، فقال: إن الله ليس بأعور ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية، وأراني الليلة عند الكعبة في المنام فإذا رجل آدم كأحسن ما يرى من آدم الرجال تضرب لمته بين منكبيه، رجل الشعر، يقطر رأسه ماء واضعاً يديه على منكبي رجلين، وهو يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ فقال: هذا المسيح بن مريم، ثم رأيت رجلاً وراءه جعداً، قططاً، أعور العين اليمنى، كأشبه من رأيت بابن قطن واضعاً يديه على منكبي رجل ¬
دليل من قال حلق الرأس بدعة
يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ قالوا: المسيح الدجال (¬1). الشاهد منه: قوله - صلى الله عليه وسلم - عن عيسى: " تضرب لمته بين منكبيه ". فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء عليهم السلام كان لهم شعر كثير، وهذا يدل على أن تركه أفضل من حلقه، {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (¬2). دليل من قال حلق الرأس بدعة. الدليل الأول: كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله إلا في النسك، دليل على أنه لا يتعبد بحلقه. قال ابن القيم: " لم يحفظ عنه حلقه إلا في نسك " (¬3). الدليل الثاني: (642 - 206) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو النعمان، حدثنا مهدي بن ميمون، سمعت محمد بن سيرين، يحدث عن معبد بن سيرين، عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يخرج ناس من قبل المشرق، ويقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه. قيل: ما سيماهم؟ قال: سيماهم التحليق. أو قال ¬
الدليل الثالث
التسبيد (¬1). وإذا كان الحلق سيما أهل البدع كالخوارج وغيرهم كان تركه شعاراً لأهل السنة. الدليل الثالث: (643 - 207) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق، حدثني أبي، ثنا محمد بن سليمان بن مسمول، حدثني عمر بن محمد بن المنكدر، عن أبيه، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا توضع النواصي إلا في حج أوعمرة (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). الدليل الرابع: أن الشرع أمرنا بحلق العانة، ونتف الإبط، وجعل ذلك من الفطرة، كما ¬
دليل من قال يباح الحلق
سبق من حديث أبي هريرة في الصحيحين، وأما شعر الرأس فلم نؤمر بحلقه، فتكون الفطرة في إبقائه. دليل من قال يباح الحلق. الدليل الأول: (644 - 208) عبد الرزاق في المصنف، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى غلاماً قد حلق بعض رأسه وترك بعضه، فنهاهم عن ذلك، وقال: احلقوا كله أو ذروا كله (¬1). [تفرد بقوله: " احلقوه كله " معمر، عن أيوب، وقد رواه غيره عن أيوب بدون هذه الزيادة، كما رواه أيضاً غير أيوب عن نافع، وليس فيه هذه الزيادة] (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (645 - 209) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا عقبة بن مكرم وابن المثنى، قالا: ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي، قال: سمعت محمد بن أبي يعقوب يحدث عن الحسن بن سعد، عن عبد الله بن جعفر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهل آل جعفر ثلاثا أن يأتيهم، ثم أتاهم، فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ثم قال: ادعوا لي بني أخي، فجيء بنا كأنا أفراخ، فقال: ادعوا لي الحلاق فأمره فحلق رؤوسنا (¬1) [إسناده صحيح] (¬2). وقد أجيب عن هذا: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما حلق رؤوسهم، مع أن إبقاء الشعر أفضل إلا في النسك لما رأى من اشتغال أمهم أسماء بنت عميس عن ترجيل شعورهم بما أصابها من قتل زوجها في سبيل الله، فأشفق عليهم من الوسخ والقمل (¬3). ¬
دليل من قال السنة حلق الشعر
وإذا كان هناك حاجة للحلق فلا مانع منه، لكن إذا لم يكن هناك حاجة فلا شك أن الأفضل ما كان عليه الأنبياء عليهم الصلاة والتسليم من إبقاء الشعر، وقد سئل الإمام أحمد عن الرجل يتخذ شعراً؟ فقال: سنة حسنة، ثم قال أبو عبد الله: لو أمكنا اتخذناه. وفي لفظ آخر عنه: لو كنا نقوى عليه، له كلفة ومؤنة. فيؤخذ من هذا أن من يستطيع أن يقوم بغسله وترجيله فالأفضل في حقه أن يتخذه، والله أعلم. دليل من قال السنة حلق الشعر. لا أعلم لهذا القول دليلاً من الأثر، ولا من النظر، ولقد قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: " لا نزاع بين علماء المسلمين وأئمة الدين أن ذلك لا يشرع، ولا يستحب، ولا هو من سبيل الله وطريقه، ولا من الزهد المشروع للمسلمين، ولا مما أثنى الله به على أحد من الفقراء، ومع هذا فقد اتخذه طوائف من النساك الفقراء والصوفية ديناً حتى جعلوه شعاراً وعلامة على أهل الدين والنسك والخير والتوبة والسلوك إلى الله المشير إلى الفقر والصوفية، حتى إن من لم يفعل ذلك يكون منقوصاً عندهم، خارجاً عن الطريقة المفضلة المحمودة عندهم، ومن فعل ذلك دخل في هديهم وطريقتهم، وهذا ضلال عن طريق الله وسبيله باتفاق المسلمين، واتخاذ ذلك ديناً وشعاراً لأهل الدين من أسباب تبديل الدين، بل جعله علامة على المروق من الدين أقرب (¬1). وما تكلم عليه ابن تيمية يقرب مما يراه بعض الزهاد والوعاظ وبعض ¬
وممكن أن يستدل لمن يرى الحلق بالأدلة التالية
الصالحين عندنا من اعتبار إطالة الشعر يدخل في الشهرة، ولا ينكر على من حلق رأسه دون أن يكون هناك حاجة من نسك وغيره، بل قد يرى حلق الرأس علامة على الصلاح. وممكن أن يستدل لمن يرى الحلق بالأدلة التالية: الدليل الأول: (646 - 210) حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا معاوية بن هشام وسفيان بن عقبة السوائي، هو أخو قبيصة، وحميد بن خوار، عن سفيان الثوري، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ولي شعر طويل، فلما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ذباب ذباب، قال: فرجعت فجززته، ثم أتيته من الغد، فقال: إني لم أعنك، وهذا أحسن (¬1). [وإسناده حسن] (¬2). ¬
قال الطحاوي: فكان في هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قد دل على أن جز الشعر أحسن من تربيته، وما جعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأحسن، كان لا شيء أحسن منه، ووجب لزوم ذلك الأحسن، وترك ما يخالفه، ومقبول منه - صلى الله عليه وسلم - إذا كان هذا عنه، وإذا كان أولى بالمحاسن كلها من جميع الناس سواه، أنه قد كان صار بعد هذا القول إلى هذا الأحسن، وترك ما كان عليه قبل ذلك مما يخالفه، والله نسأله التوفيق (¬1). وهذا الكلام مدخول من وجهين: الأول: القطع بأن هذه القصة متأخرة عن إعفاء الشعر، وإكرامه، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صار إليه بعد أن كان له شعر كثير، وأن الرسول ترك إعفاء الشعر لإجل هذه القصة لا شك أن هذا من الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً، وقد عقدت فصلاً مستقلاً في إكرام الشعر وتسريحه ودهنه، مما يجعل الباحث يقطع أن السنة إعفاء شعر الرأس وإكرامه. الثاني: الاعتقاد بأن هذا القصة تعارض الأحاديث الكثيرة في إكرام الشعر غير صحيح، والجواب عن هذا، أن يقال: إن هذا الرجل كان شعره طويلاً كثيراً إلى حد الشهرة، فكان الأحسن تخفيفه عن حد الشهرة، ولذا ليس في الحديث أنه حلقه، وإنما جزه، ولا يصلح دليلاً للحلق إلا لو جاء في الحديث أن الرجل حلق رأسه، وربما حسن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جز شعره وتخفيفه نظراً لأنه لم يقم بحقه من تعهده وتنظيفه، ¬
الدليل الثاني
وقد سبق أن قلت: إن ترك الشعر سنة لمن كان قادراً على القيام بمؤنته من تسريحه وتنظيفه، أما من لا يقدر على ذلك فالأفضل في حقه تخفيف الشعر وجزه بدون حلق إلا في نسك، والحامل على هذا التأويل الأحاديث الكثيرة في صفة شعر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل والأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام، والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، والله أعلم. الدليل الثاني: (647 - 211) روى أحمد، قال: ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن أبي إسحاق، عن شمر، عن خريم رجل من بنى أسد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لولا أن فيك اثنتين كنت أنت، قال: إن واحدة تكفيني. قال: تسبل إزارك وتوفر شعرك. قال: لا جرم والله لا أفعل (¬1). [إسناده منقطع شمر لم يدرك خريم، والحديث محتمل للتحسين بالمتابعات] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
والجواب عن هذا الدليل كالجواب عما سبق، إضافة إلى أن هذا الحديث صريح بأنه ليس فيه حلق، حيث ورد في بعض الروايات أن شعره إلى أذنيه. الراجح من الأقوال: الأصل أن ترك الشعر أفضل من حلقه إذا كان قادراً على القيام بمؤنته وتعهده وتنظيفه كما بينا من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل ومن فعل الأنبياء، وقد يختلف حكم حلق الرأس من حال إلى آخر، فأما حلقه في النسك فإنه أفضل من التقصير، وهو مشروع في الكتاب والسنة، أما الكتاب، فقال تعالى {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين} (¬1). (648 - 212) وأما السنة فقد روى البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: اللهم ارحم المحلقين. قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: والمقصرين. وقال الليث: حدثني نافع: رحم الله المحلقين مرة أو مرتين. قال: وقال عبيد الله: حدثني نافع، وقال في الرابعة: والمقصرين (¬2). (649 - 213) وأما حلقه للتداوي، فهذا أيضاً جائز، فقد روى البخاري قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن حميد بن قيس، ¬
عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لعلك آذاك هوامك. قال: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك بشاة (¬1). وأما حلقه على وجه التعبد، فقد قال ابن تيمية: وأما حلقه على وجه التعبد والتدين والزهد من غير حج ولا عمرة، مثل ما يأمر بعض الناس التائب إذا تاب يحلق رأسه، ومثل أن يجعل حلق الرأس شعار أهل النسك والدين، أو من تمام الزهد والعبادة، أو من يجعل من يحلق رأسه أفضل ممن لم يحلقه أو أدين أو أزهد، أو من يقصر من شعر التائب، كما يفعل بعض المنتسبين إلى المشيخة إذا توب أحداً أن يقص بعض شعره، ويعين الشيخ صاحب مقص وسجادة، فيجعل صلاته على السجادة، وقصه رؤوس الناس من تمام المشيخة التي يصلح بها أن يكون قدوة يتوب التائبين فهذا بدعة لم يأمر الله بها، ولا رسوله، وليست واجبة، ولا مستحبة عند أحد من أئمة الدين، ولا فعلها أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا شيوخ المسلمين المشهورين بالزهد والعبادة، لا من الصحابة ولا من التابعين، ولا تابعيهم، ومن يعدهم مثل الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، وأحمد بن أبي الحواري، والسري السقطي، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وأمثال هؤلاء لم يكن هؤلاء يقصون شعر أحد إذا تاب، ولا يأمرون التائب أن يحلق رأسه (¬2). ¬
وبقي أن يحلق رأسه لا على وجه التعبد، ولا من باب التداوي، وفي غير النسك، فإن كان قادراً على القيام بمؤنته وتنظيفه، وتعهده بالترجل والدهن ونحوه فإن الأفضل تركه، وإلا كان ممكناً قصه برقم واحد، وهو قريب جداً من الحلق، ويخرج به عن الحلق، فإن أصر إلا الحلق فأرجو أنه لا بأس به، والله أعلم. وقد نقل عن بعض الصحابة أن لهم شعراً كثيراً، (650 - 214) فقد أخرج ابن أبي شيبة، قال: حدثنا، وكيع، عن هشام قال: رأيت ابن عمر وجابراً ولكل واحد منهما جمة (¬1). (651 - 215) وروى أيضاً، قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، قال: رأيت لابن عمر جمة مفروقة تضرب منكبيه (¬2). (652 - 216) وروى ابن أبي شيبة أيضاً، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن هبيرة قال: كان لعبد الله شعر يصفه على أذنيه (¬3). (653 - 217) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا الفضل، عن عبد الواحد بن أيمن، قال: رأيت ابن الزبير، وله جمة إلى العنق، وكان يفرق (¬4). (654 - 218) وروى أيضاً قال: حدثنا وكيع، عن عبد الواحد بن أيمن قال: رأيت عبيد بن عمير وابن الحنفية لكل واحد منهما جمة (¬5). ¬
وقال أحمد بن حنبل: أحصيت على ثلاثة عشر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لهم شعر، فذكر أبا عبيدة بن الجرح، وعمار بن ياسر، والحسن والحسين. وقال أحمد أيضاً حين سئل عن تطويل الشعر: تدبرت مرة، فإذا هو عن بضعة عشر رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ¬
الفصل الثاني في النهي عن القزع
الفصل الثاني في النهي عن القزع ويشتمل على مبحثان: المبحث الأول: في تعريف القزع. المبحث الثاني: في حكم القزع.
المبحث الأول في تعريف القزع
المبحث الأول في تعريف القزع تعريف القزع: قال في تاج العروس: القزع، محركة قطع من السحاب رقاق، كأنها ظل، إذا مرت من تحت السحابة الكبيرة. الواحدة: قزعة، ومنه حديث الاستسقاء: "وما في السماء قزعة " أي قطعة من الغيم. وقيل: القزع، السحاب المتفرق، وما في السماء قزعة: أي لطخة غيم. ثم قال: ومن المجاز: القزع: أن يحلق رأس الصبي، ويترك مواضع منه غير محلوقة، تشبيهاً بقزع السحاب، ومنه الحديث: " نهى عن القزع " يعني: أخذ بعض الشعر وترك بعضه (¬1). واختلف في القزع: فقيل: أن يحلق رأس الصبي في مواضع، ويترك الشعر متفرقاً. وهذا يؤيده معنى القزع في اللغة، وعليه فلا يشمل ما إذا حلق جميع الرأس وترك موضعاً واحداً كشعر الناصية (¬2). وقيل: القزع حلق بعض الرأس مطلقاً، قال الطيبي: وهو الأصح؛ لأنه ¬
تفسير الراوي، وهو غير مخالف للظاهر، فوجب العمل به (¬1). ولعل قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: " اتركوه كله أو احلقوه كله " (¬2) يشمل ما إذا حلق موضعاً وترك الباقي، والله أعلم (¬3). وقد ورد تفسير القزع من بعض الرواة. (636 - 200) فروى البخاري في صحيحه، قال: حدثني محمد، قال: أخبرني مخلد، قال: أخبرني ابن جريج، قال: أخبرني عبيد الله بن حفص، أن عمر بن نافع أخبره، عن نافع مولى عبد الله، أنه سمع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن القزع. قال عبيد الله: قلت: وما القزع؟ فأشار لنا عبيد الله، قال: إذا حلق الصبي، وترك ها هنا شعرة، وها هنا وها هنا، فأشار لنا عبيد الله إلى ناصيته، وجانبي رأسه. قيل لعبيد الله: فالجارية والغلام؟ قال: لا أدري هكذا قال الصبي. قال عبيد الله: وعاودته، فقال: أما القصة والقفا للغلام فلا بأس بهما، ولكن القزع أن يترك بناصيته شعراً، وليس في ¬
رأسه غيره، وكذلك شق رأسه هذا وهذا (¬1). (637 - 201) وروى مسلم، قال: حدثني زهير بن حرب، حدثني يحيى - يعني ابن سعيد- عن عبيد الله، أخبرني عمر بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن القزع. قال: قلت لنافع: وما القزع؟ قال: يحلق بعض رأس الصبي، ويترك بعض (¬2). قال المازري في المعلم: إذا كان ذلك - يعني القزع - في مواضع كثيرة فمنهي عنه بلا خلاف، وإن لم يكن كذلك كالناصية وشبهها فاختلف في جوازه (¬3). وكذا نقله الطيبي في شرح المشكاة (¬4). ¬
المبحث الثاني حكم القزع
المبحث الثاني حكم القزع يكره القزع، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). دليل الكراهة. الدليل الأول: (638 - 202) ما رواه البخاري، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا ¬
عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك، حدثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن القزع (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني على الكراهة: الإجماع، فقد نقله أكثر من واحد. قال النووي: " أجمع العلماء على كراهية القزع إذا كان في مواضع متفرقة إلا أن يكون لمداواة ونحوها، وهي كراهة تنزيه (¬1). وكذا نقله الطيبي في شرح المشكاة (¬2). ¬
الفصل الثالث في الترجل وصفته
الفصل الثالث في الترجل وصفته يستحب الترجل في الشعر، وأما صفته، فقيل: يستحب أن يكون غباً. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3) وقيل: يرجله ما شاء، ولو في اليوم مرتين (¬4). الأدلة على ترجيل الشعر. الحديث الأول: (655 - 219) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا هشام بن يوسف، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، أنها كانت ترجل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي حائض، وهو معتكف في المسجد، وهي في حجرتها يناولها رأسه (¬5). الحديث الثاني: (656 - 220) ما رواه البخاري، قال: حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا بن أبي ذئب، عن الزهري، ¬
الحديث الثالث
عن سهل بن سعد، أن رجلا اطلع من جحر في دار النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبي - صلى الله عليه وسلم - يحك رأسه بالمدري، فقال: لو علمت أنك تنظر لطعنت بها في عينك؛ إنما جعل الإذن من قبل الأبصار (¬1). وفي رواية لمسلم:" ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدرى يرجل به رأسه" (¬2). الحديث الثالث: (657 - 221) ما رواه البخاري، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني أشعث بن سليم، قال: سمعت أبي، عن مسروق، ¬
دليل من قال الترجل غبا
عن عائشة، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، في شأنه كله (¬1). فكل هذه الأحاديث تدل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرجل شعره، وأنه كان يحرص على ذلك حتى وهو في معتكفه عليه الصلاة والسلام. دليل من قال الترجل غباً. الدليل الأول: (658 - 222) روى الإمام أحمد في مسنده، قال: حدثنا يونس وعفان، قالا: ثنا أبو عوانة، عن داود بن عبد الله الأودي، عن حميد الحميري، قال: لقيت رجلاً صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع سنين، كما صحبه أبوهريرة أربع سنين قال: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أن يمتشط أحدنا كل يوم، وأن يبول في مغتسله، وأن تغتسل المرأة بفضل الرجل، وأن يغتسل الرجل بفضل المرأة وليغترفا جميعاً (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). الدليل الثاني: (659 - 223) ما رواه أحمد، قال: قال حدثنا يحيى، عن هشام قال: سمعت الحسن، عن عبد الله بن مغفل المزني، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الترجل ¬
إلا غباً (¬1). [فيه هشام بن حسان، وروايته عن الحسن فيها كلام، وانفرد برفعه، وقد روي موقوفاً على الحسن، ومرسلاً، كما أن الحسن البصري قد عنعن، فمن كان يعد تدليس الحسن من قبيل الإرسال، فإنه متصل؛ لأن الحسن قد سمع من عبد الله بن مغفل، ومن كان يعده من قبيل التدليس فقد عنعن، وعلى كل حال فالحديث ضعيف الإسناد] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (660 - 224) ما أخرجه العقيلي في الضعفاء الكبير، قال: حدثناه إبراهيم بن محمد، حدثنا محمد بن موسى الجريري، حدثنا ابن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الترجل إلا غباً (¬1). الدليل الرابع: (661 - 225) ما رواه النسائي، قال: أخبرنا إسمعيل بن مسعود، قال: حدثنا خالد بن الحارث، عن كهمس، عن عبد الله بن شقيق، قال: كان رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عاملاً بمصر، فأتاه رجل من أصحابه، فإذا هو شعث الرأس مشعان، قال: ما لي أراك مشعانا، وأنت أمير؟ قال: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا عن الإرفاه، قلنا: وما الإرفاه؟ قال: الترجل كل يوم (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل من قال له أن يترجل ما شاء
دليل من قال له أن يترجل ما شاء. الدليل الأول: (662 - 226) ما رواه النسائي، قال: أخبرنا عمرو بن علي، قال حدثنا عمر بن علي بن مقدم، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن المنكدر، عن أبي قتادة قال: كانت له جمة ضخمة، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يحسن إليها، وأن يترجل كل يوم (¬1). [ضعيف سنداً ومتناً، والمعروف أنه مرسل] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (663 - 227) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا سليمان بن داود المهري، أخبرنا ابن وهب، حدثني ابن أبي الزناد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان له شعر فليكرمه (¬1). [إسناده حسن] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
(664 - 228) ما رواه أحمد، قال: حدثنا مسكين بن بكير، حدثنا الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرا في منزلنا فرأى رجلا شعثا فقال أما كان يجد هذا ما يسكن به رأسه ورأى رجلا عليه ثياب وسخة فقال أما كان يجد هذا ما يغسل به ثيابه (¬1). ¬
[إسناده حسن والحديث صحيح] (¬1). ¬
جاء في عون المعبود: من كان له شعر فليكرمه: أي فليزينه ولينظفه بالغسل والتدهين والترجيل، ولا يتركه متفرقاً؛ فإن النظافة وحسن المنظر محبوب. قال المنذري: يعارضه ظاهر حديث الترجل إلا غباً، وحديث البذاذة على تقدير صحتهما، فجمع بينهما بأنه يحتمل أن يكون النهي عن الترجل إلا غباً محمولا على من يتأذى بإدمان ذلك لمرض، أو شدة برد، فنهاه عن تكلف ما يضره. ويحتمل أنه نهى عن أن يعتقد أن ما كان يفعله أبو قتادة من دهنه مرتين أنه لازم، فأعلمه أن السنة من ذلك الإغباب به لا سيما لمن يمنعه ذلك من تصرفه وشغله، وأن ما زاد على ذلك ليس بلازم، وإنما يعتقد أنه مباح من شاء فعله ومن شاء تركه، انتهى كلام المنذري قال ابن القيم في تهذيب السنن: وهذا لا نحتاج إليه، والصواب أنه لا تعارض بينهما بحال؛ فإن العبد مأمور بإكرام شعره، ومنهى عن المبالغة والزيادة في الرفاهية والتنعم، فيكرم شعره ولا يتخذ الرفاهية والتنعم ديدنه بل يترجل غباً (¬1). ¬
الباب الثامن في غسل البراجم
الباب الثامن في غسل البراجم تعريف البراجم: البراجم لغة: جمع برجمة، وهي المفاصل والعقد التي تكون في ظهور الأصابع، ويجتمع فيها الوسخ (¬1). وقال بعضهم: ويلحق بالبراجم ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وقعر الصماخ. وأما حكم غسل البراجم، فهو مستحب، وحكي الاتفاق على استحبابه (¬2). قال النووي: وهي سنة مستقلة، ليست مختصة في الوضوء (¬3). وقيل: المراد تنظيفها بالوضوء (¬4). ¬
الدليل على استحباب غسل البراجم
الدليل على استحباب غسل البراجم. (632 - 196) ما رواه مسلم، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قالوا: حدثنا وكيع، عن زكريا بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء. قال زكريا: قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. زاد قتيبة: قال وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء (¬1). وسبق الحكم عليه، وأن الراجح فيه وقفه على طلق (¬2). الدليل الثاني: (633 - 197) رواه أحمد، قال: ثنا عفان، ثنا: حماد، ثنا علي بن زيد، عن سلمة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن عمار بن ياسر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن من الفطرة - أو الفطرة - المضمضة والاستنشاق وقص الشارب والسواك وتقليم الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط والاستحداد والاختتان والانتضاح. [ضعيف] (¬3). ¬
الدليل الثالث: (634 - 198) ما رواه أحمد، قال: ثنا أبو اليمان، ثنا إسماعيل بن عياش، عن ثعلبة بن مسلم الخثعمي، عن أبي بن كعب مولى بن عباس، عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قيل له: يا رسول الله لقد أبطأ عنك جبريل عليه السلام؟ فقال: ولم لا يبطئ عنى، وأنتم حولي لا تستنون، ولا تقلمون أظافركم ولا تقصون شواربكم ولا تنقون رواجبكم (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الرابع: قال الحافظ: وللترمذي الحكيم من حديث عبد الله بن بشر رفعه: قصوا أظفاركم، وادفنوا قلاماتكم، ونقوا براجمكم. وفي سنده راو مجهول (¬1). وظاهر الأحاديث أن غسل البراجم غير مختص بالوضوء، فتغسل في الوضوء وفي الغسل وفي التنظيف. ¬
وأما دليل من استدل على كون غسل البراجم في الوضوء، (635 - 199) ما رواه ابن عدي، قال: حدثنا الحسين بن حسن بن سفيان الفارسي ببخارى، أخبرنا أحمد بن حفص بن عبد الله، حدثنا أبو خالد إبراهيم بن سالم، حدثنا عبد الله بن عمران، عن أبي عمران الجوني، عن أنس بن مالك قال: وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحلق الرجل عانته كل أربعين يوماً، وأن ينتف إبطه كلما طلع، ولا يدع شاربيه يطولان، وأن يقلم أظفاره من الجمعة إلى الجمعة، وأن يتعاهد البراجم إذا توضأ؛ فإن الوسخ إليها سريع، واعلم أن لنفسك عليك حقاً، وأن لرأسك عليك حقاً، وأن لجسدك عليك حقاً، وأن لزوجك عليك حقاً، وأما النساء فليس ينبغي إلا أن يتعاهدن أنفسهن ولأزواجهن، وأن الله عز وجل جميل يحب الجمال وأن لكم حفظة يحبون الريح الطيب كما تحبونها، ويكرهون الريح المنتنة كما تكرهونها (¬1). [إسناده ضعيف، ومتنه منكر] (¬2). خلصت من البحث أن غسل البراجم ليس فيه حديث صحيح، وأصح ما ورد فيه حديث عائشة عند مسلم، وقد أعله الإمام أحمد والنسائي ¬
وغيرهما. ومع ذلك فنحن مأمورن بالنظافة، وديننا دين الطهارة، وإذا كان هناك وسخ في البراجم كان المسلم مأموراً بالنظافة في أحاديث أخرى، وإذا كان الوسخ يسيراً لا يمنع وصول الماء صحت الطهارة، وإذا كان مانعاً من وصول الماء، فهل يعفى عنه؟ أو لا يصح الوضوء معه، فإن كان كثيراً عرفاً لم تصح الطهارة، وإلا صحت. والله أعلم.
كتاب السواك
كتاب السواك مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آلة وصحبه أجمعين. أما بعد فإن دين الإسلام دين الطهارة والنظافة، والطهور من الإسلام شطر الإيمان، (665 - 1) فقد روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا إسحق بن منصور، حدثنا حبان بن هلال، حدثنا أبان، حدثنا يحيى، أن زيدا حدثه، أن أبا سلام حدثه، عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها (¬1). والعناية بالسواك، هي عناية بنظافة جزء من البدن، ولقد جاءت الأحاديث الكثيرة بالعناية بالبدن، كالعناية بالشعر، والأظفار، والإبط، وشعر العانة، والاغتسال للجمعة، ومن الجنابة، ونحوها، وقد تعرضنا لأكثرها في بحث سنن الفطرة. ¬
ولقد كان اهتمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - في السواك اهتماماً عظيماً في سائر أحواله من ليل أو نهار، حتى أنه كان يرأى في منامه أنه يتسوك، كما في صحيح البخاري، وسوف يأتي تخريجه في ثنايا البحث، ويكفي أن السواك كان آخر فعل فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته، فقد رَغِبَ في السواك، وهو في سكرات الموت - صلى الله عليه وسلم -، كما في صحيح البخاري، وسوف يأتي تخريجه إن شاء الله. ويكفي أن تعرف أن الإسلام جعل تطهير الفم -وهي منفعة دنيوية خالصة- سبباً في مرضاة الله سبحانه وتعالى، فهل بعد هذا الترغيب في النظافة من ترغيب؟ وما اجتهد المجتهدون، وما تقرب الصالحون، بشيء إلا طلباً لمرضاة الله سبحانه وتعالى، ونيل رضاه. وجاء في حديث عائشة عند مسلم ذكر السواك من سنن الفطرة، وهو كذلك من سنن الوضوء، ويتعلق به عبادات مختلفة في أوقات مختلفة، ولكثرة أحكامه أفردته في خطة مستقلة حتى نستوفي أكثر أبوابه، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
التمهيد
التمهيد ويشتمل على خمسة مباحث المبحث الأول: في تعريف السواك. المبحث الثاني: في فضل السواك. المبحث الثالث: بيان أن السواك من سنن الفطرة. المبحث الرابع: ما ورد في كون الصلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بغير سواك. المبحث الخامس: هل السواك في شريعة من قبلنا.
المبحث الأول تعريف السواك
المبحث الأول تعريف السواك تعريف السواك. جاء في اللسان: " سوك السَّوْكُ فِعْلُك بالسِّواك المِسْواكِ. ساك الشيءَ سَوْكاً: دَلَكه. ساك فَمَه بالعُود يَسُوكه سَوْكاً. قال عدِيُّ بن الرِّقاع: وكأَنَّ طَعْمَ الزَّنْجَبيلِ وَلَذَّةً ... صَهْباءَ ساكَ بها المُسَحِّرُ فاها سَاكَ سَوَّكَ واحدٌ والمُسَحِّرُ الذي يَأْتيها بسَحُورها اسْتاكَ: مشتق من ساكَ. وإِذا قلت: اسْتاك أَو تَسَوَّك فلا تذكر الفَم. واسمُ العُود المِسْواكُ يذكر ويؤَنث. وقيل: السِّواك تؤَنثه العرب. وفي الحديث " السِّواكُ مَطْهَرَة ... " للفم بالكسر أَي يُطَهِّرُ الفمَ. قال أَبو منصور: ما سمعت أَن السواك يؤَنث، قال: وهو عندي من غُدَدِ الليث، السواك مذكر، وقوله مَطْهَرة كقولهم: " الولدُ مَجْبَنة مَجْهَلَة مَبْخَلة " وقوله الكفر مَخْبَثَة قال: السِّواك ما يُدْلَكُ به الفَمُ من العيدان السِّواكُ كالمِسْواك والجمع سُوُكٌ. وأَخرجه الشاعر على الأَصل فقال عبد الرحمن بن حسان: أَغَرُّ الثَّنايا أَحَمُّ اللِّثا ... تِ تَمْنَحُه سُوُك الإِسْحِلِ
وقال أَبو حنيفة: ربما همز فقيل سُؤُك. وقال أَبو زيد: يجمع السِّواكَ سُوُكٌ على فُعُلٍ مثل كتاب وكتب. وسَوَّك فاه تَسْويكاً. السِّواكُ: التَّسَاوُكُ السير الضعيف. وقيل: رَداءة المشيء من إِبطاء أَو عَجَفٍ قال عبيد اللَّه بن الحُرِّ الجُعْفِي: إِلى اللَّه أَشْكُو ما أَرَى بجيادِنا ... تَسَاوَكُ هَزْلَى مُخُّهُنَّ قلِيلُ. قال الأَزهري: تقول العرب: جاءَت الغنم هَزْلَى تَساوَكُ: أَي تَتمايل من الهزال والضعف في مشيها. قال: وهكذا رواه ابن جَبَلة عن أَبي عبيد، وفي حديث أُم معبد أَن النبي لما ارتحل عنها جاء زوجها أَبو معبد يَسُوق أَعْنُزاً عِجافاً ما تَساوَكُ هُزالاً. اهـ ويقال تَساوكَت الإِبل: إِذا اضطربت أَعناقها من الهُزال ; أَراد أَنها تتمايل من ضعفها السواك اصطلاحاً: لا يخرج السواك في الاصطلاح، عن معناه اللغوي. قال النووي: وهو في اصطلاح الفقهاء استعمال عود أو نحوه في الأسنان لإذهاب التغير ونحوه والله أعلم (¬1). ¬
المبحث الثاني في فضل السواك
المبحث الثاني في فضل السواك ورد في فضل السواك أحاديث كثيرة، نذكر منها: الدليل الأول: (666 - 2) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، ثنا يزيد بن زريع، ثنا عبد الرحمن بن أبي عتيق، عن أبيه، أنه سمع عائشة تحدثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب. [إسناده حسن إن شاء الله] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
ومعناه، قال: عمر بن محمد النسفي: أي سبب للطهر، وسبب للرضاء، كما روي: " الولد مبخلة مجبنة مجهلة " أي سبب للبخل والجبن والجهل (¬1). اهـ الدليل الثاني: (667 - 3) ما رواه البخاري في صحيحه، قال: حدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا شعيب بن الحبحاب، حدثنا أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكثرت عليكم في السواك (¬2). الدليل الثالث: (668 - 4) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن التميمي، قال سألت ابن عباس عن السواك، فقال: ما زال النبي ¬
يأمرنا به حتى خشينا أن ينزل عليه فيه. [الحديث حسن] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: الإجماع. أجمعت الأمة على فضل السواك، لمن فعله بنية القربة. قال ابن عبد البر: وفضل السواك مجتمع عليه لا اختلاف فيه (¬1). ¬
المبحث الثالث هل الصلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بغير سواك
المبحث الثالث هل الصلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بغير سواك وردت أحاديث في فضل الصلاة بالسواك عن الصلاة بغيره، وهي أحاديث كثيرة، وقد اختلف العلماء فيها، فقال بعضهم بها، وأن الركعة بسواك أفضل من سبعين ركعة بغير سواك (¬1). وقال آخرون: السواك سنة للصلاة، ولكن لا تثبت المضاعفة لضعف الأدلة (¬2). أدلة القائلين بالمضاعفة. (669 - 5) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يعقوب، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، قال: وذكر محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: فضل الصلاة بسواك على الصلاة بغير سواك سبعين ضعفاً. [إسناده ضعيف] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
قالوا: إن كان ضعفه من قبل الإسناد، فإن الحديث له طرق كثيرة، يرقى بها إلى الحسن، وإن كان ضعفه لأنه رتب عليه أجر عظيم فإن السواك وإن كان عمله يسيراً فإن فيه مرضاة للرب، والتفضيل والمفاضلة تارة ترجع إلى الزمان كالعمل في عشر ذي الحجة أفضل من الجهاد في سبيل الله، مع أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، وقد تكون المضاعفة راجعة إلى المكان، كصلاة في المسجد الحرام عن مائة ألف صلاة فيما سواه. وتارة ترجع المفاضلة إلى الإخلاص والمتابعة، ولذلك قد تصل مضاعفة الحسنة بدلاً من عشر أمثالها، قد ¬
أدلة القائلين لا تثبت المضاعفة
تصل إلى سبعمائة ضعف، وقد تصل إلى أكثر من ذلك. فلا يمنع أن تكون المضاعفة من أجل السواك لما في ذلك من تطييب الفم لمناجاة الله سبحانه وتعالى، كما أن الرائحة الكريهة من أكل الكراث والبصل قد تكون عذراً في إسقاط واجب عن المكلف، كإسقاط حضور صلاة الجماعة في المسجد، مع أن الأدلة الصحيحة على وجوبها. أدلة القائلين لا تثبت المضاعفة. قالوا: إن السواك سنة للصلاة كما سيأتي في فصل خاص، ولا تثبت المضاعفة، ولا يرون تحسين هذا الحديث الضعيف بشواهده. وقد ضعف يحيى بن معين هذا الحديث، وقال: إنه باطل (¬1). وقال النووي: " وأما حديث عائشة: " صلاة بسواك خير من سبعين بغير سواك فضعيف، رواه البيهقي من طرق، وضعفها كلها، وكذا ضعفه غيره " (¬2). وقد ذكره أكثر من صنف في الأحاديث الضعيفة (¬3). ¬
والسواك أمر مندوب لا إشكال فيه، ولكن ترتيب هذا الفضل الكبير على أمر مندوب، وليس على أمر واجب أو ركن يجعل في النفس شيئاً من قبوله، إذ كيف يكون المندوب أفضل من الواجب، فأفعال الصلاة الواجبة لا تكون سبباً بالمضاعفة، والسواك المندوب يجعل للصلاة مثل هذا الثواب، فمثل هذا يجعل الباحث لا يجزم بصحة الأحاديث الواردة، خاصة أن أسانيدها ليست قوية. والله أعلم.
المبحث الرابع في كون السواك من سنن الفطرة
المبحث الرابع في كون السواك من سنن الفطرة (670 - 6) روى الإمام أحمد، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا زكريا بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن ابن الزبير، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عشر من الفطرة قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق بالماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء: يعني الاستنجاء. قال زكريا: قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. [المحفوظ أنه من قول طلق، ورفعه شاذ] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المبحث الخامس هل السواك في شريعة من قبلنا
المبحث الخامس هل السواك في شريعة من قبلنا سبق لنا بحث، هل السواك من سنن الفطرة، في الكلام على حديث عائشة في مسلم، وذكرت اختلاف العلماء، ولو ثبت الحديث، لكان دليلاً على كونه في جميع الشرائع، ولكن الحديث لا يثبت. ولكن ثبت أيضاً من قول ابن عباس، بسند صحيح أن السواك كان في شريعة أبينا إبراهيم عليه السلام. (671 - 7) فقد روى البيهقي، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو زكريا العنبري، ثنا: محمد بن عبد السلام، ثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا عبد الرزاق، ثنا: معمر عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله عز وجل: {وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} قال: ابتلاه الله عز وجل بالطهارة، خمس في الرأس وخمس في الجسد: في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل مكان الغائط والبول بالماء. [وإسناده صحيح] (¬1). ¬
وقد قيل في تفسير الآية غير ذلك. (672 - 8) وأما ما رواه أحمد، قال: ثنا يزيد، ومحمد بن يزيد، أنا الحجاج بن أرطاة، عن مكحول، قال: قال أبو أيوب: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أربع من سنن المرسلين التعطر والنكاح والسواك والحياء. [إسناده ضعيف] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وقد ذكره جملة ممن صنف في الأحاديث الضعيفة (¬1). فالدليل الصحيح على أن السواك في شرع من قبلنا ما ثبت عن ابن عباس أن السواك كان مما أمر به إبراهيم الخليل عليه السلام. وأما كون السواك من سنن الفطرة فسبق أن حديث عائشة غير محفوظ. وأما حديث السواك من سنن المرسلين فأحسنها حديث أبي أيوب، وهو ضعيف، وشواهده ضعيفة جداً لا ترقى إلى الاعتبار. والله أعلم. ¬
الباب الأول في ذكر جنس ما يتوسك به
الباب الأول في ذكر جنس ما يتوسك به ويشتمل على خمسة فصول: الفصل الأول: في التسوك بالعود وبيان الأفضل منه. الفصل الثاني: لا يتسوك بعود يضر اللثة. الفصل الثالث: التسوك بما له رائحة ذكية. الفصل الرابع: التسوك بالأصبع والخرقة. الفصل الخامس: معجون الأسنان هل يحصل به إصابة السنة.
الفصل الأول في التسوك بالعود وأي السواك به أفضل
الفصل الأول في التسوك بالعود وأي السواك به أفضل لا يختلف الفقهاء بأن المستحب أن يكون السواك عوداً ليناً ينقي الفم، ولا يجرحه، ولا يضره، ولا يتفتت فيه، واختلفوا في أي الأعواد أفضل. فقيل: أفضل السواك الأراك. وهو مذهب الجمهور (¬1). ¬
(673 - 9) واستدلوا بما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الصمد وحسن بن موسى، قالا: ثنا حماد، عن عاصم، عن زر بن حبيش، عن ابن مسعود أنه كان يجتني سواكاً من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مم تضحكون؟ قالوا: يا نبي الله من دقة ساقيه، فقال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد. [إسناده حسن، والحديث صحيح] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني: (674 - 10) روى أحمد بن عمرو بن الضحاك، قال: حدثنا خليفة بن خياط، ثنا عون بن كهمس بن الحسن، عن داود بن المساور، ثنا مقاتل بن همام، عن أبي خيرة الصنابحي، قال: كنا في الوفد الذين أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من عبد القيس، فزودنا الأراك نستاك به. فقلنا يا رسول الله عندنا الجريد، ولكن نقبل كرامتك وعطيتك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم غفر لعبد القيس إذ أسلموا طائعين غير خزايا ولا موتورين (¬1). وفي رواية للطبراني، وفيه: " ثم أمر لنا بأراك فقال: استاكوا بهذا ". [إسناده ضعيف جداً، ومتنه منكر، وقصة وفد عبد القيس في ¬
الصحيحين، وليس فيها ذكر السواك] (¬1). ¬
القول الثاني: قالوا: لا فرق بين الأراك، والعرجون والزيتون، وهو مذهب الحنابلة. قال في الإنصاف: " التساوي بين جميع ما يستاك به، وهو المذهب وعليه الأصحاب (¬1). وقال البهوتي: " السواك من أراك أو عرجون أو زيتون أو غيرها، واقتصر كثير من الأصحاب على الثلاثة، وذكر الأزجي لا يعدل عن الأراك والزيتون والعرجون إلا لتعذره " (¬2). هذا الاختلاف فيما يتعلق بتقديم الأراك على غيره. وأما غير الأراك كالنخيل والزيتون، ونحوهما، فأيهما أفضل؟ اختلف في ذلك على قولين: القول الأول: قيل: يأتي بعد الأراك في الأفضلية جريد النخل، ثم الزيتون، وبه قالت ¬
المالكية (¬1)، والشافعية (¬2). (675 - 11) واستدلوا على ذلك بما رواه البخاري، قال: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري، وكانت إحدانا تعوذه بدعاء إذا مرض، فذهبت أعوذه فرفع رأسه إلى السماء وقال: في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى، ومر عبد الرحمن بن أبي بكر، وفي يده جريدة رطبة، فنظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فظننت أن له بها حاجة، فأخذتها، فمضغت رأسها، ونفضتها، فدفعتها إليه فاستن بها كأحسن ما كان مستنا، ثم ناولنيها، فسقطت يده، أو سقطت من يده فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة (¬3). الشاهد من الحديث: قولها رضي الله عنها، وفي يده جريدة رطبة، ثم قالت: " فاستن بها تعني النبي - صلى الله عليه وسلم - ". ¬
الدليل على كون السواك من الزيتون
قال في تحفة المحتاج: " ثم بعده ـ أي بعد الأراك ـ النخل؛ لأنه آخر سواك استاك به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). القول الثاني: قيل: يأتي بعد الأراك الزيتون، وما ذكروا جريد النخل. وهو مذهب الحنفية (¬2). وأما الحنابلة فتقدم مذهبهم، وأن الأراك والزيتون والعرجون سواء عندهم في المشهور من مذهبهم. الدليل على كون السواك من الزيتون. (676 - 12) روى الطبراني، قال: حدثنا أحمد بن علي الأبار ثنا معلل ابن نفيل ثنا محمد بن محصن عن إبراهيم بن أبي عبلة عن عبد الله بن الديلمي، عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: نعم السواك الزيتون من شجرة مباركة يطيب الفم ويذهب بالحفر، وهو سواكي ¬
وسواك الأنبياء قبلي. [موضوع] (¬1). ¬
مبحث هل يتعين السواك بالثلاثة الأراك والجريد والزيتون؟
مبحث هل يتعين السواك بالثلاثة الأراك والجريد والزيتون؟ قال النووي: "وبأي شيء استاك مما يزيل التغير والقلح أجزأه. كذا قال أصحابنا واتفقوا عليه. قال القاضي أبو الطيب، وآخرون: فيجوز الاستياك بالسُّعْد (¬1)، والأشنان (¬2)، ¬
وشبههما (¬1). وقال العراقي: " أصل السنة تتأدى بكل خشن يصلح لإزالة القلح كالخرقة، والخشبة، ونحوها .. " اهـ (¬2). ¬
الفصل الثاني لا يتسوك بعود يضر اللثة
الفصل الثاني لا يتسوك بعود يضر اللثة اتفقت عبارات الفقهاء في النهي عن التسوك بعود يضر اللثة. كالريحان والرمان، واختلفوا في النهي. فقيل: يكره، وهو المشهور من مذهب الجمهور (¬1). وقيل: يحرم، وهو قول عند الحنابلة (¬2). دليل الكراهة أو التحريم. الدليل الأول: (677 - 13) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن ¬
أبي بكر الشيباني، عن ضمرة بن حبيب، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن السواك بعود الريحان والرمان، وقال: يحرك عرق الجذام. [إسناده ضعيف لإرساله، وضعف أبي بكر] (¬1). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: من النظر، إن تعاطي ما فيه ضرر لا يجوز، بل ولو كان فيه نفع، وكان ضرره أكثر من نفعه، فهو محرم، قال تعالى: {ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير، ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} (¬1). فما كان ضرره أكثر من نفعه غلب جانب التحريم، وهذه قاعدة شرعية. ومنها نستدل على تحريم الدخان؛ حيث لا نفع فيه البتة، بل لو قال أحد: إنه أولى بالتحريم من الخمر لم يكن بعيداً؛ لأن الخمر فيه نفع، ولو مطلق النفع، بخلاف الدخان. والله أعلم. ¬
الفصل الثالث التسوك بما له رائحة ذكية
الفصل الثالث التسوك بما له رائحة ذكية قيل: يستاك بقضبان الأشجار الناعمة التي لا تضر , ولها رائحة طيبة تزيل القلح (¬1)، كالقتادة والسعد. وهو مذهب ¬
المالكية (¬1)، والشافعية (¬2). وقال الحنابلة: يكره بكل ذي رائحة ذكية (¬3). وتعليل المالكية والشافعية بأنه أقوى في إزالة القلح. ¬
وتعليل الحنابلة بأنه يضر باللثة. والمرجع في ذلك إلى الطب فإن ثبت الضرر بها طبياً، كان منهياً عنها. وإن لم يثبت فالأصل الإباحة. والله أعلم.
الفصل الرابع التسوك بالأصبع والخرقة
الفصل الرابع التسوك بالأصبع والخرقة اختلف الفقهاء في الرجل يشوص فاه بأصبعه، هل يصيب السنة في ذلك أم لا؟ فقيل: إذا تسوك بالأصبع والخرقة لا يصيب السنة مطلقاً، وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: يصيب السنة مطلقاً. اختاره بعض المالكية (¬3)، ووجه في مذهب الشافعية (¬4)، وقول في مذهب الحنابلة (¬5). وقيل: إن لم يقدر على عود أصاب السنة، وإلا فلا، وهو مذهب ¬
دليل من قال: لا يتسوك بالأصبع
الحنفية (¬1)، وعليه أكثر المالكية (¬2). وقيل: يجزئ إن كان خشناً، وكان الأصبع من يد غيره، وإن كان أصبعه هو لم يحصِّل بها السنة. اختاره النووي (¬3). دليل من قال: لا يتسوك بالأصبع. التعليل الأول: أن الأصبع لا تسمى سواكاً، ولا هي في معناه. التعليل الثاني: أن الشرع لم يرد بالتسوك بالأصبع. التعليل الثالث: أن التسوك تارة يكون للنظافة، وتارة لتحصيل السنة ولو كان الفم نظيفاً، كالتسوك للصلاة، وعند الوضوء، فلا تحصل السنة بأمر لم يرد به الشرع. دليل من قال السواك بأصبع الغير يصيب السنة دون أصبعه. قال النووي بعد أن ذكر أوجه الخلاف في السواك بالأصبع، قال: "ثم الخلاف إنما هو في إصبعه، أما أصبع غيره الخشنة فتجزئ قطعاً؛ لأنها ليست جزءاً منه، فهي كالأشنان ". اهـ (¬4). ¬
أدلة القائلين بجواز التسوك بالأصبع
قلت: هذه ظاهرية واضحة، ودليل على ضعف منع التسوك بالأصبع. قال العراقي في طرح التثريب: " لا أدري ما وجه التفريق بين أصبعه وأصبع غيره، وكونه جزءاً منه لا يظهر منه ما يقتضي منعه، بل كونها أصبعه أبلغ في الإزالة؛ لأنه يتمكن بها أكثر من تمكن غيره أن يسوكه بأصبعه". ثم قال: والحديث الذي ورد في السواك بالأصبع أعم من أصبعه وأصبع غيره، بل في بعضها التصريح بأصبع المستاك، كما رواه البيهقي في سننه من حديث أنس، أن رجلاً من الأنصار من بني عمرو بن عوف، قال: يا رسول الله إنك رغبتنا في السواك، فهل دون ذلك من شيء؟ قال: إصبعاك سواك عند وضوئك، تمرهما على أسنانك .. الحديث، ورجاله ثقات (¬1) إلا أن الراوي عن أنس بعض أهله غير مسمى، وقد ورد في بعض طرقه بأنه النضر بن أنس، وهو ثقة، ولفظه: " يجزئ من السواك الأصابع " وفيه عيسى بن شعيب البصري. قال فيه عمرو بن علي الفلاس: إنه صدوق. وقال ابن حبان: كان ممن يخطئ حتى فحش خطؤه، فاستحق الترك. وبالجملة فلا يظهر معنى التفرقة بين أصبعه وأصبع غيره، فالمختار كما قال النووي: تؤدى به السنة مطلقاً ما لم تكن ناعمة لا تزيل القلح. والله أعلم. (¬2). أدلة القائلين بجواز التسوك بالأصبع. الدليل الأول: (678 - 14) ما رواه أحمد، قال ثنا محمد بن عبيد، ثنا مختار، ¬
عن أبي مطر، قال: بينا نحن جلوس مع أمير المؤمنين على في المسجد على باب الرحبة، جاء رجل فقال: أرني وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو عند الزوال فدعا قنبر، فقال: ائتني بكوز من ماء فغسل كفيه ووجهه ثلاثا، وتمضمض ثلاثا فأدخل بعض أصابعه في فيه، واستنشق ثلاثاً، وغسل ذراعية ثلاثا، ومسح رأسه واحدة، فقال: داخلهما من الوجه وخارجهما من الرأس، ورجليه إلى الكعبين ثلاثا، ولحيته تهطل على صدره، ثم حسا حسوة بعد الوضوء، ثم قال: أين السائل عن وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ كذا كان وضوء نبي الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). [إسناده ضعيف جداً، وذكر إدخال الأصبعين في فيه منكر] (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (679 - 15) ما رواه ابن عدي، قال: حدثنا الساجي، قال: حدثني محمد بن موسى، ثنا عيسى بن شعيب، عن عبد الحكم، عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: يجزئ من السواك الأصابع. [إسناده ضعيف جداً] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (680 - 16) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن عرس، ثنا هارون بن موسى الفروي، ثنا أبو غزية محمد بن موسى، حدثني كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الأصابع تجري مجرى السواك إذا لم يكن سواك. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن كثير بن عبد الله المزني إلا أبو غزية تفرد به هارون الفروي. [الحديث ضعيف جداً] (¬1). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: قال الحافظ في التلخيص: روى أبو نعيم (¬1)،وابن عدي (¬2) والطبراني (¬3) من حديث عائشة يعنى ـ نحو حديث أنس المتقدم. قال الحافظ: وفيه المثنى بن الصباح. اهـ (¬4). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (681 - 17) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا محمد بن الحسن ثنا محمد بن أبي السري، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا عيسى بن عبد الله الأنصاري، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة، قالت: قلت: يارسول الله الرجل يذهب فوه يستاك؟ قال: نعم. قلت: كيف يصنع؟ قال: يدخل إصبعه في فيه. قال الطبراني لم يرو هذا الحديث عن عطاء إلا عيسى بن عبد الله تفرد به الوليد، ولا يروى عن عائشة إلا بهذا الإسناد. [إسناده ضعيف] (¬1). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (682 - 18) ما رواه أبو عبيد في كتاب الطهور، قال: حدثنا حماد بن خالد، عن الزبير بن عبد الله مولى آل عمر، عن جدته رهيمة خادم عثمان، قالت: كان عثمان إذا توضأ يسوك فاه بأصبعه. [ضعيف] (¬1). وأحاديث الوضوء المرفوعة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأت في شيء منها التسوك بالأصابع. والذي يظهر لي أن المسألة ليس فيها سنة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهل مثل هذا يدخل التسوك بالأصبع في حد البدعة؟ الجواب: لا، فالسواك مطهرة للفم مرضاة للرب، فيه جانب تعبدي، ¬
وفيه جانب معقول المعنى، وهو كونه شرع لتطهير الفم، وتنظيفة، والذي ينظف فاه بأصبعه خير من الذي لا ينظف فاه أبداً، ولكن لا يحصل له الثواب المترتب على السواك؛ لأنه دونه في التطهير، لكن يحصل له من الأجر بقدر ما يحصل له من الإنقاء، والتسوك بالأصبع يناسب إذا كان مع المضمضة؛ فإنه لا شك أنه مع الماء يحصل به قدر من نظافة الفم وتطهيره، واعتبره بعض المالكية من الدلك المشروع في الوضوء. والله أعلم.
الفصل الخامس هل يحصل بالمعجون إصابة السنة
الفصل الخامس هل يحصل بالمعجون إصابة السنة لا شك أن السواك أفضل من معجون الأسنان بكل حال. أولاً: خفيف الحمل. وثانياً: يفعل في كل وقت، وفي كل مكان. وثالثاً: المعجون يحتاج إلى الماء، كما يحتاج إلى فرشة خاصة، بخلاف السواك. ورابعاً: لا يمكن تحقيق السنة بها عند كل صلاة، وفي كل مرة يدخل الرجل بيته بخلاف السواك. وخامساً: بعض الناس يكون عنده حساسية من المعجون، أو من الفرشة، وقد يكون عنده نفس الشيء من السواك. سادساً: لا بد أن يتعلم الإنسان كيف يستعمل الفرشة، وإلا تسببت له بضرر في اللثة. كل هذا وغيره يجعل السواك أفضل من المعجون، ولكن، هل يصيب السنة لو فعل ذلك بالمعجون؟ وللجواب على ذلك، سبق أن ذكرت في آخر الفصل السابق أن السواك فيه مرضاة للرب، وفيه مطهرة للفم. فالجانب الثاني، وهو جانب تطهير الفم لا شك أن المعجون يقوم بذلك، فتحصل به السنة من هذا الوجه، ولكن فعله تعبداً عند الصلاة مثلاً ولو كان الفم نظيفاً لا يحصل إلا بالسواك؛ لأنه المنصوص عليه، والله أعلم. وقد وقفت على كلام لبعض الأطباء في تفضيل السواك على المعجون
من الناحية الطبية، أنقل لك ما جاء فيه. قال الطبيب: " إن المسواك يفوق جميع الوسائل والطرق المستعملة لتنظيف الأسنان، فالمسواك منظف آلي يقوم مقام الفرشاة لاحتوائه على ألياف سيليولوزية طبيعية خير من ألياف الفرشاة، ويقوم مقام معجون الأسنان، أو المسحوق المنظف، بل أفضل منه، لما يحتويه من مواد مطهرة مثل: العفص، والسنجرين، وبيكربونات الصوديوم، ومواد تشبه البنسلين، بتأثيرها اكتشفها الدكتور: "رودات " وهي مواد مبيدة للجراثيم، مجهولة التركيب، كذلك يوجد بالسواك مواد زالقة منظفة فتدعك وتدلك الأسنان، وتجعلها بيضاء لامعة، ولا تخدش أنسجة السن، وهي خير من المواد الرغوية التجارية التي توجد بالمعاجين، فقد أعلنت مجلة أطباء الأسنان الأمريكية (¬1). أن أغلبية المعاجين المستعملة في الولايات المتحدة غير صحية أو طبية، وبالمسواك كميات من بلورات السيليس الصلبة التي تفيد كمادة منظفة تحك القلح عن الأسنان، وموجودة بالمسواك بنسبة عالية، تبلغ حوالي 4 % وكذلك أملاح أخرى لها فعاليتها في البوتاسيوم، وأكسالات الجير، وبالمسواك مواد عطرية زيتية، وهذه هي عوامل التطيب، والتنكه والشذا؛ لأنها تكسب الفم رائحة طيبة، وبه مادة قابضة كالعفص، التي توقف النزيف، وتقوي اللثة، وتساعد على تقرنها، وجريان الدم فيها، ويساعد العفص على تكوين الليفين من مولد الليفين، الذي له أهمية في عملية تكوين الجلطة، وأما النشاء والصموغ فتساعد على جعل قوام اللعاب لزجاً، فيساعد على التنظيف. ثم قال بعد ذلك: " مما تقدم نرى أن المسواك يحتوي على مواد عديدة مفيدة لا توجد بأي ¬
معجون أو منظف أسنان. والمواد التي ثبت وجودها بالسواك وهي: 1 - العفص، 2 - السنجرين، 3 - مادة مبيدة للجراثيم اكتشفها الدكتور رودات تشبه البنسلين بتأثيرها على الجراثيم، 4 - ألياف سيليولوزية، 5 - كلوريد الصوديوم، 6 - بيكربونات الصوديوم، 7 - كلوريد البوتاسيوم، 8 - أكسالات الكالسيوم، 9 - زيوت عطرية 10 - أملاح معدنية، 11 - بلورات السيليس، 12 - مواد سكرية مختلفة مثل الجالاكتوز، والنشاء، والمواد الصمغية، 13 - مواد غير معروفة، 14 - شاردة الكالسيوم، 15 - شاردة الحديد، 16 - شاردة الفحمات، 19 - شاردة الكلور، 20 - شاردة الكبريتات، 21 - أملاح نشادرية، 22 - أعلن الدكتور كينيث كيوديل أن السواك يحتوي على مادة تمنع النخر السني، وقد أعلن ذلك أمام المؤتمر الثاني والخمسين للجمعية الدولية لأبحاث الأسنان في اتلانتا بأمريكا. أما ألياف السواك فهي أفضل من شعيرات الفرشاة، وتعتبر مثالية للأسباب التالية: 1 - إن ألياف المسواك قوية، لينة، متينة، سيليولوزية غير قاسية، كألياف الفرشاة التي تخدش، وتسحل أنسجة السن بفعالية أكثر من ألياف السواك الطبيعية. 2 - ألياف المسواك تحتوي على مواد كيماوية ذات فائدة عظيمة للأسنان تفوق جميع المنظفات السنية، سواء كانت محاليل، أو مساحيق، أو معاجين، وأما ألياف وشعيرات الفرشاة لا تحتوي شيئاً من ذلك. فالمسواك بمفرده يقوم مقام الفرشاة والمعجون معاً 3 - ألياف السواك دقيقة، ورقيقة، وطبيعية لا تؤذي أنسجة اللثة، بل
تزيد من تقرنها، وذلك بتدليكها تدليكاً لطيفاً، فيزداد وارد الدم لأنسجتها، فترتفع مقاومتها للأمراض، ولقد ثبت بالتجارب التي أجرتها جمعية أطباء أسنان الجيش الأمريكي أن ألياف الأعواد الخشبية لها فائدة للثة أعظم من شعيرات الفرشاة، وأن الإصابات والتغيرات اللثوية عند استعمال النكشات الخشبية ـ التي مضغ أحد أطرافها فأصبح كالفرشاة بعد أن تفرقت أليافه الخشبية، لتنظيف الأسطح السنية، وظل الطرف الآخر للنكشات الخشبية مدبباً لتنظيف المسافات التي بين الأسنان_ أثبتت تلك النكشات الخشبية بأنها تنقص نسبة الإصابات اللثوية بينما ازدادت عند الذين يستعملون الفرشاة، والمسواك أفضل بكثير من الأعواد الخشبية، لذلك فإن المسواك بأليافه الطبيعية يزيد من تقرن الأنسجة اللثوية، ويدلكها فيزداد من واردها الدموي، فتزداد حيويتها، ومقاومتها للأمراض. وخصوصاً لاحتوائه على مواد مطهرة، وقابضة ومفيدة للأنسجة والأسنان. 4 - وفي نفس التجارب السابقة وجد أن النكشات الخشبية ذات فعالية بتقليل كميات الترسبات القلحية على الأسنان إذا قورنت عندما تستعمل الفرشاة، فالمسواك ذو فعالية أفضل بتقليل الترسبات القلحية على الأسنان. 5 - إن ألياف المسواك بتغير مستمر وتقطع عادة بعد أن تصبح طرية، وطعمها الحراق اللاذع يصبح معدوماً، فتظهر ألياف جديدة غير ملوثة بالجراثيم وغبار الجو، وبإزالة وبتر الجزء المستعمل يزول أي احتمال للتلوث بعكس الفرشاة فشعيراتها لا تتغير، ومعرضة للتلوث، وتكون سبباً في نقل أمراض عدة إن لم نعتن بها جيداً بعد التنظيف. 6 - الألياف الظاهرة بالمسواك غير قابلة للتلوث لوجود مطهرات فيها
مثل السنجرين، والعفص، وبيكربونات الصوديوم، والمادة المبيدة للجراثيم، التي اكتشفها الدكتور رودات، أما شعيرات الفرشاة فلا يوجد فيها مطهرات. 7 - الألياف الغير مستعملة في المسواك مغطاة بطبقة فلينية، وتحتها طبقة قشرية، وهاتان الطبقتان والمواد المطهرة الموجودة بألياف المسواك تحميها من التلوث بالجراثيم، بعكس الفرشاة التي لا يحميها أي شيء. 8 - ألياف المسواك ملأى بالنسيج المتخشب، بينما الفرشاة المصنوعة من الشعر الطبيعي الحيواني تكون مجمعاً للأوساخ والجراثيم؛ لأن شعرة الحيوانات جوفاء من الداخل، فتمتلئ القناة الداخلية للشعرة بالجراثيم والأوساخ، وتكون سبباً لنقل الأمراض. 9 - ألياف المسواك نستطيع أن نتحكم في صلابتها وطراوتها، وذلك بتقليل عدد أليافها، أو دقها فتتناثر منها بعض البلورات الصلبة فتقل صلابتها، ولذلك فألياف المسواك تناسب جميع حالات اللثة الطرية والقوية بعكس الفرشاة فإنها ثابتة الصلابة والطراوة. 10 - إن ألياف المسواك لا يستطيع أحد أن يغشها، فهي مواد طبيعية، أما شعيرات الفرشاة ومواد المنظفات السنية فمن السهل أن تغش، وعود المسواك معروف لدى الذين يستعملونه (¬1). ¬
الباب الثاني في صفة السواك
الباب الثاني في صفة السواك ويشتمل على ثلاثة فصول: الفصل الأول: هل الأفض اليابس من السواك أو الرطب؟ الفصل الثاني: الكلام في طول السواك وعرضه. الفصل الثالث: التسوك بعود لا يعرفه.
الفصل الأول هل الأفضل اليابس من السواك أو الرطب؟
الباب الثاني صفة السواك علمنا في بحث سابق مادة السواك، وأن الأفضل عند الفقهاء أن يكون من الأراك، ثم النخيل، ثم الزيتون، ثم بكل عود ينظف الفم، ويزيل القلح، ولا يضر باللثة. ونريد أن نبحث في هذا الفصل في صفة السواك. الفصل الأول هل الأفضل اليابس من السواك أو الرطب؟ فقيل: يستحب أن يكون السواك رطباً (¬1). وقيل: يستحب أن يكون يابساً ندي بالماء (¬2)؛ لأن اليابس يجرح اللثة، والرطب لا يزيل ما يراد إزالته (¬3). دليل من استحب أن يكون السواك رطباً. (683 - 19) ما رواه البخاري، قال: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا ¬
دليل من استحب كون السواك يابسا قد ندي بالماء
حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وكانت إحدانا تعوذه بدعاء إذا مرض، فذهبت أعوذه فرفع رأسه إلى السماء وقال: في الرفيق الأعلى في الرفيق الأعلى. ومر عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده جريدة رطبة، فنظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فظننت أن له بها حاجة، فأخذتها فمضغت رأسها، ونفضتها، فدفعتها إليه، فاستن بها كأحسن ما كان مستناً، ثم ناولنيها فسقطت يده أو سقطت من يده، فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة. دليل من استحب كون السواك يابساً قد ندي بالماء. قال: إن اليابس المندى بالماء أقوى في طهارة الفم، وإزالة القلح. والراجح أن كل ما كان أقوى في نظافة الفم وتطهيره، كل ما كان مطلوباً؛ لأن السواك شرع من أجل طهارة الفم، وحتى نجمع بين قوة التطهير، وسلامة الفم واللثة ينبغي أن يكون السواك متوسطاً، لا رطباً جداً فلا ينظف، ولا يابساً فيضر بالفم. والله أعلم.
الفصل الثاني الكلام في طول السواك وعرضه
الفصل الثاني الكلام في طول السواك وعرضه استحب الحنفية (¬1) والمالكية (¬2)، وبعض الشافعية (¬3) .. أن يكون السواك طوله شبر. واستحب الحنفية أن يكون عرضه بمقدار الأصبع (¬4). وهذا الاستحسان من الرأي المحض، والكلام في هذا ليس فيه نص من كتاب أو سنة، وإنما أمر يستحسنه الفقهاء، ويلتمسون له تعليلات، قد تصيب، وقد تخطئ. والاستحباب حكم شرعي لابد فيه من دليل شرعي، ولا دليل، ولا أظن الأئمة يستحبون ذلك، ولكن أتباعهم قد يستحسنون شيئاً لا أصل له، وكثير ما يقلد بعض الفقهاء بعضاً، ولا يكون هناك نص من إمامهم. ورحم الله الشوكاني حين قال: وللفقهاء في السواك آداب وهيئات لا ينبغي للفطن الاغترار بشيء منها، إلا أن يكون موافقاً لما ورد عن الشارع، ولقد كرهوه في أوقات وعلى حالات حتى يكاد يفضي ذلك إلى ترك هذه ¬
السنة الجليلة وإطراحها، وهي أمر من أمور الشريعة ظهر ظهور النهار، وقبله من سكان البسيطة من أهل الأنجاد والأغوار (¬1). ¬
الفصل الثالث التسوك بعود لا يعرفه
الفصل الثالث التسوك بعود لا يعرفه كره بعض الفقهاء التسوك بعود يجهله، وعللوا ذلك بأنه يخشى أن يكون من الأعواد الضارة باللثة كريحان ورمان ونحوهما (¬1). والراجح أن المسألة معلقة بغلبة الظن، فإن كان يغلب على ظنه أنه ضار لم يتسوك به، وإلا فله التسوك به. وغلبة الظن طريق شرعي كل ما تعذر اليقين، في جميع أمور الشريعة كالصلاة، والإمساك والإفطار بالصيام، ودخول وقت الصلاة، ونحوهم. ¬
الباب الثالث في حكم السواك
الباب الثالث في حكم السواك ويشتمل على سبعة فصول ومبحث واحد الفصل الأول: حكم السوك وفيه مبحثان: المبحث الأول: حكم السواك للصائم. المبحث الثاني: هل خلوف الصائم أطيب عند الله من رائحة المسح في الدنيا والآخرة أم في الآخرة فقط؟ الفصل الثاني: حكم السواك للصائم. الفصل الثالث: حكم التسوك في المسجد. الفصل الرابع: حكم السواك بحضرة الناس. الفصل الخامس: التسواك في الخلاء. الفصل السادس: إمكانية ترتيب الأجر على التسوك بما يضر. الفصل السابع: في التسمية للسواك.
الفصل الأول في حكم السواك
الفصل الأول في حكم السواك قيل: السواك ليس بواجب على خلاف بينهم هل يكون سنة أو مستحباً عند من يفرق بين اللفظين، وهو مذهب جمهور الفقهاء والمحدثين (¬1). ¬
الأدلة على استحباب السواك
وقيل: يجب، ولا تبطل الصلاة بتركه، وهو مذهب داود الظاهري (¬1). وقيل: يجب، وإن تركه عمداً بطلت صلاته. وهذا القول منسوب إلى إسحاق بن راهوية (¬2). وقيل: إن السواك واجب في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، سنة في حق أمته. الأدلة على استحباب السواك. الدليل الأول: (684 - 20) ما رواه مالك في الموطأ، قال: عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك. ¬
[وهذا إسناد في غاية الصحة] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال: قال البيضاوي: كلمة " لولا " تدل على انتفاء الشيء لثبوت غيره، والحق أنها مركبة من " لو " الدالة على انتفاء الشيء، لا انتفاء غيره، ومن " لا " النافية، فدل الحديث على انتفاء الأمر، لثبوت المشقة، وفيه دليل على أن الأمر للوجوب من وجهين: أحدهما: أنه نفى الأمر مع ثبوت الندبية، ولو كان للندب، لما جاء النفي. ثانيهما: أنه جعل الأمر مشقة عليهم، وذلك إنما يتحقق إذا كان الأمر ¬
الدليل الثاني
للوجوب؛ إذ الندب لا مشقة فيه. اهـ (¬1). قال الشافعي: لو كان واجباً لأمرهم، شق أو لم يشق. الدليل الثاني: (685 - 21) ما رواه مالك في الموطأ، قال:، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة أنه قال: لولا أن يشق على أمته لأمرهم بالسواك مع كل وضوء. [إسناده صحيح، ورفعه محفوظ] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل من قال بوجوب السواك
دليل من قال بوجوب السواك. الدليل الأول: (686 - 22) ما رواه مسلم، قال: حدثنا عمرو بن سواد العامري، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث، أن سعيد بن أبي هلال وبكير بن الأشج حدثاه، عن أبي بكر بن المنكدر، عن عمرو بن سليم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: غسل يوم الجمعة على كل محتلم، وسواك، ويمس من الطيب ما قدر عليه. قال مسلم: إلا أن بكيراً لم يذكر عبد الرحمن وقال في الطيب ولو من طيب المرأة (¬1). ¬
وجه الاستدلال: قوله: " على كل محتلم " ظاهرة في الوجوب. وأجيب: بأن الدليل أخص من المدلول، فأنتم تقولون بوجوبه لكل صلاة، والحديث إن سلم الاستدلال به فهو خاص في يوم الجمعة، إن حملنا اليوم على أن المراد به قبل الصلاة. ثم إذا سلمنا أن الحديث ظاهره الوجوب في الغسل والسواك، فهذا الظاهر ليس صريحاً، فلا يقدم على الصريح، وهو حديث ثابت في الصحيحين: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة ". أما قول الزيلعي رحمه الله: أن غسل الجمعة ليس بواجب؛ لأنه قرنه بما لا يجب اتفاقاً ـ يعني السواك والطيب ـ وكأنه لم يعتمد خلاف داود وإسحاق في وجوب السواك خلافاً معتبراً؛ لأنه حكى الاتفاق بأنه لا يجب في السواك (¬1). وقال النووي، كما في نيل الأوطار: " لو صح إيجابه عن داود لم يضر مخالفه في انعقاد الإجماع، على المختار الذي عليه المحققون، والأكثرون، قال: أما إسحاق فلم يصح هذا المحكي عنه" (¬2). اهـ وقال الشوكاني رحمه الله متعقباً كلام النووي في عدم الاعتداد بخلاف داود مع علمه وورعه، وأخذ جماعة من الأئمة الأكابر بمذهبه من التعصبات التي لا مستدل لها إلا مجرد الهوى والعصبية، وقد كثر هذا الجنس في أهل ¬
المذاهب، وما أدري ما هو البرهان الذي قام لهؤلاء المحققين حتى أخرجوه من دائرة علماء المسلمين. فإن كان لما وقع منه من المقالات المستبعدة، فهي بالنسبة لمقالات غيره المؤسسة على محض الرأي المضادة لصريح الرواية في حيز القلة المتبادلة؛ فإن التعويل على الرأي، وعدم الاعتناء بعلم الأدلة، قد أفضى بقوم إلى التمذهب بمذاهب لا يوافق الشريعة منها إلا القليل النادر. وأما داود فما في مذهبه من البدع التي أوقعه فيها تمسكه بالظاهر، وجموده عليه في غاية الندرة، ولكن: لهوى النفوس سريرة لا تعلم (¬1). قال الذهبي في السير: " للعلماء قولان في الاعتداء بخلاف داود وأتباعه - فمن اعتد بخلافهم، قال: ما اعتدادنا بخلافهم؛ لأن مفرداتهم حجة، بل لتحكى في الجملة. وبعضها سائغ، وبعضها قوي، وبعضها ساقط. ثم ما تفردوا به هو شيء من قبيل مخالفة الإجماع الظني، وتندر مخالفتهم لإجماع قطعي. - ومن اهدرهم، ولم يعتد بهم لم يعدهم في مسائلهم المفردة خارجين بها من الدين، ولا كفرهم بها، بل يقول هؤلاء في حيز العوام، أو هم كالشيعة في الفروع، ولا نلتفت إلى أقوالهم، ولا ننصب معهم الخلاف، ولا يعتنى بتحصيل كتبهم، ولا ندل مستفتياً من العامة عليهم، وإذا تظاهروا بمسالة معلومة البطلان، كمسح الرجلين، أدبناهم وعزرناهم وألزمناهم بالغسل جزماً. قال الأستاذ أبو إسحاق الاسفراييني: قال الجمهور إنهم _ يعني نفاة القياس _ لا يبلغون رتبة الاجتهاد ولا يجوز تقليدهم القضاء!! ¬
ونقل الأستاذ أبو منصور البغدادي، عن أبي علي بن أبي هريرة، وطائفة من الشافعية أنه لا اعتبار بخلاف داود، وسائر نفاة القياس في الفروع دون الأصول. وقال إمام الحرمين أبو المعالي: الذي ذهب إليه أهل التحقيق أن منكري القياس لا يعدون من علماء الأمة، ولا من حملة الشريعة؛ لأنهم معاندون مباهتون فيما ثبت استفاضةً وتواتراً؛ لأن معظم الشريعة صادر عن الاجتهاد، ولا تفي النصوص بعشر معشارها، وهؤلاء ملتحقون بالعوام. قال الذهبي: هذا القول من أبي المعالي أداه إليه اجتهاده، وهم أداهم اجتهادهم إلى نفي القول بالقياس، فكيف يرد الاجتهاد بمثله. وندري بالضرورة أن داود كان يقرئ مذهبه ويناظر عليه، ويفتي به في مثل بغداد وكثرة الأئمة بها وبغيرها، فلم نرهم قاموا عليه، ولا أنكروا فتاويه، ولا تدريسه ولا سعوا في منعه من بثه، وبالحضرة مثل إسماعيل القاضي، شيخ المالكية، وعثمان بن بشار الأنماطي، شيخ الشافعية، والمروذي شيخ الحنبلية، وابني الإمام أحمد، وأبي العباس أحمد بن محمد البرتي شيخ الحنفية، وأحمد بن أبي عمران القاضي، ومثل عالم بغداد إبراهيم الحربي. بل سكتوا له حتى لقد قال قاسم بن أصبغ: ذاكرت الطبري ـ يعني ابن جرير ـ وابن سريج، فقلت لهما: كتاب ابن قتيبة في الفقه أين هو عندكما؟ قالا: ليس بشيء، ولا كتاب أبي عبيد. فإذا أردت الفقه فكتب الشافعي وداود ونظرائهما. ثم كان بعده ابنه أبو بكر وابن المغلس، وعدة من تلامذة داود، وعلى أكتافهم مثل ابن سريج شيخ الشافعية، وأبي بكر الخلال شيخ الحنبلية، وأبي الحسن الكرخي شيخ الحنفية، وكان أبو جعفر الطحاوي بمصر. بل كانوا
يتجالسون ويتناظرون ويبرز كل منهم بحججه، ولا يسعون بالداودية إلى السلطان. بل أبلغ من ذلك ينصبون معهم الخلاف في تصانيفهم قديماً وحديثاً، وبكل حال فلهم أشياء أحسنوا فيها، ولهم مسائل مستهجنة يشغب عليهم بها، وإلى ذلك يشير الإمام أبو عمرو بن الصلاح، حيث يقول: الذي اختاره الأستاذ أبو منصور، وذكر أنه الصحيح من المذهب أنه يعتبر خلاف داود، ثم قال ابن الصلاح: وهذا الذي استقر عليه الأمر آخراً، كما هو الأغلب الأعرف من صفو الأئمة المتاخرين الذين أوردوا مذهب داود في مصنفاتهم المشهورة، كالشيخ أبي حامد الاسفراييني، والماوردي، والقاضي أبي الطيب فلولا اعتدادهم به لما ذكروا مذهبه في مصنفاتهم المشهورة. ... قال وأرى أن يعتبر قوله إلا فيما خالف فيه القياس الجلي، وما أجمع عليه القياسيون من أنواعه، أو بناه على أصوله التي قام الدليل القاطع على بطلانها، فاتفاق من سواه إجماع منعقد، كقوله في التغوط في الماء الراكد وتلك المسائل الشنيعة، وقوله: لا ربا إلا في الستة المنصوص عليها، فخلافه في هذا أو نحوه غير معتد به؛ لأنه مبني على ما يقطع ببطلانه. قلت - القائل الذهبي -: لا ريب أن كل مسالة انفرد بها، وقطع ببطلان قوله فيها، فإنها هدر، وإنما نحكيها للتعجب، وكل مسألة له عضدها نص، وسبقه إليها صاحب، أو تابع فهي من مسائل الخلاف فلا تهدر. وفي الجملة، فداود بن علي بصير بالفقه، عالم بالقرآن، حافظ للأثر، رأس في معرفة الخلاف من أوعية العلم، له ذكاء خارق، وفيه دين متين، وكذلك في فقهاء الظاهرية جماعة لهم علم باهر، وذكاء قوي، فالكمال عزيز والله الموفق.
الدليل الثاني
ونحن نحكي قول ابن عباس في المتعة، وفي الصرف، وفي إنكار العول، وقول طائفة من الصحابة في ترك الغسل من الإيلاج، وأشباه ذلك، ولا نجوز لأحد تقليدهم في ذلك " اهـ كلام الذهبي رحمه الله (¬1). وقد نقلت كلامه رغم طوله لفائدته، فينبغي احترام المخالف، إذا كان من أهل الاجتهاد، وقد قال سبحانه وتعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين} (¬2)، وداود وابن حزم وغيرهما من علماء المسلمين من المؤمنين الذي يعتبر إتباعهما بالدليل إتباعاً لسبيل المؤمنين. والله أعلم. الدليل الثاني: (687 - 23) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، قال: سمعت محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان يحدث عن رجل من الأنصار، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: ثلاث حق على كل مسلم، الغسل يوم الجمعة، والسواك، ويمس من طيب إن كان (¬3). [إسناده ضعيف؛ لإبهام راويه] (¬4). ¬
الدليل الثالث
وجه الاستدلال من الحديث كالاستدلال بالحديث السابق، والجواب عنه كالجواب عن الحديث السابق. الدليل الثالث: (688 - 24) ما رواه البيهقي، قال: أخبرنا أبو الحسن العلوي، وأبو علي الحسين بن محمد الروذباري، قالا: أنا أبو طاهر محمد بن الحسين المجد أباذي، ثنا عثمان بن سعيد الدارمي، ثنا عمرو بن عون الواسطي، ثنا خالد بن عبد الله، عن الحسن بن عبيد الله، عن سعد بن عبيده، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي رضي الله تعالى عنه، قال: أمرنا بالسواك، وقال: إن العبد ¬
إذا قام يصلي أتاه الملك، فقام خلفه يستمع القرآن، ويدنو فلا يزال يستمع ويدنو، حتى يضع فاه على فيه فلا يقرأ آية إلا كانت في جوف الملك. [إسناده صحيح] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال: قوله أمرنا بالسواك، والأصل في الأمر الوجوب. ويجاب عن هذا: بأن الأمر صحيح أن الأصل فيه للوجوب، ولكن يستعمل الأمر، ويقصد به الاستحباب، وهذا كثير لقرينة تصرفه عن الوجوب، والقرينة الصارفة، قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح المتفق عليه: "لولا أن أشق على آمتي لأمرتهم بالسواك ". وحديث علي، ظاهره أنه موقوف، لكن مثله لا يمكن أن يقال بالرأي، فيكون له حكم الرفع؛ لأنه أمر غيبي لا بد فيه من توقيف. ويحتمل أن يكون مرفوعاً؛ لأن قول علي: " أمرنا بالسواك " وقال: إن العبد ... الخ كأنه بيان علة الأمر بالسواك؛ فكأنهم أمروا، ثم بين لهم العلة في الأمر. (689 - 25) وقد روي مرفوعاً صريحا عند البزار، قال: حدثنا أحمد، قال: سمعت محمد بن زياد يحدث، عن فضيل بن سليمان، عن الحسن بن عبيد الله، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، عن علي رضي الله عنه، أنه أمر بالسواك، وقال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن ¬
العبد إذا تسوك، ثم قام يصلي قام الملك خلفه، فتسمع لقراءته، فيدنو منه أو كلمة نحوها حتى يضع فاه على فيه، فما يخرج من فيه شيء من القرآن إلا صار في جوف الملك، فطهروا أفواهكم للقرآن. [إسناده ضعيف، وله شاهد من حديث جابر] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (690 - 26) ما رواه أحمد، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، ثنا ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: عليكم بالسواك فإنه مطيبة للفم، ومرضاة للرب (¬1). ¬
دليل من قال السواك واجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة
وجه الاستدلال: قوله: " عليكم بالسواك ": أي إلزموا، والتعبير بها ظاهر بالوجوب. وأجيب: بأن زيادة عليكم بالسواك غير محفوظة، تفرد بها ابن لهيعة. دليل من قال السواك واجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة. الدليل الأول: (691 - 27) استدلوا بما رواه أبو داود أحمد، قال: ثنا يعقوب، ثنا أبى، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري ثم المازني مازن بنى النجار، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، قال: قلت له: أرأيت وضوء عبد الله بن عمر لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر عم هو؟ فقال: حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن أبى عامر ابن الغسيل حدثها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلا من حدث. قال: فكان عبد الله يرى أن به قوة ¬
على ذلك فكان يفعله حتى مات (¬1). [في إسناده اختلاف وحسن إسناده الحافظ] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (692 - 28) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا بكر، قال: نا عبد الغني بن سعيد الثقفي، قال: نا موسى بن عبد الرحمن الصنعاني، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثلاث هن علي فريضة وهو لكم سنة: الوتر، والسواك،، وقيام الليل. [إسناده ضعيف جداً] (¬1). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (693 - 29) وروى الطبراني في المعجم الأوسط (¬1) وفي الكبير (¬2)، قال: حدثنا محمد بن علي المروزي، ثنا الحسين بن سعد بن علي بن الحسين بن واقد، حدثني جدي، عن علي بن الحسين، حدثني أبي، ثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أمرت بالسواك حتى خفت على أسناني. [حسن بالمجموع، وقد سبق بحثه] (¬3). والجواب عنه كالجواب عما سبقه من الأحاديث. ¬
الفصل الثاني حكم السواك للصائم
الفصل الثاني حكم السواك للصائم اختلف العلماء في هذه المسألة: فقيل: لا يكره مطلقاً قبل الزوال، وبعده. وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يكره بعد الزوال، وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: يكره السواك الرطب مطلقاً، قبل الزوال وبعده، ويجوز باليابس مطلقاً، قبل الزوال، وبعده، وهو مذهب مالك (¬4)، ورواية عن أحمد (¬5). دليل القائلين بالكراهة. الدليل الأول: (694 - 30) ما رواه البخاري، قال: حدثني عبد الله بن محمد، حدثنا هشام، أخبرنا، معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، ¬
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. والحديث في مسلم (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال: أن الخلوف، وهو الرائحة الكريهة، التي تكون بالفم عند خلو المعدة من الطعام، والخلوف لايظهر غالباً إلا في آخر النهار، ولذا حدوه بالزوال، وإذا كان ناشئاً عن طاعة وعبادة، فلا ينبغي إزالته قياساً على دم الشهيد، فإنه لما كان أثر عبادة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن لا يغسل، وأن يدفن الشهيد بدمه، (695 - 31) كما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، ¬
أدلة القول الثاني
حدثنا الليث، قال: حدثني ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا، ولم يصل عليهم (¬1). أدلة القول الثاني. استدل القائلون بأن السواك مشروع مطلقاً للصائم وغيره، قبل الزوال وبعده بأدلة منها: الدليل الأول: (696 - 32) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع وعبد الرحمن، عن سفيان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لا أعد وما لا أحصى يستاك وهو صائم. وقال عبد الرحمن: ما لا أحصى يتسوك وهو صائم. [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (697 - 33) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا عثمان بن محمد بن أبي شيبة، ثنا أبو إسماعيل المؤدب، عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من خير خصال الصائم ¬
السواك. [إسناده ضعيف] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (698 - 34) ما رواه الدارقطني، قال حدثني أبو بكر محمد بن عثمان بن ثابت الصيدلاني، ثنا أبو محمد حامد بن الشاذي الكجي، ثنا إبراهيم بن يوسف البلخي أخو عصام بن يوسف، ثنا أبو إسحاق الخوارزمي، قال: سألت عاصم الأحول أيستاك الصائم؟ قال نعم: قلت: برطب السواك ويابسه؟ قال: نعم. قلت: أول النهار وآخره. قال: نعم. قلت: عن من؟ قال: عن أنس بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الدارقطني: أبو إسحاق الخوارزمي ضعيف. ورواه ابن عدي (¬1)، وابن حبان (¬2)، والعقيلي (¬3)، والبيهقي (¬4)، في السنن ¬
الدليل الرابع
من طريق إبراهيم بن بيطار الخوارزمي (أبو إسحاق)، عن عاصم الأحول به. [إسناده ضعيف] (¬1). الدليل الرابع: (699 - 35) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا إبراهيم بن هاشم البغوي، ثنا هارون بن معروف، ثنا محمد بن سلمة الحراني، انبأ بكر بن خنيس، عن أبي عبد الرحمن، عن عبادة بن نسي، عن عبد الرحمن بن غنم، قال: سألت معاذ بن جبل، أتتسوك وأنت صائم؟ قال: نعم. قلت: أي النهار أتسوك؟ قال: أي النهار شئت، إن شئت غدوة، وإن شئت عشية. قلت: فإن الناس يكرهونه عشية. قال: ولم؟ قلت: يقولون: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، فقال: سبحان الله، لقد أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
الدليل الرابع
بالسواك حين أمرهم وهو يعلم أنه لا بد أن يكون بفم الصائم خلوف، وإن استاك، وما كان بالذي يأمرهم أن ينتنوا أفواههم عمداً، ما في ذلك من الخير شيء، بل فيه شر إلا من ابتلى ببلاء لا يجد منه بداً. قلت: والغبار في سبيل الله أيضا كذلك إنما يؤجر فيه من اضطر إليه ولم يجد عنه محيصا؟ قال: نعم وأما من ألقى نفسه في البلاء عمداً فما له من ذلك من أجر (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الرابع: (700 - 36) ما رواه ابن منيع في مسنده، قال: حدثنا الهيثم ¬
بن خارجة، ثنا يحيى بن حمزة، عن النعمان بن المنذر، عن عطاء وطاووس، ومجاهد، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - تسوك، وهو صائم (¬1). [إسناده حسن] (¬2). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس والسادس: حديثا أبي هريرة مرفوعاً: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة ". والحديث الآخر: " مع كل وضوء " [والحديثان صحيحان، وسبق تخريجهما]. ¬
الدليل السادس
وجه الاستدلال: ترجم النسائي في السنن الصغرى للحديث الأول، فقال: " باب الرخصة في السواك بالعشي للصائم ". فقال السندي: " وجه الاستدلال: أنه لا مانع من إيجاب السواك عند كل صلاة إلا خوف لزوم المشقة، ويلزم منه كون الصوم غير مانع منه، وهذا استنباط دقيق، وتيقظ عجيب، فلله دره ما أدق وأحد فهمه ". اهـ قلت: ويمكن أن يستدل به على المسألة من وجه آخر، فإن قوله: «عند كل صلاة» وقوله: «مع كل وضوء» فالصلاة تشرع في كل الأوقات .. بالعشي، والهجير، والغدو، والوضوء يشرع للإنسان أن يكون على طهارة دائماً، ولم يستثن الشرع شيئاً في استحبابه، فهو مطلق للصائم والمفطر، بالحضر والسفر، وبالليل والنهار، وبالغدو والعشي. الدليل السادس: (701 - 37) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، ثنا يزيد بن زريع، ثنا عبد الرحمن ابن أبي عتيق، عن أبيه، أنه سمع عائشة تحدثه، عن النبي قال: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب. [إسناده حسن، وسبق تخريجه] (¬1). وجه الاستدلال: إذا كان السواك مرضاة للرب، فمرضاة الله مطلوبة دائماً، وفي كل وقت دون استثناء، وإذا كان السواك مطهرة للفم، فإنه يتأكد في حق الصائم ¬
الدليل السابع
أكثر من غيره، لحاجته إلى تطهير الفم، وتخفيف أثر الخلوف؛ لأن من أسباب مشروعية السواك تطهير الفم. الدليل السابع: من الآثار (702 - 38) روى ابن أبي شيبة حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه لم يكن يرى به باساً بالسواك للصائم. [إسناده صحيح] (¬1). (703 - 39) ومن الآثار ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن مسعر وسفيان، عن أبي نهيك، عن زياد بن حدير، قال: ما رأيت أحدا أدوم سواكاً، وهو صائم من عمر بن الخطاب. [فيه أبو نهيك، لم يتبين لي اسمه] (¬2). ¬
الجواب عن أدلة القول الأول: ¬
أولاً: القياس على دم الشهيد فإن العلة في ترك دم الشهيد ليس لأنه أثر عن عبادة، وإنما لأنه يبعث يوم القيامة، وجرحه يثعب دماً، اللون لون الدم، والريح ريح المسك. (704 - 40) فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم والريح ريح المسك. هذا لفظ البخاري ورواه مسلم (¬1). ولذلك لا يكره لو قام بتنشيف بلل الوضوء، ولا يكره غسل ما يصيب ثوب العالم من الحبر، وإن كان أثراً ناشئاً عن عبادة (¬2). ثانياً: ربط الحكم بالزوال منتقض؛ لأن هذه الرائحة قد تحصل قبله، وقد تحصل بعده، وقد لا تحصل، فلو أن الإنسان تسحر مبكراً، أو لم يتسحر، فإن معدته ستخلو مبكرة. ومن الناس من لا تحصل عنده هذه الرائحة، إما لصفاء معدته، أو لأن معدته لا تهضم الطعام بسرعة، وإذا انتقضت العلة انتقض المعلول. ثالثاً: الأحاديث التي تنهى الصائم عن السواك بعد العشي لا تقوم بها ¬
حجة، كحديث خباب وعلي بن أبي طالب. والكراهة حكم شرعي، مفتقر إلى دليل شرعي. رابعاً: لو سلم أن فضيلة الخلوف تزاحمت مع فضيلة السواك، ولا يمكن الجمع بينهما، فلا شك أن فضيلة السواك تربو على فضيلة الخلوف، وكون الخلوف أطيب عند الله من ريح المسك لا يكفي في تقديم مصلحة الخلوف على مصلحة السواك.، قال الشوكاني: السواك نوع من التطهير المشروع لأجل مخاطبة الرب سبحانه وتعالى؛ لأن مخاطبة العظماء مع تطهير الأفواه تعظيم لا شك فيه، ولأجله شرع السواك، وليس في الخلوف تعظيم ولا إجلال، فكيف يقال: إن فضيلة الخلوف تربو على تعظيم ذي الجلال بتطييب الأفواه له ". خامساً: ذكر بعضهم: أن السواك لا يزيل الخلوف؛ لأن الخلوف من المعدة والحلق، لا من محل السواك، (¬1)، ولذلك إذا أكل الإنسان ثوماً أو بصلاً لم تذهب الرائحة بتطهير الفم بالسواك؛ لأن مبعث ذلك المعدة. فالراجح عندي والله أعلم أن السواك مشروع مطلقاً، وفي كل وقت. ¬
دليل من قال: ذلك خاص في الآخرة
المبحث الأول هل طيب الخلوف في الدنيا والآخرة أم في الآخرة فقط؟ قال بعضهم: إن ذلك عام في الدنيا والآخرة. وقال بعضهم: إن ذلك خاص بالآخرة (¬1). دليل من قال: ذلك خاص في الآخرة. (705 - 41) استدل بما رواه مسلم، قال: حدثني محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني عطاء، عن أبي صالح الزيات، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث يومئذ، ولا يسخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الشاهد قوله: " أطيب عند الله يوم القيامة " فجعل ذلك يوم القيامة. وتعليل آخر: أن يوم القيامة هو يوم الجزاء، وفيه يظهر رجحان الخلوف في الميزان على المسك. الدليل الثاني: (706 - 42) استدلوا بما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم والريح ريح المسك. هذا لفظ البخاري، ورواه مسلم (¬1). فأخبر - صلى الله عليه وسلم - عن رائحة المكلوم في سبيل الله عز وجل بأنه كريح المسك يوم القيامة، وهو نظير إخباره عن خلوف فم الصائم؛ فإن الحس يدل على أن هذا دم في الدنيا، وهذا خلوف له، ولكن يجعل الله رائحة هذا وهذا مسكاً في يوم القيامة (¬2). والذين قالوا بأنه عام في الدنيا والآخرة لا يعارضون هذا الاستدلال، بل يقولون به، ولكنهم لا يخصون هذا في الآخرة، بل يجعلونه عاماً. ¬
دليل من قال: ذلك عام في الدنيا والآخرة
دليل من قال: ذلك عام في الدنيا والآخرة. الدليل الأول: (707 - 43) ما رواه أحمد، قال: ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن سليمان، عن ذكوان، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كل حسنة يعملها بن آدم عشر حسنات إلى سبعمائة حسنة، يقول الله عز وجل: إلا الصوم هو لي وأنا أجزي به، يدع الطعام من أجلي والشراب من أجلي وشهوته من أجلي، فهو لي، وأنا أجزي به. والصوم جنة. وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر وفرحة حين يلقى ربه، ولخلوف فم الصائم حين يخلف من الطعام أطيب عند الله من ريح المسك (¬1). ¬
الدليل الثاني
وجه الاستدلال: قوله: " حين يخلف " وقد ترجم ابن حبان في صحيحه لهذا الحديث بقوله: " ذكر البيان بأن خلوف فم الصائم قد يكون أيضا أطيب من ريح المسك في الدنيا" (¬1). الدليل الثاني: (708 - 44) ما رواه النسوي في كتاب الأربعين، قال: أخبرنا الحسن، ثنا محمد بن عبد الله الأرزي ببغداد، ثقة مأمون، ثنا عبد الوهاب بن عطاء، ثنا الهيثم بن أبي الحواري، عن زيد العمي، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسا لم يعطهن نبي قبلي أما واحدة فإذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله إليهم ومن نظر الله إليه لم يعذبه ¬
أبدا وأما الثانية فإنهم يمسون وخلوف أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك. [الحديث ضعيف] (¬1). الراجح: المحفوظ أن حديث الخلوف مطلق، " ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " وإذا كان مطلقاً فتقييده بالآخرة يحتاج إلى دليل، وما دام أن لفظة: " يوم القيامة " غير محفوظة بموجب القواعد الحديثية، وكذلك لفظة: " حين يخلف " فالذي يترجح عندي أن ذلك عام في الدنيا والآخرة. وقد رجح أن ذلك عام ابن القيم في الوابل الصيب، حيث قال: " وفصل النزاع في المسألة أن يقال: حيث أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن ذلك الطيب يكون يوم القيامة؛ فلأنه الوقت الذي يظهر فيه ثواب الأعمال من الخير والشر، فيظهر للخلق طيب ذلك الخلوف على المسك، كما يظهر فيه رائحة دم المكلوم في سبيله كرائحة المسك، وكما تظهر فيه السرائر، وتبدو على الوجه، وتصير علانية، ويظهر فيه قبح رائحة الكفار، وسواد وجوههم. وحيث أخبر بأن ذلك حين يخلف، وحين يمسون؛ فلأنه وقت ظهور أثر العبادة، ويكون حينئذ طيبها على ريح المسك عند الله تعالى وعند ملائكته، وإن كانت تلك الرائحة كريهة للعباد، فرب مكروه عند الناس محبوب عند الله تعالى، وبالعكس، فإن الناس يكرهونه لمنافرته طباعهم، والله تعالى يستطيبه ويحبه لموافقته أمره ورضاه ومحبته، فيكون عنده أطيب من ريح ¬
المسك عندنا، فإذا كان يوم القيامة ظهر هذا الطيب للعباد، وصار علانية. وهكذا سائر الأعمال من الخير والشر، وإنما يكمل ظهورها علانية في الآخرة، وقد يقوى العمل ويتزايد حتى يستلزم ظهور بعض أثره على العبد في الدنيا في الخير والشر، كما هو مشاهد بالبصر والبصيرة" اهـ (¬1). ¬
الفصل الثالث حكم التسوك في المسجد
الفصل الثالث حكم التسوك في المسجد قيل: يكره السواك في المسجد، وهو قول بعض الحنفية (¬1)، ومذهب المالكية (¬2). وقيل: لا يكره، وهو مذهب الجمهور (¬3). دليل الكراهة. (709 - 45) ما رواه مسلم، قال: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا عمر بن يونس الحنفي، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا إسحاق بن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك، وهو عم إسحق، قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مه مه. قال: قال رسول الله ¬
دليل من قال: لا يكره
- صلى الله عليه وسلم -: لا تزرموه دعوه، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه، فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فأمر رجلاً من القوم، فجاء بدلو من ماء فشنه عليه. وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول أو القذر". قال القرطبي في المفهم: " فيه حجة لمالك، في منع إدخال الميت المسجد، وتنزيهها عن الأقذار جملة، فلا يقص فيها شعر، ولا ظفر، ولا يتسوك فيها؛ لأنه من باب إزلة القذر، ولا يتوضأ فيها، ولا يؤكل فيها طعام منتن الرائحة إلى غير ذلك مما في هذا المعنى ". (¬1). فلما كان السواك عندهم من باب إزالة الأذى، والمساجد يجب صيانتها، وقد يخرج قذر من أسنانه مع التسوك، فيقع في المسجد، لذلك منعوا التسوك في المسجد. دليل من قال: لا يكره. (710 - 46) استدلوا بما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل ¬
صلاة (¬1). فهذا دليل على استحباب السواك عند كل صلاة، وكل ما كان السواك مقارناً لفعل الصلاة كانت العندية أكثر تحققاً، وأحاديث السواك عند كل صلاة في الصحيحين، فلا سبيل إلى الطعن فيها. وثانياً: لا نسلم أن السواك من باب إزالة المستقذرات، ولو سلم لم يلزم منه تلويث المسجد حتى يمنع منه، ثم إننا نقول: بمشروعية السواك للصلاة، ولو كان الفم نظيفاً تحقيقاً للسنة، كما نقول: بغسل اليدين ثلاثاً عند الوضوء، ولو تحققنا من نظافة اليد. قال ابن تيمية: السواك في المسجد ما علمت أحداً من العلماء كرهه، بل الآثار تدل على أن السلف كانوا يستاكون في المسجد، ويجوز أن يبصق الرجل في ثيابه في المسجد، ويمتخط في ثيابه باتفاق الأئمة، وبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثابتة عنه، بل يجوز التوضؤ في المسجد بلا كراهة عند جمهور العلماء، فإذ جاز الوضوء فيه مع أن الوضوء يكون فيه السواك، وتجوز الصلاة فيه، والصلاة يستاك عندها، فكيف يكره السواك؟ وإذا جاز البصاق والامتخاط فيه، فكيف يكره السواك؟ (¬2). وقال العراقي في طرح التثريب: " ولو سلم أن السواك من باب إزالة القاذورات، فهو لا يلقيه في المسجد، وإنما يزيله في السواك، فإذا كان السواك محفوظاً معه فلا بأس، وقد ندب إلى السواك لكل صلاة، فيؤمر حاضر المسجد أن يخرج حتى يستاك خارج المسجد؟ هذا مما لا يعقل معناه. والله أعلم. اهـ (¬3). ¬
الفصل الرابع حكم السواك بحضرة الناس
الفصل الرابع حكم السواك بحضرة الناس قيل: يكره السواك بحضرة الناس، اختاره بعض المالكية (¬1). وقيل: لا يكره، وهو الصواب (¬2). تعليل من قال بالكراهة. قال القرطبي: يتجنب استعمال السواك في المساجد والمحافل، وحضرة الناس، ولم يرو أنه تسوك في المسجد ولا في محفل من الناس لأنه من باب إزالة القذر والوسخ، ولا يليق بالمساجد، ولا محاضر الناس، ولا يليق بذوي المروءات فعل ذلك في الملأ من الناس ". (¬3). دليل من قال: لا يكره. (711 - 47) استدل بما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو النعمان، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن غيلان بن جرير، عن أبي بردة، عن أبيه، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجدته يستن بسواك بيده، يقول: أع أع والسواك في فيه كأنه يتهوع (¬4). ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري: أنه يؤخذ من الحديث أن ¬
السواك من باب التنظيف والتطيب، لا من باب إزالة القاذورات، لكونه - صلى الله عليه وسلم - لم يختف به، وبوبوا عليه " استياك الإمام بحضرة رعيته" (¬1). ¬
الفصل الخامس التسوك في الخلاء
الفصل الخامس التسوك في الخلاء كره بعض فقهاء الحنفية السواك في الخلاء (¬1). والصحيح عدم الكراهة. تعليل الكراهة. لعلهم رأوا أن السواك من باب التطيب، ولم يعتبروه من باب إزالة القاذورات، وأنه عبادة، فيه مرضاة للرب. والصحيح عدم الكراهة، والكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل، ولا دليل في المسألة. والسواك فيه جانب تطهير للفم، فلا يصح التعليل أنه من باب التطيب فقط. ¬
الفصل السادس لو تسوك بمضر هل يحصل له أجر السواك
الفصل السادس لو تسوك بمضر هل يحصل له أجر السواك قيل: يحرم التسوك بضار، ويجزئ (¬1). وقيل: لا يجزئ. تعليل من قال: يجزئ. قال: لأن المقصود قد حصل به، وهو إزالة القلح، وتطهير الفم. تعليل من قال لا يجزئ. قالوا: إن هذا العمل محرم، ولا يمكن أن يقع قربة، لأنه مضاد لأمر الله ورسوله، من تحريم تعاطي المضر. ولو قلنا: يحصل به إصابة السنة، لكنا رتبنا على فعل محرم أثراً شرعياً، وهذا غير جائز. (712 - 48) وقد روى مسلم رحمه الله قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد جميعا، عن أبي عامر، قال عبد بن حميد: حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري، عن سعد بن إبراهيم، عن القاسم بن محمد، قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد. الرد: هو المردود، وإذا كان مردوداً فكيف تحصل به السنة، ويصيب الأجر؟ والله أعلم. ¬
الفصل السابع هل تشرع التسمية للسواك
الفصل السابع هل تشرع التسمية للسواك استحب بعض المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، التسمية للسواك. دليلهم: (713 - 49) حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن مبارك، عن الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله عز وجل فهو أبتر أو قال أقطع (¬3). [إسناده ضعيف، ومتنه مضطرب] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
والراجح أن التسمية لا تشرع أولاً: الأصل في العبادات الحظر حتى يرد دليل صحيح على المشروعية، وأحاديث السواك لم ينقل فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تسوك. واستحباب التسمية في كل شيء ليس على اطلاقه، فهناك أمور تكون التسمية فيها من البدع، كالتسمية للأذان، والتسمية للصلاة، والتسمية لرمي الجمرات، فلم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يسمي لهذه العبادات. ¬
الباب الرابع في ذكر المواضع التي يتأكد فيها السواك
الباب الرابع في ذكر المواضع التي يتأكد فيها السواك ويشتمل على عشرة فصول ومبحثين: الفصل الأول: السواك عند الصلاة. الفصل الثاني: السواك عند الوضوء. الفصل الثالث: في مشروعية السواك للغسل والتيمم. الفصل الرابع: يستحب السواك عند الانتباه من النوم. الفصل الخامس: يستحب السواك عند تغير الفم. الفصل السادس: استحباب السواك عند دخول البيت. الفصل السابع: حكم السواك عند دخول المسجد. الفصل الثامن: التسوك عند قراءة القرآن. المبحث الأول: حكم السواك لسجود التلاوة والشكر. المبحث الثاني: الاستياك للقراءة بعد السجود. الفصل التاسع: من المواضع التي يتأكد فيها السواك يوم الجمعة. الفصل العاشر: هل يستحب السواك عند الاحتضار.
الفصل الأول السواك عند الصلاة
الباب الرابع في ذكر المواضع التي يتأكد فيها السواك لا شك أن السواك مسنون كل وقت؛ لأن حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: " السواك مطهرة للفم مرضاة للرب " مطلق. قال الشوكاني: " أطلق فيه السواك، ولم يخصه بوقت معين، ولا بحالة مخصوصة، فأشعر بمطلق شرعيته، وهو من السنن المؤكدة " اهـ (¬1). لكن هناك مواضع يكون استحباب السواك فيها آكد. وسوف نعرض لها مسألة مسألة، ونبين ما فيها من خلاف ووفاق. والله المستعان. الفصل الأول السواك عند الصلاة قيل: السواك واجب للصلاة. على خلاف هل تصح الصلاة إذا تركه أم لا؟ وهو مذهب داود (¬2)، وإسحاق بن راهوية (¬3). وقيل: السواك سنة عند الصلاة مطلقاً فرضاً كانت أو نفلاً، وسواء صلى بطهارة ماء أو تيمم، وسواء كان الفم متغيراً أو نظيفاً. وهو اختيار ¬
بعض الحنفية (¬1)، ومذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، واختيار ابن حزم (¬4). وقيل: إن السواك من سنن الوضوء، لا من سنن الصلاة، اختاره أكثر الحنفية (¬5). ¬
دليل من قال: السواك واجب عند الصلاة
وقيل: إن صلى في المسجد فلا يستاك، وإن صلى بغير المسجد فيستاك. وهو مذهب المالكية (¬1). وقيل: يتأكد السواك عند صلاتي الصبح والظهر حكاه الأوزاعي عن بعض أهل العلم (¬2). دليل من قال: السواك واجب عند الصلاة. ذكرت دليله في حكم السواك، والجواب عنه فليراجع. ¬
دليل الجمهوز على استحاب السواك عند الصلاة
دليل الجمهوز على استحاب السواك عند الصلاة. (714 - 50) استدلوا بما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة (¬1). دليل من قال يستحب للصلاة عند الوضوء لا عند الصلاة. قالوا: إذا استاك للصلاة ربما يخرج منه دم، وهو نجس بالإجماع (¬2)، كما أن خروج الدم ناقض للوضوء (¬3). ورده ابن عابدين، فقال: " هذا التعليل عليل، فقد رد بأن ذاك أمر متوهم، مع أنه لمن يثابر عليه لا يدمي" (¬4). وقال في تحفة الأحوذي: " نعم، من يخاف ذلك ـ يعني خروج الدم ـ فليستعمل بالرفق على نفس الأسنان واللسان دون اللثة، وذلك لا يخفى" (¬5). قلت: الراجح أن خروج الدم لا ينقض الوضوء، كما سأبينه إن شاء الله تعالى، في باب نواقض الوضوء. وحتى على القول بأنه ناقض فإن الدم ¬
دليل من كره السواك في المسجد
الخارج يسير عرفاً، وهم حدوه بالفاحش. دليل من كره السواك في المسجد. ذكرت أدلتهم في مسألة سابقة مستقلة، وأجبت عن أدلتهم، فارجع إليه غير مأمور.
الفصل الثاني السواك عند الوضوء
الفصل الثاني السواك عند الوضوء قيل: السواك مستحب في الوضوء. وهو أحد القولين في مذهب الحنفية (¬1) والمشهور من مذهب المالكية (¬2)، وقيل: سنة، وهو قول في مذهب الحنفية (¬3)، ومذهب الشافعية (¬4)، ¬
دليل من قال: السواك مستحب وليس بسنة
والحنابلة (¬1)، واختاره ابن عرفة (¬2)، وابن العربي من المالكية (¬3). دليل من قال: السواك مستحب وليس بسنة. فرق بعض الفقهاء بين المستحب والسنة فقالوا: السنة: ما واظب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. والمستحب: مافعله مرة أو مرتين. وألحق بعضهم به ما أمر به، ولم ينقل أنه فعله (¬4). وهذا التفريق بين السنة والمستحب لا دليل عليه،، والصحيح أن لفظ السنة والمندوب والمستحب ألفاظ مترادفة، في مقابل الواجب، ولو سلم هذا التفريق فإن السواك سنة أيضاً، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتعاهده ليلاً ونهاراً، حتى استاك - صلى الله عليه وسلم -، وهو في سكرات الموت. قال ابن العربي: " لا زم النبي - صلى الله عليه وسلم - السواك فعلاً، وندب إليه أمراً، حتى قال في الحديث الصحيح: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند ¬
دليل من قال: السواك سنة عند الوضوء
كل وضوء)) وما غفل عنه قط، بل كان يتعاهده ليلاً ونهاراً، فهو مندوب إليه، ومن سنن الوضوء، لا من فضائله". اهـ كلام ابن العربي (¬1). وقد جاءت أحاديث كثيرة تدل على مواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على السواك منها: (715 - 51) ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك. ورواه مسلم أيضاً. وسبق تخريجه. فقوله: " إذا قام من الليل " دليل على تكرار ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - كلما قام من الليل. (716 - 52) ومنها حديث عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل بيته بدأ بالسواك، وهو حديث صحيح (¬2). ولفظ: " كان " يدل على فعله دائماً أو غالباً. فكيف يقال بعد هذه الأحاديث الصحيحة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يواظب عليه. دليل من قال: السواك سنة عند الوضوء. (717 - 53) ما رواه أحمد، قال: قرأت على عبد الرحمن: مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لولا أن أشق على أمتي ¬
لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء (¬1). واختلف القائلون بأنه سنة: هل هو من سنن الوضوء، أو هو سنة مستقلة عند الوضوء فقيل: إنه سنة مستقلة، يسن عند الوضوء تعليلهم: أن السواك أولاً، ليس مختصاً بالوضوء. وثانياً: أنه ليس من جنس أفعال الوضوء، لأن الوضوء هو استعمال الماء بنية مخصوصة، والسواك ليس فيه استعمال ماء (¬2). وقيل: بل هو من سنن الوضوء.، قال إمام الحرمين: ليس شرط كون الشيء من الشيء أن يكون من خصائصه، فإن السجود ركن في الصلاة، ومشروع في غيرها لتلاوة، وشكر (¬3). وأرى أن الخلاف لفظي. ¬
مبحث في محل السواك من الوضوء فقيل: عند المضمضة. وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: قبل الوضوء. وهو قول في مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعية (¬4). ¬
دليل من قال السواك قبل الوضوء
دليل من قال السواك قبل الوضوء. (718 - 54) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة وابن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء (¬1). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " عند كل وضوء " فالعندية لا تقتضي المصاحبة، كما في السواك عند كل صلاة، فمعلوم قطعاً أنه لم يرد المصاحبة، بل قبل الصلاة، فالوضوء كذلك، والله أعلم. دليل من قال السواك عند المضمضة. (719 - 55) ما رواه أحمد، قال: قرأت على عبد الرحمن: مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء (¬2). ¬
فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " مع كل وضوء " المعية هنا تقتضي المصاحبة، لأن من تسوك بعد غسل الكفين، وقبل المضمضة يصدق عليه أنه تسوك مع الوضوء، وليس قبله. والذي يظهر والله أعلم أن الحديثين حديث واحد، إحدى الروايتين تفسر الأخرى، فالعندية لا تعارض المعية هنا والله أعلم. والتسوك والمضمضة كلاهما متعلق بالفم دون سائر أعضاء الوضوء. والأفضل والله أعلم أن يكون تسوكه قبل المضمضة سواء كان بعد غسل الكفين أو قبل الشروع في الوضوء؛ وذلك لأن السواك إذا نظف الأسنان، ثم جاءت بعده المضمضة، ومج الماء يكون قد سقط كل أذى اقتلعه السواك من الأسنان أو اللثة. والله أعلم. وهناك تفسير آخر فيه بعد، ذكره بعض الفقهاء. قال الزرقاني: " قوله: " مع كل وضوء " أي مصاحباً له. كقوله في رواية: " عند كل وضوء ". ويحتمل أن معناه لأمرتهم به كما أمرتهم بالوضوء ". اهـ (¬1). ¬
الفصل الثالث هل يشرع السواك للغسل والتيمم
الفصل الثالث هل يشرع السواك للغسل والتيمم استحب بعض الفقهاء السواك للغسل والتيمم (¬1)، وقال بعضهم: حتى ولو استاك للوضوء قبل الغسل، فيشرع للغسل (¬2). وحجتهم والله أعلم أنها إذا كان السواك مشروعاً في الطهارة الصغرى، فالكبرى من باب أولى، وإذا كان السواك مشروعاً في الوضوء، كان مشروعاً في بدله، وهو التيمم. والذي أراه والله أعلم أنه إن توضأ قبل الغسل، شرع له السواك من أجل الوضوء، وإن لم يتوضأ لم يشرع، لعدم الدليل على مشروعيته للغسل لا من قوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا من فعله، وما كان ربك نسياً. وكذلك لا يشرع السواك للتيمم لأنه لم ينقل، والعبادات مبناها على الحظر، حتى يرد دليل على المشروعية، وقد نقلت لنا صفة التيمم في السنة، ولم يرد فيها السواك، والقياس على طهاة الماء ضعيف. والله أعلم. ¬
الفصل الرابع يستحب السواك عند الانتباه من النوم
الفصل الرابع يستحب السواك عند الانتباه من النوم يستحب السواك عند الانتباه من النوم وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). الدليل على استحبابه. الدليل الأول: (720 - 56) ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك. ورواه مسلم أيضاً (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
قال ابن دقيق العيد: " فيه دليل على استحباب السواك في هذه الحالة الأخرى، وهي القيام من النوم، وعلته: أن النوم مقتض لتغير الفم، والسواك هو آلة التنظيف للفم، فيسن عند مقتضى التغير. وقوله: "يشوص " اختلفوا في تفسيره، فقيل: يدلك. وقيل: يغسل. وقيل: ينقي. والأول أقرب. وقوله: " إذا قام من الليل " ظاهره يقتضي تعليق الحكم بمجرد القيام. ويحتمل أن يراد: إذا قام من الليل للصلاة " اهـ (¬1). الدليل الثاني: (721 - 57) ما رواه مسلم، قال رحمه الله: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا إسماعيل بن مسلم، حدثنا أبو المتوكل، أن ابن عباس حدثه، ¬
أنه بات عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فقام نبي الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر الليل، فخرج فنظر في السماء، ثم تلا هذه الآية في آل عمران {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار} حتى بلغ {فقنا عذاب النار} ثم رجع إلى البيت فتسوك وتوضأ، ثم قام فصلى، ثم اضطجع، ثم قام فخرج فنظر إلى السماء فتلا هذه الآية، ثم رجع فتسوك فتوضأ، ثم قام فصلى (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
يحتمل أنه تسوك من أجل القيام من النوم، أو من أجل الوضوء، أو من أجل الصلاة، ولا يبعد أن يكون تسوك منها كلها، ولا يمنع أن يكون هناك أكثر من سبب للتسوك، ولو لم يثبت في التسوك من القيام من الليل حديث، لكان يكفي فيه حديث عائشة: " السواك مطهرة للفم " فإن النوم مظنة لتغير الفم، فيشرع تطهير الفم منه. والله أعلم. الدليل الثالث: (722 - 58) ما رواه أحمد، قال رحمه الله: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا محمد بن مسلم بن مهران مولى لقريش، سمعت جدي يحدث عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا ينام إلا والسواك عنده فإذا استيقظ بدأ بالسواك. [إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (723 - 59) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا موسى بن هارون، ثنا سعيد بن عبد الجبار الكرابيسي، ثنا إبراهيم بن ثابت من بني عبد الأول، حدثني عكرمة بن مصعب من بني عبد الدار، عن محرر بن أبي هريرة، عن أبيه، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينام ليلة ولا ينتبه إلا استن. [إسناده ضعيف] (¬1). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (724 - 60) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عفان، حدثنا همام، قال: حدثني علي بن زيد بن جدعان، قال: حدثتني أم محمد، عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يرقد ليلاً ولا نهاراً إلا تسوك قبل أن يتوضأ (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (725 - 61) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا همام، حدثنا هشام بن عروة، قال: حدثني أبي، أن عائشة حدثته، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرقد، فإذا استيقظ تسوك، ثم توضأ، ثم صلى ثمان ركعات يجلس في كل ركعتين، فيسلم، ثم يوتر بخمس ركعات لا يجلس إلا في الخامسة، ولا يسلم إلا في الخامسة. [رجاله ثقات إلا أن ذكر السواك فيه شاذ] (¬1). ¬
الدليل السابع
الدليل السابع: (726 - 62) ما رواه مسلم بسنده، عن سعد بن هشام، أنه قال لعائشة: يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت ¬
الدليل الثامن
كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم ثم يقوم فيصل التاسعة ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليما يسمعنا ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد وتلك إحدى عشرة ركعة. الحديث قطعة من حديث طويل (¬1). (727 - 63) وفي رواية لأبي داود، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، أخبرنا بهز بن حكيم، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوضع له وضوءه وسواكه، فإذا قام من الليل تخلى، ثم استاك. [سنده حسن] (¬2). الدليل الثامن: (728 - 64) ما رواه ابن أبي عمر، قال: حدثنا وكيع، ثنا المنذر بن ثعلبة العبدي، عن ابن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا انتبه من الليل دعا جارية - يقال لها بريرة - بالسواك (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). ¬
الدليل التاسع
الدليل التاسع: (729 - 65) ما رواه أحمد، قال: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا واصل، عن أبي سورة، عن أبي أيوب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستاك من الليل مرتين أو ثلاثا وإذا قام يصلي من الليل صلى أربع ركعات لا يتكلم ولا يأمر بشيء ويسلم بين كل ركعتين (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الفصل الخامس يستحب السواك عند تغير الفم
الفصل الخامس يستحب السواك عند تغير الفم السواك عند تغير الفم سنة، وهو مذهب الأئمة (¬1)، ولا أعلم فيه خلافاً إلا ما سبق من الخلاف في كراهيته للصائم بعد الزوال، وقد سبق البحث فيه. قال العراقي: وتغير الفم: سواء فيه تغير الرائحة، أو تغير اللون كصفرة الأسنان (¬2). الدليل على استحباب السواك عند تغير الفم. (730 - 66) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، ثنا يزيد بن زريع، ثنا عبد الرحمن بن أبي عتيق، عن أبيه، أنه سمع عائشة تحدثه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب. [إسناده حسن إن شاء الله وقد سبق بحثه] (¬3). ¬
وجه الاستدلال: قوله: " السواك مطهرة للفم " فقوله: " السواك " مبتدأ. ومطهرة خبر. فأسند التطهير إلى السواك، فكأن الغرض من مشروعية السواك تطهير الفم، والذي يحصل به مرضاة الرب إذا طهره امتثالاً لأمر الله، فالسواك سبب لطهارة الفم، وسبب لمرضاة الرب، وكل ما تغير الفم واحتاج إلى التطهير كان مشروعية السواك آكد، وتطهير الفم إنما شرع لمناجاة الله سبحانه وتعالى، ولذلك شرع عند الصلاة، ولتلاوة كتاب الله، ولدنو الملائكة؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى به بنو آدم.
الفصل السادس استحباب السواك عند دخول البيت
الفصل السادس استحباب السواك عند دخول البيت استحب السواك عند دخول البيت الأئمة الأربعة (¬1)، ولم أقف فيه على خلاف. دليل المسألة. (731 - 67) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل بيته بدأ بالسواك. [حديث صحيح] (¬2). ¬
قال القرطبي: " يحتمل أن يكون ذلك؛ لأنه كان يبدأ بصلاة النافلة، فقلما كان يتنفل في المسجد، فيكون السواك لأجلها. وقال غيره: الحكمة في ذلك أنه ربما تغير رائحة الفم عند محادثة الناس، فإذا دخل البيت كان من حسن معاشرة الأهل إزالة ذلك " اهـ (¬1). وقال بعضهم: لعله يفعل ذلك إذا انقطع عن الناس استعداداً لنزول ¬
الوحي، وأياً كان فإنه يشرع للإنسان إذا دخل بيته في أي وقت من ليل أو نهار أن يبدأ بالسواك تأسياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
الفصل السابع حكم السواك عند دخول المسجد
الفصل السابع حكم السواك عند دخول المسجد استحب الحنابلة التسوك عند دخول المسجد (¬1). ولا أعلم لهم دليلاً على الاستحباب، وهذه المسألة غير المسألة السابقة، وهي التسوك في المسجد؛ لأن هذه المسألة نعني بها التسوك لدخول المسجد. من أجل الدخول فقط، أما من أجل الصلاة فنعم، فقد ذكرنا أدلته في مسألة مستقلة. ولو كان دخول المسجد يشرع له التسوك لجاء التشريع فيه إما قولاً وإما فعلاً، فعدم النقل في العبادة مع إمكان الفعل دليل على العدم. (732 - 68) نعم روى الطبراني في الكبير، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الأصبهاني، ثنا سهل بن عثمان، ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، حدثني أبو أيوب، عن صالح، عن زيد بن خالد الجهني قال: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من شيء لشيء من الصلوات حتى يستاك. [إسناده ضعيف؛ لأن مثل هذه السنة لا يقبل فيه تفرد أبي أيوب، وقد لينه أبو زرعة] (¬2). ¬
على أن هذا الحديث في الذهاب إلى المسجد، ومسألتنا في دخول المسجد. وإذا تسوك عند الخروج إلى الصلاة بنية التسواك للصلاة أصاب السنة؛ وكل ما قرب من الصلاة كانت إصابته للسنة أوكد. ولله أعلم. ¬
الفصل الثامن التسوك عند قراءة القرآن
الفصل الثامن التسوك عند قراءة القرآن ويشتمل على مبحثان: المبحث الأول: حكم السواك لسجود التلاوة والشكر. المبحث الثاني: الاستياك للقراءة بعد السجود.
الفصل الثامن التسوك عند قراءة القرآن من المواضع التي يستحب لها السواك قراءة القرآن. وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). أدلة الاستحباب. (733 - 69) ما رواه البيهقي، قال: أخبرنا أبو الحسن العلوي، وأبو علي الحسين بن محمد الروذباري، قالا: أنا أبو طاهر محمد بن الحسين المجد أباذي، ثنا عثمان بن سعيد الدارمي، ثنا عمرو بن عون الواسطي، ثنا خالد بن عبد الله، عن الحسن بن عبيد الله، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي رضي الله تعالى عنه، قال: أمرنا بالسواك، وقال: إن العبد إذا قام يصلي أتاه الملك، فقام خلفه يستمع القرآن، ويدنو فلا يزال يستمع ويدنو، حتى يضع فاه على فيه فلا يقرأ آية إلا كانت في جوف الملك. [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الثاني: (734 - 70) روى البيهقي، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن الحسين ¬
بن محمد لفظا، ثنا أبو القاسم سليمان بن أحمد، ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، ثنا أبي، ثنا شريك، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قام أحدكم يصلي من الليل فليستك؛ فإن أحدكم إذا قرأ في صلاته وضع ملك فاه على فيه، ولا يخرج من فيه شيء إلا دخل فم الملك (¬1). [إسناده ضعيف، وهو شاهد للحديث الذي قبله] (¬2). الدليل الثالث: (735 - 71) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا بحر بن كنيز، عن عثمان بن ساج، عن سعيد بن جبير، عن علي بن أبي طالب قال: إن أفواهكم طرق للقرآن فطيبوها بالسواك (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬
الدليل الرابع (736 - 72) روى البيهقي في شعب الإيمان، قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار، حدثنا الحسن بن الفضل بن السمح، حدثنا غياث بن كلوب الكوفي، حدثنا مطرف بن سمرة ـ ولقيته سنة خمس وسبعين ومائة ـ عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طيبوا أفواهكم بالسواك؛ فإنها طرق القرآن. قال البيقي: غياث مجهول (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الخامس: (737 - 73) قال ابن الملقن في البدر المنير: روى مسلم الكشي في ¬
سننه، وأبو نعيم، عن أبي رجاء، عن وضين، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " طيبوا أفواهكم، فإن أفواهكم طرق القرآن " (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
المبحث الأول هل يستحب السواك لسجود التلاوة والشكر
المبحث الأول هل يستحب السواك لسجود التلاوة والشكر استحب بعض الفقهاء السواك لسجود التلاوة والشكر (¬1). دليلهم: ثبت في الحديث الصحيح أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة (¬2). ¬
وإذا ثبتت مشروعية السواك للصلاة، فإن سجود التلاوة صلاة، لأنه قد جاء في الشرع إطلاق السجود على الصلاة. فهذا دليل على أن له حكم الصلاة. (738 - 74) فقد روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، قال: أخبرنا نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدتين قبل الظهر، وسجدتين بعد الظهر، وسجدتين بعد المغرب، وسجدتين بعد العشاء، وسجدتين بعد الجمعة فأما المغرب والعشاء ففي بيته (¬1). والراجح أنه لا يشرع السواك بسبب السجود، لأمرين: الأول: لا نسلم أن سجود التلاوة صلاة، والفارق بينه وبين الصلاة أكثر من الجامع. فلا تشرع فيه القراءة، ولا ركوع فيه، ولامصافة فيه. الأمر الثاني: لا نحتاج إلى قياس سجود التلاوة والشكر على الصلاة، والسجود قد وقع في عهده - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينقل أنه تسوك له. ¬
المبحث الثاني الاستياك للقراءة بعد السجود
المبحث الثاني الاستياك للقراءة بعد السجود. قال في شرح العباب: " الاستياك للقراءة بعد السجود ينبغي بناؤه على الاستعاذة، فإن سنت سن، لأن هذه تلاوة جديدة، وإلا فلا (¬1). وهذا التفصيل جيد، والاستعاذة على الراجح لا تسن إلا إذا طال الفصل عرفاً بحيث لا يمكن بناء القراءة السابقة على القراءة اللاحقة. وعليه فإذا طال الفصل، وأراد أن يقرأ من جديد شرع السواك، والسجود بمجرده لا يقطع التلاوة، كما لا يقطعها في الصلاة. والله أعلم. ¬
الفصل التاسع في السواك يوم الجمعة
الفصل التاسع في السواك يوم الجمعة من المواضع التي يتأكد فيها السواك يوم الجمعة (¬1). واستحبه الحنفية عند الاجتماع بالناس مطلقاً في الجمعة وغيرها (¬2). وقيل: السواك فرض لازم يوم الجمعة. وهو اختيار ابن حزم (¬3). الأدلة على كون السواك يتأكد في يوم الجمعة. الدليل الأول: (739 - 74) ما رواه مسلم، قال: حدثنا عمرو بن سواد العامري، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث، أن سعيد بن أبي هلال وبكير بن الأشج حدثاه، عن أبي بكر بن المنكدر، عن عمرو بن سليم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: غسل يوم الجمعة على كل محتلم، وسواك، ويمس من الطيب ما قدر عليه. قال مسلم: إلا أن بكيرا لم يذكر عبد الرحمن وقال في الطيب ولو من طيب المرأة (¬4). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (740 - 76) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، قال: سمعت محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان يحدث عن رجل من الأنصار، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: ثلاث حق على كل مسلم، الغسل يوم الجمعة، والسواك، ويمس من طيب إن كان (¬1). [إسناده ضعيف؛ لإبهام راويه] (¬2). هذا دليل من استدل باستحباب السواك يوم الجمعة. وأخذ بظاهره ابن حزم، فقال بوجوب السواك، لأن قوله: "على كل محتلم " وقوله: " حق على كل مسلم " ظاهره الوجوب. وأما الحنفية فأخذوا من الأمر بالسواك يوم الجمعة أن الإنسان مأمور بالسواك عند كل اجتماع للناس كالجمعة والعيد ونحوهما، وهو مأخذ حسن. ¬
الفصل العاشر هل يستحب السواك عند الاحتضار
الفصل العاشر هل يستحب السواك عند الاحتضار ذكر بعض الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، يقلد بعضهم بعضاً أن السواك يسهل خروج الروح. دليلهم على هذا. (741 - 77) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، حدثنا عفان، عن صخر بن جويرية، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنا مسندته إلى صدري، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به فأبده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصره، فأخذت السواك، فقصمته ونفضته، وطيبته، ثم دفعته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستن به، فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استن استنانا قط أحسن منه، فما عدا أن فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع يده أو إصبعه، ثم قال: في الرفيق الأعلى ثلاثاً، ثم قضى. وكانت تقول: مات بين حاقنتي وذاقنتي (¬5). ¬
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - استاك في آخر ساعة من الدنيا، وهو في سكرات الموت، فهل يعتقد أنه مسنون من أجل الاحتضار، متأكد عنده، أو أنه استاك؛ لأنه داخل في كونه مسنوناً كل قت، وهذا الوقت فرد من أفراده. هذا محل تأمل. ولا يبعد استحباب السواك عند الاحتضار لأمور: أولاً: لتطييب فمه عند اقتراب الملائكة منه، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الناس. وثانياً: استعداداً للقاء الله سبحانه وتعالى. وثالثاً: كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - استاك في تلك الساعة، مع كون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان فيها مشغولاً بنفسه، حيث كان يعاني من سكرات الموت، وكون عائشة تقول عنه: بأنه استاك فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استن استناناً قط أحسن منه ظاهر أنه كان متقصداً لذلك في تلك الساعة. وأما كونه أسهل في خروج الروح كما ذكره بعض الفقهاء فهذا يحتاج إلى توقيف. فلا تصح الدعوى حتى يثبت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يثبت فيما أعلم. والله أعلم.
الباب الخامس في صفة التسوك
الباب الخامس في صفة التسوك ويشتمل على تسعة فصول: الفصل الأول: كيفية التسوك. الفصل الثاني: هل يبدأ المتسوك بجانب فمه الأيمن أو الأيسر؟ الفصل الثالث: أفضيلة السواك بيده اليمنى أم اليسرى؟ الفصل الرابع: في كيفية أخذ السواك. الفصل الخامس: الكلام في قبض السواك. الفصل السادس: في موضع السواك من الرجل. الفصل السابع: في الاستياك حال الاضطجاع. الفصل الثامن: أقل ما تحصل به السنة من الاستياك. الفصل التاسع: هل يحتاج المتسوك إلى نية؟
الفصل الأول في كيفية التسوك
الفصل الأول في كيفية التسوك ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، إلى أن المستحب أن يستاك عرضاً إلا في اللسان فإنه يستاك طولاً. دليل من قال: المستحب أن يستك عرضاً. (742 - 78) ما رواه الطبراني في المعجم الكبير، قال: حدثنا يحيى بن عبد الباقي المصيصي وإبراهيم بن متوية الأصبهاني، قالا: ثنا يحيى بن عثمان الحمصي، ثنا اليمان بن عدي ثنا ثبيت بن كثير البصري الضبي، عن يحيى ابن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن بهز قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستاك عرضاً، ويشرب مصاً، ويتنفس ثلاثاً، ويقول: هو أهنأ وأمرأ وأبرأ (¬5). ¬
[الحديث ضعيف] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني من النظر، قالوا: إن الاستياك طولاً مضر باللثة والأسنان، فهو يدمي اللثة، ويفسد منابت الأسنان. قلت: لم يثبت هذا، وإذا كان أحد يضره ذلك نهي عنه خاصة. لا أن يكون نهياً عاماً، ولذلك لا وجه لكونه مكروهاً - أعني السواك طولاً - كما ذكره النووي والخطيب عن بعض فقهاء الشافعية (¬1). فلم يثبت في ذلك سنة، وله أن يستاك بحسب ما يراه مناسباً داعياً للتطهير، فالمطلوب أن يستاك، فكيفما استاك حصلت السنة. وقال محمد نجيب المطيعي: " أطباء الأسنان يقولون: إن الاسيتاك الصحيح يكون طولاً: أي أعلى وأسفل؛ لأن الغشاء العاجي الأملس الذي يكسو الأسنان ينبغي المحافظة عليه، فالاستياك عرضاً يضر بهذا الغشاء، ¬
فيسرع إلى الأسنان الفساد " اهـ (¬1). فإن ثبت هذا طبياً، فإن الاستياك عرضاً يكون منهياً عنه. وقد وصف بعض الأطباء طريقة التسوك بما يلي: " يجب أن تطبق باتجاه رأسي لمحور السن واللثة مما يساعد على تنشيط الدورة الدموية في اللثة، والتنظيف الفعال للأسنان دون أن يحدث أذى لهما. فيجب - والوجوب ليس في اصطلاح الشرع - أن يكون تسويك الأسنان العلوية على حدة، وكذلك الأسنان السفلية. أما اتجاه حركة التسويك لتنظيف الاسطح الخارجية والداخلية للأسنان العلوية فيجب أن يكون من أعلى إلى أسفل نحو الاسطح الماضغة والقاطعة للأسنان وتكون حركة التنظيف شاملة حواف اللثة لتدليكها، فيزداد تقرنها والوارد الدموي لانسجتها فتزداد مقاومتها للأمراض وحيويتها أيضاً. وأما اتجاه حركة التنظيف للأسنان السفلية فيجب أن تكون من أسفل إلى أعلى، وشاملة حواف اللثة أيضاً. وأما الدليل على مشروعية الاستياك في اللسان، وأنه يستاك طولاً فمنها: (743 - 79) الدليل الأول: ما رواه أحمد، قال: ثنا يونس بن محمد، قال: ثنا حماد بن زيد، ثنا غيلان بن جرير، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يستاك، وهو واضع طرف السواك على لسانه يستن إلى فوق. فوصف حماد كأنه يرفع سواكه. قال حماد: ووصفه لنا غيلان قال: كان يستن طولا [الحديث صحيح] (¬2). ¬
وجه الاستدلال: قول الراوي: " والسواك على طرف لسانه " قال الحافظ: والمراد: طرفه الداخل، كما عند أحمد: " يستن إلى فوق ". ولهذا قال هنا: " كأنه يتهوع. والتهوع: التقيؤ. أي له صوت كصوت المتقيء على سبيل المبالغة (¬1). وقال في التلخيص: " وأما اللسان فيستاك طولاً، كما في حديث أبي موسى في الصحيحين، ولفظ أحمد: " وطرف السواك على لسانه يستن إلى فوق " قال الراوي: كان يستن طولاً " اهـ (¬2). ¬
الدليل الثاني: من حيث النظر، قال ابن دقيق العيد: " العلة التي تقتضي الاستياك على الأسنان موجودة في اللسان، بل هي أبلغ وأقوى؛ لما يرتقي إليه من أبخرة المعدة" (¬1). ¬
الفصل الثاني هل يبدأ المتسوك بجانب فمه الأيمن أو الأيسر
الفصل الثاني هل يبدأ المتسوك بجانب فمه الأيمن أو الأيسر استحب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، أن يبدأ المتسوك بجانب فمه الأيمن، ولم أقف فيه على خلاف. الدليل على أن المستوك يبدأ بالجانب الأيمن. الدليل الأول: (744 - 80) ما رواه البخاري، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني أشعث بن سليم، قال: سمعت أبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله (¬5). الدليل الثاني: ثبت أن السواك من باب التطهير والتطيب، لا من باب إزالة القاذورات، والدليل على ذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتسوك عند أصحابه ¬
الدليل الثالث
كما في حديث أبي موسى المتقدم في الصحيحين (¬1)، وإذا كان كذلك استحب البداءة بالجانب الأيمن من الفم. الدليل الثالث: القياس على الوضوء، فكما أنه يستحب البداءة بالوضوء باليمين، فكذلك هنا قياساً عليه، والجامع بينهما علة التطهير، فالوضوء فيه طهارة حسية ومعنوية، والسواك يشاركه في الطهارة الحسية (¬2). الدليل الرابع: (745 - 81) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا شعبة، عن الأشعث بن سليم، عن أبيه، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب التيمن ما استطاع في طهوره وترجله ونعله وسواكه. [زيادة "وسواكه" شاذة، والحديث في الصحيحين، وليست فيه زيادة وسواكه] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الفصل الثالث هل يستاك بيده اليمنى أم اليسرى
الفصل الثالث هل يستاك بيده اليمنى أم اليسرى اختلف الفقهاء هل المتسحب أن يمسك السواك بيده اليمنى أم اليسرى على أقوال: فقيل: يمسكه بيده اليمنى وهو المشهور من مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، واختاره جماعة من الشافعية (¬3)، وبعض الحنابلة (¬4). وقيل: التسوك باليد اليسرى أفضل. وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5)، واختاره بعض الحنفية (¬6)، ورجحه ¬
دليل من قال يمسك السواك باليد اليمنى
العراقي (¬1). وقيل: يكره بالشمال (¬2). وقيل: إن تسوك لتغير الفم فيكون تسوكه باليسار، وإن تسوك لتحصيل السنة، كما لو كان الفم نظيفاً يكون باليمين (¬3). وهذا الخلاف مبني على أن السواك هل هو من باب التطهير والتطيب، أو من باب إزالة القاذورات؟ فإن جعلناه من باب التطهير والتطيب، استحب أن يكون باليمين كالمضمضة، وإن جعلناه من باب إزالة الأذى والقاذورات جعلناه باليسرى، كالاستنجاء. دليل من قال يمسك السواك باليد اليمنى. الدليل الأول: هذا الدليل مبني على مقدمة، ونتيجة: المقدمة: أن السواك من باب التطهير والتطيب. والنتيجة: ما كان كذلك، فإنه تستعمل فيه اليد اليمنى. أما دليل المقدمة الأولى، وهو كون السواك من باب التطهير والتطيب، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، تسوك أمام رعيته، كما في حديث أبي موسى في الصحيحين، (¬4) ولو كان من باب إزلة القاذورات لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ¬
يتوارى عن الناس. ولأن الفم، وما فيه ليس نجساً حتى يلحق بالاستنجاء، بل إن مخاط المسلم وعرقه وريقه طاهر بالإجماع، وإذا كان طاهراً فهو من باب التطهير والتطيب كالوضوء يقدم فيه اليمين، ويباشره باليمين، وكالمضمضة، فيها تطهير للفم، وتباشر باليمين. هذا دليل المقدمة الأولى. وهو كون السواك من باب التطهير. وأما الدليل على النتيجة، وهو أن ما كان من باب التطهير فيقدم فيه اليمين. ففيه دليلان: نص، وقياس. (746 - 82) أما النص، فقد روى أحمد، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، عن الأسود، عن عائشة أنها قالت: كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمنى لطهوره ولطعامه وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى. قال أحمد: وحدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن رجل عن أبي معشر عن إبراهيم عن عائشة نحوه [إسناده منقطع] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
(747 - 83) ونص آخر، رواه البخاري، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني أشعث بن سليم، قال: سمعت أبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله (¬1). ¬
الدليل الثاني
واعترض على الاستدلال بحديث عائشة، قال العراقي: " ليس فيه دلالة على ما ذهب إليه، فإن المراد منه البداءة بالشق الأيمن في الترجل، والبداءة بلبس النعل، والبداءة بالأعضاء اليمنى في التطهر، والبداءة بالجانب الأيمن من الفم في الاستياك " اهـ (¬1). وأما القياس: فقاسوه على المضمضة، فإذا كانت المضمضة فيها تطهير للفم، ومع ذلك استعملت في ذلك اليمين، فكذلك السواك (¬2). الدليل الثاني: قالوا: إن السواك عبادة مقصودة تشرع عند القيام إلى الصلاة، وإن لم يكن هناك وسخ، وما كان عبادة مقصودة كان باليمين. دليل من قال يتسوك بيده اليسرى. قال ابن تيمية: الاستياك من باب إماطة الأذى، فهو كالاستنثار والامتخاط، ونحو ذلك مما فيه إزالة الأذى، وذلك باليسرى، كما أن إزالة النجاسات كالاستجمار ونحوه باليسرى، وإزالة الأذى واجبها ومستحبها باليسرى. والأفعال نوعان: أحدهما مشترك بين العضوين، والثاني: مختص بأحدهما. وقد استقرت قواعد الشريعة على أن الأفعال التي تشترك فيها اليمنى واليسرى تقدم فيها اليمين إذا كانت من باب الكرامة: كالوضوء، والغسل، والابتداء بالشق الأيمن في السواك ونتف الإبط، وكاللباس، والانتعال، والترجل، ودخول المسجد. والذي يختص بأحدهما إن كان من باب الكرامة كان باليمين كالأكل ¬
والشرب والمصافحة، ومناولة الكتب وتناولها، ونحو ذلك. وإن كان ضد ذلك كان باليسرى، كالاستجمار، ومس الذكر والاستنثار والامتخاط، ونحو ذلك. فإن قيل: السواك عبادة مقصودة تشرع عند القيام إلى الصلاة وإن لم يكن هناك وسخ، وما كان عبادة مقصودة كان باليمين. قيل: كل من المقدمتين ممنوع. فإن الاستياك إنما شرع لإزالة ما في داخل الفم، وهذه العلة متفق عليها بين العلماء، ولهذا شرع عند الأسباب المغيرة له، كالنوم والإغماء، وعند العبادة التي يشرع لها تطهير كالصلاة والقراءة، ولما كان الفم في مظنة التغير شرع عند القيام إلى الصلاة، كما شرع غسل اليدين للمتوضيء قبل وضوئه، لأنها آلة لصب الماء. وقد تنازع العلماء فيما إذا تحقق نظافتها، هل يستحب غسلها؟ على قولين مشهورين. ثم قال: وقد يقال مثل ذلك في السواك إذا قيل باستحبابه مع نظافة الفم عند القيام إلى الصلاة، مع أن غسل اليد قبل المضمضة المقصود بها النظافة. فهذا توجيه المنع للمقدمة الأولى. وأما المنع للمقدمة الثانية: فإذا قدر أنه عبادة مقصودة، فما الدليل على أن ذلك مستحب باليمنى، وهذه مقدمة لا دليل عليها. بل قد يقال: إن العبادات تفعل بما يناسبها، ويقدم فيها ما يناسبها. ثم قول القائل: إن ذلك عبادة مقصودة، إن أراد به أن السواك تعبد محض، لا تعقل علته، فليس هذا بصواب؛ لاتفاق المسلمين على أن السواك معقول، ليس بمنزلة رمي الجمار. وإن أراد أنها مقصودة، أنه لا بد فيها من النية كالطهارة، وأنها مشروعة مع تيقن النظافة، ونحو ذلك، فهذا الوصف إن سلم لم يكن في ذلك ما يوجب كونها باليمنى؛ إذ لا دليل على ذلك. أرأيت إلى الاستنجاء بالثلاث عند من
دليل من قال إن قصد به العبادة فباليمنى، وإن قصد النظافة فباليسرى
يوجبه كأحمد والشافعي، فإنهم يوجبون الحجر الثالث مع حصول الإنقاء بدونه، فالاستجمار بالحجر الثالث يكون باليسرى، وإن كان المحل نظيفاً، والغسلة السابعة من ولوغ الكلب تكون باليسرى وإن حصلت الإزالة بما دونه، ونحو ذلك مما كان المقصود به إزالة الأذى، فكذلك إماطة الأذى من الفم مقصودة بالسواك، وإن شرع مع عدمه، وذلك لا ينافي أن يكون باليسرى اهـ (¬1). دليل من قال إن قصد به العبادة فباليمنى، وإن قصد النظافة فباليسرى هذا القول جمع بين أدلة القول الأول، وبين أدلة القول الثاني. ورأى أن السواك تارة يكون من باب التطييب والتطهر، فهنا يستاك باليمنى، وتارة يكون السواك من باب إزالة القاذورات، فيكون باليسرى. وهذا القول فيه جمع بين أدلة الفريقين. وأما من قال: بالكراهة، فلا أعلم له دليلاً، وهو أضعف الأقوال، لأن الكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل، وعلى القول بأن التسوك باليمنى سنة، أو العكس، لا يلزم من ترك السنة الوقوع في المكروه. والمسألة ليس فيها نص واضح، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتسوك، ولم يأمر بأن يكون السواك باليمين أو بالشمال، وكل من قال قولاً في ذلك اجتهد في قياس المسألة على نظائر أخرى. وقول شيخ الإسلام له قوة، إلا أن القول الأول أقوى، والأمر في المسألة واسع. والله أعلم. ¬
الفصل الرابع في كيفية أخذ السواك
الفصل الرابع في كيفية أخذ السواك اختلف الفقهاء في كيفية أخذ السواك والمشهور عند الحنفية في كيفية أخذ السواك أن يجعل الخنصر أسفله، والإبهام أسفل رأسه، وباقي الأصابع فوقه (¬1) واختارها من الشافعية البجيرمي (¬2). وذكروا أن ذلك مروي عن ابن مسعود رضي الله عنه (¬3)، وقيل: بل يجعل خنصره وإبهامه تحته، والأصابع الثلاثة الباقية فوقه. اختاره بعض المالكية (¬4)، والشافعية (¬5). ولا أعلم في الشرع ثبوت هذه الصفة، ولم يرد شيء فيما أعلم في كيفية أخذه، فكيفما أخذه صح ذلك، والمطلوب، هو التسوك في الأسنان، فأي طريقة حصل فيها التسوك، حصل المقصود. والفقهاء رحمهم الله يتوسعون في المستحبات والمكروهات، ولو لم يكن هناك دليل على ذلك من السنة. والله المستعان. ¬
الفصل الخامس الكلام في قبض السواك
الفصل الخامس الكلام في قبض السواك كره بعض الفقهاء قبض السواك (¬1) دليل الكراهة. قالوا: إن قبض السواك يورث الباسور. ولا دليل على الكراهة. ولا يعرف سبب شرعي، أو قدري بأن قبض السواك يمكن أن يورث الباسور، والكراهة كما قدمنا حكم شرعي، لا يقال إلا بناء على دليل شرعي صحيح، مأثور أو معقول. ولا يتوفر هذا هنا، ولو صح أنه يورث الباسور لم يكن حكمه الكراهة فقط، بل يكون حكمه التحريم؛ لأن تعاطي ما يضر بالبدن محرم شرعاً. ¬
الفصل السادس في موضع السواك من الرجل
الفصل السادس في موضع السواك من الرجل استحب بعض الفقهاء أن يوضع السواك خلف الأذن (¬1). الدليل على استحبابه. (748 - 84) ما رواه البيهقي، قال: أنبأ أبو الحسين علي بن أحمد بن عبدان، أنا أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، ثنا الحضرمي، ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن محمد بن إسحاق، عن أبي جعفر، عن جابر بن عبد الله قال: كان السواك من أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - موضع القلم من أذن الكاتب. قال أبو القاسم رواه عن ابن إسحاق سفيان، ولم يروه عن سفيان إلا يحيى. [الحديث معلول] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (749 - 85) ما رواه أحمد بن منيع، قال: حدثنا يوسف بن عطية، عن العلاء بن كثير، عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوثقون مساويكهم في ذوائب سيوفهم (¬1). [الحديث ضعيف جداً] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (750 - 86) ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا أبو خالد ¬
الأحمر، عن أسامة بن زيد، عن صالح بن كيسان، أن عبادة بن الصامت وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يروحون، والسواك على آذانهم (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الفصل السابع في الاستياك حال الاضطجاع
الفصل السابع في الاستياك حال الاضطجاع كره بعض الفقهاء: الاستياك مضطجعاً (¬1). وعللوا ذلك بأنه يورث كبر الطحال. وما قلناه في مسألة قبض السواك نقوله هنا. ولا ينبغي أن يقال: بالاستحباب، أو بالكراهة إلا أن يكون في ذلك دليل من الشرع؛ لأن الكراهة حكم شرعي، يفتقر إلى دليل شرعي. ولو صح من جهة الطب لقلت بالتحريم. ولكن مثل ذلك لا يصح. (751 - 87) وقد روى ابن أبي شيبة، في مصنفه، قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حرام بن عثمان، عن أبي عتيق، عن جابر، قال: كان يستاك إذا أخذ مضجعه، وإذا قام من الليل، وإذا خرج إلى الصبح، قال: فقلت له: قد شققت على نفسك بهذا السواك، فقال: إن أسامة أخبرني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستاك بهذا السواك. [الحديث ضعيف جدً] (¬2). ¬
الفصل الثامن أقل ما تحصل به السنة من الاستياك
الفصل الثامن أقل ما تحصل به السنة من الاستياك قيل: أقله ثلاث في الأعالي، وثلاث في الأسافل (¬1). وقيل: أقله مرة إلا إن كان للتغير، فلا بد من إزالته فيما يظهر. ويحتمل الاكتفاء بها فيه؛ لأنها مخففة (¬2). دليل من قال: أقله ثلاث. قاسوه على الاستنجاء بالأحجار، قالوا فإذا كان الإنسان مأموراً بالاستنجاء أن يستنجي بثلاثة أحجار فكذلك هنا. (752 - 88) فقد روى مسلم رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن الأعمش ومنصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان، قال: قال لنا المشركون: إني أرى صاحبكم يعلمكم حتى يعلمكم الخراءة، فقال: أجل إنه نهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه، أو يستقبل القبلة، ونهى عن الروث والعظام وقال: لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار (¬3). قال ابن عابدين: " لو حصل بأقل من ثلاث فالمستحب إكمالها كما قالوا في الاستنجاء. ¬
دليل من قال يحصل بمرة
دليل من قال يحصل بمرة. قالوا: إن الإنسان أمر بالسواك، ولم يرد فيه تقدير فالامتثال يحصل بالمرة الواحدة. وهذا أقوى. ولو قيل: إن كان السواك لتحصيل السنة، والفم نظيف، فيكفي فيه مرة واحدة، وإن كان السواك لتغير الفم، واصفرار الأسنان، فإنه يستاك حتى يطمئن قلبه بزوال النكهة واصفرار الأسنان، وله من الأجر بقدر ما يخفف التغير وإن لم يزله بالمرة. والله أعلم.
الفصل التاسع هل يحتاج المتسوك إلى نية
الفصل التاسع هل يحتاج المتسوك إلى نية ذهب بعض الفقهاء إلى أن السواك يحتاج إلى نية إن كان مستقلاً، فإن كان في ضمن عبادة كالوضوء فنية الوضوء تشمله (¬1). دليلهم على أن السواك يحتاج إلى نية. (753 - 89) ما رواه البخاري، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني محمد بن إبراهيم، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه (¬2). والراجح أن السواك لا يحتاج إلى نية، والخلاف في هذه المسألة ينبني على هل السواك من باب إزالة القاذورات، فلا يحتاج فيه إلى نية، أو من باب فعل العبادات، وتحصيل السنة فيحتاج فيه إلى نية، حتى تتميز العبادة عن العادة. ولو قيل: تارة يكون السواك لتحصيل السنة، كالسواك للصلاة، ولو ¬
كان الفم نظيفاً، فيحتاج إلى نية، وتارة يكون السواك من باب إزالة القاذورات، كما لو تسوك من أجل تغير فمه، فهنا لا يحتاج إلى نية، فإذا زال التغير أثيب عليه، ولو لم ينو. والله أعلم.
فوائد متفرقة متممة لبحوث السواك
فوائد متفرقة متممة لبحوث السواك ويشتمل على ستة عشر فائدة الفائدة الأولى استحباب غسل السواك الفائدة الثانية إباحة التسوك بسواك الغير الفائدة الثالثة إذا دفع السواك للغير يبدأ بالأكبر، وليس بالأيمن الفائدة الرابعة في بلع الريق عند ابتداء السواك الفائدة الخامسة في الدعاء عند السواك الفائدة السادسة في منافع السواك الفائدة السابعة العلك بالنسبة للمرأة الفائدة الثامنة التسوك والإمام يصلي الفائدة التاسعة في الوضوء من فضل السواك الفائدة العاشرة هل يستحب أن يكون السواك من شجر مر؟ الفائدة الحادية عشرة التسواك بطرف السواك الفائدة الثانية عشرة في التسوك بالقصب الفائدة الثالثة عشر تعويد الصبي على السواك الفائدة الرابعة عشرة في لقطة السواك الفائدة الخامسة عشرة يتسوك المحرم كما يتسوك الحلال الفائدة السادسة عشرة (*)
الفائدة الأولى استحباب غسل السواك
الفائدة الأولى استحباب غسل السواك يستحب غسل السواك إذا احتاج إلى ذلك: (754 - 90) لما روى أبو داود، قال: حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا عنبسة بن سعيد الكوفي الحاسب، حدثني كثير، عن عائشة أنها قالت: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يستاك فيعطيني السواك لأغسله فأبدأ به فأستاك ثم أغسله وأدفعه إليه (¬1). [إسناده فيه لين] (¬2). ¬
والمعنى يقتضيه، فإن السواك يزيل ما على الفم من طعام وغيره، وربما علق به شيء مما يخرجه من الفم، فإذا كثر ذلك احتاج أن يتعاهده بالتنظيف، حتى لا يكون السواك، وهو آلة النظافة سبباً في زيادة التلوث. ¬
الفائدة الثانية إباحة التسوك بسواك الغير
الفائدة الثانية إباحة التسوك بسواك الغير الدليل على ذلك. (755 - 91) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثني سليمان بن بلال، قال: قال هشام بن عروة: أخبرني أبي، عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر، ومعه سواك يستن به فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: له أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن، فأعطانيه فقصمته، ثم مضغته، فأعطيته رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،فاستن به وهو مستسند إلى صدري (¬1). وفي رواية للبخاري: " فقصمته، ونفضته، وطيبته " (¬2). وفي رواية له أيضاً: " فلينته " (¬3). وفي رواية له أيضاً: " فقضمته " بالضاد (¬4). فقولها رضي الله عنها: " فقصمته " بالصاد: أي كسرته. وبالضاد: فقضمته: أي هو الأكل بأطراف الأسنان، ولعلها قصمته، ثم قضمته، ثم دفعته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد يقال: ليس فيه دليل على التسوك بسواك الغير؛ لأن عائشة حين قصمته: أي كسرته فكأنه سواك جديد، قسم قسمين: ¬
قسم تسوك به عبد الرحمن. وقسم تسوك به النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكون عائشة مضغته: أي أكلته بأطراف أسنانها، فهي زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، والإنسان لا يستنكف من ريق زوجته، والزوجة ليست كالأجنبي. (756 - 92) لكن روى أبو داود في سننه، قال: حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا عنبسة بن عبد الواحد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستن، وعنده رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فأوحى الله إليه في فضل السواك أن كبر أعط السواك أكبرهما (¬1). [إسناده حسن، ورجح أبو حاتم أنه عن عروة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً] (¬2). ¬
وترجم له أبو داود: باب الرجل يستاك بسواك غيره. وقال الخطابي: " وفيه أن استعمال سواك الغير ليس بمكروه، على من يذهب إليه بعض من يتقزز، إلا أن السنة فيه أن يغسله، ثم يستعمله (¬1). قلت: وفي هذا نظر من وجهين: الأول: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس كغيره، والتبرك بريقه - صلى الله عليه وسلم -، والتداوي به لا يقاس عليه غيره، وكان الصحابة يتبركون بفضل وضوئه، وبنخامته أحياناً. ثانياً: أنه لو ثبت الجواز مطلقاً، فحديث عائشة في غسل السواك فيه لين. كما سبق تخريجه. ¬
الفائدة الثالثة إذا دفع السواك للغير يبدأ بالأكبر، وليس بالأيمن
الفائدة الثالثة إذا دفع السواك للغير يبدأ بالأكبر، وليس بالأيمن (757 - 93) لما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي، أخبرني أبي، حدثنا صخر بن جويرية، عن نافع، أن عبد الله بن عمر حدثه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أراني في المنام أتسوك بسواك، فجذبني رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما فقيل لي كبر فدفعته إلى الأكبر (¬1). ¬
الفائدة الرابعة في بلع الريق عند ابتداء السواك
الفائدة الرابعة في بلع الريق عند ابتداء السواك استحب بعض الفقهاء بلع ما اجتمع في فمه من ريقه عند ابتداء السواك (¬1). قال الرملي: ولعل حكمته التبرك بما يحصل في أول العبادة (¬2). وفي الحلية، قال الحكيم الترمذي: " وابلع ريقك أول ما تستاك، فإنه ينفع الجذام والبرص، وكل داء سوى الموت، ولا تبلع بعده شيئاً؛ فإنه يورث الوسوسة، يرويه زياد بن علاقة " اهـ (¬3). ولا أعلم دليلاً على الاستحباب، بل لا أراه مستحسناً، أن يبلع المرء ريقه بعد تنظيف فمه، فلو قيل: الأولى أن يبصقه، لكان مستحسناً حتى لا يبلع ما تخلف في فيه من أوساخ الطعام. ¬
الفائدة الخامسة في الدعاء عند السواك
الفائدة الخامسة في الدعاء عند السواك استحب بعض الفقهاء أن يدعي عند التسوك بقوله: اللهم بيض أسناني، وشد به لثتي، وثبت به لهاتي، وبارك لي فيه يارب العالمين، برحمتك يا أرحم الراحمين (¬1). " وفي الرعاية: يقول: إذا استاك: اللهم طهر قلبي، ومحص ذنوبي. وقال العيني في شرحه على البخاري: ويقول عند الاستياك: اللهم طهر فمي، ونور قلبي، وطهر بدني، وحرم جسدي على النار، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين " هـ (¬2). وهذا الدعاء لا أصل له، والغريب أن النووي قال بعد أن ذكر هذا الدعاء، قال: وإن لم يكن له أصل، فلا بأس به؛ فإنه دعاء حسن (¬3). والصحيح أن الدعاء بهذا بدعة؛ لأن استحباب دعاء معين، في وقت معين، يجعله من الأذكار المقيدة، والأذكار المقيدة لا تجوز إلا إذا صح فيها الدليل، وفرق بين الدعاء المطلق، وبين الدعاء المقيد؛ لأن الأول أعني الدعاء المطلق جاءت الأدلة من القرآن والسنة بطلبه بينما الدعاء الثاني لا يفعل إلا إذا صح فيه الدليل، وإذا جاء الدليل وجب التقيد به، كمية وكيفية، ووقتاً. فإذا زاد فيه أو نقص أو ذكره في غير وقته كان ذلك بدعة. وحيث لم يرد في ذلك دليل يكون التعبد به بدعة. ¬
الفائدة السادسة في منافع السواك
الفائدة السادسة في منافع السواك ذكر بعض الفقهاء في فوائد السواك: أنه يبطئ بالشيب، ويحد البصر، وأحسنها أنه شفاء لما دون الموت، وأنه يسرع في المشي على الصراط، وأنه مطهرة للفم، ومرضاة للرب، ومفرحة للملائكة، ومجلاة للبصر، ويذهب البخر، ويبيض الأسنان، ويشد اللثة، ويهضم الطعام، ويقطع البلغم، ويضاعف الصلاة، ويطهر طريق القرآن، ويزيد في الفصاحة، ويقوي المعدة، ويسخط الشيطان، ويزيد في الحسنات، ويقطع المرة، ويسكن عروق الرأس ووجع الأسنان، ويطيب النكهة، ويسهل خروج الروح. قال في النهر: ومنافعه وصلت إلى نيف وثلاثين منفعة، أدناها إماطة الأذى، وأعلاها تذكير الشهادة عند الموت (¬1). ما يذكره الفقهاء في فوائد السواك لا أعلم له أصلاً إلا ما ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب. وما ورد أيضاً من وضع الملك فاه على في القارئ. وأنه تطهير لطرق القرآن، وكونه يزيد في الحسنات، ويسخط الشيطان ليس خاصاً بالسواك، بل في كل قربة قصد بها وجه الله تعالى، وكان فيها متابعة للمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. وأما ما ورد من مضاعفة أجر الصلاة، فقد بحثت في بحث خاص، ¬
وملت إلى أن الحديث الوارد غير ثابت. والله أعلم وأما منافع السواك في المعدة والرأس ونحوها، فالمرجع فيها إلى الطب، فإن أثبت هذا أثبتناه، وإلا فالأصل عدم ثبوته. (758 - 94) وأما ما رواه البيهقي في شعب الإيمان من طريق إسحاق بن إبراهيم الغزي، حدثنا محمد بن السري، حدثنا بقية، عن الخليل بن مرة، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: عليكم بالسواك فإنه مطهرة للفم مرضاة للرب، مفرحة للملائكة، يزيد الحسنات، وهو من السنة، ويجلو البصر، ويذهب الحفر، ويشد اللثة، ويذهب البلغم، ويطيب الفم (¬1). قال البيهقي: ورواه غيره، وزاد فيه: " ويصلح المعدة " وهو مما تفرد به الخليل بن مرة، وليس بالقوي في الحديث. وسبق بحثه. (759 - 95) وأما ما روى ابن عدي، قال: أخبرنا أبو يعلى، ثنا محمد بن بحر البصري، ثنا معلى بن ميمون، ثنا عمرو بن داود، عن سنان بن سنان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن السواك ليزيد الرجل فصاحة. [الحديث موضوع] (¬2). ¬
(760 - 96) وأما ما رواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث عائشة رضي الله عنها: " السواك شفاء من كل داء إلا السام " والسام: الموت. [فالحديث ضعيف] (¬1). وأما ما ذكروه بالنسبة لفوائد السواك للثة، وأنه يشد اللثة، فهذا ما يؤكده أحد الأطباء، يقول: " نحن أطباء الأسنان في مصر نصف لمرضانا الذين يعانون من الالتهابات اللثوية أو كمقبض للثة هذه الوصفة العلاجية: حامض العفص 20 % ... tannic acid 20 % جليسرين 80 % ... glycerine 80 % وطريقة استعمالها تكون بغمس الإصبع بهذا المحلول، ودلك اللثة بها مع العلم أنه كلما كانت نسبة حمض العفص أعلى كلما كان التأثير أفضل ¬
وأجود، ويمنعنا من زيادة نسبته عن 20 % طعمه الحريق اللاذع، وغير المقبول، في حين أنه يحتمل وجوده بالسواك بنسبة أعلى بكثير من 20 %، وطعمه مقبول، وله رائحة طيبة ونكهة، وهذه ناحية ينفرد بها السواك كميزة رائعة (¬1). ¬
الفائدة السابعة العلك بالنسبة للمرأة
الفائدة السابعة العلك بالنسبة للمرأة ذكر بعض فقهاء الحنفية أن العلك يقوم مقام السواك بالنسبة للمرأة (¬1). وعللوا ذلك: بأن سن المرأة أضعف من سن الرجل، ولأنها قد تخشى سقوط أسنانها من السواك. وهذا الاستحباب ضعيف، وأحكام السواك عامة للرجل والمرأة، ولم يأت نهي للنساء عن السواك، وقد ذكر الفقهاء من فوائد السواك أنه يشد اللثة، فكيف يستقيم هذا مع ما يذكرونه. (761 - 97) وأما ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمد بن رزيق، ثنا أبوالطاهر ثنا ابن وهب نا يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لزمت السواك حتى خشيت أن يدردني. قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن عائشة إلا بهذا الإسناد تفرد به أبن وهب (¬2). والدرد: سقوط الأسنان. وقد سبق بحثه. وإذا كان هناك حالة خاصة تخشى المرأة سقوط أسنانها لم يستحب لها أن تكثر منه، بل تأخذ منه بقدر. لكن لا يمكن أن يقال: إن هذا عام في كل النساء. والله أعلم. ¬
الفائدة الثامنة التسوك والإمام يصلي
الفائدة الثامنة التسوك والإمام يصلي لا يشرع للإنسان أن يتسوك بعد دخول الإمام في الصلاة. وذلك لأن السواك شرع للعبادة، فلا ينبغي أن يفوت جزءاً من العبادة من أجل فضيلة شرعت لها، وليست فيها. فإدراك هذا الجزء من العبادة خير من تحصيل فضيلة شرعت لها. ودائما القاعدة الفقهية إنه إذا تزاحمت فضيلتان: أحدهما: في العبادة والأخرى: للعبادة، خارجة عنها. فإدراك الفضيلة الخاصة في العبادة أولى من إدراك الفضيلة الخارجة عنها. ويكفي أن فيه مخالفة للإمام. (762 - 98) وقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، قال حدثني أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوسا أجمعون (¬1). ومن يتسوك والإمام يكبر، فقد خالف أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد أمره بالتكبير، والفاء في قوله: وإذا كبر فكبروا" دالة على التعقيب، بلا تراخ. والله أعلم. ومثله لو تزاحم فضيلتان أحدهما تتعلق بالمكان، كما لو كان في يمين ¬
الإمام، أو في يسار الإمام مع إدراك جزء من العبادة يفوت لو طلب يمين الإمام، فإدراك جزء من العبادة أفضل من تحصيل فضيلة خارجة عنها. والله أعلم.
الفائدة التاسعة في الوضوء من فضل السواك
الفائدة التاسعة في الوضوء من فضل السواك (763 - 99) روى البزار في مسنده، قال: حدثنا يوسف بن خالد، ثنا أبي، عن الأعمش، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ بفضل سواكه (¬1). [إسناده ضعيف جداً، والأعمش لم يسمع من أنس] (¬2). ¬
وقال البزار: رواه سعد بن الصلت، عن الأعمش، عن مسلم (¬1). ¬
(764 - 100) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن إسماعيل، عن قيس، عن جرير أنه كان يستاك، ويأمرهم أن يتوضؤا بفضل سواكه. [إسناده صحيح] (¬1). قال الشافعي: إذا وضع المرء ماء، فاستن بسواك، وغمس السواك في الماء، ثم أخرجه توضأ بذلك الماء؛ لأن أكثر ما في السواك ريقه، وهو لو بصق أو تنخم أو امتخط في ماء لم ينجسه، والدابة نفسها تشرب في الماء، وقد يختلط به لعابها، فلا ينجسه إلا أن يكون كلباً أو خنزيراً " اهـ (¬2). ¬
الفائدة العاشرة هل يستحب أن يكون السواك من شجر مر؟
الفائدة العاشرة هل يستحب أن يكون السواك من شجر مر؟ استحب فقهاء الحنفية أن يكون من شجر مر وعللوا ذلك بأنه يطيب النكهة، ويشد الأسنان، ويقوي المعدة (¬1). وليس فيه شيء عن الشارع، فإن كان ما ذكر من التعليل ثابتاً طبياً استحب لذلك، وإلا فالأصل عدم الاستحباب. ¬
الفائدة الحادية عشرة التسواك بطرف السواك
الفائدة الحادية عشرة التسواك بطرف السواك نهى بعض الفقهاء أن يتسوك بطرف السواك الآخر (¬1). وعلل ذلك بأن الأذى يستقر فيه (¬2). ولا دليل على الكراهة، وليس لما عللوا فيه أصل، ولو كان الأذى يستقر فيه، لجاء الأمر باستبدال السواك بعد استعماله حتى لا يصل إلى الموضع الذي فيه أذى، بل لو قيل: إنه مأمور أن يستاك بطرفه الآخر بعد استياكه بطرفه الأول، لأن السواك مع الاستعمال قد يضعف في التنظيف، لو قيل بهذا في مقابل قولهم لكان مقبولاً. والله أعلم. ¬
الفائدة الثانية عشرة في التسوك بالقصب
الفائدة الثانية عشرة في التسوك بالقصب (¬1) نهى بعض الفقهاء عن التسوك بالقصب، وعرف القصب: بأنه كل نبات يكون ساقه أنابيب، وكعوباً. قال صاحب الصحاح: والقصب الفارسي منه صلب غليظ تعمل منه المزامير، وتسقف به البيوت، ومنه ما يتخذ منه الأقلام اهـ ثم قال: إذا تقرر هذا فالظاهر أن مراد الفقهاء بالقصب مطلقه لا خصوص الفارسي. وعلل الكراهة بأن القصب يولد الأكلة في الأسنان وليس فيه شيء عن الشارع، فإن ثبت طبياً أنه يسبب الأكلة حرمناه، ولم نكتف بالكراهة، وإلا فالأصل الإباحة. ¬
الفائدة الثالثة عشر تعويد الصبي على السواك
الفائدة الثالثة عشر تعويد الصبي على السواك قال النووي: يستحب أن يعود الصبي السواك ليألفه كسائر العبادات (¬1). قلت: كما يؤمر بالصلاة، والصيام، والآداب المستحبة. (765 - 101) أما الصلاة، فقد روى أحمد، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، وعبد الله بن بكر السهمي، المعنى واحد قالا: حدثنا سوار أبو حمزة، عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله: " مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع. وإذا أنكح أحدكم عبده فلا ينظرن إلى شيء من عورته، فإنما أسفل من سرته إلى ركبته من عورته (¬2). [صحيح لغيره] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
(766 - 102) وأما أمرهم بالصيام، فقد روى البخاري، قال: حدثنا مسدد، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا خالد بن ذكوان، عن الربيع بنت معوذ، قالت: أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار، من أصبح مفطرا فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم. قالت: فكنا نصومه بعد، ونصوم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك، حتى يكون عند الإفطار (¬1). وأما أمرهم ببعض الآداب (767 - 103) فقد روى البخاري، قال: حدثنا علي بن عبد الله، أخبرنا ¬
سفيان، قال الوليد بن كثير: أخبرني أنه سمع وهب بن كيسان، أنه سمع عمر بن أبي سلمة يقول: كنت غلاما في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ياغلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك، فما زالت تلك طعمتي بعد (¬1). ولا شك أن الصبي غير مكلف، ولكن يؤمر بذلك تأديباً وتعليماً حتى يألف الواجبات، هذا فيما يتعلق في باب المأمورات، وفي باب المنهيات آكد حيث ينهى الصغير عما ينهى عنه الكبير، فينهى عن الكذب، وعن الغيبة، وعن أكل الحرام، (768 - 104) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه: قال أخذ الحسن بن علي رضي الله عنهما تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كخ كخ؛ ليطرحها، ثم قال: أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة (¬2). أوجب بعض الفقهاء السواك على من اضطر لأكل الميتة، وعلل ذلك بإزالة الدسومة (¬3). قال بعضهم: ولو وجب إزالتها لم يتعين السواك في إزالتها حتى يقال بوجوبه في هذه الحال (¬4). ¬
الفائدة الرابعة عشرة في لقطة السواك
الفائدة الرابعة عشرة في لقطة السواك (769 - 105) روى ابن أبي شيبة، قال: نا حفص، عن ليث، قال: كان عطاء يرخص في القضيب والسواك والسنا من الحرم. [إسناده ضعيف] (¬1). (770 - 106) وقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن منصور، عن طلحة، عن أنس رضي الله عنه، قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمرة مسقوطة، فقال: لولا أن تكون من صدقة لأكلتها (¬2). فدل الحديث على أنه لا حرج في التقاط اليسير من المال. وقال ابن قدامة: " لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في إباحة أخذ اليسير، والانتفاع به، وقد روي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عمر، وعائشة، وبه قال عطاء، وجابر بن زيد، وطاووس، والنخعي، ويحيى بن أبي كثير، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي " اهـ (¬3). ¬
الفائدة الخامسة عشرة يتسوك المحرم كما يتسوك الحلال
الفائدة الخامسة عشرة يتسوك المحرم كما يتسوك الحلال (771 - 107) فقد روى أبن أبي شيبة: ثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: لا بأس بالسواك للمحرم. [وإسناده صحيح] (¬1). ثم إن عموم السواك مطهرة للفم مرضاة للرب يشمل المحرم والحلال، ولم أعلم أن أحداً كره السواك للمحرم، بل قد يقال: إن الإحرام شرع فيه الاغتسال، والقصد منه النظافة، ولذلك تغتسل الحائض والنفساء، ومن نظافة البدن السواك، لأن الفم جزء من البدن، والله أعلم. ¬
الفائدة السادسة عشرة
الفائدة السادسة عشرة تم في كلية طب الأسنان بجامعة الرياض إجراء بحث علمي على المسواك، قام به الدكتور عبد الرحيم محمد الأستاذ المشارك، والمحاضر في الكلية، وقد اتضح من نتائج هذا البحث بأن السواك ليس له تأثير ضار على الأنسجة المحيطة بالأسنان لمدة أربعة وعشرين ساعة من استخدامه، بل إن له فوائد شتى .. ولكن إذا استخدم رأس المسواك لمدة أكثر من يوم دون تغيير هذا الجزء، فإن بعض المواد، وهي مواد فيتولية يمكن لها أن تؤثر على الأنسجة المحيطة بالأسنان، لذلك يوصي الدكتور صاحب البحث المتسوكين باستخدام المسواك لمدة أربعة وعشرين ساعة، وبعد ذلك يقطع الجزء المستخدم، ويستخدم جزء جديد (¬1). ويقول بعض الأطباء: " إن عدم تنظيف الفم والأسنان، هو أحد أهم العوامل المسببة لنخر الأسنان، وخاصة في العصر الحديث لانتشار استخدام السكريات. وقد أجمع أطباء الأسنان والباحثون على أهمية تنظيف الفم بعد الطعام، وغسله بالمضمضة، واستخدام السواك، وبما أن الإنسان في العصر الحديث يأكل بين الوجبات، ويشرب سوائل محلاة بالسكر، فإنه يحتاج إلى استخدام السواك كل أربع ساعات، وقد ذكر الدكتور عبد الغني السروجي من جامعة دمشق يقول: " مبدأ حفظ صحة الأسنان هو التأكيد على تنظيفها تنظيفاً مستمراً، وبخاصة الثلم اللثوي كل أربع ساعات، وهو أمر لا يتحقق بالنسبة ¬
للإنسان في العصر الحديث إلا إذا اتبع تعاليم المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، حيث ندب بقوة إلى السواك عند كل وضوء، وعند كل صلاة، وبما أن الصلاة مفروضة على المسلم خمس مرات في اليوم والليلة، فإن عليه أن يتسوك خمس مرات، ثم يضاف إليها التسوك عند قراءة القرآن، وعند القيام من النوم، وعند تغير الفم، ... الخ فيكون ذلك أكثر من عشر مرات في اليوم والليلة، فأنى يتأتى للويحة السنية أن تتجمع، وتترسب، وهي تزال كل ما تكونت، وكيف تسطيع البكتيريا أن تحول بقايا الطعام، وبقايا الطعام تزال بانتظام. وتنفق الولايات المتحدة والدول الأوربيه الآف الملايين من الدولارت سنوياً على التثقيف الصحي، وعشرات الآلاف من الملايين من الدولارت سنوياً على مداواة أمراض الأسنان، ورغم كل ذلك فإن الدول الأوربية، والولايات المتحدة لا تزال تتصدر قائمة الدول المصابة بنخر الأسنان، والدول الإسلامية رغم عدم اتباعها لتعاليم نبيها، إلا أنها أفضل حالاً ومآلاً من الدول المتقدمة صناعياً في موضوع نخر الأسنان رغم أن التثقيف يكان يكون منعدماً. ولو اهتمت الدول الإسلامية بِحَثِّ العلماء وأئمة المساجد على أن يقوموا بدورهم بالتوعية الصحية، وذلك بالحث على السواك وتنظيف الفم، وذكر الأحاديث النبوية الكثيرة في هذا الصدد لا ختفت أو كادت حالات نخر الأسنان ... كما ينبغي محاربة الرذائل الغربية، والتلفزيون لا يكف عن الإعلان من أنواع الشوكلاتة والحلويات (الكاندي) وتصوير الشباب، وهم يتعاطونها بنهم، مع أن تناول الشوكلاتة مقصورة في البلاد الإسلامية عرباً وعجماً على الأطفال، وعلى أطفال الطبقة الغنية المترفة بصورة خاصة. كذلك ينبغي محاربة التدخين الذي له دور كبير وهام في تخريب الصحة
بصورة عامة بما في ذلك صحة الفم والأسنان. وهكذا نجد أن تعاليم الإسلام، واتباع سنن الهدى، وتوجيهات المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم تؤدي إلى سعادة الدنيا والآخرة، والفوز برضا الرب، والتمتع بحياة صحية، وعقلية وبدنية، ونفسية سليمة .... فالله سبحانه وتعالى قد وعد المؤمنين الصادقين بالحياة الطيبة في الدنيا والآخرة. قال تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينة حياة طيبة} (¬1). وإذا علمت الحكومات مقدار التوفير الذي ستوفره من آلاف الملايين من الدولارت سنوياً باتباع تعاليم الإسلام لسعت لتنفيذها ونشرها بين الناس، فإن اتباع سنة السواك فقط ستوفر على الأمة الإسلامية مبالغ تنوء بها الجبال الرواسي (¬2). ويقول الطبيب أيضاً: " وفي بحث هام للدكتور الخطيب وزملائه نشرته مجلة صحة المجتمع للإسنان عام 1991، ذكر فيه أنه تم فحص 480 شخصاً بالغاً (سن 35 - 45) ومجموعة أخرى من سن 65 فما فوق من مدينتي جدة ومكة المكرمة، وقد وجد الباحثون أن من يستخدم السواك بانتظام لا يعانون من التهاب محيط السن periodentitis)) إلا بنسبة ضئيلة. وهم أقل بكثير ممن لا يستعملون المسواك. وبمقارنتهم بالدول الأخرى فإن استعمال السواك يوضح مدى الوقاية في صحة الأسنان وصحة الفم نتيجة استخدام المسواك. وفي بحث آخر نشرته مجلة (quintessence) الطبية لكل من الدكتور ¬
عيد الشمري، وسليم عام 1990 جاء أن استخدام المسواك يقلل من الإصابة بالتهاب اللثة، والتهاب محيط السن، ووجود جيوب صديدية، وكانت المجموعة التي لا تستخدم المسواك ولا الفرشاة والمعجون أكثرها تعرضاً للإصابة. ويبدو أن استخدام المسواك ربما كان أفضل من الفرشاة في إزالة اللويحة السنية، والمحافظة على صحة الأسنان والفم " اهـ (¬1). ¬
الفائدة السابعة عشرة الأدب والسواك
الفائدة السابعة عشرة الأدب والسواك ورد ذكر السواك في الشعر العربي، فمن ذلك قول بعضهم: تالله إن جزت بوادي الأراك ... وقَبَلَت أغصانُه الخضرُ فاك فابعث إلى المملوك من بعضها ... فإنني والله ما لي سواك وقال آخر: طلبت منك سواكا ... وماطلبت سواك وما أردت أراكاً ... لكن أردت أراك وكان نساء المسلمين يكثرن من السواك ويمدحن بذلك حتى عيب على نساء النصارى تركهن السواك. قال جرير يهجو الأخطل: لقي الأخيطل أمه مخمورة ... قبحاً لذلك شارباً مخمورا لم يجر مذ خلقت على أنيابها ... لم يجر مذ خلقت على أنيابها وقال أيضاً: وما قرأ المفصل تغلبي ... ولا مس الطهور ولا السواكا ولا عرفوا مواقف يوم جمع ... ولا حوض السقاية والأراكا وقال ابن زيدون: بل ما عليك وقد محضت لك الهوى ... في أن أفوز بحظوة المسواك ناهيك ظلما أن أضر بي الصدى ... برحا ونال البرء عود أراك
وقال أيضاً: أهدي إلي بقية المسواك ... لا تظهري بخلا بعود أراك فلعل نفسي أن ينفس ساعة ... عنها بتقبيل المقبل فاك يا كوكبا بارى سناه سناءه ... تزهى القصور به على الأفلاك قرت وفازت بالخطير من المنى ... عين تقلب لحظها فتراك وقيل أيضاً هنيت يا عود الأراك بثغرها ... ما خفت مني يا أراك أراكا لو كان غيرك يا سواك قتلته ... ما فاز مني يا سواك سواكا وقال آخر: يا قرة العين إني لا أسميكِ ... أكني بأخرى، ولكن أنت أعنيكِ يا أطيب الناس ثغراً غير مختبر ... إلا شهادة أطراف المساويكِ قد زرتنا مرة في الدهر واحدة ... ثني ولا تجعليها بيضة الديكِ وقال بشار بن برد: لما أتتني على المسواك ريقتها ... مثلوجة الطعم مثل الشهد بالراحِ قبلت ما مس فاها ثم قلت له ... ياليتني كنت ذا المسواك يا صاحِ وقال بشار أيضاً: وهبتِ له على المسواك ريقاً ... فطاب له بطيب ثنيتيك أقبله على الذكرى كأني ... أقبل فيه فاك ومقلتيك وقال ابن المعتز: أهلا وسهلا بمن في النوم ألقاها ... وحبذا طيفها لو كان آتاها يا حبذا شعث المسواك من فمها ... إذا سقته عقاراً من ثناياها
وقال جميل بثينة: تسوك بقضبان الأراك مفلجاً ... يشعشع فيه الفارسي المروق وقال أبو العتاهية: يخبرني عنه السواك بطيبه ... ولست به لولا السواك بذي خبر وقال بعض الدعاة: يا تائها في الغي من أعماك ... وبحب هذا الداء من أغراك ياتائها في مَهْمَة الغفلات يا ... متجاهلاً متخبطاً بخطاك تستحسن التنباك في فيك الطهور ... وتستحي أن تأخذ المسواك والشرع ثم الطب قد نهياك عن ... هذا الأذى وبفضل ذا أمراك لو كنت تعكس في القضية كان أو ... لى منك لكن اللعين أغراك أتراك تفعله وجدك حاضر ... لا والذي من نطفة سواك ما ينبغي لك يابن طه ترتضي ... خلق اللئام وشؤمها يغشاك وخلعت جلباب الحياء وقلت ذا ... حرية أخطأ في مرماك ومن النظم: إن السواك من رضى الرحمن ... وهو كذا مبيض الأسنان مطهر الثغر ومذكي الفطنة ... يزيد في فصاحة وحسنة مشدد اللثة أيضا مذهب ... لبخر وللعدو مرهب كذا يصفي حلقه ويقطع ... رطوبة وللغذا ينفع ومبطئ للشيب والإهرام ... ومهضم للأكل والطعام وقد غدا مذكر الشهادة ... مسهل النزع لدى الشهادة ومرغم الشيطان والعدو ... والعقل والجسم كذا يقوي ومورث لسعة مع الغنى ... ومذهب الآلام حتى للعنا
وللصداع وعروق الراس ... مسكن لوجع الأضراس مبيض للوجه جال للبصر ... ومذهب للبلغم مع الحفر ميسر موسع للرزق ... مفرح للكاتبين الحق
الفائدة السابعة عشر والآخيرة صفة شجرة الآراك
الفائدة السابعة عشر والآخيرة صفة شجرة الآراك شجرة الأراك: شجرة تنمو في الأماكن الحارة والاستوائية، وتكثر عادة في أودية الصحاري، وتوجد في المملكة العربية السعودية، وأكثر ما تكون في منطقة عسير وجيزان. وتوجد شجرة الأراك في اليمن والسودان ومصر، وخاصة في الصعيد وسيناء، كما توجد في إيران وشرق الهند، وأماكن أخرى. وفروعها شائكة، وأوراقها بيضاوية ملساء، متقابلة، دائمة الخضرة، وإذا أكلت منها الماشية اكتسب لبنها رائحة طيبة. وتنتشر أغصان شجرة الأراك على الأرض لمسافة كبيرة، وأزهارها صفراء مخضرة، وثمرتها صغيرة في حجم حبة الحمص، أو أكبر قليلاً، يكون لونها أخضر أول الأمر، ثم تحمر وتسود، وبها بذرة واحدة، وتجتمع الثمار على شكل عنقود، وعند نضج الثمرة تصبح حلوة الطعم، حاذقة، وقد تؤكل (¬1). الفحص المجهري لمقطع شجرة الأراك قال الدكتور صلاح الدين الحنفي في أبحاثه في رسالته الجامعية، تحت إشراف الدكتور محمد زهير البابا، أستاذ العقاقير في كلية الصيدلة ¬
بجامعة دمشق، يقول الدكتور صلاح: " نجري مقطعاً عرضياً في عود السواك ـ بعد غليه ونقعه في مزيج الغول والماء والغيليسرين بأقسام متساوية، ونفحصه تحت المجهر، فيبين لنا الطبقات التالية الموضحة بالرسم: 1 - طبقة فلينية. 2 - نسيج قشري، تتخلله بعض الخلايا المتصلبة، والألياف، وداخله حبيبات نشا. 3 - حزم لحائية خشبية تتألف من لحاء نحو الخارج، وطبقة مولدة cambium وأوعية خشبية، وهي تشكل الألياف المنظفة للأسنان، حولها نسيج متخشب، وهذه الأوعية الخشبية والنسيج المتخشب تكون
على عدة طبقات يفصل بين هذه الطبقات نيسج خاص، كما يتضح من الرسم التفصيلي. 4 - أشعة مخية، تفصل بين الحزم الخشبية اللحائية، وتكون خلاياها ملئية ببلورات السيليس والحماضات وحبيبات النشا (¬1). ¬
وإليك هذه الصورة لشجرة الأراك أخذت من كتاب عبد الرزاق السعيد.
الخاتمة
الخاتمة بعد أن يسر الله لنا المرور على أحكام السواك الفقهية والحديثية يتبين لنا عظمة هذا الدين، {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} (¬1). ففي نظافة الفم، وعناية الشارع به، مر علينا أكثر من مائة حديث، مع الشواهد، ولا أعني المتابعات، وإن كنت لم أعط الشوهد في الحاشية أي نصيب من الترقيم، ومر علينا أربعين مسألة فقهية، وستة عشر فائدة، أغلبها فقهي، فيكون المجموع ستة وخمسين مسألة، في هذا الجانب اليسير، والذي يتعلق في طهارة جزء من البدن، وهو الفم. فالله الحمد كما ينبغي لوجهه، وعظيم سلطانه أن وفقنا إلى هذا الدين الحنيف، والذي أسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته أن يميتنا عليه بمنه وكرمه. والله الموفق ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقد تبين لي فوئد جمة من خلال البحث، أوجزها فيما يلي: الأولى: أن مباحث السواك، كان للفقهاء رحمهم الله توسع كبير فيما يكره، ويستحب دون أن يكون لذلك ضابط شرعي. الثانية: أن السواك كان في شريعة من قبلنا. الثالثة: أن العبادات، قد تكون يسيرة، ويرتب عليها ثواب عظيم، كالسواك، فإنه مرضاة للرب. الرابعة: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يواظب على السواك في جميع أحواله، عند دخوله إلى البيت، وعند قيامه من النوم، وعند الصلوات، وعند الوضوء. الخامسة: لو حافظ المسلم على السواك في جميع الأوقات التي يتأكد فيها، لكان معنى ذلك أن يستاك في اليوم أكثر من عشر مرات. وذلك عند الوضوء، وعند الصلوات الخمس، وعند السنن منها، وعند القيام من النوم، وعند دخول المنزل، ويوم الجمعة، وعند قراءة القرآن، وبعد تناول الطعام، وكل ما يغير الفم. السادسة: لا حرج في ذكر الفوائد الصحية لبعض العبادات، وإن كان بعض ¬
الصالحين قد يكره ذلك، ويقول: إننا نفعل العبادة ليست خدمة للجسم، وإنما قربة وطاعة، وهذا المعنى صحيح، لكن لا يمنع أن تذكر الفوائد الصحية ولا تنافي أن الباعث على ذلك مرضاة الله، وحديث السواك: " مطهرة للفم مرضاة للرب " شاهد على ذلك، وإن كان المسلم يعلم حق العلم أن الشرع لا يأمر إلا ما فيه منفعة وفائدة، ولا ينهى إلا عن شيء مؤذ وضار. {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعضكم لعلكم تذكرون} (¬1). السابعة: وردت أحاديث في فضل السواك عن الصلاة بغير سواك، وهي أحاديث كثيرة، وقد اختلف العلماء فيها. والراجح أن الأحاديث ضعيفة. الثامنة: لم يثبت لي أن السواك من سنن الفطرة، والحديث الوارد في مسلم تكلم فيه الإمام أحمد. التاسعة: الأحاديث الواردة في التسوك بالأصبع لا يصح منها، شيء، ولكن الذي ينظف فاه بأصبعه خير من الذي لا ينظف فاه أبداً، ولكن لا يحصل له الثواب المترتب على السواك؛ لأنه دونه في التطهير، لكن يحصل له من الأجر بقدر ما يحصل له من الإنقاء، والتسوك بالأصبع يناسب إذا كان مع المضمضة، فإنه لا شك أنه مع الماء يحصل به قدر من نظافة الفم وتطهيره، واعتبره بعض المالكية من الدلك المشروع في الوضوء العاشرة: السواك أفضل من الفرشاة، وهذا الأمر ثابت طبياً. الحادي عشرة: الراجح أن السواك ليس بواجب، بل هو سنة مؤكدة. الثانية عشرة: اختلف في وجوب السواك على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يبعد تأكيد السواك في حقه - صلى الله عليه وسلم -، لأنه يناجي من لا نناجي، وقد جاء حديث في إسناده اختلاف. والله أعلم. الثالثة عشرة: خلاف داود، وابن حزم خلاف معتبر، وعدم الاعتداد بخلافهما ¬
من التعصب المذهبي المجانب للصواب. الرابعة عشرة: لا يكره السواك للصائم مطلقاً لا برطب السواك، ولا يابسه، ولا قبل الزوال، ولا بعده. الخامسة عشرة: الخلوف أطيب عند الله في الدنيا وفي الآخرة من ريح المسك، وليس خاصاً في الآخرة. السادسة عشرة: لا يكره التسوك في المسجد، ولا يشرع التسوك من أجل الدخول، بل من أجل الصلاة. السابعة عشرة: لا يكره التسوك بحضرة الناس. الثامنة عشرة: لا يكره التسوك في الخلاء. التاسعة عشرة: لا تشرع التسمية للسواك. العشرون: الأفضل والله أعلم أن يكون تسوكه قبل المضمضة سواء كان بعد غسل الكفين أو قبل الشروع في الوضوء؛ وذلك لأن السواك إذا نظف الأسنان، ثم جاءت بعده المضمضة، ومج الماء يكون قد سقط كل أذى اقتلعه السواك من الأسنان أو اللثة. والله أعلم. الحادية والعشرون: لا يشرع التسوك للغسل ولا للتيمم، لعدم الدليل. الثانية والعشرون: لا يستحب السواك لسجود التلاوة والشكر، لعدم الدليل، ولا يعتبر سجودهما صلاة على الراجح. الثالثة والعشرون: ذكر الأطباء بأن السواك عرضاً يضر بالأسنان، لذا يستحب السواك طولاً من أجل كلامهم والله أعلم. الرابعة والعشرون: يمسك السواك إن شاء باليد اليمنى وإن شاء باليد اليسرى، ولا يوجد نص في المسألة، والأمر فيها واسع. الخامسة والعشرون: لا يستحب وضع السواك في موضع الأذن، ولم نتعبد بهذا. والحديث الوارد عن الرسول ضعيف، ولم يثبت كذلك عن زيد بن خالد الجهني. والله أعلم.
السادسة والعشرون: أقل ما يحصل به التسوك مرة واحدة، وبه يتحقق الامتثال، وكلما أكثر كان أفضل. السابعة والعشرون: لا يحتاج التسوك إلى نية، وقد يقال: إذا كان التسوك لتحصيل السنة، كالتسوك عند الصلاة، والفم نظيف احتاج إلى نية. وأما غيره فلا. الثامنة والعشرون: لم يتبين لي من حيث السنة جواز التسوك بسواك الغير، وما ورد فيه لا يدل عليه، لأن التسوك بسواك الرسول، لا يؤخذ منه هذه الفائدة، والرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس كغيره. التاسعة والعشرون: إذا أعطي السواك للغير، بدئ بالأكبر، وليس بالأيمن الثلاثون: لا يشرع الدعاء عند ابتداء السواك، وليس فيه لا ذكر مطلق، ولا مقيد. الحادية والثلاثون: لا يشرع التسوك، والإمام قد دخل في الصلاة، بل المشروع إذا كبر الإمام أن يكبر المأموم. الثانية والثلاثون: لا بأس بالوضوء من فضل السواك. الثالثة والثلاثون: يستحب أن يعود الصبي للسواك حتى يألفه. الرابعة والثلاثون: يستحب أن يقطع المتسوك الجزء المستخدم من السواك بعد أربعين وعشرين ساعة، وذلك كما أثبته أحد الباحثين طبياً. هذه جل الفوائد الفقهية التي خرجت بها من البحث. أما الفوائد الحديثية، فهي كالتالي: الأولى: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب حديث حسن. الثانية حديث ابن عباس: ما زال النبي يأمرنا به حتى خشينا أن ينزل عليه فيه. حديث حسن. الثالثة: حديث فضل الصلاة بسواك على الصلاة بغير سواك سبعين ضعفاً. حديث ضعيف. الرابعة: حديث عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عشر من الفطرة قص
الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، الخ الحديث. المحفوظ أنه من قول طلق، ورفعه شاذ. الخامسة: حديث ابن عباس في قوله عز وجل: {وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} قال: ابتلاه الله عز وجل بالطهارة، خمس في الرأس وخمس في الجسد: في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك الخ الحديث. إسناده صحيح السادسة: حديث أبي أيوب: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أربع من سنن المرسلين التعطر والنكاح والسواك والحياء. إسناده ضعيف السابعة: حديث ابن مسعود أنه كان يجتني سواكاً من الأراك. حديث صحيح. الثامنة: أبي خيرة الصنابحي، قال: كنا في الوفد الذين أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من عبد القيس، فزودنا الأراك نستاك به. حديث ضعيف جداً. التاسعة: معاذ بن جبل قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: نعم السواك الزيتون من شجرة مباركة يطيب الفم ويذهب بالحفر وهو سواكي وسواك الأنبياء قبلي. حديث موضوع. العاشرة: حديث ضمرة بن حبيب: قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن السواك بعود الريحان والرمان، وقال: يحرك عرق الجذام. إسناده ضعيف الحادية عشرة: بينا نحن جلوس مع أمير المؤمنين على في المسجد على باب الرحبة، جاء رجل فقال: أرني وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو عند الزوال فدعا قنبر، فقال: ائتني بكوز من ماء فغسل كفيه ووجهه ثلاثا، وتمضمض ثلاثا فادخل بعض أصابعه في فيه، الحديث. إسناده ضعيف جداً، وذكر إدخال الأصبعين في فيه منكر. الثانية عشرة: حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: يجزئ من السواك الأصابع إسناده ضعيف جداً. الثالثة عشرة: عمرو بن عوف المزني، عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الأصابع تجري مجرى السواك إذا لم يكن سواك. الحديث ضعيف جداً.
الرابعة عشرة: حديث عائشة، قالت: قلت: يا رسول الله الرجل يذهب فوه يستاك؟ قال: نعم. قلت: كيف يصنع؟ قال: يدخل إصبعه في فيه. إسناده ضعيف. الخامسة عشرة: أثر كان عثمان إذا توضأ يسوك فاه بأصبعه. إسناده ضعيف. السادسة عشرة: علي رضي الله تعالى عنه، قال: أمرنا بالسواك، وقال: إن العبد إذا قام يصلي أتاه الملك، فقام خلفه يستمع القرآن، ويدنو فلا يزال يستمع ويدنو، حتى يضع فاه على فيه الحديث. وإسناده صحيح. السابعة عشرة: حديث عليكم بالسواك فإنه مطيبة للفم، ومرضاة للرب. الحديث حسن، دون زيادة عليكم بالسواك، فإنها منكرة. الثامنة عشرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالسواك عند كل صلاة الحديث. في إسناده اختلاف. التاسعة عشرة: حديث عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثلاث هن علي فريضة وهو لكم سنة: الوتر، والسواك،، وقيام الليل. إسناده ضعيف جداً. العشرون: حديث ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أمرت بالسواك حتى خفت على أسناني. حسن بالمجموع. الحادية والعشرون: حديث عامر بن ربيعة، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لا أعد وما لا أحصى يستاك وهو صائم. حديث ضعيف. الثانية والعشرون: حديث عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من خير خصال الصائم السواك. إسناده ضعيف. الثالثة والعشرون: حديث أيستاك الصائم؟ قال نعم: قلت: برطب السواك ويابسه؟ قال: نعم. قلت: أول النهار وآخره. قال: نعم. ضعيف. الرابعة والعشرون: حديث سألت معاذ بن جبل، أتسوك وأنت صائم؟ قال: نعم. قلت: أي النهار أتسوك؟ قال: أي النهار شئت. حديث ضعيف.
الخامسة والعشرون: حديث ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - تسوك، وهو صائم. حديث حسن. السادسة والعشرون: أثر ابن عمر أنه لم يكن يرى به باساً بالسواك للصائم. إسناده صحيح. السابعة والعشرون: شذوذ كلمة: " يوم القيامة " من حديث: " ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك ". الثامنة والعشرون: شذوذ لفظة: " حين يخلف " من حديث ولخلوف فم الصائم حين يخلف من الطعام أطيب عند الله من ريح المسك. التاسعة والعشرون: حديث جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أعطيت آمتي في شهر رمضان خمسا لم يعطهن نبي قبلي أما واحدة فإذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله إليهم ومن نظر الله إليه لم يعذبه أبدا وأما الثانية فإنهم يمسون وخلوف أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك. الحديث ضعيف. الثلاثون: حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله عز وجل فهو أبتر أو قال أقطع. إسناده ضعيف، ومتنه مضطرب. الحادية والثلاثون: حديث ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا ينام إلا والسواك عنده فإذا استيقظ بدأ بالسواك. إسناده حسن إن شاء الله تعالى. الثانية والثلاثون: حديث أبي هريرة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينام ليلة ولا ينتبه إلا استن. حديث ضعيف. إسناده ضعيف. الثالثة والثلاثون: حديث عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يرقد ليلاً ولا نهاراً إلا تسوك قبل أن يتوضأ. إسناده ضعيف. الرابعة والثلاثون: حديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرقد، فإذا استيقظ تسوك، ثم توضأ، ثم صلى ثمان ركعات يجلس في كل ركعتين، فيسلم، ثم يوتر بخمس ركعات لا يجلس إلا في الخامسة، ولا يسلم إلا في الخامسة. رجاله ثقات إلا أن ذكر
السواك فيه شاذ. الخامسة والثلاثون: حديث زيد بن خالد الجهني قال: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من شيء لشيء من الصلوات حتى يستاك. إسناده ضعيف. السادسة والثلاثون: حديث بهز قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستاك عرضاً، ويشرب مصاً، ويتنفس ثلاثاً، ويقول: هو أهنأ وأمرأ وأبرأ. حديث ضعيف. السابعة والثلاثون: حديث عن عائشة أنها قالت: كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمنى لطهوره ولطعامه وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى. الحديث الراجح فيه إن إسناده منقطع. الثامنة والثلاثون: حديث جابر بن عبد الله قال: كان السواك من أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - موضع القلم من أذن الكاتب. حديث معلول. هذا ما خلصت إليه من نتائج في بحث السواك، والتي أرجو من الله العلي القدير أن أكون وفقت في كثير منها إلى الحق، وأن يغفر لي ما حصل في ذلك من تقصير وزلل، وهو الأصل في عمل الإنسان كما قال سبحانه {إنه كان ظلوماً جهولاً} (¬1). والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ¬
[المسح على الحائل]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، لا يستحق الحمد المطلق سواه، له الحمد في السموات والأرض، وله الحمد في الأولى والآخرة، يحمد سبحانه وتعالى على خلقه، وشرعه وقدره، وعلى كمال صفاته، قال تعالى: {الحمد الله الذي خلق السموات والأرض} (¬1). وأما حمده سبحانه وتعالى على كمال صفاته، قال سبحانه: {الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً} (¬2). وأما حمده على كمال شرعه، قال سبحانه: {الحمد لله الذي نزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً} (¬3). ويحمد على قضائه وقدره، قال سبحانه {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} (¬4). وقال سبحانه: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين} (¬5). ¬
وقال: {ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون} (¬1). {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء} (¬2). وبعد، فهذا كتاب في أحكام المسح على الحائل من خف وجورب وعمامة وجبيرة، حاولت أن أجمع مسائله المتفرقة، متبعاً في منهجي ما يأتي: أولاً: من ناحية الأحاديث والآثار، لم أذكر حديثاً أو أثراً إلا وخرجته من مصادره، وتكلمت على أسانيده، وصرفت عناية خاصة للمتن، مبيناً حسب اجتهادي القاصر ما تبين لي من المحفوظ والشاذ بحسب القواعد الحديثية، وقد اعتمدت في الحكم عليها منهج الأئمة المتقدمين في عدم القبول والرد لأي زيادة ترد في المتن إلا بعد مقارنة من ذكرها بمن لم يذكرها، مبتعداً عن منهج جمهور الأصوليين والفقهاء الذين يشترطون في رد الزيادة أن تكون منافية، ولي في زيادة الثقة والشذوذ بحث سوف أبسطه في نشر الكتاب الأم الذي يعتبر أصلاً لهذا الكتاب إن شاء الله تعالى. ثانياً: من ناحية الأقوال الفقهية، وجهت عناية خاصة بمذاهب الأئمة الأربعة، لشهرتها، وانتشارها، وتحريت في نسبة كل مذهب إلى أمهات كتبهم المعتمدة عند أصحابها، وتحريت في مذهب الإمام أحمد أن أنقل عنه من مسائله ما أمكن، فإن لم توجد المسألة في مسائل أحمد نقلتها من الكتب المشهورة في مذهب الحنابلة، وأضفت إلى المذاهب الأربعة أقوال ¬
خطة البحث
بعض المحققين، كابن حزم الظاهري، وابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني وغيرهم. ثالثاً: بينت الراجح من الأقوال بما تقتضيه الأدلة، وتحريت الإنصاف في مناقشة الخلاف، مع التزام أدب الخلاف في بيان الراجح، مبتعداً عن التقليد والتعصب، معرضاً عن تتبع أوهام المشايخ والعلماء، وإذا اضطررت إلى ذلك أشرت إلى القول دون ذكر القائل، حرصاً على سلامة الصدور، ومحبة في تأليف القلوب. رابعاً: لم أضع فهارس للبحث؛ لأن الفهارس سوف توضع للكتاب الأم، والذي قارب أن يخرج للناس منه أحكام الطهارة، ووضعت خطة للبحث، مكونة من مقدمة، وثمانية أبواب، وخاتمة على النحو التالي: خطة البحث: تمهيد: تشتمل على حكمة الشرع في إباحة المسح على الخفين، وكون هذا الباب يذكره أهل العلم في باب العقائد وذلك لمخالفة بعض الفرق الضالة لأهل السنة والجماعة. الباب الأول: في حكم المسح. ويشتمل على فصول: الفصل الأول: في خلاف العلماء في المسح على الخفين. الفصل الثاني: في خلاف العلماء في المسح على الجوربين. الفصل الثالث: في خلاف العلماء في المسح على النعلين. الفصل الرابع: في خلاف العلماء في المسح على الخرق واللفائف. الفصل الخامس: أيهما أفضل المسح أو الغسل؟ الفصل السادس: هل المسح رخصة أم عزيمة؟
الفصل السابع: هل المسح على الخفين رافع للحدث أم مبيح؟ الفصل الثامن: حكم من لبس الخفين ليمسح. الفصل التاسع: حكم مسح من به حدث دائم. الباب الثاني: في صفة المسح. وفيه فصول: الفصل الأول: في المقدار المجزئ في المسح على الخفين. الفصل الثاني: الخلاف في مسح أسفل الخف. الفصل الثالث: هل يكفي غسل الخف عن مسحه؟ الفصل الرابع: هل يشرع تكرار المسح؟ الفصل الخامس: هل يبدأ بالرجل اليمنى أم يمسحهما معاً؟ فرع: هل يشترط إظهار أثر الأصابع خطوطاً على الخف من المسح. الباب الثالث: في شروط المسح على الخفين. الشرط الأول: في طهارة الخف. الشرط الثاني: هل يشترط أن يكون الخف مباحاً؟ الشرط الثالث: خلاف العلماء في اشتراط كون الخف ساتراً لما يجب غسله. الشرط الرابع: ثبوت الخف بنفسه على القدم. الشرط الخامس: إمكان متابعة المشي على الخف. الشرط السادس: هل يشترط أن يكون الخف من جلد؟ الشرط السابع: هل يشترط أن يمنع الخف وصول الماء إلى الرجل؟ الشرط الثامن: يشترط أن يكون المسح في الطهارة الصغرى.
الشرط التاسع: أن يكون المسح في المدة المأذون له فيها شرعاً. الشرط العاشر: هل يشترط لبس الخف على طهارة مائية؟ الشرط الحادي عشر: يشترط لبس الخفين بعد كمال الطهارة. الشرط الثاني عشر: يشترط إن كان سليم القدمين أن يمسح على الرجلين معاً. الشرط الثالث عشر: يشترط أن يكون المسح على الخفين، وما في معناهما. الشرط الرابع عشر: هل تشترط النية للمسح على الخفين؟ فرع: إذا لبس الخفين، وهو يدافع الأخبثين. الباب الرابع: خلاف العلماء في ابتداء مدة المسح. الباب الخامس: في السفر وأحكام المسح على الخفين. وفيه فصول: الفصل الأول: اختلاف التوقيت بين المسافر والمقيم الفصل الثاني: اختلاف العلماء في مقدار المسافة للمسافر التي يسوغ فيها مسح مسافر. الفصل الثالث: إذا لبس الخفين، وهو مقيم، ثم سافر. الفصل الرابع: إذا مسح في السفر، ثم أقام. الفصل الخامس: إذا شك في ابتداء المسح، هل كان في السفر أم في الحضر؟ الفصل الخامس: هل يمسح من كان عاصياً بسفره؟ الباب السادس: في أحكام لبس الخف على الخف. الفصل الأول: خلاف العلماء في جواز المسح إذا لبس خفاً على خف.
الفصل الثاني: إذا لبس الخف الثاني بعد الحدث فهل يمسح عليه؟ الفصل الثالث: حكم المسح إذا كان الخفان مخرقين أو أحدهما. الفصل الرابع: إذا مسح الأعلى، ثم خلعه، فهل يمسح الأسفل؟ الباب السابع: مبطلات المسح على الخفين. الفصل الأول: خلاف العلماء إذا نزع خفيه بعد المسح، وقبل تمام المدة. الفصل الثاني: إذا ظهر بعض محل الفرض، ولم يخلع الخف فهل تبطل طهارته؟ الفصل الثالث: إذا انتهت مدة المسح، فهل يستأنف الوضوء؟ الفصل الرابع: يبطل المسح بوجود الحدث الأكبر. الباب الثامن: في أحكام المسح على العمامة. الفصل الأول: خلاف العلماء في المسح على العمامة. الفصل الثاني: خلاف العلماء في المسح على الخمار. الفصل الثالث: خلاف العلماء في المسح على القلانس. الفصل الرابع: في شروط المسح على العمامة. الشرط الأول: في اشتراط التحنيك أو الذؤابة في العمامة. الشرط الثاني: الخلاف في اشتراط لبسها على طهارة. الشرط الثالث: الخلاف في توقيت المسح على العمامة. الشرط الرابع: لا تمسح العمامة إلا في الحدث الأصغر. الشرط الخامس: الخلاف في اشتراط استيعاب العمامة في المسح. الشرط السادس: يشترط أن تكون العمامة مباحة. الشرط السابع: أن تكون العمامة ساترة لما جرت العادة بستره.
الباب التاسع: في المسح على الجبيرة. وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: خلاف العلماء في جواز المسح على الجبيرة. الفصل الثاني: في شروط المسح على الجبيرة. الشرط الأول: أن يكون الغسل مما يضر بالعضو الشرط الثاني: الخلاف في اشتراط الطهارة للبس الجبيرة. الشرط الثالث: الخلاف في اشتراط ألا تتجاوز قدر الحاجة. الشرط الرابع: هل يشترط أن تكون الجبيرة مباحة؟ الشرط الخامس: هل يشترط أن يكون غالب البدن صحيحاً؟ الشرط السادس: هل يجوز المسح على الجرح إذا لم يكن عليه جبيرة؟ الشرط السابع: هل يشترط أن تكون الجبيرة من خشب أو يلحق بها اللصوق ونحوها؟ الفصل الثالث: إذا سقطت الجبيرة أو أبدلها فهل يعيد المسح؟ الفصل الرابع: في صفة المسح المبحث الأول: هل يجب استيعاب الجبيرة بالمسح؟ المبحث الثاني: إذا كانت الجبيرة على موضع يغسل ثلاثاً، فهل يستحب له أن يمسح ثلاثاً؟ الخاتمة: أهم النتائج التي توصلت إليها في البحث. هذا ما حاولت بحثه، فإن كنت وفقت فهذا من الله سبحانه وتعالى، وله الفضل كله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإن كانت الأخرى، فهو من تقصيري وتفريطي، فالله أسأله سبحانه وتعالى مغفرته وعفوه، اللهم كما
سترت الذنوب والعيوب، وأظهرت الجميل والحسن، اللهم فاكتب لي، ولوالدي، ولمشايخي، ولإخواننا المغفرة والرحمة والتجاوز يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. كتبه أبو عمر: دبيان بن محمد الدبيان السعودية ـ القصيم ـ بريدة
تمهيد
تمهيد
تمهيد لقد رفع الله سبحانه وتعالى الحرج عن هذه الأمة، فشريعة الله سبحانه وتعالى لا عنت فيها، ولا مشقة، تراعي أحوال المكلف، فاليسر وعدم التكلف هو شأن هذه الملة التي جاءت من أحكم الحاكمين، ومن رب العالمين، ومع أن شرع الله لا حرج فيه إلا أنه إذا طرأ على المكلف ما يستدعي التيسير عليه خفف عنه بالقدر الذي لا يشق عليه، فهذا المسافر يقصر الصلاة، ويفطر في رمضان لأن الغالب في السفر أن يكون فيه كلفة ومشقة، وهذا المريض يصلي قائماً، فإذا لم يستطع صلى قاعداً، فإذا لم يستطع صلى على جنب، وهكذا الشرع مع أحوال المكلف، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ما جعل عليكم في الدين من حرج، ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم، ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم، وكان الله شاكراً عليماً. وفي المسح على الخفين والجوارب والعمامة ما فيه من التيسير على المكلف خاصة في أيام البرد الشديد، وفي بعض البلاد الباردة جداً ما يدرك المرء نعمة الله سبحانه وتعالى عليه، ولو شاء الله لأعنتكم. ولقد ظل بعض أهل البدع في مسألة المسح على الخفين حتى أنكروه مع ثبوته عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بل وثبت عنه المسح على النعلين، وكان الأليق في دعواهم لمحبة الإمام علي بن أبي طالب أن يتبعوه ولكن المحبة التي لا تكون مبنية على أسس شرعية لن تهدي صاحبها إلى الحق وإلى طريق مستقيم، فخالفوا فيه أهل السنة من وجهين: الأول: أنهم يرون مسح القدم، ولو لم يكن عليها خف، فوقعوا في
تعريف الخف
وعيد قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: ويل للأعقاب من النار (¬1). الثاني: أنهم أنكروا المسح على الخفين على كثرة الأحاديث الواردة فيه، حتى اعتبرت من قبيل الأحاديث المتواترة. وقد ذكر المسح على الخفين بعض ممن ألف في العقائد مع أنه مسألة فقهية، للتنبيه على أن حكم هذه المسألة فرق بين أهل السنة، وبين أهل البدع من الخوارج والرافضة هداهم الله. وعلى كل حال فهم يخالفون أهل السنة في أكبر من ذلك، ولهم في كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصحابته عقائد منكرة، وإنما ذكرت ما ذكرت تحذيراً لمن ينكر سنة المسح لئلا يتشبه بهم، وليحذر من طريقة أهل البدع. والله الهادي وحده إلى الطريق المستقيم. وقبل أن أختم هذا الفصل، أود أن أعرف الخف والجورب والموق والجبيرة عند أهل اللغة. تعريف الخف: قال الفيومي: الخف: الملبوس، جمعه: خفاف، مثل كتاب. وفرق بين هذا وخف البعير؛ إذ يجمع الثاني على أخفاف، مثل قفل، وأقفال (¬2). وقال الفيروزآبادي: أخفاف: واحد الخفاف، التي تلبس، وتخفّف: لبسه. ¬
تعريف الجوارب
ثم ذكر المثل المشهور: جئتكم بخفي حنين، مثل يضرب عند اليأس من الحاجة (¬1). وجاء في المعجم الوسيط: الخف: ما يلبس في الرجل من جلد رقيق (¬2). تعريف الجوارب: قال الأزهري والفيروزآبادي: الجورب لفافة الرجل (¬3). وقيل: إنه فارسي معرب، وأصله كورب (¬4). وأما مادته التي يصنع منها، فقال أبو بكر بن العربي: الجورب غشاآن للقدم من صوف، يتخذ للوقاء. وفي التوضيح للحطاب المالكي: الجوارب ما كان على شكل الخف، من كتان أو قطن أو غير ذلك. وفي الروض المربع للبهوتي الحنبلي: الجورب: ما يلبس في الرجل على هيئة الخف من غير الجلد. وقال العيني: الجورب هو الذي يلبسه أهل البلاد الشامية الشديدة البرد، وهو يتخذ من غزل الصوف المفتول يلبس في القدم إلى ما فوق الكعب (¬5). ¬
تعريف الجرموق
فظهر أن الفرق بينه وبين الخف، أن الخف يكون من جلد، والجورب يكون من غير الجلد. تعريف الجرموق: الجرموق: بضم الجيم والميم: فارسي معرب، وهو شيء يلبس فوق الخف لشدة البرد، أو حفظه من الطين وغيره، ويكون من الجلد غالباً. والجمع: جراميق. وقال الأزهري: الجرموق: خف يلبس فوق الخف. وفي القاموس: لا تجتمع الجيم والقاف في كلمة إلا معربة، أو تكون صوتاً (¬1). تعريف الموق: والموق كما في مختار الصحاح: ما يلبس فوق الخف، وهو فارسي معرب (¬2). وقال الجوهري والمطرزي: الموق خف قصير، يلبس فوق الخف، نقلاً من شرح فتح القدير (¬3). وأنكر النووي أن يكون الموق يلبس فوق الخف، فذكر عن أصحابه أن الموق: هو الخف لا الجرموق، وقال: هو الصحيح المعروف في كتب أهل الحديث وغريبه (¬4). ¬
تعريف الجبيرة
وجاء في نصب الراية: " قال الشيخ تقي الدين في الإمام: وقد اختلفت عباراتهم في تفسير الموق، فقال: ابن سيده: الموق ضرب من الخفاف، والجمع أمواق، عربي صحيح. وحكى الأزهري عن الليث: الموق ضرب من الخفاف، ويجمع على أمواق. وقال الجوهري: الموق الذي يلبس فوق الخف، فارسي معرب. وقال الفراء: الموق الخف فارسي معرب، وجمعه أمواق. وكذلك قال الهروي الموق الخف فارسي معرب، وقال كراع: الموق الخف والجمع أمواق انتهى " (¬1). تعريف الجبيرة: جاء في المصباح: " جبرت اليد: وضعت عليها جبيرة، والجبيرة: عظام توضع على الموضع العليل من الجسد، ينجبر بها، والجبارة بالكسر: مثله، والجمع: الجبائر (¬2). وفي المختار: الجبيرة: العيدان التي تجبر بها العظام (¬3). وقال في طلبة الطلبة: الجبائر: هي التي تربط على الجرح، جمع جبيرة: وهي العيدان التي تجبر بها العظام (¬4). وقال البعلي: هي أخشاب ونحوها، تربط على الكسر ونحوه (¬5). ¬
الباب الأول في حكم المسح
الباب الأول في حكم المسح ويشتمل على تسعة فصول
الفصل الأول خلاف العلماء في المسح على الخفين
الفصل الأول خلاف العلماء في المسح على الخفين اختلف العلماء في جواز المسح على الخفين: فقيل: يجوز في الحضر والسفر. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، ورواية عن مالك (¬4)، واختيار ابن حزم (¬5). ¬
أدلة الجمهور على جواز المسح على الخفين
وقيل: يجوز في السفر ولا يجوز في الحضر. وهو رواية عن مالك (¬1). وقيل: لا يجوز مطلقاً، وهو أضعف الروايات عن مالك (¬2). أدلة الجمهور على جواز المسح على الخفين. الدليل الأول: من الكتاب قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (¬3). قال الطبري: اختلف القراء، في قراءة قوله تعالى (وأرجلكم) فقرأه جماعة من قراء الحجاز والعراق: " وأرجلكم " نصباً، فتأويله: إذا قمتم إلى ¬
الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم. ثم قال: وقرأ آخرون من قراء الحجاز والعراق: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} بخفض الأرجل (¬1). وقال ابن الجوزي: قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم بكسر اللام عطفاً على مسح الرأس (¬2). وجه الشاهد من الآية: على قراءة كسر: (وأرجلكم) تأولها بعضهم أن فيها إشارة للمسح على الخفين. قال القرطبي: قيل: إن الخفض في الرجلين إنما جاء مقيداً لمسحهما لكن إذا كان عليهما خفان، وتلقينا هذا القيد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ لم يصح عنه أنه مسح رجليه إلا وعليهما خفان، فبين - صلى الله عليه وسلم - بفعله الحال التي تغسل فيه الرجل، والحال التي تمسح فيه، وهذا حسن (¬3). قلت: ولا يمكن أن يفهم من قراءة الجر جواز مسح القدم، ولو كانت مكشوفة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمسح قدميه قط، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: " ويل للأعقاب من النار " (¬4). ¬
الدليل الثاني
وقال ابن العربي: وطريق النظر البديع أن القراءتين محتملتان، وأن اللغة تقضي بأنهما جائزتان، فردهما الصحابة إلى الرأس مسحاً، فلما قطع بنا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ووقف في وجوهنا وعيده - يعني حديث ويل للأعقاب من النار - قلنا: جاءت السنة قاضية بأن النصب يوجب العطف على الوجه واليدين، ثم قال: وجاء الخفض ليبين أن الرجلين يمسحان حال الاختيار على حائل، وهما الخفان، بخلاف سائر الأعضاء، فعطف النصب مغسولاً على مغسول، وعطف بالخفض ممسوحاً على ممسوح، وصح المعنى فيه (¬1). وقال الشنقيطي رحمه الله: قال بعض العلماء: المراد بقراءة الجر: المسح، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن ذلك المسح لا يكون إلا على خف، وعليه فالآية تشير إلى المسح على الخف في قراءة الخفض (¬2). الدليل الثاني: (1) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي وإسحاق بن إبراهيم وأبو كريب جميعاً، عن أبي معاوية ح وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع - واللفظ ليحيى -قال: أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، قال: بال جرير، ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل: تفعل هذا؟ فقال: نعم رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال، ثم توضأ، ومسح على خفيه. ¬
الدليل الثالث
قال الأعمش: قال إبراهيم: كان يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة. وفي رواية: قال: فكان أصحاب عبد الله يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة، والحديث في البخاري (¬1). الدليل الثالث: (2) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن مغيرة بن شعبة، قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فقال: يامغيرة خذ الإداوة، فأخذتها، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توارى عني، فقضى حاجته، وعليه جبة شأمية، فذهب ليخرج يده من كمها، فضاقت، فأخرج يده من أسفلها، فصببت عليه، فتوضأ وضوءه للصلاة، ومسح على خفيه، ثم صلى. ورواه مسلم (¬2). الدليل الرابع: (3) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أصبغ بن الفرج المصري، عن ابن وهب، قال: حدثني عمرو بن الحارث، حدثني أبو النضر، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمر، عن سعد بن أبي وقاص، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح على الخفين، وأن عبد الله بن عمر سأل عمر عن ذلك، فقال: نعم إذا حدثك شيئاً ¬
الدليل الخامس
سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا تسأل عنه غيره (¬1). الدليل الخامس: (4) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري، أن أباه أخبره، أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين (¬2). الدليل السادس: (5) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، أخبرنا أبوخيثمة، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة، قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فانتهى إلى سباطة قوم، فبال قائماً، فتنحيت، فقال: ادنه، فدنوت حتى قمت عند عقبيه، فتوضأ، فمسح على خفيه (¬3). الدليل السابع: (6) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء، قالا: حدثنا أبو معاوية ح وحدثنا إسحاق، أخبرنا عيسى بن يونس، كلاهما عن الأعمش، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ¬
عن كعب بن عجرة، عن بلال أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين والخمار (¬1). ورواه النسائي، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم (دحيم) وسليمان بن داود، واللفظ له، عن ابن نافع، عن داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أسامة بن زيد، قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبلال الأسواق، فذهب لحاجته، ثم خرج، قال أسامة: فسألت بلالاً ما صنع؟ فقال بلال: ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - لحاجته، ثم توضأ، فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، ومسح على الخفين، ثم صلى (¬2). [حديث صحيح] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثامن
والحديث صريح بأنه مسح في الحضر، وليس بالسفر. الدليل الثامن: (7) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي، حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد ح وحدثني محمد بن حاتم - واللفظ له - حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه، قال: عمداً صنعته يا عمر (¬1). الدليل التاسع: في الأحاديث التي توقت للمقيم يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام، فيها دلالة على جواز المسح في الحضر والسفر، وسوف يأتي ذكرها - إن شاء الله - في بحث هل المسح مؤقت أم لا؟ منها حديث علي بن أبي طالب، وصفوان بن عسال، وحديث خزيمة بن ثابت، وعوف بن مالك، وغيرها من الأحاديث، وكذلك جاء المسح في حديث ثوبان، وأنس، وسلمان، وأبي طلحة، وسيأتي إن شاء الله تعالى تخريجها في باب المسح على العمامة. والله أعلم. الدليل العاشر: قال ابن عبد البر: لا أعلم في الصحابة مخالفاً - يعني: في جواز ¬
المسح على الخفين - إلا شيئاً لا يصح عن عائشة، وابن عباس وأبي هريرة، وقد روي عنهم من وجوه خلافه في المسح على الخفين (¬1)، وكذلك لا أعلم في التابعين أحداً ينكر ذلك، ولا في فقهاء المسلمين إلا رواية جابر، عن مالك، والروايات الصحاح عنه بخلافه، وهي منكرة يدفعها موطؤه، وأصول مذهبه (¬2). ونقل ابن المنذر، عن ابن المبارك، قال: ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف؛ لأن كل من روي عنهم إنكاره، فقد روى عنه إثباته (¬3). (8) وروى ابن المنذر، قال: حدثنا علي بن الحسن، ثنا أحمد بن يونس، ثنا محمد بن الفضل بن عطية، عن الحسن، قال: حدثني سبعون من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عليه السلام مسح على الخفين (¬4). قال ابن المنذر بعد أن ساق جملة من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ممن يرى جواز المسح على الخفين، قال: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، وكل من لقيت منهم على القول به (¬5). ¬
أدلة القائلين بجواز المسح في السفر خاصة
وقال أيضاً: " أجمعوا على أن كل من أكمل طهارته، ثم لبس الخفين، وأحدث، أن له أن يمسح عليهما (¬1). أدلة القائلين بجواز المسح في السفر خاصة. الدليل الأول: (9) ما رواه مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا الثوري، عن عمرو بن قيس الملائي، عن الحكم بن عتيبة، عن القاسم بن مخيمرة، عن شريح بن هانئ، قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين، فقالت: عليك بابن أبي طالب، فسله؛ فإنه كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألناه، فقال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم (¬2). [الحديث روي مرفوعاً وروي موقوفاً، والرفع محفوظ إن شاء الله تعالى] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال: أخذوه من قول عائشة: " فسله؛ فإنه كان يسافر مع رسول الله " - صلى الله عليه وسلم - فعللت الأمر بسؤاله بكونه يسافر معه، وهذا دليل على اختصاص الحكم بالسفر، كما أن المسح لو كان جائزاً في الحضر لعلمته عائشة، ولم يكن له لقولها معنى: " فإنه كان يسافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم. وأجيب على هذا: قال ابن عبد البر: ولم يمعن النظر من احتج بهذا - يعني: حديث علي بن أبي طالب - أو سامح نفسه في احتجاجه ببعض الحديث، وترك بعضه، وفي هذا الحديث المسح بالحضر والسفر، والتوقيت في ذلك أيضاً، فكيف يسوغ لعاقل أن يحتج بحديث موضع الحجة منه عليه لا له؟ (¬1). وقال أيضاً: " ليس في الحديث أكثر من جهل عائشة المسح على الخفين، وليس من جهل شيئاً كمن علمه، وقد سأل شريح علياً كما أمرته ¬
الدليل الثاني
عائشة، فأخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في المسح على الخفين: ثلاثة أيام للمسافر، ويوم وليلة للمقيم، وهو حديث ثابت صحيح، نقله أئمة حفاظ (¬1). الدليل الثاني: (10) ما رواه البيهقي، قال: أخبرنا أبو محمد، أنا إسماعيل، ثنا أحمد، ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: أنا عند عمر حين اختصم إليه سعد وابن عمر في المسح على الخفين، فقضى لسعد، فقلت: لو قلتم بهذا في السفر البعيد والبرد الشديد (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). وهذا الكلام من ابن عباس يعارضه قول عمر وسعد، وليس قبول ¬
أدلة القائلين بأنه لا يجوز المسح
كلامه بأولى من قبول كلامهما، خاصة أن رأي عمر وسعد يؤيدهما ما جاء مرفوعاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من التوقيت للمقيم والمسافر، ثم أن ابن عباس قد جاء عنه القول بالمسح، كما ذكر ذلك البيهقي، وسيأتي ذكره قريباً إن شاء الله تعالى. الدليل الثالث: قال ابن عبد البر: واحتج بعض أصحابنا للمسح في السفر دون الحضر، بأنه رخصة لمشقة السفر، قياساً على الفطر والقصر. قال ابن عبد البر: وهذا ليس بشيء؛ لأن القياس والنظر لا يعرج عليه مع صحة الأثر (¬1). أدلة القائلين بأنه لا يجوز المسح. الدليل الأول: (11) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، أنا يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: لأن أجزهما بالسكاكين أحب إلي من أن أمسح عليهما (¬2). [سنده صحيح]. قال ابن عبد البر: " لا أعلم أحداً من الصحابة جاء عنه إنكار المسح ¬
الدليل الثاني
على الخفين ممن لا يختلف عليه فيه إلا عائشة " (¬1). قلت: قد اعترفت عائشة على نفسها كما في حديث شريح بن هانئ، عن علي، بأنها ليس عندها علم في المسألة، ولهذا أشارت على شريح بأن يسأل علياً، ولو كان ما قالته عن علم بلغها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ردت شريحاً إلى علي، والاجتهاد في ما يخالف النص غير مقبول، وقد خالفها غيرها من الصحابة. الدليل الثاني: (12) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أبو الوليد، حدثنا أبو عوانة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قد مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخفين، فاسألوا هؤلاء الذين يزعمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح قبل نزول المائدة، أو بعد المائدة؟ والله ما مسح بعد المائدة، ولأن أمسح على ظهر عابر بالفلاة أحب إلي من أن أمسح عليهما (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وأجيب: قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح على الخفين بعد نزول سورة المائدة، كما في حديث: بال جرير، ثم توضأ، ومسح على خفيه، فقيل: تفعل هذا؟ فقال: نعم، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال، ثم توضأ، ومسح على خفيه، قال الأعمش: قال إبرهيم: كان يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة. وقد سبق تخريجه. وأخرج مسلم: عن بريدة الأسلمي، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه، قال: عمداً صنعته يا عمر (¬1)، ونزول آية المائدة قبل الفتح. ومسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك من حديث المغيرة في الصحيحين، وهي متأخرة، وسبق تخريجه. ثم لو فرض أن المسح قبل نزول المائدة، فإن آية المائدة ليست معارضة للمسح على الخفين، حتى تكون ناسخة له، بل هي توجب غسل الرجلين إذا لم يكن هناك خفان. قال الشوكاني في النيل: " واعلم أن في المقام مانعاً من دعوى النسخ لم ينتبه إليه أحد فيما علمت، وهو أن الوضوء ثابت قبل نزول المائدة بالاتفاق، فإن كان المسح على الخفين ثابتاً قبل نزولها فورودها بتقدير أحد الأمرين: أعني الغسل، مع عدم التعرض للآخر، وهو المسح لا يوجب نسخ ¬
المسح على الخفين، لا سيما إذا صح ما قاله البعض من أن قراءة الجر في قوله تعالى في الآية: {وأرجلِكم} مراد بها مسح الخفين، وأما إذا كان المسح غير ثابت قبل نزولها فلا نسخ بالقطع، نعم يمكن أن يقال على التقدير الأول: أن الأمر بالغسل نهي عن ضده، والمسح على الخفين من أضداد الغسل المأمور به، لكن كون الأمر بالشيء نهياً عن ضده محل نزاع واختلاف، وكذلك كون المسح على الخفين ضداً للغسل، وما كان بهذه المثابة حقيق بأن لا يعول عليه، ولا سيما في إبطال مثل هذه السنة التي سطعت أنوار شموسها في سماء الشريعة المطهرة اهـ. قلت: ما ورد عن ابن عباس من القول بعدم المسح مطلقاً، مع ضعفه، فقد سقت أنه يقول بجوازه في السفر والبرد الشديد، وجاء عنه بجوازه مطلقاً. (13) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الزبير بن عدي، عن عطاء، عن ابن عباس أنه مسح (¬1). [وهذا إسناد صحيح] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث لمن منع المسح: (14) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يونس بن محمد، قال: أخبرنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثني إسماعيل بن سميع، قال: حدثني أبو رزين، قال: قال أبو هريرة: ما أبالي على ظهر خفي مسحت، أو على ظهر حماري (¬1). [إسناده حسن] (¬2). ¬
وأجيب: بأنه جاء عن أبي هريرة بسند أصح من هذا أنه يرى المسح على الخفين. (15) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن جرير، عن أيوب، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، قال: رأيت جريراً مسح على خفيه. قال: وقال أبو زرعة: قال أبو هريرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أدخل أحدكم رجليه في خفيه، وهما طاهرتان، فليمسح عليهما ثلاث للمسافر، ويوم للمقيم (¬1). [رجال إسناده كلهم ثقات] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (16) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه، قال: قال علي سبق الكتاب الخفين (¬1). [إسناده منقطع والراجح عن علي خلافه] (¬2). الراجح: لا شك أن الراجح في هذه المسألة جواز المسح على الخفين، والقول ¬
بمنع المسح على الخفين قول ضعيف جداً. قال ابن عبد البر: وفيه - يعني: حديث المغيرة - الحكم الجليل الذي فيه فرق بين أهل السنة وأهل البدع، وهو المسح على الخفين، لا ينكره إلا مخذول أو مبتدع خارج عن جماعة المسلمين أهل الفقه والأثر، لا خلاف بينهم في ذلك، بالحجاز والعراق والشام، وسائر البلدان إلا قوماً ابتدعوا فأنكروا المسح على الخفين، وقالوا: إنه خلاف القرآن، وعسى القرآن نسخه، ومعاذ الله أن يخالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتاب الله، بل بين لهم مراد الله منه كما أمره الله عز وجل في قوله: {وأنزلنا عليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}. وقال: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} والقائلون بالمسح جمهور الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين قديماً وحديثاً، وكيف يتوهم أن هؤلاء جاز عليهم جهل معنى القرآن؟ أعاذنا الله من الخذلان. ثم قال: وعمل بالمسح على الخفين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وسائر أهل بدر والحديبية، وغيرهم من المهاجرين والأنصار، وسائر الصحابة والتابعين أجمعين، وفقهاء المسلمين في جميع الأمصار، وجماعة أهل الفقه والأثر، كلهم يجيز المسح على الخفين في الحضر والسفر للرجال والنساء (¬1). (17) وروى عبد الرزاق، قال: عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، ¬
أن ابن عمر رأى سعد بن أبي وقاص يمسح على خفيه، فأنكر ذلك عبد الله، فقال سعد: إن عبد الله أنكر علي أن أمسح على خفي، قال عمر: لا يختلجن في نفس رجل مسلم أن يتوضأ على خفيه، وإن جاء من الغائط (¬1). وأصل الحديث في الصحيحين، وقد سبق ذكره. وقد روى ابن عبد البر بسنده عن المعتمر بن سليمان، قال: كان أبي لا يختلف عليه في شيء من أمر الدين إلا أخذ بأشده، إلا المسح على الخفين، فإنه كان يقول: هو السنة، واتباعها أفضل (¬2). وقال ابن تيمية: " خفي أصله على كثير من السلف والخلف حتى أنكره بعض الصحابة، وطائفة من أهل المدينة، وأهل البيت، وإذا علم سبب الخلاف لم يبق في الصدر شيء من المسح على الخفين، وهو هل آية المائدة معارضة للمسح على الخفين أم لا؟ وهل كان المسح قبل نزول المائدة أم بعدها، وقد أثبتنا بالأدلة الصحيحة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح بعد آية المائدة كما في حديث جرير والمغيرة وبريدة، فزال الإشكال، والحمد لله رب العالمين (¬3). ¬
الفصل الثاني خلاف العلماء في المسح على الجوربين
الفصل الثاني خلاف العلماء في المسح على الجوربين
الفصل الثاني خلاف العلماء في المسح على الجوربين اختلف العلماء في المسح على الجوربين، فقيل: يجوز المسح على الجوربين الصفيقين. وهو اختيار أبي يوسف ومحمد من الحنفية (¬1). ويقال: إنه رجع إليه أبو حنيفة في مرضه (¬2)، وهو أرجح القولين في مذهب الشافعي (¬3)، وهو ¬
مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: يجوز المسح على الجوربين المجلدين أو المنعلين، هو قول أبي حنيفة (¬2)، وأحد القولين في مذهب الشافعي (¬3)، ونص عليه في الأم (¬4). وقيل: يجوز المسح على الجوربين إن كانا مجلدين، وهو مذهب المالكية (¬5). ¬
دليل القائلين بجواز المسح على الجوارب
وقيل: لا يجوز المسح على الجوربين مطلقاً، وهو رواية عن مالك (¬1). والفرق بين المنعل والمجلد، أن المنعل ما جعل على أسفله جلدة، والمجلد ما جعل على أعلاه وأسفله. وقيل: يجوز المسح على الجوربين وإن كانا يشفان القدمين، حكاه النووي أنه قول عمر وعلي، وإسحاق وداود (¬2). دليل القائلين بجواز المسح على الجوارب. الدليل الأول: (18) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن أبي قيس، عن هزيل بن شرحبيل، عن المغيرة بن شعبة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ومسح على الجوربين والنعلين (¬3). [رجاله ثقات إلا أبا قيس فإنه صدوق، والحديث معلول] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وعلى فرض صحة الحديث إنما مسح جوربين منعلين، وليس معناه أنه مسح على جوربين مرة، ومرة مسح على نعلين، فالحديث حكاية لفعل واحد. وأجيب: على فرض تضعيف هذا الحديث فإنه لا يكفي لمنع المسح على الجوربين؛ لأن هناك أدلةً أخرى أصح من هذا الحديث تكفي في الدلالة. قال ابن القيم: قال ابن المنذر روي المسح على الجوربين عن تسعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: علي وعمار وأبي مسعود الأنصاري وأنس وابن عمر والبراء وبلال وعبد الله بن أبي أوفى وسهل بن سعد، وزاد أبو داود: وأبو أمامه وعمرو بن حريث وعمر وابن عباس، فهؤلاء ثلاثة عشر صحابياً. والعمدة في الجواز على هؤلاء رضي الله عنهم، لا على حديث أبي قيس، مع أن المنازعين في المسح متناقضون، فإنهم لو كان هذا الحديث من جانبهم، لقالوا: هذه زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة، ولا يلتفتون إلى ماذكروه ههنا من تفرد أبي قيس، فإذا كان الحديث مخالفاً لهم أعلوه بتفرد راويه، ولم يقولوا زيادة الثقة مقبولة، كما هو موجود في تصرفاتهم، والإنصاف أن تكتال لمنازعك بالصاع الذي تكتال به لنفسك، فإن في كل شيء وفاءً وتطفيفاً، ونحن لا نرضى هذه الطريقة، ولا نعتمد على حديث أبي قيس (¬1). وقد نص أحمد على جواز المسح على الجوربين، وعلل رواية أبي ¬
الدليل الثاني
قيس، وهذا من إنصافه وعدله رحمه الله، وإنما عمدته هؤلاء الصحابة وصريح القياس؛ فإنه لا يظهر بين الجوربين والخفين فرق مؤثر يصح أن يحال الحكم عليه. الدليل الثاني: (19) ما رواه بن ماجه، قال: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا معلى بن منصور وبشر بن آدم، قالا: ثنا عيسى بن يونس، عن عيسى بن سنان، عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب، عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ومسح على الجوربين والنعلين. قال المعلى في حديثه: لا أعلمه إلا قال: والنعلين (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (20) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا إبراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي، حدثني أبي، ثنا ابن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، ¬
الدليل الرابع
عن بلال رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين والجوربين (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الرابع: (21) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ثور، عن راشد بن سعد، عن ثوبان، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية، فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - شكوا إليه ما أصابهم من البرد، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين (¬3). ¬
[رجاله ثقات، وأعله بعضهم بالانقطاع] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال: قوله: (العصائب) والمراد بها العمائم؛ لأن الرأس يعصب بها، والتساخين: كل ما يسخن به القدم من خف وجورب ونحوهما، ولا واحد لهما من لفظهما (¬1). واعترض عليه: قالوا: إن الحديث إنما يدل على المسح على التساخين في حال البرد خاصة؛ لأنه جواب السائل في تلك الحالة، فالدليل أخص من الدعوى. وأجيب: قال القاسمي في رسالته: " تقرر في الأصول أن اللفظ العام على سبب خاص يحمل على عمومه، ولا يخص بالسبب الذي ورد فيه، قال الإمام أبو إسحاق الشيرازي: والدليل عليه هو: أن الحجة في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون السبب، فوجب أن يعتبر عمومه، وحاصل القاعدة في هذا: أن اللفظ الذي يستقل بنفسه يعتبر حكمه، فإن كان خاصاً حمل على خصوصه، وإن كان عاماً حمل على عمومه، ولا يخص بالسبب الذي ورد فيه، وما يقال في العام يقال في المطلق لاشتراكهما في الأحكام كما تقرر في الأصول، وتقرر ¬
الدليل الخامس
أيضاً: أن ترك الاستفصال في حكاية الحال ينزل منزلة العموم في المقال ... . الخ كلامه رحمه الله (¬1). الدليل الخامس: من الآثار، فقد جاء القول بالمسح على الجوربين عن جملة من الصحابة، منهم أبو مسعود، وأنس، والبراء بن عازب، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وسهل بن سعد، وابن عمر، وبلال وغيرهم، فمنها: (22) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: نا ابن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، أن أبا مسعود كان يمسح على الجوربين (¬2). [رجاله ثقات] (¬3). ¬
(23) وأما ما جاء عن أنس بن مالك، فقد رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن هشام، عن قتادة، عن أنس، أنه كان يمسح على الجوربين (¬1). [رجاله ثقات، وعنعنة قتادة لا تضر؛ لأنه مكثر عن أنس] (¬2). ¬
(24) وأما ما جاء عن البراء بن عازب، فقد رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، قال: حدثنا إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، قال: رأيت البراء بن عازب توضأ فمسح على جوربين (¬1). ¬
[وهذا إسناد حسن] (¬1). (25) وأما ما جاء عن علي بن أبي طالب، فقد رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن يزيد بن مردانية، عن الوليد بن سريع، عن عمرو بن حريث، أن علياً توضأ، ومسح على الجوربين (¬2). [إسناده حسن] (¬3). ¬
(26) وأما ما روي عن سهل بن سعد، فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا زيد بن الحباب، عن هشام بن سعد، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، أنه مسح على الجوربين (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
(27) وأما ما يروى عن ابن عمر، فرواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، قال: نا أبو جعفر الرازي، عن يحيى البكاء، قال: سمعت ابن عمر يقول: المسح على الجوربين كالمسح على الخفين (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). (28) وأما ما يروى عن أبي أمامة، فرواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، ¬
الدليل السادس
عن أبي غالب، قال: رأيت أبا أمامة يمسح على الجوربين (¬1). [إسناده حسن] (¬2). (29) وأما ما جاء عن بلال، فرواه ابن المنذر، من طريق أبي سعد البقال، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: رأيت بلالاً قضى حاجته، ثم توضأ، ومسح على جوربيه وخفيه (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). الدليل السادس: ما حكي من الإجماع. قال ابن قدامة: " الصحابة رضي الله عنهم مسحوا على الجوارب، ¬
الدليل السابع
ولم يظهر لهم مخالف في عصرهم، فكان إجماعاً " (¬1). الدليل السابع: أن أحاديث المسح على الجوربين وردت مطلقة، من غير تقييد بأن تكون منعلة أو مجلدة، وتقييد ما أطلقه الشارع لا يجوز إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، ولا دليل. الدليل الثامن: من النظر، إذا جاز المسح على الخف جاز المسح على الجورب؛ لأن كلاً منهما لباس للقدم، ولا فرق. فإما أن تكون الجوارب داخلة في مسمى الخف لغة، وإما أن تلحق الجوارب بالخفاف قياساً. قال ابن تيمية: يجوز المسح على الجوربين إذا كان يمشي فيهما، سواء كانت مجلدة، أو لم تكن في أصح قولي العلماء، ففي السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على جوربيه ونعليه، وهذا الحديث إذا لم يثبت فالقياس يقتضي ذلك؛ فإن الفرق بين الجوربين والخفين إنما كون هذا من صوف، وهذا من جلد، ومعلوم أن مثل هذا الفرق غير مؤثر في الشريعة، فلا فرق بين أن يكون جلوداً أو قطناً أو كتاناً أو صوفاً، كما لم يفرق بين سواد اللباس في الإحرام وبياضه، وغايته أن الجلد أبقى من الصوف، وهذا لا تأثير له، كما لا تأثير لكون الجلد قوياً، بل يجوز المسح على ما يبقى، وعلى ما لا يبقى، وأيضاً ¬
فمن المعلوم أن الحاجة إلى المسح على هذا كالحاجة إلى المسح على هذا سواء، ومع التساوي في الحكمة والحاجة يكون التفريق بينهما تفريقاً بين متماثلين، وهذا خلاف العدل والاعتبار الصحيح، الذي جاء به الكتاب والسنة (¬1). وسبق لنا كلام أنس رضي الله عنه في تخريج الأثر الوارد عنه، فقد قال عن الجوربين: إنهما خفان، ولكنهما من صوف. وعلق أحمد شاكر بكلام جميل طويل اقتصر منه بقوله: " المعنى في حديث أنس أدق، فليس الأمر قياساً للجوربين على الخفين، بل هو أن الجوربين داخلان في مدلول كلمة الخفين بدلالة الوضع اللغوي للألفاظ على المعاني، والخفان ليس عليهما موضع خلاف، فالجوربان من مدلول كلمة (الخفين) فيدخلان فيهما بالدلالة الوضعية اللغوية، وأنس بن مالك صحابي من أهل اللغة قبل دخول العجمة، واختلاط الألسنة فهو يبين أن معنى الجلد أعم من أن يكون من الجلد وحده، ولم يأت دليل من الشرع يدل على حصر الخفاف في التي تكون من الجلد فقط، وقول أنس هذا أقوى حجة ألف مرة من أن يقول مثله مؤلف من مؤلفي اللغة كالخليل والأزهري والجوهري وابن سيده، وأضرابهم؛ لأنهم ناقلون للغة، وأكثر نقلهم يكون من غير إسناد، ومع ذلك يحتج بهم العلماء، فأولى ثم أولى إذا جاء التفسير اللغوي من مصدر من مصارد اللغة، وهو الصحابي العربي من الصدر الأول بإسناد صحيح إليه ... الخ كلامه رحمه الله (¬2). ¬
دليل من منع المسح على الجوارب مطلقا أو أجاز بشرط أن يكون منعلا أو مجلدا
دليل من منع المسح على الجوارب مطلقاً أو أجاز بشرط أن يكون منعلاً أو مجلداً. الدليل الأول: قالوا: الأصل هو غسل الرجلين، كما هو ظاهر القرآن، والعدول عنه لا يجوز إلا بأحاديث صحيحة اتفق على صحتها أئمة الحديث كأحاديث المسح على الخفين، أما أحاديث المسح على الجوربين ففي صحتها كلام عند أئمة الفن، وإلى هذا أشار مسلم بقوله: " لا يترك ظاهر القرآن بمثل أبي قبيس وهزيل " اهـ. والجواب على هذا من وجوه: الوجه الأول: قد بينت أن الأحاديث ليست كلها ضعيفة، فحديث ثوبان رجاله كلهم ثقات، وحديث بلال، وحديث أبي موسى الأشعري وإن كان فيهما ضعف فهو يسير منجبر صالح في الشواهد، أضف إلى ذلك الآثار الصحيحة عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. الوجه الثاني: كيف يظن بالصحابة رضي الله عنهم بأنهم تركوا ظاهر القرآن، وخالفوه بالمسح على الجوربين. قال ابن القيم: الذين سمعوا القرآن من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعرفوا تأويله، مسحوا على الجوربين، وهم أعلم الأمة بظاهر القرآن، ومراد الله منه (¬1). ¬
الدليل الثاني
الوجه الثالث: إذا كان ظاهر القرآن لا ينافي المسح على الخفين، فكذلك لا ينافي المسح على الجوربين. الوجه الرابع: أن الحكمة التي شرع من أجلها المسح على الخفين موجودة في المسح على الجورب. الدليل الثاني: قالوا: إن الجوارب تتخذ من الأديم، وكذا من الصوف، وكذا من القطن، ويقال لكل واحد من هذه جورب، ومن المعلوم أن هذه الرخصة بهذا العموم التي ذهبت إليها تلك الجماعة لا يثبت إلا بعد أن يثبت أن الجوربين اللذين مسح عليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - كانا من صوف، سواء كانا منعلين أو ثخينين فقط، ولم يثبت هذا قط، فمن أين علم جواز المسح على الجوربين غير المجلدين، بل يقال: إن المسح يتعين على الجوربين المجلدين لا غيرهما؛ لأنهما في معنى الخف، والخف لا يكون إلا من أديم، نعم لو كان الحديث قولياً، بأن قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: امسحوا على الجوربين، لكان يمكن الاستدلال بعمومه على كل أنواع الجوارب. فإن قلت: ويحتمل أن يكون الجوربان اللذان مسح عليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - من صوف. قيل: الاحتمال وارد، لكن رجحنا كون الجوارب من أديم، لكونها في معنى الخف، أما المسح على غير الأديم فثبت بالاحتمالات التي لا تطمئن لها النفس، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
وأجيب: قال المباركفوري: هذا القول لا يثبت إلا بعد أن يثبت أن الجوربين اللذين مسح عليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - كانا مجلدين، ولم يثبت هذا قط. قلت: ولو كان الحكم يختلف بين ما كان مجلداً أو غير مجلد، لبين هذا الصحابة رضوان الله عليهم وهم ينقلون لنا جواز المسح على الجوربين، ولو كان الحكم يختلف لجاء نهي من الشرع أو من الصحابة عن المسح على الجورب إذا كان من صوف أو قطن، فالعام والمطلق يعمل به على عمومه وإطلاقه كما بينت. قال الفيروز آبادي في القاموس: الجورب لفافة الرجل اهـ. وقال في تاج العروس: الجوارب لفافة الرجل، وهو بالفارسية كورب. وقال أبو بكر بن العربي: الجورب غشآان للقدم من صوف، يتخذ للوقاء، وفي التوضيح للحطاب المالكي: الجوارب ما كان على شكل الخف، من كتان أو قطن أو غير ذلك. وفي الروض المربع للبهوتي الحنبلي: الجورب: ما يلبس في الرجل على هيئة الخف من غير الجلد. وقال العيني: الجورب هو الذي يلبسه أهل البلاد الشامية الشديدة البرد، وهو يتخذ من غزل الصوف المفتول يلبس في القدم إلى ما فوق الكعب اهـ. فهذه النقول ليس فيها ما يدل على أن الجوارب فيها ما هو منعل أو
الدليل الثالث
مجلد، بحيث يمكن أن يدعى أن الجوارب التي مسح عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانت منعلة أو مجلدة، فالأصل في الجوارب ما عرفه أهل اللغة وأهل الفقه، ومن ادعى خلاف هذا فعليه الدليل. الدليل الثالث: قالوا: إن الجوارب إذا لم تكن منعلة أو مجلدة لا يمكن متابعة المشي عليها، فإذا لم يمكن لم يصح المسح عليها. وأجيب: أين الدليل على اشتراط إمكان متابعة المشي عليها، وهل يسوغ أن تعارض الأدلة الشرعية بهذا التعليل الذي لا دليل عليه، فلا يعارض الدليل الشرعي إلا دليل مثله، على أننا نقول: لا نسلم أنه لا يمكن متابعة المشي عليها، وكونها قد يسرع إليها التلف فهذا أمر غير معتبر؛ لأنه معلوم أن القطن أضعف من الصوف، والصوف أضعف من الجلد، وبعض الجلود أضعف من بعض، وكل هذا لا تأثير له في الحكم الشرعي كما أسلفت، ومشقة النزع كما هي موجودة في الخف موجودة في الجورب، والحاجة إلى هذه كالحاجة إلى تلك. اعتراض والجواب عليه: قال المانعون: بأن المراد من حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الجوربين والنعلين. بأن ذلك محمول على أنه مسح على جوربين منعلين. (30) قال البيهقي: وقد وجدت لأنس بن مالك أثراً يدل على ذلك، أخبرناه أبو علي الروذباري، ثنا أبو طاهر محمد بن الحسن أباذي، ثنا محمد بن
عبد الله المنادي، ثنا يزيد بن هارون، ثنا عاصم الأحول، عن راشد بن نجيح، قال: رأيت أنس بن مالك دخل الخلاء، وعليه جوربان، أسفلهما جلود، وأعلاهما خز (¬1). [إسناده حسن] (¬2). وأجيب: قال ابن التركماني: الحديث ورد بعطف النعلين على الجوربين، وهو يقتضي المغايرة، فلفظه مخالف لهذا التأويل، وكون أنس مسح على ¬
الدليل الرابع
جوربين منعلين لا يلزم منه أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل كذلك، فلا يدل فعل أنس على تأويل الحديث بما لا يحتمله لفظه (¬1) اهـ. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المسح على النعلين بلا جوربين، فيؤيد هذا أن مسحه على الجورب كان بانفراده، وسوف تأتي أحاديث المسح على النعلين في بحث مستقل إن شاء الله تعالى. والجلد في أسفل الجورب لا يسمى نعلاً في لغة العرب، حتى يقال: مسح على جوربين منعلين. الدليل الرابع: قالوا: إن المسح على الخف على خلاف القياس، فلا يصح إلحاق غيره به إلا إذا كان بطريق الدلالة، وهو أن يكون في معناه، ولا يكون الجورب في معنى الخف إلا إذا كان مجلداً أو منعلاً. والجواب على هذا: أننا لم نلحق الجورب بالخف اعتماداً على القياس وحده، بل اعتماداً على ما صح من الأحاديث المرفوعة، وأفعال الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ولو لم يأت إلا فعل الصحابة رضي الله عنهم لكفى به دليلاً، فهم أعلم بمراد الله، ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهم أهل اللغة، ويعرفون معنى الجورب، ومعنى الخف أكثر من غيرهم، ولذلك قال أنس رضي الله عنه عن الجورب: إنهما خفان، ولكن من صوف. ¬
الراجح من هذه الأقوال: الراجح جواز المسح على الجوربين، واشتراط كونهما صفيقين لا دليل عليه، وسوف يأتي بحث هذا الشرط في مسألة مستقلة في شروط المسح على الخفين إن شاء الله تعالى. وقد أطلت القول في هذه المسألة مع شدة وضوحها خاصة في بلد مثل بلدي أغلب أهله على مذهب الحنابلة، ويرجع هذا لسببين: الأول: أن هذا الكتاب كتب لطالب العلم في بلاد المسلمين شرقها وغربها، وليس المخاطب فيه أهل بلدي خاصة. الثاني: حتى لا يأتي محتج فيقول: إن القول بأنه لا يجوز المسح على الجوربين هو قول الجمهور، فالحق يعرف بدليله، لا بمن قاله، وكم من مسألة فقهية كان فيها قول الجمهور مجانباً للصواب، ولو بحث باحث فقط في مسائل العبادات التي خالف فيها الجمهور الدليل لوقع ذلك في مجلد ضخم، فكيف بمسائل الفقه كلها، نعم احتمال الخطأ على المجتهد الواحد أكثر من احتماله على الجماعة لو كانت المسألة خالية من التقليد، لكن إذا كان كل مذهب له جمهوره الذين لا يتجاوزن قول إمامهم لم تكن الكثرة مظنة الإصابة، والله أعلم.
الفصل الثالث في خلاف العلماء في المسح على النعلين
الفصل الثالث في خلاف العلماء في المسح على النعلين
الفصل الثالث في خلاف العلماء في المسح على النعلين ذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، إلى أنه لا يجوز المسح على النعل. وقال قوم: يجوز المسح على النعلين كما يمسح على الخفين (¬5). ¬
الدليل الأول
وقيده ابن تيمية بالنعل التي يشق نزعها (¬1). دليل من قال بجواز المسح. الدليل الأول: (31) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن أبي قيس، عن هزيل بن شرحبيل، عن المغيرة بن شعبة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ومسح على الجوربين والنعلين (¬2). [رجاله ثقات إلا أنه معلول، وسبق بحثه في المسح على الجوارب]. وأجيب: أولاً: الحديث ضعيف؛ وقد علمت كلام أحمد وابن مهدي وسفيان ومسلم والنسائي والدارقطني وغيرهم في تعليل هذا الحديث. ثانياً: قالوا: إن حديث المغيرة هذا، المقصود منه أنه مسح على جوربين منعلين، لا أنه جورب منفرد، ونعل منفرد، فكأنه قال: مسح على جوربيه المنعلين. وسبق الجواب على هذا الإشكال في مسألة المسح على الجورب، فارجع إليه إن شئت. الدليل الثاني: (32) ما رواه أحمد، قال: ثنا بهز بن أسد، ثنا حماد بن سلمة، أنا ¬
يعلى بن عطاء، عن أوس بن أبي أوس، قال: رأيت أبي يوما توضأ، فمسح على النعلين، فقلت له: أتمسح عليهما؟ فقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل (¬1). [الحديث معلول] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (33) ما رواه بن ماجه، قال: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا معلى بن منصور وبشر بن آدم، قالا: ثنا عيسى بن يونس، عن عيسى بن سنان، عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب، عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ومسح على الجوربين والنعلين. قال المعلى في حديثه: لا أعلمه إلا قال: والنعلين (¬1). [إسناده ضعيف، وسبق بحثه، وهو صالح في الشواهد] (¬2). الدليل الرابع: (34) ما رواه البزار في مسنده كما في نصب الراية، قال البزار: حدثنا إبراهيم بن سعيد، ثنا روح بن عبادة، عن ابن أبي ذئب، عن نافع، أن ابن عمر كان يتوضأ، ونعلاه في رجليه، ويمسح عليهما، ويقول: كذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل (¬3). ¬
[إسناده صحيح] (¬1). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (35) ما رواه ابن جرير الطبري، قال: حدثنا عبد الله بن الحجاج ابن المنهال، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا جرير بن حازم، قال: سمعت الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال: أتى رسول الله سباطة قوم، فبال عليها قائماً، ثم دعا بماء، فتوضأ، ومسح على نعليه (¬1). [لم أقف على ترجمة عبد الله بن الحجاج بن منهال، والمسح على النعلين ليس محفوظاً من حديث الأعمش] (¬2). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (36) من الآثار، ما رواه ابن أبي شيبة، عن ابن إدريس، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، قال: رأيت علياً بال قائماً، ثم توضأ، ومسح على نعليه، ثم أقام المؤذن، فخلعهما (¬1). ¬
الدليل السابع
[إسناده في غاية الصحة] (¬1). الدليل السابع: (37) ما رواه ابن عدي في الكامل، قال: ثنا محمد بن بشر القزاز، ثنا أبو عمير، ثنا رواد، عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة، ومسح على ¬
نعليه (¬1). [رواد مجروح في روايته عن سفيان إلا أنه لم ينفرد به، والحديث فيه اختلاف كثير في لفظه] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وقد وقف العلماء من أحاديث المسح على النعال على مواقف منها: الأول: القول بالمسح على النعال. وهذا أسعدها بالدليل، وحمل الأحاديث ابن تيمية على النعل التي يشق نزعها إلا بيد أو رجل (¬1). ¬
ولعله لحظ الحكمة من المسح على الخفين، وهي مشقة النزع فألحق بها ما يشق نزعها من النعال، والله أعلم. الموقف الثاني: ضعف بعضهم الأحاديث الواردة في المسح على النعل، وهذا وإن كان قد يُسَلَّم في بعضها، لكن لا يسلم في الكل. الموقف الثالث: بعضهم أولها على أنه مسح على جوربين منعلين، وقد أجبت عن هذا التأويل فيما سبق، ومع أن هذا فيه تكلف فإن هذا ممكن أن يقال في أحاديث مسح على الجوربين والنعلين، وأما الأحاديث الكثيرة التي تفيد المسح على النعلين بدون ذكر الجوربين فلا يقبل هذا التأويل. الموقف الرابع: ذهب بعضهم إلى معارضة أحاديث المسح على النعلين بأحاديث وجوب غسل الرجلين، وهذا ضعيف؛ لأن أحاديث مسح النعلين لا تعارض غسل القدمين إلا إذا كان المسح على الخفين يعارض أحاديث غسل الرجلين، فإذا كان المسح على الخفين لا يعارض أحاديث غسل القدمين، فكذلك المسح على النعلين. الموقف الخامس: ادعى بعضهم أن أحاديث مسح النعل منسوخة بأحاديث غسل الرجلين!!، ذكر ذلك ابن القيم في تهذيب السنن.
الموقف السادس: حمل بعضهم أحاديث المسح على النعلين بأنه في حال تجديد الوضوء؛ وذلك لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المسح على القدمين في تجديد الوضوء، فكذلك يحمل المسح على النعلين بأنه في حال تجديد الوضوء. (38) فقد روى أحمد، قال: ثنا بهز، ثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، قال: سمعت النزال بن سبرة، قال: رأيت علياً رضي الله تعالى عنه صلى الظهر، ثم قعد لحوائج الناس، فلما حضرت العصر أتى بتور من ماء، فأخذ منه كفا، فمسح وجهه وذراعيه، ورأسه ورجليه، ثم أخذ فضله، فشرب قائماً، وقال: إن ناس يكرهون هذا، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله، وهذا وضوء من لم يحدث (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬
الموقف السابع: قالوا: إن معنى: مسح على النعلين المقصود بالمسح هو الغسل الخفيف، قال ابن الأثير: المسح يأتي بمعنى المسح باليد، وبمعنى الغسل (¬1)، ويكون معنى حديث علي رضي الله عنه: " مسح وجهه وذراعيه، ورأسه ورجليه " أي غسلهما غسلاً خفيفاً، والله أعلم. والجواب: أولاً: حمل أحاديث المسح على النعلين على تجديد الوضوء حمل ضعيف؛ لأنه صح عن علي رضي الله عنه غسل الرجلين ثلاثاً، ومَسْحُ النعلين، ومَسْح القدمين بلا نعلين في طهارة تجديد الوضوء، وهذه الأحاديث لا يعارض بعضها بعضاً، مع اختلاف مخارجها. ¬
ثانياً: ثبت عن علي بسند صحيح كما خرجته عنه أنه بال، ثم توضأ، فمسح على نعليه، ثم أقام المؤذن فخلعهما، ثم صلى، كما في مصنف ابن أبي شيبة (¬1)، وهذا صريح في أنه مسح على نعليه بعد الحدث، وهو نفسه الراوي لمسح القدمين في طهارة تجديد الوضوء. والقول: بأن المسح يأتي بمعنى الغسل، هذا أيضاً فيه إشكال، وهو أن علياً رضي الله عنه جعل هذا وضوء من لم يحدث، ولو كان المسح بمعنى الغسل لم يكن قيد (ما لم يحدث) معنى، والله أعلم. هذا ما أمكن جمعه في مسألة المسح على النعلين، والراجح عندي جوازه، ولو لم يأت في المسألة إلا الأثر عن علي بن أبي طالب لانشرح الصدر بالقول به، ما دام أنه لم يعلم له مخالف، وكونه لم ينتشر القول به كانتشار المسح على الخفين فهذا ليس كافياً في رده، وقد أنكر بعض السلف المسح على الخفين من الصحابة ومن بعدهم، أيكون إنكارهم للمسح على الخفين رافعاً لما ثبت شرعاً من جواز المسح عليهما، وسواء مسح على النعل، أو رش القدم في النعل فكلاهما جائز، والله سبحانه وتعالى أعلم. ¬
الفصل الرابع خلاف العلماء في المسح على اللفائف
الفصل الرابع خلاف العلماء في المسح على اللفائف
الفصل الرابع خلاف العلماء في المسح على الخرق واللفائف اختلف العلماء في المسح على اللفائف: فقيل: لا يمسح عليها، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). وقيل: بل يمسح عليها، وهو وجه في مذهب أحمد، وحكاه بعضهم رواية (¬2)، ¬
دليل من قال لا يجوز المسح على اللفائف
واختاره ابن تيمية (¬1). دليل من قال لا يجوز المسح على اللفائف الدليل الأول: الإجماع بأنه لا يجوز المسح على اللفائف. نقل الإجماع من المالكية المواق في التاج والإكليل، قال: " لا خلاف أنه لا يجزئ المسح على الخرق إذا لف بها رجليه " (¬2). وقال ابن قدامة في منع المسح على اللفائف: لا نعلم في ذلك خلافاً (¬3). وسوف أناقش دعوى الإجماع إن شاء الله تعالى في أدلة القول الثاني. الدليل الثاني: أن المسح ورد على الخف، وهذه اللفائف لا تسمى خفاً، ولا هي في معناه (¬4). والجواب: أن الأشياء ليست بمسمياتها، بل بمعانيها، ولا فرق بين اللفائف والجوارب والخفاف في تدفئة الرجل، ومشقة النزع، بل قد يكون ¬
الدليل الثالث
نزعها أشق من الخف والجورب. الدليل الثالث: قالوا: إن اللفائف لا تثبت بنفسها، وإنما تثبت بشدها، ومن شروط المسح على الخفين أن يثبت بنفسه، لا بشده. قال ابن قدامة: " لا يجوز المسح على اللفائف والخرق، نص عليه أحمد، وقيل: إن أهل الجبل يلفون على أرجلهم لفائف إلى نصف الساق؟ قال: لا يجزئه المسح على ذلك إلا أن يكون جورباً؛ وذلك أن اللفافة لا تثبت بنفسها، وإنما تثبت بشدها، ولا نعلم في هذا خلافاً " (¬1). قلت: سوف يأتي إن شاء الله تعالى في شروط المسح على الخفين هل يشترط أن يثبت الخف بنفسه؟ والراجح أنه ليس بشرط، ولا دليل على اشتراطه. دليل من قال يجوز المسح على اللفائف. الدليل الأول: (39) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ثور، عن راشد بن سعد، عن ثوبان، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية، فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - شكوا إليه ما أصابهم من البرد، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين (¬2). ¬
الدليل الثاني
[رجاله ثقات، وأعله بعضهم بالانقطاع، وسبق بحثه] (¬1). وجه الاستدلال: فالعصائب: هي العمائم؛ لأن الرأس يعصب بها، والتساخين: كل ما يسخن به القدم من خف وجورب ونحوهما، من الخرق واللفائف التي تسخن الرجل، فإنه مما لا شك فيه أن هذه اللفائف تسخن القدم، فهي داخلة في عموم اللفظ (¬2). الدليل الثاني: كل دليل استدل به على جواز المسح على الجورب يصلح أن يكون دليلاً على جواز المسح على اللفائف؛ لأن الجورب في القاموس: هي لفافة الرجل، لكن العرف خص اللفافة بما ليس بمخيط، والجورب بما هو مخيط، ومعلوم أن وجود الخيط وعدمه ليس مؤثراً في الحكم. الدليل الثالث: أن اللفائف أولى بالجواز من الخفاف والجوارب؛ لأن نزعها أشق؛ ولأن من يلبسها غالباً لا يملك ثمن الجوارب والخفاف، فيكون محتاجاً إليها، وهو أولى بالمراعاة من الغني. قال ابن تيمية: " والصواب أن يمسح على اللفائف، وهي بالمسح أولى من الخف والجورب؛ فإن تلك اللفائف إنما تستعمل للحاجة في العادة، ¬
وفي نزعها ضرر، إما إصابة بالبرد، وإما التأذي بالحفاء، وإما التأذي بالجرح، فإذا جاز المسح على الخفين والجوربين، فعلى اللفائف بطريق الأولى. ومن ادعى في ذلك إجماعاً فليس معه إلا عدم العلم، ولا يمكنه أن ينقل المنع عن عشرة من العلماء المشهورين، فضلاً عن الإجماع، والنزاع في ذلك معروف في مذهب أحمد وغيره، وذلك أن أصل المسح على الخفين خفي على كثير من السلف والخلف حتى إن طائفة من الصحابة أنكروه، وطائفة من فقهاء أهل المدينة وأهل البيت أنكروه مطلقاً .. الخ ما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى. الراجح: جواز المسح على اللفائف، وإذا كنت رجحت جواز المسح على النعل، مع أنها لا توجد مشقة كبيرة في نزعها، ولا تستر القدم المفروض غسله، فما بالك باللفائف التي تأتي على القدم كاملة، وتكون طبقات بعضها فوق بعض، وهي جورب إلا أنه لا خيط فيها، وهذا غير مؤثر كما بينت، والله أعلم.
الفصل الخامس أيهما أفضل المسح أم الغسل
الفصل الخامس أيهما أفضل المسح أم الغسل
الفصل الخامس أيهما أفضل المسح أم الغسل اختلف العلماء في أيهما أفضل المسح أم الغسل؟ فقيل: الغسل أفضل، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: المسح أفضل من الغسل، وهذا القول من مفرادت مذهب الحنابلة (¬5). وقيل: هما سواء، وهو رواية عن أحمد (¬6). ¬
دليل الجمهور على أن الأفضل الغسل
وقيل: الأفضل في حق كل واحد بحسبه، فمن كان عليه الخف كان الأفضل في حقه المسح، ومن كان لا خف عليه فالأفضل في حقه الغسل، وأن لا يلبس من أجل أن يمسح، وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم (¬1). دليل الجمهور على أن الأفضل الغسل. ذكر بعضهم شرطاً في كون الغسل أفضل من المسح هو أن لا يترك المسح رغبة عن السنة. واستدلوا لذلك: الدليل الأول: أن الغسل هو الذي واضب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في معظم الأوقات، وإذا كان الغسل هو الغالب من فعله - صلى الله عليه وسلم - كان أفضل. الدليل الثاني: أن الغسل هو المفترض في كتاب الله سبحانه وتعالى قال تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (¬2). على قراءة النصب، وهي الأشهر فيها وجوب غسل القدمين، وأما المسح فهو رخصة، فالغاسل لرجليه مؤد لما افترض الله عليه، والماسح لرجليه فاعل لما أبيح له. الدليل الثالث: (40) ترجم البخاري في صحيحه قائلاً: باب أجرة العمرة على قدر ¬
الدليل الرابع
النصب، ثم روى هو ومسلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: ولكنها - يعني العمرة - على قدر نفقتك أو نصبك (¬1). ولا شك أن غسل القدمين فيه مشقة أكثر من المسح خاصة في المناطق الباردة. الدليل الرابع: أن المسح مختلف فيه، والغسل مجمع عليه. الدليل الخامس: (41) أن بعض الصحابة كان يفضل غسل رجليه، فقد روى ابن المنذر في الأوسط، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن صالح، ثنا محمد بن بشار، ثنا جعفر بن محمد، ثنا شعبة، قال: سمعت جبر بن حبيب، عن أم كلثوم ابنة أبي بكر أن عمر نزل بواد يقال له وادي العقاب، فأمرهم أن يمسحوا على خفافهم، وخلع خفيه، وتوضأ، وقال: إنما خلعت لأنه حبب إلي الطهور (¬2). [رجاله ثقات] (¬3) (42) ومنهم أبو أيوب، فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ¬
دليل من قال المسح أفضل
هشيم، قال: أخبرنا منصور، عن ابن سيرين، عن أفلح مولى أبي أيوب، عن أبي أيوب، أنه كان يأمر بالمسح على الخفين، وكان هو يغسل قدميه، فقيل له: كيف تأمر بالمسح وأنت تغسل؟ فقال: بئس ما لي إن كان مهنأة لكم، ومأثمة علي، قد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله ويأمر به، ولكن حبب إلي الوضوء (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). قلت: ليس في هذا ما يدل على أفضلية الغسل على المسح؛ لأن أبا أيوب صرح بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر به، ويفعله، وأن أبا أيوب كان يأمر بالمسح، ولا يليق بالصحابي أبي أيوب أن يأمر الناس بالمفضول دون الفاضل، لكن استحب الغسل في خاصة نفسه، وهذا لا يدل على أفضلية مطلقة. دليل من قال المسح أفضل. الدليل الأول: (43) ما رواه أحمد، قال: ثنا علي بن عبد الله، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمارة بن غزية، عن حرب بن قيس، عن نافع، ¬
عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته (¬1). [إسناده حسن] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن المسح على الخفين أيسر على المكلف من غسلهما، خاصة في أيام الريح الباردة، والماء البارد، وما كان أيسر فهو أولى. (44) فقد روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها (¬1). الدليل الثالث: (45) ما رواه النسائي في السنن الكبرى وغيره من طريق عاصم، عن زر، قال: سألت صفوان بن عسال عن المسح على الخفين، فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا إذا كنا مسافرين أن نمسح على خفافنا، ولا ننزعها ثلاثة أيام من غائط وبول ونوم، إلا من جنابة (¬2). [سنده حسن، وسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى] (¬3). وجه الاستدلال: فقوله: " يأمرنا " إذا لم يكن للوجوب، كان للندب، وهو دليل على أن المسح أفضل. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: أن المسح على الخفين قد طعن فيه طوائف من أهل البدع، فكان إحياء السنن التي طعن فيه المخالفون أفضل من إماتتها، جاء عن سفيان الثوري أنه قال لشعيب بن حرب: لا ينفعك ما كتبت حتى ترى المسح على الخفين أفضل من الغسل (¬1). وقد كان المصنفون في كتب العقائد يذكرون اعتقادهم بالمسح على الخفين بالرغم أنه من مسائل الفقه ليتميز أهل السنة فيه عن غيرهم (¬2). (46) وقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة قال: كان إبراهيم في سفر، فأتى عليه يوم حار، فقال: لولا خلاف السنة لنزعت خفي (¬3). وقال ابن المنذر: وممن روى أن المسح على الخفين أفضل من الغسل الشعبي والحكم وأحمد وإسحاق، وكان ابن أبي ليلى والنعمان يقولان: إنا لنريد الوضوء فنلبس الخفين حتى نمسح عليهما. وروينا عن النخعي أنه قال: من رغب عن المسح على الخفين فقد رغب عن سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬
دليل من قال المسح والغسل سواء
دليل من قال المسح والغسل سواء. قالوا: إن الأدلة جاءت بهذا وهذا، ولم يرد دليل في الشرع ينص على أن الغسل أفضل، أو المسح أفضل، فيبقى الحكم واحداً. قال ابن المنذر: " قد شبه بعض أهل العلم من لبس خفيه على طهارة وأحدث بالحانث في يمينه، قال: فلما كان الحانث في يمينه بالخيار إن شاء أطعم، وإن شاء كسا، ويكون مؤدياً للفرض الذي عليه، فكذلك الذي أحدث، وقد لبس خفيه على طهارة إن مسح، أو خلع خفيه فغسل رجليه مؤد ما فرض الله عليه، مخير في ذلك (¬1). دليل من قال إن كان عليه الخف فالأفضل المسح، وإلا فالأفضل الغسل. قال ابن القيم: لم يكن يتكلف - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - ضد حاله التي عليها قدماه، بل إن كانتا في الخف مسح عليهما ولم ينزعهما، وإن كانتا مكشوفتين، غسل القدمين، ولم يلبس الخف ليمسح عليه، وهذا أعدل الأقوال في مسألة الأفضل من المسح والغسل، قاله شيخنا (¬2). والله أعلم. الراجح: بعد سياق هذا الخلاف بين أهل العلم في أيهما أفضل المسح أو الغسل؟ الذي يتبين لي أن ما قاله ابن القيم فيه توسط بين الأقوال، وإن كنت أميل إلى أن الغسل قد يكون أفضل، ووجهه: أن الغسل هو الغالب من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدليل أن عائشة لم تكن تعلم عن المسح على الخفين، ¬
وأحالت إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين سُئلت عن المسح على الخفين، ولو كان يكثر منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما غاب هذا الفعل عن بيت النبوة، عن أم المؤمنين رضي الله عنها، والله أعلم.
الفصل السادس هل المسح رخصة أم عزيمة
الفصل السادس هل المسح رخصة أم عزيمة
الفصل السادس هل المسح رخصة أم عزيمة اختلف الفقهاء هل المسح رخصة أم عزيمة، فقيل: إن المسح رخصة، وهو مذهب الأئمة (¬1). وقيل: إن المسح عزيمة، وهو رواية عن أحمد (¬2). ومن ثمرة الخلاف، أن المسح إذا كان عزيمة، فإن المسافر يمسح مطلقاً سواء كان سفره مباحاً أو محرماً. ¬
دليل من قال المسح على الخفين رخصة
واختلف القائلون: بأن المسح رخصة هل يمسح العاصي بسفره أم لا، وقد جعلت هذا في بحث مستقل سوف يأتي إن شاء الله تعالى. دليل من قال المسح على الخفين رخصة. الدليل الأول: (47) ما وراه ابن ماجه، قال: حدثنا محمد بن بشار وبشر بن هلال الصواف، قالا: ثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد، قال: ثنا المهاجر أبو مخلد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رخص للمسافر إذا توضأ، ولبس خفيه، ثم أحدث وضوءاً، أن يمسح ثلاثةَ أيام ولياليهن، وللمقيم يوماً وليلةً (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (48) ما رواه ابن خزيمة وابن حبان من طريق عبد الملك بن حميد بن أبي غنية، قال: سمعت الحكم بن عتيبة يحدث عن القاسم بن مخيمرة، عن شريح بن هانئ، قال: سألت علي بن أبي طالب في المسح على الخفين؟ فقال: رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسح على الخفين في الحضر يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن (¬1). [الحديث صحيح إلا أن لفظ: (رخص) غير محفوظ في الحديث] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (49) ما رواه أحمد، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون، عن أبى عبد الله الجدلي سمعه يحدث عن خزيمة بن ثابت سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المسح على الخفين، فرخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، والمقيم يوماً وليلةً. قال عبد الله: قال أبي: سمعته من سفيان مرتين يذكر للمقيم، ولو أطنب السائل في مسألته لزادهم (¬1). [رجاله ثقات ورواية الأكثر ليس فيها لفظ: رخص] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: أن حد الرخصة منطبق على المسح على الخفين، فآية المائدة توجب ¬
دليل من قال المسح عزيمة
غسل القدم، قال تعالى {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (¬1). وجاءت الأحاديث الصحيحة تدل على جواز المسح على الخفين نظراً لمشقة النزع، فصدق عليها حد الرخصة، وهو كون المسح ثبت بدليل مخالف للأدلة التي توجب غسل الرجل، فكان المسح رخصة. دليل من قال المسح عزيمة. قالوا: لا تعارض بين المسح وغسل الرجل، فالغسل واجب إذا كانت القدم مكشوفة، والمسح واجب إذا كانت القدم في الخف، قال بعض مشايخنا: وخلع الخف لغسل الرجل بدعة خلاف السنة. وقال ابن مفلح: ويتعين المسح على لابسه: يعني الخف. فليس إيجاب المسح على الخفين معارضاً لغسلهما، وكل من لبس الخف جاز له المسح مطلقاً، سواء شق نزعه أم لا، وسواء كان في حاجة إلى لبسه أم لا، حتى الزمن الذي لا يمشي، وحتى المرأة التي في بيتها، وفي حال السفر أو حال الإقامة، فالمسح جائز ولو لم يكن هناك عذر. وأجيب عن حديث: " رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أولاً: بأن لفظ (رخص) في الأحاديث لا تخلو من ضعف أو شذوذ. وثانياً: بأن المراد بالرخصة المعنى اللغوي، وهي التسهيل والتيسير. وأجيب على هذا الاعتراض: بأن الأصل في حمل الكلام على حقيقته الشرعية، فلا تقدم الحقيقة ¬
اللغوية على الحقيقة الشرعية إلا بقرينة مانعة من إرادة المعنى الشرعي، ولا قرينة، وكون المسح جائزاً ولو لم يكن هناك عذر لا يمنع ذلك من كونه رخصة؛ لأن المعتبر في المشقة وجودها غالباً، فلا يلزم وجودها مع كل شخص، فرخص السفر من قصر وجمع وفطر جائزة، وإن كانت المشقة ليست متحققة من كل مسافر، وهي رخص بالاتفاق. والله أعلم.
الفصل السابع هل المسح على الخفين رافع أم مبيح
الفصل السابع هل المسح على الخفين رافع أم مبيح
دليل من قال المسح رافع للحدث
الفصل السابع هل المسح على الخفين رافع أم مبيح اختلف العلماء هل المسح على الخفين يرفع الحدث، أو لا يرفع الحدث ولكنه يبيح الصلاة؟ على قولين: فقيل: إنه رافع للحدث، وهذا القول عليه جمهور الشافعية (¬1)، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: إنه مبيح، وليس برافع، هو مذهب المالكية (¬3)، واختاره بعض الشافعية (¬4). دليل من قال المسح رافع للحدث. الدليل الأول: (50) ما رواه مسلم، قال: حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد وأبو كامل الجحدري- واللفظ لسعيد- قالوا: حدثنا أبو عوانة، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، قال: دخل عبد الله بن عمر على ابن عامر ¬
الدليل الثاني
يعوده، وهو مريض، فقال: ألا تدعو الله لي يا ابن عمر. قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول، وكنت على البصرة (¬1). وجه الاستدلال: بأن الصلاة لا تقبل بغير طهارة: والنفي هنا نفي للصحة، فإذا كان ماسح الخفين صلاته صحيحة، فهو إذاً قد صلى متطهراً، وإذا كان متطهراً فقد ارتفع حدثه. الدليل الثاني: قالوا: إن المسح على الخفين طهارة بالماء أشبه الغسل. الدليل الثالث: إذا كان مسح الرأس بالماء يرفع الحدث، فكذلك مسح الخف. الدليل الرابع: استدل النووي على أنه يرفع الحدث، بأنه يصلي بالمسح فرائض، ولو كان لا يرفع لما جمع به فرائض كالتيمم، وطهارة المستحاضة. والصحيح أن التيمم رافع لا مبيح، لكنه رفع مؤقت إلى وجود الماء، وطهارة المستحاضة لا يلزمها الوضوء من الحدث الدائم؛ لأنه ليس من فعلها، {ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها} وسوف يأتي بحث هاتين المسألتين إن شاء الله تعالى. ¬
دليل من قال إن المسح مبيح لا رافع
دليل من قال إن المسح مبيح لا رافع. قالوا: بأن المسح طهارة تبطل بظهور الأصل، فلم ترفع الحدث كالتيمم. ولأنه مسح قائم مقام الغسل، فلم يرفع الحدث كالتيمم. والصحيح الأول، ولا نسلم أن التيمم لا يرفع الحدث، بل هو مطهر بنص القرآن والسنة. قال تعالى بعد أن ذكر طهارة الماء والتيمم: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (¬1). (51) وروى البخاري، قال: حدثنا محمد بن سنان، قال: حدثنا هشيم (ح) قال: وحدثني سعيد بن النضر، قال: أخبرنا هشيم، قال: أخبرنا سيار، قال: حدثنا يزيد، هو ابن صهيب الفقير، قال: أخبرنا جابر بن عبد الله، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل. الحديث (¬2). وهو في مسلم. فلا شك أن التيمم مطهر كالماء إلا أن طهارته مؤقتة إلى وجود الماء، فإذا وجد الماء عاد إليه حدثه السابق أصغر كان أو أكبر، وسيأتي مزيد بحث لهذه المسألة إن شاء الله تعالى، في البحث الأم الذي هو أصل هذا الكتاب. ¬
الفصل الثامن حكم من لبس الخفين ليمسح
الفصل الثامن حكم من لبس الخفين ليمسح
الفصل الثامن حكم من لبس الخفين ليمسح اختلف العلماء في من لبس الخفين من أجل أن يمسح عليهما، فقيل: يجوز أن يلبس من أجل أن يمسح، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب المالكية (¬2)، واختاره ابن حزم (¬3)، وهو الراجح. وقيل: إن لبس من أجل أن يمسح فلا يجوز له المسح، وهو المعتمد في مذهب المالكية (¬4). ¬
دليل من قال بجواز المسح
وقيل: يكره له المسح، وهو قول في مذهب المالكية (¬1). وقيل: لا يستحب له أن يمسح، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2). دليل من قال بجواز المسح. الدليل الأول: قد جاء الإذن بالمسح على الخفين مطلقاً غير مقيد، وما جاء مطلقاً فهو على إطلاقه، لا يقيده إلا نص مثله من كتاب أو سنة أو إجماع، ولايوجد دليل يمنع الرجل من المسح إذا لبس الخفين على طهارة تامة، فمن ¬
الدليل الثاني
منع فعليه الدليل، ولا دليل. الدليل الثاني: أن الإنسان إنما يلبس الخفين ليمسح عليهما، فالغرض من لبس الخف هو المسح عليه، مع ما في ذلك من تدفئة القدمين في البرد الشديد، والريح الشديدة، فطلب المسح غرض صحيح، ليس محرماً حتى يكون قصده مؤثراً في الحكم، فيمنع. دليل من قال لا يمسح. الدليل الأول: القياس على من سافر ليفطر، فإذا كان من سافر ليفطر حرم عليه الفطر، فكذلك من لبس ليمسح. وأجيب: هناك فرق بين من سافر ليفطر، ومن لبس ليمسح؛ لأن الفطر الأصل فيه التحريم، جاز للمسافر لعلة السفر، فمن سافر طلباً للفطر فقد تحايل على إسقاط الواجب، والحيل على المحرمات لا يبيحها، وعلى الواجبات لا يسقطها، ولا يوجد أحد يسافر من أجل الفطر، بخلاف الخف، فإن الإنسان يلبسه من أجل أن يمسح عليه، والمسح ليس محرماً، فالغرض من لبس الخف هو المسح سواء قصد دفع المشقة أم لا، فقصد الفطر في السفر محرم، وقصد المسح في لبس الخف مباح، فافترقا. الدليل الثاني: أن القاعدة الفقهية تقول: إن تعاطي سبب الترخص لقصد الترخص
دليل من قال لا يستحب
لا يبيح الرخص، والمسح رخصة، فلبس الخف من أجل المسح من هذا الباب. وأجيب: أولا: المسح على الخفين هل هو رخصة أو عزيمة، فيه خلاف، وقد سبق الكلام عليه. ثانياً: على التسليم أن المسح رخصة، فإن الرخصة تارة يكون قصدها لا يسقط واجباً، ولا يرتكب محرماً، فيكون قصده صحيحاً، وليس محرماً، وتارة تكون الرخصة سبباً في إسقاط واجب، أو ارتكاب محرم، فيكون قصد الترخص لا يجوز، كالسفر من أجل الفطر، فالفطر محرم، فالتحايل على إسقاطه لا يجوز، وأما اللبس من أجل المسح فليس محرماً، لأن اللبس يقصد به المسح، فقصده غرض صحيح كما قدمنا، والله أعلم. دليل من قال لا يستحب. لعل الحنابلة أخذوه من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه لم يكن يتحرى لبس الخفين ليمسح عليهما، بل كان يغسل قدميه إذا كانتا مكشوفتين، ويمسح إذا كان لابساً للخفين، وهذا دليل لا يرقى للمنع، ولذا قالوا: لا يستحب لبس الخفين ليمسح عليهما. قال ابن القيم: " لم يكن يتكلف ضد حاله التي عليها قدماه، بل إن كانتا في الخف مسح عليهما، ولم ينزعهما، وإن كانتا مكشوفتين غسل القدمين، ولم يلبس الخفين ليمسح عليهما " (¬1). ¬
الفصل التاسع حكم مسح من به حدث دائم
الفصل التاسع حكم مسح من به حدث دائم
الفصل التاسع حكم مسح من به حدث دائم اختلف العلماء في من كان حدثه دائماً كالمستحاضة، ومن به سلس بول، ونحوهما: فقيل: إذا لبس الخفين بعد طهارتهما، وقبل أن يسيل منها شيء، مسح كغيره، وإن توضأ، والحدث قائم، أو أحدث بعد الوضوء، وقبل اللبس مسح ما دام الوقت باقياً، ولم يكن له أن يمسح بعد خروج الوقت، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: المستحاضة ومن به حدث دائم كغيرهما له أن يمسح على خفيه، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: إن لبس الخف بعد وضوئه، فإن أحدث بغير حدثه الدائم وقبل أن يصلي به فريضة، مسح وصلى به فريضة واحدة، وما شاء من النوافل، وإن كان حدثه بعد صلاته تلك الفريضة، مسح لما شاء من النوافل، ولا يمسح به لصلاة أي فريضة. وهو مذهب الشافعية (¬4). ¬
وقيل: لا يمسح مطلقاً من به حدث دائم، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2). وسبب اختلافهم خلافهم في طهارة المستحاضة، ومن به حدث دائم مقيس عليها. (52) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا محمد، قال: ثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا؛ إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي". قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (¬3). [زيادة قال هشام قال أبي الراجح أنها موقوفة على عروة، ورفعها غير محفوظ] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وعليه فالمالكية لا يعتبر خروج دم الاستحاضة حدثاً ناقضاً للوضوء، بل يستحب منه الوضوء ولا يجب. لأنه معفو عنه، خارج من غير إرادتها، فخروجه ليس من فعلها (¬1)، وهو الراجح. ¬
وأما الحنفية (¬1) والحنابلة (¬2) فيرون وجوب الوضوء لوقت كل صلاة، فحملوا قوله: " وتوضئي لكل صلاة " أي لوقت كل صلاة. وأما الشافعية فحملوا قوله: " وتوضئي لكل صلاة " أي لكل فريضة مؤداة أو مقضية، وأما النوافل فتصلي ما شاءت (¬3). وأما ابن حزم فأوجب الوضوء لكل صلاة، فرضاً كانت أو نفلاً، خرج الوقت أو لم يخرج (¬4). وليس هذا موضع بسط هذه المسألة، وقد بسطت أدلتها في كتابي ¬
دليل من قال يمسح من به حدث دائم كغيره
الحيض والنفاس رواية ودراية، فارجع إليه غير مأمور. إذا عرفنا هذا نأتي إلى استدلالهم في مسألة المسح على الخفين دليل من قال يمسح من به حدث دائم كغيره. الدليل الأول: قالوا: إن الطهارة كاملة في حق من به حدث دائم، وإذا كانت كذلك، وقد لبس الخفين على طهارة فله أن يمسح، ولا يوجد دليل يمنع من به حدث دائم من المسح على الخفين. الدليل الثاني: إذا كان خروج الحدث لم يؤثر في نقض طهارته، وجاز له أن يستبيح بتلك الطهارة الصلاة، فكونه يستبيح به المسح على الخفين من باب أولى. قال زفر: لما كان سيلان الدم عفواً في حقها، بدليل جواز الصلاة معه، كان اللبس حاصلاً على طهارة. الدليل الثالث: من المعلوم في قواعد الشريعة أن الإنسان لا يسأل إلا عن فعله، الذي نواه وأراده، ولذلك لما كان الصبي ليس له قصد صحيح اعتبر عمده خطأ، فكذلك المستحاضة ومن به حدث دائم مع حدثه، لم ينو الحدث، ولم يرده، وهو مغلوب عليه، فكأنه لم يوجد، فالشرع حكيم، ولا يؤخذ المكلف إلا بما فعل قاصداً لذلك الفعل.
الدليل الرابع
الدليل الرابع: الحدث لا يبطل المسح حتى مع الرجل الصحيح، فكذلك من به حدث دائم، فكوننا نحكم عليه أنه محدث بعد خروج الوقت لا يبطل مسحه ما دام قد لبس الخف، وهو محكوم بطهارته. الدليل الخامس: قال ابن عقيل: ولأنها مضطرة إلى الترخص، وأحق من يترخص المضطر. دليل من قال يمسح ما لم يخرج الوقت. قال في المبسوط: سيلان الدم عفو في الوقت لا بعده، حتى تنتقض الطهارة بخروج الوقت، وخروج الوقت ليس بحدث، فكان اللبس حاصلاً على طهارة معتبرة في الوقت لا بعد خروج الوقت، فلهذا كان لها أن تمسح في وقت الصلاة، لا بعد خروج الوقت. الدليل الثاني: قالوا: بخروج الوقت عاد إليها الحدث السابق المتقدم على لبس الخف، فتكون كأنها لبست الخف، وهي محدثة، وقاسوها بمن تيمم، ثم لبس خفيه، ثم وجد الماء، فإنه بوجود الماء رجع إليه حدثه السابق المتقدم على لبس الخف، فوجب نزعه، والذي جعلهم يقولون برجوع الحدث السابق أن خروج الوقت على المستحاضة ليس حدثاً في ذاته، وإنما حكم لها برجوع حدثها السابق المتقدم على تلك الطهارة، والله أعلم.
دليل من قال يمسح فريضة واحدة
وأجيب: بأن هذا القول لا يصح إلا بعد التسليم بصحة زيادة: " وتوضئي لكل صلاة " وأن المراد منه: " وتوضئي لوقت كل صلاة " وأنه بخروج الوقت يعود لها الحدث السابق على الطهارة ولبس الخف، وليس اعتباراً للحدث القائم الذي لم ينقطع، وكل هذه الأمور محل نزاع، وليس إثباتها بظاهر. دليل من قال يمسح فريضة واحدة. قالوا: بأن طهارتها مقصورة على استباحة فريضة واحدة ونوافل، وهي محدثة بالنسبة لما زاد على ذلك، فكأنها لبست الخفين على حدث، بل لبست على حدث حقيقة، فإنه طهارتها لا ترفع الحدث عندهم. وهذا أضعف الأقوال، لأنه فيه بعض التناقض؛ إذ كيف يسمح لها أن تصلي بتلك الطهارة نوافل، ولا تصلي بها فرائض، فإن كانت حين صلت تلك النافلة محدثة، لم تصح النافلة منها، وإن كانت طاهرة صحت، وصحت منها الفريضة، فما صح في النفل صح في الفرض إلا بدليل، ولا دليل هنا على التفريق. دليل من قال لا تمسح مطلقاً. قالوا: لأنها محدثة، وإنما جوزت لها الصلاة مع الحدث الدائم للضرورة، ولا ضرورة للمسح على الخفين، بل هي رخصة بشرط لبسه على طهارة كاملة، ولم توجد مع من حدثه دائم. قلت: بل هي أولى بالمراعاة من إنسان لا يجب عليه الوضوء إلا إذا
القول الراجح
أحدث، بينما أنتم توجبون عليها الوضوء لكل صلاة، بل إن الشرع رخص لها بجمع الصلوات التي تجمع، ولم يرخص لغيرها إلا بسبب. القول الراجح: بعد استعراض أدلة كل قول، يتبين لي أن مذهب المالكية والحنابلة أقوى الأقوال، وأن من كان به حدث دائم يمسح كغيره، وذلك لقوة أدلته، وللجواب عن الأدلة السابقة، ولكون المبتلى بهذا البلاء أحوج من غيره إلى الرخصة، ولعدم الدليل الدال على منع المستحاضة ومن به حدث دائم من المسح على الخفين، والله أعلم.
الباب الثاني في شروط المسح على الخفين
الباب الثاني في شروط المسح على الخفين
الشرط الأول في طهارة الخف
الشرط الأول في طهارة الخف
الشرط الأول في طهارة الخف يشترط أن يكون الخف طاهراً، وضد الطاهر النجس. والنجس تارة يكون نجساً، وتارة يكون متنجساً. فإن كانت عينه نجسة كما لو كان الخف من جلد خنزير فحكي الإجماع بأنه لا يمسح عليه. قال في مواهب الجليل: " لا يمسح على خف من جلد ميتة، لو دبغ على المشهور ... " (¬1). وهذا بناء على أن الدباغ لا يطهر. وقال النووي: لا يصح المسح على خف من جلد كلب أو خنزير، أو جلد ميتة لم يدبغ، وهذا لا خلاف فيه (¬2). وقال في الإنصاف: ومنها طهارة عينه - يعني الخف - إن لم تكن ضرورة بلا نزاع (¬3). فهذا النووي من الشافعية والمرداوي من الحنابلة ينقلان الإجماع على أنه لا يجوز المسح على الخف النجس في غير ضرورة، واستدلوا بالمنع: أولاً: ما حكي من الإجماع. ¬
ثانياً: أن الخف بدل عن الرجل، ولو كانت الرجل نجسة لم تطهر من الحدث مع بقاء النجاسة. والصحيح في مسألة جلد الميتة إذا دبغ أنه طاهر، وليس هذا موضع بحثه. وإن كان الخف متنجساً لا نجساً، فقيل: لا يمسح عليه، فالمتنجس كالنجس، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2). قال النووي: وكذا لا يصح المسح على خف أصابته نجاسة إلا بعد غسله؛ لأنه لا يمكن الصلاة فيه (¬3). وأجاز الحنابلة المسح على الخف المتنجس، ويستبيح به مس المصحف، ولا يصلي به إلا بعد غسله إن تمكن (¬4). وصحح الحنابلة هنا الطهارة مع أنهم يمنعون الطهارة قبل الاستنجاء، وفرقوا بينهما: بأن النجاسة الموجبة للاستنجاء قد أوجبت طهارتين الحدث والخبث بخلاف الطهارة هنا، والصحيح أنه لا فرق بينهما. ¬
والراجح صحة الطهارة إذا مسح على خف متنجس؛ لأن طهارة الحدث لا يشترط لها أن يكون البدن طاهراً، وما دام أن النجاسة لا تمنع وصول الماء إلى العضو الواجب غسله أو مسحه، فطهارته صحيحة، ولولا ما حكي في المسألة من إجماع في الخف إذا كان نجس العين لقلت بصحة طهارته أيضاً، ويجوز له فيها مس المصحف على القول بوجوب الطهارة لمسه، وفي المسألة خلاف. فإذا حضرت الصلاة وجب عليه تطهير الخف أو خلعه، والدليل على أنه لا يجوز الصلاة في الخف المتنجس، (53) ما رواه أحمد، قال: ثنا يزيد، أنا حماد بن سلمة، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى، فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا. قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعله فلينظر فيها فإن رأى بها خبثاً فليمسه بالأرض ثم ليصل فيهما (¬1). [الحديث إسناده صحيح] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وحكم الخفين حكم النعلين، فإذا كان لا يصلي في نعليه إذا كان بهما أذى، فكذلك لا يصلي في خفيه إذا كان بهما خبث، إلا أن صحة المسح منفكة عن منع الصلاة بهما، فإذا حضرت الصلاة خلع خفيه، ولا يعيد المسح عليهما لصحته، والله أعلم. وقال في الإنصاف: " لو مسح على خف طاهر العين، ولكن بباطنه أو قدمه نجاسة لا يمكن إزالتها إلا بنزعه جاز المسح عليه، ويستبيح بذلك مس المصحف والصلاة إذا لم يجد ما يزيل النجاسة وغير ذلك اهـ (¬1). كما أنه إذا اضطر إلى لبس الخف النجس عيناً كما لو كان في بلاد الثلوج، وخشي سقوط أصابعه بخلعه، ففي مذهب الحنابلة وجهان: الأول: له أن يمسح عليه؛ لأنه لما أذن له في لبسه، جاز له أن يمسح عليه؛ ولأنه كالجنب إذا اغتسل، وعليه نجاسة لا تمنع وصول الماء ارتفع حدثه. ورجحه ابن تيمية، قال: إن الخف الذي يتضرر بنزعه في حكم الجبيرة، وضرره يكون بأشياء، إما أن يكون في ثلج وبرد عظيم إذا نزعه ينال رجليه ضرر، أو يكون الماء بارداً لا يمكن معه غسلهما، فإن نزعهما تيمم، فمسحهما خير من التيمم، ووجه ترجيح المسح على التيمم، أن المسح يكون بالماء، والتيمم بالتراب، والمسح يكون على العضو المتعذر غسله، والتيمم يكون على عضوين فقط: الوجه واليدين، وليس على القدم، فإذا جاز له ترك طهارة الماء إلى التيمم، فلأن يجوز ترك طهارة الغسل إلى المسح أولى. ¬
الوجه الثاني: هو المشهور من مذهب الحنابلة أنه يتيمم، ولا يمسح. اختاره ابن عقيل وابن عبدوس والمجد؛ لأنه منهي عنه في الأصل، وهذه ضرورة نادرة (¬1). كما أن المشهور من مذهب الحنابلة أنه يصلي بالخف النجس، ويعيد ما صلى؛ لأنه صلى، وهو حامل للنجاسة، والطهارة من النجاسة شرط في صحة الصلاة عندهم، والراجح أنه لا يعيد؛ لأنه فعل ما أمره الله به بحسب وسعه وطاقته، فلا إعادة عليه، ولم يوجب الله على العباد الصلاة مرتين إلا بتفريط. والله أعلم. ¬
الشرط الثاني هل يشترط أن يكون الخف مباحا؟
الشرط الثاني هل يشترط أن يكون الخف مباحاً؟
الشرط الثاني هل يشترط أن يكون الخف مباحاً؟ الخف المباح في مقابل الخف المحرم، والمحرم نوعان: تارة يكون التحريم لحق الله، كما لو لبس الخف، وهو مُحْرِم، أو كان الخف من حرير، وهو رجل. وتارة يكون التحريم لحق الآدمي كالخف المغصوب والمسروق. وقد اختلف العلماء في المسح على الخف المحرم على أقوال: فقيل: يمسح عليه مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وعليه أكثر الشافعية (¬2). وقيل: لا يجوز المسح عليه مطلقاً، سواء كان التحريم لحق الله، أو لحق الآدمي، وهو المشهور عند الحنابلة (¬3)، واختاره بعض الشافعية (¬4). وقيل: التفريق بين ما كان محرماً لحق الله، وحق الآدمي، هو مذهب المتأخرين من المالكية (¬5). ¬
دليل من قال لا يجوز المسح
دليل من قال لا يجوز المسح. القياس على الصلاة في الثوب المسبل، فإذا كانت الصلاة في ثوب حرام لا تصح، فكذلك المسح على شيء محرم لا يصح (54) فقد روى أحمد، قال: ثنا يونس بن محمد، قال، ثنا أبان وعبد الصمد، قال: ثنا هشام، عن يحيى، عن أبي جعفر، عن عطاء بن يسار، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بينما رجل يصلي، وهو مسبل إزاره، إذ قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهب، فتوضأ. قال: فذهب، فتوضأ، ثم جاء، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهب، فتوضأ. قال: فذهب، فتوضأ، ثم جاء، فقال: ما لك يا رسول الله، ما لك أمرته يتوضأ؟ ثم سكت، قال: إنه كان يصلي، وهو مسبل إزاره، وإن الله عز وجل لا يقبل صلاة عبد مسبل إزاره (¬1). ¬
[حديث ضعيف، ومتنه منكر] (¬1). ¬
وجه النكارة فيه؛ إذا كانت الصلاة لا تقبل من أجل الإسبال، فلماذا يطلب منه إعادة الوضوء، وهو لم يحدث، ما بال الوضوء؟! ولماذا لم يبلغه بأن يرفع إزاره، فقد يكون الرجل جاهلاً، والبلاغ تعليمه ما أخطأ فيه، لا أن يحيله على أمر قد أحسنه، فما إعادته للوضوء إلا عبث، حتى تجديد الوضوء لا يشرع في هذه الصورة؛ لأنه ما إن فرغ من وضوئه حتى طلب منه أن يعيده، لا لنقص في الوضوء، ولكن لأن الله لايقبل صلاة المسبل إزاره!!. الدليل الثاني: أن المسح رخصة على قول، وإذا كان رخصة فإن العاصي لا ينبغي أن يرخص له، قال تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} (¬1). والباغي عندهم: الخارج على الإمام، والعادي: هو المحارب وقاطع الطريق، فإذا كان الله لم يبح أكل الميتة للمضطر إذا كان عاصياً، فغيرها من الرخص من باب أولى. ¬
وأجيب: بأن المراد بالباغي: من يأكل فوق حاجته، والعادي: من يأكل هذه المحرمات، وهو يجد عنها مندوحة، فليس في الآية دليل على ما ذكرتم. الدليل الثالث: إذا صححنا المسح على الخف المحرم نكون بذلك قد رتبنا على الفعل المحرم أثراً صحيحاً، وهذا فيه مضادة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. (55) وقد روى مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد جميعاً عن أبي عامر، قال عبد: حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري، عن سعد بن إبراهيم، قال: سألت القاسم بن محمد، عن رجل له ثلاثة مساكن، فأوصى بثلث كل مسكن منها، قال: يجمع ذلك كله في مسكن واحد، ثم قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد (¬1). ومعنى رد: أي مردود عليه، والمسح على الخف المحرم خلاف أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. وأجيب: بأن التحريم والصحة غير متلازمين، فتلقي الجلب منهي عنه، وإذا تُلُقِيَ كان البيع صحيحاً، وللبائع الخيار إذا أتى السوق، فثبوت الخيار فرع عن صحة البيع، والله أعلم. ¬
أدلة القائلين بصحة المسح
الدليل الرابع: جاء في المجموع: " المسح إنما جاز لمشقة النزع، وهذا عاص بترك النزع، واستدامة اللبس، فينبغي ألا يعذر " (¬1). التعليل الخامس: قال بعض الشافعية: تجويز المسح على الخف المغصوب يؤدي إلى إتلافه بالمسح عليه، واستعماله بخلاف الصلاة في الدار المغصوبة، فإن الصلاة فيها والجلوس سواء. ورده الروياني من الشافعية، فقال: هذا غلط؛ لأنه إذا توضأ بالماء فقد أتلفه، ولم يمنع ذلك الصحة (¬2). قلت: هذا التنظير على مذهب الشافعية. أدلة القائلين بصحة المسح. عدم الدليل المقتضي لفساد الطهارة، فهذا قد تطهر الطهارة الشرعية بغسل ما يجب غسله، ومسح ما يجب مسحه، فطهارته صحيحة، ولا يحكم ببطلانها إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، ولا دليل هنا. الدليل الثاني: إن المنع في المسح على الخف لا يختص بالطهارة، فالغاصب مأذون له في المسح في الجملة، والمنع عارض أدركه من جهة الغصب، لا من جهة ¬
الطهارة، فأشبه غاصب ماء الوضوء، ومدية الذبح، وكلب الصيد، فيأثمون، ويصح فعلهم. والقاعدة الشرعية: أن العبادة الواقعة على وجه محرم: إن كان التحريم عائداً إلى ذات العبادة، كصوم يوم العيد، لم تصح العبادة. وإن كان التحريم عائداً إلى شرطها على وجه يختص بها كالصلاة بالثوب النجس على قول بأن الطهارة من النجاسة شرط، لم تصح إلا لعاجز أو عادم على الصحيح. وإن كان التحريم عائداً إلى شرط العبادة، ولكن لا يختص بها، ففيها روايتان: فقيل: يصح، وهو الأرجح. وقيل: لا يصح، وهو المشهور من مذهب الحنابلة. وإن كان التحريم عائداً على أمر خارج لا يتعلق بشرطها، كالوضوء من الإناء المحرم، فالراجح صحة العبادة، وعليه الأكثر (¬1). وهنا المنع ليس عائداً على شرط العبادة التي هي الطهارة، وإنما عائد على أمر خارج، وهو الغصب، فهو وصف عارض لا تعلق له بالطهارة، فيصح المسح، والله أعلم. ¬
الشرط الثالث خلاف العلماء في اشتراط كون الخف ساترا لما يجب غسله
الشرط الثالث خلاف العلماء في اشتراط كون الخف ساتراً لما يجب غسله
الشرط الثالث خلاف العلماء في اشتراط كون الخف ساتراً لما يجب غسله إذا كان الخف فيه فتق أو خرق، نظر، فإن كان الخرق فوق الكعب جاز المسح عليه بلا خلاف (¬1). وإن كان الخرق في محل الفرض، فاختلفوا: فقيل: يمسح عليه مطلقاً ما أمكن المشي فيها، وهو قول سفيان الثوري، وإسحاق، وابن المبارك، وابن عيينة (¬2)، واختاره ابن تيمية (¬3). وقيل: لا يمسح عليه مطلقاً، ما دام أنه يظهر منه شيء، وهو القول الجديد في مذهب الشافعية (¬4)، والمشهور عند الحنابلة (¬5). وقيل: التفريق بين الخرق اليسير والخرق الكبير، وهو مذهب ¬
دليل من قال: لا يجوز المسح على الخف المخرق
الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، على خلاف بينهم في حد اليسير والكثير (¬3). دليل من قال: لا يجوز المسح على الخف المخرق. قالوا: إن القدر الذي ظهر من القدم فرضه الغسل، والجمع بين المسح والغسل لا يجوز. واعترض: بأننا لا نسلم المقدمة، حتى نسلم النتيجة، فأين الدليل على أن ماظهر فرضه الغسل، قال ابن تيمية: " قول القائل: إن ما ظهر فرضه الغسل ممنوع، فإن الماسح على الخف لا يستوعبه بالمسح كالمسح على الجبيرة، بل يمسح أعلاه دون أسفله وعقبه، وذلك يقوم مقام غسل الرجل، فمسح بعض الخف كاف عما يحاذي الممسوح، وما لا يحاذيه، فإذا كان الخرق في العقب لم يجب غسل ذلك الموضع، ولا مسحه، ولو كان على ¬
ظهر القدم لم يجب مسح كل جزء من ظهر القدم .. الخ كلامه رحمه الله (¬1). وأما قولكم: إنه لا يجتمع مسح وغسل في عضو واحد فهذا منتقض بالجبيرة إذا كانت في نصف الذراع، فإنك تغسل الذراع، وتمسح الموضع الذي فيه الجبيرة، فاجتمع مسح وغسل في عضو واحد، على أننا لا نرى في الخف المخرق أن يغسل ما ظهر، بل يكفي مسح ظاهر القدم سواء كان مخرقاً أو مستتراً، ولا دليل لمن قال: يغسل ما ظهر، ويمسح ما استتر. الدليل الثاني: أن الأصل وجوب غسل الرجلين، قال تعالى {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأجلكم إلى الكعبين} (¬2). فكان مطلق الآية يوجب غسل الرجلين إلا ما قام دليله من المسح على خفين صحيحين. وأجيب: بل الإذن مطلق لكل ما يسمى خفاً، فأين الدليل على كون الخفين صحيحين، فهذا هو موضع النزاع، فلو كان الدليل يدل على اشتراط كون الخفين صحيحين لم نختلف معكم، ولكن لا يوجد دليل يدل على اشتراط ذلك، والله أعلم. الدليل الثالث: قالوا: إذا انكشفت إحدى الرجلين لم يجز المسح على الأخرى، فكذلك إذا انكشف بعض القدم لم يجز المسح على الباقي من باب أولى؛ لأنه إذا كان انكشاف إحدى الرجلين يؤثر على الأخرى، وهي منفصلة عنها، فكونه يؤثر في الرجل نفسها المتصلة ببعض من باب أولى. وأجيب: ليست العلة هي انكشاف القدم، ولكن العلة هي النهي عن المشي في نعل واحدة، ومثله الخف، فإن كان ترك إحدى القدمين لعلة، فلا مانع من المسح على الأخرى، ¬
أدلة القائلين بجواز المسح على الخف المخرق
وسوف يأتي بحث هذه المسألة إن شاء الله تعالى. أدلة القائلين بجواز المسح على الخف المخرق. الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين، وأذن بالمسح، وإذنه - صلى الله عليه وسلم - عام مطلق لم يشترط فيه كونه سليماً من العيوب، فكلما وقع عليه اسم خف، فالمسح عليه جائز على ظاهر الأخبار، ولا يستثنى من الخفاف شيء إلا بسنة أو إجماع، وتقييد ما أطلقه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز كإطلاق ما قيده الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - سواء بسواء. الدليل الثاني: اشتراط كون الخف سليماً من الخروق هذا الشرط هل هو في كتاب الله، أو في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو من عمل الصحابة رضوان الله عليهم، فإن لم يكن، فكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، الدليل الثالث: معظم الصحابة فقراء، وخفافهم لا تخلو من فتوق أو خروق، ولو
الدليل الرابع
كان الفتق والخرق مؤثراً لوجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبينه لهم؛ لأن الأمر متعلق بالصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام العملية، فلما لم يبينه لهم علم أن الفتق والخرق لا يمنع من المسح. وهذا من أوضح الأدلة. الدليل الرابع: فعل الصحابة رضي الله عنهم، قال ابن تيمية: " أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين بلغوا سنته، وعملوا بها، لم ينقل عن أحد منهم تقييد الخف بشيء من القيود، بل أطلقوا المسح على الخفين، مع علمهم بالخفاف وأحوالها، فعلم أنهم كانوا قد فهموا عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - جواز المسح على الخفين مطلقاً (¬1). الدليل الخامس: اشتراط كون الخفاف سليمة من الخروق ينافي المقصود من الرخصة، فإن المقصود من المسح على الخفين التيسير على المكلفين، ولهذا اكتفى الشرع بمسح ظاهره، بينما في غسله يجب غسل جميع القدم، قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: ويل للأعقاب من النار، فلو قلنا: لا يجوز المسح إلا على الخف السليم بطل المقصود من الرخصة، لا سيما والذين يحتاجون إلى ذلك هم الأكثر، وهم المحتاجون، وهم أحق بالرخصة من غير المحتاجين، فإن سبب الرخصة هو الحاجة، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن الصلاة في الثوب الواحد؟ قال: " أو لكلكم ثوبان " فبين أن منكم من لا يجد إلا ثوباً واحداً فلو أوجب الثوبين لما أمكن هؤلاء أداء الواجب (¬2). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: تناقض قول من يشترط أن يكون الخف ساتراً لما يجب غسله خالياً من الخروق يدل على ضعف الشرط، فبعضهم يقول: لا يجوز، ولو كان الخرق بمقدار رأس المخراز، وبعضهم يمنع ظهور ثلاثة أصابع، ولا يمنع مادونها، وبعضهم يحده بالثلث، وبعضهم يوجب غسل ما ظهر، ومسح الباقي، فهذا الاختلاف دليل على أن الأمر ليس من عند الله، {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} (¬1) فالتحديد بمقدار معين لابد فيه من توقيف شرعي، فإنه لا يبدو فرق بين الأصبعين والثلاثة، ولا ما بين الثلث وما دون الثلث بقليل. الدليل السابع: إذا كان المسح على الخفين إنما شرع لمشقة نزعهما، فلا فرق في ذلك بين الخف الذي فيه خرق، وبين الخف الذي لا خرق فيه، فالمشقة موجودة فيهما. الدليل الثامن: قالوا: إذا كان لبس الخف المخرق محرماً على المُحْرِم، ويسمى خفاً، فلما لم يخرجه خرقه عن مسمى الخف لم يمنع من المسح عليه لبقاء اسم الخف عليه. دليل القائلين بالتفريق بين اليسير والكثير. قالوا: إن الخف قلما يخلو من فتوق وخروق، حتى ولو كان جديداً ¬
فأثار الزرور والآثافي خرق فيه، ولهذا يدخله التراب، فجعلنا القليل عفواً لهذا. فأما إذا كان الخرق كبيراً فلا يجوز المسح عليه، وقدرنا القليل بما دون ثلاثة أصابع؛ لأنه إذا ظهر ثلاثة أصابع ظهر أكثر الأصابع، وللأكثر حكم الكل (¬1). والدليل على أن القليل معفو عنه أن جماهير أهل العلم كانوا يعفون عن ظهور يسير العورة، وعن يسير النجاسة التي يشق الاحتراز منها، فالخرق اليسير في الخف من باب أولى. قال ابن تيمية: " كان أحدهم - يعني الصحابة - يصلي في الثوب الضيق، حتى إنهم كانوا إذا سجدوا تقلص الثوب فظهر بعض العورة، وكان النساء نهين عن أن يرفعن رؤوسهن حتى يرفع الرجال رؤوسهم، لئلا يرين عورات الرجال من ضيق الأزر، مع أن ستر العورة واجب في الصلاة وخارج الصلاة بخلاف ستر الرجلين في الخف. وأما دليل المالكية بتقدير القليل بما دون الثلث، واعتبار الثلث فما فوق من الكثير، فلعلهم يستدلون بما جاء في حديث سعد بن أبي وقاص في الصحيحين، (56) قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه رضي الله تعالى عنه، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا. فقلت: ¬
الراجح من هذه الأقوال
بالشطر؟ فقال: لا، ثم قال: الثلث، والثلث كبير، أو كثير (¬1). الحديث. فسمى الثلث بأنه كثير، فعموم هذا اللفظ يدل على أن الثلث في كل شيء كثير. الراجح من هذه الأقوال. الراجح القول بجواز المسح على الخف المخرق مطلقاً، سواء كان الخرق يسيراً أو كبيراً ما دام أنه يسمى خفاً. وقد يكون الخف ليس فيه خرق، ولكنه يصف البشرة، بكونه غير صفيق، فالمالكية يمنعون المسح عليه، ويفهم ذلك من اشتراط التجليد عندهم (¬2). والحنابلة لا يجيزون المسح على ما يبدو منه القدم، سواء كان ذلك لخرق فيه، أو كان واسعاً يرى منه الكعب، أو كان الجورب خفيفاً يصف القدم، كل ذلك عندهم مانع من المسح (¬3). وأجاز الشافعية المسح على الخف الشفاف. قال النووي: " إذا لبس خف زجاج يمكن متابعة المشي عليه، جاز المسح عليه، وإن كانت ترى تحته البشرة، بخلاف ما لو ستر عورته بزجاج، فإنه لا يصح إذا وصف لون البشرة؛ لأن المقصود سترها عن الأعين، ولم ¬
يحصل، والمعتبر في الخف عسر القدرة على غسل الرجل بسبب الساتر، وذلك موجود، ثم قال: ولا نعلم أحداً صرح بمنعه، وقد نقل القاضي حسين جوازه عن الأصحاب مطلقاً " اهـ (¬1). ومن هذا نفهم أن الذي منع المسح من الجورب إذا كانت تصف البشرة لا دليل معه على المنع، فأين الدليل على اشتراط كونها صفيقة. وإذا جوزنا المسح على الخف المخرق جوزنا المسح على غيره، سواء كان الخف واسعاً يرى منه الكعب، أو كان الجورب خفيفاً يصف القدم، والله أعلم. ¬
الشرط الرابع ثبوت الخف بنفسه على القدم
الشرط الرابع ثبوت الخف بنفسه على القدم
الشرط الرابع ثبوت الخف بنفسه على القدم لا يمسح ما يسقط من القدم، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب المالكية (¬2)، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬3). وإذا كان الخف لا يثبت في القدم إلا بشده لم يجز المسح عليه عند الحنفية (¬4)، والحنابلة (¬5). ¬
دليل من قال: لا يجوز المسح عليه
وقيل: يجوز المسح على الجوربين وإن لم يثبتا بأنفسهما بل بنعلين، وهو رواية في مذهب أحمد (¬1). وقيل: لا يشترط، اختاره بعض المالكية (¬2)، ووجه عند الشافعية (¬3)، ورجحه ابن تيمية (¬4). دليل من قال: لا يجوز المسح عليه. أولاً: أن ما يسقط من القدم لا فائدة من لبسه؛ لأنه إذا مشى عليه سقط الخف. ثانياً: أن ما يسقط من القدم لا يمكن متابعة المشي عليه. ثالثاً: أن هذا خف غير معتاد، فلا يشمله النص. رابعاً: أن ما يسقط من القدم لا يشق نزعه، فيمكن إخراج القدم بسهولة، ثم غسلها وردها. دليل من قال بجواز المسح. أولاً: أن الإذن بالمسح على الخفاف وما في معناها مطلق غير مقيد، ¬
فأين الدليل على اشتراط ما ذكرتم، وما ورد مطلقاً لا يجوز تقييده إلا بدليل. ثانياً: أن هذا الخف الواسع صالح بنفسه، بدليل أنه لو لبسه رجل، وكانت قدمه كبيرة بحيث لا تسقط جاز المسح عليه اتفاقاً، فإذا كان صالحاً في نفسه فلا يمنع من المسح عليه. ثالثاً: أن هذا الخف الواسع قد يلبسه من لا يحتاج إلى المشي، كالمريض المقعد والزمن، فمنعه من المسح عليه منع بلا دليل. قال ابن تيمية: " قد اشترط ذلك - يعني: ثبوت الخف بنفسه - الشافعي، ومن وافقه من أصحاب أحمد، فلو لم يثبت إلا بشده بشيء يسير، أو خيط متصل به، أو منفصل عنه، ونحو ذلك لم يمسح عليه، وإن ثبت بنفسه لكن لا يستر جميع المحل إلا بالشد، ففيه وجهان: أصحهما أنه يمسح عليه، وهذا الشرط لا أصل له في كلام أحمد، بل المنصوص عنه في غير موضع أنه يجوز المسح على الجوربين ما لم يخلع النعلين، فإذا كان أحمد لا يشترط في الجوربين إن يثبتا بأنفسهما، بل إذا ثبتا بالنعلين جاز المسح عليهما، فغيرهما بطريق الأولى، وهنا قد ثبتا بالنعلين، وهما منفصلان عن الجوربين، فإذا ثبت الجوربان بشدهما بخيوطهما كان المسح عليهما أولى بالجواز (¬1). ¬
الشرط الخامس إمكان متابعة المشي على الخف
الشرط الخامس إمكان متابعة المشي على الخف
الشرط الخامس إمكان متابعة المشي على الخف (¬1) يشترط في الخف حتى يمسح عليه أن يمكن متابعة المشي عليه، وهو مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، الحنابلة (¬5). وقيل: إن ذلك ليس بشرط، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬6). ¬
واختلف القائلون بهذا الشرط، هل يقدر إمكان المشي فيه بمسافة معينة أم لا؟ فذهبت الحنفية إلى تقديره بفرسخ، فأكثر (¬1). وقالت المالكية: أن يمكن المشي فيه عادة (¬2). وقيل: بقدر ما يحتاج إليه المسافر في حوائجه عند الحط والترحال، وهو مذهب الشافعية (¬3). ¬
وقيل: يمكن متابعة المشي عليه عرفاً، وهو مذهب الحنابلة (¬1). دليل من قال بهذا الشرط. قالوا: إن الذي تدعو الحاجة إلى مسحه هو الخف الذي يمكن متابعة المشي عليه، فإن كان يسقط من القدم لسعته، فلا يشق نزعه، فيجب غسل القدم. ثانياً: أن الرخصة وردت في الخف المعتاد، وهو ما يمكن المشي فيه، وما لا يمكن المشي فيه فلا يدخل في الرخصة. والراجح: أنه ليس بشرط، وأن الذي لا يمكن المشي فيه إن كان لضيقه، فإن كان لا يضره، وكان لا يحتاج للمشي كما لو كان راكباً، أو مقعداً فما المانع من المسح عليه، فهو لا يحتاج إلى المشي حتى نشترط إمكان متابعة المشي عليه، والمسح على الخفاف والجوارب ورد مطلقاً غير مقيد بشيء، فمن وضع قيداً طلب منه الدليل. وإن كان الخف ضيقاً يضره حرم لبسه فضلاً عن المسح عليه. قال العدوي من المالكية: " أما انتفاء ضيقه، فليس بشرط فمتى أمكن لبسه مسح، وإلا فلا " (¬2). وإن كان لا يمكن متابعة المشي عليه لسعته بحيث إذا مشى خرجت ¬
قدمه، كما لو كان الخف كبيراً، وقدمه صغير، فإن شده على ساقه بحيث يمكنه المشي عليه، رجعت هذه المسألة إلى المسألة السابقة، وهو اشتراط كونه يثبت بنفسه، وقد بينت الراجح في هذه المسألة، وأنه لا يشترط أن يثبت بنفسه. قال في التاج والإكليل: " ولا بأس بالمسح على الخفين الواسعين، فإن خرجت رجله من مقدم الخف إلى ساقه بطل مسحه، ووجب عليه غسل رجله، وإن خرج عقبه من مقدمه إلى ساقه فلا شيء عليه إلا أن يخرج جل رجله (¬1). وإن كان لا يمكن متابعة المشي عليه لثقله، كخف الحديد الثقيل، فذكر النووي وجهين: الأول: المنع، وهو الذي قطع به الجمهور. والثاني: الجواز، واختاره إمام الحرمين والغزالي، قالا: لأن عدم إمكان المشي فيه لضعف اللابس، لا الملبوس، ولا نظر إلى أحوال اللابسين (¬2). ومع أن النووي ضعفه إلا أنه هو المختار فيما أرى؛ لأن من منع شيئاً فعليه الدليل، والخف ورد الإذن فيه مطلقاً، ولا تقييد لما أطلقه الله إلا بنص أو إجماع، والله أعلم. ¬
الشرط السادس هل يشترط أن يكون الخف من جلد
الشرط السادس هل يشترط أن يكون الخف من جلد
دليل الجمهور
الشرط السادس هل يشترط أن يكون الخف من جلد فقيل: لا يشترط، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: يشترط، وهو مذهب المالكية (¬4)، والأول أرجح. دليل الجمهور. أولاً: اشتراط كون الخفاف من جلود لا دليل عليه من كتاب أو سنة أو إجماع. ثانياً: المسح على الخفين ورد مطلقاً، فكل ما كان يسمى خفاً جاز المسح عليه. ثالثاً: التفريق بين الخف الذي من جلود، والخف الذي من غيره تفريق بين متماثلين، قال ابن تيمية: " ولا فرق بين أن يكون جلوداً أو قطناً ¬
دليل المالكية على اشتراط الجلد
أو كتاناً أو صوفاً، كما لم يفرق بين سواد اللباس في الإحرام وبياضه، وغايته أن الجلد أبقى من الصوف، وهذا لا تأثير له، كما لا تأثير لكون الجلد قوياً، بل يجوز المسح على ما يبقى وما لا يبقى (¬1). الخ كلامه. رابعاً: سبب إباحة المسح على الخفين هو الحاجة، وهي موجودة في الخف الذي من جلد، كما هي موجودة في غيره من الخفاف. قال ابن تيمية: ومعلوم أن الحاجة إلى المسح على هذا كالحاجة إلى المسح على هذا سواء بسواء، ومع التساوي في الحكمة والحاجة يكون التفريق بينهما تفريقاً بين متماثلين، وهذا خلاف العدل والاعتبار الصحيح الذي جاء به الكتاب والسنة، وما أنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله (¬2). دليل المالكية على اشتراط الجلد. قالوا: إن الرخصة وردت في الخفاف المعهودة، وكانت خفافهم من الجلود، فيقتصر المسح عليها. والصحيح الأول، ولو كان الحكم يتعلق بالاسم لما مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجوربين؛ فإنهما لا يسميان خفاً، ومع ذلك ثبت المسح عليهما، بل وعلى النعلين. ¬
الشرط السابع هل يشترط كون الخف يمنع وصول الماء إلى الرجل
الشرط السابع هل يشترط كون الخف يمنع وصول الماء إلى الرجل
دليل من اعتبره شرطا
الشرط السابع هل يشترط في الخف كونه يمنع وصول الماء إلى الرجل قيل: يشترط، اختاره بعض الحنفية (¬1)، وهو ظاهر المذهب عند الشافعية (¬2). وقيل: لا يشترط، وهو مذهب الجمهور، (¬3) وهو الراجح. دليل من اعتبره شرطاً. قال: الغالب في الخفاف أنها تمنع نفوذ الماء، فتنصرف إليها النصوص الدالة على الترخيص، ويبقى الغسل واجباً فيما عداها. ولأن الذي يقع عليه المسح ينبغي أن يكون حائلاً بين الماء والقدم. ¬
دليل من لم يعتبره شرطا
دليل من لم يعتبره شرطاً. لا يوجد دليل على اعتبار هذا الشرط، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط. ثم إن فرض الخف المسح، والغسل ليس مأموراً به، فلا حاجة إلى اشتراط كون الخف يمنع نفوذ الماء.
الشرط الثامن يشترط أن يكون المسح على الخفين في الطهارة الصغرى
الشرط الثامن يشترط أن يكون المسح على الخفين في الطهارة الصغرى
الشرط الثامن يشترط أن يكون المسح على الخفين في الطهارة الصغرى يمسح الخفان والجوربان والعمامة في الحدث الأصغر دون الأكبر، وهذا إجماع لا خلاف فيه، حكاه النووي وابن قدامة وغيرهما. قال النووي: " لا يجزئ المسح على الخف في غسل الجنابة، نص عليه الشافعي، واتفق عليه الأصحاب وغيرهم، ولا أعلم فيه خلافاً لأحد من العلماء، وكذا لا يجزئ مسح الخف في غسل الحيض والنفاس، ولا في الأغسال المسنونة كغسل الجمعة والعيد وأغسال الحج وغيرها، نص عليه الشافعي، واتفق عليه الأصحاب " (¬1). وقال ابن قدامة: " جواز المسح مختص به - يعني الحدث الأصغر - ولا يجزئ المسح في جنابة، ولا غسل واجب ولا مستحب، لا نعلم في هذا خلافاً " (¬2). ¬
الدليل من السنة: (57) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عاصم، عن زر بن حبيش، قال: أتيت صفوان، فقال: ما جاء بك؟ فقلت: ابتغاء العلم. فقال: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب، قلت: حك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول، وكنت امرأ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيتك أسألك عن ذلك، هل سمعت منه في ذلك شيئاً، قال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفراً، أو كنا مسافرين لا ننزع أخفافنا ثلاثة أيام بلياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم. الحديث (¬1). [وإسناده حسن، وسوف يأتي تخريجه إن شاء الله تعالى] (¬2). وذكر النووي رحمه الله تعالى بعض فوائده، فقال: أحدها: جواز مسح الخف. قلت مع أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كان يأمرنا " دالة على الاستحباب، أو على أقل أحواله الأفضلية على الغسل. الثانية: أنه مؤقت. وسيأتي الخلاف فيها. الثالثة: أن وقته للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن. قلت: يؤخذ منه مراعاة الشرع لأحوال المكلفين، والتخفيف عليهم، ودفع الحرج والمشقة. الرابع: أنه لا يجوز المسح في غسل الجنابة، وما في معناها من ¬
الأغسال الواجبة والمسنونة. الخامسة: جوازه في جميع أنواع الحدث الأصغر. السادسة: أن الغائط والبول والنوم ينقض الوضوء، وهو محمول على نوم غير ممكن مقعده. قلت: الأفضل أن يقال: لو أحدث أحس بحدثه، فلاينقض، وإلا نقض؛ لأن النوم مظنة الحدث، وليس حدثاً بذاته. السابعة: أنه يؤمر بالنزع للجنابة في أثناء المدة. إلى غير ذلك من الفوائد التي ذكرها النووي رحمة الله عليه.
الشرط التاسع أن يكون المسح في المدة المأذون له فيها شرعا
الشرط التاسع أن يكون المسح في المدة المأذون له فيها شرعا
الشرط التاسع أن يكون المسح في المدة المأذون له فيها شرعا هذا الشرط وقع فيه خلاف بين العلماء، هل المسح على الخفين مؤقت بوقت أم لا؟ فقيل: يمسح يوماً وليلة للقيم، وثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، وهو مذهب الحنفية، والشافعية والحنابلة. وقيل: ليس فيه توقيت، وهو المشهور من مذهب مالك. وقيل: يمسح المقيم خمس صلوات، والمسافر خمس عشرة صلاة. وقيل: يسقط التوقيت في حال الضرورة. إلى غير ذلك من الأقوال، وسيأتي بحث هذه المسألة في مسألة مستقلة، ونحرر الأدلة، ونبين الراجح إن شاء الله تعالى.
الشرط العاشر هل يشترط لبس الخف على طهارة مائية
الشرط العاشر هل يشترط لبس الخف على طهارة مائية
الشرط العاشر هل يشترط لبس الخف على طهارة مائية؟ إذا تيمم لفقد الماء، ثم لبس الخف، فلا يمسح إذا وجد الماء، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، ¬
دليل الجمهور
والشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: يمسح، هو رواية عن أحمد (¬3). دليل الجمهور. الدليل الأول: (58) ما رواه عبد الرزاق (¬4)، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير. [حديث حسن] (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فليمسه بشرته " فأمر بوجوب مس الماء للبشرة، وكلمة " بشرته " مفرد مضاف يعم جميع البشرة إن كان غسلاً عن جنابة، ويعم جميع الأعضاء الأربعة إن كانت الطهارة طهارة صغرى، ومن أخرج القدمين فعليه الدليل، ولا دليل. الدليل الثاني: بوجود الماء رجع إلى المتيمم حدثه السابق، وليس رجوع الحدث المتقدم على لبس الخف كإنشاء الحدث بعد لبسه، وبينهما فرق، وإذا حكمنا برجوع الحدث السابق المتقدم للابس الخف لم يشرع له المسح من جهتين: الوجه الأول: إبطال تلك الطهارة من أصلها، وكأنها لم تكن، فكأنه لبس الخفين على غير طهارة. الوجه الثاني: رجوع الحدث السابق إلى جميع الأعضاء بما في ذلك القدمان، ومن أخرج القدمين فعليه الدليل. الدليل الثالث: قالوا إن التيمم لا يرفع الحدث، وإنما هو مبيح للصلاة. وهذا الدليل فيه نظر، والصحيح أن التيمم مطهر بنص القرآن ¬
دليل القائلين بجواز المسح
والسنة، وقد تقدم الدليل على ذلك. دليل القائلين بجواز المسح. (59) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زكريا، عن عامر، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه، قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما (¬1). فلم يشترط إلا الطهارة، ولم ينص على نوع المطهر ماء كان أو تراباً، ومن تيمم عن عدم الماء فقد تطهر بنص القرآن والسنة، أما القرآن، فقال تعالى بعد أن ذكر طهارة التيمم: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (¬2). ومن السنة الحديث المتفق عليه، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وسبق تخريجه. والطهور: اسم لما يتطهر به، فإذا كان متطهراً، ولبس خفيه على طهارة، صدق عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ". والقول الأول أقوى؛ لأن عودة الحدث السابق للبس الخف جعل الخف كأنه لبس على غير طهارة من حين وجد الماء، فإذا كان يجب إيصال الماء إلى البشرة كان الواجب إيصاله إلى جميعها بما في ذلك القدمان، والله أعلم. ¬
الشرط الحادي عشر يشترط لبس الخفين بعد كمال الطهارة
الشرط الحادي عشر يشترط لبس الخفين بعد كمال الطهارة
الشرط الحادي عشر يشترط لبس الخفين بعد كمال الطهارة إذا غسل رجله اليمنى ثم أدخلها في الخف، ثم غسل رجله اليسرى، ثم أدخلها في الخف فطهارته صحيحة، ولكن إذا أحدث هل يمسح على خفيه أم لا؟ فقيل: له أن يمسح، هو مذهب الحنفية (¬1)، والظاهرية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3)، ورجحه ابن تيمية (¬4)، وتلميذه ابن القيم (¬5)، وابن دقيق ¬
العيد (¬1). وقيل: لا يمسح، وهو مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة (¬2)؛ لأنه أدخل خفه الأيمن قبل كمال الطهارة. ¬
دليل الجمهور
دليل الجمهور. (60) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زكريا، عن عامر، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه، قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما (¬1). وجه الدلالة: قوله: " أدخلتهما طاهرتين " فالجمهور حملوا الطهارة على كمالها؛ لأنه إذا غسل رجله اليمنى، ثم ألبسها الخف، فقد لبس الخف، وهو محدث، ومن شرط المسح لبس الخف، وقد ارتفع حدثه، ولا يكون طاهراً إلا إذا أتم الطهارة، ولذا لا يجوز له أن يصلي، وقد بقي عليه شيء لم يغسله مما يجب غسله. ¬
الدليل الثاني: (61) ما رواه ابن خزيمة، قال: نا بندار وبشر بن معاذ العقدي ومحمد بن أبان، قالوا: نا عبد الوهاب بن عبد المجيد، نا المهاجر، وهو ابن مخلد أبو مخلد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوماً وليلةً إذا تطهر، فلبس خفيه، أن يمسح عليهما (¬1). [إسناده ضعيف، وكلمة (فلبس) اختلف الرواة في ذكرها] (¬2). ¬
الدليل الثالث: (62) ما رواه عبد الرزاق، قال: عن معمر، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، قال: أتيت صفوان بن عسال المرادي، فقال: ما حاجتك؟ قال: قلت: جئت أبتغي العلم، قال: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما من خارج يخرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضى بما يصنع. قال: جئتك أسألك عن المسح على الخفين؟ فقال: نعم، كنت في الجيش الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهور ثلاثاً إذا سافرنا، وليلة إذا أقمنا، ولا نخلعهما من غائط ولا بول، ولا نخلعهما إلا من جنابة. الحديث. ¬
[حديث حسن، وزيادة: " إذا أدخلناهما على طهر" شاذة] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال من الحديث قوله: " إذا نحن أدخلناهما على طهور" فكلمة طهور أبلغ في الدلالة من قوله: " فإني أدخلتهما طاهرتين " لأنه هنا قد ينازع منازع، فيقول: إني لم أدخل اليمنى إلا وهي طاهرة: أي قد غسلتها بالماء، فيصدق عليه أني أدخلتها وهي طاهرة، ولو كان قبل غسل اليسرى، لكن قوله: " على طهور ": أي وأنا طاهر، والمتوضئ لا يقال له: على طهور إلا إذا أكمل الطهارة، ولهذا قال ابن خزيمة: ذكرت للمزني خبر عبد الرزاق هذا، فقال: حدثه به أصحابنا، فإنه ليس للشافعي حجة ¬
دليل الحنفية على جواز المسح
أقوى من هذا، يعني: قوله: إذا نحن أدخلناهما على طهر " (¬1). الدليل الثالث: دليل نظري، قال إمام الحرمين: " تقدم الطهارة على المسح شرط بالاتفاق، والطهارة تراد لغيرها، فإن تخيل متخيل أن الطهارة شرط للمسح كان محالاً؛ لأن المسح يتقدمه الحدث، وهو ناقض للطهارة، فاستحال تقديرها شرطاً فيه مع تخلل الحدث، فوضح أن الطهارة شرط في اللبس، وكل ما شرطت الطهارة فيه شرط تقديمها بكمالها على ابتدائه (¬2) الخ. ولأن ما اعتبرت له الطهارة، اعتبر له كمالها كالصلاة، ومس المصحف، فمثله المسح على الخفين. ولأن الأول خف ملبوس قبل رفع الحدث، فلم يجز المسح عليه كما لو لبسه قبل غسل قدميه، ودليل بقاء الحدث أنه لا يجوز له أن يصلي قبل إتمام الطهارة. ولو أنه غسل قدمه اليمنى، ثم أدخلها الخف، ثم غسل اليسرى، فأدخل الخف، لم يلزمه على قول الجمهور إلا ن ينزع اليمنى مرة أخرى ثم يلبسها، فيصدق عليه أنه لبسها بعد كمال الطهارة. دليل الحنفية على جواز المسح. حمل الحنفية حديث: " دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين " الطهارة الكاملة وقت الحدث، لا وقت اللبس، فإذا غسل رجله اليمنى، ثم ألبسها ¬
الخف، ثم غسل رجله اليسرى، فألبسها الخف، فإذا أحدث جاز له المسح؛ لأنه وقت الحدث يصدق عليه أنه لبس الخف على طهارة كاملة. قال الكاساني: " ولنا أن المسح إنما شرع لمكان الحاجة، والحاجة إلى المسح إنما تتحقق وقت الحدث بعد اللبس، فأما عند الحدث قبل اللبس فلا حاجة؛ لأنه يمكنه الغسل، وكذا لا حاجة بعد اللبس قبل الحدث؛ لأنه طاهر، فكان الشرط كمال الطهارة وقت الحدث بعد اللبس، وقد وجد" (¬1). ووافق قول ابن حزم وابن تيمية قول الحنفية، وإن كانا يختلفان معهم في توجيه الاستدلال، فهما يريان أن الرجل إذا غسل رجله اليمنى، ثم أدخلها الخف يصدق عليه أنه أدخلها الخف، وهي طاهرة، ثم إذا غسل رجله الأخرى في ساعته، ثم ألبسها الخف، فقد أدخلها، وهي طاهرة، فصدق على من هذه صفته أنه أدخل رجليه الخفين، وهما طاهرتان، فله أن يمسح عليهما بظاهر الخبر، والقائل بغير هذا القول قائل بخلاف هذا الحديث، وكوننا نأمره أن ينزع ثم يلبس من غير أن يلزمه غسل عبث محض ينزه الشارع عن الأمر به، ولا مصحلة للمكلف في القيام به. والدليل على أن طهارته شرعية أنه لو صلى قبل أن يحدث فطهارته صحيحة بالإجماع، وليس لبس الخف كمس المصحف حتى نقول: لا تلبس حتى تتم غسل الرجل الأخرى. والقول هذا أقوى، والأول أحوط، والله أعلم. ¬
الشرط الثاني عشر يشترط إذا كان سليم القدمين أن يمسح على الخفين معا
الشرط الثاني عشر يشترط إذا كان سليم القدمين أن يمسح على الخفين معاً
الشرط الثاني عشر يشترط إذا كان سليم القدمين أن يمسح على الخفين معاً لو لم يكن للرجل إلا رجل واحدة جاز المسح عليها بلا خلاف (¬1). ولو بقي من الرجل الأخرى بقية مما يجب غسله لم يمسح على الأخرى حتى يسترها بما يجوز المسح عليه. ولو كانت إحدى رجليه عليلة بحيث لا يجب غسلها، فلبس الخف في الصحيحة، فقطع الدارمي من الشافعية بصحة المسح عليها (¬2). وقيل: لا يمسح، وصححه النووي (¬3). والأول: أصح؛ لأنه لما كان معذوراً في خلعها للعلة، جاز المسح على الصحيحة، كما لو كانت له رجل واحدة. وإن كان الرجل سليم القدمين، ولبس خفاً في رجل واحدة، فأخشى ألا يصح مسحه، وقد نقل النووي الإجماع على أنه لا يمسح (¬4)، ¬
ولأن الإذن ورد بالمسح على الخفين، لا على أحدهما، وهو منهي عن المشي في نعل واحدة، ومثلها المشي في خف واحدة، (63) قال البخاري رحمه الله قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يمش أحدكم في نعل واحدة، ليحفهما جميعاً، أو لينعلهما جميعاً، ورواه مسلم (¬1). ¬
الشرط الثالث عشر يشترط أن يكون المسح على الخفين وما فيه معناهما
الشرط الثالث عشر يشترط أن يكون المسح على الخفين وما فيه معناهما
الشرط الثالث عشر يشترط أن يكون المسح على الخفين وما فيه معناهما فلا يمسح على البرقع في الوجه، ولا على القفازين في اليدين، ولا على ما تطلي به المرأة أظفارها (¬1). قال النووي: أجمع العلماء على أنه لا يجوز المسح على القفازين في اليدين والبرقع في الوجه " (¬2). (64) قلت: روى البخاري رحمه الله قال: حدثنا قيس بن حفص، حدثنا عبد الواحد، حدثنا الأعمش، قال: حدثني أبو الضحى، قال: حدثني مسروق، قال: حدثني المغيرة بن شعبة، قال: انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - لحاجته، ثم أقبل، فتلقيته بماء، فتوضأ، وعليه جبة شأمية، فمضمض، واستنشق، وغسل وجهه، فذهب يخرج يديه من كميه، فكانا ضيقين، فأخرج يديه من تحت الجبة، فغسلهما، ومسح برأسه وعلى خفيه (¬3). فهنا حين ضاقت أكمام الجبة لم يمسح على يديه، بل أخرج يده من أسفلها مع ما في ذلك من المشقة، ولو كان كل شيء مقيساً على الخف ¬
لمسح النبي - صلى الله عليه وسلم - على يديه، خاصة أنه كان في سفر أيضاً. وينبغي التنبه إلى أن ما تطلي به المرأة اليوم أظفارها بما يسمى بالمناكير يجب إزالته عند الوضوء؛ لأنه يمنع وصول الماء إلى الأظفار، وبالتالي لا يصح معه الوضوء، فتحاول المرأة أن تزيله قبل الوضوء، أو أن تضعه في الوقت الذي لا يجب عليها صلاة، كما لو كانت حائضاً، ونفساء ونحوهما، والله أعلم.
فرع إذا لبس الخفين، وهو يدافع الأخبثين فقيل: يكره، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: لا يكره، ورجحه النووي (¬2). دليل الحنابلة: قالوا: لأن الصلاة مكروهة بهذه الطهارة، واللبس يراد ليسمح عليه للصلاة (¬3). والراجح عدم الكراهة، لأن الكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل شرعي، وقياس اللبس على الصلاة قياس مع الفارق، وذلك أن الصلاة إذا صلى، وهو يدافع الأخبثين فإن ذلك يذهب الخشوع، الذي هو مقصود الصلاة، وليس كذلك من لبس الخف (¬4). وقال ابن قدامة: ولأن الطهارة كاملة فأشبه ما لو لبسه إذا خاف غلبة النعاس (¬5). ¬
الشرط الرابع عشر هل تشترط النية للمسح على الخفين
الشرط الرابع عشر هل تشترط النية للمسح على الخفين
الشرط الرابع عشر هل تشترط النية للمسح على الخفين اختلف العلماء في اشتراط النية في المسح على الخفين، فقيل: لا تشترط، وهو مذهب الحنفية (¬1). وذهب الجمهور إلى أن النية شرط (¬2). واختلافهم في هذه المسألة مبني على الخلاف في الطهارة من الحدث، هل تشترط لها النية أم لا؟ فقيل: النية شرط لطهارة الحدث الأصغر والأكبر، بالماء والتيمم. وهو مذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5)، وهو الراجح. وقيل: سنة في طهارة الوضوء والغسل، شرط في التيمم، وهو ¬
أدلة الجمهور على أن النية شرط
مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يجزئ الوضوء والغسل والتيمم بلا نية. وهو قول الأوزاعي (¬2). أدلة الجمهور على أن النية شرط. الدليل الأول: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ...} إلى أن قال: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬3). وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى قد شرط في صفة فعل الطهارة الصغرى والكبرى إرادة الصلاة، والشرطية مأخوذة من لفظ: " إذا " في قوله: " إذا قمتم " فإذا كان قد شرط إرادة الصلاة في فعل الطهارة كان من فعله مريداً للتبرد، أو النظافة لم يفعله على الشرط الذي شرطه الله، وذلك يوجب أن لا يجزئه. وقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة} (¬4). أي أردتم القيام إلى الصلاة، كقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} (¬5). أي إذا ¬
الدليل الثاني
أردت قراءته. قال ابن قدامة: " قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} أي للصلاة، كما يقال: إذا لقيت الأمير فترجل: أي له. وإذا رأيت الأسد فاحذر: أي منه " (¬1). الدليل الثاني: (65) ما رواه البخاري، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني محمد بن إبراهيم أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه. ورواه مسلم (¬2). وجه الاستدلال: قال النووي: " لفظة: (إنما) للحصر، وليس المراد صورة العمل، فإنها توجد بلا نية، وإنما المراد أن حكم العمل لا يثبت إلا بالنية، ودليل آخر، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وإنما لكل امرئ ما نوى " هذا لم ينو الوضوء، فلا يكون له " (¬3). ¬
الدليل الثالث
وقال ابن قدامة: " نفى أن يكون له عمل شرعي بدون نية " (¬1). الدليل الثالث: قوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (¬2). والإخلاص: إنما هو النية، والوضوء من الدين، فوجب أن لا يجزئ بغير نية. فإن قيل: ما دليلكم على أن الوضوء من الدين؟ فالجواب: (66) ما رواه مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا حبان ابن هلال، حدثنا أبان، حدثنا يحيى أن زيداً حدثه، أن أبا سلام حدثه، عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك. كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها (¬3). فإذا كان الإيمان عبادة فشطره كذلك. والوضوء عبادة مستقلة رتب الشارع عليها ثواباً عظيماً، وإذا كانت عبادة كانت مفتقرة إلى نية حتى تتميز عن العادة. والدليل على أنه رتب على الوضوء ثواباً ما جاء من الأحاديث في ¬
الدليل الرابع
فضل وثواب هذه العبادة ومنها (67) ما رواه مسلم، قال: حدثنا سويد بن سعيد عن مالك ابن أنس ح وحدثنا أبو الطاهر واللفظ له، أخبرنا عبد الله بن وهب، عن مالك ابن أنس، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن، فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيا من الذنوب (¬1). فدل على أن الوضوء عبادة، وإذا كانت كذلك لا تصح إلا بنية، لأنها قربة إلى الله تعالى، وطاعة له، وامتثال لأمره، ولا يحصل ذلك بغير نية. الدليل الرابع: القياس على طهارة التيمم، بجامع أن كلاً منها طهارة عن حدث. الدليل الخامس: الشريعة كلها إما مطلوب أو مباح، والمباح لا يتقرب به إلى الله تعالى، فلا معنى للنية فيه، والمطلوب نواه وأوامر، فالنواهي يخرج الإنسان من عهدتها وإن لم يشعر بها، فضلاً عن القصد إليها. فزيد المجهول حرم الله علينا دمه وعرضه، وقد خرجنا عن العهدة وإن لم نشعر به. نعم إن شعرنا ¬
أدلة من قال: إن النية مستحبة وليست بشرط
بالمحرم ونوينا تركه حصل لنا الثواب مع الخروج من العهدة. والأوامر منها ما يكون صورة فعله كافية في تحصيل مصلحته كأداء الديون، والودائع، ونفقة الزوجات والأقارب، فإن المقصود من هذه الأمور انتفاع أربابه، وذلك لا يتوقف على قصد الفاعل، فيخرج الإنسان من عهدتها وإن لم ينوها. ومنها ما لا يكون صورة فعله كافية في حصول المقصود كالصلوات، والصيام، والنسك، فإن المقصود منها تعظيم الله تعالى والخضوع له، وذلك إنما يحصل إذا قصدت من أجله، وهذا هو الذي أمر الشرع فيه بالنيات، والطهارة من هذا الباب (¬1). أدلة من قال: إن النية مستحبة وليست بشرط. الدليل الأول: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} إلى قوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬2). وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى أمر بالوضوء والغسل أمراً مطلقاً دون قيد النية ولا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل، فمن غسل أعضاءه، ومسح رأسه فقد امتثل الأمر وصح وضوءه، وكذلك من غسل بدنه (¬3). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (¬1). وجه الاستدلال: نهى الجنب عن قربان الصلاة إذا لم يكن عابر سبيل إلى غاية الاغتسال، وأطلق ولم يشترط النية، فيقتضي انتهاء حكم النهي عند الاغتسال، ولو لم يكن معه نية (¬2). الدليل الثالث: قال تعالى بعد أن ذكر طهارة الوضوء والغسل: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (¬3). وحصول الطهارة لا يقف على النية، بل على استعمال المطهر في محل قابل للطهارة (¬4). يوضح ذلك أيضاً أن النية إن اعتبرت بجريان الماء على الأعضاء فهو حاصل نوى أو لم ينو. وإن اعتبر لإزالة الحدث المتعلق بالأعضاء فإن الخبث المتعلق بها أقوى من الحدث، وزوال هذا الأقوى لا يتوقف على النية، فكيف للأضعف. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (68) ما رواه أبو داود (¬1)، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: إن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله كيف الطهور؟. فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً، ثم مسح برأسه، وأدخل اصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه ثم غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم " أو " ظلم وأساء ". [إسناده حسن، وزيادة أو نقص وهم من الراوي] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال: فهذا الرجل وهو أعرابي كما في بعض الروايات، كان يجهل الطهور، وقد سأل عن الوضوء فلو كانت النية من شرائطه التي يتوقف عليها صحة الوضوء لذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - النية له. فلما لم يذكرها علم أنها ليست بشرط. وأجيب: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم المسيء صلاته كيفية الصلاة، ولم يذكر له ¬
الدليل الخامس
النية، وقد قلتم بوجوبها للصلاة فما الفرق؟ الدليل الخامس: (69) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمر والناقد وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر كلهم، عن ابن عيينة. قال إسحاق: أخبرنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن، عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة، قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬1). وجه الاستدلال: قوله: " إنما يكفيك " ساقه مساق الحصر، ولم يذكر النية. قلت: السؤال عن الكيفية، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - لعمار كما في البخاري، ومسلم (¬2) في صفة التيمم: " إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا " وذكر صفة التيمم، ولم يذكر له النية، وأنتم تقولون باشتراط النية في التيمم. الدليل السادس: القياس على إزالة النجاسة، فإذا كانت طهارة الخبث لا تتوقف على ¬
الدليل السابع
نية فعدم توقف طهارة الحدث على النية أولى؛ وإنما قلنا إن طهارة الخبث أولى؛ لأن سببها وموجبها أمر حسي، وخبث مشاهد؛ ولأنه لا بدل لها من التراب، فقد ظهرت قوتها حساً وشرعاً. وأجيب: هناك فرق بين طهارة الحدث، وطهارة الخبث، فالأولى من باب فعل المأمور، ولم يكن الموجب لها نجاسة حسية، وتخصيصها بالأعضاء الأربعة في الصغرى تعبد، أما طهارة الخبث فالمطلوب التخلي منها، فهي من باب التروك، ولهذا لو صلى ناسياً حدثه أعاد، بخلاف طهارة الخبث، فما كان من باب فعل المأمور وجبت له النية كالصلاة، وما كان من باب التروك لم تجب كالنجاسة وترك الزنا ونحوهما. الدليل السابع: قال تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} (¬1). فإذا كان الماء خلق طهوراً، فهذه صفته وطبيعته، كما خلق الماء مروياً، وخلق مبرداً سائلاً، كل ذلك طبعه ووصفه الذي جعل عليه، فكما أنه لا يحتاج إلى النية في حصول الري والتبريد، فكذلك في حصول التطهير، فإذا كان الماء خلق طاهراً، وطاهريته لا تتوقف على نية، فكذلك طهوريته (¬2). الدليل الثامن: المراد من الوضوء النظافة والوضاءة، وقيام العبد بين يدي الرب ¬
تبارك وتعالى على أكمل أحواله، مستور العورة، متجنباً للنجاسة، نظيف الأعضاء وضيئها، وهذا حاصل باتيانه بهذه الأفعال، نواها أو لم ينوها، يوضحه أن الوضوء غير مراد لنفسه، بل مراد لغيره، والمراد لغيره لا يجب أن ينوى؛ لأنه وسيلة. وإنما تعتبر النية في المراد لنفسه إذ هو المقصود المراد (¬1). فالراجح قول الجمهور وأن النية شرط في طهارة الحدث، وقياسها على طهارة الخبث لا يصح، ونية الوضوء كافية، ولا يحتاج المسح على الخفين إلى نية مستقلة، بل هو داخل في نية الوضوء، كأفعال الصلاة، فالصلاة لا بد لها من نية، وأفعال الركوع والسجود لا يحتاجان إلى نية خاصة، بل هما داخلان في نية الصلاة، ومثله أفعال الحج، والله أعلم. ¬
الباب الثالث في صفة المسح
الباب الثالث في صفة المسح ويشتمل على خمسة فصول
الفصل الأول في المقدار المجزئ في المسح على الخفين
الفصل الأول في المقدار المجزئ في المسح على الخفين فقيل: إن مسح خفه بأصبع أو أصبعين لم يجزه، وإن مسح بثلاثة أصابع أجزأه، وهو مذهب الحنفية. وقيل: يجب استيعاب أعلى الخف بالمسح، وهو مذهب المالكية (¬1). وقيل: يجزئ مقدار ما يقع عليه اسم المسح في محل الفرض، وهو مذهب الشافعية (¬2)، وبه قال سفيان، (¬3) وهو مذهب داود الظاهري، ورجحه ابن حزم (¬4). وقيل: يجب أن يمسح أكثر ظاهر الخف، وهو مذهب الحنابلة. دليل من قال يمسح بثلاثة أصابع. الدليل الأول: (70) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي ¬
العلاء (¬1)، قال: رأيت قيس بن عباد بال، ثم أتى دجلة، فمسح على الخف، وفرج بينهما، فرأيت أثر أصابعه في الخف (¬2). [إسناده ضعيف، فيه أبو العلاء يريم] (¬3) ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (71) ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، قال: رأيت الحسن بال، ثم توضأ، فمسح على خفيه مسحة واحدة على ظهورهما، قال: فرأيت أثر أصابعه على الخف (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). وجه الاستدلال من الأثرين: قوله في الأثرين: " فرأيت أثر أصابعه "، والأصابع: اسم جمع، وأقل الجمع الصحيح ثلاثة، فكان هذا تقديراً للمسح ثلاثة أصابع اليد. وقدرناها بأصابع اليد؛ لأنها آلة المسح؛ ولأن الفرض يتأدى بها بيقين؛ لأنها ظاهرة محسوسة، فأما أصابع الرجل فمستترة بالخف، لا يعلم مقداره إلا بالحرز والظن، فكان التقدير بأصابع اليد أولى. دليل من قال يجب إستيعاب ظاهر الخف. استدلوا بالأحاديث الدالة على مسح ظاهر الخف، فإنها نصت على مسح الظاهر، ولو كان المقصود أكثر الظاهر أو بعضه لنقل. منها: ¬
(72) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن رافع، ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا يزيد بن عبد العزيز، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبد خير، عن على رضي الله تعالى عنه قال: ما كنت أرى باطن القدمين إلا أحق بالغسل حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظهر خفيه (¬1). [رجاله ثقات] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
وجه الاستدلال: فهذا الحديث نص على مسح ظاهر الخف، وهو دليل على وجوب استيعاب ظاهر الخف، ولو كان يغني أكثر الظاهر لنقل. الدليل الثاني: (73) ما رواه أحمد، قال: أبي ثنا إبراهيم بن أبي العباس، ثنا عبد الرحمن ابن أبي الزناد، عن أبي الزناد، عن عروة، قال: قال المغيرة بن شعبة: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظهور الخفين. قال عبد الله: قال أبي: حدثنا سريج والهاشمي أيضاً (¬1). [تفرد بذكر المسح على ظهور الخفين عبد الرحمن بن أبي الزناد، وفيه لين، وباقي رجاله ثقات] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
وجه الاستدلال من هذا الحديث كالاستدلال بالذي قبله. الدليل الثالث: (74) ما رواه ابن المنذر في الأوسط (¬1)، والبيهقي في السنن (¬2)، من ¬
دليل من قال يجزئ ما يقع عليه اسم المسح
طريق عبد الله بن يزيد، عن سعيد بن أبي أيوب، عن حميد بن مخراق الأنصاري، أنه رأى أنس بن مالك بقباء مسح ظاهر خفيه بكفيه مسحة واحدة. هذا لفظ البيهقي. [إسناده ضعيف] (¬1). الدليل الرابع: من الآثار. (75) ما رواه مالك في الموطأ، عن هشام بن عروة، أنه رأى أباه يمسح على الخفين، قال: وكان لا يزيد إذا مسح على الخفين على أن يمسح على ظهورهما، ولا يمسح بطونهما (¬2). دليل من قال يجزئ ما يقع عليه اسم المسح. قالوا: إن المسح ورد مطلقاً، ولم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تقدير واجبه شيء، فتعين الاكتفاء بما يصدق عليه اسم المسح. فإن قيل: لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الاكتفاء بما يصدق عليه مطلق المسح. قيل: لا يفتقر ذلك إلى نقل؛ لأنه مستفاد من إطلاق إباحة المسح، فإنه يتناول القليل والكثير، ولا يعدل عنه إلا بدليل. دليل من قال يجب أن يمسح أكثر ظاهر الخف. إذا كان المسح بالأصابع على ظاهر الخف، فإن هذا دليل على أنه ¬
الدليل الأول
لا يستوعب الظاهر بل يكفي مسح أكثر الظاهر. الدليل الأول: (76) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا محمد بن المصفى الحمصي، قال: ثنا بقية، عن جرير بن يزيد، قال: حدثني منذر، حدثني محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل يتوضأ، ويغسل خفيه، فقال بيده - كأنه دفعه - إنما أمرت بالمسح، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده هكذا من أطراف الأصابع إلى أصل الساق، وخطط بالأصابع (¬1). [حديث ضعيف جداً أو موضوع] (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (77) ما رواه عبد الرزاق (851) عن معمر، عن أيوب، قال: رأيت الحسن بال، ثم توضأ، فمسح على خفيه مسحة واحدة على ظهورهما، قال: فرأيت أثر أصابعه على الخف. [إسناده صحيح] (¬1). الدليل الثالث: (78) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، عن ابن أبي ليلى، عن أخيه عيسى بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: رأيت عمر بن الخطاب بال، فتوضأ، ومسح على خفيه، قال: حتى إني لأنظر إلى أثر أصابعه على خفيه (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (79) ما رواه ابن المنذر، قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا زكريا بن زحمويه، قال: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي، حدثنا الفضل بن مبشر، قال: رأيت جابر بن عبد الله يتوضأ، ويمسح على خفيه على ظهورهما مسحة واحدة إلى فوق، ثم يصلي الصلوات كلها، قال: ورأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنعه، فأنا أصنع كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). [إسناده فيه لين] (¬2). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (80) ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف قال: حدثنا الثقفي، عن أبي عامر الخزاز، قال: حدثنا الحسن، عن المغيرة بن شعبة، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال، ثم جاء حتى توضأ، ومسح على خفيه، ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة حتى كأني أنظر إلى أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخفين (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
دليل من قال يجزئ مقدار ما يقع عليه اسم مسح
دليل من قال يجزئ مقدار ما يقع عليه اسم مسح. قالوا: إن المسح ورد مطلقاً، ولم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تقدير واجبه شيء، فتعين الاكتفاء بما يصدق عليه اسم المسح. فإن قيل: لم ينقل الاكتفاء بما يصدق عليه مطلق المسح. قيل: لا يفتقر ذلك إلى نقل؛ لأنه مستفاد من إطلاق إباحة المسح، فإنه يتناول القليل والكثير، ولا يعدل عنه إلا بدليل. الراجح: هو القول بأن الواجب أكثر ظاهر الخف، واستيعاب ظاهره شاق جداً خاصة إذا علمنا أن آلة المسح هي الأصابع، وأنها تترك خطوطاً على ظاهر الخف، فكان أكثره قائماً مقام استيعاب ظاهره، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني الخلاف في مسح أسفل الخف
الفصل الثاني الخلاف في مسح أسفل الخف
الفصل الثاني الخلاف في مسح أسفل الخف اختلف العلماء في مسح أسفل الخف، فقيل: لا يمسح أسفل الخف، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: يمسح الظاهر والباطن، فإن مسح الباطن فقط لم يجزئ، وحكي إجماعاً والخلف محفوظ. وإن مسح الأعلى فقط أجزأه ذلك. وهو مذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4). قال مالك: إن مسح الأعلى فقط وصلى، يعيد الصلاة ما دام في ¬
دليل الحنفية والحنابلة
الوقت، فإن خرج الوقت أجزأه (¬1). دليل الحنفية والحنابلة. الدليل الأول: (81) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن رافع، ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا يزيد بن عبد العزيز، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبد خير، عن علي رضي الله تعالى عنه قال: ما كنت أرى باطن القدمين إلا أحق بالغسل حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظهر خفيه (¬2). [رجاله ثقات وسبق تخريجه]. الدليل الثاني: (82) ما رواه أحمد، قال: أبي ثنا إبراهيم بن أبي العباس، ثنا عبد ¬
الدليل الثالث
الرحمن ابن أبي الزناد، عن أبي الزناد، عن عروة، قال: قال المغيرة بن شعبة: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظهور الخفين. قال عبد الله: قال أبي: حدثنا سريج والهاشمي أيضاً (¬1). [تفرد بذكر المسح على ظهور الخفين عبد الرحمن بن أبي الزناد، وفيه لين، وباقي رجاله ثقات، وسبق بحثه]. الدليل الثالث: (83) ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا الثقفي، عن أبي عامر الخزاز، قال: حدثنا الحسن، عن المغيرة بن شعبة، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال، ثم جاء حتى توضأ، ومسح على خفيه، ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة حتى كأني أنظر إلى أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخفين (¬2). [إسناده ضعيف، وسبق بحثه] الدليل الرابع: (84) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي العلاء، قال: رأيت قيس بن عباد بال، ثم أتى دجلة، فمسح على الخف، وفرج بينهما، فرأيت أثر أصابعه في الخف (¬3). ¬
الدليل الخامس
[إسناده ضعيف، فيه أبو العلاء، وسبق بحثه]. الدليل الخامس: (85) ما رواه ابن المنذر، قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا زكريا بن زحمويه، قال: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي، حدثنا الفضل بن مبشر، قال: رأيت جابر بن عبد الله يتوضأ، ويمسح على خفيه على ظهورهما مسحة واحدة إلى فوق، ثم يصلي الصلوات كلها، قال: ورأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنعه، فأنا أصنع كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). [إسناده فيه لين، وسبق بحثه] الدليل السادس: (86) من الآثار، ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، قال: رأيت الحسن بال، ثم توضأ، فمسح على خفيه مسحة واحدة على ظهورهما، قال: فرأيت أثر أصابعه على الخف. [إسناده صحيح] (¬2). دليل من قال: يمسح أسفل الخف. الدليل الأول: (87) ما رواه أحمد، قال: ثنا الوليد بن مسلم، ثنا ثور، عن رجاء ابن حيوة، عن كاتب المغيرة، ¬
عن المغيرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فمسح أسفل الخف وأعلاه (¬1). [الحديث معلول] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (88) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: قال عطاء: رأيت ابن عمر يمسح عليهما - يعني خفيه - مسحة واحدة بيديه كلتيهما، بطونهما وظهورهما، وقد أهرق قبل ذلك الماء، فتوضأ هكذا لجنازة دعي إليها. [رجاله ثقات] (¬1). ¬
الدليل الثالث
والجواب عن هذا: أن هذا الأثر موقوف على ابن عمر رضي الله عنه، مخالف لما هو مرفوع، فلا يقبل. الدليل الثالث: من النظر أن المسح بدل من الغسل، وإذا كان في الغسل يغسل أعلى القدم وأسفله، فكذلك المسح ينبغي أن يستوعب القدم أعلاه وأسفله. قال ابن رشد في بداية المجتهد " وسبب اختلافهم تعارض الآثار الواردة في ذلك، وتشبيه المسح بالغسل، وذلك أن في ذلك أثرين متعارضين: أحدهما: حديث المغيرة بن شعبة، وفيه: " أنه مسح أعلى الخف وباطنه ". والآخر: حديث علي: " لو كان الدين بالرأي، لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه ". فمن ذهب مذهب الجمع بين الحديثين، حمل حديث المغيرة على الاستحباب، وحديث علي على الوجوب، وهي طريقة حسنة، ومن ذهب مذهب الترجيح أخذ إما بحديث علي، وإما بحديث المغيرة، فمن رجح حديث المغيرة على حديث علي رجحه من قبل القياس، أعني: قياس المسح على الغسل، ومن رجح حديث علي، رجحه من قبل مخالفته للقياس ، أو من جهة السند ... الخ كلامه رحمه الله. قلت: وإذا كان الاكتفاء بالظاهر مخالفاً للقياس، كان من قال به لابد أنه اطلع على سنة في هذا؛ لأن مجرد القياس قد لا يدل عليه، ومن مسح الأعلى والأسفل اجتهد برأيه قياساً على الغسل، ولا شك أن الأول
أولى، على أن قولنا مخالف للقياس هذا بحسب الفهم القاصر، وإلا فلا يوجد في الشرع ما يخالف القياس الصحيح، فإن التخفيف بالمسح على وفق القياس. وأنكر ابن حزم على المالكية كونهم يأمرون من ترك مسح أسفل الخف دون أعلاه، أن يعيد صلاته ما دام في الوقت. قال ابن حزم: " إن كان قد أدى فرض طهارته وصلاته فلا معنى للإعادة، وإن كان لم يؤدها، فيلزمه عندهم أن يصلي أبداً " (¬1). يعني في الوقت أو خارج الوقت. والحق ما قال ابن حزم. وتكلف النووي في المجموع في تأويل حديث علي، ليوافق مذهب إمامه أن المجزئ في المسح أقل ما يصدق عليه أنه مسح. قال النووي: " لو كان الدين بالرأي لكان ينبغي لمن أراد الاقتصار على أقل ما يجزئ أن يقتصر على أسفله، ولكني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اقتصر على أعلاه، ولم يقتصر على أسفله، فقوله عفى الله عنه: " لكان ينبغي لمن أراد الاقتصار على أقل ما يجزئ " هذا اللفظ من كيس النووي بلا ريب، وليست من اللفظ النبوي، ثم قال عفى الله عنه: " فليس فيه نفي استحباب الاستيعاب، وهذا كما صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح بناصيته، ولم يلزم منه نفي استحباب استيعاب الرأس، وإنما المقصود منه بيان أن الاستيعاب ليس بواجب ". قلت: ظاهر كلام النووي رحمه الله أنه ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه ¬
اكتفى بالمسح على الناصية، ولم يثبت هذا عنه، وليس هذا موضع بحثه، وحمل حديث المغيرة على الاستحباب حمل جيد لو كان الحديث صحيحاً؛ لأن الجمع أولى من الترجيح، لكن إذا ثبت أن حديث المغيرة ضعيف كما بينته، فلا داعي للجمع، فيبقى القول الأول هو الصحيح المتعين، والله أعلم.
الفصل الثالث هل يكفي غسل الخف عن مسحه
الفصل الثالث هل يكفي غسل الخف عن مسحه
الفصل الثالث هل يكفي غسل الخف عن مسحه هل يكفي غسل الخف عن مسحه، اختلف في ذلك فقيل: يكفي مع الكراهة، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، واختاره محمد بن الحسن من الحنفية (¬4). وقيل: لا يجزئ، اختاره القفال من الشافعية (¬5)، والقاضي أبو يعلى من الحنابلة (¬6). وقيل: إن مسح بيديه على الخفين حال الغسل أجزأه، وإلا فلا (¬7). ¬
دليل من قال يجزئ مع الكراهة
دليل من قال يجزئ مع الكراهة. الدليل الأول: أن الغسل خلاف المشروع، وأن المشروع هو المسح فقط. الدليل الثاني: ولأنه قد يدخل في الاعتداء بالطهور، وأقل أحواله أن يكون مكروهاً. الدليل الثالث: (89) ما رواه أحمد، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن سعيد الجريري، عن أبي نعامة، أن عبد الله بن مغفل سمع ابناً له يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض من الجنة إذا دخلتها عن يميني، قال فقال له: يا بني سل الله الجنة، وتعوذه من النار؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: سيكون من بعدي قوم من هذه الأمة يعتدون في الدعاء والطهور (¬1). [رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعاً] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ومن الاعتداء بالطهور مجاوزة الحد المشروع، وأنها من الإساءة والظلم. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (90) ما رواه أحمد، قال: ثنا يعلي، ثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثاً ثلاثاً، قال: هذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم (¬1). [رجاله ثقات إلى عمرو بن شعيب، فهو حسن عند من يحسن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده] (¬2). ولا شك أن غسل الخف زيادة على المشروع، فيكون قد أساء وتعدى وظلم بهذه الزيادة. دليل من قال لا يجزئ. (91) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يعقوب، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد (¬3). وفي رواية لمسلم: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ". فالرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر بالمسح، فلما لم يفعله لم يجزه. ¬
دليل من قال إن مسح بيده على الخفين حال الغسل أجزأ
دليل من قال إن مسح بيده على الخفين حال الغسل أجزأ. قال: إن المطلوب هو المسح، وقد حصل بإمرار اليد على الخفين. وهذا القول ربما يكون أقرب مع الكراهة؛ لأن الغسل فيه مخالفة للمشروع، ومن جهة قد يتلف الخف، لكن إن كان هناك حاجة إلى هذا الفعل ربما ترتفع الكراهة، والله أعلم.
الفصل الرابع حكم تكرار المسح على الخفين
الفصل الرابع حكم تكرار المسح على الخفين
الفصل الرابع حكم تكرار المسح على الخفين اختلف العلماء في حكم تكرار المسح على الخفين. فقيل: لا يسن تكرار المسح، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2). وقيل: يكره، هو مذهب المالكية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: يشرع تكرار المسح ثلاثاً، وهو اختيار عطاء (¬5). ¬
دليل من قال لا يسن ومن قال بكراهة التكرار
دليل من قال لا يسن ومن قال بكراهة التكرار (¬1). أولاً: لم ينقل تكرار المسح لا قولاً ولا فعلاً، وليس في الأحاديث إلا أنه مسح على خفيه، وهذا يصدق عليه بفعله مرة واحدة. ثانياً: أن تكرار المسح يحوله من مسح إلى غسل. ثالثاً: أن كل شيء فرضه المسح فشأنه التخفيف فهذا الرأس لايشرع تثليثه على الصحيح، ولايشرع تثليث المسح على الجبيرة على القول بمسحها. قال في مواهب الجليل: " وإذا كانت الجبيرة في موضع يغسل في الوضوء ثلاثاً فإنه يمسح عليها مرة واحدة لا ثلاثاً، قاله عبد الحق في النكت، قال: ودليله المسح على الخفين إنما يمسح مرة واحدة، وهو بدل عن مغسول ثلاثاً؛ وذلك لأن شأن المسح التخفيف " (¬2). دليل من قال يستحب تكرار المسح ثلاثاً. قال: إن المسح بدل عن الغسل، وإن كانت القدم تغسل ثلاثاً استحب التثليث في المسح؛ لأن البدل له حكم المبدل وأجيب: بأن هذا قياس في مقابل النص، فيكون قياساً فاسداً، ثم إن التيمم بدل عن الوضوء، ولا يشرع فيه التثليث، فالبدل له حكم المبدل في الحكم لا في الصفة، ولذلك يكتفى في مسح الخف بظاهره، ولم يجب التعميم كالأصل. ¬
الفصل الخامس هل يبدأ بالرجل اليمنى أم يمسحهما معا
الفصل الخامس هل يبدأ بالرجل اليمنى أم يمسحهما معاً
الفصل الخامس هل يبدأ بالرجل اليمنى أم يمسحهما معاً؟ اختلف العلماء في سنة المسح، وأما الفرض فكيف أتى بالمسح على ظهر القدم بكل اليد، أو ببعضه أجزأه على الصحيح (¬1). وقال ابن حزم: ما وقع عليه اسم مسح، فقد أدى فرضه إلا أن أبا حنيفة قال: لا يجزئ المسح على الخفين إلا بثلاثة أصابع (¬2). وقال الصنعاني: لم يرد في الكيفية ولا الكمية حديث يعتمد عليه، إلا حديث علي في بيان المسح، والظاهر أنه إذا فعل المكلف ما يسمى مسحاً على الخف لغة أجزأه " (¬3). وهل يمسح الخفين معاً كالأذنين، أو يسن أن يقدم اليمنى ثم اليسرى؟ فقيل: يمسح الخفين معاً، بحيث يضع أصابع يده اليمنى على مقدم خفه الأيمن، وأصابع يده اليسرى علىمقدم خفه الأيسر، ويمدهما جميعاً إلى ¬
دليل من قال يمسحان معا
الساق. وهذا مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يستحب تقديم اليمنى على اليسرى، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬3)، وظاهر مذهب من يرى مسح أسفل الخف مع أعلاه، كالمالكية والشافعية (¬4). دليل من قال يمسحان معاً. الدليل الأول: (92) ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا الثقفي، عن أبي عامر الخزاز، قال: حدثنا الحسن، عن المغيرة بن شعبة، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال، ثم جاء حتى توضأ، ومسح على خفيه، ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة حتى كأني أنظر إلى أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخفين (¬5). ¬
الدليل الثاني
[الحديث ضعيف، وسبق بحثه]. الدليل الثاني: (93) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زكريا، عن عامر، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه، قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما (¬1). فقوله: " فمسح عليهما " ولم يقل بدأ باليمنى، ولو كان مشروعاً لنقلت هذه الصفة، وحفظت؛ لأنه من شرع الله سبحانه وتعالى. وأجيب: بأن الحديث مجمل غير مبين، وليس صريحاً في التيامن، ولا في عدمه. الدليل الثالث: القياس على الأذنين، فطهارة المسح لا تيمن فيها، فكما أن الأذنين عضوان مستقلان، ومع ذلك لم يشرع التيمن فيهما، فكذلك الرجلان في حالة المسح. وأجيب: بأن الأذنين يمسحان مع الرأس، وهوعضو واحد، ولذلك لا يشرع أخذ ماء جديد لهما، بل يكفي ماء الرأس، وإذا كانا تبعاً للرأس، لم يكن هناك محل للتيامن، فلا يمكن في عضو واحد، يتيامن في بعضه، ولا يتيامن في بعضه الآخر، والله أعلم. ¬
دليل من قال تقدم اليمنى على اليسرى
دليل من قال تقدم اليمنى على اليسرى. الدليل الأول: أن المسح بدل من الغسل، والبدل له حكم المبدل، فكما أنه يشرع تقديم غسل اليمنى في الرجلين واليدين، فكذلك يشرع تقديم مسح اليمنى على اليسرى. الدليل الثاني: لم يأت نص صريح في مسح الرجلين معاً، وحيث لم يأت نص، يبقى الحكم لا يختلف عن غسلهما حتى يأت نص صريح في استحباب عدم التيامن، لأن الاستحباب حكم شرعي، يحتاج إلى نص شرعي صريح صحيح، ولم يتوفر هنا، والله أعلم.
فرع
فرع قال في الفتاوى الهندية: وإظهار الخطوط ليس بشرط في ظاهر الرواية، كذا في الزاهدي، وهكذا في شرح الطحاوي، ولكنه مستحب، هكذا في منية المصلي (¬1). (94) قلت: ربما يؤخذ استحباب إظهار الخطوط، بما رواه ابن أبي شيبة في المصنف قال: حدثنا الثقفي، عن أبي عامر الخزاز، قال: حدثنا الحسن، عن المغيرة بن شعبة، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال، ثم جاء حتى توضأ، ومسح على خفيه، ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة حتى كأني أنظر إلى أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخفين (¬2). [إسناده ضعيف، وسبق بحثه]. (95) ومن الآثار، ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، قال: رأيت الحسن بال، ثم توضأ، فمسح على خفيه مسحة واحدة على ظهورهما، قال: فرأيت أثر أصابعه على الخف. [إسناده صحيح] (¬3). ¬
(96) وبما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي العلاء، قال: رأيت قيس بن عباد بال، ثم أتى دجلة، فمسح على الخف، وفرج بينهما، فرأيت أثر أصابعه في الخف (¬1). [إسناده ضعيف، فيه أبو العلاء، وسبق بحثه]. وهل يشرع للإنسان أن يتقصد أن يظهر أثر أصابعه على خفه، وهل يؤخذ ذلك من هذه الأدلة، فيه تأمل، والذي أميل إليه عدم الاستحباب، والله أعلم. ¬
الباب الرابع خلاف العلماء في ابتداء مدة المسح
الباب الرابع خلاف العلماء في ابتداء مدة المسح
الباب الرابع خلاف العلماء في ابتداء مدة المسح لما كان الراجح من أقوال أهل العلم أن عبادة المسح على الخفين مؤقتة بوقت معين، فقد اختلف العلماء في ابتداء مدة المسح: فقيل: من أول حدث بعد لبس الخف، هو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: من أول مسح بعد الحدث، وهو رواية عن أحمد (¬4)، وهو قول الأوزاعي وأبي ثور (¬5)، واختاره ابن المنذر (¬6)، ورجحه النووي (¬7). وقيل: ابتداء المدة من اللبس، ¬
دليل من قال ابتداء المدة من أول حدث بعد لبس الخف
وهو محكي عن الحسن البصري (¬1). وقيل: يمسح خمس صلوات في اليوم والليلة، وعليه تبتدئ مدة المسح من أول صلاة صلاها، وهو قول الشعبي وأبي ثور وإسحاق (¬2). دليل من قال ابتداء المدة من أول حدث بعد لبس الخف. الدليل الأول: (97) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عاصم، عن زر بن حبيش، قال: أتيت صفوان، فقال: ما جاء بك؟ فقلت: ابتغاء العلم. فقال: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب، قلت: حك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول، وكنت امرأ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيتك أسألك عن ذلك، هل سمعت منه في ذلك شيئاً، قال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفراً، أو كنا مسافرين لا ننزع أخفافنا ثلاثة أيام بلياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم ... . الحديث (¬3). [وإسناده حسن، وسبق الكلام عليه]. وجه الاستدلال: قال ابن مفلح الصغير: " يدل بمفهومه أنه تنزع لثلاث يمضين من ¬
الدليل الثاني
الغائط " (¬1). قلت: قوله: " من غائط وبول ونوم " التفريق بين الحدث الأصغر والأكبر، فلا تنزع في الحدث الأصغر، بل يمسح عليهما، ولم يتعرض الحديث لابتداء مدة المسح، والله أعلم. الدليل الثاني: روى القاسم بن زكريا المطرز من حديث صفوان، وفيه: " من الحدث إلى الحدث " (¬2). الدليل الثالث: من القياس، قالوا: إن المسح على الخفين عبادة مؤقتة، فكان ابتداء وقتها من حين جواز فعلها، كالصلاة فإن أخر المسح بعد الحدث، فقد ترك ما أبيح له، وفوت على نفسه جزءاً من الوقت، فإن ترك ما أبيح له إلى أن جاء الوقت الذي أحدث فيه فقد تم الوقت الذي أبيح له فيه المسح، ووجب خلع الخف (¬3). الدليل الرابع: قالوا: إن الحدث سبب للمسح على الخفين، فعلق الحكم به، ولا يمكن اعتباره من وقت المسح؛ لأنه لو أحدث ولم يمسح، ولم يصل أياماً ¬
أدلة القائلين بأن المدة تبتدئ من أول مسح بعد الحدث
لا إشكال أنه لا يمسح بعد ذلك، فكان العدل في الاعتبار من وقت الحدث (¬1). أدلة القائلين بأن المدة تبتدئ من أول مسح بعد الحدث. الدليل الأول: (98) ما رواه أحمد، قال: ثنا أيوب، ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن الحكم، عن القاسم بن مخيمرة، عن شريح بن هانئ، قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن المسح، فقالت: ائت علياً رضي الله تعالى عنه، فهو أعلم بذلك مني، قال: فأتيت علياً رضي الله تعالى عنه، فسألته عن المسح على الخفين، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نمسح على الخفين يوماً وليلةً، وللمسافر ثلاثاً (¬2). (99) وما رواه أحمد، قال: ثنا إسماعيل، ثنا هشام الدستوائي، ثنا حماد، عن إبراهيم، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة بن ثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: يمسح المسافر على الخفين ثلاث ليال، والمقيم يوماً وليلةً (¬3). فقوله في الحديث " نمسح يوماً وليلة " كما في حديث علي، وقوله: " يمسح المسافر ثلاث ليال " كما في حديث خزيمة ظاهرهما يدل على أن ¬
الدليل الثاني
الوقت في ذلك وقت المسح، لا وقت الحدث. الدليل الثاني: قولكم: إن ابتداء المدة من الحدث ليس عليه دليل، فجميع أحاديث المسح على الخفين ليس للحدث ذكر في شيء منها، فلا يجوز أن يعدل عن ظاهر قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا قول غيره إلا بخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو إجماع. الدليل الثالث: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رخص للمقيم أن يمسح يوماً وليلة، فلو قلنا: إن ابتداء المدة من الحدث، لكان المسح أقل من يوم وليلة، فيكون خلاف الحديث، فلو أنه توضأ لصلاة العشاء، ثم مسح لصلاة الفجر، فإن هذا مدة مسحه يوماً وبعض ليلة، فلم يصدق عليه أنه مسح يوماً وليلة، ولا يمكن أن تكون مدة مسحه يوماً وليلة إلا إذا اعتبرنا المدة من المسح. وقولكم: إنه هو الذي فوت على نفسه المسح، فالجواب حتى لو مسح بعد حدثه لا يمكن أن تكون المدة أربعاً وعشرين ساعة؛ لأنه معلوم أن الحدث لا بد أن يسبق المسح، ولو بفترة وجيزة، فلا يتصور أن يمسح يوماً وليلة تامين إلا إذا اعتبرنا المدة من المسح. الدليل الرابع: (100) ما رواه عبد الرزاق، عن عبد الله بن المبارك، قال: حدثني عاصم بن سليمان، عن أبي عثمان النهدي، قال: حضرت سعداً وابن عمر يختصمان إلى عمر في المسح على الخفين، فقال عمر: يمسح عليهما إلى مثل ساعته
الدليل الخامس
من يومه وليلته (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). قال ابن المنذر تعليقاً على هذا الأثر: ولا شك أن عمر بن الخطاب أعلم بمعنى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ممن بعده، وهو أحد من روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المسح على الخفين، وموضعه من الدين موضعه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين بعدي "، وروي عنه أنه قال: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ". اهـ كلام ابن المنذر (¬3). الدليل الخامس: قالوا: إن القائلين بأن المدة تبتدئ من الحدث، قالوا: إذا أحدث قبل سفره، ثم سافر، فمسح في سفره، أتم مسح مسافر، ولو أحدث قبل سفره، ومسح، ثم سافر فمسح مقيم، فقد عُلِق الحكم بالمسح، ولم يعلقه بالحدث، وهذا دليل على أن المعتبر هو المسح، وليس الحدث، إلا أنهم حاولوا أن يخرجوا من هذا الإيراد، قال في الحاوي: " كل عبادة اعتبر فيها الوقت، فإن ابتداء وقتها محسوب من الوقت الذي يمكن فيها فعلها، وصفتها ¬
دليل من قال ابتداء المدة من اللبس
معتبرة بوقت أدائها كالصلاة إن كانت ظهراً فأول وقتها زوال الشمس، وصفتها في القصر والإتمام بوقت الأداء والفعل، فإن كان وقت فعلها وأدائها مسافراً قصر، وإن كان مقيماً أتم، كذلك المسح أول زمانه من وقت الحدث، لأن أول وقت الفعل وصفته في مسح المقيم والمسافر معتبر بوقت المسح (¬1). وهذا الإنفكاك لا يفكهم؛ لأننا نقول: إن كان الحكم معلقاً بالحدث أنيط الحكم به من حين الحدث، سواء سافر قبل المسح أو بعده، وإن كان الحكم معلقاً بالمسح أنيط الحكم به، فمذهبكم أن الحاضر إذا لزمه مسح الحضر كما لو مسح في الحضر، ثم سافر لم يمسح أكثر من يوم وليلة، ثم يخلع، وهذا قد لزمه حكم مسح الحضر بوقت الحدث قبل أن يسافر، فحين علقتم الحكم بالمسح تركتم أصلكم الذي أصلتموه في هذه المسألة، وهذا دليل على ضعف قول من قال: إن ابتداء المدة من الحدث. دليل من قال ابتداء المدة من اللبس. استدلوا بحديث صفوان بن عسال المتقدم، وفيه: " كان رسولنا يأمرنا إذا كنا سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم ". وسبق تخريجه. وجه الاستدلال: قوله: " لا ننزع ثلاثة أيام " جعل الثلاثة مدة للبس الخف لا مدة ¬
دليل من قال تبتدئ مدة المسح من أول صلاة صلاها إلى خمس صلوات
للمسح، ولا مدة للحدث (¬1). والجواب أن يقال: يحمل حديث صفوان على حديث غيره كحديث علي وخزيمة وغيرهما المصرحة بأن المسح ثلاثة أيام للمسافر، ويوم وليلة للمقيم، وكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - يفسر بعضه بعضاً، ولا يضرب بعضه ببعض. دليل من قال تبتدئ مدة المسح من أول صلاة صلاها إلى خمس صلوات. هذا القول حمل حديث يمسح المقيم يوماً وليلة حملوه على خمس صلوات مفروضة، وحجتهم كما ذكر ابن المنذر: " لما اختلف أهل العلم في هذا الباب نظرنا إلى أقل ما قيل، وهو أن يصلي بالمسح خمس صلوات، فقلنا به، وتركنا ما زاد على ذلك لما اختلفوا؛ لأن الرخص لا يستعمل فيها إلا أقل ما قيل، وإذا اختلفوا في أكثر من ذلك وجب الرجوع إلى الأصل، وهو غسل الرجلين. وأجيب: لو عللنا بالخلاف لتركنا المسح على الخفين؛ لأن بعض الصحابة والسلف أنكر المسح على الخفين، أو قال بأنه منسوخ بآية المائدة، فلماذا لم تقولوا بأنهم لما اختلفوا في جواز المسح على الخفين رجعنا إلى الأصل المتيقن، وهو غسل الرجلين. فإن قلتم: لأن القول بأن المسح على الخفين غير مشروع قول ضعيف. ¬
قلنا: إذاً المنهج في الخلاف اتباع القول القوي على الضعيف، والأقوى على القوي، والاحتياط باب، والقول بأنه لا يجوز الزيادة في المسح على خمس صلوات باب آخر، ولا ينبغي في ترجيح قول أو في تركه التعليل بالخلاف. فالراجح من الأقوال أن المدة تبتدئ من أول مسح بعد الحدث، وهذا القول هو الذي يصدق عليه أنه مسح يوماً وليلة، والله أعلم.
الباب الخامس في السفر وأحكام المسح على الخفين وفيه ستة فصول
الباب الخامس في السفر وأحكام المسح على الخفين وفيه ستة فصول
الفصل الأول اختلاف التوقيت بين المسافر والمقيم
الفصل الأول اختلاف التوقيت بين المسافر والمقيم اختلف العلماء هل المسح على الخفين عبادة مؤقتة أو لا؟ وعلى القول بالتوقيت، هل تختلف مدة المسافر عن المقيم أم لا؟ فقيل: إن المسح مؤقت بيوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليها للمسافر، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وهو رواية عن مالك (¬4)، واختاره ابن حزم (¬5). وقيل: لا توقيت فيه، وهو المشهور من مذهب مالك (¬6)، والقول القديم للشافعي (¬7). ¬
دليل من قال بالتوقيت.
وقيل: يمسح خمس صلوات إن كان مقيماً، ولا يمسح أكثر، ويمسح لخمس عشرة صلاة فقط إن كان مسافراً، وبه يقول إسحاق بن راهوية، وسليمان بن داود الهاشمي، وأبو ثور. وقيل: إن التوقيت يسقط في حال الضرورة، والمشقة، فالضرورة كأن يكون هناك برد شديد متى خلع تضرر، أو مع رفقة متى خلع وغسل لم ينتظروه، وخاف على نفسه (¬1). والمشقة كالبريد المجهز في مصلحة المسلمين الذي يشق اشتغاله بالخلع واللبس. واختاره ابن تيمية (¬2). دليل من قال بالتوقيت. الدليل الأول: (101) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن عمرو بن قيس، عن الحكم بن عتيبة، عن القاسم بن مخيمرة، عن شريح بن هانئ، قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين، فقالت: عليك بابن أبي طالب فاسأله؛ فإنه كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتيته، فسألته، فقال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم (¬3). ¬
الدليل الثاني
[الحديث روي مرفوعاً وروي موقوفاً، والرفع محفوظ إن شاء الله تعالى] (¬1). الدليل الثاني: (102) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عاصم، عن زر بن حبيش، قال: أتيت صفوان، فقال: ما جاء بك؟ فقلت: ابتغاء العلم. فقال: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب، قلت: حك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول، وكنت امرأ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيتك أسألك عن ذلك، هل سمعت منه في ذلك شيئاً، قال: نعم، كأن يأمرنا إذا كنا سفراً، أو كنا مسافرين لا ننزع أخفافنا ثلاثة أيام بلياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم. الحديث (¬2). [إسناده حسن] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (103) ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي ومحمد بن جعفر، قالا: ثنا شعبة، عن الحكم وحماد، عن إبراهيم، عن أبى عبد الله الجدلي، عن خزيمة بن ثابت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسح على الخفين، قال: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة (¬1). [رجاله ثقات، وأعله بعضهم بالانقطاع] (¬2). الدليل الرابع: (104) ما رواه أحمد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا داود بن عمرو، عن بسر بن عبيد الله الحضرمي، عن أبي إدريس الخولاني، عن عوف بن مالك الأشجعي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام للمسافر ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة (¬3). ¬
[إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (105) ما وراه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا المهاجر مولى البكرات، عن عبد الرحمن ابن أبي بكر، عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل للمسافر يمسح ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوماً وليلة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2) ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: الآثار الموقوفة على الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وهي وإن كانت موقوفة إلا أن لها حكم الرفع، وذلك لأن القول بالتوقيت لا يمكن أن يقال بمحض الرأي، فلا بد أن يكون القائل بذلك وقف عليه من الشرع، فما الفرق بين أربع وعشرين ساعة، وخمس وعشرين ساعة للمقيم لولا أن ذلك متلقى من الشرع، ومثله يقال في حق المسافر، وإليك هذه الآثار: الأثر الأول: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (106) رواه عبد الرزاق، عن عبد الله بن المبارك، قال: حدثني عاصم بن سليمان، عن أبي عثمان النهدي، قال: حضرت سعداً وابن عمر يختصمان إلى عمر في المسح على الخفين، فقال عمر: يمسح عليهما إلى مثل ساعته من يومه وليلته (¬1). ¬
[إسناده صحيح] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الأثر الثاني: عن ابن مسعود. (107) رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن إبراهيم، عن الحارث بن سويد، عن عبد الله بن مسعود، قال: ثلاثة أيام للمسافر، ويوم للمقيم (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬
الأثر الثالث: عن ابن عباس. (108) رواه الطحاوي، قال: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن موسى بن سلمة، قال: سألت ابن عباس رضي الله تعالى عنه عن المسح على الخفين، قال: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الأثر الرابع: عن سعد بن أبي وقاص. (109) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عائذ بن حبيب، عن ¬
دليل من قال بعدم التوقيت
طلحة بن يحيى، عن أبان بن عثمان، قال: سألت سعد بن أبي وقاص عن المسح على الخفين، فقال: ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوم وليلة للمقيم (¬1). [إسناده حسن] (¬2). دليل من قال بعدم التوقيت. الدليل الأول: (110) ما رواه الطحاوي، قال: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: ثنا موسى بن علي، عن أبيه، عن عقبة بن عامر، قال: إتردت من الشام إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فخرجت من الشام يوم الجمعة، ودخلت المدينة يوم الجمعة، فدخلت على عمر، وعلي خفان مجرمقانيان، فقال لي: متى عهدك يا عقبة بخلع خفيك؟ فقلت: لبستهما يوم الجمعة، وهذا الجمعة، فقال لي: أصبت السنة (¬3). [إسناده صحيح، وأكثر الرواة على كلمة أصبت بدون كلمة السنة] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وأجيب عن هذا الحديث بعدة إجابات: الأول: الحكم بشذوذ كلمة: " السنة " من قوله: " أصبت السنة" وممن حكم بشذوذها الدارقطني في العلل كما ذكرنا ذلك عنه في الكلام على تخريج الحديث. ويصعب الحكم بشذوذها، وقد جاءت من أكثر من طريق. وقال أبو داود في مسائل أحمد: سمعت أحمد سئل عن رجل كان يتدين بحديث عقبة بن عامر في المسح، فكان يمسح أكثر من ثلاثة ولياليهن، ثم ترك ذلك. قال أحمد: يعيد ما كان صلى، وقد مسح أكثر من ثلاثة ولياليهن. فقال له الرجل: احتياطاً ذلك يُحتاط له، أو هو واجب عليه؟ فقال أحمد: لا يمسح على خفيه أكثر من ثلاثة ولياليهن، أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى أن يتبع من قول عقبة بن عامر " (¬1). الجواب الثاني: الترجيح. أي ترجيح الأحاديث التي تقول بالتوقيت على هذه الرواية، ووجه ترجيحها على هذه الرواية من وجوه: منها: أن الرواة متفقون على كلمة: " أصبت " مختلفون في إضافة ¬
كلمة: " السنة "، وهي إضافة مؤثرة؛ لأن الاقتصار على كلمة: " أصبت" تجعل الحديث موقوفاً، بينما إذا قلنا: " أصبت السنة " جعلتها في حكم المرفوع، ولا ينبغي لمسألة مهمة جداً، تتعلق بركن من أركان الإسلام، بل هي أعظم الأركان العملية، وهي الصلاة التي مفتاحها الطهارة، أن نأخذ بهذه الكلمة المختلف في ثبوتها، وندع الأحاديث الصحيحة التي لا خلاف فيها، والمرفوعة صريحاً، وليس حكماً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأصل غسل الرجلين بالماء، جاءت الأحاديث الصحيحة بتوقيت المسح في ذلك يوماً وليلة للمقيم وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، ولا نتجاوز ذلك إلا بدليل صريح خال من النزاع، وإلا رجعنا إلى الغسل الذي هو المتيقن. ومنها: أنه قد ثبت عن عمر القول بالتوقيت بأسانيد صحيحة، وقد سقتها بالقول الأول. قال البيهقي: فإما أن يكون رجع إليه حين جاءه التثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوقيت، وإما أن يكون قوله الذي يوافق السنة المشهورة أولى " (¬1). ومنها: أن القول بالتوقيت لا سبيل فيه للاجتهاد والرأي، فهو متلقى من الشرع، بخلاف القول بعدم التوقيت. ومنها: أن الأحاديث المرفوعة الصريحة بالتوقيت أكثر عدداً، وقد سقتها من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وخزيمة، وصفوان بن عسال، وعوف بن مالك الأشجعي، وأبي بكرة الثقفي، ويعضدها جمع من الآثار الموقوفة على الصحابة، وما كان أكثر عدداً فهو أولى بالقبول. ¬
الدليل الثاني
قال ابن عبد البر عن القول بالتوقيت: " وهو الاحتياط عندي؛ لأن المسح ثبت بالتواتر، واتفق عليه جماعة أهل السنة، واطمأنت النفس إلى ذلك، فلما قال أكثرهم: لا يجوز المسح للمقيم أكثر من يوم وليلة: خمس صلوات، ولا يجوز للمسافر أكثر من ثلاثة أيام ولياليها، وجب على العالم أن يؤدي صلاته بيقين، واليقين الغسل حتى يجمعوا على المسح، ويتفق جمهورهم على ذلك، ويكون الخارج عنهم في ذلك شاذاً، كما شذ عن جماعتهم من لم ير المسح " (¬1). الجواب الثالث: الجمع. فيحمل حديث عمر على الضرورة، أو على المشقة الكبيرة، وتحمل أحاديث التوقيت فيما إذا لم يوجد ضرورة أو مشقة، وهذا اختيار ابن تيمية رحمه الله، وسيأتي نقل كلامه عند ذكر قوله إن شاء الله تعالى. الدليل الثاني: (111) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن محمد بن يزيد بن أبي زياد، عن أيوب بن قطن الكندي، عن أبي بن عمارة الأنصاري، قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد صلى في بيته للقبلتين، قال: قلت يا رسول الله أمسح على الخفين؟ قال: نعم. قال: قلت: يا رسول الله يوماً؟ قال: نعم، ويومين. قلت: يا رسول الله، يومين؟ قال: نعم، وثلاثة، قال: قلت: يا رسول الله، ¬
وثلاثة؟ قال: نعم، وما شئت (¬1). [إسناده ضعيف جداً مسلسل بالمجاهيل] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (112) ما رواه الدارقطني: قال ثنا أبو محمد بن صاعد، نا الربيع بن سليمان، حدثنا أسد بن موسى، نا حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن أبي بكر وثابت، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ أحدكم، ولبس خفيه، فليمسح عليهما، وليصل بهما، ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة (¬1). [رجاله ثقات إلا أسد بن موسى وهو صدوق وقد اختلف عليه] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الرابع
والجواب: إن كان صحيحاً فالصحيح إذا عارضه ما هو أصح منه، فإن أمكن الجمع، وإلا عمل بالأرجح، ولا شك أن أحاديث التوقيت أرجح من غيرها لكثرة رواتها، وقوة إسنادها، وقد سقت جملة من الأحاديث المرفوعة على أن المسح على الخفين عبادة مؤقتة، وسقت جملة من الآثار ذكرتها في القول الأول، والله أعلم. الدليل الرابع: استدلوا ببعض الآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم. الأثر الأول: (113) ما رواه ابن المنذر، قال: حدثنا إسحاق - يعني: ابن إبراهيم - عن عبد الرزاق، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: امسح على الخفين ما لم تخلعهما (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬
قال ابن حزم: لا حجة فيه؛ لأن ابن عمر لم يكن عنده المسح، ولا عرفه، بل أنكره حتى أعلمه به سعد بالكوفة، ثم أبوه بالمدينة في خلافته، فلم يكن في علم المسح كغيره، ومع ذلك فقد روى عنه التوقيت، (114) روينا من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن عبيد الله العرزمي، عن نافع، عن ابن عمر، قال: أين السائلون عن المسح على الخفين؟ للمسافر ثلاثاً، وللمقيم يوماً وليلة. قلت: محمد بن عبيد الله العرزمي متروك، كما في التقريب. لكن جاء بسند حسن عن ابن عمر القول بالتوقيت، (115) فقد روى ابن أبي شيبة، حدثنا هشيم، قال أخبرنا غيلان بن عبد الله مولى بني مخزوم، قال: سمعت ابن عمر سأله رجل من الأنصار عن المسح على الخفين، فقال: ثلاثة أيام للمسافر، وللمقيم يوم وليلة (¬1). [إسناده حسن] (¬2). ¬
الأثر الثاني: (116) ما رواه ابن أبي شيبة، قال حدثنا أبو بكر الحنفي، عن أسامة بن زيد، عن إسحاق مولى زائدة، أن سعد بن أبي وقاص خرج من الخلاء، فتوضأ، ومسح على خفيه، فقيل له: أتمسح عليهما، وقد خرجت من الخلاء، قال: نعم، إذا أدخلت القدمين الخفين، وهما طاهرتان، فامسح عليهما، ولا تخلعهما إلا لجنابة (¬1). [إسناده ضعيف، وقد ثبت عن سعد القول بالتوقيت] (¬2). ¬
الأثر الثالث: (117) رواه الدارقطني، قال: حدثنا أبو محمد بن صاعد، نا الربيع ابن سليمان، حدثنا أسد بن موسى، نا حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن زبيد بن الصلت، قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: إذا توضأ أحدكم، ولبس خفيه، فليمسح عليهما، وليصل فيهما، ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة (¬1). ¬
دليل من قدر التوقيت بعدد الصلوات
[سبق الكلام عليه، وبيان الاختلاف فيه على حماد في الدليل الثالث من هذا القول] الجواب على هذه الآثار: اتضح لنا أن الصحابة الذين قالوا بعدم التوقيت، نقل عنهم أيضاً القول بالتوقيت، فعمر وسعد بن أبي وقاص وابن عمر جاء عنهم القولان، وإن كان الراجح عن سعد وابن عمر القول بالتوقيت، ولم يصح عنهما القول بعدم التوقيت، ولو فرضنا أنه لم ينقل عنهم إلا قول واحد، وهو القول بعدم التوقيت، فيقابل أقوالهم بأقوال غيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، كعلي، وابن مسعود، وصفوان بن عسال، خزيمة بن ثابت، وغيرهم، وإذا اختلف الصحابة وجب الرد إلى كتاب الله، وسنة رسول - صلى الله عليه وسلم - {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} (¬1) فرجعنا إلى السنة المرفوعة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجدنا فيها جملة من الأحاديث القائلة بالتوقيت، منها حديث علي بن أبي طالب، وصفوان، وعوف بن مالك، وأبي بكرة، وخزيمة، وغيرها، فتعين الأخذ بها، وترك ما سواها، والله أعلم. دليل من قدر التوقيت بعدد الصلوات. قالوا: لما اختلف أهل العلم في هذا الباب نظرنا إلى أقل ما قيل، وهو أن يصلي بالمسح خمس صلوات، إن كان مقيماً، وخمس عشرة صلاة إن كان مسافراً، فقلنا به، وتركنا ما زاد على ذلك لما اختلفوا؛ لأن الرخص ¬
دليل من قال لا توقيت في حال الضرورة والمشقة الكبيرة
لا يستعمل فيها إلا أقل ما قيل، وإذا اختلفوا في أكثر من ذلك وجب الرجوع إلى الأصل، وهو غسل الرجلين. وهذا القول ضعيف جداً، مخالف للنص، لأن الحديث أذن للمقيم أن يمسح يوماً وليلة كاملين، بينما هم يقولون لمن مسح لصلاة الصبح، إذا صلى به العشاء لم يجز له أن يمسح، ولا أن يصلي به الوتر، فكان مدته يوماً وبعض ليلة، وهكذا يقال في الثلاثة أيام، فتبين ضعف هذا القول، كما أن الخلاف ليس سبباً في ترك القول الراجح، وإلا لزمكم ترك القول بالمسح على الخفين؛ لأنه قد اختلف فيه، فبعض السلف أنكره، وبعضهم ادعى أنه منسوخ بآية المائدة. وقد ذكر بعض مشايخنا أن هذا القول هو من قول العامة، لكن وجدنا أن القول به محفوظ لبعض العلماء كالشعبي، وإسحاق بن راهوية، وسليمان بن داود الهاشمي، وأبي ثور، والله أعلم. دليل من قال لا توقيت في حال الضرورة والمشقة الكبيرة. قال ابن تيمية: " لو كان في خلعه بعد مضي الوقت ضرر، مثل أن يكون هناك برد شديد متى خلع خفيه تضرر، كما يوجد في أرض الثلوج وغيرها، أو كان في رفقة متى خلع وغسل لم ينتظروه، فينقطع عنهم، فلا يعرف الطريق، أو يخاف إذا فعل ذلك من عدو أو سبع، أو كان إذا فعل ذلك فاته واجب، ونحو ذلك، فهنا قيل: إنه يتيمم. وقيل: إنه يمسح عليها للضرورة، وهذا أقوى؛ لأن لبسها هنا صار كلبس الجبيرة من بعض الوجوه، فأحاديث التوقيت فيها الأمر بالمسح يوماً وليلة، وثلاثة أيام ولياليهن، وليس فيها النهي عن الزيادة إلا بطريق المفهوم،
والمفهوم لا عموم له، ثم قال: " وعلى ذلك يحمل حديث عقبة بن عامر، لما خرج من دمشق إلى المدينة، يبشر الناس بفتح دمشق، ومسح أسبوعاً بلا خلع، فقال له عمر: أصبت السنة، وهو حديث صحيح، وليس الخف كالجبيرة مطلقاً فإنه لا يستوعب بالمسح بحال، ويخلع بالطهارة الكبرى، ولا بد من لبسه علىطهارة، لكن المقصود أنه إذا تعذر خلعه فالمسح أولى من التيمم (¬1). وقال أيضاً: " لما ذهبت على البريد، وجد بنا السير، وقد انقضت مدة المسح، فلم النزع والوضوء إلا بانقطاع عن الرفقة، أو حبسهم على وجه يتضررون بالوقوف، فغلب على ظني عدم التوقيت عند الحاجة، كما قلنا في الجبيرة، ونزلت حديث عمر، وقوله لعقبة بن عامر: أصبت السنة على هذا توفيقاً بين الآثار، ثم رأيته مصرحاً به في مغازي ابن عائد، أنه قد كان ذهب على البريد كما ذهبت لما فتحت دمشق، ذهب بشيرا بالفتح من يوم الجمعة إلى يوم الجمعة، فقال له عمر: منذ كم لم تنزع خفيك؟ فقال: منذ يوم الجمعة، قال: أصبت، فحمدت الله على الموافقة، وهذا أظنه أحد القولين لأصحابنا، وهو أنه إذا كان يتضرر بنزع الخف، صار بمنزلة الجبيرة ... . الخ كلامه رحمه الله (¬2). وقول الجمهور أحوط، وهو المتيقن، وحمل حديث عقبة بن عامر في حال الضرر ليس ظاهراً من اللفظ، وإذا كان على الرفقة أن ينتظروا للصلاة، كان عليهم أن ينتظروا لشروطها، وإذا كان عليهم أن ينتظرو لكي يغسل ¬
وجهه ويديه، ويمسح برأسه، فلن يعجزوا عن الانتظار لغسل قدميه، وممكن أن يخلع خفيه مسبقاً قبل الوقوف بقليل حتى لا يعيق الرفقة، ولا يقال: إن أحاديث التوقيت فيها الأمر بالمسح يوماً وليلة، وليس فيها النهي عن الزيادة إلا بطريق المفهوم؛ لأن الأصل وجوب غسل الرجلين، جاء الإذن يوماً وليلة للمقيم، وثلاثة أيام للمسافر، وما عداه يرجع للأصل المستقر المجمع عليه، وهو وجوب غسل الرجلين، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه:"ويل للأعقاب من النار" خالفنا هذا الأصل لدليل صحيح في مدة معلومة فرقاً بين المقيم والمسافر لا يتجاوزها المسلم، فمن تجاوزها فقد تجاوز حدود الله، والله أعلم.
الفصل الثاني اختلاف العلماء في مقدار المسافة للمسافر التي يسوغ فيها مسح مسافر
الفصل الثاني اختلاف العلماء في مقدار المسافة للمسافر التي يسوغ فيها مسح مسافر
الفصل الثاني اختلاف العلماء في مقدار المسافة للمسافر التي يسوغ فيها المسح اختلف العلماء في المسافة التي يسوغ فيها الترخص بالمسح ثلاثة أيام ولياليهن، إلى أقوال: فقيل: المعتبر مسيرة ثلاثة أيام للسير الوسط، بسير الإبل محملة بالأثقال، مع اعتبار النزول المعتاد للنوم والأكل والصلاة. وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: المعتبر أربعة برد، وهي ثمانية وأربعون ميلاً، وهو مذهب الجمهور من المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ¬
دليل الجمهور القائلين بأربعة برد
وقيل: مسيرة يوم وليلة، روي هذا عن مالك، وقيل: إنه رجع عنه (¬1). وقيل: أقل مسافة للترخص ثلاثة أميال. وقيل: إن مشى ميلاً قصر الصلاة، وإن مشى أقل من ميل صلى أربعاً، وهذا اختيار ابن حزم (¬2). وقيل: جوازه في كل ما يسمى سفراً عرفاً، وهو اختيار ابن تيمية. وقيل: أقوال غير ذلك. دليل الجمهور القائلين بأربعة برد. الدليل الأول: (118) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن زياد، ثنا إسماعيل الترمذي، ثنا إبراهيم بن العلاء، ثنا إسماعيل بن عياش، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه وعطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة برد، من مكة إلى عسفان (¬3). ¬
[إسناده ضعيف جداً] (¬1). والمعروف أنه من حديث ابن عباس موقوفاً عليه. (119) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، قال: أخبرني عطاء، عن ابن عباس، قال: لا تقصر الصلاة إلى عرفة، وبطن نخلة، واقصر إلى عسفان والطائف وجدة، فإذا قدمت على أهل أو ماشية فأتم (¬2). ¬
الدليل الثاني
[إسناده صحيح]. فإن قيل: أليس قول الصحابي حجة؟ قيل: بلى، بشرط ألا يخالفه مثله، فالصحابة إذا اختلفوا طلب مرجح، كما هو الحال هنا. الدليل الثاني: (120) ما أخرجه البخاري تعليقاً في كتاب تقصير الصلاة، قال البخاري: كان ابن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخاً (¬1). [صحيح عنهما] (¬2). وأجيب: بأن الصحابة مختلفون، قال ابن قدامة: " ولا أرى لما صار إليه الأئمة حجة؛ لأن أقوال الصحابة متعارضة مختلفة، ولا حجة فيها مع الاختلاف، وقد روي عن ابن عمر وابن عباس خلاف ما احتج به أصحابنا " (¬3). ¬
دليل من حدد بمسيرة ثلاثة أيام
وقال الحافظ ابن حجر: " وقد اختلف عن ابن عمر في تحديد ذلك - يعني: مسافة القصر ـ اختلافاً غير ما ذكر، فروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، أخبرني نافع، أن ابن عمر كان أدنى ما يقصر فيه الصلاة مال له بخيبر، وبين المدينة وخيبر ستة وتسعون ميلاً. وروى وكيع من وجه آخر عن ابن عمر، أنه قال: " يقصر من المدينة إلى السويداء " وبينهما اثنان وسبعون ميلاً. وروى عبد الرزاق، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، أنه سافر إلى ريم، فقصر الصلاة " قال عبد الرزاق: وهي على ثلاثين ميلاً من المدينة. (121) وروى ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن مسعر، عن محارب: سمعت ابن عمر يقول: إني أسافر الساعة من النهار، فأقصر ". وقال الثوري: سمعت جبلة بن سحيم يقول: سمعت ابن عمر يقول: لو خرجت ميلاً لقصرت الصلاة، إسناد كل منهما صحيح، وهذه أقوال متغيرة جداً، والله أعلم " اهـ (¬1). قلت: وهذه أسانيد صحيحة عن ابن عمر. دليل من حدد بمسيرة ثلاثة أيام. (122) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: قلت لأبي أسامة: حدثكم عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تسافر ¬
المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم (¬1). وأجيب: بأن العدد لا مفهوم له، فقد جاء النهي عن سفر المرأة يوماً وليلة، بلا محرم، وجاء النهي عن سفر المرأة يومين، وجاء النهي عن السفر مطلقاً إلا ومعها محرم. (123) روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا ابن أبي ذئب، قال: حدثنا سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة، ليس معها حرمة (¬2). (124) وروى مسلم، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد وعثمان بن أبي شيبة، جميعاً قال: قتيبة: حدثنا جرير، عن عبد الملك، وهو ابن عمير، عن قزعة، عن أبي سعيد، قال: سمعت منه حديثاً فأعجبني، فقلت له: أنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: فأقول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم أسمع، قال سمعته يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى، وسمعته يقول: لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو ¬
زوجها (¬1). (125) وروى البخاري، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن أبي معبد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يخلون رجل بامرأة، ولا تسافرن امرأة إلا ومعها محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وخرجت امرأتي حاجة، قال: اذهب فحج مع امرأتك (¬2). وهذا مطلق، ولم يذكر مدة، فيقتضي بحكم إطلاقه منع السفر طويله وقصيره. قال البيهقي: وهذه الروايات في الأيام الثلاثة، واليومين واليوم صحيحة، وكأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سئل عن المرأة تسافر ثلاثاً بغير محرم؟ فقال: لا وسئل عن سفرها يومين بغير محرم؟ فقال: لا. وسئل عن يوم، فقال: لا، فأدى كل منهم ما حفظ، ولا يكون شيء من هذا حداً للسفر (¬3). وقال القرطبي: " كل ما دون الثلاث داخل في الثلاث، فيصح أن يعين بعضها، ويحكم عليه بحكم جميعها، فينص تارة على الثلاث، وتارة على أقل منها؛ لأنه داخل فيها (¬4). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (126) ما رواه مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا الثوري، عن عمرو بن قيس الملائي، عن الحكم بن عتيبة، عن القاسم بن مخيمرة، عن شريح بن هانئ قال أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين، فقالت: عليك بابن أبي طالب فسله؛ فإنه كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألناه، فقال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام، ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم (¬1). فالمراد بيان حكم جميع المسافرين؛ لأن الألف واللام في المسافر للجنس، فيدخل في هذا الحكم كل مسافر سفره ثلاثة أيام، فيمسح ثلاثة أيام، أما إذا كان سفره أقل من ثلاثة أيام فلا يعد مسافراً بالمعنى الشرعي؛ لأنه لا يكرر المسح في الأيام الثلاثة (¬2). وأجيب: بأن الحديث جاء لبيان أكثر مدة المسح، فلا يصح الاحتجاج به؛ على أنه يمكن قطع المسافة القصيرة في ثلاثة أيام. (¬3). الدليل الثالث: من النظر، أن الثلاثة أقل الكثير، وأكثر القليل، ولا يجوز له القصر ¬
دليل من حدد المسافة بثلاثة أميال
في قليل السفر، فوجب أن يكون أقل الكثير، وهو الثلاث حد له (¬1). دليل من حدد المسافة بثلاثة أميال. (127) روى الإمام مسلم، قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن بشار كلاهما، عن غندر. قال أبو بكر: حدثنا محمد بن جعفر غندر، عن شعبة، عن يحيى بن يزيد الهنائي، قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ - شعبة الشاك- صلى ركعتين (¬2). وهذا من أقوى الأدلة على التحديد، ورده بعضهم: فقال: إنه مشكوك فيه، هل هو ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ؛ إذ كل واحد مشكوك فيه. قال القرطبي: ولا يوافق عليه؛ لأن الشك في الثلاثة أميال، أما الثلاثة فراسخ فليس فيها شك باعتبارها الأكثر. وقال بعضهم: إن ذلك حكاية لفعله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه قصر في هذه المسافة، وذلك لا يمنع جواز القصر في غيرها إذا كان يسمى سفراً، فليس في الحديث تحديد الترخص بهذه المسافة. وهذا الجواب، وإن كان فيه قوة، لكنه مع ذلك ليس شافياً؛ لأن السؤال عن المسافة التي يقصر فيها، وجاء الجواب بلفظ: " كان " الدالة على الاستمرار غالباً، فقال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال قصر الصلاة " مفهومه أنه إذا خرج أقل من ذلك لم يقصر، لكن القول ¬
دليل من قال يمسح في كل ما يسمى سفرا عرفا
بثلاثة فراسخ أرجح؛ لأنه هو المتيقن. وبعضهم حمل الحديث على أن المراد به المسافة التي يبتدئ منها القصر، لا غاية السفر، وهذا بعيد، قال الحافظ في الفتح: " ولا يخفى بعد هذا المحمل، مع أن البيهقي ذكر في روايته من هذا الوجه، أن يحيى بن يزيد، رواه عن أنس، قال: سألت أنساً عن قصر الصلاة، وكنت أخرج إلى الكوفة - يعني من البصرة - فأصلي ركعتين حتى أرجع، فقال أنس: .. فذكر الحديث، فظهر أنه سأل عن جواز القصر في السفر، لا عن الموضع الذي يبتدأ القصر منه، ثم إن الصحيح في ذلك أنه لا يتقيد بمسافة، بل مجاوزة البلد الذي يخرج منها " (¬1) اهـ. (128) وقد روى البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر وإبراهيم بن ميسرة، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: صليت الظهر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة أربعاً، وبذي الحليفة ركعتين (¬2). فإذا قصد الرجل سفراً، فإنه يقصر متى فارق بنيان القرية، وبحث هذه المسألة في موضع غير هذا. دليل من قال يمسح في كل ما يسمى سفراً عرفاً. الدليل الأول: قال تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا ¬
الدليل الثاني
لكم عدوا مبيناً} (¬1). وقد سقط شرط الخوف بالخبر المذكور عن يعلى بن أمية، فبقي ظاهر الآية متناول لكل ضرب (¬2). وأجيب: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى قباء، وإلى العوالي ولم يقصر الصلاة، فليس المراد بالضرب أي ضرب، بل المراد به ضرب مخصوص، بمسافة مخصوصة، وقد جاء في حديث أنس السابق كان إذا خرج ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ قصر الصلاة، ظاهره أنه لا يقصر الصلاة في كل ضرب، والله أعلم. الدليل الثاني: أن لفظ السفر في الكتاب والسنة مطلق غير مقيد بمسافة معينة. قال ابن تيمية: السفر مطلق في الكتاب والسنة، فليس الكتاب والسنة يخصان بسفر دون سفر، ولا بقصر دون قصر، ولم يحد النبي - صلى الله عليه وسلم - مسافة القصر بحد زماني، ولا مكاني، والواجب أن يطلق ما أطلقه صاحب الشرع، ويقيد ما قيده. ¬
الدليل الثالث
(129) قلت: ومن الأحاديث ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى وسعيد بن منصور وأبو الربيع وقتيبة بن سعيد - قال يحيى: أخبرنا وقال الآخرون: حدثنا - أبو عوانة عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة (¬1). (130) وما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى بن سليمان قال، حدثني بن وهب، قال حدثني عمر بن محمد أن حفص بن عاصم حدثه، قال: سافر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فقال: صحبت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم أره يسبح في السفر، وقال جل ذكره: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (¬2). فالسفر في هذه الأحاديث، وفي غيرها مطلق لم يقيد بشيء، فمن قيده بمسافة معينة، فعليه الدليل، ولا دليل. ويجاب عن هذه الأحاديث بما أجيب عنه في الآية الكريمة، وأن السفر ليس المقصود به كل سفور عن محل الإقامة، بل المراد به سفوراً معيناً، وإذا لم يصدق السفر على بعض أفراده بطل الاستدلال. الدليل الثالث: أن التقدير بابه التوقيف، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، سيما وليس له أصل يرد إليه، ولا نظير يقاس عليه. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (131) ما رواه مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب كان إذا قدم مكة صلى بهم ركعتين، ثم يقول: يا أهل مكة أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر (¬1). وإسناده صحيح، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لإهل مكة في عرفة أو مزدلفة أو منى: أتموا، وعليه فقد صلى أهل مكة بعرفة، ومزدلفة ركعتين، وهي أقل من أربعة برد. قال ابن تيمية: " وأما القصر فلا شك أنه من خصائص السفر، ولا تعلق له بالنسك، ولا مسوغ لقصر أهل مكة بعرفة وغيرها إلا أنهم سفر، وأي فرق بين سفر أهل مكة إلى عرفة وبين سفر سائر المسلمين إلى قدر ذلك من بلادهم، والله لم يرخص في السفر ركعتين إلا لمسافر، فعلم أنهم كانوا مسافرين اهـ. (132) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن عيينة، عن إسماعيل ابن أمية، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يقيم بمكة، فإذا خرج إلى منى قصر (¬2). [وإسناده صحيح]. قلت: ابن عمر ممن هاجر، فالمقصود خروجه إلى منى في الحج. ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: أن الشيء إذا كان له حقيقة شرعية قدمت على غيرها من الحقائق، كالصلاة حقيقتها اللغوية: الدعاء، والإيمان حقيقته اللغوية: التصديق لكن جاء في الشرع بيان حقيقتهما الشرعية، فقضى على حقيقتهما اللغوية. والسفر ليس له حقيقة شرعية، فتقدم، وليس له حقيقة لغوية، واللفظ إذا لم يكن له حقيقة شرعية ولا لغوية قدمت الحقيقة العرفية، فما عده الناس في عرفهم سفراً فهو سفر، وما لم يعتبره الناس سفراً فليس بسفر. وأجيب: بأن هذا الكلام جيد، ولكن تعليق الأمر بالعرف لا ينضبط، وقد يلتبس الأمر على عامة الناس، وقد يكون سبباً في تلاعب بعض الناس بفرائض الدين ممن لا يقدر الأمور بمقدارها، وأين اطراد العرف مع اتساع رقعة البلاد، وكثرة الناس، وقد كانت البلاد الإسلامية فيما سبق محدودة المكان وعدد الناس قليل، ويمكن ضبط العرف، أما الآن ففيه صعوبة. وهذ القول والذي قبله رغم ما اعترض به عليهما هما أقوى الأقوال، والله أعلم.
الفصل الثالث إذا لبس الخفين وهو مقيم ثم سافر
الفصل الثالث إذا لبس الخفين وهو مقيم ثم سافر
الفصل الثالث إذا لبس الخفين وهو مقيم ثم سافر فهل يمسح مسح مسافر أو مقيم؟ إذا لبس خفيه، وهو مقيم، ثم سافر، فله حالات: الحالة الأولى: أن يسافر بعد لبس خفيه، وقبل حدثه، فهنا يمسح مسح مسافر، لأن مجرد اللبس لا يتعلق به حكم، قال النووي: بالإجماع. الحالة الثانية: أن يحدث، وهو مقيم، ولم يمسح إلا في السفر. فقيل: يمسح مسح مسافر. وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: يمسح مسح مقيم، وهو اختيار المزني (¬2)،وهو رواية عن ¬
دليل الجمهور
أحمد (¬1). دليل الجمهور. الأول: الإجماع، نقل الإجماع ابن قدامة في المغني، قال: " لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أن من لم يمسح حتى سافر، أنه يتم مسح المسافر " (¬2). قلت: الخلاف محفوظ، عن أحمد وغيره. الدليل الثاني: من النظر، أن كل عبادة اعتبر فيها الوقت، فإن ابتداء وقتها محسوب من الوقت الذي يمكن فيها فعلها، وصفتها معتبرة بوقت أدائها كالصلاة إن كانت ظهراً، فأول وقتها زوال الشمس، وصفتها في القصر والإتمام بوقت الأداء والفعل، فإن كان وقت فعلها وأدائها مسافراً قصر، وإن كان مقيماً أتم، كذلك المسح عند الحنفية والشافعية والحنابلة أول زمانه وقت الحدث، وصفته في مسح المقيم والمسافر معتبر بوقت المسح (¬3). ¬
دليل من قال يمسح مسح مقيم
دليل من قال يمسح مسح مقيم. قال: لأن ابتداء مدة المسح عنده من الحدث، وهو موجود في الحضر، والحدث كالمسح في اعتباره من زمان المسح، قال: ألا ترى لو أنه مر عليه بعد حدثه يوم وليلة، ولم يمسح، فقد انقضت المدة، كما لو مسح. والقول الأول أقوى، وقول المزني مبني على قول ضعيف في أن مدة المسح تبتدئ من الحدث، وهو خطأ، بل الراجح أنها تبتدئ من المسح، وقد فصلت هذا القول في مسألة مستقلة. الحالة الثالثة: أحدث في الحضر، ثم سافر بعد خروج وقت الصلاة. فعند الشافعية في هذه المسألة وجهان: الأول: قالوا: يتم مسح مقيم؛ لأن خروج وقت الصلاة عنه في الحضر بمنزلة دخوله في الصلاة في وجوب الإتمام، فكذا المسح. وقيل: يتم مسح مسافر؛ لأنه تلبس بالمسح، وهو مسافر، فهو كما لو سافر قبل خروج الوقت، ويخالف الصلاة، بأن الصلاة تفوت وتقضى، فإذا فاتت في الحضر، ثبتت في الذمة صلاة حضر، فلزمه قضاؤها، والمسح لا يفوت، ولا يثبت في الذمة، فصار كالصلاة قبل فوات الوقت. اهـ والصحيح أنه يمسح مسح مسافر لا لهذا التعليل، ولكن لأنه حين أراد أن يمسح في السفر كان حكمه حكم المسافر، اعتباراً بحاله وقت المسح. الحالة الرابعة: أحدث، ومسح في الحضر، ثم سافر. فإن كان قد أكمل مسح يوم وليلة في الحضر قبل سفره، لم يكن له أن يمسح. وإن كان قد سافر قبل تمام يوم وليلة، فاختلفوا.
دليل الجمهور
فقيل: يمسح مسح مقيم، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، وروى عن إسحاق، والثوري (¬3)، ورجحه ابن حزم، بل بالغ حتى قال: يمسح ولو سافر بعد انقضاء اليوم والليلة (¬4). وقيل: يمسح مسح مسافر، وهو مذهب الحنفية (¬5)، ورواية عن أحمد (¬6). دليل الجمهور. الدليل الأول: أنها عبادة اجتمع فيها الحضر والسفر، فغلب جانب الحضر. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: ولأن المسح عبادة يختلف قدرها في الحضر والسفر، فإذا وجد أحد طرفيها في الحضر غلب حكمه؛ لأنه المتيقن. الدليل الثالث: قياساً على الصلاة، فلو أنه أحرم بالصلاة في سفينة في البلد، فسارت وفارقت البلد، وهو في الصلاة، فإنه يتمها صلاة حضر بإجماع المسلمين. الدليل الرابع: مسحات الخف، وإن كن عبادات لا يرتبط بعضها ببعض، لكن وقتها وقت واحد، بعضه مرتبط ببعض، ولا بد من بناء أحد طرفيه على الآخر، فإذا وقع بعض المدة في الحضر، وجوزنا أن يتم مسح مسافر، لكان قد وقع مسح الثلاث في الإقامة والسفر، وهو خلاف الحديث. دليل الحنفية على كونه يمسح مسح مسافر. أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جعل للمسافر أن يمسح ثلاثة أيام ولياليهن، وهذا مسافر، ولم يفرق الشرع بين مسافر ومسافر، فمن فرق فعليه الدليل. الدليل الثاني: أن المسافر إذا مسح في سفره، ثم أقام، مسح مسح مقيم، فنظرنا في حاله إلى انتهائه، وليس إلى ابتدائه، فكذلك هذا، إذا مسح، وهو مقيم، ثم سافر اعتبرنا حاله بانتهائها، وهو مسح مسافر، ولا فرق. وكل حكم تعلق بالوقت اعتبر فيه آخره، فالحائض إذا طهرت فيه تجب عليها الصلاة،
وإذا حاضت فيه سقطت عنها، والمسافر إذا أقام في آخر الوقت أتم، والمقيم إذا سافر فيه قصر، فكذلك المسح. الدليل الثالث: ولكونه سافر قبل مضي مدة المسح، فأشبه من سافر قبل أن يمسح. الدليل الرابع: ولأن العبادة المعتبر فيها وقت الأداء، فالصلاة إذا دخل وقتها، وهو مقيم، ثم سافر، صلى صلاة مسافر.
الفصل الرابع إذا مسح في السفر ثم أقام
الفصل الرابع إذا مسح في السفر ثم أقام
الفصل الرابع إذا مسح في السفر ثم أقام رجل لبس خفيه، وهو في السفر، ثم أقام، فما حكمه؟ الجواب: لا يخلو هذا الرجل إما أن يكون قد مسح في سفره أم لا. فإن كان لم يمسح في سفره حتى أقام مسح يوماً وليلة مسح مقيم، وإن كان قد مسح في سفره، فلا يخلو فإما أن يكون قد استوفى مسح يوم وليلة أم لا. فإن كان قد استوفى مسح يوم وليلة في سفره، فقد انتهت مدته، ولايصح أن يمسح في إقامته شيئاً، وإن لم يستوف مسح يوم وليلة أتم مسح مقيم، هذا مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، ممن يرى توقيت المسح. وقال المزني: إن مسح في السفر ثم أقام، فإن مسح في السفر يوماً وليلة، يمسح في الإقامة ثلث يومين وليلتين، وهو ثلثا يوم وليلة؛ لأنه لو مسح ثم أقام في الحال، مسح ثلث ما بقي، وهو يوم وليلة، فإذا بقي له يومان وليلتان، جاز له أن يمسح ثلثيهما (¬4). ¬
واختار بعض الحنابلة: أنه يمسح مسح مسافر إن كان مسح في سفره أكثر من يوم وليلة (¬1)، ولا أعلم له دليلاً. دليل الجمهور. الأول: أن هذا المسافر لما أقام أصبح حكمه حكم المقيم، ولا يجوز للمقيم أن يمسح أكثر من يوم وليلة. وثانياً: أن المسح ثلاثة أيام ولياليهن إنما هي للمسافر، فإذا انتفى السفر، انتفت الرخصة. وثالثاً: أنه اجتمع في حاله حضر وسفر، فغلب حكم الحضر احتياطاً. وهنا الحنفية قد وافقوا الشافعية والحنابلة في الحكم، وإن كانوا يختلفون في العلة، فالعلة عند الحنابلة والشافعية أن الإقامة أغلظ الحالتين: أعني حالة السفر والإقامة. والعلة عند الحنفية: أن الإقامة نهاية الحالتين، فالاعتبار بالنهاية، لا بالأغلظ، ولذلك إذا مسح، وهو مقيم، ثم سافر يختلف الحكم عند الحنابلة والشافعية من جهة، وعند الحنفية من جهة أخرى، لاختلافهم في العلة، فيمنع الشافعية والحنابلة من المسح، لأن الاعتبار للأغلظ، ويجوز الحنفية المسح؛ لأن الاعتبار بالنهاية، والله أعلم. وأما دليل المزني، فقد ذكرت تعليله مع قوله، وتعليله ضعيف جداً، ¬
وإنما ذكرته ليعلم أن المسألة ليست إجماعاً عند من يرى التوقيت. وأما مذهب المالكية فلا تتأتى هذه المسألة عند المشهور من مذهبهم؛ لأنهم لا يرون التوقيت أصلاً، فهو يمسح حتى يخلع لا فرق بين المسافر والحاضر، والله أعلم. ويلحق بهذه المسألة لو مسح أحد الخفين في الحضر، والآخر في السفر، ففيها وجهان للشافعية: الأول: يمسح مسح مقيم، تغليباً لجانب الحضر، اختاره النووي. وقيل: يتم مسح مسافر، اعتباراً بتمام المسح. ولا يتأتى هذا التفصيل على القول الراجح، لأن المعتبر في المسح وقت الأداء، فإذا مسح في الإقامة، ثم سافر أتم مسح مسافر ما دام مسافراً لما علمت (¬1). ¬
الفصل الخامس إذا شك في ابتداء المسح هل كان في السفر أم في الحضر؟
الفصل الخامس إذا شك في ابتداء المسح هل كان في السفر أم في الحضر؟
الفصل الخامس إذا شك في ابتداء المسح هل كان في السفر أم في الحضر؟ إذا شك في ابتداء المسح، هل كان في الحضر أم في السفر؟ فالحنفية لا فرق عندهم هل كان ابتداء المسح في الحضر أم في السفر؟ لأن المعتبر عندهم حاله الآن في المسح، فالعبرة بالانتهاء، لا بالابتداء، فإن كان مسافراً مسح مَسْحَ مسافر، وإن كان مقيماً أتم مسح مقيم، وقد سبق النقل عنهم، مع ذكر أدلتهم. وأما الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، الذين يقولون: يغلب جانب الحضر متى اجتمع حضر وسفر، فإن الشك مؤثر عندهم، ليعلم هل يمسح مسح مقيم أو يمسح مسح مسافر، فالمشهور عندهم أنه يمسح مسح مقيم؛ لأن الأصل غسل الرجل، والمسح رخصة، فإذا لم يتيقن شرط الرخصة، رجع إلى أصل الفرض، وهو الغسل، وإذا شك هل كان أول مسحه وقت الظهر أم وقت العصر جعله وقت الظهر؛ لأن الأصل غسل الرجلين، فلا يجوز المسح إلا فيما يتيقنه. والراجح في هذه المسألة أنه إن كان شك في ابتداء مسحه، وهو الآن مقيم، فالمسح مسح مقيم، وإن كان مسافراً مسح مسح مسافر، لأن المعتبر حالته وقت المسح، وليس المعتبر ابتداء مسحه، وأما لو شك هل مسح في الظهر أم في العصر، فإن جعله في الظهر مطلقاً، فهو أحوط، وإن أراد ¬
أن يعمل بغلبة ظنه، فله ذلك، وقد شرع التحري في السهو في الصلاة، وعمل بالظن في أمور كثيرة، منها دخول وقت الصلاة، ومنها طلوع الفجر في الإمساك للصائم، وغروب الشمس للفطر، والاستجمار، وغسل الجنابة إذا غلب على ظنه تعميم الماء، ومثلها مسائل كثيرة يكفي فيها غلبة الظن.
الفصل السادس إذا كان عاصيا بسفره هل يمسح؟
الفصل السادس إذا كان عاصياً بسفره هل يمسح؟
الفصل السادس إذا كان عاصياً بسفره هل يمسح؟ إذا كان المسافر عاصياً بسفره، فهل يمسح على الخفين أم لا؟ فقيل: يمسح مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (¬1)، واختاره ابن حزم (¬2). وقيل: لا يمسح ما زاد على اليوم والليلة مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: لا يمسح مطلقاً لا مسح مقيم، ولا مسح مسافر، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬5). وقيل: كل رخصة جازت في الحضر كالمسح على الخفين والتيمم، وأكل الميتة، فتفعل، ولو كان عاصياً بسفره، وكل رخصة تختص بالسفر، كقصر الصلاة، والفطر في رمضان، فشرطه ألا يكون عاصياً بسفره، فلا تفعل، وهذا مذهب المالكية (¬6). ¬
دليل من قال: لا يمسح
دليل من قال: لا يمسح. الدليل الأول: قوله تعالى: {من اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} (¬1). وقال تعالى {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} (¬2). قال ابن قدامة: أباح الأكل لمن لم يكن عادياً ولا باغياً، فلا يباح لباغ ولا عاد. قال ابن عباس: غير باغ على المسلمين، مفارق لجماعتهم، يخيف السبيل، ولا عاد عليهم (¬3). وأجيب: بأن المراد بالباغي: من يأكل فوق حاجته، والعادي: من يأكل هذه المحرمات، وهو يجد عنها مندوحة، فليس في الآية دليل على ما ذكرتم. وهذا قول قتادة، والحسن، ورجحه ابن جرير الطبري في تفسيره، فقال: " وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: فمن اضطر غير ... باغ بأكله ما حرم عليه من أكله، ولا عاد في أكله، وله عن ترك أكله بوجود غيره مما أحله الله له مندوحة وغنى، وذلك أن الله تعالى ذِكْرِه لم يرخص لأحد في قتل نفسه بحال، وإذ كان ذلك كذلك فلا شك أن الخارج على الإمام والقاطع الطريق وإن كانا قد أتيا ما حرم الله عليهما من خروج ¬
الدليل الثاني
هذا على من خرج عليه، وسعي هذا بالإفساد في الأرض، فغير مبيح لهما فعلهما ما فعلا مما حرم الله عليهما ما كان حرم الله عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من ذلك من قتل أنفسهما " ثم قال: فالواجب على قطاع الطريق والبغاة على الأئمة العادلة الأوبة إلى طاعة الله والرجوع إلى ما ألزمهما الله الرجوع إليه والتوبة من معاصي الله، لا قتل أنفسهما بالمجاعة فيزدادان إلى إثمهما إثما، وإلى خلافهما أمر الله خلافا " (¬1). ولاشك أن إهلاك النفس أعظم من المعصية التي من أجلها ترك الأكل، فحفظ النفس من أعظم مقاصد الشرع، وإذا تعارض ارتكاب مفسدتين، قدم ارتكاب الأخف منهما. قلت: وما نسبه ابن قدامة لابن عباس غير معروف عنه، والمعروف عن ابن عباس في قوله: {غير باغ ولا عاد} أي غير باغ في أكل الميتة ولا عاد في أكله (¬2). وقيل: فمن اضطر: أي من أكره على أكله، فلا إثم عليه. الدليل الثاني: الإجماع، نقل النووي الإجماع على أن الرجل إذا كان سفره معصية كقطع الطريق، وإباق العبد أنه لا يمسح ثلاثة أيام بلا خلاف (¬3). ¬
التعليل الثالث
ودعوى الإجماع فيها نظر؛ فإن الحنفية لا يفرقون بين العاصي بسفره، والعاصي في سفره، فكلاهما يحل له الترخص عندهم. قال في مراقي الفلاح: " فيقصر فرض الرباعي من السفر، ولو كان عاصياً بسفره، كآبق من سيده، وقاطع طريق، لإطلاق الرخصة " (¬1). التعليل الثالث: أن ما زاد على اليوم والليلة إنما يستبيحه بسبب السفر، وسفره معصية، ولا تكون الرخصة طريقاً إلى المعصية. التعليل الرابع: أن المسح على الخفين رخصة، والرخص لا تستباح بالمعاصي، وهذا يشبه الذي قبله. التعليل الخامس: أن في منعه من ترخص السفر كالمسح والقصر والفطر ونحوها تذكيراً له في أن يتوب، ويرجع عما عصى الله فيه. وأجيب: لو أنه ترك التيمم إذا احتاج لاستعمال الماء، فهو بين أن نلزمه باستعمال الماء في الطهارة ويهلك، وإهلاك النفس مفسدة كبرى لايمكن أن يأمر بها الشرع، وبين أن يترك الصلاة فلا يتيمم، ولا يغتسل، ومن ثم لا يصلي، وترك الصلاة طامة كبرى، وبين أن يتيمم ويؤدي الصلاة، ويأثم بسفره، وهو أخف الضررين، ويوافق يسر الشريعة. ¬
دليل الحنفية على جواز المسح
وسماحتها (¬1). دليل الحنفية على جواز المسح. الدليل الأول: النصوص في الكتاب والسنة مطلقة، لم تفرق بين مسافر وآخر، قال تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر} (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: " يمسح المسافر ثلاثة أيام بلياليها " فلو كان سفر المعصية غير داخل في النصوص لبينه الشرع {وما كان ربك نسياً} (¬3)، ولا يجوز تقييد ما أطلقه الله سبحانه، وأطلقه رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلا بنص أو إجماع، وما دام الإذن مطلقاً بالمسح فلا مانع أن يمسح المسافر، ولو كان عاصياً بسفره. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن السفر نفسه لا يوصف بطاعة ولا معصية، وإنما تكون المعصية أو الطاعة مما يفعل فيه، فلا يقال: سفر طائع، أو عاصي، وإنما يتصف بالطاعة والمعصية العبد بحسب أفعاله. التعليل الثالث: أن المقيم قد يكون على معصية وظلم للمسلمين وعدوان عليهم وفي ذلك ما هو أشد أحياناً من سفر المعصية بل أنكم ترون المسح على الخفين من باب الرخص، ومع ذلك تسمحون للمقيم أن يمسح، ولو كانت إقامته للمعصية، فيكون استباح الرخصة بالمعصية، فينتقض دليلكم. التعليل الرابع: القياس على من نوى سفراً مباحاً، ثم نوى المعصية بعده، فإذا كان هذا يمسح، فكذلك العاصي بسفره؛ إذ لا فرق (¬1). التعليل الخامس: قال الحنفية: نحن لا نجعل المعصية سبباً في الرخصة، وإنما السبب ¬
لحوق المشقة الناشئة من نقل الأقدام، والحر والبرد وغير ذلك، والمحظور ما يجاوره من المعصية، فكان السفر من حيث إفادته الرخصة مباحاً؛ لأن ذلك مما يقبل الإنفصال.
فرع
فرع هناك فرق بين العاصي بسفره، والعاصي في سفره، فالأول أنشأ السفر من أجل المعصية، لولا السفر لم يتمكن من فعلها، كما لو قطع الطريق، وأبق العبد، وسافر بقصد عمل الفواحش، ومنه السفر من أجل طلب علم محرم كالسحر والموسيقى وبعض الآداب المحرمة. وأما العاصي في سفره أن يكون السفر عقد من أجل أمر مباح، لكن فعل فيه أموراً محرمة، كالغيبة، وشرب الدخان، وسماع الغناء وغيرها كثير، فهذا عاص في سفره، وليس عاصياً بسفره. والعاصي في سفره له أن يترخص برخص السفر؛ لأن سفره ليس سبباً في فعل المحرم، وقد نقل الإجماع على ذلك ابن عابدين من الحنفية (¬1)، والدسوقي في حاشيته (¬2) وغيرهما. قال الصاوي من المالكية: " بخلاف المعصية في السفر، فلا تمنع اتفاقاً كالسفر لتجارة، ثم تعرض له معاص" (¬3). قال النووي: " أما العاصي في سفره، وهو من خرج في سفر مباح وقصد صحيح، ثم ارتكب معاصي في طريقه كشرب الخمر وغيره، فله الترخص بالقصر وغيره بلا خلاف؛ لأنه ليس ممنوعاً من السفر، وإنما يمنع من المعصية، بخلاف العاصي بسفره " (¬4). ¬
وجاء في حاشية العنقري: " خرج بقولنا: " العاصي بسفره " العاصي فيه، فإن له الترخص، نقله من فيروز (¬1). وقال في كشاف القناع: " ويقصر من ابتدأ سفراً، ولو عصى في سفره الجائز، كأن شرب مسكراً ونحوه، كأن زنى فيه، أو قذف، أو اغتاب؛ لأنه لم يقصد السفر لذلك " (¬2). الراجح: أنه لا فرق بين العاصي في سفره، والعاصي بسفره، فكلاهما له حق الترخص؛ حيث وجد السفر، وليس في هذا إعانة على المحرم، ولا تخفيف عن العاصي، لأن السفر من حيث هو لا يوصف بمعصية ولا طاعة، ولابن تيمية كلام طويل في مناقشة هذه الأقوال أورده بطوله لأهميته. قال ابن تيمية: " والذين قالوا: لا يثبت ذلك - يعني من الرخص - فى السفر المحرم عمدتهم قوله تعالى فى الميتة: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه} (¬3). وقد ذهب طائفة من المفسرين إلى أن الباغي: هو الباغي على الإمام الذى يجوز قتاله، والعادي: هو العادي على المسلمين: وهم المحاربون، قطاع الطريق. قالوا: فإذا ثبت أن الميتة لا تحل لهم، فسائر الرخص أولى. وقالوا: اذا اضطر العاصى بسفره أمرناه أن يتوب ويأكل، ولا نبيح له ¬
إتلاف نفسه، وهذا القول معروف عن أصحاب الشافعى وأحمد، وأما أحمد ومالك فجوزا له أكل الميتة دون القصر والفطر، قالوا: لأن السفر المحرم معصية، والرخص للمسافر إعانة على ذلك، فلا تجوز الإعانة على المعصية. قال ابن تيمية: " وهذه حجج ضعيفة، أما الآية فأكثر المفسرين قالوا المراد بالباغي: الذى يبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال، والعادي: الذى يتعدى القدر الذى يحتاج إليه، وهذا التفسير هو الصواب دون الأول؛ لأن الله أنزل هذا فى السور المكية الأنعام والنحل وفى المدينة ليبين ما يحل وما يحرم من الأكل، والضرورة لا تختص بسفر، ولو كانت فى سفر فليس السفر المحرم مختصاً بقطع الطريق والخروج على الإمام، ولم يكن على عهد النبى - صلى الله عليه وسلم - إمام يخرج عليه، ولا من شرط الخارج أن يكون مسافراً، والبغاة الذين أمر الله بقتالهم فى القرآن لا يشترط فيهم أن يكونوا مسافرين، ولا كان الذين نزلت الآية فيهم أولاً مسافرين، بل كانوا من أهل العوالي مقيمين، واقتتلوا بالنعال والجريد، فكيف يجوز أن تفسر الآية بما لا يختص بالسفر، وليس فيها كل سفر محرم، فالمذكور فى الآية لو كان كما قيل لم يكن مطابقاً للسفر المحرم؛ فإنه قد يكون بلا سفر، وقد يكون السفر المحرم بدونه، وأيضا فقوله: {غير باغ} حال من اضطر، فيجب أن يكون حال اضطراره وأكله الذى يأكل فيه، غير باغ ولا عاد؛ فإنه قال: فلا إثم عليه، ومعلوم أن الإثم إنما ينفى عن الأكل، الذى هو الفعل، لا عن نفس الحاجة إليه، فمعنى الآية: فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد، وهذا يبين أن المقصود: أنه لا يبغي فى أكله، ولا يتعدى، والله تعالى يقرن بين البغي والعدوان، فالبغى: ما جنسه ظلم، والعدوان: مجاوزة القدر المباح
كما قرن بين الإثم والعدوان في قوله: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} (¬1) فالإثم: جنس الشر. والعدوان: مجاوزة القدر المباح فالبغي من جنس الإثم. قال تعالى {وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} (¬2). وقال تعالى: {فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه} (¬3)، فإثم: جنس لظلم الورثة إذا كان مع العمد، وأما الجنف: فهو الجنف عليهم بعمد وبغير عمد، لكن قال كثير من المفسرين: الجنف الخطأ والإثم: العمد؛ لأنه لما خص الإثم بالذكر، وهو العمد بقي الداخل في الجنف الخطأ، ولفظ العدوان من باب تعدي الحدود، كما قال تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} (¬4) ونحو ذلك ومما يشبه هذا قوله: {ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا} (¬5). والإسراف: مجاوزة الحد المباح، وأما الذنوب: فما كان جنسه شر وإثم. وأما قولهم: إن هذا إعانة على المعصية فغلط؛ لأن المسافر مأمور بأن يصلي ركعتين، كما هو مأمور أن يصلي بالتيمم إذا عدم الماء فى السفر المحرم، كان عليه أن يتيمم ويصلي، وما زاد على الركعتين ليست طاعة ¬
ولا مأموراً بها أحد من المسافرين، وإذا فعلها المسافر كان قد فعل منهياً عنه، فصار صلاة الركعتين مثل أن يصلي المسافر الجمعة خلف مستوطن، فهل يصليها إلا ركعتين، وإن كان عاصياً بسفره، وإن كان إذا صلى وحده صلى أربعاً. وكذلك صومه فى السفر ليس براً، ولا مأموراً به؛ فإن النبى - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه أنه قال: ليس من البر الصيام فى السفر، وصومه إذا كان مقيماً أحب إلى الله من صيامه فى سفر محرم، ولو أراد أن يتطوع على الراحلة فى السفر المحرم لم يمنع من ذلك، وإذا اشتبهت عليه القبلة أما كان يتحرى ويصلي، ولو أخذت ثيابه أما كان يصلي عرياناً. فإن قيل: هذا لا يمكنه إلا هذا. قيل: والمسافر لم يؤمر إلا بركعتين، والمشروع فى حقه أن لا يصوم، وقد اختلف الناس لو صام، هل يسقط الفرض عنه؟ واتفقوا على أنه إذا صام بعد رمضان أجزأه، وهذه المسألة ليس فيها احتياط، فإن طائفة يقولون: من صلى أربعاً، أو صام رمضان فى السفر المحرم لم يجزئه ذلك، كما لو فعل ذلك فى السفر المباح عندهم. وطائفة يقولون: لا يجزيه إلا صلاة أربع وصوم رمضان، وكذلك أكل الميتة واجب على المضطر، سواء كان فى السفر أو الحضر، وسواء كانت ضرورته بسبب مباح أو محرم، فلو ألقى ماله فى البحر واضطر إلى أكل الميتة كان عليه أن يأكلها، ولو سافر سفراً محرماً، فأتعبه، ولو قاتل قتالاً محرماً حتى أعجزته الجراح عن القيام، صلى قاعداً. فإن قيل: فلو قاتل قتالاً محرماً هل يصلي صلاة الخوف؟ قيل: يجب عليه أن يصلي، ولا يقاتل، فإن كان لا يدع القتال المحرم، فلا نبيح له ترك الصلاة، بل إذا صلى صلاة خائف كان خيراً من
ترك الصلاة بالكلية، ثم هل يعيد؟ هذا فيه نزاع، ثم إن أمكن فعلها بدون هذه الأفعال المبطلة فى الوقت وجب ذلك عليه؛ لأنه مأمور بها، وأما إن خرج الوقت ولم يفعل ذلك ففي صحتها وقبولها بعد ذلك نزاع (¬1). فالراجح أن العاصي بسفره يقصر ويفطر، ويمسح، ويتمتع بكل رخص السفر، ولم يأت من منع بدليل قوي سالم من النزاع يصار إليه. ¬
الباب السادس في أحكام لبس الخف على الخف
الباب السادس في أحكام لبس الخف على الخف وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول خلاف العلماء في جواز المسح إذا لبس خفا على خف
الفصل الأول خلاف العلماء في جواز المسح إذا لبس خفاً على خف هل له أن يلبس خفاً على خف، اختلف العلماء في هذا، فقيل: يجوز أن يلبس خفاً على خف، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة، ورواية في مذهب مالك (¬2)، والقول القديم للشافعي (¬3). وقيل: لا يجوز، وهو رواية عن مالك (¬4)، والقول الجديد ¬
أدلة القائلين بالجواز
للشافعي (¬1). أدلة القائلين بالجواز. (133) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي إدريس، عن بلال رضي الله عنه، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الموقين والخمار (¬2). [رجاله ثقات، وأعله بعضهم بالانقطاع] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني: (134) ما رواه البيهقي في سننه، قال: أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق، ثنا أبو جعفر محمد بن محمد بن نصير الصوفي، ثنا علي بن عبد العزيز، نا الحسن بن الربيع، ثنا أبو شهاب الحناط، عن عاصم الأحول، عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح على الموقين والخمار (¬1). [عاصم الأحول لم يسمع من بلال] (¬2). ¬
الدليل الثالث: (135) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا محمد بن علي الصائغ، قال: نا المسيب بن واضح، قال: نا مخلد بن الحسين، عن هشام بن حسان، عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الموقين والخمار. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن هشام بن حسان إلا مخلد بن الحسين، تفرد به المسيب بن واضح (¬1). الدليل الرابع: أن الخف الأعلى خف ساتر، يمكن متابعة المشي عليه، أشبه المنفرد. ¬
الدليل الخامس: جاء الإذن بالمسح على الخف، ولا فرق بين أن يكون خفاً واحداً أو أكثر، ومن منع فعليه الدليل. الدليل السادس: أن الخفين بحكم الخف الواحد، فيعتبر الأعلى كالظهارة، والأسفل كالبطانة، أو أن الأسفل كاللفافة، والأعلى هو الخف. الدليل السابع: ولأن الحاجة قد تدعو إليه لا سيما في البلاد الباردة جداً، فقد لا يكفي خف واحد أو جورب واحد. الدليل الثامن: الإجماع على جواز المسح، قال المزني: لا أعلم بين العلماء في جوازه خلافاً. وقال الشيخ أبو حامد: هو قول العلماء كافة. قال الماوردي: واختيار المزني أن المسح عليه جائز، لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: يمسح المقيم يوماً وليلة (¬1). الدليل التاسع: قالوا: لأن الخف الثاني بمنزلة الجورب، فإذا كان يجوز المسح على خف لبس على الجورب، يجوز المسح على خف لبس على خف. ¬
أدلة المانعين
أدلة المانعين. الأول: أن الحاجة لا تدعو إلى لبسه في الغالب، وإنما تدعو إليه في النادر، فلا تتعلق به رخصة عامة. وأجيب: بأن الشرع يعلق الحكم بعلة منضبطة، ولذلك فالعلة في الفطر للمسافر هو السفر، وليس المشقة، وإن أصل الرخصة مراعاة المشقة، فكذلك العلة في المسح على الخفين لبسهما على طهارة، سواء كان اللابس لهما محتاجاً إلى ذلك أو غير محتاج، في زمن البرد وغيره، شق نزعه أو لم يشق. الدليل الثاني: قالوا: إن الرخصة جاءت بالمسح على خف واحد، فلا نتعداها. وأجيب: بأنه لم يأت شرط في الشرع بأن يكون الخف واحداً، وكون الفعل وقع على خف واحد؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان في بلاد الحجاز، وهي لا تحتاج إلى لبس خف على خف، ومجرد الفعل لا يكون شرطاً، مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح على الموق، وقد قدمنا قول أهل اللغة في تفسير الموق، وتصححون المسح على خف ملبوس على جورب، مع أن هذا لباس على لباس. الدليل الثالث: قالوا: مسح الخف بدل عن الرجل، والبدل لا يكون له بدل بالرأي، فالأبدال لا تقرر إلا من جهة الشرع، ولهذا لما كان التيمم بدلاً عن الماء لم يجعل للتيمم بدل.
القول الراجح
وأجيب: بأن الخف الأعلى بدل عن الرجل، لا عن الخف الأسفل، ولذا نشترط لبسه على طهارة الماء، لا على طهارة المسح كما سيأتي إن شاء الله تعالى. القول الراجح: بعد استعراض الأدلة يتبين أن القول بجواز مسح خف على خف أقوى من حيث الأدلة، وأقرب من حيث الحكمة من إباحة المسح على الخفين، وخاصة في بعض بلاد المسلمين كالبلاد التي يكون فيه البرد قارصاً، وقد لا يكفي خف واحد، أو جورب واحد، بحيث يتجمد الدم في عروق الأصابع، ومن جرب هذا عرف قدر حاجة تلك البلاد إلى لبس خف على خف، وجورب على جورب، والله أعلم.
الفصل الثاني إذا لبس الخف الثاني بعد الحدث فهل يمسح عليه
الفصل الثاني إذا لبس الخف الثاني بعد الحدث فهل يمسح عليه
الأولى
الفصل الثاني إذا لبس الخف الثاني بعد الحدث فهل يمسح عليه إذا لبس خفاً على خف على طهارة غسل الرجل، وقبل الحدث مسح على الخف الفوقاني قولاً واحداً في مذهب من أجاز المسح على الخف فوق الخف. وإذا لبس الخف الأول، ثم أحدث، ثم لبس خفاً عليه، وهو محدث، فله حالتان: الأولى: أن يكون ذلك قبل أن يمسح على الأسفل، وفيه قولان: فقيل: لا يمسح إلا على الأسفل وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وقول العراقيين من الشافعية (¬4). واختار الخرسانيون من الشافعية أنه يجوز المسح على الأعلى، ولو لبسه، وهو محدث، ما دام قد لبس الأسفل على طهارة (¬5). ¬
الثانية
تعليل الجمهور: أن من شرط جواز المسح على الخف لبسه على طهارة مائية، كما في حديث المغيرة: " دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين " وهذا قد لبس الخف، وهو محدث. وتعليل الخرسانيين: قاس الخرسانيون هذه المسألة على من لبس خفاً، ثم أحدث، ثم رقع فيه رقعة، فيجوز المسح، فكذلك الأعلى بمثابة الرقعة للأسفل، ما دام أنه قد لبس الأسفل على طهارة، وهذا القول ضعيف أيضاً. الحالة الثانية: أن يلبس الخف الأعلى بعد أن مسح على الخف الأسفل، فقيل: لا يمسح إلا على الأسفل، وهو مذهب الحنفية (¬1)،والحنابلة (¬2)، وقول في مذهب المالكية (¬3)، ووجه في مذهب الشافعية (¬4). وقيل: بل يمسح على الأعلى، وهو قول في مذهب المالكية، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬5). ¬
تعليل القائلين بجواز المسح
تعليل الجمهور. قالوا: إن الخف الأعلى لم يلبسه على طهارة مائية، وهي شرط في المسح على الخف، وليس المطلوب مطلق الطهارة، ولذلك لو كانت طهارته بالتيمم لم يمسح الخف فيها إذا وجد الماء، ولا يقال: ما دام أن التيمم مطهر فليمسح عليهما؛ لأنه يصدق عليه أنه لبسهما، وهو طاهر. وتعليل القائلين بجواز المسح. قالوا: إذا كان المسح على الخفين رافعاً للحدث، فإذا لبس الخف الأعلى بعد المسح يصدق عليه أنه أدخل رجليه الخف، وهما طاهرتان، فجاز له أن يمسح. والقول الأول أصح، وقد علمت الجواب عن تعليلهم، ولهذا يعلقون المدة بالخف الأسفل، لا بالخف الأعلى، ولو كان لبسه على طهارة المسح مؤثراً لعلق الحكم بالأعلى، فهم في مدة المسح ألغوا الخف الأعلى، وهذا دليل على ضعف القول بالمسح عليه، ويلزمهم على قولهم إلغاء التوقيت، فقبل أن تنتهي المدة، ينزع خفيه قبل انتقاض طهارته، ثم يلبسه مرة أخرى ليستأنف مدة جديدة، ويصدق عليه أنه لبسه على طهارة، وبالتالي تذهب الحكمة من القول بالتوقيت في المسح على الخفين، وهم لا يقولون بهذا، ويشترطون أن تكون الطهارة مائية، فإذا كان ذلك كذلك لزم أن تكون الطهارة مائية للخف الأعلى أيضاً إذا كان المسح سوف يتعلق به الحكم، والله أعلم.
الفصل الثالث حكم المسح إذا كان الخفان مخرقين أو أحدهما
الفصل الثالث حكم المسح إذا كان الخفان مخرقين أو أحدهما
الصورة الأولى
الفصل الثالث حكم المسح إذا كان الخفان مخرقين أو أحدهما أما على قول من يجوز مسح الخف، ولو كان مخرقاً ما دام يسمى خفاً فلا إشكال تخرق الخفان أم لا، وهو مذهب الحنفية والمالكية، وقد سبق ذكر أقوالهما في مسألة المسح على الخف المخرق. وأما على قول من يمنع المسح على الخف المخرق كالشافعية والحنابلة فللمسألة صور عندهم: الصورة الأولى: أن يكون الخفان مخرقين، الأعلى والأسفل، فيجب نزع الجميع، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وعللوا ذلك: بأنه لو انفرد كل خف ما جاز المسح عليه، فكذلك إذا اجتمعا. وقيل: يجوز المسح عليهما إن كان الخرقان في موضعين متفاوتين، ويكون أحد الخفين بمنزلة الظهارة والثاني بمنزلة البطانة، وإذا تخرقت البطانة وبقي شيء من الظهارة يستر القدم لم يمنع المسح عليه. والصحيح جواز المسح عليهما مطلقاً، سواء كان الخرقان متحاذيين أم لا، كما رجحت في مسألة المسح على الخف المخرق. ¬
الصورة الثانية
الصورة الثانية: أن يكون الأسفل مخرقاً، والأعلى سليماً، فهذا يجوز المسح عليه قولاً واحداً عند من يجيز المسح على الخف فوق الخف. وعللوا ذلك: بأن الأسفل بمنزلة اللفافة، والأعلى هو الخف. وهو القول القديم للشافعي (¬1)، والمشهور في مذهب الحنابلة (¬2). الصورة الثالثة: أن يكون الأعلى مخرقاً والأسفل صحيحاً. فقيل: إن كان الخرق مانعاً من المسح كما لوكان بمقدار ثلاثة أصابع فأكثر لم يجز المسح على الأعلى، بل يمسح على الأسفل، وهو مذهب الحنفية (¬3). وقيل: يمسح على الأسفل دون الأعلى إذا كان فيه خرق مطلقاً، وهو قول في مذهب الشافعية (¬4)، واختاره بعض الحنابلة (¬5). ووجهه: أن الأعلى لم يمكن المسح عليه لكونه مخرقاً وجب المسح على الأسفل، واعتبر الأعلى بمنزلة خرقة لف بها الخف الأسفل. ¬
وقيل: يصح المسح على الفوقاني، وهو رواية عن أحمد (¬1). وقيل: يمسح على أيهما شاء، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). ويكون الأعلى بمنزلة الظهارة، والأسفل بمنزلة البطانة، ولو تخرقت الظهارة وبقيت البطانة تستر البشرة لم يمنع من المسح عليها. وقيل: هما كنعل مع جورب، أي يمسح عليهما معاً (¬3). وقد بينت في مسألة المسح على الخف المخرق أنه يصح المسح عليه؛ لأنه لا يشترط أن يستر الخف محل الفرض. والله أعلم. ¬
الفصل الرابع إذا مسح الأعلى ثم خلعه فهل يمسح الأسفل
الفصل الرابع إذا مسح الأعلى ثم خلعه فهل يمسح الأسفل
الفصل الرابع إذا مسح الأعلى ثم خلعه فهل يمسح الأسفل إذا مسح الخف الأعلى، ثم خلعه من رجليه أو من أحدهما، فهل يمسح الخف الأسفل أم لا؟ فيه خلاف: فقيل: يكفي أن يعيد المسح على الخف الأسفل، سواء نزع خفاً واحداً أم الاثنين، فيمكن أن يمسح القدمين، ولو كان على أحدهما خف واحد، والأخرى عليها خفان. وهو مذهب الحنفية (¬1)، ومذهب المالكية كمذهب الحنفية إلا أنهم يشترطون أن يكون مسح الأسفل في الحال؛ لأن الموالاة عندهم شرط بخلاف الحنفية، فإن لم يمسح، وتأخر في المسح استأنف الوضوء (¬2). وللشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4) في هذه المسألة ثلاثة وجوه لاختلاف قولهم في معنى الخف الأعلى. فالأصح والأظهر عند الشافعية أن الجرموق بدل عن الخف، والخف بدل عن غسل الرجل، وعلى هذا فلا يلزمه نزع الأسفل، ولكن هل يكفيه مسح الخفين أم يجب أن يستأنف الوضوء بدون نزع الأسفل، قولان في ¬
مذهب الشافعية. الوجه الثاني: أن الخف الأعلى بمنزلة اللفافة، والأعلى هو الخف، فإذا نزع الأعلى، وجب نزع الأسفل؛ وهو المشهور من مذهب الحنابلة؛ لأن القول عندهم لا يجيز المسح على اللفائف، وقد سبق الكلام عليه. الوجه الثالث: أن الخف الأعلى بمنزلة الظهارة، والأسفل بمنزلة البطانة، وبناء عليه إذا خلع الأعلى لا يلزمه شيء، وأكمل المدة في الخف الأسفل؛ لأنه لو كان هناك خف صنع من طبقتين، ظهارة وبطانة، وفرض أن الظهارة تمزقت، لم يبطل المسح على البطانة، وهذا مثله. والصحيح أن خلع الأعلى يبطل مسح الأسفل؛ لأنه حين مسح تعلق الحكم به. والله أعلم.
الباب السابع مبطلات المسح على الخفين
الباب السابع مبطلات المسح على الخفين وفيه أربعة فصول
الفصل الأول خلاف العلماء إذا نزع خفيه بعد المسح وقبل تمام المدة
الفصل الأول خلاف العلماء إذا نزع خفيه بعد المسح وقبل تمام المدة إذا خلع خفيه، وهو على طهارة المسح، وقبل تمام المدة، فقيل: يجب عليه أن يغسل قدميه، ولا تشترط الموالاة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والقول الجديد للشافعي (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3). وقيل: إن غسل قدميه مباشرة، كفاه، وإن أخر حتى طال الفصل، ¬
دليل الحنفية على وجوب غسل القدم
استأنف الوضوء، لفقد شرط الموالاة، وهو مذهب المالكية (¬1). وقيل: لا شيء عليه، بل طهارته صحيحة، مالم يحدث، وهو الراجح، اختاره ابن حزم (¬2)، ورجحه ابن تيمية (¬3). وقيل: تبطل طهارته، وهو القول القديم للشافعي (¬4)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬5). دليل الحنفية على وجوب غسل القدم. قالوا: إن المانع من سراية الحدث إلى القدم استتارها بالخف، وقد زال بالنزع، فسرى الحدث السابق إلى القدمين، ولما كان قد غسل سائر ¬
أعضاء الوضوء، وبقيت القدمان فقط، فلم يجب إلا غسلهما، والموالاة عند الحنفية ليست بشرط لصحة الطهارة، فلما غسل جميع أعضاءه إلا القدمين، ثم غسل القدمين بعد نزعهما صدق عليه أنه غسل جميع ما يجب غسله، غاية ما هنالك أنه فاته سنة الموالاة، وهي ليست بشرط في مذهبهم. الدليل الثاني: (136) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد السلام بن حرب، عن يزيد الدالاني، عن يحيى بن إسحاق بن أبي طلحة، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرجل يمسح على خفيه، ثم يبدو له أن ينزع خفيه، قال: يغسل قدميه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الثالث: (137) ما رواه البيهقي، من طريق الحسن بن علي بن عفان، عن زيد بن الحباب، حدثني عبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة المسح، قال: وكان أبي ينزع خفيه، ويغسل رجليه، ويذكر عن عطاء مثل ذلك (¬1). [وهذا شاذ سنداً ومتناً] (¬2). ¬
دليل المالكية على وجوب غسل القدمين مباشرة
الدليل الرابع: أننا إذا لم نقل بغسل القدمين لزم من ذلك أن يصلي بقدمين، لا مغسولتين، ولا ممسوح عليهما، وهذ لا يصح. دليل المالكية على وجوب غسل القدمين مباشرة. دليل المالكية هو دليل الحنفية إلا أنهم اشترطوا أن يغسل رجليه ¬
دليل الحنابلة على بطلان الطهارة
مباشرة؛ لإن الموالاة عندهم شرط، وتسقط مع العذر، وكونه يوجد فاصل طويل بين أول الطهارة، وبين غسل الرجلين يعتبرون هذا من العذر الذي يسقط الموالاة، فإذا خلع خفيه وجب غسلهما فوراً؛ لأنه ليس هناك عذر في تأخير الموالاة، فلو نسي غسل قدميه فيبني باعتبار أن النسيان عذر، فالفرق بين قول الحنفية والمالكية، أن المالكية يشترطون الموالاة إلا من عذر، بخلاف الحنفية، فليست شرطاً عندهم. دليل الحنابلة على بطلان الطهارة. لا أعلم لهم دليلاً، ولكن لهم تعليل، يقولون: إن المسح أقيم مقام الغسل، فإذا زال المسح بطلت الطهارة في القدمين، وإذا بطلت في بعض الأعضاء، بطلت في جميعها؛ لأن الطهارة لا تتبعض. والقول عند الحنابلة ليس مبنياً على اشتراط الموالاة بين غسل الرجلين، وما قبلهما من أعضاء الوضوء حتى يقال: إذا غسل رجليه مباشرة هل تتحقق الموالاة أم لا، ولذلك لو توضأ، ومسح على قدميه، وقبل جفاف أعضاء الوضوء خلع خفيه، بطلت طهارته عندهم، ولا يقال: ما دام الأعضاء لم تجف اغسل قدميك؛ لأن الموالاة متحققة هنا بلا خلاف، فالعلة عندهم أنه بخلع أحد الخفين عاد الحدث إلى الرجل، فيسري إلى بقية الأعضاء، وإذا سرى وجب الاستئناف، ولو قرب الزمن، وهذا القول قد اختاره بعض التابعين. (138) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن مكحول والزهري، قالا: إذا مسح، ثم خلع، قالا: يعيد
دليل من قال طهارته صحيحة
الوضوء (¬1). [وهذا سند صحيح إليهما] (139) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل، عن ابن سيرين، قال: يعيد الوضوء (¬2). [وهذا سند صحيح إلى ابن سيرين] دليل من قال طهارته صحيحة. الدليل الأول: (140) ما رواه ابن أبي شيبة، عن ابن إدريس، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، قال: رأيت علياً بال قائماً، ثم توضأ، ومسح على نعليه، ثم أقام المؤذن، فخلعهما. زاد البيهقي: ثم تقدم، فأم الناس. [سنده صحيح] (¬3). وهذا الفعل من خليفة راشد، وهو ممن أمرنا باتباع سنته. الدليل الثاني: أن هذا الرجل قد تطهر الطهارة الشرعية، وعليه خفاه، وحكمنا بطهارته، وطهارته ثابتة بمقتضى الدليل الشرعي الصحيح، فلا تنتقض طهارته بخلع خفيه إلا بدليل شرعي مثله أو إجماع، ولا دليل هنا. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: أن خلع الخف ليس حدثاً حتى يعتبر ناقضاً للطهارة الثابتة، فليس من الأحداث المتفق عليها، ولا المختلف فيها، وإذا لم يكن حدثاً بقي طاهراً حتى يحدث. الدليل الرابع: أن هذا القول هو مقتضى القياس الصحيح، فلو كان على رجل شعر كثيف، ثم مسح شعره بحيث لا يصل إلى بشرة الرأس، ثم حلق شعره، لم تنتقض طهارته مع زوال الممسوح، فكذلك خلع الخفين. ولابن حزم مناقشة جيدة للأئمة الأربعة إلا أني كرهت نقلها حرفياً لما فيها من الألفاظ القاسية التي لا تليق في مناقشة المخالف فضلاً عن الأئمة، لذا رأيت أن اختار منها، وعفى الله عن ابن حزم، فقد كان معظماً للدليل، متبعاً له، على قسوة في عبارته غير مناسبة، قال ما معناه مناقشاً لمذهب المالكية والحنفية: أما القول بغسل الرجلين فقط، فهو باطل متيقن؛ لأنه قد كان بإقرارهم قد تم وضوؤه، وجازت له الصلاة، ثم يأمرونه بغسل الرجلين فقط، ولا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما أن يكون الوضوء الذي قد تم، قد بطل أو لم يبطل. فإن كان لم يبطل، فهذا قولنا. وإن كان قد بطل فعليه أن يبتدئ الوضوء، وإلا فمن المحال أن يكون وضوء قد تم، ثم ينتقض بعضه، ولا ينتقض البعض الآخر (¬1). ¬
الفصل الثاني إذا ظهر بعض محل الفرض ولم يخلع الخف فهل تبطل طهارته
الفصل الثاني إذا ظهر بعض محل الفرض ولم يخلع الخف فهل تبطل طهارته
الفصل الثاني إذا ظهر بعض محل الفرض ولم يخلع الخف فهل تبطل طهارته إذا ظهر بعض محل الفرض ولم يخلع الخف، فهل يبطل مسحه أم لا؟ فقيل: إن خرج أكثر عقبه بطل مسحه، وهو مذهب أبي حنيفة (¬1). وقيل: إن نزع من ظهر القدم قدر ثلاثة أصابع، انتقض مسحه، وهو اختيار أبي يوسف من الحنفية (¬2). وقيل: إن بقي من ظهر القدم مقدار ثلاثة أصابع، لم يبطل، لبقاء محل المسح، وهو اختيار محمد بن الحسن (¬3). وقيل: إن خرج أكثر القدم لساق الخف انتقض، وإلا فلا، وهو مذهب المالكية (¬4). ¬
وقيل: لو أخرجها من قدم الخف إلى الساق لم يؤثر إلا إذا كان الخف طويلاً خارجاً عن العادة، فأخرج رجله إلى موضع لو كان الخف معتاداً لظهر شيء من محل الفرض بطل مسحه، وهو مذهب الشافعية (¬1)، ورواية عن أحمد (¬2). وقيل: تبطل طهارته، وهو مذهب الحنابلة (¬3). والصحيح أن طهارته لا تبطل سواء ظهر بعض القدم أو خلع الخف، وهو مذهب ابن حزم (¬4)، ورجحه ابن تيمية (¬5). ¬
دليل من قال تبطل الطهارة بظهور أكثر القدم
دليل من قال تبطل الطهارة بظهور أكثر القدم. التعليل الأول: أن للأكثر حكم الكل، فإذا ظهر أكثر القدم، فكما لو ظهر القدم كله، فإذا كانت تبطل الطهارة بظهور القدم كله بطلت بظهور أكثر القدم. التعليل الثاني: أن المشي يتعذر بخروج أكثر القدم، فالمقصد من لبس الخف هو المشي عليه، فإذا تعذر المشي انعدم اللبس فيما قصد له. التعليل الثالث: قالوا: إن الاحتراز عن خروج القليل متعذر؛ لأنه ربما يحصل دون قصد، كما إذا كان الخف واسعاً إذا رفع القدم يخرج العقب، وإذا وضعها عادت العقب إلى مكانها، فلو قلنا بنقض المسح في مثله وقع الناس في الحرج، بخلاف الكثير فإن الاحتراز عنه ليس بمتعذر. وحيث قلنا: بطل مسحه - يعني: حكم خلع الخف، فإن كان محدثاً استأنف الطهارة، وإن كان طاهراً غسل قدميه، وكفى كما سبق في المسألة السابقة - والله أعلم. دليل من قال تبطل طهارته بظهور أكثر العقب. دليلهم هو نفس دليل القول السابق، من أنه لا يمكن المشي بهذه الصفة. ولأن الأكثر له حكم الكل. دليل من قال إذا نزع من ظهر القدم قدر ثلاثة أصابع بطل مسحه. الحنفية يقدرون الكثير بثلاثة أصابع، فالخرق في الخف إن ظهر منه مقدار ثلاثة أصابع لم يصح المسح عليه، والمسح على الخف يجزئ فيه إن مسح بثلاثة أصابع، وعليه إن نزع من ظهر القدم مقدار ثلاثة أصابع لم يصح
الدليل على قول محمد بن الحسن
المسح عندهم، وهذا القول ضعيف؛ لأنه يقابل بقول محمد بن الحسن إن بقي مقدار ثلاثة أصابع من القدم، لم تنتقض الطهارة، لبقاء محل المسح. الدليل على قول محمد بن الحسن. قال: لو قطعت رجله، وبقي من ظهر القدم مقدار ثلاثة أصابع فلبس عليه الخف جاز له أن يمسح، فكذلك إذا نزع الخف، وبقي منه مقدار ثلاثة أصابع لم يبطل المسح، لبقاء محله. دليل الشافعية. قالوا: إن من نزع الخف من قدم الخف إلى الساق، لم يبطل المسح؛ لأنه لم تظهر الرجل من الخف. دليل من قال تبطل طهارته مطلقاً. ذكرنا دليلهم في مسألة خلع الخف، فانكشاف بعض القدم، ولو كان من خرق يسير، حكمه حكم نزع الخف عندهم، وقد قدمنا دليل الحنابلة في إبطال طهارة من نزع خفه. قال ابن حزم في مناقشة هذه الأقوال: " أما من قال: إن الحكم يتعلق بأكثر القدم، فهم ليس لهم قول مطرد باعتبار الأكثر، فمرة الكثير أكثر من النصف، ومرة الثلث، ومرة الربع، ومرة شبراً في شبر، ومرة أكثر من قدر الدرهم، وهذا لا دليل عليه من قرآن، ولا سنة، ولا قياس، ولا قول صاحب، ولا رأي مطرد. وأما فرق مالك رحمه الله بين إخراج العقب إلى موضع الساق، فلاينتقض المسح، وبين إخراج القدم كلها إلى موضع الساق فينتقض المسح، فتحكم أيضاً لا يجوز القول به، ولا يوجبه قرآن ولا سنة صحيحة، ولا رأي مطرد؛ لأنه يرى أن بقاء العقب في الوضوء لا يطهر، وإن فاعل ذلك لا
وضوء له، فإن كان المسح قد انتقض عن الرجل بخروجها عن موضع القدم، فلا بد من انتقاض المسح عن العقب بخروجها عن موضعها إلى موضع الساق، لا يجوز غير ذلك، وإن كان المسح لا ينتقض عن العقب بخروجها إلى موضع الساق؛ فإنه لا ينتقض أيضاً بخروج القدم إلى موضع الساق، كما قال الشافعي. وأما تفريقهم جميعهم بين المسح على الخفين، ثم يخلعان فينتقض المسح، ويلزمه اتمام الوضوء، وبين الوضوء ثم يجز الشعر، وتقص الأظفار فلا ينتقض الغسل عن مقص الأظفار، ولا المسح على الرأس ففرق فاسد ظاهر التناقض، ولو عكس إنسان هذا القول، فأوجب مسح الرأس على من حلق شعره، ومس مجز الأظفار بالماء، ولم ير المسح على من خلع خفيه لما كان بينهما فرق. وما وجدنا لهم في ذلك متعلقاً أصلاً إلا أن بعضهم قال: وجدنا مسح الرأس وغسل القدمين في الوضوء إنما قصد به الرأس لا الشعر، وإنما قصد به الأصابع لا الأظفار، فلما جز الشعر وقطعت الأظفار بقي الوضوء بحسبه، وأما المسح فإنما قصد به الخفان، لا الرجلان، فما نزعت بقيت الرجلان لم توضآ، فهو يصلي برجلين لا مغسولتين ولا ممسوح عليهما، فهو ناقص الوضوء. قال ابن حزم: وهذا لا شيء؛ لأنه باطل وتحكم بالباطل، فلو عكس عليه قوله، فقيل له: بل المسح على الرأس وغسل الأظفار إنما قصد به الشعر والأظفار فقط، بدليل أنه لو كان على الشعر حناء، وعلى الأظفار كذلك لم يجز الوضوء، وأما الخفان فالمقصود بالمسح القدمان لا الخفان؛ لأن
الخفين لولا القدمان لم يجز المسح عليهما، فصح أن حكم القدمين الغسل، وإن كانتا مكشوفتين، والمسح إن كانتا في خفين، لما كان بين القولين فرق. ثم يقال لهم: هبكم أن الأمر كما قلتم في أن المقصود بالمسح الخفان، وبالمسح في الوضوء الرأس، وبغسل اليدين للأصابع لا للأظفار، فكان ماذا؟ أو من أين أوجب مِنْ هذا أن يعاد المسح بخلع الخفين، ولا يعاد بحلق الشعر؟ قال علي: فظهر فساد هذا القول. وأما قولهم: إنه يصلي بقدمين لا مغسولتين، ولا ممسوح عليهما فباطل، بل ما يصلي إلا على قدمين ممسوح على خفين عليهما. فبطل هذا القول كما بينا. الخ كلامه رحمه الله (¬1). فالراجح: أن خلع الخفين أو بعضهما، أو بعض الخف ليس بحدث، ولا تنتقض الطهارة، ولكن لا يمسح عليهما إذا أعاد لبسهما إلا على طهارة مائية، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أذن أن يبقى الخف على القدم إذا لبس على طهارة مائية ليمسح يوماً وليلة، وخلعها ليس حدثاً ناقضاً للطهارة، لكنه ينهي مدة المسح فيما يستقبل، ويحتاج إلى إعادة اللبس على طهارة مائية، ولو كانت إعادة لبسه ممكنة ليمسح على طهارة ممسوح عليها لم يكن للتوقيت فائدة، فقبل تمام يوم وليلة أخلع الخف، ثم أعيد لبسه لأستأنف مدة أخرى، فتذهب الحكمة من التوقيت، لكن إذا اشترطنا إعادة الخف بطهارة مائية كما لبس في الطهارة الأولى، لم نتحايل على إسقاط التوقيت، والله أعلم بالصواب. ¬
الفصل الثالث إذا انتهت مدة المسح فهل يستأنف الوضوء
الفصل الثالث إذا انتهت مدة المسح فهل يستأنف الوضوء
الفصل الثالث إذا انتهت مدة المسح فهل يستأنف الوضوء؟ إذا انتهت مدة المسح، يوماً وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر فما الحكم؟ فقيل: يكفيه غسل رجليه، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والراجح في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: يستأنف الوضوء، وهو المشهور في مذهب الحنابلة (¬3)، والقول القديم في مذهب الشافعية (¬4). وقيل: لا تبطل طهارته بانتهاء مدة المسح، وهو اختيار ابن حزم (¬5)، ورجحه ابن تيمية (¬6). وهو الصحيح. وأما المالكية فالمشهور في مذهبهم أن المسح غير مؤقت. وقد سبق ذكر الخلاف (¬7). ¬
دليل من قال يجب غسل القدمين
وهذا الخلاف هل هو مبني على اعتبار الموالاة، فلو أن المدة انتهت قبل جفاف الأعضاء، كفاه غسل القدمين، وجهان. وقيل: مبني على أن المسح هل يرفع الحدث أم لا؟ وقد حرر الخلاف في هذا القول، فإن قيل: لا يرفع الحدث عن القدمين، فقد ارتفع عن الوجه واليدين والرأس، وبقي الرجلان، فيكفيه غسلهما. وإن قلنا: يرتفع الحدث، فبالخلع عاد الحدث، والحدث لا يتبعض، فيجب إستئناف الوضوء. وقيل: مبني على أن الطهارة لا تتبعض بالنقض، وإن تبعضت بالثبوت، كالصلاة والصيام. دليل من قال يجب غسل القدمين. قال السرخسي: إذا انقضى مدة مسحه، ولم يحدث، فعليه نزع خفيه، وغسل القدمين؛ لأن الاستتار كان مانعاً في المدة، فإذا انقضى سرى ذلك الحدث إلى القدمين، فعليه غسلهما، وليس عليه إعادة الوضوء، كما لو كانت السراية بخلع الخفين " (¬1) اهـ. دليل من قال يجب إستئناف الوضوء. قالوا: إن المسح أقيم مقام الغسل في المدة، فإذا انقضت المدة بطلت الطهارة في الممسوح، وإذا بطلت الطهارة في الممسوح، بطلت في سائر الأعضاء؛ لأن الحدث لا يتبعض. ¬
دليل من قال لا تبطل طهارته
دليل من قال لا تبطل طهارته. الدليل الأول: أحاديث التوقيت للمقيم والمسافر تضمنت ابتداء وانتهاء مدة المسح، لا الطهارة، فهي تنهى أن يمسح أحدنا أكثر من يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام للمسافر، فمن قال: بأنها تدل على انتهاء مدة الطهارة، فقد قال في الحديث ما ليس فيه. الدليل الثاني: أن هذا الرجل قد تطهر بمقتضى الكتاب والسنة، فلا تنقض طهارته إلا بدليل من كتاب أو سنة، أو إجماع، ولا دليل هنا. الدليل الثالث: أن الطهارة لا ينقضها إلا حدث، وهذا قد صحت طهارته، ولم يحدث، فهو طاهر، وانتهاء مدة المسح ليس حدثاً حتى يحكم ببطلان طهارته، والأصل بقاء الطهارة. الدليل الرابع: (141) استدل بعض مشايخنا بما رواه البخاري، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب ح وعن عباد بن تميم، عن عمه أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً (¬1). ¬
الدليل الخامس
وجه الاستدلال: قال: لم يوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - الوضوء إلا على من تيقن سبب وجوبه، ولا فرق بين كون سبب الوجوب مشكوكاً فيه من حيث الواقع كما في الحديث، أو من حيث الحكم الشرعي، فإن كلاً فيه جهالة، هذا جهالة بالواقع، هل حصل أم لم يحصل، وهذا جاهل بالشرع، هل يوجبه أو لايوجبه، فالحديث دال على أن الوضوء لا ينتقض إلا باليقين، وهنا لا يقين. الدليل الخامس: القياس على من خلع خفه. (142) فقد روى ابن أبي شيبة، عن ابن إدريس، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، قال: رأيت علياً بال قائماً، ثم توضأ، ومسح على نعليه، ثم أقام المؤذن، فخلعهما. زاد البيهقي: ثم تقدم، فأم الناس. [سنده صحيح] (¬1). فإذا كان من خلع خفه لا تنتقض طهارته على الصحيح، فكذلك إذا خلع الخف لانتهاء مدة المسح، ولا فرق. وهذا القول قد اختاره ابن المنذر، وقواه النووي، ورجحه ابن حزم، وابن تيمية، وهو الصحيح. ¬
الفصل الرابع يبطل المسح مع وجود الحدث الأكبر
الفصل الرابع يبطل المسح مع وجود الحدث الأكبر
الفصل الرابع يبطل المسح مع وجود الحدث الأكبر والمقصود من بطلان المسح انتهاء مدته بموجب غسل ونحوه. وهذا بالإجماع، قال النووي: " لا يجزئ المسح على الخف في غسل الجنابة، نص عليه الشافعي، واتفق عليه الأصحاب وغيرهم، ولا أعلم فيه خلافاً لأحد من العلماء، وكذا لا يجزئ مسح الخف في غسل الحيض والنفاس، ولا في الأغسال المسنونة كغسل الجمعة والعيد وأغسال الحج وغيرها، نص عليه الشافعي، واتفق عليه الأصحاب " (¬1). وقال ابن قدامة: " جواز المسح مختص به - يعني الحدث الأصغر - ولا يجزئ المسح في جنابة، ولا غسل واجب ولا مستحب، لا نعلم في هذا خلافاً " (¬2). والدليل من السنة: (143) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عاصم، عن زر ¬
ابن حبيش، قال: أتيت صفوان، فقال: ما جاء بك؟ فقلت: ابتغاء العلم. فقال: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب، قلت: حك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول، وكنت امرأ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيتك أسألك عن ذلك، هل سمعت منه في ذلك شيئاً، قال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفراً، أو كنا مسافرين لا ننزع أخفافنا ثلاثة أيام بلياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم. الحديث (¬1). [وإسناده حسن، وسبق تخريجه]. وسبق الإشارة إلى هذا في الكلام في الشرط الثامن من شروط المسح على الخفين، وهو كون المسح في الطهارة الصغرى. ¬
الباب الثامن في أحكام المسح على العمامة
الباب الثامن في أحكام المسح على العمامة وفيه أربعة فصول
الفصل الأول خلاف العلماء في المسح على العمامة
الفصل الأول خلاف العلماء في المسح على العمامة اختلف العلماء في المسح على العمامة، فقيل: لا يجوز، هو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3). ¬
دليل الحنابلة على الجواز
وقيل: يجوز، اختاره الثوري (¬1)، والأوزاعي (¬2)، وهو المشهو من مذهب الحنابلة (¬3)، وهو مذهب الظاهرية (¬4)، وهو الصحيح. دليل الحنابلة على الجواز. الدليل الأول: (144) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن حاتم جميعاً، عن يحيى القطان، قال ابن حاتم: حدثنا يحيى بن سعيد، عن التيمي، عن بكر بن عبد الله، عن الحسن، عن ابن المغيرة بن شعبة، عن أبيه. قال بكر: وقد سمعت من ابن المغيرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فمسح بناصيته، وعلى العمامة، وعلى الخفين (¬5). ¬
الدليل الثاني
اعتراض وجواب. قالوا: إن الفرض مسحه على الناصية، وأما مسحه على العمامة فمن أجل سنة الاستيعاب، ولو ترك المسح على العمامة أجزأه، أما لو اقتصر بالمسح على العمامة، ولم يمسح شيئاً من رأسه لم يجزه. وأجيب: بأنه ثبت المسح على العمامة دون ذكر الناصية، كما سيأتي، ولم يثبت العكس، فلم يثبت أنه اقتصر في مسحه على الناصية دون العمامة. قال ابن القيم: " لم يصح عنه في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة، ولكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة" ثم قال: " وأما اقتصاره على الناصية مجردة فلم يحفظ عنه " (¬1). فإذا ثبت أنه اقتصر على العمامة في المسح، ولم يثبت أنه اقتصر على الناصية وحدها، كيف تجعل الناصية هي الفرض، والمسح على العمامة مجرد سنة، والعادة أن البعض تبع للكل، وليس الكل تبعاً للبعض فالحكم دائماً للأغلب، والقليل يتبع الكثير، والعمامة لا شك أنها أغلب الرأس، فهي الأصل. الدليل الثاني: (145) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن جعفر بن عمرو بن أمية، ¬
عن أبيه قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على عمامته، وخفيه. قال البخاري: وتابعه معمر، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن عمرو قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح هنا على العمامة، ولم يذكر الناصية، فدل على جواز الاقتصار عليها. الدليل الثالث: (146) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء، قالا: حدثنا أبو معاوية ح وحدثنا إسحق، أخبرنا عيسى بن يونس كلاهما عن الأعمش، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، عن بلال أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين والخمار (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال: أن بلالاً هنا نقل المسح على الخمار - يعني: العمامة - ولم يذكر أنه مسح معها شيئاً آخر مما يدل على جواز المسح على العمامة، ولاقتصار ¬
الدليل الرابع
عليها، وهذا وجه الشاهد. الدليل الرابع: (147) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ثور، عن راشد بن سعد، عن ثوبان، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية، فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - شكوا إليه ما أصابهم من البرد، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين (¬1). [رجاله ثقات، وأعله بعضهم بالانقطاع] (¬2). الدليل الخامس: (148) حديث سلمان، رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا داود ابن الفرات، قال: حدثنا محمد بن زيد العبدي، عن أبي شريح، عن أبي مسلم مولى يزيد بن صوحان، قال: رأيت سلمان الفارسي، ورأى رجلاً يريد أن ينزع خفيه في الوضوء، فأمره سلمان أن يمسح على خفيه وعمامته وشعره، وقال سلمان: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على خماره وخفيه (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (149) ما رواه الطبراني في المعجم الصغير، قال: حدثنا محمد بن الفضل بن الأسود النضري، حدثنا عمر بن شبة النميري، حدثنا حرمي بن عمارة، حدثنا شعبة، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة، عن عبد الرحمن بن عبد القارىء، عن أبي طلحة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فمسح على الخفين والخمار. قال الطبراني: لم يروه عن شعبة إلا حرمي تفرد به عمر بن شبة (¬1). ¬
[إسناده حسن إن كان شيخ الطبراني ليس ضعيفاً] (¬1). ¬
الدليل السابع
الدليل السابع: (150) ما رواه الخطيب، قال: أخبرنا أبو عمر عبد الواحد بن محمد بن عبد الله بن مهدى، أخبرنا محمد بن مخلد العطار، حدثنا عباس بن أبي طالب، حدثنا حسن بن الربيع، حدثنا أبو شهاب، عن عاصم، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح على الموقين والخمار (¬1). [عاصم الأحول لم يسمع من بلال] (¬2). ¬
الدليل الثامن
الدليل الثامن: (151) ما رواه الطبراني في الأوسط، من طريق جعفر النفيلي، ثنا ¬
الدليل التاسع
عفير بن معدان، عن سليم بن عامر، عن أبي أمامة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين والعمامة في غزوة تبوك (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل التاسع: من الآثار. (152) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا إسماعيل بن علية وابن نمير، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي، قال: رأيت أبا بكر يمسح على الخمار (¬3). ¬
[إسناده حسن إن سلم من عنعنة ابن إسحاق] (¬1). الأثر الثاني: عن عمر. (153) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن عمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة، قال: قال عمر: إن شئت فامسح على العمامة، وإن شئت فانزعها (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). قال ابن المنذر: لو لم يثبت الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه، لوجب القول ¬
به لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر "، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: إن يطيعوا أبا بكر وعمر فقد رشدوا "، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " (¬1). الأثر الثالث: صح المسح على العمامة من فعل أنس رضي الله عنه. (154) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن عاصم، قال: رأيت أنساً يمسح على الخفين والعمامة (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). الأثر الرابع: عن أبي أمامة. (155) رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن أبي غالب، قال رأيت أبا أمامة يمسح على العمامة (¬4). [إسناده حسن] (¬5). ¬
جواب المانعين من المسح على هذه الآثار. قال النووي: الأحاديث التي ذكر فيها المسح على العمامة فقط، وقع فيها اختصار، والمراد مسح على الناصية والعمامة، ويدل على صحة هذا التأويل أنه صرح به في حديث المغيرة كما سبق بيانه، ثم قال مستدلاً على صحة هذا التأويل: إن القرآن جاء بوجوب مسح الرأس، وجاءت الأحاديث الصحيحة بمسح الناصية مع العمامة، وفي بعضها مسح العمامة ولم تذكر الناصية، فكان محتملاً لموافقة الأحاديث الباقية، ومحتملاً لمخالفتها، فكان حملها على الاتفاق، وموافقة القرآن أولى. قال أصحابنا: وإنما حذف بعض الرواة ذكر الناصية؛ لأن مسحها كان معلوماً؛ لأن مسح الرأس مقرر، معلوم لهم، وكان المهم بيان مسح العمامة. قال الخطابي: والأصل أن الله تعالى فرض مسح الرأس، والحديث محتمل للتأويل، فلا يترك اليقين بالمحتمل، وقال هو وسائر الأصحاب: وقياس العمامة على الخف بعيد؛ لأن يشق نزعه، بخلافها، والله أعلم (¬1). ورد عليهم: بأن الظن بأن الصحابة رضوان الله عليهم اختصروا الحديث، وأنهم جاؤا بصيغة توهم أنه يجوز الاقتصار على العمامة، مع أن الاقتصار عليها لايجوز ظن لا يليق بصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد عدلهم الله في كتابه، وعدلهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسنته، وهم أدرى الناس بمقتضى اللغة ومدلولها، وما حمل الناس على هذا الظن الذي لا يليق بصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن ¬
أدلة المانعين
الإنسان قد يعتقد حكم المسألة قبل النظر في أدلتها، إما تقليداً لإمام، أو موافقة لقول الأصحاب، وبالتالي إذا جاء ما يخالف هذا الاعتقاد تكلف في التأويل غير المستساغ، وأما من يسلم قياده للدليل الشرعي فإنه يميل معه حيث ما مال، وافق من وافق، وخالف من خالف؛ لأن الحجة هو الدليل والدليل وحده، بفهم الصحابة رضوان الله عليهم، ولهذا تجد أهل الحديث أقل الناس خلافاً لسلامة المنهج، والله الموفق للصواب. أدلة المانعين. الدليل الأول: قال تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} (¬1) وحقيقته تقتضي إمساسه الماء، ومباشرته، العمامة ليس رأساً، وماسح العمامة غير ماسح برأسه، فلا تجزيه صلاته. وأجيب: بأن مسح الرأس لا ينافي إثبات المسح على العمامة بدليل آخر، وليس إثبات أحدهما مبطلاً للآخر، كما أن إثبات غسل الرجلين بقوله تعالى: {وأرجلكم إلى الكعبين} ليس مبطلاً لإثبات المسح على الخفين، هذا مع التسليم أن قوله تعالى: {وامسحوا بروؤسكم} لا يشمله المسح على العمامة، وقد يقال: إن من مسح على عمامته، فقد مسح برأسه، فمن قَبَّلَ رأس الرجل من فوق عمامته، قيل له: قبل رأسه، وكذا من مسح على العمامة. والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو المبين لكلام الله سبحانه وتعالى، وهو المفسر له، ¬
الدليل الثاني
وقد مسح النبي - صلى الله عليه وسلم - على العمامة، وأمر بالمسح عليها، وهذا يدل على أن المراد من الآية المسح على الرأس، أو حائله. ثم كيف يظن أن المسح على العمامة معارض لآية المائدة، وقد مسح أبو بكر وعمر وجمع من الصحابة رضي الله عنهم. قال ابن المنذر: كيف يجوز أن يجهل مثل هؤلاء فرض مسح الرأس، وهو مذكور في كتاب الله سبحانه وتعالى، فلولا بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم ذلك وإجازته ما تركوا ظاهر الكتاب والسنة. الدليل الثاني: الآثار متواترة في مسح الرأس، فلو كان المسح على العمامة جائزاً لورد النقل به متواتراً في وزن وروده في المسح على الخفين، فلما لم يثبت عنه مسح العمامة من جهة التواتر، لم يجز المسح عليها من وجهين: أحدهما: أن الآية تقتضي مسح الرأس، فغير جائز العدول عنه إلا بخبر يوجب العلم. والثاني: عموم الحاجة إليه، فلا يقبل في مثله إلا المتواتر من الأخبار (¬1). وأجيب: بأن خبر الآحاد يوجب العلم على الصحيح، وتثبت به الأحكام، ولايشترط أن يكون الخبر متواتراً حتى يقبل، وما كان معروفاً عند السلف رد خبر الآحاد إذا كان السند إليه صحيحاً غير معارض بأقوى منه لكونه من ¬
الدليل الثالث
أخبار الآحاد، وإنما جاء الكلام فيه من أهل البدع، وممن ردوا الأخبار الصحيحة لمعارضته لأفهامهم السقيمة، بل إن مصطلح التواتر والآحاد مصطلح حادث، وصدق القائل: وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم. وليس هذا موضع الاستدلال على قبول خبر الآحاد، ولا على تناقض أصحاب هذا القول، وقبولهم في مواضع كثيرة ما ردوه في موضع آخر. الدليل الثالث: (156) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا أبو بكر بن خلاد الباهلي، حدثني مرحوم بن عبد العزيز العطار، حدثني عبد الرحيم بن زيد العمي، عن أبيه، عن معاوية بن قرة، عن ابن عمر قال: توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة واحدة، فقال: هذا وضوء من لا يقبل الله منه صلاة إلا به. الحديث قطعة من حديث طويل (¬1). وجه الاستدلال: قال الجصاص: معلوم أنه مسح برأسه؛ لأن مسح العمامة لا يسمى وضوءاً، ثم نفى جواز الصلاة إلا به. وأجيب: أولاً: أن الحديث ضعيف جداً فيه عبد الرحيم بن زيد العمي، وهو ¬
متروك، زيد العمي، وهو ضعيف، ومعاوية لم يدرك ابن عمر (¬1). ¬
ثانياً: مسح الخفين لا يسمى وضوءاً، ولم يمنع الحديث من المسح على الخفين، ولا من المسح على الجبيرة، فكذلك لا يمنع على فرض ثبوته من المسح على العمامة. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: من النظر، قالوا: إن الرأس عضو طهارته المسح، فلم يجز المسح على حائل دونه كالوجه واليد في التيمم فرضه المسح، فلم يجز على حائل دونه، وهذا مجمع عليه. وأجيب: هذا قياس في مقابلة النص فلا يعتبر، والأمور في مثل هذا لا يجري فيها القياس، فالرجلان فرضهما الغسل، ويجوز المسح عليهما، والذراع فرضه الغسل، وحين لم يتمكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من إخراجه لغسله لضيق كمه نزع يده من كمه وغسله، ولم يمسح عليه. وقد يقابل هذا القياس بقياس مثله، فيقال: الرأس عضو يسقط فرضه بالتيمم، فجاز المسح على حائله كالقدمين. الدليل الخامس: (157) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن عبد العزيز بن مسلم، عن أبي معقل، عن أنس بن مالك، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة، فمسح مقدم رأسه، ولم ينقض العمامة (¬1). ¬
وأجيب عن هذا الحديث: أولاً: إسناده ضعيف (¬1). ثانياً: وعلى فرض صحته، فإنه لا يعارض المسح على العمامة. قال ابن المنذر: لأن المسح على العمامة ليس بفرض لا يجزئ غيره، ولكن المتطهر إن شاء مسح برأسه، وإن شاء على عمامته، كالماسح على الخفين، المتطهر بالخيار، إن شاء غسل رجليه، وإن شاء مسح على خفيه (¬2) اهـ. ¬
الدليل السادس
ثالثاً: قال ابن القيم: " مقصود أنس به أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينقض عمامته حتى يستوعب مسح الشعر كله، ولم ينف التكميل على العمامة، وقد أثبته المغيرة بن شعبة وغيره، فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه " (¬1). اهـ وهذه الأجوبة جيدة لو كان الحديث صحيحاً، وما دام أنه لم يصح فلا نتكلف الإجابة عنه. الدليل السادس: (158) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، قال: بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ، وعليه العمامة، يؤخرها عن رأسه، ولا يحلها، ثم مسح برأسه، فأشار الماء بكف واحد على اليافوخ قط، ثم يعيد العمامة (¬2). [ضعيف] (¬3). وأجيب: هذا الحديث مرسل، قال يحيى بن سعيد القطان: مرسلات مجاهد ¬
الدليل السابع
أحب إلي من مرسلات عطاء بكثير، كان عطاء يأخذ عن كل ضرب. وقال أحمد: ليس في المرسلات شيء أضعف من مرسلات الحسن وعطاء؛ فإنهما كانا يأخذان عن كل أحد. الدليل السابع: من الآثار. (159) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان لا يمسح على العمامة (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الأثر الثاني، عن جابر رضي الله عنه. (160) رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا إسماعيل بن علية، عن عباد بن إسحاق (عبد الرحمن بن إسحاق) عن أبي عبيد بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: سألت جابراً عن المسح على العمامة، فقال: أمس الماء الشعر (¬3). [إسناده حسن] (¬4). ¬
وسوف يأتي إن شاء الله تعالى عن عائشة وصفية بنت عبيد في المسح على الخمار نحو هذا. قال ابن المنذر: وليس في إنكار من أنكر المسح على العمامة حجة؛ لأن أحداً لا يحيط بجميع السنن، ولعل الذي أنكر ذلك لو علم بالسنة لرجع ¬
إليها، بل غير جائز أن يظن مسلم ليس من أهل العلم غير ذلك، فكيف من كان من أهل العلم، ولا يجوز أن يظن بالقوم غير ذلك، وكما لم يضر إنكار من أنكر المسح على الخفين، ولم يوهن تخلف من تخلف عن القول بذلك إذا أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسح على الخفين، كذلك لا يوهن تخلف من تخلف عن القول بإباحة المسح على العمامة. والراجح من هذا الخلاف بعد النظر في أدلة كل قول، نجد القول بالمسح على العمامة أقوى دليلاً من حيث الأثر، والله أعلم.
الفصل الثاني خلاف العلماء في المسح على الخمار
الفصل الثاني خلاف العلماء في المسح على الخمار
الفصل الثاني خلاف العلماء في المسح على الخمار اختلف العلماء في مسح المرأة على الخمار، فقيل: تمسح كما يمسح الرجل على العمامة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1)، ورجحه ابن حزم (¬2). وقيل: لا تمسح، وهو مذهب الجمهور (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: إن خافت من البرد ونحوه مسحت، مال إليه ابن تيمية (¬5). ¬
دليل من قال لا تمسح
دليل من قال لا تمسح. الدليل الأول: كل دليل استدلوا به في المنع من المسح على العمامة استدلوا به في المنع من مسح الخمار. ولكل جواب قيل عن استدلالهم هناك، يقال لهم هنا. الدليل الثاني: جاء الإذن بالمسح على العمامة، أما المسح على الخمار فلم يأت دليل في المسح عليه، والأصل المنع. وأجيب: بأن العمامة تسمى خماراً، كما جاء في الأحاديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح على العمامة والخمار، راجعها في مسألة المسح على العمامة، فإذا كانت العمامة تسمى خماراً فخمار المرأة داخل في العموم اللفظي لكلمة عمامة، فلم يتعلق الحكم بالمسمى؛ لأن العمامة تسمى خماراً، ولا مانع من تسمية خمار المرأة عمامة إلا أنها خاصة بالمرأة؛ لأن كلاً منهما تخمر الرأس: أي تغطيه، ثم إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: لا يمسح إلا على العمامة، ولو قال هذا لربما سلم ما تقولون، لكن علمنا بمسحه على العمامة أنه يجوز المسح ¬
الدليل الثالث
على كل ما غطى الرأس، حتى الخضاب الذي على الرأس، والحناء ونحوهما إذا خمر رأس المرأة جاز المسح عليه، فمباشرة الرأس بالماء ليست فرضاً، والله أعلم بالصواب. الدليل الثالث، من الآثار. (161) روى البيهقي في السنن الكبرى، من طريق ابن وهب، أخبرك ابن لهيعة وعمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله، عن أم علقمة مولاة عائشة رضي الله عنها، عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت إذا توضأت تدخل يدها من تحت الرداء، تمسح برأسها كله " (¬1). [إسناده حسن] (¬2). ¬
دليل من قال تمسح
الأثر الثاني: (162) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن مالك بن أنس، عن نافع، قال: رأيت صفية بنت أبي عبيد توضأت، فأدخلت يدها تحت خمارها، فمسحت بناصيتها (¬1). [إسناده صحيح]. وأجيب: بأن المسح على الخمار ليس بواجب حتى يقال بأن في هذا دليلاً على أنه لا يجوز المسح على الخمار، بل المرأة في الخيار إن شاءت مسحت على رأسها، وإن شاءت مسحت على خمارها كالمسح على الخفين، ولو ورد عنهن المنع من المسح على الخمار لقيل: إن قولهما معارض بفعل أم سلمة رضي الله عنها، وقد جاء عنها المسح على الخمار. دليل من قال تمسح. الدليل الأول: القياس الجلي على العمامة، فلا فرق بين العمامة والخمار. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: ما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء، والعكس إلا ما دل الدليل باختصاصه بأحدهما، ولذلك فالنساء داخلات في قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} (¬1) مع أن المأمور في الآية الرجال. الدليل الثالث: (163) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبيد الله بن نمير، عن سفيان، عن سماك، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة أنها كانت تمسح على الخمار (¬2). [إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬3). ¬
الراجح من هذا الخلاف: بعد استعراض أدلة الفريقين، وبعد مناقشة الأدلة السابقة يتبين لي أن القول بجواز المسح على الخمار أرجح، وهو إما داخل في العموم اللفظي من جواز المسح على العمامة، وإما مقيس عليها بجامع أن كلاً منهما غطاء على الرأس، يشق نزعه. والله أعلم. ¬
الفصل الثالث خلاف العلماء في المسح على القلانس
الفصل الثالث خلاف العلماء في المسح على القلانس
الفصل الثالث خلاف العلماء في المسح على القلانس (¬1). اختلف العلماء في المسح على القلانس، فقيل: لا يمسح عليها، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3) والشافعية (¬4)،والحنابلة (¬5). وقيل: يمسح عليها، هو رواية عن أحمد (¬6)، ومذهب ابن حزم (¬7). ¬
دليل من قال لا يمسح
وقيل: يمسح إن كانت مشدودة تحت حلقه، وهو رواية عن أحمد (¬1). دليل من قال لا يمسح. قالوا: الأصل وجوب مسح الرأس، لقوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} (¬2) وعدل عن الأصل في العمامة لورود النص بها. التعليل الثاني: قالوا: إنه لا يشق نزعها، فليست محنكة، ولا ذؤابة لها. قال ابن المنذر: " ولا نعلم أحداً قال بالمسح على القلنسوة، وقد روينا عن أنس أنه مسح عليها " (¬3). قلت: قد علمت أن الإمام أحمد قد قال بالمسح على القلنسوة في رواية عنه. دليل القائلين بالمسح. الدليل الأول: (164) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن الأعمش، عن سعيد ابن عبد الله بن ضرار، قال: رأيت أنس بن مالك أتى الخلاء، ثم خرج وعليه قلنسوة بيضاء مزرورة فمسح على القلنسوة وعلى جوربين له مرعزاً أسودين ثم صلى (¬4). ¬
الدليل الثاني
[إسناده فيه لين] (¬1). الدليل الثاني: (165) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن ابن أبي عروبة، عن أشعث، عن أبيه، أن أبا موسى خرج من الخلاء، فمسح على قلنسوته (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). وفعل الصحابي إذا لم يعارض نصاً مرفوعاً، ولم يخالفه صحابي مثله، فهو حجة؛ لأن فهمهم أولى من فهمنا، وعلمهم أكمل من علمنا، وإصابتهم للحق أقرب من غيرهم، ونحن مأمورون باتباع سبيلهم، فإذا نقل الخلاف بينهم كان على الإنسان أن يتحرى أقربها للحق. الدليل الثالث: قالوا: بأن القلنسوة ملبوس معتاد يستر الرأس، فأشبه العمامة، ولم نشترط أن تكون محنكة أو ذات ذؤابة كما لا نشترطه في العمامة - وسوف تأتي مناقشة هذا الشرط إن شاء الله تعالى - قال أبو بكر الخلال: إن مسح إنسان على القلنسوة لم أر به بأساً، لأن أحمد قال في رواية الميموني: أنا ¬
دليل من قال يشترط أن تكون مشدودة تحت الحلق
أتوقاه، وإن ذهب إليه ذاهب لم يعنفه. قال الخلال: وكيف يعنفه؟ وقد روي عن رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأسانيد صحاح، ورجال ثقات، فروى الأثرم بإسناده عن عمر أنه قال: إن شاء حسر عن رأسه، وإن شاء مسح قلنسوته وعمامته. وروى بإسناده عن أبي موسى أنه خرج من الخلاء فمسح على القلنسوة (¬1) اهـ. قلت: وثبت عن أنس بن مالك أيضاً، وقد خرجته عنه. الدليل الرابع: قالوا: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: لا تمسحوا إلا على العمامة والخمار، حتى يمكن أن يقال: لا يجوز المسح على حائل إلا إذا كان عمامة أو خماراً، فحين مسح على العمامة علمنا أن مباشرة الرأس بالماء ليست فرضاً. دليل من قال يشترط أن تكون مشدودة تحت الحلق. قالوا: إن القلنسوة إذا لم تكن مشدودة لا يشق نزعها، فأشبهت الكوفية (الطاقية) أما إذا كانت مشدودة فحينئذ تشبه العمامة بمشقة النزع، فجاز المسح عليها، والشارع لا يفرق بين متماثلين، كما لا يجمع بين متفرقين، وأثر أنس الوارد أنه مسح على قلنسوة مزرورة، والمزرور: هو المشدود بالزرار، وإذا كان كذلك فإنها تشبه العمامة بمشقة النزع. هذه غالب أدلة الأقوال الثلاثة، والقول بالجواز قول قوي جداً، والقول باشتراط أن تكون مشدودة فيه احتياط، والله أعلم. ¬
الفصل الرابع في شروط المسح على العمامة
الفصل الرابع في شروط المسح على العمامة
الشرط الأول في اشتراط التحنيك أو الذؤابة في العمامة
الشرط الأول في اشتراط التحنيك أو الذؤابة في العمامة
دليل الحنابلة
الشرط الأول في اشتراط التحنيك أو الذؤابة في العمامة اختلف العلماء في اشتراط التحنيك أو كون العمامة ذات ذؤابة، فقيل: لا يمسح عليها إلا أن تكون محنكة أو ذات ذؤابة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: لا يشترط، وهو اختيار ابن تيمية (¬2)، وهو الراجح. دليل الحنابلة. الدليل الأول: المسح المنقول لنا إنما جاء الإذن على العمائم المعهودة، التي يلبسها المسلمون، وصفتها بأن يكون تحت الحنك منها شيء. قال ابن قدامة: " ومن شروط المسح عليها أن تكون على صفة عمائم المسلمين، بأن يكون تحت الحنك منها شيء؛ لأن هذه عمائم العرب، وهي أكثر ستراً من غيرها، ويشق نزعها، ولأنها إذا لم تكن محنكة أشبهت الكوفية (الطاقية) والكوفية لا يمسح عليها، فكذلك غير المحنكة (¬3). الدليل الثاني: (166) قال ابن قدامة في المغني: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالتلحي، ¬
الدليل الثالث
ونهى عن الاقتعاط. رواه أبو عبيد، وقال: الاقتعاط: أن لايكون تحت الحنك منها شيء، وروي أن عمر رضي الله عنه رأى رجلاً ليس تحت حنكه من عمامته شيء، فحنكه بكور منها، وقال: هذه الفاسقية؟. فامتنع المسح عليها للنهي عنها (¬1) اهـ. والحديث المرفوع، والأثر عن عمر لم أقف على أسانيدهما بشيء من الكتب، فالله أعلم بصحتهما. قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: " وأما هذه الشرائط التي ذكرها ابن قدامة فلم أر ما يدل على ثبوتها من الأحاديث الصحيحة، وأما ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالتلحي، ونهى عن الاقتعاط، فلم يذكر ابن قدامة سنده، ولم يذكر تحسينه ولا تصحيحه عن أحد من أئمة الحديث، ولم أقف على سنده، ولا على من حسنه أو صححه، فالله أعلم كيف هو؟ (¬2). الدليل الثالث: قالوا: إن العمائم إذا لم تكن محنكة، ولم يكن لها ذؤابة أشبهت عمائم أهل الذمة، فيكون لبسها حراماً، وما حرم لبسه لم يجز المسح عليه. وأجيب: بأنه لم يرد نهي عن لبس العمامة غير محنكة أو صماء، وإذا لم يرد نهي، وكانت العمامة بلا ذؤابة ليست من لباسهم الذي يختصون به، ويتميزون به عن غيرهم، فلا تحريم في لبسها، وقد انتشر بين التابعين في ¬
دليل من قال لا يشترط
المدينة من أولاد المهاجرين والأنصار لبسها بلا تحنيك كما سيأتي. ثم قولهم: كل ما حرم لبسه لم يجز المسح عليه قد ناقشت هذا في الخف المغصوب والمحرم، ورجحت جواز المسح عليه وإن كان لبسه حراماً. دليل من قال لا يشترط. الدليل الأول: قالوا: إن الإذن بالمسح ورد مطلقاً، وما ورد مطلقاً فلا يجوز تقييده إلا بدليل مثله من كتاب أو سنة أو إجماع. الدليل الثاني: أن تحنيكها زمن الصحابة كان للحاجة إلى الجهاد، قال ابن تيمية: "والسلف كانوا يحنكون عمائمهم؛ لأنهم كانوا يركبون الخيل، ويجاهدون في سبيل الله، فإن لم يربطوا العمائم بالتحنيك وإلا سقطت، ولم يمكن معها طرد الخيل، ولهذا ذكر أحمد عن أهل الشام أنهم كانوا يحافظون على هذه السنة؛ لأنهم كانوا في زمنه هم المجاهدون، وذكر إسحاق بن راهوية بإسناده أن أولاد المهاجرين والأنصار كانوا يلبسون العمائم بلا تحنيك، وهذا لأنهم كانوا في الحجاز في زمن التابعين لا يجاهدون، ورخص إسحاق وغيره في لبسها بلا تحنيك .. الخ كلامه رحمه الله (¬1). وقولهم: إن غير المحنكة لا يشق نزعها، فالجواب أن هذه العلة ليست علة منصوصاً عليها يمكن أن تخص العام، أو تقيد المطلق، والعلة المستنبطة علة مظنونة، قد تكون هي العلة، وقد تكون غيرها، فلا نستطيع ¬
الراجح من القولين
أن نجزم بأنها هي العلة، وقد لا تتعين في مشقة النزع، بل قد تكون الحكمة أن العمامة لو حركها انفلت أكوارها؛ ولأن لبسها في أيام البرد قد يعرق الرأس بسببها فإذا نزعها قد يصاب بضرر بسبب الهواء البارد، المهم أن العلة المستنبطة ينبغي ألا يقيد بها الأحاديث المطلقة، والله أعلم. الراجح من القولين: بعد استعراض أدلة الفريقين نجد أن القول بعدم الاشتراط أقوى دليلاً، وأن المسح على العمامة يجوز ولو لم تكن محنكة أو ذات ذؤابة. والله الموفق.
الشرط الثاني الخلاف في اشتراط لبس العمامة على طهارة
الشرط الثاني الخلاف في اشتراط لبس العمامة على طهارة
دليل الحنابلة على اشتراط الطهارة
الشرط الثاني الخلاف في اشتراط لبسها على طهارة اختلف العلماء القائلين بالمسح على العمامة، هل يشترط الطهارة للبسها أم لا؟ على قولين: فقيل: تشترط الطهارة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: لا تشترط، وهو رواية عن أحمد (¬2)، واختاره ابن حزم (¬3)، ورجحه ابن تيمية (¬4). دليل الحنابلة على اشتراط الطهارة. الدليل الأول: القياس على الخف، فإذا كان يشترط للمسح على الخف الطهارة فكذلك في المسح على العمامة، بجامع أن كلاً منهما ممسوح على عضو من أعضاء الوضوء، كان الواجب مباشرة ذلك العضو لولا هذا الحائل. وأجيب: بأن القياس على الخف فيه نظر؛ لأن طهارة القدم هي الغسل، ¬
دليل من قال لا تشترط الطهارة
وطهارة الرأس هو المسح فافترقا، فطهارة الرأس أخف من طهارة الخف، ثم إن العمامة تمسح كلها، والخف يمسح ظاهره على الصحيح، وفرق آخر عندكم: هو أن ظهور شيء من القدم يبطل المسح، وظهور شيء من الرأس كالناصية، وجوانب الرأس لا يبطل المسح على العمامة، ثم إن القياس في مثل هذه الأمور من أضعف الأقيسة. دليل من قال لا تشترط الطهارة. الدليل الأول: عدم الدليل على الاشتراط، وهذا كاف في نفيه؛ لأن من اشترط شيئاً طلب منه الدليل، ولا دليل على الاشتراط. الدليل الثاني: أن الأحاديث ليس فيها إلا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح على العمامة، ولم تشترط للمسح عليها لبسها على طهارة كالمسح على الخف، فنقف عند حدود النص، ولا نقيد أو نخصص إلا بدليل. قال ابن حزم في الرد على من قاس العمامة على الخف: " القياس باطل، وليس هنا علة جامعة بين حكم المسح على العمامة والخمار، والمسح على الخفين، وإنما نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اللباس على الطهارة على الخفين، ولم ينص ذلك في العمامة والخمار، قال تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} (¬1) وقال تعالى: {وما كان ربك نسياً} (¬2)، فلو وجب هذا في ¬
الدليل الثالث
العمامة والخمار لبينه عليه السلام كما بين ذلك في الخفين، ومدعي المساوة في ذلك بين العمامة والخمار مدعي بلا دليل، ويكلف البرهان على صحة دعواه في ذلك (¬1). الدليل الثالث: العادة أن من توضأ مسح رأسه، ورفع العمامة، ثم أعادها، ولا يبقى مكشوف الرأس إلى آخر الوضوء " (¬2). ¬
الشرط الثالث الخلاف في توقيت المسح على العمامة
الشرط الثالث الخلاف في توقيت المسح على العمامة
دليل الحنابلة على اشتراط التوقيت
الشرط الثالث الخلاف في توقيت المسح على العمامة اختلف العلماء هل المسح على العمامة مؤقت أم لا؟ فقيل: يمسح يوماً وليلة للمقيم، والمسافر ثلاثة أيام بلياليها، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: بل يمسح عليها بلا توقيت، هو مذهب الظاهرية (¬2). وهو الراجح. دليل الحنابلة على اشتراط التوقيت. الدليل الأول: (167) ما رواه الطبراني في الكبير، قال: حدثنا أبو مسلم الكشي وعبد الله بن أحمد بن حنبل قالا: ثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا مروان أبو سلمة، ثنا شهر بن حوشب، عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح على الخفين والعمامة ثلاثاً في السفر ويوماً وليلة في الحضر (¬3). ¬
الدليل الثاني
[إسناده ضعيف] (¬1). الدليل الثاني: قال ابن حزم: " قد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه التوقيت في ذلك ثابتاً عنه " (¬2). يعني: التوقيت في المسح على العمامة. ولم أقف على إسناده عن عمر في مصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة، وسنن البيهقي والدارقطني، والأوسط لابن المنذر وشرح معاني الآثار وغيرها من الكتب التي تعنى بالآثار، وفعل عمر يصلح للاستدلال بثلاثة شروط: الأول: ألا يخالف المرفوع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: ألا يعارضه قول صحابي مثله. الثالث: أن يصح عنه هذا القول. وإثبات هذه الأمور فيما ذكره ابن حزم لم أقدر عليه، وإذا كان عمر ¬
الدليل الثالث
رضي الله عنه نقل عنه عدم التوقيت في المسح على الخفين، فكيف ينقل عنه التوقيت في المسح على العمامة الذي لم يأت نص باشتراط التوقيت، والله أعلم. الدليل الثالث: القياس على الخف، بجامع أن كلا منهما ممسوح، والمسح عليه من قبيل الرخصة. وقد أجبت على القول بالقياس في المسألة التي قبل هذه فراجعه إن احتاج الأمر. دليل من قال يمسح بلا توقيت. الدليل الأول: عدم الدليل على كون المسح مؤقتاً. والأصل أن التوقيت يحتاج إلى توقيف؛ فلا يقال به إلا بدليل؛ لأنه ليس معقول المعنى، ولا دليل على التوقيت. الدليل الثاني: أن أحاديث المسح على العمامة ليس فيها إلا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح على العمامة، ولم يوقت في ذلك وقتاً كالمسح على الخف، فنقف عند حدود النص، ولا نقيد أو نخصص إلا بدليل. وهذا القول أقوى من القول الأول لقوة دليله، والله أعلم.
الشرط الرابع لا تمسح العمامة إلا في الحدث الأصغر
الشرط الرابع لا تمسح العمامة إلا في الحدث الأصغر
الشرط الرابع لا تمسح العمامة إلا في الحدث الأصغر وهذا الشرط متفق عليه عند من يرى المسح على العمامة، وأما الحدث الأكبر فلا يجزئ المسح عليها، بل ولا على الشعر كما لو لم يكن هناك عمامة، ولا بد في الحدث الأكبر من إيصال الماء إلى ما تحت الشعر، وقد نقلت الدليل على ذلك في شروط المسح على الخفين. (168) وقد روى البخاري قال: حدثنا عبدان، قال أخبرنا: عبد الله، قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده الحديث (¬1). وجه الاستدلال: أنه مع كونه خلل شعره بيده حتى رأى أنه قد أروى بشرته، ومع ذلك أفاض الماء على رأسه ثلاث مرات، كل ذلك ليعلم أن الماء قد وصل إلى ما تحت الشعر، ولا يشرع التثليث في غسل البدن من الجنابة إلا الرأس. ¬
الشرط الخامس الخلاف في اشتراط استيعاب العمامة في المسح
الشرط الخامس الخلاف في اشتراط استيعاب العمامة في المسح
دليل من قال لا يجب الاستيعاب
الشرط الخامس الخلاف في اشتراط استيعاب العمامة في المسح اختلف في وجوب استيعاب العمامة بالمسح فقيل: يجب الاستيعاب، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: يجزئ مسح أكثرها، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يجزئ مسح بعضها، اختاره القاضي أبو يعلى (¬3). دليل من قال لا يجب الاستيعاب. أن مسح العمامة جاء على وجه الرخصة، فأجزأ مسح بعضها قياساً على الخف. دليل من قال بوجوب الاستيعاب. الدليل الأول: قالوا: يجب الاستيعاب لظاهر النصوص، فإن فيها ومسح على العمامة، فظاهر الخبر أنه شملها كلها بالمسح؛ إذ لو كان مقتصراً على البعض لنقل، ولذلك لما مسح معها الناصية أحياناً نقلوه. الدليل الثاني: أن فرض الرأس وجوب استيعابه بالمسح، (169) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عبد الله بن ¬
يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أن رجلاً قال لعبد الله بن زيد - وهو جد عمرو بن يحيى - أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا بماء، فأفرغ على يديه، فغسل مرتين، ثم مضمض، واستنثر ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه (¬1). قال ابن قدامة: ولأن مسح العمامة بدل من الجنس - يعني: أن المفروض في الرأس المسح، والمفروض في العمامة المسح كذلك، فهما من جنس واحد - قال: فيقدر بقدر المبدل، كقراءة غير الفاتحة من القرآن بدلاً من الفاتحة يجب أن يكون بقدرها، ولو كان البدل تسبيحاً لم يتقدر بقدرها، ومسح الخف بدل من غير الجنس؛ لأنه بدل عن الغسل، فلم يتقدر به، كالتسبيح بدلاً عن القرآن، والمنقول عن أحمد أنه قال: يمسح على العمامة كما يمسح على رأسه، فيحتمل أنه أراد التشبيه في صفة المسح دون الاستيعاب، وأنه يجزئ مسح بعضها؛ لأنه ممسوح على وجه الرخصة، فأجزأ مسح بعضه كالخف، ويحتمل أنه أراد التشبيه في الاستيعاب فيخرج فيها من الخلاف ما في وجوب استيعاب الرأس، وفيه روايتان: أظهرهما: وجوب استيعابه بالمسح (¬2). هذا فيما يتعلق بالعمامة، أما ما يتعلق بجوانب الرأس التي لم تشمله العمامة، فهل يجب مسحه أم لا؟ ¬
دليل من قال بالوجوب
فقيل: يجب، وهو وجه في مذهب الحنابلة. وقيل: يستحب، ولا يجب، وهو رواية في مذهب أحمد. دليل من قال بالوجوب. أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح على الناصية والعمامة دليل على وجوب الاستيعاب، (170) فقد روى مسلم، قال: حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن حاتم جميعاً، عن يحيى القطان، قال ابن حاتم: حدثنا يحيى بن سعيد، عن التيمي، عن بكر بن عبد الله، عن الحسن، عن ابن المغيرة بن شعبة، عن أبيه. قال بكر: وقد سمعت من ابن المغيرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فمسح بناصيته، وعلى العمامة، وعلى الخفين (¬1). فلم يكتف بالمسح على العمامة حتى مسح الناصية. وأجيب: بأنه ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح بالعمامة وحدها، فلا يدل على الوجوب. الدليل الثاني: أن العمامة نابت عما استتر فقط، فوجب مسح الباقي، كما لو ظهر سائر رأسه. دليل من قال لا يجب. التعليل الأول: قالوا: إن العمامة نابت مناب الرأس، فانتقل الفرض إليها، وتعلق ¬
التعليل الثاني
الحكم بها، فلم يبق لما ظهر حكم. التعليل الثاني: أن الجمع بينهما يفضي إلى الجمع بين البدل والمبدل في عضو واحد، فلم يجز من غير ضرورة كالمسح على الخفين. وأجيب: بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جمع بينهما في مسحه على الناصية والعمامة كما نقلنا قبل قليل. الراجح والله أعلم استحباب مسح الناصية مع العمامة، أما جوانب الرأس فلم ينقل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسحها، فلا أرى استحباب مسحها، والله أعلم، ولا يترجح لي قياس جوانب الرأس على الناصية؛ لأنه لو كان مشروعاً لنقل فعله عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو مرة واحدة، والله أعلم. وهل تمسح الأذنان مع العمامة. قال في الشرح الكبير: " ولا يجب مسح الأذنين مع العمامة، لا نعلم فيه خلافاً؛ لأنه لم ينقل، وليستا من الرأس إلا على وجه التبع " (¬1) اهـ. قلت: نفي الوجوب لايدل على نفي الاستحباب لكن ظاهر استدلاله نفي المشروعية، فإن ثبت ما يحكيه من الإجماع فهو حجة، وإلا فلادليل على كونهما لايمسحان إلا سكوت الراوي، وعدم تعرضه لذلك، وسكوته لا يلغي ما ثبت من مشروعية مسحهما، وقد ذكر في الفروع (¬2)، وفي الإنصاف (¬3)، رواية عن أحمد بوجوب مسح الأذنين مع العمامة، فأين دعوى الإجماع. ¬
الشرط السادس يشترط أن تكون العمامة مباحة
الشرط السادس يشترط أن تكون العمامة مباحة
الشرط السادس يشترط أن تكون العمامة مباحة فإن كانت العمامة محرمة، سواء كانت محرمة لحق الله، كما لو كانت من حرير أو ذهب. أو كانت العمامة محرمة لحق الغير، كما لو كانت مسروقة أو مغصوبة، ففي المسح عليها خلاف (¬1)، والخلاف فيه كالخلاف في الخف المحرم، وقد ذكرنا أدلة كل قول هناك، وما رجحناه هناك نرجحه هنا، وهو جواز المسح على العمامة المحرمة؛ لأن التحريم ليس عائداً إلى المسح، وإنما هو لأمر خارج عنه، والله أعلم. ¬
الشرط السابع أن تكون العمامة ساترة لما جرت العادة بستره
الشرط السابع أن تكون العمامة ساترة لما جرت العادة بستره
الشرط السابع أن تكون العمامة ساترة لما جرت العادة بستره اختلف العلماء في العمامة، هل يشترط أن تكون العمامة ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه، كمقدام الرأس والأذنين وشبههما من جوانب الرأس، فإنه يعفى عنه، على قولين. والحنابلة رغم أنهم كانوا يتشددون في الخف المخرق، وأنه لا يمسح عليه ولو كان الخرق يسيراً إلا أنهم في العمامة قد قبلوا الانكشاف اليسير: قال أحمد: إذا زالت عن رأسه فلا بأس ما لم يفحش. وقال ابن عقيل: ما لم يرفعها بالكلية. وقال صاحب المحرر: إن رفع العمامة يسيراً لم يضر. وظاهر المستوعب: تبطل لظهور شيء من رأسه (¬1). وما رجحناه في المسح على الخف المخرق نرجحه هنا، وأنه لا يوجد دليل من الكتاب أو السنة على اشتراط أن تكون العمامة ساترة لما يجب مسحه، والشروط لا تثبت إلا بدليل، ولا دليل هنا. ¬
الفصل الخامس إذا خلع العمامة فما حكم المسح عليها
الفصل الخامس إذا خلع العمامة فما حكم المسح عليها
الفصل الخامس إذا خلع العمامة فما حكم المسح عليها اختلف العلماء القائلون بالمسح على العمامة إذا نزعها من رأسه، فقيل: تبطل الطهارة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: لا تبطل، اختاره ابن حزم (¬2)، ورجحه ابن تيمية (¬3)، وهو الصحيح. وقيل: يجب عليه مسح رأسه مباشرة وغسل قدميه، هو رواية عن أحمد (¬4). وقيل: بل يجب عليه مسح رأسه، ولو لم يكن مباشرة، وهو قول آخر في مذهب الحنابلة (¬5). ¬
واختلف أصحاب أحمد في مبنى هذه الروايات على أقوال: فقيل: مبنية على الموالاة، قال المرداوي: اختاره ابن الزاغوني، وقطع به المصنف في المغني، والشارح، وابن رزين في شرح، وقدمه في الرعاية الكبرى، فعلى هذا لو حصل ذلك قبل فوات الموالاة، أجزأه مسح رأسه وغسل قدميه قولاً واحداً لعدم الإخلال بالموالاة (¬1). وقيل: الخلاف مبني على أن المسح هل يرفع الحدث أم لا؟ قال المرداوي: قطع بهذه الطريقة القاضي أبو الحسين، واختاره وصححه المجد في شرحه، وابن عبيدان، وصاحب مجمع البحرين، والحاوي الكبير، وقدمه الشيخ تقي الدين في شرح العمدة، وقال هو وأبو المعالي وحفيده: وهو الصحيح من المذهب عند المحققين، واعلم أن المسح يرفع الحدث على الصحيح من المذهب - يعني: مذهب الحنابلة - نص عليه، وجزم به في التلخيص، والبلغة، وقدمه في الفروع ... الخ كلامه (¬2). وقيل: مبني على أن الطهارة لا تتبعض في النقض، وإن تبعضت في الثبوت، كالصلاة والصيام (¬3). وانظر دليل كل قول في مسألة نزع الخف، فإن القول واحد، والدليل واحد. والله أعلم. ¬
فرع لو انتقضت العمامة دون أن ينزعها قال ابن قدامة في المغني: وإن انتقضت العمامة بعد مسحها، بطلت طهارته؛ لأن ذلك بنزلة نزعها. وإن انتقض بعضها ففيه روايتان ذكرهما ابن عقيل: أحدهما: لا تبطل طهارته؛ لأنه زال بعض الممسوح عليه مع بقاء العضو مستوراً، فلم تبطل الطهارة، ككشط الخف مع بقاء البطانة. والثانية: تبطل. قال القاضي: لو انتقض منها كور واحد بطلت؛ لأنه زال الممسوح عليه، فأشبه نزع الخف (¬1). وإذا كنا رجحنا في مسألة نزع الخف أن الطهارة لا تبطل، فكذلك الراجح هنا أن العمامة لو سقطت كلها فالطهارة باقية على حالها، انظر مسألة نزع الخف، فقد بسطت الأدلة هناك. ¬
الباب التاسع في المسح على الجبيرة
الباب التاسع في المسح على الجبيرة وفيه أربعة فصول
الفصل الأول خلاف العلماء في جواز المسح على الجبيرة
الفصل الأول خلاف العلماء في جواز المسح على الجبيرة اختلف العلماء في جواز المسح على الجبيرة، فقيل: يجب المسح عليها، وهو مذهب المالكية (¬1)، والقول القديم للشافعي (¬2)، واختاره أبو يوسف ومحمد من الحنفية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وقال أبو حنيفة: ليس المسح على الجبيرة بفرض. واختلف أصحابه في فهم عبارته. فقيل: معناه أن المسح واجب، وليس بفرض (¬5). وقيل: بل معنى عبارة الإمام أن المسح مستحب، وليس بواجب (¬6). ¬
دليل القائلين بجواز المسح على الجبيرة
وقيل: يجمع بين المسح والتيمم، وهو قول الشافعي في الأم، وعليه جمهور أصحابه (¬1). وقيل: لا يشرع المسح، واختلف القائلون به. فقيل: يسقط المسح إلى غير بدل، وهو اختيار ابن حزم (¬2). وقيل: بل يكفيه التيمم، ولا يمسح، وهو قول للشافعية، ونسبه النووي إلى الحناطي وصاحب العدة، واختاره القاضي أبو الطيب (¬3). دليل القائلين بجواز المسح على الجبيرة. الدليل الأول: (171) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي، حدثنا محمد بن سلمة، عن الزبير بن خريق، عن عطاء، عن جابر، قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب ـ شك موسى ـ على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده (¬4). ¬
[إسناده ضعيف، وزيادة ويعصر أو يعصب ثم يمسح عليها زيادة منكرة] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (172) ما رواه عبد الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيل بن يونس، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب قال: انكسر إحدى زندي، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمرني أن أمسح على الجبائر (¬1). [ضعيف جداً، بل موضوع] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (173) ما رواه الدراقطني، قال: ثنا دعليج بن أحمد، نا محمد بن علي بن زيد الصائغ بمكة، حدثنا أبو الوليد ـ وهو خالد بن يزيد المكي ـ نا إسحاق بن عبد الله بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ثنا الحسن بن زيد، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجبائر تكون على الكسير كيف يتوضأ صاحبها؟ وكيف يغتسل إذا أجنب؟ قال: يمسحان بالماء عليهما في الجنابة والوضوء، قلت: فإن كان في برد يخاف على نفسه إذا اغتسل؟ قال: يمر على جسده، وقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} (¬1) يتيمم إذا خاف (¬2). [إسناده ضعيف جداً] (¬3). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (174) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا أبو بكر الشافعي، نا أبو عمارة محمد بن أحمد بن المهدي، ثنا عبدوس بن مالك العطار، نا شبابة، نا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح على الجبائر. قال الدارقطني: لا يصح مرفوعاً، وأبو عمارة ضعيف جداً (¬1). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (175) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ثور، عن راشد بن سعد، عن ثوبان، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية، فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - شكوا إليه ما أصابهم من البرد، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين (¬1). [رجاله ثقات، وأعله بعضهم بالانقطاع] (¬2). وأجيب: بأن المراد بالعصائب: العمائم، والتساخين: كل ما يسخن القدم من جورب ونحوه، فلا حجة فيه. الدليل السادس: من الآثار. (176) ما رواه ابن المنذر، قال: حدثنا موسى بن هارون، ثنا سماغ، ثنا الوليد، نا سعيد بن أبي عروبة، حدثني سليمان بن موسى، عن نافع، قال: جرحت إبهام رجل ابن عمر، فألقمها مرارة، فكان يتوضأ ¬
عليها (¬1). وأجيب: بأن فعل ابن عمر، وإن كان صحيحاً فقد عارضه قول ابن عباس كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فإن ابن عباس يرى أن يتيمم، بل يعارض فعل ابن عمر ظاهر القرآن، قال تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬2) فذكر أن التيمم يشرع إذا كان الإنسان مريضاً، والجرح: نوع من المرض. قال ابن حزم: " فإن قيل: قد رويتم عن ابن عمر أنه ألقم أصبعه ¬
الدليل السابع
مرارة، فكان يمسح عليها. قلنا: هذا فعل منه، وليس إيجاباً للمسح عليها، وقد صح عنه رضي الله عنه أنه كان يدخل الماء في باطن عينيه في الوضوء والغسل، وأنتم لا ترون ذلك، فضلاً عن أن توجبوه فرضاً " (¬1) اهـ. فقد يكون ابن عمر فعل ذلك احتياطاً، ويبقى ما دام أن ابن عباس خالفه، يطلب مرجح لأحد القولين من دليل آخر. الدليل السابع: من النظر، قالوا: إن المسح على الجبيرة أولى من التيمم من وجهين: الأول: أن المسح يكون بالماء، والتيمم بالتراب، والأصل: استعمال الماء. الثاني: المسح يكون في ما يغطي موضع الغسل، وأما التيمم في عضوين فقط، وقد يكونا أجنبين عن موضع الجرح، فالجرح إما أن يكون مكشوفاً أو مستوراً، فإن كان مكشوفاً، فالواجب غسله، فإن تعذر غسله بالماء، انتقل إلى مسحه بالماء، فإن تعذر المسح، فالتيمم. وإن كان العضو مستوراً ففرضه المسح، فإن تضرر انتقل إلى التيمم. وأجيب: بأن هذا الترتيب لا دليل عليه، وهو استحسان في مقابل النص، أعني آية المائدة، فلا يقبل. ¬
الدليل الثامن
الدليل الثامن: قالوا: يشرع المسح على الجبيرة قياساً على العمامة والخفين؛ لأن هذا العضو ستر بما يسوغ شرعاً، فجاز المسح عليه كالخفين والعمامة. وأجيب: بأن هناك فرقاً بين الجبيرة والخفين، فلا يصح القياس، فمن ذلك: أن المسح على الجبيرة واجب، والمسح على الخفين جائز. الثاني: المسح على الجبيرة في الطهارتين الصغرى والكبرى، وفي الخف في الطهارة الصغرى فقط. الثالث: المسح على الجبيرة لا توقيت فيها، بخلاف الخف. الرابع: المسح على الجبيرة يستوعبها بالمسح، كما يستوعب الجلد، بخلاف الخف. الخامس: أن المسح على الخفين يشترط له الطهارة، بخلاف الجبيرة على قول. وإذا تبين بينهما هذه الفروق فكيف يصح قياس الجبيرة على الخف؟! أدلة القائلين بالتيمم. من القرآن قوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬1). وإذا لم يكن هذا الجرح مرضاً، فما هو المرض المبيح للتيمم؟ فهل يشترط أن يكون مرضاً مانعاً من استعمال الماء مطلقاً؟ أين الدليل على هذا ¬
الشرط، وهذا الشرط لو قالوه مخالف لقولهم: إذا كان معه ماء يكفي بعض طهره، استعمله، وتيمم عن الباقي. الدليل الثاني: (177) ما رواه ابن الجارود، قال: حدثنا محمد بن يحيى، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، قال: أنبأني الوليد بن عبيد الله بن أبي رباح، أن عطاء حدثه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رجلاً أجنب في شتاء، فسأل، فأمر بالغسل، فاغتسل، فمات، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما لهم قتلوه؟ قتلهم الله ثلاثاً قد جعل الله الصعيد، أو التيمم طهوراً، شك ابن عباس، ثم أثبته بعد (¬1). [إسناده حسن] (¬2). والغريب أن القائلين بالمسح تركوا هذا الحديث، وأخذوا بحديث جابر، وهو غلط من راويه الزبير بن خريق؛ لأن الأوزاعي والوليد بن عبيد الله قد خالفاه، فروياه عن عطاء من مسند ابن عباس، وليس فيه المسح على ¬
الجبيرة، ومع تقديمهم لحديث جابر على نكارته، لم يقولوا بمقتضاه من الجمع بين المسح والتيمم، بل أخذوا بعضه، وتركوا بعضه، وهذا من غرائب الاستدلال!!. الدليل الثالث: أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا أهل جهاد، فكانت تكثر فيهم الجروح والقروح، فلو كان المسح على الجبيرة مشروعاً لجاء مبيناً في السنة تبييناً واضحاً لا إشكال فيه، كما بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الريح حدث يبطل الوضوء، ولا ينازع في ذلك منازع، خاصة أن الأمر يتعلق بالصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام العملية، فلما لم يأت المسح إلا من حديث رجل إما متهم بالكذب، وإما ضعيف قد خالفه من هو أوثق منه، علم أن المسح ليس مشروعاً. الدليل الرابع: صح عن ابن عباس موقوفاً عليه القول بالتيمم، (178) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إذا أجنب الرجل، وبه الجراحة والجدري، فخاف على نفسه إن هو اغتسل، قال: يتيمم بالصعيد (¬1). [حديث حسن] (¬2). ¬
الدليل الخامس: إذا كان الجنب قد رخص له إذا خاف على نفسه الضرر من الاغتسال أن يتيمم، فكذلك إذا خاف على جرحه، ولا فرق، ولا يقال له: امسح جسدك بالماء إذا خفت من الاغتسال؛ لأنه أولى من التيمم، فهذا بالماء، وذاك بالتراب، وهذا في عضوين، وذاك في الجسم كله، بل نقول له: تيمم، وهذا يكفيك، فكذلك إذا خاف على عضو من أعضائه. ¬
وفي المسألة قصة عمرو بن العاص، لكن اختلف فيه، هل تيمم أو غسل مغابنه وتوضأ؟ فرواه عبد الرحمن بن جبير، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص بذكر الوضوء، وغسل المغابن (¬1). ورواه عبد الرحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص، بذكر التيمم، ¬
ولم يسمعه من عمرو (¬1). ¬
دليل من قال يسقط فرضه ولا يمسح ولا يتيمم
والطريق الأول: أوصل. والطريق الثاني: أوفق لمقتضى القواعد، ولعله فعل الأمرين. قال البيهقي: ويحتمل أن يكون قد فعل ما نقل في الروايتين جميعا، غسل ما قدر على غسله، وتيمم للباقي، والله أعلم (¬1). دليل من قال يسقط فرضه ولا يمسح ولا يتيمم. استدل ابن حزم بقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} (¬2). وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ". قال ابن حزم فسقط بالقرآن والسنة كل ما عجز عنه المرء، وكان التعويض منه شرعاً، والشرع لا يلزم إلا بقرآن أو سنة، ولم يأت قرآن ولاسنة بتعويض المسح على الجبائر " (¬3). ¬
دليل من قال يجمع بين المسح والتيمم
وفي ما قاله رحمه الله نظر؛ لأن القرآن والسنة جاءت بالبدل، وهو التيمم كما ذكرنا من سورة المائدة، ومن حديث ابن عباس، والله أعلم. دليل من قال يجمع بين المسح والتيمم. الدليل الأول: حديث جابر في صاحب الشجة، وفيه: " إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده ". [سبق تخريجه في أدلة القول الأول] وقد ذكرنا أن هذه الزيادة زيادة منكرة، تفرد بها الزبير بن خريق مخالفاً لمن هو أوثق منه. الدليل الثاني: قالوا: إن ما تحت الجبيرة عليل لا يمكن غسله، فأشبه الجريح بوجوب التيمم، ولبسه لهذا الحائل أشبه الخف بمشقة النزع، فلما أشبههما وجب الجمع بين المسح والتيمم. الدليل الثالث: قالوا: ولأن في الجمع بينهما احتياطاً للعبادة، وخروجاً من الخلاف. وهذا القول ضعيف أيضاً؛ لأن إيجاب طهارتين لعضو واحد مخالف لقواعد الشرع، فإن كان المسح مطهراً، فلماذا التيمم؟ وإن كان التيمم مطهراً فلماذا المسح؟ ولا يكلف الله عبداً بعبادتين سببهما واحد.
الراجح
الراجح: بعد استعراض أدلة الفريقين لا أرى في المسح على الجبيرة نصاً مرفوعاً يمكن أن يعول عليه، وجاء عن ابن عمر بسند صحيح موقوفاً عليه، وعارضه قول ابن عباس، والقول بالمسح هو قول عامة الفقهاء من التابعين وغيرهم، وأرى أن القول بالتيمم أرجح من المسح على الجبيرة؛ لآية المائدة، ولأثر ابن عباس الموافق لآية المائدة، وهو أحب إلى نفسي، ولو مسح أحد متبعاً بذلك الصحابي الجليل ابن عمر، فلا بأس عليه إن شاء الله تعالى.
الفصل الثاني في شروط المسح على الجبيرة
الفصل الثاني في شروط المسح على الجبيرة
الشرط الأول أن يكون الغسل مما يضر بالعضو أو الجروح
الشرط الأول أن يكون الغسل مما يضر بالعضو أو الجروح
الشرط الأول أن يكون الغسل مما يضر بالعضو أو الجروح من شروط المسح على الجبيرة أن يكون الغسل مما يضر بالعضو المنكسر، أو بالجروح والقروح، أو لا يخاف الضرر من جهة أخرى بسبب نزع الجبائر. فإن كان لا يضره الغسل، ولا يخاف ضرراً بنزع الجبيرة، وجب الغسل؛ لأن الغسل فرض، سقط إلى بدل، وهو المسح لوجود العذر، فإذا لم يوجد العذر لم يسقط الغسل. وهذا لا خلاف فيه (¬1). فإن خاف من المسح على الجبيرة، فإن أمكن وضع جبيرة أخرى ليمسح، وضع أخرى، وإن لم يمكن سقط المسح، كما سقط الغسل، وهل يسقط إلى بدل، وهو التيمم، أو يسقط إلى غير بدل سبق لنا ذكر الخلاف في جواز المسح على الجبيرة، فارجع إليه إن شئت. ¬
الشرط الثاني الخلاف في اشتراط الطهارة للبس الجبيرة
الشرط الثاني الخلاف في اشتراط الطهارة للبس الجبيرة
دليل الحنفية والمالكية على عدم اشتراط الطهارة
الشرط الثاني الخلاف في اشتراط الطهارة للبس الجبيرة اختلف العلماء هل يشترط في المسح على الجبيرة أن يلبسها على طهارة. فقيل: لا يشترط، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2). وقيل: لا تلبس الجبيرة إلا على طهارة، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، فإن كان لا يضره نزعها وجب، وإن كان يضره تيمم، ولم يمسح عند الحنابلة (¬3)، وعند الشافعية يمسح مع الإثم، ويعيد الصلاة إذا برئ (¬4). دليل الحنفية والمالكية على عدم اشتراط الطهارة. الدليل الأول: عدم الدليل على اشتراط الطهارة، فالأحاديث التي جاء فيها المسح ¬
الدليل الثاني
على الجبيرة مطلقة، لم تشترط تقدم الطهارة. الدليل الثاني: المسح على الجبيرة يقع فجأة، أو في وقت لا يعلم الماسح وقوعها فيه، وبدون اختياره، بخلاف الخف، فإنه يلبسه مختاراً. الدليل الثالث: لو تأخر في لبس الجبيرة لتحصيل الطهارة، لحصل له ضرر بذلك، والشرع لا يأتي بمثل هذا. الرابع: أن اشتراط الطهارة فيه حرج ومشقة، والحرج والمشقة مرفوع عن هذه الأمة بنص القرآن والسنة. دليل الحنابلة والشافعية على اشتراط الطهارة. قالوا: لأن الجبيرة حائل يمسح عليه، فكان من شرط المسح عليه تقدم الطهارة كالخفين. وأجيب: بأنه لا يمكن قياس الجبيرة على الخف؛ لأن لبس الخف ترفه، وطلب كمال، ولبس الجبيرة ضرورة، ومرض، ولذا وقت في الخف، ولم يوقت في الجبيرة، وكان مسح الجبيرة واجباً عند من يراه، بخلاف الخف، وتستوعب الجبيرة بالمسح، ولا يستوعب الخف، ويجمع بين غسل ومسح في عضو واحد، ولا يجمع ذلك في الخف إلى آخر الفروق المعلومة، فلا يتأتى القياس على الخف. وهذا القول أرجح، إلا أنه مبني على القول بالمسح على الجبيرة.
الشرط الثالث الخلاف في اشتراط ألا تتجاوز قدر الحاجة
الشرط الثالث الخلاف في اشتراط ألا تتجاوز قدر الحاجة
الشرط الثالث الخلاف في اشتراط ألا تتجاوز قدر الحاجة اختلف العلماء هل يشترط في الجبيرة ألا تتجاوز قدر الحاجة؟ فقيل: يشترط ألا تتجاوز قدر الحاجة (¬1)، فإن تجاوز بالجبيرة موضع الحاجة، فإن كان لايضره حلها، حلها وغسل ما تحت الصحيح، وإن كان يضره، فقيل: يمسح عليها كلها بلا تيمم وهو مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: يمسح عليها، ويتيمم، وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6). ¬
دليل من قال بالمسح فقط
دليل من قال بالمسح فقط. التعليل الأول: لما كانت الجبيرة زائدة عن موضع الجرح، وكان حل الجبيرة يضره، أصبح وجود الجبيرة ضرورة، فجاز المسح على الجميع. التعليل الثاني: قالوا: ولأن إيجاب المسح والتيمم معاً إيجاب طهارتين لعضو واحد، وهذا مخالف لقواعد الشرع. التعليل الثالث: قالوا: إن تقدير الموضع الزائد على الحاجة قد يتعسر، ولا ينضبط، ولذلك قال ابن قدامة في المغني: " كأن أبا عبد الله استحب أن يتوقى أن يبسط الشد على الجرح بما يجاوزه، ثم سهل في مسألة الميموني والمروذي؛ لأن هذا مما لا ينضبط، وهو شديد جداً، ولا بأس بالمسح على العصائب كيف شدها " اهـ. دليل من قال بالجمع بين المسح والتيمم. قالوا: إن شد الجبيرة على موضع لا يحتاج إليه، كشدها على موضع لا كسر فيه، فيبقى ما على موضع الحاجة يقتضي المسح، والزائد يقتضي التيمم. وأجيب: بأن الشيء قد يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً، لما سبق ذكره من وجود الحرج في ضبط مقدار الحاجة.
الراجح من الخلاف
الراجح من الخلاف بعد استعراض الخلاف نجد أن قول الجمهور في هذه المسألة أقوى، إلا أني لا أراه، لكونه مبنياً على القول بالمسح على الجبيرة، وقد ناقشت هذه المسألة في فصل مستقل، والله أعلم.
الشرط الرابع هل يشترط أن تكون الجبيرة مباحة
الشرط الرابع هل يشترط أن تكون الجبيرة مباحة
الشرط الرابع هل يشترط أن تكون الجبيرة مباحة؟ إذا كانت الجبيرة من حرير أو غصب، ففي جواز المسح عليها قولان: أحدهما: لا يصح المسح عليه. والثاني: يصح المسح عليها. والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في الخف المحرم، وقد سبق بحثه، والصحيح جواز المسح على الجبيرة، ولو كانت محرمة، لأن الجهة منفكة، والتحريم ليس من قبل الصلاة، وإنما هو لأمر خارج، وهذا الترجيح مبني على القول بجواز المسح على الجبيرة، وقد سبق لك الخلاف.
الشرط الخامس هل يشترط أن يكون غالب البدن صحيحا
الشرط الخامس هل يشترط أن يكون غالب البدن صحيحاً
الشرط الخامس هل يشترط أن يكون غالب البدن صحيحاً؟ ذهب المالكية إلى أنه يشترط للمسح على الجبيرة أن يكون غالب البدن في الطهارة الكبرى أو غالب الأعضاء الأربعة في الطهارة الصغرى صحيحاً، أو يكون نصفه صحيحاً ونصفه جريحاً، فإن كان البدن كله جريحاً، أو غالبه جريحاً، فلا يمسح على الجبائر، بل يتيمم، حتى ولو لم يضره غسل ذلك الصحيح (¬1). قالوا: إذا كان الصحيح من البدن، هو القليل، فلا حكم له، فكأن البدن أصبح كله جريحاً، وإذا كان البدن كله جريحاً وجب التيمم بنص القرآن، قال تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬2). وهذا دليل على ضعف القول بالمسح على الجبيرة؛ لأن البدن إذا كان نصفه جريحاً يتيمم، ولا يمسح، استدلالاً بآية المائدة، فكذلك إذا كان غالبه صحيحاً يتيمم، ولا يمسح، ولا فرق، خاصة إذا علمنا أن المسح على الجبيرة ليس فيها نص صحيح يصار إليه. ¬
الشرط السادس هل يشترط أن توضع جبيرة على الجرح حتى يمسح
الشرط السادس هل يشترط أن توضع جبيرة على الجرح حتى يمسح
الشرط السادس هل يشترط أن توضع جبيرة على الجرح حتى يمسح إذا كان الجرح ليس عليه عصابة، ولا جبيرة، فالمشهور من مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، أنه يتيمم للجرح ولا يمسح عليه، حتى لو كان يمكنه مسحه بلا ضرر. وهذا مما يضعف القول بالمسح؛ لأنه إذا كان المسح لا يشرع مع مباشرة الممسوح بدون حائل، فكونه لا يشرع مع الحائل من باب أولى. واختار الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، وهو رواية في مذهب أحمد (¬5)، أن الفرض غسل الجرح بالماء، فإن خاف ضرراً مسح على الجرح بدون حائل، ¬
فإن خاف ضرراً من وصول البلل إلى الجرح مسح على الجبيرة أو العصابة. وهذا القول أقوى من الأول إلا أنه مبني على القول بالمسح على الجبيرة، والله أعلم.
الشرط السابع هل يشترط أن تكون الجبيرة من خشب أو يلحق بها اللصوق ونحوها
الشرط السابع هل يشترط أن تكون الجبيرة من خشب أو يلحق بها اللصوق ونحوها
الشرط السابع هل يشترط أن تكون الجبيرة من خشب أو يلحق بها اللصوق ونحوها لا يشترط أن تكون الجبيرة من خشب، وحكم اللصوق على الجروح حكم الجبيرة (¬1). قال المرداوي: اللصوق حيث تضرر بقلعه يمسح عليه إلى حله كالجبيرة، وينبغي أن لا يكون فيه خلاف " (¬2). (179) قلت: أصل ذلك ما رواه ابن المنذر، قال: حدثنا موسى بن هارون، ثنا سماغ، ثنا الوليد، نا سعيد بن أبي عروبة، حدثني سليمان بن موسى، عن نافع، قال: جرحت إبهام رجل ابن عمر فألقمها مرارة، فكان يتوضأ عليها (¬3). [سبق بحثه]. قال ابن قدامة: ولا فرق بين كون الشد على كسر أو جرح. قال أحمد: إذا توضأ، وخاف على جرحه الماء مسح على الخرقة. وحديث جابر في صاحب الشجة إنما هو في المسح على عصابة جرح؛ لأن الشجة اسم ¬
لجرح الرأس خاصة؛ ولأنه حائل مضوع يخاف الضرر بغسله فأشبه الشد على الكسر، وكذلك إن وضع على جرحه دواء، وخاف من نزعه، مسح عليه، نص عليه أحمد. قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن الجرح يكون بالرجل يضع عليه الدواء، فيخاف إن نزع الدواء إذا أراد الوضوء أن يؤذيه؟ قال: ما أدري ما يؤذيه، ولكن إذا خاف على نفسه، أو خُوِّف من ذلك مسح عليه " (¬1) اهـ. ¬
الفصل الثالث إذا سقطت الجبيرة أو أبدلها فهل يعيد المسح؟
الفصل الثالث إذا سقطت الجبيرة أو أبدلها فهل يعيد المسح؟
الفصل الثالث إذا سقطت الجبيرة أو أبدلها فهل يعيد المسح؟ اختلف العلماء القائلون بالمسح على الجبيرة في الحكم إذا سقطت الجبيرة. فقيل: إذا سقطت الجبيرة قبل البرء، فلا شيء عليه، وإن سقطت بعد البرء، فإن كان محدثاً توضأ وغسل محل الجبيرة، وإن لم يكن محدثاً غسل موضع الجبيرة لا غير. وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: نزع الجبيرة مؤثر بكل حال، سواء كان عن برء أو لا، واختلفوا فيما يترتب على الكشف. فقيل: إذا سقطت الجبيرة، ولو كان في صلاة قطعها مطلقاً، فإن كان عن برء غسل ذلك الموضع مباشرة، وإن كان لم يبرأ فإنه يعيد الجبيرة، ويمسح عليها إن فعل ذلك بالقرب، وإن لم يفعل ذلك حتى طال الفصل بغير عذر، استأنف الوضوء، وهو مذهب المالكية (¬2). وقيل: سقوطها مبطل للطهارة مطلقاً، سواء كان سقوطها عن برء ¬
دليل الحنفية على التفريق بين كون السقوط عن برء وبين غيره
أو عن غيره، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: لا تبطل الطهارة مطلقاً، سواء سقطت عن برء، أو عن غيره، وهو اختيار ابن حزم (¬3). دليل الحنفية على التفريق بين كون السقوط عن برء وبين غيره. قالوا: إن الجرح إذا لم يبرأ فالعذر قائم، فلا يجب عليه شيء، وزوال الممسوح لا يبطل المسح إذا كان العذر قائماً، كما لو توضأ وحلق شعره، وإن كان سقوطها عن برء، فقد قدر على الأصل، وهو الغسل، فسقط حكم البدل، وهو المسح، فوجب غسل ذلك الموضع. ويشكل عليه: إن كان سقوط الجبيرة حدثاً، فلا فرق بين كون الجرح قد برئ أم لم يبرأ، وإن لم يكن حدثاً فطهارته تامة حتى لو سقط عن برء، والله أعلم. دليل المالكية على وجوب مسحها أو غسل الموضع مباشرة. قالوا: إن المسح على الجبيرة ناب عن غسل ذلك الموضع، فإذا سقطت الجبيرة انتقضت طهارة ذلك الموضع، فوجب غسله إن كان قد برئ، أو إعادة مسحه إن لم يبرأ، وانظر دليلهم في خلع الخف، فإن الباب واحد عندهم. ¬
دليل من قال تبطل الطهارة مطلقا
دليل من قال تبطل الطهارة مطلقا. سقنا أدلتهم في مسألة بطلان الطهارة بخلع الخف، فإن الباب عندهم واحد. الراجح أن الطهارة لا تبطل، وليس سقوط اللصقة أو الجبيرة حدثاً، ولا جاء نص بإيجاب الوضوء من ذلك، والوجوب يحتاج إلى دليل، ولا دليل، وهذا الترجيح مبني على القول بالمسح على الجبيرة، وقد رجحت أن القول بالتيمم أقوى.
الفصل الرابع في صفة المسح
الفصل الرابع في صفة المسح
المبحث الأول هل يجب استعياب الجبيرة بالمسح
المبحث الأول هل يجب استعياب الجبيرة بالمسح
دليل من قال بوجوب التعميم
المبحث الأول هل يجب استيعاب الجبيرة بالمسح؟ اختلف العلماء في صفة المسح، فقيل: يمسح أكثر الجبيرة، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يجب استيعاب الجبيرة بالمسح، وهو مذهب المالكية (¬2)، وأصح الوجهين عند الشافعية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: يكفي مسح ما يطلق عليه اسم مسح، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬5). دليل من قال بوجوب التعميم. الدليل الأول: ظاهر الأحاديث التي جاءت بالمسح على الجبائر، فإنها تفيد التعميم، ومنها حديث صاحب الشجة، وفيه: " إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ". ¬
الدليل الثاني
والحديث ضعيف، وسبق تخريجه. فقوله: " ثم يمسح عليها " ظاهره المسح على جميعها. الدليل الثاني: قالوا: إن مسح الجبيرة مسح ضرورة، فأشبه مسح الوجه واليدين في التيمم في وجوب الاستيعاب. الدليل الثالث: ولأنه لا يشق تعميمها بالمسح، بخلاف الخف فإنه يشق تعميم جميعه. الدليل الرابع: الأصل أنه بدل عن غسل العضو، وإذا كان يجب تعميم العضو بالغسل لو كان صحيحاً، وجب تعميمه بالمسح، وإنما لم نقل ذلك بالخف؛ لأنه جاء الدليل على الاكتفاء بالبعض، وهو خلاف القياس، ولم يأت دليل بالاكتفاء ببعض الجبيرة، فلم تلحق بالخف. دليل الحنفية بالاكتفاء بالأكثر. قالوا: لم يأت في المسح على الجبائر تقدير من جهة الشرع، بل ورد المسح على الجبائر، فظاهره يقتضي الاستيعاب، إلا أن ذلك لا يخلو من حرج ومشقة، فأقيم الأكثر مقام الجميع. دليل من قال يكفي مطلق المسح. قاسوه على الخف، انظر دليلهم في الكلام على صفة مسح الخف. الراجح: وجوب الاستيعاب لو قلنا بالمسح على الجبيرة.
المبحث الثاني إذا كانت الجبيرة على موضع يغسل ثلاثا فهل يستحب له أن يمسح ثلاثا
المبحث الثاني إذا كانت الجبيرة على موضع يغسل ثلاثاً فهل يستحب له أن يمسح ثلاثاً
المبحث الثاني إذا كانت الجبيرة على موضع يغسل ثلاثاً فهل يستحب له أن يمسح ثلاثاً؟ سبق لنا أن تكلمنا عن تكرار المسح على الخفين، وسقنا الخلاف في تكرار المسح عليه، فقيل: لا يسن تكرار المسح، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2). وقيل: يكره، وهو مذهب المالكية (¬3) والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: يشرع تكراه المسح ثلاثاً قياساً على الغسل، وهو اختيار عطاء (¬5). ¬
وأظن الخلاف في تكرار المسح على الجبيرة كالخلاف في الخف؛ بجامع أن كلاً منهما مسح على حائل. قال في مواهب الجليل: " إذا كانت الجبيرة على موضع يغسل في الوضوء ثلاثاً، فإنه يمسح عليه مرة واحدة، لا ثلاثاً، قاله عبد الحق في النكت، قال: ودليله المسح على الخفين، إنما يمسح مرة واحدة، وهو بدل عن مغسول ثلاثاً؛ وذلك لأن شأن المسح التخفيف " (¬1). ¬
الخاتمة
الخاتمة بعد نهاية التطواف في أحكام المسح على الخفين والعمامة والجبيرة نخرج من هذا البحث بفوائد منها: الفائدة الأولى: أن جل مسائل أحكام المسح على الخفين نجد أن قول الجمهور فيها خلاف القول الراجح، مما يؤكد لطالب العلم أن الكثرة لا تدل على الإصابة، فكم من قول تبناه الجمهور، وهو قول ضعيف من جهة الأثر والنظر، فينبغي لطالب العلم أن يكون نظره في الدليل، وفي الدليل فقط ولا ينظر من قال به، وكنت أزعم أن طالب العلم لو جمع في أحكام العبادات ما خالف فيها الجمهور القول الراجح لخرج من ذلك بمجلد كبير، بل مجلدات. الفائدة الثانية: أن مسائل الإجماع في هذا الباب قليلة جداً، وذلك لأن أصل الباب، وهو المسح على الخفين أنكره بعض السلف، وبعضهم ادعى أنه منسوخ بآية المائدة. الفائدة الثالثة: أكثر شروط المسح على الخفين لا دليل عليها من الأثر، ولا من النظر الصحيح. الفائدة الرابعة: كثرة الأحاديث في المسح على الخفين، بل إن الأحاديث الواردة في المسح على الخفين أعظم بكثير من أحاديث الحيض والاستحاضة والنفاس، وأكثر من أحاديث التيمم، مع أن هذين البابين أهم بكثير من المسح على الخفين، كل ذلك من أجل توكيد المسح على الخفين، ورفع الريبة في حكمهما، والله أعلم. الفائدة الخامسة: ما رجحته في مباحث هذا الكتاب كالتالي
رجحت جواز المسح على الخفين والجوربين والنعل والعمامة والخمار، كما ملت إلى ترجيح الغسل على المسح من بعض الوجوه. كما رجحت أن المسح على الخفين رافع للحدث. وأن من به حدث دائم يحق له المسح كغيره. وأنه يجوز المسح على الخف المتنجس في استباحة مس المصحف ونحوه مما لا تشترط له الطهارة من النجس، بخلاف الصلاة، فإن يجب عليه أن يكون طاهراً في بدنه وثوبه وبقعته، والله أعلم. ورجحت المسح على الخف المحرم، سواء كان التحريم لحق الله أم لحق الآدمي، وذلك لأن التحريم عائد على أمر خارج عن المسح. كما رجحت جواز المسح على الخف المخرق، سواء كان الخرق يسيراً أم كبيراً ما دام يمكن له أن يلبسه، وينتفع به. كما رجحت جواز المسح على الجوارب التي تصف البشرة لرقتها، وأنه لا يوجد دليل على اشتراط أن يكون الجورب صفيقاً. كما بينت ضعف مذهب المالكية في اشتراط كون الخف من جلد. ورجحت أن يكون لبسه للخف على طهارة مائية، فلو تيمم، ولبس الخف، فإذا وجد الماء وجب خلع الخف، لعود الحدث السابق للبدن. كما رجحت جواز لبس الخف بعد طهارة إحدى القدمين، وأنه لايشترط أن تكون القدمان كلاهما طاهرتين، وإن كان الأحوط مراعاة ذلك. والمسح على الحائل لا مجال للقياس فيه، فلا يمسح إلا ما ورد به النص من خف وجورب وعمامة، فلا يجوز أن يمسح على القفازين، ولا
على ما تطلي به المرأة أظفارها، ونحو ذلك. كما رجحت بأن النية شرط في المسح على الخفين. وأما صفة المسح فيكفي مسح أكثر ظاهر الخف، وأكره غسل الخف بدلاً من مسحه، ولا يشرع تكرار المسح على الخفين، وأن يبدأ باليمنى حال المسح، وإن بدأ بهما معاً فلا حرج، وأن ابتداء المدة من أول مسح بعد الحدث، وأن الراجح في المسح على الخفين بأنه عبادة مؤقتة، يوماً وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ورجحت جواز لبس الخف على الخف، وإذا مسح خفاً تعلق الحكم به، فإذا خلعه، ثم أعاده، لم يمسح عليه إلا إن لبسه على طهارة مائية، ولا تنتقض الطهارة بمجرد خلع الخف. ورجحت جواز المسح على العمامة، وعلى خمار المرأة، وعلى القلانس، وأن المسح على العمامة لا يتشرط أن تكون محنكة أو ذات ذؤابة، ولا يشترط لبس العمامة على طهارة، ومسحها غير مؤقت على الصحيح، وإذا خلع العمامة لم تبطل طهارته، ولا يشترط استيعاب العمامة بالمسح. وفي المسح على الجبيرة رجحت أن المسح لم يرد في نص مرفوع مع كثرة ما يصيب المسلمين من جراح، وهم أهل جهاد، فلو كان مشروعاً لجاء ما يبين هذا الحكم، خاصة أنه يتعلق بأعظم العبادات العملية، وهي الصلاة، وأن المشروع هو التيمم، لأنه نوع من المرض، والله أعلم. وهذه المسائل التي رجحتها لا تعدو أن يكون فهماً معرضاً للخطأ والصواب، والتقصير والقصور، وهذا الفهم قد توافقني عليه، وقد تخالفني، ولا يكلف الإنسان إلا بما ظهر له، فإن أصاب فله أجران، وإلا كان له أجر، وهذا من لطف الله سبحانه وتعالى حيث لم يحرم المجتهد إذا أخطا من
الأجر، فهو على النصف من أجر المصيب، وما على الإنسان إلا أن يستفرغ وسعه في البحث والتحري للقول الراجح، وأن يبذل ما يستطيع في فهم النصوص، وأن يتحرى العدل والإنصاف، وأن يكون كالقاضي بين الخصوم، ينظر في حجة كل قول، ويتحرى أقربها للحق والعدل، وأن يبتعد عن التقليد الأعمى، فما وهنت الأمة، ولا ذلت، إلا بتركها الجهاد والاجتهاد في دينها، ففي الجهاد كمال القوة، وفي الاجتهاد كمال العلم والمعرفة. قال سبحانه وتعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}. وفي الختام أسأل الله سبحانه وتعالى بلطفه ورحمته وكرمه وعفوه أن يتجاوز عني، وأن يغفر لي ذنبي كله، وأن يسددني في القول والعمل، وأن يجعل ما علمنا حجة لنا لا علينا، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح إنه ولي ذلك والقادر عليه. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. تمت
[الحيض والنفاس]
تمهيد إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬1). {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬3). أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ولقد قال الدارمي رحمه الله: "الحيض كتاب ضائع لم يصنف فيه تصنيف يقوم بحقه" (¬4). ¬
وقال النووي: "اعلم بأن باب الحيض من عويص الأبواب، ومما غلط فيه كثيرون من الكبار لدقة مسائله، واعتنى به المحققون، وأفردوه بالتصنيف في كتب مستقلة". وقال أيضاً: "وقد رأيت ما لا يحصى من المرات، من يسأل من الرجال والنساء عن مسائل دقيقة وقعت فيه، لا يهتدى إلى الجواب الصحيح فيها إلا أفراد من الحذاق المعتنين بباب الحيض" (¬1). وقال ابن نجيم: "معرفة مسائل الحيض من أعظم المهمات، لما يترتب عليها ما لا يحصى من الأحكام، كالطهارة، والصلاة، وقراءة القرآن، والصوم، والاعتكاف، والحج، والبلوغ، والوطء، والطلاق، والعدة، والاستبراء وغير ذلك من الأحكام. وكان من أعظم الواجبات، لأن عظم منزلة العلم بالشيء، بحسب منزلة ضرر الجهل به: وضرر الجهل بمسائل الحيض أشد من ضرر الجهل بغيرها" (¬2). وترجع صعوبة الحيض لأمور منها: الأول: كون الحيض مما يختص به النساء. ويتعذر على الفقيه الوقوف على طبيعة الحيض بالحس والمشاهدة. الثاني: تكلف الفقهاء في تقعيد قواعد مرجوحة لا دليل عليها، ثم رد ¬
مسائل الحيض المختلفة إلى تلك القواعد المرجوحة، مما زاد الموضوع تشعباً وتعقيداً. وقد أحسن الشوكاني حين قال: "وقد أطال المصنفون في الفقه الكلام في المستحاضة، واضطربت أقوالهم اضطراباً يبعد فهمه على أذكياء الطلبة، فما ظنك بالنساء الموصوفات بالعي فى البيان، والنقص فى الأديان وبالغوا في التعسير حتى جاءوا بمسألة المتحيرة فتحيروا، والأحاديث الصحيحة قد قضت بعدم وجودها" اهـ (¬1). والملاحظ أن أحاديث الحيض أحاديث معدودة كلها تدل على يسره وسهولته، ولو كانت أحكام الحيض متشعبة كما يراه الفقهاء لكثرت الأحاديث التي تبين أحكامه بياناً تقوم به الحجة، وتفهمه عامة النساء. الثالث: تناول المرأة حبوباً فى منع الدورة والحمل مما قد يسبب اضطراباً في عادتها يصعب أحياناً ردها إلى كلام أهل العلم. ويتحير في أمرها طالب العلم. الرابع: عدم تحكيم السنن الواردة في الحيض، ومعارضتها بأقوال الرجال والتكلف فى صرفها عن ظاهرها. الخامس: قلة الكتب الطبية المتخصصة من الأطباء الموثوق بهم والتي يستعين بها الفقيه على فهم طبيعة الحيض، وتنزيل الأحكام الشرعية بناء على فهمها. ¬
منهجي في ذكر الأدلة
وقد كانت أحكام الحيض موضوع اهتمامي ضمن مشروع فقهي مقارن بلغ أحكام الطهارة منه ثلاثة عشر مجلداً، وحين رأيت أن الكتب المتخصصة في أحكام الحيض نادرة، وأكثرها يقع ضمن كتب الفقه أو شروح أحاديث الصحاح والسنن رأيت أن أكتب رسالة فى أحكام الحيض تجمع بين أقوال الفقهاء، وبين أدلة المحدثين، وتعتمد من الأقوال على أرجحها، دون تقيد بمذهب معين وتتناول الأحاديث على قواعد المحدثين، ليتبين الصحيح منها من الضعيف وقد سلكت في هذه الرسالة المنهج التالي: منهجي في ذكر الأدلة: أولاً: بالنسبة للأحاديث قمت بدراستها، وتخريجها، والكلام عليها صحة وضعفاً، ولم أكتف بدراسة الأسانيد، بل صرفت عناية كبيرة لدراسة المتون، وسقت الاختلاف على الرواة في ألفاظها، وبيان الراجح منها والمرجوح، ولقد حَكَّمت في الزيادات الواردة فى بعض الأحادث منهج جمهور المحدثين، ولم أقبل منهج جمهور الفقهاء والأصوليين، والمتأخرين من المحدثين الذين يقبلون كل زيادة تأتي من صدوق أو ثقة ما دام أن الزيادة ليست منافية لرواية الباقين. ولهذا المنهج ضعفت كثيراً من أحاديث الاستحاضة، وقد أكون بتضعيفي هذا خالفت من سبقني إلى هذا العلم العزيز، وممن هو في سن مشايخي، وأعلم مني، ولكن الحق قد يدركه المفضول ويغيب عن الفاضل. وحسبي أني قد ذكرت حجتي، وهذا مبلغ علمي، واستفراغ وسعي، ولأن أخطئ في اجتهاد معذور فيه، أحب إليَّ من أن أصيب في تقليدٍ ألام عليه.
ولم أذكر في هذا البحث، ولا في غيره خطأ عالم من العلماء المعاصرين، سواء كان في سن مشايخي، أو كان من أقراني، وسواء في المسائل الفقهية، أو البحوث الحديثية، ولا أرى أنه يسوغ لطالب العلم أن يسود صفحات كتابه بجمع أخطاء العلماء وإبرازها، وتنقصهم لذلك في مسائل يسوغ فيها الاختلاف، وأعني بالعلماء العلماء السلفيين من أهل السنة والجماعة. ولا أقصد بهم أهل البدع والضلال. ثانياً: إذا كان فى المسألة أحاديث مرفوعة، اكتفيت بها عن ذكر آثار الصحابة فإن لم يكن هناك أحاديث حرصت على ذكر آثار الصحابة رضي الله عنهم، وتكلمت عليها صحة وضعفاً، فإن لم يكن في المسألة أقوال للصحابة، ربما ذكرت أقوال التابعين، وأقوال التابعين لا أسوقها في معرض الاحتجاج بخلاف أقوال الصحابة. ثالثاً: بالنسبة لأدلة المذاهب تارة أنقلها من كتبهم، وتارة أستدل بها لهم وإن لم يذكروها من ضمن أدلتهم. فكل شيء أراه صالحاً بأن يكون دليلاً للقول أذكره، وإن لم يستدل به أهله. رابعاً: أعطيت حكماً مختصراً على الحديث، ليكتفي به غير المتخصص وجعلته في صلب الكتاب، وأما تخريج الحديث فجعلته في حاشية الكتاب حتى يمكن طيه ممن لا يريد قراءته. خامساً: إذا كان الحديث في الصحيحين، أو في أحدهما اكتفيت به، إلا أن تكون هناك حاجة كأن أكون مضطراً لبيان زيادة، وأريد أن أدلل على كونها
منهجي في ذكر أقوال العلماء.
محفوظة أو شاذة. سادساً: قمت بترقيم الأحاديث والآثار. منهجي في ذكر أقوال العلماء. أولاً: حررت أقوال الفقهاء، خاصة الأئمة الأربعة من أمهات كتبهم المعتمدة، والتي تعتبر مرجعاً في تحرير مذهبهم، ولم أنقل قط من كتب الحنابلة مذهب الشافعية أو العكس، طلباً للدقة في نسبة الأقوال وتحرير المذاهب. ثانياً: إذا كان فى المذهب الواحد أكثر من قول لأصحابه، اخترت المشهور من المذهب، وأما بقية الأقوال في المذهب، فإن كانت هذه الأقوال توافق مذهباً من مذاهب الأئمة اكتفيت بمذهب هذا الإمام عن ذكرها، وإن كانت لا توافق ذكرتها تحرياً فى حصر الأقوال في المسألة قدر الإمكان. ثالثاً: أذكر الأقوال حسب ترتيبها الزمني، خاصة بالنسبة للمذاهب الأربعة، بصرف النظر عن الراجح منها. رابعاً: أحياناً أذكر أقوال بعض المحققين كابن حزم من الظاهرية وابن تيمية، وابن القيم من الحنابلة، والشوكاني من المتأخرين وغيرهم. خامساً: لا أرى الحق محصوراً في المذاهب الأربعة، ولهذا قد أرجح في بعض المسائل خلاف قول الجمهور، ولو جمع طالب العلم المسائل التي خالف فيها الجمهور القول الراجح في العبادات فقط لجاء مجلداً ضخماً، بل ربما مجلدات. ولا يعني هذا القول بأني أدعو إلى الاعتماد اعتماداً كلياً على كتب السنة
وعدم الاستفادة من أقوال الأئمة؛ فإن كتبهم ومؤلفاتهم من أعظم الأسباب التي تعين طالب العلم على فهم الأدلة الشرعية، ومراد الشارع منها، وبيان المخصص، والمقيد للأدلة العامة والمطلقة، ومنهجي في هذا البحث شاهد على ما أقول، ولكني في الوقت نفسه لا أرى الاكتفاء بكتب الفقه، والاقتصار على المتون، وعدم النظر في كتب السنة، وترك العناية في البحث فيها، وبيان صحيحها من ضعيفها. ولقد أحسن الخطابي في مقدمة معالم السنن حيث قال: "رأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا على حزبين، وانقسموا إلى فريقين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر، وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية والإرادة؛ لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع. وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب. ووجدت هذين الفريقين على ما بينهم من التداني في المحلين، والتقارب في المنزلتين، وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض، وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم إلى صاحبه - إخواناً متهاجرين، وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين. فأما هذه الطبقة الذين هم أهل الحديث والأثر، فإن الأكثرين منهم إنما وكدهم الروايات، وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذى أكثره موضوع أو مقلوب، لا يراعون المتون، ولا يتفهمون المعاني، ولا
يستنبطون سيرها ولا يستخرجون ركازها وفقهها، وربما عابوا الفقهاء، وتناولوهم وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أوتوه من العلم قاصرون، وبسوء القول فيهم آثمون. وأما الطبقة الأخرى - وهم أهل الفقه والنظر - فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقله، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيده من رديئه، ولا يعبأون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها، ووافق آرائهم التي يعتقدونها، وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف، والحديث المنقطع، إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم، وتعاورته الألسن فيما بينهم، من غير ثبت فيه، أو يقين علم به، فكان ذلك ضلة من الرأي، وغبناً فيه، وهؤلاء - وفقنا الله وإياهم - لو حكي لهم عن واحد من رؤساء مذاهبهم، وزعماء نحلهم قول يقوله باجتهاد من قبل نفسه، طلبوا فيه الثقة، واستبرؤوا فيه العهدة، فتجد أصحاب مالك لا يعتمدون من مذهبه إلا ما كان من رواية ابن القاسم، والأشهب، وضربائهم من تلاد أصحابه، فإذا جاءت رواية عبد الله بن عبد الحكم وأضرابه لم تكن عندهم طائلاً. وترى أصحاب أبي حنيفة لا يقبلون من الرواية إلا ما حكاه أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، والعلة من أصحابه، والأجلة من تلاميذه، فإن جاءهم عن الحسن بن زياد اللؤلؤي وذويه رواية قول بخلافه لم يقبلوه ولم يعتمدوه.
وكذلك تجد أصحاب الشافعي إنما يعولون في مذهبه على رواية المزني، والربيع بن سليمان المرادي، فإذا جاءت رواية حرملة والجيزي وأمثالهما لم يلتفتوا إليها، ولم يعتدوا بها في أقاويله. وعلى هذا عادة كل فرقة من العلماء في أحكام مذاهب أئمتهم وأستاذيهم، فإذا كان هذا دأبهم، وكانوا لا يقتنعون في أمر هذه الفروع ورواياتها عن هؤلاء الشيوخ إلا بالوثيقة والثبت، فكيف يجوز لهم أن يتساهلوا في الأمر الأهم، والخطب الأعظم؟ وأن يتواكلوا الرواية والنقل عن إمام الأئمة، ورسول رب العزة، الواجب حكمه، اللازمة طاعته، الذي يجب علينا التسليم لحكمه، والانقياد لأمره من حيث لا نجد في أنفسنا حرجاً مما قضاه، ولا في صدورنا إلا من شيء مما أبرمه وأمضاه" (¬1). إلى آخر كلامه رحمه الله، وهو كلام نفيس نقلته رغم طوله، وهو يدل على أن أهل الحديث لا غنى لهم عن الفقه، وكذلك العكس، لذا حاولت في هذه الرسالة أن أجمع بين أقوال الفقهاء، وبين أدلة المحدثين. سادساً: حاولت قدر الإمكان أن أقر بعض الكتب الطبية في الحيض والنفاس، خاصة في تلك المسائل التي هي محل خلاف بين الفقهاء، ومردها إلى الأطباء، وذلك مثل نحو حيض الحامل، وتخلق الجنين، وتكرار الحيض في الشهر أكثر من مرة ونحوها، وقد رجعت عن اختياري في بعض المسائل حين ¬
اطلعت على كتب الطب، ومن أَهم الكتب الطبية التي رجعت إليها مجموعة من مؤلفات الدكتور: محمد علي البار. خاصة كتابيه: خلق الأنسان بين الطب والقرآن. والجنين المشوه، والأمراض الوراثية. ومنها كتاب الإنسان هذا الكائن العجيب. للدكتور تاج الدين الجاعوني. في ثلاثة أجزاء ومنها كتاب الآيات العجاب في رحلة الإنجاب. د. حامد أحمد حامد. ومنها كتاب روعة الخلق. ترجمة ماجد طيفور. ومنها كتاب 100 سؤال وجواب في النساء والولادة للدكتورة سلوى بهكلي. ومنها كتاب: أبحاث فقهية فى قضايا طبية معاصرة. د محمد نعيم ياسين. ومنها كتب فقهية اعتنت بنقل كلام الأطباء، مثل كتاب الحيض والنفاس بين الفقه والطب. د. عمر الأشقر، والمرأة الحامل في الشريعة الإسلامية ليحيى بن عبد الرحمن الخطيب.
خطة البحث في هذا الكتاب
خطة البحث في هذا الكتاب: يشتمل الكتاب على مقدمة، وخاتمة، وعلى ثمانية أبواب، ويشتمل كل باب منها على فصول، والفصول على مباحث وفروع ومسائل، على النحو التالي: المقدمة: وتشتمل على مباحث: المبحث الأول: تعريف الحيض. المبحث الثاني: أسماء الحيض. المبحث الثالث: خلاف العلماء في تاريخ الحيض. المبحث الرابع: الحيض دليل على بلوغ المرأة. الباب الأول: في أحكام الحيض من حيث وقته ومقداره. ويشتمل على تسعة فصول: الفصل الأول: خلاف العلماء فى السن الذي تحيض به المرأة. الفصل الثاني: الخلاف في منتهى سن الحيض عند النساء. الفصل الثالث: هل الحمل زمن صالح للحيض. الفصل الرابع: خلاف العلماء في أقل الحيض. الفصل الخامس: خلاف العلماء في أكثر الحيض. الفصل السادس: خلاف العلماء في غالب الحيض. الفصل السابع: خلاف العلماء في أقل الطهر. الفصل الثامن: القول في أكثر الطهر. الفصل التاسع: القول في غالب الطهر.
الباب الثاني: في المبتدأة. ويشمل على فصلين: الفصل الأول: في حكم المبتدأة. وفيه مبحثان: المبحث الأول: حكم المبتدأة التي انقطع دمها لأكثر الحيض فما دون. المبحث الثاني: حكم المبتدأة الذي عبر دمها أكثر الحيض. الفصل الثاني: متى تثبت للمبتدأة عادة. الباب الثالث: في الطوارئ على الحيض. ويشتمل على ستة فصول: الفصل الأول: خلاف العلماء في المرأة إذا زاد الدم على عادتها. الفصل الثاني: خلاف العلماء في المرأة إذا طهرت قبل تمام عادتها. الفصل الثالث: كلام أهل العلم في انتقال عادة المرأة بأن تقدمت أو تأخرت. الفصل الرابع: في النقاء المتخلل بين الدمين. الفصل الخامس: خلاف العلماء في الصفرة والكدرة. الفصل السادس: في تعاطي المرأة أدوية ترفع الحيض أو تستعجل نزوله.
الباب الرابع: في طهارة الحائض. ويشتمل على ثلاثة فصول، وسبعة مباحث، وتسعة فروع، وستة مسائل. الفصل الأول: في طهارة عرق الحائض، وسؤرها، ومخالطتها، وطهارة ثيابها. الفصل الثاني: في طهارة الحائض من الحدث. ويشتمل على مباحث: المبحث الأول: في حكم غسل المرأة من الحيض. المبحث الثاني: خلاف العلماء في الموجب للغسل. المبحث الثالث: في صفة الغسل من المحيض. وفيه فروع: الفرع الأول: خلاف العلماء في حكم النية. الفرع الثاني: هل تشرع التسمية في غسل المحيض؟ الفرع الثالث: وفي وضوء الغسل. وفيه مسائل: المسألة الأولى: حكم الوضوء. المسألة الثانية: محل الوضوء، هل يكون قبل الاغتسال أو بعده. المسألة الثالثة: هل يغسل أعضاء الوضوء مرة ثانية في الاغتسال، أم يكفي فيها الوضوء؟ المسألة الرابعة: حكم المضمضة والاستنشاق في الغسل إذا لم يتوضأ. المسألة الخامسة: هل يمسح رأسه في هذا الوضوء، أم يكتفي بغسله؟ المسألة السادسة: هل يشرع للمرأة في الوضوء التثليث، أم المشروع في
الوضوء أن يكون مرة؟ الفرع الرابع: هل تنقض المرأة رأسها في غسل المحيض؟ الفرع الخامس: في المسترسل من الشعر، هل يجب غسل ظاهره وباطنه؟ الفرع السادس: في غسل البدن، وهل يغسل ثلاثاً؟ الفرع السابع: هل يكون غسل الرجلين، فى الوضوء، أو يغسلهما إذا فرغ من الغسل؟ الفرع الثامن: الفرق بين غسل الجنابة، وغسل الحيض. الفرع التاسع: في ذكر صفة الغسل من الحيض الكامل والمجزئ بإيجاز. الفصل الثالث: في طهارة الحائض من دم الحيض. المبحث الأول: فى نجاسة دم الحيض. المبحث الثاني: هل يتعين الماء في إزلة دم الحيض؟ المبحث الثالث: هل يجب عدد معين في غسل دم الحيض؟ المبحث الرابع: علامة الطهر عند الحائض. الباب الخامس: فيما يتعلق بالحائض من أحكام العبادات. ويشتمل على خمسة فصول. الفصل الأول: فى الحائض، وتعبدها بكتاب الله. ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في قراءة القرآن للحائض. المبحث الثاني: في مس الحائض المصحف.
المبحث الثالث: الحائض هل تسجد للتلاوة والشكر؟ الفصل الثاني: فى أحكام الحيض من حيث الصلاة. ويشتمل على سبعة مباحث: المبحث الأول: يحرم على الحائض فعل الصلاة، ولا يستحب لها القضاء. المبحث الثاني: هل يستحب للحائض أن تتوضأ وقت الصلاة، وتجلس في مصلاها تذكر الله مقدار الصلاة؟ المبحث الثالث: هل تثاب الحائض على ترك الصلاة؟ المبحث الرابع: هل يستحب للحائض قضاء الصلاة، أو هل يباح؟ المبحث الخامس: إذا حاضت المرأة في وقت الصلاة، وقبل أن تصلي، فهل يجب عليها قضاء تلك الصلاة إذا طهرت؟ المبحث السادس: في طهر المرأة من الحيض قبل خروج وقت الصلاة. المبحث السابع: هل تحصيل الطهارة شرط في إدراك الوقت؟ الفصل الثالث: في أحكام الحيض من حيث الصوم. ويشتمل على أربعة مباحث: المبحث الأول: يحرم على الحائض فعل الصوم، ويجب عليها القضاء. المبحث الثاني: إذا طهرت الحائض في نهار رمضان، فهل يلزمها الإمساك بقية النهار؟ المبحث الثالث: في المرأة تطهر قبل الفجر، ولا تغتسل إلا بعد طلوع الصبح.
المبحث الرابع: إذا أفطرت المرأة بالجماع، ثم نزل الحيض، هل تسقط الكفارة؟ الفصل الرابع: في أحكام الحيض من حيث المسجد. ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في خلاف العلماء في مكث الحائض في المسجد. المبحث الثاني: في مرور الحائض في المسجد بلا مكث. المبحث الثالث: في اعتكاف الحائض. فرع: إذا حاضت المرأة وهي معتكفة. الفصل الخامس: في أحكام الحيض من حيث المناسك. ويشتمل على ثمانية مباحث: المبحث الأول: فى إحرام الحائض والنفساء. المبحث الثاني: خلاف العلماء فى اشتراط الطهارة للطواف. المبحث الثالث: في المرأة إذا اضطرت للطواف، وهي حائضة المبحث الرابع: هل للحائض أن تسعى بين الصفا والمروة؟ المبحث الخامس: في المرأة المتمتعة إذا حاضت قبل طواف العمرة وخشيت فوات الحج. المبحث السادس: في سقوط طواف الوداع عن الحائض. المبحث السابع: إذا نفرت الحائض قبل طواف الوداع، وطهرت قبل مفارقة البنيان.
المبحث الثامن: في طواف المستحاضة. الباب السادس: في أحكام الحائض من حيث العلاقات الزوجية. ويشتمل على فصول: الفصل الأول: تحريم وطء الحائض في فرجها. الفصل الثاني: خلاف العلماء فى مباشرة الحائض فيما بين السرة والركبة. الفصل الثالث: إذا جامع الرجل امرأته وهي حائض هل عليه كفارة؟ وفيه فروع: الفرع الأول: هل يكفر من استحل جماع الحائض في فرجها؟ الفرع الثاني: هل جماع المرأة في حال الحيض من كبائر الذنوب، أم يعد من الصغائر؟ الفرع الثالث: إذا قيل بوجوب الكفارة على من أتى امرأته وهي حائض فهل تجب على الجاهل والناسي؟ الفرع الرابع: إذا قلنا بوجوب نصف الدينار فهل تخرج القيمة؟ الفرع الخامس: هل تلزم المرأة كفارة؟ الفصل الرابع: في حكم طلاق الحائض وهل يقع؟ الفصل الخامس: في حكم الخلع في زمن الحيض. الفصل السادس: خلاف العلماء في خلع الحائض. الباب السابع: في أحكام الاستحاضة. ويشتمل على سبعة فصول، وعشرة مباحث، وأربعة فروع.
تمهيد: ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: في تعريف الاستحاضة المبحث الثاني: في الفرق بين دم الحيض والاستحاضة الفصل الأول: في حكم المستحاضة إذا كانت مبتدأة ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: تعريف المبتدأة، ومتى تكون مستحاضة؟ المبحث الثاني: خلاف العلماء فى المستحاضة المبتدأة ويشتمل على فرعين: الفرع الأول: خلاف العلماء في المستحاضة المبتدأة إذا كانت مميزة. الفرع الثاني: خلاف العلماء فى المستحاضة المبتدأة إذا كانت غير مميزة. الفصل الثاني: خلاف العلماء فى تقدير طهر المستحاضة. الفصل الثالث: فى المستحاضة المعتادة ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: في خلاف العلماء فى المستحاضة المعتادة المميزة المبحث الثاني: خلاف العلماء في المستحاضة المعتادة غير المميزة الفصل الرابع: في المرأة المستحاضة المتحيرة ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: خلاف العلماء فى المستحاضة المتحيرة بالعدد. المبحث الثاني: خلاف العلماء فى المستحاضة المتحيرة بالوقت. المبحث الثالث: خلاف العلماء في المتحيرة بالعدد والوقت. الفصل الخامس: في طهارة المستحاضة ويشتمل على المبحث الأول: خلاف العلماء في وجوب الوضوء من دم الاستحاضة. الفرع الأول: وجوب غسل فرج المستحاضة عند الوضوء. الفرع الثاني: شد عصابة الفرج عند الوضوء. الفصل السادس: خلاف العلماء فى وجوب الغسل على المستحاضة الفصل السابع: خلاف العلماء في وطء المستحاضة. الباب الثامن: في أحكام النفاس ويشتمل على تمهيد، وإحدى عشر فصلاً، وثلاثة مباحث، وثلاثة فروع. التمهيد: في تعريف النفاس لغة واصطلاحاً. الفصل الأول: بأي شيء يثبت حكم النفاس الفصل الثاني: فى أحكام السقط. ويشتمل على: المبحث الأول: في أسباب السقط. المبحث الثاني: في الحكم التكليفي للإسقاط.
ويشتمل على: الفرع الأول: في إسقاط الجنين بعد نفخ الروح. الفرع الثاني: حكم الإسقاط قبل نفخ الروح الفرع الثالث: في حكم الإسقاط للضرورة بعد نفخ الروح. المبحث الثالث: متى يبدأ الجنين بالتخلق؟ الفصل الثالث: في خلاف العلماء في الدم مع الولادة. الفصل الرابع: في خلاف العلماء في الدم التي تراه الحامل قبل الولادة. الفصل الخامس: في النقاء المتخلل بين الدمين. الفصل السادس: إذا ولدت المرأة ولم تر دماً الفصل السابع: في جماع النفساء إذا طهرت قبل الأربعين. الفصل الثامن: خلاف العلماء فى أقل النفاس. الفصل التاسع: في خلاف العلماء فى أكثر النفاس. الفصل العاشر: إذا وضعت المرأة توأمين فالنفاس من أيهما؟ الفصل الحادي عشر: في الأحكام المترتبة على النفاس. الخاتمة: وتشتمل على نتائج البحث. هذا وأسأل الله العظيم أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعله من عملي الذي لا ينقطع بموتي، وأن يكتب له القبول. وإن هذا الكتاب كما أسلفت كتاب من سلسة بحوث فقهية، وإني أتمنى على علمائنا، ومشايخنا، وطلاب العلم أن يمدونني باقتراحاتهم حول منهج
الكتاب حتى يستفاد منها في الكتب اللاحقة إن شاء الله تعالى، ولكم مني دعوة في ظهر الغيب. كما لا أنسى أن أشكر كل من قرأ الكتاب، وأمدني بملحوظاته وتصويباته، جعل الله ذلك في ميزان حسناتهم، ونفع الله بعلمهم. كتبه أبو عمر الدبيان
المقدمة
المقدمة وتشتمل على: المبحث الأول: تعريف الحيض. المبحث الثاني: أسماء الحيض. المبحث الثالث: خلاف العلماء في تاريخ الحيض. المبحث الرابع: الحيض دليل على بلوغ المرأة.
المبحث الأول: تعريف الحيض
المبحث الأول: تعريف الحيض تعريف الحيض لغة: جاء في اللسان، وفي تاج العروس: "حاضت المرأة تحيض، حيضاً، ومحيضاً فهي حائض، والمحيض يكون اسماً ويكون مصدراً. وقال المبرد: سمي الحيض حيضاً، من قولهم: حاض السيل إذا فاض. وجمع الحائض: حوائض وحُيَّض. والحيضة: المرة الواحدة من دفع الحيض ونوبه. والحِيضَه بالكسر الاسم. وقيل: الدم نفسه، وفي حديث أم سلمة: "ليست حيضتك في يدك" (¬1). وقيل: الحال التي تلزمها الحائض من التجنب والتحيض، كالجلسة والقعدة. وتحيضت المرأة: تركت الصلاة أيام حيضها. وفي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال للمرأة: "تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً" (¬2). أي عدى نفسك حائضاً، وافعلي ما تفعل الحائض. ¬
وتحيضت المرأة: إذا قعدت أيام حيضتها تنتظر انقطاعه. ويقال: تحيضت: شبهت نفسها بالحائض. والحِيضَة: الخرقة التي تستثفر بها المرأة. قالت عائشة رضي الله عنها: "ليتني كنت حيضة ملقاة" وكذلك المَحِيضة، والجمع: المحايض وفي حديث بئر بضاعة: "تلقي فيها المحايض" (¬1). وحاضت: بلغت سن المحيض. ومنه الحديث: "لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار" (¬2). ويقال: حائض. وهل يقال: حائضة؟ قال ابن منظور: الأصل أن الهاء إنما للحق للفرق بين المذكر والمؤنث. وأما ما لا يكون للمذكر فقد استغنى فيه عن علامة التأنيث فإذا قيل: امرأة حامل: فهذا نعت لا يكون إلا للمؤنث، وأما إذا حملت المرأة شيئاً على ظهرها فهي حاملة لا غير، لأنه يشترك فيه المذكر والمؤنث. هذا قول أهل الكوفة، وأما أهل البصرة، فإنهم يقولون: هذا غير مستمر، لأن العرب قالت: رجل أيم، وامرأة أيم، ورجل عانس وامرأة عانس. اهـ. وحكى الجوهري: حاضت فهي حائضة، وأنشد: كحائضة يزنى بها غير طاهر. اهـ. بتصرف (¬3). ¬
تعريف الحيض اصطلاحا
تعريف الحيض اصطلاحاً: لا يمكن أن نقدم تعريفاً للحيض يكون محل اتفاق بين الفقهاء، لاختلافهم فى اشتراط بعض الأوصاف، فبعضهم يرى أن الحامل قد تحيض، وبعضهم لا يراه حيضاً، وبعضهم يرى أن الدم قبل تسع سنوات حيض، وبعضهم يراه دم فساد. لذا سأقتصر على تعريف واحد للحيض لكل مذهب من المذاهب وسأحاول اختيار أتمها وأشملها ما أمكن. تعريف الحنفية: الحيض: دم ينفضه رحم امرأة سليمة عن داء وصغر (¬1). قال ابن الهمام: "فقيد (الرحم): يخرج دم الاستحاضة، والجراح". (والسليمة من الداء): يخرج النفاس، لأن النفاس في حكم المريضة ولذا اعتبر تبرعاتها من الثلث (¬2). قلت: ولفظ (الصغر): يخرج الدم الذي تراه صغيرة لا يمكن أن تحيض؛ فإنه دم فساد. وقد اعترض على هذا التعريف باعتراضات، لا داعي لذكرها؛ لأنه لا طائل من ورائها. ¬
تعريف المالكية
تعريف المالكية: عرف الحيض ابن جزي من المالكية، فقال: "هو الدم الخارج من فرج المرأة، التي يمكن حملها عادة، من غير ولادة ولا مرض، ولا زيادة على الأمد" (¬1). فقوله: (الخارج من فرج المرأة): خرج به الدم الخارج من الدبر. وقوله: (التي يمكن حملها): خرج بذلك الصغيرة جداً التي لا يمكن أن تحيض. وقوله: (من غير ولادة): خرج بذلك دم النفاس. وقوله: (ولا مرض): أخرج دم النزيف وشبهه. وقوله: (ولا زيادة على الأمد): خرج بذلك دم الاستحاضة (¬2). تعريف الشافعية: قال في مغنى المحتاج: "هو الخارج من فرج المرأة على سبيل الصحة، من غير سبب الولادة في أوقات معلومة" (¬3). ¬
تعريف الحنابلة
تعريف الحنابلة: قال البهوتي: "دم طبيعة وجبلة، يرخيه الرحم، يعتاد أنثى إذا بلغت، في أوقات معلومة" (¬1). فزاد على تعريف الشافعية كونه من علامات البلوغ، وعليه فتعريف البهوتي يكاد يكون أكمل التعريفات. فقوله: (دم جبلة وطبيعة): أي خلقة كتبه الله على بنات آدم. فخرج بذلك دم الاستحاضة، والنزيف؛ فإنه دم مرض. وقوله: (ترخيه الرحم): قال الفقهاء المراد به قعر الرحم، فخرج بذلك ما يخرج من أدنى الرحم كالاستحاضة. وقوله: (يعتاد أنثى): إشارة إلى أنه ليس بدم فساد، بل خلقه الله لحكمة غذاء الولد وتربيته. وقوله: (إذا بلغت): إشارة إلى أن دم الحيض علامة من علامات البلوغ، كما جاء في حديث عائشة مرفوعاً (لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار) وسيأتي تخريجه، إن شاء الله تعالى (¬2). وقوله: (في أيام معلومة): إشارة إلى أن دم الحيض لا يكون مستمراً ¬
بخلاف الاستحاضة فقد يستمر مع المرأة سنوات (¬1). هذا ما تيسر لي جمعه في تعريف الحيض، والتوسع في التعريف غير محمود. ¬
المبحث الثاني في أسماء الحيض
المبحث الثاني في أسماء الحيض الدم المعتاد الذي يخرج من المرأه أسماء كثيرة منها: الأول: الحيض، وهو أشهرها. الثاني: الطمث، والمرأة طامث. قال الفراء: الطمث الدم. وكذلك قيل: إذا افتض الرجل البكر، قد طمثها، أي أدماها (¬1) قال تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} (¬2). الثالث: العراك. [1] جاء في حديث جابر عند مسلم قال رحمه الله: حدثنا قتيبة بن سعيد، ومحمد بن رمح جميعاً، عن الليث بن سعد، قال قتيبة: حدثنا ليث، عن أبي الزبير، ¬
عن جابر، أنه قال: "أقبلنا مهلين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج مفرد، وأقبلت عائشة رضي الله عنها بعمرة، حتى إذا كنا بسرف عركت ... الحديث" (¬1). وفي اللسان: العراك: الحيض. ونساء عوارك: أي حيض. وأنشد ابن بري أيضاً: أفي السلم أعياراً جفاء وغلظة ... وفي الحرب أمثال النساء العوارك (¬2) الرابع: الضحك، والمرأة ضاحك. واستدل على هذا بقول الله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} (¬3) حكى ابن جرير الطبري في تفسيره للآية: عدة تفسيرات: أحدهما: معنى ضحكت: أي حاضت. والثاني: قيل: ضحكت تعجباً من أنها وزوجها إبراهيم يخدمان ضيفانهم بأنفسهم تكرمة لهم، وهم عن طعامهم ممسكون لا يأكلون (¬4). قال في اللسان: ضحكت المرأة: حاضت، وبه فسر بعضهم قوله تعالى: {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} (¬5). وقد فسر على معنى العجب: أي عجبت من فزع إبراهيم عليه السلام. ¬
وروى الأزهري عن الفراء في تفسير هذه الآية: لما قال الله تعالى: لعبده وخليله: {لَا تَخَفْ} ضحكت عند ذلك امرأته، ثم قال الفراء: وأما قولهم: فضحكت: حاضت، فلم أسمع من ثقة (¬1). قلت: وما دام لم يسمع من ثقة، فلا يصح أن معنى ضحكت: حاضت. الخامس: الإكبار، واستدلوا على أن الإكبار بمعنى الحيض. [2] رواه ابن جرير الطبري في تفسيره، من طريق علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه عن جده في قوله: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} (¬2)، قال: حضن. [وسنده ضعيف] (¬3). واستدلوا أيضاً من اللغة، قال ابن جرير في تفسيره: "وقد زعم بعض الرواة: أن بعض الناس أنشده في: أكبرن بمعنى حضن بيتاً، ¬
لا أحسب أن له أصلاً؛ لأنه ليس بمعروف عند الرواة وذلك قوله: نأتي النساء على أطهارهن ولا ... نأتي النساء إذا أكْبَرْن إكباراً وزعم أن معناه: إذا حضن. وجاء في اللسان: "وأما قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} (¬1). فأكثر المفسرين يقولون: أعظمنه. وروى عن مجاهد أنه قال: أكبرنه: حضن، وليس ذلك بالمعروف في اللغة. قال أبو منصور: إن صحت هذه اللفظة في اللغة بمعنى الحيض، فلها مخرج حسن، وذلك أن المرأة أول ما تحيض فقد خرجت من حد الصغر إلى حد الكبر، فقيل لها: أكبرت: أي حاضت، فدخلت في حد الكبر الموجب عليها الأمر والنهي. وروى عن أبي الهيثم أنه قال: سألت رجلاً من طيء، فقلت له: يا أخا طيء ألك زوجة؟ قال: لا والله ما تزوجت، وقد وعدت في ابنة عم لي. قال: وما سنها؟ قال: قد أكبرت، أو كَبرت. قال: وما أكبرت؟ قال: حاضت. قال أبو منصور: فلغة طيء تصحح أن إكبار المرأة أول حيضها، إلا أن هاء الكناية في قوله تعالى: {أَكْبَرْنَهُ} تنفي هذا المعنى، فالصحيح أنهن لما رأين يوسف راعهن جماله، فأعظمنه. وروى الأزهري بسنده عن ابن عباس، في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ ¬
أَكْبَرْنَهُ} (¬1)، قال: حضن. فإن صحت الرواية عن ابن عباس سلمنا له (¬2)، وجعلنا الهاء في قوله: {أَكْبَرْنَهُ} هاء وقفة لا هاء الكناية. والله أعلم بما أراد. اهـ (¬3). السادس: الإعصار. قال في اللسان: "المعصر: التى بلغت عصر شبابها وقيل: أول ما أدركت وحاضت. وقال منصور بن مرثد الأسدي. جارية بسفوان دارها تمشي الهوينا ساقطاً خمارها قد أعصرت أو قد دنا إعصارها" (¬4). السابع: النفاس. [3] روى البخاري، قال: حدثنا المكي بن إبراهيم، قال: حدثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، أن زينب بنت أم سلمة حدثته، أن أم سلمة حدثتها، قالت: بينا أنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مضطجعة في خميصة إذ حضت، فانسللت، فأخذت ثياب حيضتي، قال: أنفست؟ قلت: نعم. فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة. ¬
ورواه مسلم (¬1) قال في الفتح: قال الخطابي: أصل هذه الكلمة من النفس وهو الدم (¬2). قال ابن عبد البر: قوله: "نفست" لعلك أصبت بالدم، يعني الحيضة، والنفس: الدم. ألا ترى إلى قول إبراهيم النخعي، وهو عربي فصيح، كل ما لا نفس له سائلة يموت في الماء لا يفسده. يعني: دماً سائلاً (¬3). ¬
المبحث الثالث: خلاف العلماء في تاريخ ابتداء الحيض
المبحث الثالث: خلاف العلماء في تاريخ ابتداء الحيض اختلف العلماء في ابتداء الحيض على قولين: الأول: أن ابتداء الحيض لم يزل في النساء منذ خلقهن الله. الثاني: قالوا: إن أول ما أرسل الحيض على نساء بني إسرائيل. أدلة القول الأول: [4] قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا علي بن عبد الله يعني: المديني قال: حدثنا سفيان، قال: سمعت عبد الرحمن بن القاسم قال: سمعت القاسم يقول: سمعت عائشة تقول: خرجنا لا نرى إلا الحج، فلما كنا بسرف حضت، فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أبكي، قال: "مالك، أنفست؟ " قلت: نعم: قال: "إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاقضي ما يقضي الحاج، غير ألا تطوفي بالبيت". ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: قوله في الحديث: "كتبه الله على بنات آدم" فهذا دليل على أن الحيض لازم للنساء منذ خلقهن الله، وأنه لم يحدث أول ما حدث في بني إسرائيل. وقوله: "كتبه الله" تدل على اللزوم والثبوت، والكتابة نوعان: ¬
الدليل الثاني
الأول: كتابة شرعية، كما في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (¬1). والثاني: كتابة قدرية. كما في قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} (¬2). قال ابن رجب: "وقد استدل البخاري لذلك بعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم". وهو استدلال ظاهر حسن. ونظيره استدلال الحسن على إبطال قول من قال: أول من رأى الشيب إبراهيم عليه السلام بعموم قول الله عز وجل. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} (¬3) (¬4). [5] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم" جاء من حديث جابر عند مسلم (¬5). الدليل الثاني: [6] روى ابن المنذر في الأوسط، قال: حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى، ثنا أبو الربيع، ثنا عباد بن العوام، ثنا سفيان بن حسين، عن يعلى بن مسلم، عن ¬
سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: "لما أكل آدم من الشجرة التي نهي عنها، قال آدم: رب زينته لي حواء، قل: فإني قد أعقبتها ألا تحمل إلا كرهاً، ولا تضع إلا كرهاً، وأدميتها في الشهر مرتين (¬1)، فرنت (¬2) حواء عند ذلك. فقيل لها: الرنة عليك وعلى بناتك" (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). ومثله لا يقال بالرأي. [7] وروى ابن جرير الطبري في تفسيره قال: حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} (¬5). قال: المطهرة التي لا تحيض. ثم قال ابن بزيد: وكذلك خلقت حواء حتى عصت، فلما ¬
عصت، قال الله: إني خلقتك مطهرة، وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة (¬1). [إسناده صحيح إلى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم] (¬2). أدلة القول الثاني: [8] روى عبد الرزاق في المصنف: عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن ابن مسعود قال: "كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يصلون جميعاً فكانت المرأة لها الخليل، تلبس القالبين تطول بهما لخليلها، فألقي عليهن الحيض، فكان ابن ¬
الدليل الثاني
مسعود يقول: أخروهن حيث أخرهن الله. فقلنا لأبي بكر: ما القالبين؟ (¬1) قال: دفيصين من خشب". [إسناده صحيح] (¬2). وصحح إسناده الحافظ في الفتح (¬3). الدليل الثاني: [9] روى عبد الرزاق في المصنف، قال: عن معمر، عن هشام ابن عروة، عن أبيه: عن عائشة، قالت: "كان نساء بني إسرائيل يتخذن أرجلاً من خشب، يتشرفن للرجال في المساجد، فحرم الله عليهن المساجد، وسلطت عليهن الحيضة". [رجاله ثقات، إلا أن رواية معمر عن هشام فيها كلام. وهو شاهد لأثر ابن عباس] (¬4). الجمع بين القولين: ليس في الأثرين ما يدل على أن ابتداء وجود الحيض كان في بني إسرائيل ¬
فأثر ابن مسعود فيه: "فألقى عليهن الحيضة". وأثر عائشة فيه: "وسلطت عليهن الحيضة". قال ابن حجر في الفتح: ويمكن أن يجمع بينهما، مع القول بالتعميم بأن الذي أرسل على نساء بني إسرائيل، طول مكثه، عقوبة لهن لا ابتداء وجوده (¬1). هذا جمع من رجح أن الحيض كان لازماً للنساء منذ خلقهن الله. وأما جمع من رجح أن أول وجوده كان في بني إسرائيل، فقال كما في الفتح: "وليس بينهما مخالفة، فإن نساء بني إسرائيل من بنات آدم، فيكون قوله: "بنات آدم" عام أريد به الخصوص" اهـ (¬2). قلت: يمنع منه ما صح عن ابن عباس، وأن الحيض كان في حواء، فالجمع الأول أرجح، والله أعلم (¬3). ¬
المبحث الرابع: الحيض دليل على بلوغ المرأة
المبحث الرابع: الحيض دليل على بلوغ المرأة تعريف البلوغ: أما تعريفه لغة: فهو الوصول. يقال: بلغ الشيء يبلغ بلوغاً وبلاغاً: وصل وانتهى. وبلغ الصبي: احتلم وأدرك وقت التكليف، وكذلك بلغت الفتاة، ومنه قوله تعالى: {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} (¬1). وتأتي بلغ: شارف على الوصول. كما في قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (¬2). والبلوغ اصطلاحاً: وصول صغير وجارية وقت التكليف بعلامة من علامات البلوغ. اهـ. وهل يقال: جارية بالغ بدون هاء. قال الشافعي كما في تاج العروس: جارية بالغ: ذكر ذلك في كتاب النكاح، هكذا روى الأزهري عن عبد الملك، عن الربيع، عنه. قال الأزهري: والشافعي فصيح، وقوله حجة في اللغة، قال: وسمعت فصحاء العربي يقولون: جارية بالغ، وهكذا قولهم: امرأة عاشق ولو قال قائل: ¬
الدليل الأول
جارية بالغة لم يكن خطأ، لأنه الأصل (¬1) وللبلوغ علامات طبيعية، منها ما هو محل فاق، ومنها ما هو محل خلاف ومنها ما هو مشترك بين الذكر والأنثى، ومنها ما هو خاص بأحدهما. ومن هذه العلامات: الأول: الحيض، وتختص الأنثى به. الأدلة على كون الحيض من علامات البلوغ. الدليل الأول: الإجماع. قال الحافظ في الفتح: "وأجمع العلماء على أن الحيض بلوغ في حق النساء" (¬2). الدليل الثاني: من السنة. [10] روى الإمام أحمد، قال: حدثنا يونس، ثنا حماد، عن قتادة، عن ابن سيرين، عن صفية بنت الحارث، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار" (¬3). [الحديث حسن لغيره إن شاء الله. ورواية قتادة قد اضطرب عليه فيها، والراجح فيه ابن سيرين عن عائشة، وليست بالمتصلة، لكن لها شاهد ضعيف ¬
من حديث أبي قتادة] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
العلامة الثانية من علامات البلوغ: الاحتلام. والمقصود به خروج المني من الرجل أو المرأة بلا علة، يقظة، أو مناماً. الدليل على كون الاحتلام علامة من علامات البلوغ. الدليل عليه من الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا ¬
اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية (¬1). وجه الاستدلال: أنه حين بلغ الأطفال الحلم كلفوا بوجوب الاستئذان، بينما قبل البلوغ كان الخطاب موجهاً إلى أوليائهم. فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُم} الآية (¬2). وقال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (¬3). وجه الاستدلال: جعل الله سبحانه وتعالى بلوغ النكاح موجباً لارتفاع الولاية عن اليتيم، بشرط كونه راشداً. [11] ومن السنة ما رواه مسلم، حدثنا عمرو بن سواد العامري، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث، أن سعيد ابن أبي هلال، وبكير بن الأشج حدثاه، عن أبي بكر بن المنكدر، عن عمرو بن سليم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدرى، عن أبيه، - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "غسل يوم الجمعة على كل محتلم، وسواك، ويمس من الطيب ما قدر عليه". ¬
رواه البخاري، ومسلم واللفظ له (¬1) وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم - "على كل محتلم" فجعل الاحتلام محلاً للتكليف. وأما الإجماع، فقال الحافظ في الفتح: "أجمع العلماء على إن الاحتلام في الرجال والنساء يلزم به العبادات، والحدود وسائر الأحكام" (¬2). العلامة الثالثة: الإنبات. وقد اختلف الفقهاء في اعتبار الإنبات علامة من علامات البلوغ. إلى ثلاثة أقوال: الأول: ليس بعلامة مطلقاً، لا في الحقوق الواجبة للخالق، ولا في حقوق الآدميين. وهو مذهب الحنفية (¬3). الثاني: أن الإنبات علامة مطلقاً في حق المسلم والكافر، وفي حق الله وحق المخلوق. وهو مذهب الحنابلة (¬4)، ورواية عن أبي يوسف من الحنفية (¬5). ¬
واعتبر المالكية الإنبات علامة إلا أنهم اختلفوا فيها على قولين: فقيل: الإنبات علامة مطلقاً. قال في الشرح الكبير وهو المذهب (¬1). وقال بعضهم: الإنبات علامة على البلوغ فيما بين الشخص، وبين غيره من الآدميين من قذف، وقطع، وقتل. وأما فيما بين الشخص وبين الله تعالى من حقوق فليس بعلامة (¬2). وقالت الشافعية: الإنبات علامة على البلوغ في حق صبيان الكفار. وأما المسلمون فاختلفوا فيهم على وجهين: الوجه الأول: أنه علامة على البلوغ في حقهم كالكفار. الوجه الثاني: وهو الصحيح عندهم أنه ليس علامة على البلوغ عندهم (¬3). ¬
الدليل على اعتبار الإنبات من علامات البلوغ. [12] ما رواه أحمد: ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، قال: سمعت عطية القرظي، يقول: عرضنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم قريظة، فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت فيمن لم ينبت فخلي سبيلي (¬1). [صحيح لغيره] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وأما الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم. [13] فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، قال: حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: كتب عمر إلى أمراء الأجناد أن لا تقتلوا امرأة، ولا صبيان، وأن تقتلوا من جرت عليه المواسي. [إسناده صحيح] (¬1). [14] وروى ابن أبي شيبة أيضاً، قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن عبيد الله، عن نافع، عن أسلم مولى عمر أن عمر كتب إلى عماله، فذكر نحوه (¬2). [وإسناده صحيح]. فالحنابلة فهموا من حديث عطية، وأثر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن الإنبات علامة على البلوغ مطلقاً. وهو الراجح. ¬
وأما الشافعية فحملوا الحديث على الكفار، باعتبار أن ذلك كان مع بني قريظة. والذي حمل الشافعية أيضاً على اعتبار الإنبات بلوغاً في حق الكفار فقط دون المسلمين، ما يلي: أولاً: سهولة مراجعة آباء المسلم وأقاربه لمعرفة سنه. وثانياً: أن المسلم ربما تعجل الإنبات بدواء دفعاً للحجر عن نفسه وتشوفاً للولايات، بخلاف الكافر فإنه لا يستعجله. وهذا التفريق ضعيف. فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن قتل الصبيان من الكفار، وحين سفك دم من أثبت علم أنه قد حكم ببلوغه، وخرج عن حد الصبي. وكيف يصح أن يكون علامة حسية على بلوغ صبيان الكفار ولا يكون علامة في حق المسلمين. وأما بعض المالكية فخصوه فيما بين الآدميين من حقوق. وهذا ضعيف أيضاً لأن النهي عن قتل النساء في الجهاد، وكذلك النهي عن قتل الصبيان هو حق لله سبحانه وتعالى. وحكم منه، ولا يقال: إن هذا حق خالص للآدمي حتى يقال بالتفريق بين حقوق الخالق، وحقوق المخلوق. والله أعلم. العلامة الرابعة: البلوغ بالسن. اختلف الفقهاء في سن البلوغ. فقيل: تمام خمس عشرة سنة، للذكر والأنثى.
وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، واختاره ابن وهب من المالكية (¬3). وأبو يوسف ومحمد من الحنفية (¬4)، وهو رواية عن أبي حنيفة (¬5). وقيل: للغلام أن يتم له ثماني عشرة سنة. وللجارية أن يتم لها سبع عشرة سنة (¬6). وفي المذهب المالكي أقوال. المشهور منها بلوغ ثماني عشرة سنة للذكر الأنثى (¬7). وقيل: تسع عشرة. وقيل: سبع عشرة. وقيل: ست عشرة (¬8). واختار ابن حزم: تمام تسع عشرة (¬9). ¬
دليل الشافعية والحنابلة
دليل الشافعية والحنابلة: استدل الشافعية والحنابلة على أن البلوغ بالسن يكون بتمام خمس عشرة سنة. [15] بما رواه مسلم، قال: حدثنا محمَّد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: عرضني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد في القتال، وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضني يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني. قال نافع: فقدمت على عمر بن عبد العزيز، وهو يومئذ خليفة، فحدثته هذا الحديث، فقال: إن هذا لحد بين الصغير والكبير، فكتب إلى عماله أن يفرضوا لمن كان ابن خمس عشرة سنة، ومن كان دون ذلك فاجعلوه في العيال. وأخرجه البخاري من طريق عبيد الله بن عمر به. وليس فيه قوله: فاجعلوه في العيال (¬1). اعتراض: اعترض ابن حزم على الاستدلال بهذا الحديث، بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: إني أجزتهما من أجل أنهما ابنا خمس عشرة سنة، فإذا كان ذلك كذلك فلا يجوز لأحد أن يضيف إليه عليه السلام ما لم يخبر به عن نفسه، وقد يمكن أن يجيزهما يوم الخندق, لأنه كان يوم حصار في المدينة، ينتفع به بالصبيان في رمي الحجارة ¬
دليل من قال: إن البلوغ بالسن يكون بثماني عشرة.
وغير ذلك، ولم يجزه يوم أحد؛ لأنه كان يوم قتال بعدوا فيه عن المدينة، فلا يحضره إلا أهل القوة والجلد (¬1). قلت: فهم نافع وعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أولى من فهم ابن حزم. دليل من قال: إن البلوغ بالسن يكون بثماني عشرة. جاء في الهداية، شرح بداية المبتدي: قوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أشد الصبي ثماني عشرة سنة. هكذا قاله ابن عباس (¬2). [لم أقف على إسناده] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
[16] وروى ابن أبي حاتم في تفسيره، قال: حدثنا أبو زرعة، ثنا يحيى ابن عبد الله بن بكير، حدثني عبد الله بن لهيعة حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد ابن جبير: قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} قال: ثماني عشرة سنة (¬1). [إسناده ضعيف من أجل ابن لهيعة، وعطاء بن دينار روايته عن سعيد ابن جبير صحيفة]. وقيل في تفسير الأشد غير ذلك. ومن الأدلة النظرية: قالوا: إن أقصى سن لا يحتلم فيها الإنسان ثمانية عشر عاماً (¬2) يعني فإذا ¬
بلغها فلا بد من الاحتلام إلا لعلة، ولذلك حدوه بثمانية عشرة عاماً. وهذا الكلام لا يصلح أن يكون دليلاً يعتمد عليه في التحديد بالسن, لأنه قد يقال: ما الدليل على أن الثمانية عشر عاماً هي أقصى سن من لا يحتلم. دليل من فرق بين الذكر والأنثى. استدل من فرق بين الذكر والأنثى، فجعل الذكر أن يتم له ثماني عشرة سنة، وللأنثى أن يتم لها سبعة عشر عاماً. بأن الأنثى أسرع نمواً من الغلام، فزادوا سنة في حق الغلام لاشتمالها على الفصول الأربع التي منها ما يوافق المزاج لا محالة (¬1). وكون الأنثى أسرع نمواً هذا أمر محسوس، لكن تحديده بالسنة يحتاج إلى توقيف. ولا دليل هنا. دليل ابن حزم على أن البلوغ بالسن لا يكون إلا بتمام تسع عشرة. قل ابن حزم: "وأما استكمال التسعة عشر عاماً، فإجماع متيقن، وأصله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورد المدينة، وفيها صبيان، وشبان، وكهول، فألزم الأحكام من خرج عن الصبا إلى الرجولة، ولم يلزمها الصبيان، ولم يكشف أحداً من كل من حواليه من الرجال: هل احتلمت يا فلان؟ وهل أشعرت؟ وهل أنزلت؟ وهل حضت يا فلانة؟ هذا أمر متيقن لا شك فيه، فصح يقيناً أن هناك سناً إذا بلغها الرجل أو المرأة فهما ممن ينزل، أو ينبت، أو يحيض إلا أن يكون فيهما آفة تمنع ¬
من ذلك، كما بالأطلس آفة منعته من اللحية لولاها لكان من أهل اللحى بلا شك. هذا أمر يعرف بما ذكرنا من التوقف وبضرورة الطبيعة الجارية في جميع أهل الأرض، ولا شك في أن من أكمل تسع عشرة سنة، ودخل في عشرين سنة، فقد فارق الصبا ولحق بالرجال - لا يختلف اثنان من أهل كل ملة وبلدة في ذلك (¬1). والجواب على ما ذكر ابن حزم. أن يقال: الاستدلال بالإجماع لا يصح إلا لو كان الإجماع منهم على أن من نقص عن تسع عشرة عاماً لم يصل إلى مرحلة البلوغ، أما كونهم اتفقوا على أن من أتم تسع عشرة سنة فقد بلغ، فلا يصح هذا دليلاً لرد ما دونها من مسائل الخلاف، وهذا بين. أرأيت لو أنهم اتفقوا على استحباب شيء واختلفوا في وجوبه، فكونهم اتفقوا على استحبابه لا يكون دليلاً لرد خلافهم في الوجوب، والله أعلم. ¬
الباب الأول: في أحكام الحيض من حيث مقداره ووقته
الباب الأول: في أحكام الحيض من حيث مقداره ووقته ويشتمل على تسعة فصول: الفصل الأول: خلاف العلماء في السن التي تحيض فيها المرأة. الفصل الثاني: الخلاف في منتهى سن الحيض عند النساء. الفصل الثالث: هل الحمل زمن صالح للحيض؟ الفصل الرابع: خلاف العلماء في أقل الحيض. الفصل الخامس: خلاف العلماء في أكثر الحيض. الفصل السادس: خلاف العلماء في غالب الحيض. الفصل السابع: خلاف العلماء في أقل الطهر. الفصل الثامن: القول في أكثر الطهر. الفصل التاسع: القول في غالب الطهر.
الفصل الأول: خلاف العلماء في السن التي تحيض فيها المرأة
الفصل الأول: خلاف العلماء في السن التي تحيض فيها المرأة اختلف العلماء في الزمن الذي تحيض فيه المرأة. فقيل: لا حيض قبل تسع سنين. وهو المعتمد عند الحنفية (¬1)، واختاره بعض المالكية (¬2)، والمشهور من مذهب الشافعية (¬3) والحنابلة (¬4). وقيل: يمكن أن تحيض البنت وعمرها ست سنوات!! وهو قول أبي النصر محمَّد بن سلام من الحنفية (¬5). ¬
دليل من قال: لا حيض قبل تسع سنين
وقيل: أدنى سن تحيض به المرأة سبع سنين اختاره بع الحنفية (¬1). وقيل: اثنتا عشرة سنة. وهو قول بعض الحنفية (¬2) ورواية عن الإمام أحمد اختارها أبو يعلى من الحنابلة (¬3). وقيل: لا حد لأدنى سن تحيض فيه المرأة. اختاره ابن رشد من المالكية (¬4) وابن تيمية من الحنابلة (¬5). دليل من قال: لا حيض قبل تسع سنين الدليل الأول: [17] روى الترمذي (¬6)، والبيهقي (¬7)، كلاهما تعليقاً: قال البيهقي: وروينا عن عائشة رضي الله عنها قالت: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة. قال البيهقي: تعني - والله أعلم - فحاضت فهي امرأة. ¬
[ضعيف لتعليقه، ومع كونه معلقاً فهو موقوف على عائشة] (¬1). ولا دلالة فيه على المسألة؛ لأننا نسأل: هل إذا بلغت الجارية تسع سنين صارت امرأة مطلقاً، أو بشرط الحيض. فإن قيل: إنها امرأة مطلقاً حتى ولو لم تر الحيض، فهذا لا أعلم أحداً قال به. وإن قيل: بشرط الحيض، فهو لا يعارض القول الراجح، القائل بعدم التحديد؛ لأنهم يقولون أيضاً إذا رأت الجارية الحيض، وهي ابنة تسع سنين فهي امرأة، والله أعلم. وربما قالت عائشة هذا بما عرفت من نفسها. [18] فقد روى البخاري، قال: حدثنا محمَّد بن يوسف، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: ¬
الدليل الثاني
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها، وهي بنت ست سنين، وأدخلت عليه، وهي بنت تسع، ومكثت عنده تسعاً. وهو في مسلم (¬1). ولا يفهم من الحديث التحديد. الدليل الثاني: من النظر. قل ابن قدامة: "دم الحيض إنما خلقه الله لحكمة تربية الحمل به، فمن لا تصلح للحمل لا توجد فيها حكمته، فينتفي لانتفاء حكمته، كالمني فإنهما متقاربان في المعنى، فإن أحدهما يخلق منه الولد، والآخر يربيه ويغذيه، وكل واحد منهما لا يوجد من صغير. ووجودهما علم على البلوغ. وأقل سن تبلغ له الجارية تسع سنين فكان ذلك أقل سن تحيض له الجارية" اهـ (¬2). الدليل الثالث: قالوا: إن المرجع في هذه المسألة إلى الوجود. لأنه لم يأت تحديد ذلك من الشرع، ولم يوجد من النساء من يحضن عادة فيما دون هذا السن (¬3). قال الشافعي: "أعجل من سمعت من النساء تحيض نساء تهامة، يحضن لتسع سنين، وقد رأيت جدة لها إحدى وعشرون سنة" (¬4). ¬
دليل من قال: يمكن أن تحيض الجارية وعمرها ست سنوات.
قلت: بل جاء في المبسوط للسرخسي: "ابنة أبي مطيع البلخي، صارت جدة ولها من العمر تسعة عشر عاماً" اهـ (¬1). وحساب ذلك أن يكون أبو مطيع زوج ابنته، وهي ابنة تسع سنين فوضعت لأقل الحمل: أي بعد ستة أشهر، وكانت أنثى، وزوجها هي الأخرى، وعمرها تسع سنين، فوضعت لأقل الحمل هي الأخرى، فأصبحت الأم جدة، وعمرها تسعة عشر عاماً. دليل من قال: يمكن أن تحيض الجارية وعمرها ست سنوات. لا أعلم له دليلاً، لا من الأثر، ولا من النظر. وإنما قال ذلك أبو نصر محمَّد بن سلام، وقد سئل كما في المبسوط: عن ابنة ست سنين إذا رأت الدم، فهل يكون هذا دم حيض؟ فأجاب: إن تمادى بها مدة الحيض، ولم يكن نزوله لآفة، فهو حيض (¬2). فهذا جواب على سؤال افتراضي لا دليل عليه لا من الأثر، ولا من النظر ولم يكن سؤالاً عن أمر واقع حتى يبنى عليه حكم. والله أعلم. ¬
دليل من حدد سن الحيض بسبع سنين. [19] استدلوا بما رواه أَحمد، قال: حدثنا محمَّد بن عبد الرحمن الطفاوي، وعبد الله بن بكر السهمي، المعنى واحد قالا: حدثنا سوار أبو حمزة، عن عمرو بن شعيب عن أبيه: عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع. وإذا أنكح أحدكم عبده فلا ينظرن إلى شيء من عورته، فإنما أسفل من سرته إلى ركبته من عورته" (¬1). [صحيح لغيره] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال: قالوا: إن الأصل في الأمر الوجوب، ولا يؤمرون إلا إذا كانوا بالغين؛ لأن غير البالغ قد رفع عنه القلم. وهذا الاستدلال فيه ضعف؛ لأن الأمر لم يوجه للصبيان، وإنما خوطب به الأولياء، من باب التربية، وتعويدهم على الصلاة وتدريبهم عليها، حتى إذا بلغوا كان قيامهم بالأمر سهلاً, ولو كان الخطاب موجهاً إليهم لكان ممكن أن يصح الاستدلال. ¬
دليل من قال: أدنى سن تحيض به المرأة اثنا عشر سنة.
ولذلك في سورة النور. قال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} (¬1). وحين بلغوا وجه الخطاب إليهم مباشرة فقال سبحانه: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} (¬2). دليل من قال: أدنى سن تحيض به المرأة اثنا عشر سنة. [20] استدلوا بما روى مرفوعاً عن أبي أمامة - رضي الله عنه -: "ذراري المسلمين يوم القيامة تحت العرش، شافع ومشفع، من لم يبلغ اثنتي عشرة سنة، ومن بلغ ثلاث عشرة سنة فعليه وله". [ضعيف جداً]. ظاهره أن التكليف منوط ببلوغ هذا السن، ولأن لفظ الذراري يشمل الذكر والأنثى (¬3). ¬
دليل من قال بعدم التحديد
دليل من قال بعدم التحديد: الدليل الأول: عدم الدليل المقتضي للتحديد، فلا يوجد دليل من الكتاب، ولا من السنة على القول بالتحديد، فمتى وجد الدم الذي يمكن أن يحكم له بأنه حيض في لونه، ورائحته، وثخونته، فهو حيض، ولو كان التحديد شرعاً، بحيث لا يعتبر الدم قبله، ولا بعده حيضاً، لوجب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبينه للأمة، ولو بينه لنقلوه، ولحفظه الله سبحانه وتعالى لنا؛ حيث تعهد سبحانه وتعالى بحفظ الشريعة. الدليل الثاني: قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (¬1). وجه الاستدلال: علق الله سبحانه وتعالى الحكم بوجود الدم، الذي هو أذى، فإذا وجد ¬
الأذى وجد الحيض. قال شيخ الإسلام في الفتاوى: "لا حد لأقل سن تحيض فيه المرأة، ولا لأكثره، فمتى رأت الأنثى الحيض فهي حائض، وإن كانت دون تسع سنين، أو فوق خمسين، وذلك لأن أحكام الحيض علقها الله سبحانه وتعالى على وجوده، ولم يحدد الله سبحانه وتعالى، ولا رسوله سناً معيناً، فوجب الرجوع فيه إلى الوجود الذي علق عليه الأحكام، وتحديده بسن معين يحتاج إلى دليل من الكتاب أو السنة، ولا دليل في ذلك" اهـ (¬1). وقيل ابن رشد في المقدمات الممهدات: "فأما الطفلة الصغيرة فما رأت من الدم حكم له بأنه دم علة وفساد لانتفاء الحيض مع الصغر، وليس له حد من السن، إلا ما يقطع النساء أن مثلها لا تحيض، وأما اليفعة التي تشبه أن تحيض فما رأت من الدم حكم له بأنه حيض، وكان ذلك دلالة على البلوغ" اهـ (¬2). وقال في مواهب الجليل: "وسن النساء قد يختلف في البلوغ، فالواجب أن يرجع في ذلك إلى ما يعرفه النساء، فهن على الفروج مؤتمنات، فإن شككن أخذ في ذلك بالأحوط" اهـ (¬3). وفي كتاب فقه الشيخ السعدي رحمه الله، قال: "الحيض هو دم طبيعة وجبلة، وذلك يختلف باختلاف النساء والأحوال والفصول، والقوة والضعف، وغيرها، فكونه يربط بسن معين، ومقدار معين، ويلغى ما سواه مع مماثلته له، ¬
ومع كونه مخالفاً لظاهر النصوص الشرعية، فإنه مناف للأحوال الطبيعية. يوضح هذا القول الصحيح، أن القول الذي تقولونه، مع أنه لا يدل عليه كتاب ولا سنة، فإنه لا يمكن أن يبنى على قاعدة من القواعد، ولا أصل من الأصول ... إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى (¬1). وهذا القول هو الراجح، إلا أنني أقطع أن سن السابعة لا يمكن أن يكون زمن حيض؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جعل الخطاب فيه للأولياء، فقال: "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع" وسبق تخريجه، ولم يؤمر الولي بعقاب الولد في تلك السن؛ لأنها ليست سناً صالحة للتكليف. ¬
الفرع الأول
الفرع الأول: قول الجمهور: لا حيض قبل تسع سنين هل هو تحديد أم تقريب؟ في هذا خلاف بين أهل العلم. قال البساطي، محمَّد بن عثمان الطائي كما في مواهب الجليل: اختلف في انتهاء الصغر. فقيل: تسع. قيل: بأولها، وقيل: بوسطها، وقيل: بآخرها (¬1). قلت: هذه الأقوال ثلاثة أوجه في مذهب الشافعية. قال النووي في المجموع: "والأصح استكمال التسع". وقال أيضاً: "والمذهب الذي عليه التفريع استكمال التسع. وهل هو تحديد أم تقريب؟ وجهان، حكاهما صاحب الحاوي والدارمي، وغيرهما؟ أحدهما: تحديد، فلو نقص عن التسع ما نقص فليس بحيض، وهذا مقتضى إطلاق كثيرين. الثاني: وهو أصحها أنه تقريب. صححه الروياني، والرافعي، وغيرهما. فعلى هذا قال صاحب الحاوي: لا يؤثر نقص اليوم، واليومين. قال الدارمي: لا يؤثر الشهر، والشهران" (¬2). ¬
وقال النووي في الروضة: "وهذا الضبط للتقريب على الأصح، فلو كان بين رؤية الدم، واستكمال التسع على الصحيح، ما لا يسع حيضاً وطهراً، كان ذلك الدم حيضاً، وإلا فلا" (¬1). وأما المشهور من مذهب الحنابلة، فإنهم يرون أنه تحديد، فلا بد من تمام تسع سنين. قال في الإنصاف: "وحيث قلنا: أقل سن تحيض له كذا فهو تحديد، فلا بد من تمام تسع سنين" اهـ (¬2). وهذا الخلاف مبني على قول من يرى تحديد السن التي تحيض به المرأة وأما من يرى عدم التحديد، وهو الراجح، فليس بحاجة إلى هذا التفصيل. والمراد بالسنين: السنون القمرية. قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (¬3). فقوله سبحانه: {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} إشارة إلى أنها مواقيت عالمية، لعموم الناس مسلمهم وكافرهم. ولا عبرة بتوقيت غير التوقيت القمري. وقد أشار سبحانه بأنه توقيت منذ خلق السموات والأرض. {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ¬
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} الآية (¬1). [21] ومن السنة ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوماً". ورواه البخاري (¬2). ¬
الفرع الثاني
الفرع الثاني إذا قلنا بالتحديد، وإن أدنى سن تحيض فيه المرأة تسع سنين، أو اثنتا عشرة سنة، فرأت الدم قبل ذلك. فماذا يكون؟ فقيل: دم علة وفساد. وقيل: دم استحاضة. وقيل: لا فرق بين دم العلة والفساد، وبين دم الاستحاضة، فكل واحد منهما يطلق على الآخر؛ لأن دم الاستحاضة دم علة ومرض. وإذا كان الفساد يقابله الصحيح، أو الصحة؛ فإن دم الاستحاضة ليس عن صحة، بل هو عن علة ومرض فيكون فساداً. وهل الخلاف لفظي، لا يتجاوز المصطلح؟ أم بينهما فرق في الأحكام؟ قد يقال: إن الخلاف لفظي, لأن دم الفساد، ودم الاستحاضة كل منهما لا يمنع الصلاة والصيام ونحوهما. وقد يقال: إن الخلاف ليس لفظياً؛ فإن دم الاستحاضة له أحكام من العمل بالعادة إذا أقبلت، أو العمل بالتمييز، بينما دم الفساد هو كالجرح، وكمن به سلس بول, لأنه قد يحصل من الصغيرة التي لا تحيض فلا يمكن أن ينزل عليه أحكام الحيض، كما لا يمكن أن ينزل عليه أحكام الاستحاضة. إذا عرفت ذلك، فإليك النقول عن أهل العلم. قال ابن نجيم في البحر الرائق: "قال بعضهم إن ما تراه المرأة قبل استكمال
تسع سنين فهو دم فساد، ولا يقال له استحاضة؛ لأن الاستحاضة لا تكون إلا على صفة لا تكون حيضاً؛ ولهذا قال الأزهري: الاستحاضة سيلان الدم في غير أوقاته المعتاد" (¬1). قلت: التعليل ليس بجيد؛ لأن الدم الذي تراه قبل تسع سنين على القول بالتحديد يصدق عليه أنه على صفة لا تكون حيضاً. وقيل الشافعي كما في المجموع: "لو رأت الدم قبل استكمال تسع سنين، فهو دم فساد. ولا يقال له استحاضة؛ لأن الاستحاضة لا تكون إلا على إثر حيض - ثم قال في فصل المميزة -: "ولو رأت الدم خمسة عشر يوماً دماً أسود، ثم رأت أحمر، فالأسود حيض وفي الأحمر وجهان: قال أبو إسحاق: هو استحاضة. وقيل ابن جريج: هو دم فساد لا استحاضة؛ لأن الاستحاضة ما دخل على إثر حيض في زمانه، ثم جاوز خمسة عشر" اهـ (¬2). وقيل المرداوي في الحاوي الكبير: "النساء على أربعة أضرب: طاهر، وحائض، ومستحاضة، وذات فساد. فأما الطاهر فهي التي ترى النقاء، ومعناه أن تستدخل القطن فيخرج نقياً. وأما الحائض فهي التي ترى الدم في زمان يكون حيضاً. وأما المستحاضة فهي التي ترى الدم في إثر الحيض على صفة ¬
لا تكون حيضاً. وأما ذات الفساد فهي التي تبتدئ بدم لا يكون حيضاً" (¬1) قال النووي بعد نقله لك محمد الحاوي: "وحاصله أن الاستحاضة لا تطلق إلا على دم متصل بالحيض، وليس بحيض، وأما ما لا يتصل بالحيض فدم فساد، ولا يسمى استحاضة، وقد وافقه عليه جماعة. وقال الأكثرون: يسمى الجميع استحاضة. قالوا: والاستحاضة نوعان: نوع يتصل بدم الحيض. وقد سبق بيانه. ونوع لا يتصل به، كصغيرة لم تبلغ تسع سنين، رأت الدم، وكبيرة رأته وانقطع لدون يوم وليلة. فحكمه حكم الحدث. قال النووي: وهو الأصح الموافق لما سبق عن الأزهري وغيره من أهل اللغة، أن الاستحاضة دم يجري في غير أوانه" (¬2) وقال ابن رشد في المقدمات: "والدم الذي تراه المرأة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: دم حيض، ودم استحاضة ويسمونه دم علة وفساد، ودم نفاس". اهـ (¬3). ¬
الفصل الثاني: خلاف العلماء في منتهى سن الحيض عند النساء
الفصل الثاني: خلاف العلماء في منتهى سن الحيض عند النساء اختلف العلماء في منتهى سن الحيض إلى أقوال: فقيل: لا حيض بعد خمسين سنة. وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1)، وبه قال إسحاق بن راهويه (¬2)، واختاره بعض الحنفية (¬3)، وابن شعبان من المالكية (¬4). وقيل: منتهى الحيض خمس وخمسون سنة. وهو قول أكثر الحنفية. وقال العيني: الفتوى في زماننا عليه (¬5). وقيل: لا حيض بعد ستين سنة. حكاه ابن نجيم عن أكثر المشايخ (¬6)، ¬
وهو رواية عن أحمد (¬1) , واختاره المحاملي من الشافعية (¬2). وقيل: لا حيض بعد سبعين سنة. واختاره ابن شاس من المالكية (¬3). وقيل: إن رأت الدم بعد الخمسين إلى الستين فمشكوك فيه، تصوم، وتصلي، وتقضي الصوم احتياطاً وهو اختيار الخرقي من الحنابلة (¬4). وقيل: نساء العجم إلى خمسين، ونساء العرب إلى الستين؛ لأنهن أقوى جبلة وهو رواية عن أحمد (¬5). وقيل: لا تحديد لمنتهى سن الحيض عند النساء، وهو الراجح. وهو رواية عن أبي حنيفة (¬6)، واختاره ابن رشد من المالكية (¬7)، والماوردي من الشافعية (¬8) وكذلك ابن تيمية من ¬
دليل من قال: لا حيض بعد الخمسين
الحنابلة (¬1). دليل من قال: لا حيض بعد الخمسين قال ابن قدامة: [22] روي عن عائشة أنها قالت: إذا بلغت المرأة خمسين سنة خرجت من حد الحيض (¬2). قال الزركشي: ذكره أحمد في رواية حنبل عنه (¬3). وروي عنها أنها قالت: لن ترى المرأة في بطنها ولداً بعد الخمسين. قال الزركشي: رواه الدارقطني (¬4). اهـ ولم أقف عليه (¬5). ¬
دليل من حد سن اليأس بالستين أو السبعين أو نحوهما.
ولا يعلم ثبوت ذلك عن عائشة، وعلى فرض ثبوت ذلك عنها؛ فإنها قد تكون قالت ذلك بناء على غالب النساء، أو بناء على من التقت بهن من النساء، وليس عاماً في كل النساء. قال ابن قدامة: "وما ذكر عن عائشة لا حجة فيه؛ لأن وجود الحيض أمر حقيقي، المرجع فيه إلى الوجود، والوجود لا علم لها به، ثم قد وجد بخلاف ما قالته؛ فإن موسى بن عبد الله بن حسن قد ولدته أمه بعد الخمسين، ووجد الحيض بعد الخمسين فلا يمكن إنكاره. فإن قيل: هذا الدم ليس بحيض مع كونه على صفته وفي وقته وعادته بغير نص، فهذا تحكم لا يقبل". اهـ دليل من حد سن اليأس بالستين أو السبعين أو نحوهما. قال في شرح العمدة: "لا يختلف المذهب أن لانقطاع الحيض غاية إذا بلغتها المرأة لم تحض بعدها، بل يكون الدم حينئذٍ دم فساد؛ لأن الله تعالى قال: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} (¬1)، ولو أمكن أن الحيض لا ينقطع أبداً، لم ييئسن أبداً؛ ولأنه لم يوجد حيض معتاد في بنت المائة ونحوها فإن وجود شيء من ذلك فهو دم فساد كالصغيرة. وهذه الغاية ستون سنة في إحدى الروايات؛ لأن ما قبل ذلك قد وجد حيض معتاد بنفل نساء ثقات" اهـ. ¬
دليل من قال: الدم من الخمسين إلى الستين مشكوك فيه.
وإذا رأيت هذا الاختلاف بينهم، فبعضهم يقول: خمس وخمسون سنة، وبعضهم ستون، وبعضهم سبعون. رأيت أن كل واحد منهم قال بحسب ما كان غالباً في بيئته، ومشهوراً بين نسائه، وكلها تدل على أنه ليس في المسألة نص وإلا لما كان هذا الاختلاف، واليأس ليس سناً محدداً متى ما بلغته أصبحت يائسة، بل هو وصف يلحق المرأة، كما أن الحيض ليس سناً بمجرد بلوغه تكون حائضاً حتى تتصف به. فاليأس من المحيض كما تقتضيه معنى الكلمة لغة: هو القنوط من رجوعه، وانقطاع الرجاء بنزوله، ولهذا سوى الله في العدة بين المرأة التي لا تحيض، وبين المرأة اليائسة من المحيض بجامع أن كلاً منهما قد انقطع حيضها. دليل من قال: الدم من الخمسين إلى الستين مشكوك فيه. قال الخرقي: "وإذا رأت الدم ولها خمسون سنة، فلا تدع الصوم ولا الصلاة، وتقضي الصوم احتياطاً. فإن رأته بعد الستين فقد زال الإشكال، وتيقن أنه ليس بحيض، فتصوم وتصلي ولا تقضي" (¬1). ولعل الخرقي حين رأى أن في مذهب أحمد قولين: الأول: أنه لا حيض بعد خمسين سنة. الثاني: أن الغاية في الحيض ستون سنة. تعارض عنده هذان القولان، فأعرض عنهما، وقال: إن ما بينهما مشكوك ¬
دليل من قال: لا حد بالسن لمنتهى الحيض.
فيه، لا تترك له الصلاة ولا الصوم؛ لأن وجوبهما متيقن فلا يسقط بالشك، وتقضي الصوم المفروض احتياطاً؛ لأن وجوبه كان متيقناً، وما صامته في زمن الدم مشكوك في صحته، فلا يسقط به ما تيقن وجوبه (¬1). وقال الزركشي: "كأن الخرقي رحمه الله تعارضت عنده هذه الأقوال فأعرض عنها وقيل: إن ما بينهما مشكوك فيه، فتصوم وتصلي؛ لاحتمال كونه دم حيض، وأداء الصلاة لا يلزمها، والصوم الواجب تقضيه لعدم صحته منها على هذا التقدير" اهـ (¬2). قلت: هذا القول في غاية الضعف؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يوجب على العبد صيام يوم واحد مرتين؛ ولأن الشك ليس في أحكام الله، وإنما هو وصف عارض يطرأ على الباحث إما لقصور في البحث، أو لتردد في أدلة ظاهرها التعارض، وما يكون عند فلان من شك وتردد لا يكون عند الآخر. دليل من قال: لا حد بالسن لمنتهى الحيض. الدليل الأول: من القرآن الكريم قوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} (¬3). فأخبر الله سبحانه وتعالى عن المحيض بأنه هو الأذى الخارج من ¬
الدليل الثاني
الفرج، فإذا وجد هذا الأذى وجد حكمه، فكيف نحكم لهذا الدم قبل تمام الخمسين بشهر بأنه حيض وبعد تمام الخمسين نحكم بأنه دم فساد، مع أن الدم هو الدم، والرائحة هي الرائحة، ومثله يقال لمن حد سن اليأس بالستين أو بالسبعين أو بغيرهما. الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} (¬1). فعلق الله سبحانه نهاية الحيض باليأس، ولم يعلقه ببلوغ سن معينة، والمرأة التي ما زال حيضها مطرداً مستمراً على صفته ولونه كيف يقال عنها بأنها آيسة من المحيض لمجرد بلوغها خمسين سنة أو ستين سنة ولو كان لليأس سن معين لقال: واللائي بلغن خمسين سنة. قال ابن تيمية: "واليأس المذكور في قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} (¬2) ليس هو بلوغ سن، ولو كان بلوغ سن لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو أن تيأس المرأة نفسها من أن تحيض، فإذا انقطع دمها ويئست من أن يعود فقد يئست من المحيض، ولو كانت بنت أربعين، ثم إذا تربصت وعاد الدم تبين أنها لم تكن آيسة" حتى قال: ومن لم يجعل هذا هو اليأس فقوله مضطرب" (¬3). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: إن تفسير اليأس بالآية في قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} (¬1) ببلوغ سن معينة ليس معروفاً باللغة، والمرجع إنما هو إلى اللغة حيث لم ترد له حقيقة شرعية، واليأس في اللغة هو القنوط، وهو نقيض الرجاء (¬2). فكيف يقال للمرأة وهي ترجو الحيض في أوقاته، ويأتيها على صفته المعهودة بأنها يائسة. قال تعالى {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} (¬3): أي لما يئسوا من استخلاصه. وقال تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (¬4) أي لا يقنط من رحمته وفرجه (¬5)، فإذا انقطع رجاء المرأة من نزول الحيض فقد بلغت سن اليأس منه. الدليل الرابع: لم يأت في الكتاب ولا في السنة تحديد لمنتهى سن الحيض بغير اليأس، فأحكام الحيض علقها الله وسوله على وجوده، وأحكام الطهارة علقت على ¬
الدليل الخامس
إدباره، ولم يحدد الله ورسوله لذلك سناً معيناً، فوجب الرجوع فيه إلى الوجود الذي علقت الأحكام عليه، وتحديده بسن معين يحتاج إلى دليل من السنة، ولا دليل على ذلك. الدليل الخامس: [23] ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا محمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إنى امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا، إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعى الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي، قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت. ورواه مسلم إلا قوله: قال أبي: ثم توضئي لكل صلاة ... الخ (¬1) وجه الاستدلال: علق الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحكام الحيض على إقباله، كما علق أحكام الطهارة على إدباره، ولم يعلقها على بلوغ سن معين، فإذا أقبل الحيض في أي زمن حتى ولو بعد الخمسين تركت الصلاة، وإذا أدبر الحيض حكم بطهارتها. ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: [24] ما رواه أبو داود قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن أبي عدي، عن محمد، يعنى - ابن عمرو - قال: حدثني ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حبيش، قالت: إنها كانت تستحاض، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان دم الحيض، فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فامسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي". [الحديث فيه انقطاع واضطراب بالاسناد، ومخالف لما في الصحيحين من قصة فاطمة] وسيأتي بيان ذلك مفصلاً في أحكام الاستحاضة إن شاء الله تعالى. وجه الاستدلال: في الحديث أمر المرأة إذا رأت الدم الأسود المعروف بأنه دم حيض بأن تترك الصلاة، وإن كانت مسنة. الدليل السابع: اضطراب أقوال القائلين بالتحديد دليل على ضعفها، فبعضهم حدد ذلك بخمسين، وبعضهم بالستين، وبعضهم بالسبعين، كل هذا يدل على أنه ليس في المسألة نص قاطع، وسنة واضحة، وهي أقوال مبنية على الرأي المحض وأحسن أحوالها أن يكون كل واحد منهم حكم بحسب أهل بلده، وهذا يختلف
باختلاف حرارة البلاد وبرودتِها، وقوة طبيعة النساء وضعفها في تلك البلاد (¬1). فالقول الراجح هو القائل بعدم التحديد لعدم الدليل على التحديد. قال ابن رشد: "وأما العجوز التي لا تشبه أن تحيض فما رأت من الدم حكم له بأنه دم علة وفساد لانتفاء الحيض مع الكبر!! كما ينتفي مع الصغر، وليس لذلك حد من السنين إلا ما يقطع النساء على أن مثلها لا تحيض" (¬2). وقال ابن حزم: "وإذا رأت العجوز المسنة دماً أسود، فهو حيض مانع من الصلاة والطواف والوطء" (¬3). وقال ابن تيمية: "لا حد لأقل سن تحيض فيه المرأة، ولا لأكثره .. الخ كلامه (¬4). ¬
فرع: إذا انقطع الدم عن المرأة الكبيرة، ثم عاد
فرع: إذا انقطع الدم عن المرأة الكبيرة، ثم عاد إذا انقطع الدم عن المرأة الكبيرة لكونها كبيرة، ودام انقطاعه سنوات ثم عاودها الدم فما الحكم؟. الجواب: إذا كانت صفرة أو كدرة فلا تلتفت إليه؛ لأن الصفرة والكدرة في زمن الحيض، ووقت العادة حيض، أما هذه فقد يئست، كما أن الدم إن كان مجرد قطعة من الدم لم يكن متصلاً فكذلك لا تلتفت إليه؛ لأن ذلك ربما كان ناتجاً عن حمل المرأة شيئاً ثقيلاً نزل على أثره قطعة من الدم. فإن كان الدم جارياً، ولا تعلم له سبب، فقد اختلف العلماء هل يكون دم فساد مثله مثل من به سلس بول، أو يكون حيضاً؟. والأقوال لا تخرج عن ثلاثة أقوال: الأول: أنه دم فساد، يكون حكمه حكم من به حدث دائم. قال أحمد في المرأة الكبيرة ترى الدم: لا يكون حيضاً، هو بمنزلة الجرح، وإن اغتسلت فحسن (¬1). فلم يجعل حكمها كحكم الاستحاضة، وذلك بالعمل بالتمييز، أو العادة؛ لأنه لا يرى أن يتأتى منها الحيض، وهي بهذا السن. وقال ابن رشد: "وأما العجوز التي لا يشبه أن تحيض، فما رأت من الدم حكم له بأنه دم علة وفساد لانتفاء الحيض مع الكبر، كما ينتفي مع الصغر" (¬2). ¬
القول الثاني: إن كان الدم على صفة دم الحيض، فإنه حيض، وهو اختيار ابن حزم، قال: "وإن رأت العجوز المسنة دماً أسود فهو حيض مانع من الصلاة والصوم والطواف والوطء، برهان ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - الذي ذكرناه قبل بإسناده -: "إن دم الحيض أسود يعرف". وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رأته بترك الصلاة، وقوله عليه السلام في الحديث: "هذا شيء كتبه الله على بنات آدم" فهذا دم أسود، وهي من بنات آدم، ولم يأت نص ولا إجماع بأنه ليس حيضاً، كما جاء به النص فى الحامل، فإن ذكروا قول الله عز وجل {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} (¬1). قلنا: إنما أخبر الله تعالى عنهن بيأسهن، ولم يخبر تعالى أن يأسهن حق قاطع لحيضهن، ولم ننكر يأسهن من الحيض لكن قلنا: إن يأسهن من الحيض ليس مانعاً من أن يحدث الله تعالى لهن حيضاً، ولا أخبر تعالى بأن ذلك لا يكون ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال تعالى {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} (¬2) فأخبر تعالى أنهن يائسات من النكاح، ولم يكن ذلك مانعاً من أن ينكحن بلا خلاف من أحد ولا فرق بين ورود الكلامين من الله تعالى من اللائي يئسن من المحيض، واللائي لا يرجون نكاحاً، فكلاهما حكم وارد في اللواتي يظنن هذين الظنين، وكلاهما لا يمنع مما يئسن منه من ¬
المحيض والنكاح. اهـ (¬1). وقال ابن تيمية: "إذا انقطع دمها ويئست من أن يعود، فقد يئست من المحيض، ولو كانت بنت أربعين، فإذا تربصت وعاد الدم، تبين أنها لم تكن آيسة" اهـ (¬2). ودليل آخر أن الله سبحانه وتعالى علق أحكام الحيض على وجوده، فقال سبحانه وتعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬3). فإذا وجد الأذى وجد حكمه، ولا فرق بين كونه يتقدمه طهر طويل، أو طهر قصير، ما دام أن هذا الدم له لون دم الحيض، ورائحته النتنة التي تعرفها المرأة من عادتها. القول الثالث: لا نحكم له بأنه حيض حتى يتكرر ثلاث مرات، وقد جاء في مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه عبد الله "سألت أبي عن امرأة قد أتى عليها نيف وخمسون سنة، ولم تحض منذ سنة، وقد رأت منذ يومين دماً ليس بالكثير، ولكنها إذا استنجت رأته، ولم تفطر، ولم تترك الصلاة. ما ترى لها؟ ¬
فقال أبي: لا تلتفت إليه، تصوم وتصلي، فإن عاودها بعد ذلك مرتين أو ثلاثاً فهذا حيض، وقد رجع تقضي الصوم. قلت: فالصلاة؟ قال: لا" اهـ (¬1). ¬
الفصل الثالث: خلاف العلماء في حيض الحمل
الفصل الثالث: خلاف العلماء في حيض الحمل اختلف العلماء في الحامل هل تحيض أم لا؟. فقيل: لا تحيض. وهو المشهور من مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2) والقديم من قول الشافعي (¬3). وقيل: بل تحيض. وهو مذهب المالكية (¬4)، والشافعية في الجديد (¬5). ¬
أدلة من قال: الحامل لا تحيض.
ورواية عن أحمد، بل حكي أنه رجع إليه (¬1). أدلة من قال: الحامل لا تحيض. [الدليل الأول] (*) [25] روى الدارقطني، قال: نا أبو محمد بن صاعد، نا عبد الله بن عمران العائذي بمكة، نا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن مسلم الجندي، عن عكرمة عن ابن عباس قال: نهى - صلى الله عليه وسلم - أن توطأ حامل حتى تضع أو حائل حتى تحيض. قال لنا ابن صاعد: وما قال لنا في هذا الإسناد أحد عن ابن عباس إلا العائذي (¬2) اهـ يعني أنه انفرد بوصله وغيره يرسله. [والحديث صحيح بمجموع طرقه] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جعل وجود الحيض علماً على براءة الرحم، ولو كانت الحامل تحيض ما جاز وطؤها بمجرد الحيض. وأجيب: قال ابن عبد البر: "ليس في قوله عليه السلام: "لا توطأ حامل ¬
حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض" ما ينفي أن يكون حيض على حمل؛ لأن الحديث إنما ورد في سبي أوطاس، حين أرادوا وطأهن، فأخبر أن الحامل لا براءة لرحمها بغير الوضع، والحائل لا براءة لرحمها بغير الحيض، لا أن الحامل لا تحيض" (¬1). وقال ابن القيم: "النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم النساء إلى قسمين: - حامل، فعدتها وضع الحمل. - وحائل، فعدتها بالحيض. ونحن قائلون بموجب هذا، غير منازعين فيه، ولكن أين فيه ما يدل على أن ما تراه الحامل من الدم على عادتها تصوم وتصلي، هذا أمر آخر لا تعرض للحديث به. ولهذا يقول القائل بأن دمها دم حيض هذه العبارة بعينها، ولا يعد هذا تناقضاً ولا خللاً في العبارة. وقال من قبل: قولكم إنه جعله دليلاً على براءة الرحم من الحمل في العدة والاستبراء. جعله دليلاً ظاهراً أو قطعياً؟ الأول: صحيح. والثاني: باطل؛ فإنه لو كان دليلاً قطعياً لما تخلف عن مدلوله، ولكانت أول مدة الحمل من حين انقطاع الحيض، وهذا لم يقله أحد، بل أول مدة الحمل من حين الوطء، ولو حاضت بعده عدة حيض، فلو وطئها، ثم جاءت لولد لأكثر من ستة أشهر من حين الوطء، ولأقل منها من ¬
الدليل الثاني
حين انقطاع الحيض لحقه نسبه اتفاقاً، فعلم أنه أمارة ظاهرة، وقد يتخلف عنها مدلولها تخلف المطر عن الغيم الرطب. وبهذا يخرج الجواب عما استدللتم به من السنة، فإنّا بها قائلون، وإلى حكمها صائرون، وهي الحكم بين المتنازعين (¬1). الدليل الثاني: [26] ما رواه مسلم رحمه الله، قال: وحدثنا أَبو بكر بن أبي شيبة وزهير ابن حرب وابن نمير - واللفظ لأبي بكر - قالوا: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن سالم، عن ابن عمر: أنه طلق امرأته وهى حائض فذكر ذلك عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا (¬2). جاء في التنقيح: "قال أَبو بكر الأثرم لأبي عبد الله ما ترى في الحامل ترى الدم تمسك عن الصلاة؟ قال: لا. قلت: أي شيء أثبت في هذا الباب؟ فقال: أنا أذهب في هذا إلى حديث محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن سالم، عن أبيه، أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: مره فاليراجعها، ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً فأقام الطهر مقام الحمل. فقلت: فإنك ذهبت بهذا الحديث إلى أن الحامل ¬
الدليل الثالث
لا تكون إلا طاهراً؟ قال: نعم" (¬1). الدليل الثالث: قالوا: طلاق الحامل ليس ببدعة في زمن الدم وغيره إجماعاً، ولو كانت تحيض لكان طلاقها في زمن الدم وفي طهرها بعد المسيس بدعة عملاً بعموم الخبر (¬2). وأجيب بما يلي: قال ابن القيم: في حديث ابن عمر إباحة الطلاق إذا كانت حائلاً بشرطين: الطهر، وعدم المسيس. فأين هذا التعرض لحكم الدم الذي تراه على حملها. وقولكم: إن الحامل لو كانت تحيض لكان طلاقها في زمن الدم بدعة، وقد اتفق الناس على أن طلاق الحامل ليس ببدعة، وإن رأت الدم. قلنا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم أحوال النساء التي يراد طلاقها إلى: - حال حمل. - حال خلو منه. وجواز طلاق الحامل مطلقاً من غير استثناء، وأما غير ذات الحمل فإنما اباح طلاقها بالشرطين المذكورين، وليس في هذا ما يدل على أن دم الحامل دم فساد، بل على أن الحامل تخالف غيرها في الطلاق، وأن غيرها إنما تطلق ¬
الدليل الرابع
طاهراً غير مصابة، ولا يشترط في الحمل شيء من هذا، بل تطلق عقيب الإصابة، وتطلق وإن رأت الدم فكما لا يحرم طلاقها عقيب إصابتها، لا يحرم حال حيضها، وهذا الذي تقتضية حكمة الشرع في وقت الطلاق إذناً ومنعاً، فإن المرأة متى استبان حملها كان المطلق على بصيرة من أمره، ولم يعرض له من الندم ما يعرض له بعد الجماع ولا يشعر بحملها، فليس ما مُنِع منه نظير ما أذن فيه لا شرعاً ولا واقعاً ولا اعتباراً، ولا سيما من علل المنع من الطلاق فى الحيض بتطويل العدة، فهذا لا أثر له في الحمل (¬1). الدليل الرابع: قالوا: إن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بانقلاب دم الطمث لبناً وغذاء للحمل، فالخارج وقت الحمل يكون غيره، فهو دم فساد. وأجيب: قال ابن القيم: "وهذا من أكبر حجتنا عليكم؛ فإن هذا الإنقلاب والتغذية باللبن إنما يستحكم عند الوضع، وهو زمن سلطان الرضاع، وارتضاع المولود، وقد أجرى الله العادة بأن المرضع لا تحيض، ومع هذا لو رأت دماً في وقت عادتها لحكم له بحكم الحيض بالاتفاق، فلأن يحكم له بحكم الحيض في الحال التي لم ¬
الدليل الخامس
يستحكم فيها انقلابه ولا تغذي الطفل به أولى وأحرى. وهب أن هذا كما تقولون، فهذا إنما يكون عند احتياج الطفل إلى التغذية باللبن، وهذا بعد أن ينفخ فيه الروح، فأما قبل ذلك فإنه لا ينقلب لبناً لعدم حاجة الحمل إليه. وأيضاً فإنه لا يستحيل كله لبناً، بل يستحيل بعضه، ويخرج الباقي (¬1). الدليل الخامس: قال تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬2). وقال سبحانه {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬3). قالوا: فلو كانت الحامل تحيض لكانت عدتها ثلاث حيض، فلما كان الدم الذى قد تراه الحامل لا ينقضي به العدة لم يكن حيضاً بل استحاضة. ورد هذا الاستدلال: بأن الله سبحانه وتعالى جعل عدة الحامل بوضع الحمل، وعدة الحائل بالأقراء، ولو أمكن انقضاء عدة الحامل بالأقراء لأفضى ذلك بأن يملكها الثاني أو يتزوجها وهي حامل من غيره، فيسقي ماؤه زرع غيره (¬4). ¬
الدليل السادس
والحمل يسيطر على ما عداه من العدد، فهو يلغي بأن يكون عدة ويلغي غيره كما لو مات رجل عن امرأته، وهي حامل، ووضعت بعد موته بلحظة فإن عدتها تنقضي بينما المتوفى عنها زوجها بلا حمل، عدتها أربعة أشهر وعشرا، ولهذا لو حاضت الحامل ثلاث حيض مطردة كعادتها تماماً فإن عدتها لا تنقضي. تبين من هذا أن إلغاء الاعتداد بالحيض زمن الحمل، ليس لأنه ليس حيضاً، وإنما لأن الحيض لا يصلح أن يكون عدة مع الحمل. الدليل السادس: [27] روى الدارمي، قال: أخبرنا عبد الله بن محمد - هو ابن أبي شيبة - ثنا خالد بن الحارث، وعبدة بن سليمان، عن سعيد، عن مطر، عن عائشة في الحامل ترى الدم، قالت: تغتسل وتصلي. [حسن لغيره] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل السابع
الدليل السابع: [28] قال الزركشي في شرحه للخرقي: "روى عن ابن شاهين، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "إن الله رفع الحيض عن الحبلى، وجعل الدم رزقاً للولد (¬1). [لم أقف على إسناده لأنظر في ثبوته عن ابن عباس] (¬2). وقد ناقشت كون الحامل لا تحيض من أجل تغذية الجنين. أولاً: أن هذا يتصور بعد نفخ الروح فيه. وثانياً: أنه منتقض بالمرضع، فالمرضع لا تحيض غالباً من أجل إرضاع الولد، وإذا رأت الدم فهو حيض بالاتفاق. الدليل الثامن: الحس والواقع يشهد بأن الحامل لا تحيض. ¬
الدليل التاسع
قال أحمد: إنما يعرف النساء الحمل بانقطاع الدم. (¬1) قلت: كونه عادة في الغالب لا يمنع إذا نزل الدم أن يحكم له بأنه حيض، كالمرضع غالباً لا تحيض، وإذا نزل الدم حكم له بأنه حيض إجماعاً. الدليل التاسع: قياس الحامل على الآيسة. فما تراه الآيسة من الدم لا يحكم له بأنه حيض؛ لأنه زمن لا يعتادها الحيض غالباً، فكذلك الحامل إذا رأت الدم لا يحكم له بأنه حيض؛ لأنه زمن لا يعتادها غالباً. والجواب على هذا ما رجحته في المسألة التى قبل هذه، وأن الآيسة إذا عاد لها دم الحيض بعد انقطاعه تركت الصلاة والصيام، وإذا انهدم المقيس عليه انهدم المقيس، فالفرع لا يثبت مع عدم التسليم في الأصل. هذا ما تيسر لي جمعه من أدلة القائلين بأن الحامل لا تحيض. ونسبه ابن قدامة بأنه قول جمهور التابعين، منهم عطاء (¬2)، والحسن (¬3)، وجابر بن زيد، ¬
أدلة القائلين بأن الحامل تحيض.
وعكرمة، ومحمد بن المنكدر، والشعبي (¬1) ومكحول، وحماد، والثوري، والأوزاعي (¬2)، وأبو حنيفة، وابن المنذر، وأبو عبيد، وأبو ثور، واختلف فيه على عائشة (¬3). أدلة القائلين بأن الحامل تحيض. الدليل الأول: قال تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (¬4)، فإذا وجد الأذى وجد حكمه، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. الدليل الثاني: [29] روى البخاري، ومسلم، من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فى الحيض: "إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم" الحديث قطعة من حديث طويل (¬5). وجه الاستدلال: خرجت الصغيرة جداً التي لم تبلغ؛ لأن الحيض علامة على البلوغ كما ¬
الدليل الثالث
بينا، وخرجت الآيسة كما في قوله تعالى {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} (¬1) وبقي ما عداهما. ومن أراد إخراج الحامل، وأنها لا تحيض فعليه الدليل من الكتاب أو من السنة، ولا دليل. الدليل الثالث: قال ابن القيم: "لا نزاع أن الحامل قد ترى الدم على عادتها، ولا سيما في أول حملها، وإنما النزاع في حكم هذا الدم لا في وجوده، وقد كان حيضاً قبل الحمل بالإتفاق، فنحن نستصحب حكمه حتى يأتي دليل من الشرع يرفع حكمه، والحكم إذا ثبت فى محل فالأصل بقاؤه حتى يأتي ما يرفعه، فكيف نحكم له بأنه حيض قبل الحمل، وبعده لا نثبت له نفس الحكم، مع أن الدم هو الدم، والرائحة هي الرائحة. هذا تفريق بين متماثلين. اهـ (¬2). الدليل الرابع: الدم الخارج من الفرج الذى رتب الشارع عليه الأحكام قسمان: حيض، واستحاضة. ولم يجعل لهما ثالثاً. وهذا ليس باستحاضة؛ فإن الاستحاضة الدم المطلق، والزائد على أكثر الحيض، أو الخارج عن العادة، وهذا ليس واحداً منها فبطل أن يكون استحاضة فهو حيض، ولا يمكنهم إثبات قسم ثالث في هذا ¬
الدليل الخامس
المحل، وجعله دم فساد؛ فإن بها لا يثبت إلا بنص أو إجماع، أو دليل يجب المصير إليه، وهو منتف (¬1). الدليل الخامس: حيض المرأة: خروج دمها في أوقات معلومة لغة وشرعاً، وهذا كذلك، وقد رد النبي - صلى الله عليه وسلم - المستحاضة إلى قدر عادتها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجلسي قدر الأيام التى كنت تحيضين فيها"، فدل على أن عادة النساء معتبرة فى وصف الدم وحكمه، فإذا جرى دم الحامل على عادتها المعتادة ووقتها من غير زيادة ولا نقصان، ولا انتقال دلت عادتها على أنه حيض، ووجب تحكيم عادتها وتقديمها على الفساد الخارج عن العادة (¬2). الدليل السادس: [30] ما أخرجه الدارمي، قال: أخبرنا حجاج، ثنا حماد، عن يحيى ابن سعيد، عن عائشة، أنها قالت: إذا رأت الحبلى الدم فلتمسك عن الصلاة فإنه حيض (¬3). [صحيح لغيره] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
أجاب أصحاب القول الأول عن أثر عائشة: بأن كلامها محمول على ما تراه قريباً من الولادة بيوم أو يومين، وأنه نفاس جمعاً بين قوليها. قلت: هذا الجواب من الممكن أن يقبل لو قالت: لا تصلي، وأما مع التصريح بأنه حيض كما في رواية يحيى بن سعيد، عنها فلا يصح هذا الاحتمال. والراجح من الأقوال أن الحامل تحيض، لكن لما كان الغالب في الحامل ¬
أنها لا تحيض كان الواجب على المرأة أن تتأكد بأنه دم حيض، بحيث يمكن أن نقول: إن استمرت عادتها، ولم تنقطع أبداً بسبب الحمل بحيث تأتيها في وقتها من كل شهر، فهذا واضح أنه حيض يمنعها من الصلاة والصيام، وإن انقطعت عادتها بسبب الحمل، ثم عاودها الدم نظرت: فإن كان صفرة أو كدرة لم تلتفت إليه؛ لأن الصفرة والكدرة بعد الطهر لا يلتفت إليها. وإن كان دماً، فإن كان إنما نزل عليها قطعة من الدم ثم توقف لم تلتفت إليه أيضاً لاحتمال أن تكون حملت شيئاً ثقيلاً، فنزل معها هذا الدم. وإن كان دماً استمر معها نزوله نظرت المرأة إلى طبيعة الدم، وما تعرفه من عادتها، لأن هذا الدم قد يكون مقدمة لسقوط الجنين، وهو ما يسمى عند نسائنا (العوار) وإن كان الدم دم الحيض بلونه ورائحته وثخونته التي تعهدها المرأة من دم الحيض كفت عن الصلاة، وإن شكت المرأة لم تمتنع عن الصلاة، وإنما قلت: لم تمتنع بالشك، لأمرين: الأول: أن وجوب الصلاة متيقن، ووجود المانع مشكوك فيه، والشك لا يقضي على اليقين. الثاني: أن دم الحيض قد ارتفع بسبب الحمل، فيُسْتَصحب هذا الحكم حتى يتيقن نزوله. والله أعلم بالصواب. هكذا كان الرأي قبل مراجعة كلام الأطباء، وهم أهل الاختصاص، وبعد مراجعة المراجع الطبيه تبين لي أن الحامل لا يمكن أن تحيض بحال، وأن ما تراه المرأة من الدم لا ينطبق عليه أنه حيض، وإليك كلامهم:
لا بد من التصور أولاً كيف يحدث الحيض؟ ثم بعد ذلك إذا عرف مصدر دم الحيض كان من السهولة معرفة هل الحامل تحيض أم لا؟ يقرر الأطباء أن الدورة تبدأ مباشرة بعد الحيض؛ حيث يكون الغشاء المبطن للرحم رقيقاً وبسيطاً، ولا تزيد ثخونته عن نصف ميليمتر، ثم تأتي مرحلة النمو بواسطة تأثير هرمون الانوثة (الاوستروجين) الذي تفرزه حويصلة جراف من المبيض، فينمو الرحم وأوعيته الدموية، وكذلك تنمو غدد الرحم، وتبدو كالأنابيب ... ويبلغ ثخونة غشاء الرحم في هذه المرحلة خمسة ميليمترات ... ثم تأتي بعد ذلك مرحلة الافراز بواسطة تأثير هرمون الحمل (البروجسترون) الذى تفرزه حويصلة جراف بالمبيض بعد خروج البويضة منها، وتدعى الحويصلة عندئذٍ الجسم الأصفر .. وينمو غشاء الرحم نمواً عظيماً، ويبطن الغشاء بطبقات وثيرة من الدماء والغذاء، وتنمو غدد الرحم نمواً هائلاً استعدداً لعلوق البويضة الملقحة (النطفة الامشاج) .. وتبلغ ثخونة غشاء الرحم في هذه المرحلة ثمانية ميليمترات (أي 16 ضعف ما كان عليه عند بدء الدورة) (¬1). ¬
فإذ حصل الحمل بإذن الله، وعلقت البويضة استمر الرحم في النمو، ويصبح الجسم الأصفر هو جسم الحمل المُنَمِّي له بواسطة إفراز هرمون الحمل، إما إذا قدر الله ولم يحصل الحمل فإن الرحم تنقبض أوعيته الدموية انقباضاً شديداً تمنع فيه تغذية الغشاء حتى يتفتت ويسقط الغشاء المبطن بالدماء والغدد على شكل دم الحيض، وينهار البناء بكامله، ويبكي الرحم دماً هو دم الحيض (¬1). هكذا يحصل حيض المرأة، فإذا كان كذلك ففي ضوء هذه المعطيات الطبية لا يمكن أن يكون الدم الخارج من المرأة، وهي حامل أن يعتبر حيضاً: يقول الدكتور محي الدين كحالة اختصاصي أمراض وجراحة النساء والتوليد، يؤكد أن الدورة الشهرية للمرأة (الطمث) هى القاعدة التي تهيء الرحم للحمل، وبالتالي فلا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار ما ينزل من دم على المرأة الحامل هو الحيض الطبيعي للمرأة، بل هو دم مرضي، يسمى في الفقه استحاضة وذكر أن ما تتوهمه الحامل حيضاً: هو في حقيقته دم خلاف طبيعة الحيض، وله أسباب كثيرة منها: 1 - نزول الدم الناتج عن انفجار حويصلة البويضة، يظهر بعد أسبوعين من حمل المرأة. ¬
2 - نزول دم ناتج عن انغماد البويضة في الرحم بشكل يؤثر على جدار الرحم، ويسبب نزيفاً، وذلك بعد ثلاثة أسابيع من الحمل. 3 - نزول دم قد يستمر من ثلاثة أسابيع إلى تسعة: الأولى من الحمل بسبب عدم امتلاء تجويف الرحم بالجنين. 4 - نزيف ناتج عن التهاب في عنق الرحم في أي وقت من الحمل. 5 - نزيف ناتج عن لحمية في عنق الرحم في أي وقت من الحمل. 6 - جرح في المشيمة يؤدي إلى نزيف. 7 - مرضي سرطاني. 8 - نزف فى حالة حمل هاجر في الأنبوب، حيث يكون الرحم خالياً، وينمو الجنين فى أنبوب الرحم (¬1). ¬
الفصل الرابع: خلاف العلماء في أقل الحيض
الفصل الرابع: خلاف العلماء في أقل الحيض اختلف العلماء في أقل الحيض. فقيل: أقل الحيض ثلاثة أيام بلياليها. وهو ظاهر الرواية عن أبي حنيفة (¬1). وقيل: أقل مدة الحيض ثلاثة أيام بليلتيها المتخللتين. وهذه رواية الحسن عن أبي حنيفة (¬2). وقيل: لا حد لأقله ولو دفعة. وهذا مذهب مالك (¬3)، وهو الراجح. وقيل: أقل الحيض يوم وليلة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وعليه ¬
أدلة القائلين بأن أقل الحيض ثلاثة أيام بلياليها.
جماهير الشافعية (¬1) وقيل: أقل الحيض يوم بدون ليلة، وهو رواية عن الشافعي (¬2) وأحمد (¬3) أدلة القائلين بأن أقل الحيض ثلاثة أيام بلياليها. الدليل الأول: [31] روى الطبراني، قال: حدثنا أحمد بن بشير الطيالسي، ثنا الفضل ابن غانم، ثنا حسان بن إبراهيم، عن عبد الملك، عن العلاء بن الحارث (¬4) , عن مكحول، عن أَبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "أقل الحيض ثلاث، وأكثره عشر". [إسناده ضعيف جداً. فيه العلاء بن كثير، وهو متروك] (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: [32] ما رواه الدارقطني، قال حدثنا أَبو حامد محمد بن هارون، نا محمد ابن أحمد بن أنس الشامي، حدثنا حماد بن المنهال البصري، عن محمد بن راشد، عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام". [ضعيف جداً] (¬1). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: [33] ما رواه ابن عدي (¬1)، ثنا أحمد بن الحسن الكرخي، ثنا الحسن بن شبيب المقرئ، ثنا أَبو يوسف، عن الحسن بن دينار، عن معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحيض ثلاثة أيام، وأربعة وخمسة وستة وسبعة وثمانية وتسعة وعشرة، فإذا جاوزت العشرة فمستحاضة". [ضعيف جداً] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: [34] روى ابن عدي (¬1)، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن زنجوية، ثنا محمد ابن إبراهيم أَبو أمية، ثنا حفص بن عمر بن ميمون، ثنا محمد بن سعيد الشامي، ¬
حدثني عبد الرحمن بن غنم، قال: سمعت معاذ بن جبل يقول: إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا حيض دون ثلاثة أيام، ولا فوق عشرة أيام، فما زاد على ذلك فهي مستحاضة، فما زاد تتوضأ لكل صلاة إلى أيام أقرائها، ولا نفاس دون أسبوعين، ولا نفاس فوق أربعين، فإن رأت النفساء الطهر دون الأربعين صامت وصلت، ولا يأتيها زوجها إلا بعد الأربعين". [هذا حديث موضوع، والإجماع على أنه لا حد لأقل النفاس] (¬1). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: [35] روى ابن الجوزي في العلل المتناهية، من طريق أبي داود النخعي، حدثني أَبو طوالة، عن أَبي سعيد الخدرى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أقل الحيض ثلاث، وأكثره عشر، وأقل ما بين الحيضتين خمسة عشر يوماً (¬1). [وأبو داود النخغي تقدمت ترجمته (¬2)، واسمه سليمان بن عمرو وكان معروفاً بالكذب عياذاً بالله]. ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: [36] ذكر ابن حبان في الثقات، ولم يصل سنده، وابن الجوزي في التحقيق (¬1)، والعلل المتناهية (¬2)، معلقاً قالا: روى حسين بن علوان، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أكثر الحيض عشر، وأقله ثلاث". [موضوع] (¬3). فكل هذه الأحاديث كما رأيت ضعفها شديد، وفيها الموضوع، وأصح حديث استدلوا به إلا أنهم أخطأوا الاستدلال به، الحديث الآتي: الدليل السابع: [37] ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا أحمد بن أبي رجاء، قال: ¬
حدثنا أَبو أسامة، قال: سمعت هشام بن عروة، قال: أخبرني أبي، عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: قالت إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة، فقال: لا؛ إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التى كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "قدر الأيام" فالأيام جمع، وأقل الجمع ثلاثة. وأجيب: بأن الحديث قد يكون جرى مجرى الأغلب، فلا يراد به التحديد. أو يكون ذلك في امرأة عرف أن حيضها كان أياماً، وعلى كل فالحديث ما قيل في أقل الحيض حتى يكون دليلاً على الحصر، ولذا جاء في الأحاديث الأخرى: امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، وبعضها حده في الإقبال والإدبار بدون تحديد، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل لم يصح الاستدلال. قال ابن عبد البر: وليس هذا عندي حجة تمنع من أن يكون الحيض أقل من ثلاث؛ لأنه كلام خرج في امرأة علم أن حيضها أيام، فخرج جوابها على ذلك، وجائز أن يكون الحيض أقل من ثلاث؛ لأن ذلك موجود في النساء غير مدفوع. اهـ (¬2). ¬
الدليل الثامن
وقال ابن رجب: "وأجاب من خالفهم بجوابين: أحدهما: أن المراد بالأيام الأوقات؛ لأن اليوم قد يعبر به عن الوقت، قلَّ أو كثر. قال تعالى {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} (¬1). والمراد: وقت يجيء العذاب. وقد يكون ليلاً، وقد يكون نهاراً، وقد يستمر، وقد لا يستمر. ويقال: يوم الجمل، ويقال: يوم صفين. وكل منهما كان عدة أيام. والثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد امرأة واحدة إلى عادتها، والظاهر أن عادتها كانت أياماً متعددة من الشهر، إما ستة أيام، أو سبعة. فليس فيه دليل على أن حيض كل امرأة يكون كذلك" (¬2). الدليل الثامن: حكى بعض الحنفية الإجماع من الصحابة على أن أقل الحيض ثلاثة أيام. قال الكاساني: "روى هذا عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم عبد الله بن مسعود، وأنس بن ملك، وعمران بن حصين، وعثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنهم أنهم قالوا: الحيض ثلاث، أربع، خمس، ست، سبع، ثمان، تسع، عشر، ولم يرد عن غيرهم خلافه فيكون إجماعاً" (¬3). ¬
الدليل التاسع
قلت: قد علمت بأنه لا يصح في هذا الباب شيء، والأحاديث فيه تدور على وضاع أو متهم، ولو كان هناك إجماع ما صح خلافه عن عطاء، ومالك، وأحمد، والشافعي، وجمهور العلماء. الدليل التاسع: من القياس، ولولا أنهم ذكروه ما ذكرته؛ لأنه من الضعف بحيث لا يحتاج إلى جواب عنه، وكلامهم هذا يقدح في القياس، وهو من أدلة الشرع المعتبرة على الراجح إذا أحسن الاستدلال به. قال السرخسي رحمه الله في المبسوط: "إن أقل مدة الحيض ثلاثة أيام اعتباراً بأقل مدة السفر، فإن كل واحد منهما يؤثر في الصوم والصلاة، وقد ثبت أن أقل مدة السفر ثلاثة أيام ولياليها فكذلك هذا" (¬1). دليل من قال: أقل الحيض ثلاثة أيام بليلتيها المتخللتين. استدلوا بالأدلة السابقة من أقل الحيض ثلاثة أيام، كما روي من حديث أَبي أمامة، ومعاذ، وأنس، وأبي سعيد الخدري، وغيرهم. وجه الاستدلال: أن الأحاديث ذكرت ثلاثة أيام، واليوم غير الليلة، فالأصل هي الأيام، وما يتخللها من الليالي، فإنه يتبعها ضرورة، والضرورة ترتفع بالليلتين ¬
دليل من قال: أقل الحيض يوم وليلة.
المتخللتين، واليوم الثالث لا ضرورة في إدخال ليلته، والدليل على أن الليلة لا تدخل فى اليوم، قوله تعالى {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} (¬1) فاليوم الثامن لم تدخل ليلته. وهذا مسلم لو سلم لهم كون الحيض أقله ثلاثة أيام أما إذا علمنا أن أدلتهم ضعيفة جداً كان وجه الاستدلال ضعيفاً تبعاً (¬2). دليل من قال: أقل الحيض يوم وليلة. الدليل الأول: قال ابن قدامة: "الحيض ورد في الشرع مطلقاً من غير تحديد، ولا حد له في اللغة، ولا في الشريعة فيجب الرجوع فيه إلى العرف والعادة كما في القبض والإحراز والتفرق وأشباهها، وقد وجد حيض معتاد يوماً. قال عطاء: رأيت من النساء من تحيض يوماً، وتحيض خمسة عشر يوماً وقال ابن المنذر: قال الأوزاعي: عندنا امرأة تحيض غدوة وتطهر عشياً ¬
الدليل الثاني
يرون أنه حيض تدع له الصلاة. وقال الشافعي: رأيت امرأة أثبت لي أنها لم تزل تحيض يوماً". اهـ (¬1). الدليل الثاني: التتبع والاستقراء، حيث لم يوجد حيض أقل من ذلك عادة مستمرة في عصر من الأعصار، فلا يكون حيضاً. قال الشافعي: "قد رأيت امرأة أثبت لي أنها لم تزل تحيض يوماً، ولا تزيد عليه" (¬2). وأجيب بما يلي: قال الشيخ إبراهيم البيجوري: "الاستقراء كان من الإمام الشافعي رحمه الله لنساء العرب، ومعلوم أنه لم يتتبع نساء العالمين حتى يكون استقراء تاماً، بل ولا نساء زمانه كلهن، بل تتبع بعضهن حتى غلب على ظنه عموم الحكم، فهو استقراء ناقص، وهو إنما يفيد الظن، فهو دليل ظني" اهـ (¬3). قلت: حتى كلمة الشافعي لا تدل على أنه كان عن بحث واستقراء، بل إنه أفاد أنه وجد امرأة تحيض يوماً، ولا يعني أن هذا كان نتيجة بحث، واستقراء، ولذا وجد غيره من تحيض أقل من يوم، فقد روى الدارقطني (¬4) والبيهقي (¬5) من ¬
طريق العباس بن محمد، ثنا محمد بن مصعب، قال: سمعت الأوزاعي يقول: "عندنا امرأة تحيض غدوة، وتطهر عشية" (¬1). ¬
الدليل الثالث
وقول الشافعي: تحيض يوماً، الظاهر أنه يعني مع ليلته، فإنه إذا اطلق اليوم دخلت الليلة، وإذا اطلقت الليلة دخل اليوم. قال تعالى: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} (¬1)، مع قوله سبحانه: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} (¬2). فأطلق اليوم وأريد به مع ليلته. الدليل الثالث: [38] ما رواه الدارمي (¬3) أخبرنا يعلى، ثنا إسماعيل، عن عامر - يعني الشعبي - قال: جاءت امرأة إلى عليّ، تخاصم زوجها طلقها. فقالت: قد حضت في شهر ثلاث حيض. فقال علي لشريح: اقض بينهما. قال: يا أمير المؤمنين، وأنت ها هنا. قل: اقض بينهما. قال: إن جاءت من بطانة أهلها ممن يرضى دينه وأمانته، تزعم أنها حاضت ثلاث حيض، تطهر عند كل قرء وتصلي، جاز لها، وإلا فلا. قال علي: قالون. وقالون بلسان الروم ¬
أحسنت. [رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعاً، فالشعبي لم يسمعه من علي] (¬1). وجه الاستدلال: قالوا: قد اتفق شريح وعلي رضي الله عنهما، وعلي له سنة متبعة على أن أقل الحيض يوم وليلة، ولا يمكن أن تحيض في شهر ثلاث مرات إلا في هذه الصورة؛ وذلك بأن تحيض يوماً وليلة، ثم تطهر ثلاثة عشر يوماً، ثم تحيض يوماً وليلة، وتطهر ثلاثة عشر يوماً، فالمجموع ثمانية وعشرون يوماً، ثم تحيض يوماً وليلة فتخرج من العدة بعد تسعة وعشرين يوماً. ويجاب عن هذا: أولاً: أن الأثر إسناده منقطع، والمنقطع ضعيف. ثانياً: ليس في القصة ما يدل على أنها حاضت يوماً وليلة, وطهرت ثلاثة عشر يوماً، ولذلك جاء في شرح ابن رجب لصحيح ¬
البخاري (¬1): "قال حرب الكرماني، ثنا إسحاق، نا أبي، قال: سألت ابن المبارك، فقال: أرأيت قول سفيان: تصدق المرأة في انقضاء عدتها في شهر، كيف هذا؟، وما معناه؟. قال: قل ثلاثاً حيضاً، وعشراً طهراً، وثلاثاً حيضاً. كذا قال". اهـ وبناء على هذا التفسير على أن أقل الحيض ثلاث، فيكون مجموع الحيض ثلاث مرات، كل واحد منها ثلاثة أيام، فمجموعها تسعة أيام، ويكون مجموع الطهر عشرين يوماً، كل طهر عشرة أيام، فالمجموع تسعة وعشرون يوماً. وهذا أيضاً تفسير إسحاق بن راهوية، كما ذكره ابن رجب عنه في شرحه. وثالثاً: الأثر لا يدل على التحديد، فلو ادعت المرأة انقضاء عدتها بأقل من شهر، فأين الدليل من الأثر على أنه لن يسمع بينتها، فقد يقع من امرأة أقل من شهر. والأثر لا يمنع منه. وممن قال بأن أقل الحيض يوم وليلة عطاء بن أبي رباح. [39] فقد روى الدارمي، أخبرنا الحكم بن المبارك، نا مخلد بن يزيد، عن معقل بن عبيد الله، عن عطاء، قال: أدنى الحيض يوم (¬2). [قال الحافظ: "إسناده صحيح" (¬3)، والحق أنه حسن، الحكم، ومخلد كل ¬
دليل من قال: أقل الحيض يوم بدون ليلة.
واحد منهما صدوق له أوهام، ومعقل: صدوق يخطئ]. والقول بتحديد أقل الحيض قول ضعيف. قال ابن رجب: "لم يصح عند أكثر الأئمة في هذا الباب توقيت مرفوع، ولا موقوف، وإنما رجعوا فيه إلى ما حكي من عادات النساء خاصة، وعلى مثل ذلك اعتمد الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم" (¬1). قلت: تحكيم عادة النساء إنما تعطي حكماً أغلبياً، وهي لا تدل على التحديد، وأين الدليل على أن المرجع في هذا غالب النساء، بحيث يبقى هذا الحكم الأغلبي حداً، فما نقص عنه فلا يمنع من الصلاة ولا من الصيام، حتى ولو كان في لون دم الحيض، وطبيعته، ورائحته، فلا شك في ضعف هذا القول. دليل من قال: أقل الحيض يوم بدون ليلة. قال المرداوي: "كان الشافعي يرى أن أقله يوم وليلة، إلى أن أخبره عبد الرحمن بن مهدي أن عندهم امرأة تحيض غدوة وتطهر عشية" (¬2). وقد قال الشافعي: "قد رأيت امرأة أثبت لي أنها لم تزل تحيض يوماً، ولا تزيد عليه" (¬3). وقد اختلف أصحاب الشافعي في تفسير عبارة الشافعي: "لم تزل تحيض ¬
دليل من قال: لا حد لأقله.
يوماً" مع قوله أقل الحيض يوم وليلة، هل هما قول واحد، أم قولان؟ قال في المهذب (¬1): "وأقل الحيض يوم وليلة. وقال في موضع آخر: يوم. فمن أصحابنا من قال: هما قولان. ومنهم من قال: هو يوم وليلة قولاً واحداً، وقوله: يوم، أراد بليلته. ومنهم من قال: يوم قولاً واحداً، وإنما قال: يوم وليلة قبل أن يثبت عنده اليوم، فلما ثبت عنده رجع إليه. والدليل عليه أن المرجع في ذلك إلى الوجود، وقد ثبت الوجود في هذا القدر. وقال الأوزاعي: رحمه الله: عندنا امرأة تحيض غدوة، وتطهر عشية. وقال عطاء رحمه الله: رأيت من النساء من تحيض يوماً، وتحيض خمسة عشر يوماً. وقال أبو عبد الله الزبيري رحمه الله: كان في نسائنا من تحيض يوماً، وتحيض خمسة عشر يوماً" اهـ (¬2) دليل من قال: لا حد لأقله. الدليل الأول: قال تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (¬3) فإذا وجد الأذى وجد الحيض، سواء كان أكثر من يوم وليلة أو أقل، فالحكم يدور مع علته ¬
الدليل الثاني
وجوداً وعدماً، وقَد أمر الله باعتزال النساء في المحيض، ولم يحده بحد، بل علق الحكم على وجوده، فيِجب اعتزالها ولو كان الدم أقل من يوم وليلة. الدليل الثاني: قال تَعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (¬1) وجه الاستدلال: نهى الله سبحانه وتعالى عن إتيان الحائض حتى تطهر، ولو كان الحيض له حد معين إذا نقص أو زاد بحيث يتحول إلى استحاضة، لجعل غاية النهي إلى مضي أيام معينة: عشرة أيام، أو خمسة عشر يوماً، ولم يعلقه على الطهارة. الدليل الثالث: القول بالتحديد يحتاج إلى دليل، وما دام لم يثبت في هذا دليل فلا يجوز القول به. قال ابن القيم: "ولم يأت عن الله ولا عن رسوله، ولا عن الصحابة تحديد أقل الحيض بحد أبداً، ولا في القياس ما يقتضية" (¬2). والذين قالوا: بأن أقله يوم وليلة معترفون بأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن الصحابة في هذا شيء، وإنما حكموا العادة. ¬
الدليل الرابع
وأين الدليل على تحكيم العادة في مثل هذا حتى يصير حداً إن نقص عنه لم يمنعها الصلاة والصيام الدليل الرابع: [40] ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: قالت فاطمة بنت أبي حبيش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله إني لا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - علق أحكام الحيض على إقبال الحيض وإدباره، ولم يعلقه بمضي مدة معينة، فعلم أن لا تحديد لأقل الحيض. الدليل الخامس: لو كان تحديد الفقهاء معتبراً لوجب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبينه، لحاجة الأمة إليه، ولعموم البلوى فيه، فلما لم يبينه، علم أنه ليس من الشرع. قال ابن تيمية: "علق الله باسم الحيض أحكاماً متعددة، في الكتاب وفي السنة، ولم يقدر لأقله، ولا لأكثره، ولا الطهر بين الحيضتين. مع عموم بلوى ¬
الدليل السادس
الأمة في ذلك واحتياجهم إليه، واللغة لا تفرق بين قدر وقدر، فمن قدر في ذلك حداً فقد خالف الكتاب والسنة" (¬1). الدليل السادس: الحيض نوع من الحدث، فلا يتقدر أقله بشيء كسائر الأحداث (¬2) الدليل السابع: القياس على النفاس، فكما أن النفاس لا حد لأقله، فكذلك الحيض. والحيض والنفاس أحكامهما متشابهة. هذه مجمل الأدلة التي استدلوا بها، وأرى - والله أعلم - أن القول الراجح هو القول بعدم التحديد، لأنه لم يثبت فيه شيء، وكل شيء ورد في الشرع مطلقاً فهو على إطلاقه، وكذا النصوص العامة هي على عمومها حتى يأتي ما يخصصها، وتقييد المطلق، وتخصيص العام لا يجوز إلا بنص مثله أو إجماع؛ لأنه إخراج لبعض أفراده، وتحكيم الوجود في أقل الحيض وأكثره ضعيف. والباحث يتساءل إذاً كيف كانت الأحكام قبل أن يستقر الوجود ويظهر لمن ادعاه؟ هل كانت الأحكام متروكة هكذا يتخبط الناس سنوات حتى يستقروا على حكم أو رأي؟ وكيف كان للرجال أن يقفوا على حقيقة الوجود ومنتهاه، والأمر يتعلق بالنساء والرجال لا يشبهونهن في ذلك؟!! ¬
الفرع الأول
الفرع الأول القائلون بتحديد أقل الحيض، وهم الجمهور اعترضوا على من قال: بأنه لا حد لأقل الحيض، بأن المرأة المطلقة قد تدعي خروجها من العدة خلال ثلاثة أيام، بل ربما أقل، وبالتالي فلا بد من القول بتحديد أقل الحيض، وأقل الطهر. وللجواب على هذا الإشكال، أن يقال: القائلون بأنه لا حد لأقل الحيض قد اختلفوا في هذه المسألة إلى فريقين أو ثلاثة: فريق فرق بين العدة والاستبراء، وبين العادة كالمالكية. وفريق آخر لم يفرق بينهما مطلقاً كابن حزم. وآخر وقف موقفاً متوسطاً، قال: إذا ادعت خلاف الظاهر كلفت البينة، وهذا رأي ابن تيمية. وهذا الرأي وإن كان يبدو قوياً إلا أن البينة في مثل هذا تكاد تتعذر، ثم إن المرأة مؤتمنة على عدتها، والمؤتمن على شيء يقبل قوله. هذا ملخص الأقوال، وإليك النقول عنهم جميعاً، سواء من ادعى بأن أقل الحيض له حد معين، أو من قال: بأنه لا حد لأقل الحيض. كلام القائلين بأنه لا حد لأقل الحيض. قال الكشناوي من المالكية: "وأقله - يعني الحيض - في العبادة دفعة
واحدة، فيجب عليها الغسل بالدفعة، ويبطل صومها، وتقضي ذلك اليوم، وأما في العدة والاستبراء فلا يعد حيضاً إلا ما استمر يوماً، أو بعض يوم له بال" (¬1). فإذا كان أقل الطهر عند المالكية خمسة عشر يوماً، فلا يمكن أن تنقضي عدتها إلا بأكثر من شهر، سواء قلنا: (القرء) هو الحيض، أو قلنا: المراد به الطهر. وقال ابن تيمية: "قال في المحرر: وإذا ادعت انقضاء عدتها بالأقراء، أو الولادة قبل قولها إذا كان ممكناً، إلا أن تدعيه بالحيض في شهر فلا يقبل قولها إلا ببينة. قال أبو العباس: قياس المذهب المنصوص: أنها إذا ادعت ما يخالف الظاهر كلفت البينة، لا سيما إذا أوجبنا عليها البينة فيما إذا علق طلاقها بحيضها، فقالت: حضت، فإن التهمة في الخلاص من العدة كالتهمة في الخلاص من النكاح، فيتوجه أنها إذا ادعت الانقضاء في أقل من ثلاثة أشهر كلفت البينة" (¬2). ويشكل على قول ابن تيمية رحمه الله أن الله سبحانه وتعالى جعل النساء مؤتمنات على عددهن. قال تعالى {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي ¬
أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (¬1). وذكر ابن رجب قال: روى الأعمش، عن مسروق، عن أبي ابن كعب، قال: إن من الأمانة أن ائتمنت المرأة على رحمها (¬2). وكل من كان مؤتمناً فإنه يقبل قوله مع يمينه. ووافق ابن القيم شيخه ابن تيمية، فقال رحمه الله: "فإن قيل: ينبغي إن كان ليس لأقله حد لو ادعت انقضاء عدتها فى أربعة أيام تباح للأزواج. قيل: إن العدة ليس من هذا؛ لأن قوله: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} يريد الأقراء الكاملة، وأقل الكاملة أن تكون في شهر، لحديث علي مع شريح" (¬3). قلت: لا أعلم أن هناك قرءاً كاملاً، وآخر ناقصاً، فالقرء هو القرء، قد يطول وقد يقصر، لكن لا يوصف بالكمال والنقص. وخالفهم ابن حزم، فلم يفرق بين العبادة، وبين العدة والاستبراء، فقال رحمه الله: وأما من فرق بين الصلاة والصوم وتحريم الوطء، وبين العدة، فقول ظاهر الخطأ، ولا نعلم له حجة أصلاً، لا من قرآن ولا من سنة صحيحة، ¬
كلام القائلين بتحديد أقل الحيض.
ولا سقيمة، ولا إجماع، ولا من قول صاحب، ولا من قياس، ولا من احتياط، ولا من رأي له وجه!! فوجب تركه. وأشار ابن حزم إلى أن القول بعدم التفريق بين العبادة وبين العدة هو قول الأوزاعي، وداود الظاهري، وأحد قولي الشافعي (¬1). كلام القائلين بتحديد أقل الحيض. اختلف الجمهور القائلون بتحديد أقل مدة الحيض، متى تصدق المرأة في دعوى انقضاء عدتها، وذلك لاختلافهم في أقل الحيض، وفي أقل الطهر. وإليك النقول عنهم. قال ابن رجب: "ومذهب أبي حنيفة لا تصدق في دعوى انقضاء العدة في أقل من ستين يوماً. واختلف عنه في تعليل ذلك، فنقل عنه أبو يوسف أنها تبدأ بطهر كامل خمسة عشر يوماً، ويجعل كل حيضة خمسة أيام، والأقراء عندهم حيض. ونَقَلَ عنه - أي عن أبي حنيفة - الحسن بن زياد أنه اعتبر أكثر الحيض، وهو عندهم عشرة أيام، وأقل الطهر، وهو خمسة عشر يوماً، وبدأ بالحيض. وقال صاحباه: أبو يوسف ومحمد: لا تصدق إلا في كمال تسعة وثلاثين ¬
يوماً؛ بناء على أقل الحيض، وهو عندهم ثلاثة، وأقل الطهر وهو خمسة عشر. وقال سفيان الثوري: لا تصدق في أقل من أربعين يوماً، وهو أقل ما تحيض النساء فيه وتطهر، وهذا كقول أبي يوسف ومحمد" ثم قال: ومنهم من قال: إنما يقبل ذلك بغير بينة في حق من ليس لها عادة مستقرة، وأما من لها عادة منتظمة فلا تصدق إلا ببينة على الأصح. كذا قال صاحب الترغيب. وقال ابن عقيل فى فنونه: "لا يقبل مع فساد النساء، وكثرة كذبهن دعوى انقضاء العدة فى أربعين ولا خمسين يوماً إلا ببينة تشهد أن هذه عادتها، أو أنها رأت الحيض على هذا المقدار، وتكرر ثلاثاً. وقال إسحاق وأبو عبيد: لا تصدق في أقل من ثلاثة أشهر، إلا أن تكون لها عادة معلومة قد عرفها بطانة أهلها المرتضى دينهن وأمانتهن فيعمل بها حينئذٍ، ومتى لم يكن كذلك فقد وقعت الريبة فتحتاط، ويعدل الأقراء بالشهور، كما في حق الآيسة والصغيرة". انتهى كلامه رحمه الله (¬1) وأما المذهب الحنبلي فيقسمون الوقت إلى ثلاثة أقسام: وقت لا تسمع دعواها مطلقاً، ولا ينظر فيها، حتى ولو ادعت بينة، كما لو ادعت انقضاء عدتها بثمانية وعشرين يوماً؛ لأنهم بنوا على قواعدهم بأن أقل ¬
الحيض يوم وليلة، وأقل الطهر ثلاثة عشر يوماً، فلا يمكن بناءً عليه أن تنقضي عدتها بهذه المدة فأقل. والثاني: تقبل عادتها بلا بينة، كما لو ادعتها بزمن معتاد، كشهرين ونصف مثلاً؛ لأن المرأة مؤتمنة على عادتها. والثالث من الأوقات: لو ادعت انقضاء عادتها بشهر مثلاً تسمع دعواها، وينظر فيها، ولا يقبل قولها إلا ببينة، اعتماداً على قصة شريح مع علي، وسندها منقطع. كما مر معنا (¬1). والذي يترجح لي أن التفريق بين العبادة والعدة قول لا دليل عليه، فما دام يحكم له بأنه حيض مانع من الصلاة والصيام فهو معتبر في العدة إلا أن قبول قول المرأة في الصورة النادرة ينبغي الاحتياط فيه، لا تفريقاً بين العبادة والعدة، وإنما حفظاً للحقوق. فإن كانت عادتها مطردة مستمرة لا تحيض إلا يوماً، أو أقل أو أكثر، كان قبولها فى العادة جارياً على أن هذه عادتها. وإن ادعت خلاف عادتها المعلومة المستمرة فالظاهر لا يؤيد دعواها، فكونها تدعي خلاف عادتها، وأنها جاءتها بهذه الصورة النادرة المستمرة، ثم ¬
تكررت ثلاث مرات متتالية، وهي على هذه الصورة النادرة على خلاف ما يعلم من عادتها، فهذا يحدث في النفس شيئاً من قبول دعواها، فتكلف البينة، إن لم يصدقها زوجها. والله أعلم (¬1). ¬
الفرع الثاني
الفرع الثاني إذا قيل: إن أقل الحيض يوم وليلة على المذهب المرجوح، ثم وجدنا امرأة يأتيها الدم مستمراً ومطرداً أقل من ذلك بلون دم الحيض ورائحته المعهودة. فهل يجعلونه دم حيض، وفد خالف قواعدهم؟ أم يجعلونه دم فساد؟ اختلفوا في هذه المسألة، وذكرها النووي، وذكر فيها أوجهاً: أحدها: لا يعتبر حال هذه، بل الحكم على ما عهد، لأن بحث الأولين أوفى. قال إمام الحرمين: والذي أختار، ولا أرى العدول عنه الاكتفاء بما استقرت عليه مذاهب الماضين من أئمتنا في الأقل والأكثر، ولو فتحنا باب اتباع الوجود في كل ما يحدث، وأخذنا في تغيير ما يعهد تقليلاً وتكثيراً، لاختلطت الأبواب، وظهر الاضطراب، والوجه اتباع ما تقرر للعلماء الباحثين قبلنا. قلت: هذا القول إما دليل على ضعف اعتبار الوجود دليلاً في أقل الحيض؛ لأنه ثبت أنه يوجد أقل من ذلك، وأن اعتبار الوجود يؤدي إلى اضطراب الأقوال، وإما أن يكون هذا القول دعوة إلى التقليد المحض، وعدم الأخذ بالدليل، وأن بحث الأولين مقدم مطلقاً؛ لكونه صدر منهم فقط. والتقليد بدعة، وقد بدأت الأمة تتخلص من مستنقعه، معظمة للدليل الصحيح، والقول المبني عليه. ثم قال النووي: والوجه الثاني: أنه يعتبر حال هذه المرأة ليكون هذا
حيضها وطهرها؛ لأن الاعتماد على الوجود، وقد حصل، وهذا القول يتمشي مع القول الراجح، بأنه لا حد لأقل الحيض، بل العبرة بالوجود، فمتى وجد الأذى وجد الحيض (¬1). ¬
الفصل الخامس: خلاف العلماء في أكثر الحيض
الفصل الخامس: خلاف العلماء في أكثر الحيض اختلف العلماء في أكثر الحيض إلى أقوال. فقيل: أكثر الحيض خمسة عشر يوماً. وهو مذهب المالكية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3) وقيل: أكثر الحيض عشرة أيام، وهو مذهب الحنفية (¬4). ¬
أدلة الجمهور على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوما.
وقيل: أكثر الحيض سبعة عشرة يوماً، وهو رواية عن الإمام أحمد (¬1). وابن حزم من الظاهرية (¬2) وقيل: لا حد لأكثر الحيض، وهو اختيار ابن تيمية (¬3) أدلة الجمهور على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً. الدليل الأول: [41] قال السخاوي: روى عن ابن عمر مرفوعاً: "النساء ناقصات عقل ودين. قيل: وما نقصان دينهن؟ قال: تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي". وبعضهم يقول: شطر عمرها. [لا أصل له] (¬4). ¬
الدليل الثاني
وجه الاستدلال عندهم: الشطر النصف، ومعلوم أن المرأة تحيض غالباً في كل شهر مرة، ولهذا جعل الله عدتها ثلاث حيض، والآيسة والتي لا تحيض لصغر ثلاثة أشهر، ومن جلست في حيضها من كل شهر خمسة عشر يوماً لا تصلي، فقد جلست شطر عمرها عن الصلاة. الدليل الثاني: قال ابن قدامة: "الحيض ورد في الشرع مطلقاً من غير تحديد، ولا حد له في اللغة، ولا في الشريعة فيجب الرجوع فيه إلى العرف والعادة كما في القبض ¬
الدليل الثالث
والإحراز والتفرق وأشباهها، وقد وجد حيض معتاد يوماً خمسة عشر يوماً. قال عطاء: رأيت من النساء من تحيض يوماً، وتحيض خمسة عشر يوماً وقال أحمد: حدثني يحيى بن آدم، قال: سمعت شريكاً يقول: عندنا امرأة تحيض كل شهر خمسة عشر يوماً حيضاً مستقيماً" (¬1). الدليل الثالث: لا يمكن أن يزيد الحيض عن خمسة عشر يوماً لأمرين: الأول: لو زاد الحيض عن خمسة عشر يوماً كان حيض المرأة في الشهر الواحد أكثر من طهرها، وهذا محال!! وتعقبه ابن حزم، فقال: "من أين لكم أنه محال؟ وما المانع إن وجدنا ذلك ألا يوقف عنده؟ فما نعلم منع من هذا قرآن ولا سنة أصلاً، ولا إجماع، ولا قياس، ولا قول صاحب" (¬2). الأمر الثاني: أن الحيض لو كان أكثر الشهر؛ فإن الأكثر يثبت له حكم الكل، وإذا ثبت له حكم الكل صارت مستحاضة؛ لأن من أطبق عليها الشهر كاملاً صارت مستحاضة. وتعقب: بأن هذا فيه تكلف إذ كيف يلحق من زاد يوماً واحداً على خمسة عشر مثلاً، فيكون حكمها حكم من أطبق عليها الدم كل الشهر. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: التتبع والاستقراء، فقد تتبع السلف أكثر الحيض فوجدوه لا يزيد على خمسة عشر يوماً. قال النووي: "ثبت مستفيضاً عن السلف من التابعين فمن بعدهم أن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً, وأنهم وجدوه كذلك عياناً، وقد جمع البيهقي أكثر ذلك في كتابه الخلافيات، وفي السنن الكبير، منهم عطاء، والحسن، وعبيد الله بن عمر، ويحيى بن سعيد، وربيعة، وشريك، والحسن بن صالح، وعبد الرحمن بن مهدي رحمهم الله" (¬1) أدلة القائلين بأن أكثر الحيض عشرة أيام. الدليل الأول: [42] روى ابن عدي في الكامل (¬2). عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحيض ثلاثة أيام، وأربعة، وخمسة، وستة، وسبعة، ثمانية، وتسعة، وعشرة، فإذا جاوز العشرة فهي مستحاضة". [ضعيف جداً] (¬3). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: [43] روى الطبراني (¬1). من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: أقل الحيض ثلاث، وأكثره عشر. [إسناده ضعيف جداً] (¬2). الدليل الثالث: [44] روى الدارقطني، من حديث واثلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أقل الحيض ثلاث أيام، وأكثره عشرة أيام". [ضعيف جداً] (¬3). الدليل الرابع: [45] روى ابن عدي، قال: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا حيض دون ثلاثة أيام، ولا فوق عشرة أيام، فما زاد على ذلك فهي مستحاضة. ¬
الدليل الخامس
[والحديث موضوع] (¬1). الدليل الخامس: [46] حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أقل الحيض ثلاث، وأكثره عشر، وأقل ما بين الحيضتين خمسة عشر يوماً .. [موضوع] (¬2). الدليل السادس: [47] حديث عائشة رضي الله عنها، رواه ابن حبان معلقاً بلفظ: أكثر الحيض عشر، وأقله ثلاث (¬3). وهذه الأحاديث ضعفها شديد لا ينجبر، وبعضها موضوع. قال ابن المنذر: "ذكر الميموني أنه قال: قلت لأحمد بن حنبل: أيصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء في أقل الحيض وأكثره. قال: لا. قلت: فحديث أنس؟ قال: ليس بشيء. أو قال: ليس يصح. قلت: فأعلى شيء فى هذا الباب حديث معقل، عن عطاء: الحيض يوم وليلة" (¬4). ¬
الدليل السابع
وقال ابن رجب: "هذه الأحاديث المرفوع منها باطل، لا يصح، وكذلك الموقوف طرقه واهية، وقد طعن فيها غير واحد من الأئمة الحفاظ" (¬1). قلت: الطرق الموقوفه سأذكر تخريجها في الأدلة الآتية - إن شاء الله تعالى -. الدليل السابع: [49] ما رواه الطبراني (¬2) حدثنا موسى بن زكريا، ثنا عمرو بن الحصين، ثنا محمد بن عبد الله بن علاثة، ثنا عبدة بن أبي لبابة، عن عبد الله بن باباه، عن عبد الله بن عمرو، قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "للحائض ما بينها وبين عشر، فإذا رأت الطهر فهي طاهر، وإن جاوزت العشر فهي مستحاضة، تغتسل وتصلي، فإن غلبها الدم احتشت واستثفرت، وتوضأت لكل صلاة، وتنتظر النفساء ما بينها وبين الأربعين، فإن رأت الطهر قبل ذلك فهي طاهر، وإن جاوزت الأربعين فهي مستحاضة تغتسل وتصلي، فإن غلبها الدم احتشت واستثفرت وتوضأت لكل صلاة". قال الطبراني: لم يروه عن عبدة إلا ابن علاثة، تفرد به عمرو. [الإسناد ضعيف جداً] (¬3). ¬
الدليل الثامن
الدليل الثامن: [49] روى الدارقطني (¬1) حدثنا الحسين بن إسماعيل، ثنا خلاد ابن أسلم، نا محمد بن فضل، عن أشعث، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص، قال: لا تكون المرأة مستحاضة في يوم ولا يومين، ولا ثلاثة أيام، حتى تبلغ عشرة أيام، فإذا بلغت عشرة أيام كانت مستحاضة. ¬
الدليل التاسع
[ضعيف] (¬1). ومع ضعفه هو موقوف. الدليل التاسع: [50] ما رواه الدارقطني (¬2) من طريق هارون بن زياد القشيري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: "الحيض ثلاث، وأربع، وخمس، وست، وسبع، وثمان، وتسع، وعشر، ¬
دليل من قال: أكثر الحيض سبعة عشر يوما.
فإن زاد فهي مستحاضة". قال الدارقطني: لم يروه عن الأعمش بهذا الإسناد غير هارون ابن زياد القشيري، وهو ضعيف الحديث. وليس لهذا الحديث عند الكوفيين أصل عن الأعمش. والله أعلم. هذا ما وقفت عليه من أدلة الحنفية، وعلى كثرتها إلا أن المرفوع فيها ضعفه لا ينجبر، والموقوف ضعيف وليس فيه حجة. والله أعلم. دليل من قال: أكثر الحيض سبعة عشر يوماً. الدليل الأول: يرى ابن حزم أن ما زاد على سبعة عشر يوماً فإنه ليس بحيض إجماعاً!! قال رحمه الله: "قد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن دم الحيض أسود، فإذا رأته المرأة لم تصل، ووجب الانقياد لذلك، وصح أنها ما دامت تراه فهي حائض، لها حكم الحيض ما لم يأت نص أو إجماع فى دم أسود أنه ليس حيضاً، فقد صح النص بأنه قد يكون دم أسود، وليس حيضاً، ولم يوقت لنا فى أكثر عدة الحيض من شيء، فوجب أن نراعي أكثر ما قيل، فلم نجد إلا سبعة عشر يوماً، وقلنا بذلك، وأوجبنا ترك الصلاة برؤية الدم الأسود هذه المدة لا مزيد فأقل، وكان ما زاد على ذلك إجماعاً متيقناً أنه ليس حيضاً!! (¬1). ¬
الدليل الثاني
قلت: لا تثبت دعوى الإجماع مع وجود الخلاف؛ لأن هناك من قال: لا حد لأكثر الحيض ما لم يطبق عليها الدم كل الشهر، ثم أن قوله: إن دم الحيض دم أسود يعرف، إن كان مبنياً على حديث: "إن دم الحيض دم أسود يعرف" كما هو معلوم من تصحيح ابن حزم له، فالراجح أنه حديث ضعيف، مضطرب الإسناد، ومنكر المتن، كما سيأتي بيانه إن شاء الله في باب الإستحاضة. وقد ضعفه أبو حاتم والنسائي. وإن كان مبنياً على الرأي المحض؛ فإنه مخالف لما جاء من أن الصفرة والكدرة في زمن العادة حيض، ولهذه المسألة بحث مستقل إن شاء الله تعالى. الدليل الثاني: قال ابن حزم: "قد روي من طريق عبد الرحمن بن مهدي أن الثقة أخبره أن امرأة كانت تحيض سبعة عشر يوماً. ورويناه عن أحمد بن حنبل، قال: أكثر ما سمعناه سبعة عشر يوماً. وعن نساء الماجشون: أنهن كن يحضن سبعة عشر يوماً (¬1). قلت: ليس في هذا ما يدل على التحديد. دليل من قال: لا حد لأكثر الحيض. الدليل الأول: قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (¬2). فعلق الله أحكام الحيض على وجود هذا الأذى، فمتى وجد الأذى ¬
الدليل الثاني
فالحيض موجود، ولم يعلقه على مضي خمسة عشر يوماً، أو على سبعة عشر يوماً، أو أقل أو أكثر. الدليل الثاني: القول بالتحديد يحتاج إلى دليل، وما دام لم يثبت في هذا شيء فلا يجوز القول به. والقائلون بالتحديد معترفون بأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك شيء عدا الحنفية وأدلتهم شديدة الضعف، وإنما حكموا العادة والوجود في زمانهم، ولا دليل من القرآن ولا من السنة على الرجوع إلى العادة حتى تصير حداً بحيث يُجْعل الدم الذي قبل تمام خمسة عشر يوماً بساعة يُجْعَل حيضاً مانعاً من الصلاة والصوم، والدم الذى بعد تمام خمسة عشر يوماً يُجْعَل استحاضة. والدم هو الدم، واللون هو اللون، والرائحة هي الرائحة. فهذا تفريق في الحكم بين متماثلين، بلا دليل واضح من الشرع. الدليل الثالث: [51] ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا محمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا، إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. قال: وقال أبي ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت. ورواه
الدليل الرابع
مسلم إلا قوله: قال أبي: ثم توضئي لكل صلاة .. الخ (¬1) وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - علق أحكام الحيض على إقباله، وعلق أحكام الطهارة على إدباره، ولو كان له حد لا يتجاوزه لقال: فإذا مضى خمسة عشر يوماً، أو سبعة عشر يوماً فاغتسلي وصلي. الدليل الرابع: لو كان التحديد معتبراً لوجب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبينه للأمة، لكونه يتعلق به أعظم العبادات وهي الصلاة، بل يتعلق به ركنان من أركان الإسلام: الصلاة والصيام، ويتعلق به ما يتعلق من استحلال الفروج، وخروج المرأة من عدتها، والحكم لها ببراءة رحمها إلى غير ذلك من الأحكام، فلو كان التحديد معتبراً لبينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعموم البلوى به، فلما لم يبينه علم أن هذا التحديد غير معتبر شرعاً. قال ابن تيمية: "اسم الحيض علق الله به أحكاماً متعددة من الكتاب والسنة، ولم يقدر لأكثره ولا لأقله، ولم يقدر لأكثره ولا لأقله بين الحيضتين مع عموم بلوى الأمة بذلك، واحتياجهم إليه. واللغة لا تفرق بين قدر وقدر، فمن قدر في ذلك قدراً، فقد خالف الكتاب والسنة، وهذا القول هو القول الراجح، ومع ذلك إذا اطبق على المرأة الحيض، واستمر شهراً كاملاً فهي مستحاضة؛ لأن ¬
الله تبارك وتعالى جعل عدة المرأة ذات الأقراء في الطلاق ثلاثة قروء، فقال سبحانه {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬1) وجعل عدة اليائسة من المحيض والصغيرة التي لا تحيض ثلاثة أشهر، فقال سبحانه: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (¬2) فجعل بإزاء كل شهر طهراً وحيضاً، فكونه يطبق عليها الدم الشهر كاملاً نعلم أن هذا الدم منه ما هو حيض، ومنه ما هو استحاضة وليس بحيض" (¬3). والطب يؤكد حقيقة أن الحيض لا يمكن أن يأتي في الشهر مرتين: ففي سؤال وجه لأحدى أخصائيات النساء والولادة، يقول السؤال: دورتي الشهرية منتظمة، ولكنها تأتي في الشهر مرتين: أي في بدايته ونهايته، فهل يمكن أن يتم التبويض مرتين في الشهر؟ وكان جواب الدكتورة: لا يمكن أن تتم عملية التبويض مرتين في الشهر الواحد، حتى وإ جاءت الدورة الشهرية مرتين أو ثلاث مرات في الشهر الواحد، كما في بعض الحالات المرضية. الخ كلامها (¬4). ¬
الفصل السادس: خلاف العلماء في غالب الحيض
الفصل السادس: خلاف العلماء في غالب الحيض ذهبت الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) إلى أن غالب الحيض ستة أيام أو سبعة. وحكاه النووي اتفاقا (¬3). الأدلة على أن غالب الحيض ستة أيام أو سبعة. الدليل الأول (*): [52] ما رواه أحمد (¬4) ثنا عبد الملك بن عمرو، قال ثنا زهير - يعني ¬
بن محمد الخراساني - عن عبد الله بن محمد يعني ابن عقيل بن أبي طالب، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن عمه عمران بن طلحة، عن أمه حمنة بنت جحش قالت: كنت استحاض حيضة شديدة كثيرة، فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أستفتيه وأخبره، فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش، قالت: فقلت: يا رسول الله إن لي حاجة، فقال: وما هي؟ فقلت: يا رسول الله إني استحاض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيِها، قد منعتني الصلاة والصيام قال: أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم. قالت: هو أكثر من ذلك قال فتلجمي قالت: إنما أثج ثجا، فقال لها: سآمرك بأمرين أيهما فعلت فقد أجزأ عنك من الآخر فان قويت عليهما فأنت أعلم، فقال لها: إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة في علم الله، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت انك قد طهرت واستيقنت واستنقأت فصلي أربعا وعشرين ليلة أو ثلاثا وعشرين ليلة وأيامها وصومي فان ذلك يجزئك، وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن بميقات حيضهن وطهرهن، وان قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين ثم تصلين الظهر والعصر جميعا ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الفجر وتصلين وكذلك فافعلي وصلي وصومي إن قدرت على ذلك وقال رسول الله: وهذا أعجب الأمرين إلى. [والحديث قد اختلف في صحته، والراجح أنه ضعيف، وله أكثر من علة سوف أذكرها بشيء من التفصيل في باب الاستحاضة إن شاء الله تعالى].
قوله في الحديث: "تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام" ثم قال: "كما تحيض النساء وكما يطهرن". والمقصود به: غالب النساء؛ لاستحالة إرادة كلهن لاختلافهن. قال النووي: "واختلفوا في "أو" في قوله (ستة أيام أو سبعة أيام). فقيل: شك من الراوي، هل قال: هذا، أو قال: هذا. وقيل: (أو) للتخيير، واختلفوا في معناه. فقيل: تخيير تشهي. إن شاءت جلست ستة أيام، وإن شاءت جلست سبعة. وقيل: تخيير بما يليق بالمرأة، وذلك بأن ترجع إلى عادة أختها وأمها وما أشبه ذلك لغالب النساء، فإذا كان أكثر أقاربها ستة أيام قدمتها، أو سبعة فكذلك. وقيل: يحتمل أن تكون هذه المرأة قد ثبت لها عادة فيما تقدم ستة أيام أو سبعة أيام إلا أنها قد نسيتها، فلا تدري أيهما كانت، فأمرها أن تتحرى وتجتهد، وتبني أمرها على ما تيقنته، أو غلب على ظنها من أحد العددين، لقوله: "في علم الله" أي فيما علم الله من أمرك. وقيل: إن هذه المرأة عادتها تارة تكون ستة أيام، وتارة تكون سبعة أيام. والقولان الأخيران فيهما ضعف؛ لأنهما على افتراض أمر، والظاهر خلافه.
الفصل السابع: خلاف العلماء في أقل الطهر
الفصل السابع: خلاف العلماء في أقل الطهر اختلف العلماء في أقل الطهر فقيل: أقل الطهر خمسة عشر - يوماً. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: أقل الطهر ثلاثة عشر يوماً، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5). ¬
دليل من قال: أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوما.
وقيل: أقل الطهر بين الحيضتين تسعة عشر يوماً. اختاره من الحنفية أبو حازم القاضي، وأبو عبد الله البلخي (¬1). وقيل: أقله خمسة أيام، وهذا القول هو رواية ابن الماجشون عن مالك (¬2). وقيل: أقله ثمانية أيام. وهي رواية سحنون عن مالك (¬3) وقيل: أقله عشرة أيام، وهى رواية ابن القاسم عن مالك (¬4) وقيل: لا حد لأقل الطهر. وهو اختيار ابن تيمية (¬5)، وهو الراجح. دليل من قال: أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوماً. الدليل الأول: [53] ما يروى عن ابن عمر مرفوعاً: "تمكث إحداكن شطر عمرها لا تصلي". ¬
الدليل الثاني
[لا أصل له] (¬1). فإذا كنت المرأة تمكث شطر (نصف) عمرها لا تصلي، والحيض مرة واحدة في الشهر، معنى ذلك أنها تحيض خمسة عشر يوما من كل شهر، وإذا كان كذلك كان الطهر خمسة عشر يوماً. الدليل الثاني: قالوا: الشهر لا يخلو غالباً من حيض وطهر، وقد أثبتنا أن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً، وإذا كان كذلك لزم أن يكون أقل الطهر ما تبقى من الشهر، وهو خمسة عشر يوماً. الدليل الثالث: قال النووي: لأنه - يعني كون الطهر خمسة عشر يوماً - أقل ما ثبت وجوده (¬2). وهذه الأدلة ضعيفة؛ لأنها مبنية على أمر ضعيف، فليس مسلماً أكثر الحيض خمسة عشر يوماً، كما أنه غير مسلم أنه أقل ما ثبت وجوده، بل الكلام دعوى لا دليل عليها. دليل من قال: أقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً. الدليل الأول: [54] ما رواه الدارمي (¬3)، قال: أخبرنا يعلى، ثنا إسماعيل، عن عامر قال: جاءت امرأة إلى علي تخاصم زوجها طلقها، فقالت: قد حضت في شهر ¬
ثلاث حيض فقال علي لشريح: اقض بينهما. قال يا أمير المؤمنين، وأنت ههنا. قال: اقض بينهما. قال: يا أمير المؤمنين، وأنت ههنا. قال: اقض بينهما، فقال: إن جاءت من بطانة أهلها ممن يرضى دينه وأمانته تزعم انها حاضت ثلاث حيض تطهر عند كل قرء وتصلي جاز لها وإلا فلا، فقال علي: قالون، وقالون بلسان الروم أحسنت. [ضعيف] (¬1). وجه الاستدلال: أن هذه المرأة حاضت أقل الحيض يوماً وليلة، وطهرت ثلاثة عشر يوماً، ئم حاضت أقل الحيض يوماً وليلة، ثم طهرت ثلاثة عشر يوماً، فالمجموع ثمانية وعشرون يوماً، ثم حاضت يوماً وليلة، فخرجت من العدة بشهر. وأجيب بما يلي: أولاً: أن هذا الأثر ضعيف، وإسناده منقطع. ثانياً: قدمنا في بحث أقل الحيض أنه على فرض صحة الأثر فإن هذا التفسير لا يتعين، ولذا فسره ابن المبارك كما فى شرح صحيح البخاري لابن رجب أنها حاضت ثلاثاً وطهرت عشراً، وذكر هذا التفسير عن إسحاق أيضاً (¬2). ¬
الدليل الثاني
ثالثاً: من أين لكم من الأثر أنها لو ادعت أقل من شهر أنه لن يسمع دعواها، ولن يطلب منها بينة، فهذا لا سبيل إليه من الأثر. الدليل الثاني: لقد ثبت أن أكثر الحيض سبعة عشر يوماً. قال الإمام أحمد: أكثر ما سمعناه سبعة عشر يوماً. وقد خرجته في بحث أكثر الحيض، وإذا كان أكثر الحيض كذلك، والمرأة تحيض وتطهر في الشهر، فعليه يكون الباقي من الشهر ثلاثة عشر يوماً، وهو أقل الطهر. وقد ضعفت القول بأن أكثر الحيض سبعة عشر يوماً في بحث أكثر الحيض. دليل من قال: أقل الطهر تسعة عشر يوماً. استدل له بما ذكره النووي: "أكثر الحيض عندهم عشرة، والشهر يشتمل على طهر وحيض، وقد يِكون الشهر تسعة وعشرين يوماً، منها عشرة للحيض، فيكون الباقي للطهر (¬1). وأجيب: بأن هذا القول مبني على أن أكثر الحيض عشرة أيام، وقد استدلوا لذلك بأحاديث باطلة، وآثار موقوفة ضعيفة، وإذا كان لا يثبت في أكثر الحيض شيء كما قدمنا، يكون ما بنى عليه ضعيفاً أيضاً. ¬
دليل من قال: أقل الطهر عشرة أو ثمانية أو خمسة.
دليل من قال: أقل الطهر عشرة أو ثمانية أو خمسة. هذا الأقوال ساقها ابن رشد في المقدمات (¬1)، وضعفها، ورجح عليها ما روى عن مالك موافقاً لقول الجمهور، ثم تلمس دليلاً لهذه الأقوال، فقال: "وأما سائر الأقاويل - يعني بأن أقل الطهر عشرة أو ثمانية، أو خمسة - لا ملحظ عليها فى القياس وإنما أخذت من عادة النساء؛ لأن كل ما وجب تحديده في الشرع، ولم يرد به نص لزم الرجوع فيه إلى العادة كنفقة الزوجات وشبه ذلك، وقد حكى ابن المعدل عن ابن الماجشون أنه وجد من النساء من يكون طهرها خمسة أيام وعرف ذلك بالتجربة من جماعة النساء" اهـ. قلت: كونه يوجد من النساء من يكون طهرها خمسة أيام دليل على أنه لا يوجد حد لأقل الطهر، فهو شاهد على ضعف القائلين بالتحديد، ولا يصح دليلاً على أن أقله خمسة أيام؛ لأنه قد يوجد من يكون طهرها أقل من ذلك. دليل من قال: لا حد لأقل الطهر. الدليل الأول: القول بالتحديد لا يجوز إلا بدليل، ولا دليل على التحديد. الدليل الثاني: الحيض هو إقبال دم الحيض، والطهر هو انقطاعه، إما بالجفاف أو برؤية القصة البيضاء. هذه حقيقة الطهر، سواء طال أم قصر، إلا أن انقطاع دم الحيض الساعة والساعتين لا يسمى طهراً. ¬
[55] روى البخارى (¬1) ومسلم (¬2) من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة فاطمة بنت أبي حبيش. قال - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي". إلا أن أصحاب هذا القول قد اختلفوا فيما لو ادعت انقضاء عدتها فى شهر فأقل هل تكلف البينة أم لا؟ على قولين: الأول: رأي ابن حزم، بأنه لا فرق في أقل الطهر بين العبادة والعدة. الثاني: رأي ابن تيمية رحمه الله أنها إن ادعت خلاف الظاهر كلفت البينة. قال ابن تيمية كما في الاختيارات: "ويتوجه أنها إذا ادعت الانقضاء في أقل من ثلاثة أشهر كلفت البينة". وقد فصلت الخلاف في هذه المسألة في بحث مستقل. ورجحت أن المرأة مصدقة مؤتمنة على ما في رحمها. قال سبحانه وتعالى {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} (¬3). والأصل أن ما كان مؤتمناً يقبل قوله مع يمينه، لكن إن كان لها ¬
عادة مستقرة، وادعت خلافها كلفت البينة؛ لأن الأصل بقاء عادتها على ما هي عليه، فكونها تدعي خلاف عادتها، ويتكرر ذلك ثلاث مرات منها فهذا بعيد جداً لا يؤيده الظاهر.
الفصل الثامن: القول في أكثر الطهر
الفصل الثامن: القول في أكثر الطهر أجمعوا على أن أكثر الطهر لا حد له، وإليك النقول من كتب الفقهاء. قال في بدائع الصنائع، وهو من الحنفية: "وأما أكثر الطهر فلا غاية له، حتى إن المرأة إذا طهرت سنين كثيرة فإنها تعمل ما يعمل الطاهرات بلا خلاف بين الأئمة؛ لأن الطهارة في بنات آدم أصل، والحيض عارض، فإذا لم يظهر العارض يجب بناء الحكم على الأصل، وإن طال" اهـ (¬1). وقال ابن رشد، وهو من المالكية، في المقدمات: "وأما أكثر الطهر فلا حد له؛ لأن المرأة ما دامت طاهرة تصلي وتصوم، ويأتيها زوجها، طال زمان ذلك أو قصر" اهـ (¬2). وقال النووي من الشافعية في المجموع: "أكثر الطهر لا حد له، ودليلها في الإجماع، ومن الاستقراء أن ذلك موجود ومشاهد، ومن أظرفة ما نقله القاضي أبو الطيب في تعليقه، قال: أخبرتني امرأة عن أختها أنها تحيض في كل سنة يوماً وليلة، وهي صحيحة تحبل وتلد" (¬3). ¬
وقال ابن تيمية الحنبلي رحمه الله: "وأما أكثر الطهر فلا حد له؛ لأن من النساء من تطهر الشهر والسنة، كما أن منهن من لا تحيض أبداً" (¬1). فصارت مسألة لا حد لا كثر الطهر محل إجماع لا خلاف فيه. ¬
الفصل التاسع: في القول في غالب الطهر
الفصل التاسع: في القول في غالب الطهر نص الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) على أن غالب الطهر ثلاثة وعشرون، أو أربعة وعشرون يوماً؛ لأنه سبق أن دللنا أن في كل شهر حيضاً وطهراً، وإذا كان غالب الحيض ستة أيام أو سبعة أيام، فالباقي من الشهر يكون طهراً. [56] لما رواه أبو داود (¬3) قال: حدثنا زهير بن حرب وغيره، قالا ثنا عبد الملك بن عمرو، ثنا زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد ابن عقيل، عن إبراهيم ابن محمد بن طلحة، عن عمه عمران بن طلحة، عن أمه حمنة بنت جحش قالت: كنت استحاض حيضة كثيرة شديدة فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أستفتيه وأخبره، فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش، فقلت: يا رسول الله إني امرأة استحاض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها قد منعتني الصلاة والصوم، فقال: ¬
أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم. قالت: هو أكثر من ذلك. قال: فاتخذي ثوبا. فقالت: هو أكثر من ذلك إنما أثج ثجا. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سآمرك بأمرين أيهما فعلت أجزأ عنك من الآخر، وإن قويت عليهما فأنت أعلم، فقال لها: إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي ثلاثا وعشرين ليلة أو أربعا وعشرين ليلة وأيامها وصومي فإن ذلك يجزيك، وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن ميقات حيضهن وطهرهن، وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين الظهر والعصر وتؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الفجر فافعلي وصومي إن قدرت على ذلك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا أعجب الأمرين إلي. [والحديث فيه ضعف وقد اختلف العلماء في صحته]، وسيأتي تحريره في باب ذكر المستحاضة إن شاء الله تعالى.
الباب الثاني: في المبتدأة
الباب الثاني: في المبتدأة ويشمل على فصلين: الفصل الأول: في حكم المبتدأة. وفيه مبحثان: المبحث الأول: حكم المبتدأة التي انقطع دمها لأكثر الحيض فما دون. المبحث الثاني: حكم المبتدأة الذي عبر دمها أكثر الحيض. الفصل الثاني: متى تثبت للمبتدأة عادة.
حكم المبتدأة، ومتى تكون معتادة تعريف المبتدأة: هي من كانت في أول حيض، ولم يتقدم لها حيض قبل ذلك. أقسام المبتدأة: تنقسم المبتدأة إلى ثلاثة أقسام: الأولى: أن يأتيها الدم ويتجاوز أقل الحيض، ولا يتجاوز أكثره. الثاني: أن يأتيها الدم ويتجاوز أكثر الحيض. الثالث: أن يأتيها الدم، وينقطع قبل أن يبلغ أقل الحيض (¬1). ¬
الفصل الأول: خلاف العلماء في المبتدأة إذا انقطع دمها لأكثر الحيض فما دون
الفصل الأول: خلاف العلماء في المبتدأة إذا انقطع دمها لأكثر الحيض فما دون فقيل: إن الدم الذي تراه حيض، فتترك له الصلاة والصيام، ما دام أنه لم يتجاوز أكثر الحيض، على خلاف بينهم في أكثر الحيض. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: تترك الصلاة والصيام يوماً وليلة، ثم تغتسل وتصلي، وتتوضأ لوقت كل صلاة، ولا توطأ، فإذا انقطع دمها لأكثر الحيض فما دونه اغتسلت مرة ثانية عند انقطاعه، ثم تفعل ذلك في الشهر الثاني والثالث، فما تكرر ثلاثاً فهو عادتها، ¬
ووجب عليها إعادة ما صامته فيه من صيام واجب؛ لأنه تبين أنها صامته في زمن الحيض. وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: لا تترك الصلاة ولا الصيام حتى يستمر بها الدم أقل مدة الحيض. وهذا القول هو رواية عن محمد بن الحنفية، ووجه لابن سريج من الشافعية (¬2). وقيل: تترك الصلاة والصوم ستة أيام أو سبعة أيام، ثم تغتسل وتصلي وتصوم وإن استمر بها الدم. وهو رواية عن أحمد (¬3). وقيل: تجلس عادة نسائها كأمها، وعمتها، وخالتها. وهذا القول رواية عن أحمد (¬4). والراجح أن دم المبتدأة حيض، سواء كان أقل من يوم وليلة، أو أكثر من خمسة عشر يوماً، حتى يطبق عليها الشهر كاملاً فيكون استحاضة، وهو اختيار ابن تيمية (¬5). ¬
دليل الجمهور على أن المبتدأة لا تصلي ولا تصوم حتى يتجاوز أكثر الحيض.
دليل الجمهور على أن المبتدأة لا تصلي ولا تصوم حتى يتجاوز أكثر الحيض. الدليل الأول: قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (¬1). فالأصل في الدم الذي تراه المرأة أنه أذى، وأنه حيض حتى نتيقن أنه استحاضة. قال ابن رشد (¬2): "ما تراه المرأة من الدم محمول على أنه دم حيض، ومحكوم له بحكمه حتى يعلم أنه ليس دم حيض". الدليل الثاني: قالوا: لأننا حكمنا بأن ابتداء الدم حيض، مع جواز أن يكون استحاضة، فكذلك اثناؤه ما دام لم يتجاوز أكثر الحيض، فكل دم في أيام الحيض يمكن أن يجعل حيضاً فإنه حيض (¬3). الدليل الثالث: دم الحيض دم جبلة وطبيعة، ودم الاستحاضة دم عارض لمرض عارض، والأصل الصحة والسلامة من المرض (¬4). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: احتمال كونه دم استحاضة، وأنه قد يستمر معها، هذا احتمال وشك، والاحتمال والشك لا يقضي على الأصل، وهو أن الأصل في الدم أنه دم جبلة وطبيعة وصحة، لا دم مرض وعلة وفساد. دليل الحنابلة على التكرار ثلاثاً. الحنابلة يقولون: تجلس أقل الحيض يوماً وليلة، ثم تغتسل وتصلي ولو كان الدم جارياً، ودليلهم على جلوسها أقل الحيض؛ لأن الصلاة واجبة في ذمتها بيقين، وقد شكت في الزائد، فقد يكون حيضاً، وقد يكون استحاضة، فلا تترك اليقين بالشك. وأما كونها تغتسل بعد مضي يوم وليلة؛ فلأنه آخر حيضها حكماً، أشبه آخر حيضها حساً. وأما كون زوجها لا يطأها؛ لاحتمال أن تكون حائضاً، وإنما أوجبنا العبادات احتياطاً. وأما كونها تغتسل وتصلي عند انقطاع دمها إذا انقطع لأكثر الحيض فما دون؛ فإنه يحتمل أن ذلك آخر حيضها، فلا تكون طاهراً بيقين إلا بالغسل حينئذ. وأما كونها تفعل ذلك ثلاثاً، فالتعليل فيه أن التكرار اعتبر فيه الثلاث كالمعتدة لا يحكم ببراءة ذمتها من العدة بأول حيضة، وكالمعتدة في الشهور، وخيار المصراة، ونحوها.
فعلى هذا إن تكرر في الثلاث على قدر واحد، صار ذلك عادة لتكراره ثلاثاً، وإلا فلا لما ذكرنا. وإن تكرر مختلفاً، مثل أن يكون في الشهر عشرة، وفي الثاني اثني عشرة، وفي الثالث ثلاثة عشر، فالعشرة متكررة ثلاثاً، فهي عادة، وما عدا ذلك ليس بعادة إلا أن يتكرر بعد ذلك. ولو فرضنا أن عادتها أصبحت عشرة أيام، وكانت تصلي وتصوم فيما بين اليوم والليلة وبين العشرة، وتبين لنا بالتكرار أنها أيام حيض، فيجب عليها أن تقضي كل صوم واجب صامت فيه؛ لأنها تبين أنها صامت وهى حائض، فلا يصح الصوم منها، وعلى هذا يلزمها إعادة الصيام مرة أخرى، أما الصلاة فلكونها لا تقضى، لا يجب عليها إعادتها. هذا ملخص مذهب الحنابلة، وهو من أضعف الأقوال، وفيه حرج ومشقة، وأظن أن هذا المذهب مهجور عملياً، وإن كان هو المشهور من المذهب، ولولا أن هذا الكتاب يعنى بذكر مذهب الأئمة ما عرجت عليه. قال ابن تيمية: "وهذا القول باطل لوجوه: أحدها: أن الله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (¬1). فالله تعالى بين للمسلمين في المستحاضة وغيرها ما تتقيه من الصلاة والصيام، في زمن الحيض، فكيف يقال: إن في الشريعة شكاً مستمراً يحكم به ¬
دليل من قال لا تصلي ولا تصوم حتى يستمر بها الدم أقل مدة الحيض.
الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمته، نعم قد يكون شك خاص ببعض الناس، فأما أن يكون شك في نفس الشريعة فهذا باطل. الثاني: أن الشريعة ليس فيها إيجاب الصلاة مرتين، ولا الصيام مرتين إلا بتفريط من العبد، فالصواب الذي عليه جمهور المسلمين أن من فعل العبادة كما أمر بحسب وسعه، فلا إعادة عليه (¬1) دليل من قال لا تصلي ولا تصوم حتى يستمر بها الدم أقل مدة الحيض. قالوا: لأن رؤية الدم قد يجوز أن تكون حيضاً تدع فيه الصلاة، ويجوز أن يكون دم فساد، تلزم فيه الصلاة، فلم يجز إسقاط فرض الصلاة بالشك والتجويز (¬2). ورده الماوردي، فقال: هذا التعليل فاسد من وجهين: أحدهما: غير المبتدأة إذا بدأت برؤية الدم تدع الصلاة، وإن كان هذا التجويز موجوداً. والثاني: المعتادة إذا تجاوز دمها قدر العادة تدع الصلاة، وإن كان هذا التجويز موجوداً. وإذا بطل بهذين ما علل به من هذا التجويز، وجب أن يعتبر الغالب من حالها، وهو أن ما ابتدأت برؤيته حيض (¬3). ¬
دليل من قال: تترك الصلاة والصيام ستة أيام أو سبعة أيام فقط.
دليل من قال: تترك الصلاة والصيام ستة أيام أو سبعة أيام فقط. هذا القول رواية عن أحمد كما تقدم، وظاهره أنها تجلس ستة أيام أو سبعة أيام، ثم تغتسل وتصلي، ولو كان الدم جارياً، ثم تغتسل عند انقطاعه حتى يتكرر ذلك ثلاثاً، ويتبين لها عادة ووقت، على قاعدة الحنابلة في معرفة العادة. قال ابن قدامة: "روى حرب، قال: سألت أبا عبد الله، قلت: امرأة أول ما حاضت استمر بها الدم. كم يوماً تجلس؟ قال: إن كان مثلها من النساء من يحضن فإن شاءت جلست ستاً أو سبعاً حتى يتبين لها حيض ووقت، وإن أرادت الاحتياط جلست يوماً واحداً أول مرة حتى يتبين وقتها" (¬1). ودليلهم على اعتبار ستة أيام أو سبعة أيام: [57] حديث حمنة بنت جحش عند أحمد، وفيه: "فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي" (¬2). والحديث ضعيف. وسيأتي تخريجه في باب الاستحاضة، وقد ضعفه أبو حاتم الرازي وغيره (¬3) (¬4). ¬
دليل من قال: تجلس المبتدأة عادة أمها، وأختها وعمتها وخالتها.
ولا يلزم من كون الإمام أحمد قال به فقهاً أن يكون عنده صحيحاً، أو حسناً. لأن المجتهد قد يضعف الحديث من حيث السند، ويعمل به من حيث النظر، أو من حيث عمومات أخرى. والله أعلم. وفي التمهيد (¬1) لابن عبد البر: "قال أبو داود: سمعت أحمد ابن حنبل يقول في الحيض: حديثان، والآخر في نفسي منه شيء". قال أبو داود: يعني أن في الحيض ثلاثة أحاديث، هي أصول هذا الباب. أحدها: مالك، عن نافع، عن سليمان بن يسار. والآخر: حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. والثالث: الذي في قلبه منه شيء، هو حديث حمنة بنت جحش، الذي يرويه ابن عقيل. دليل من قال: تجلس المبتدأة عادة أمها، وأختها وعمتها وخالتها. قالوا في تعليل ذلك: إن شبه المرأة بقريباتها أقرب من شبهها بغالب النساء. قال ابن قدامة: "روى الخلال بإسناده عن عطاء: في البكر تستحاض، ولا ¬
تعلم لها قرءاً، قال: لتنظر قرء أمها، أو أختها، أو عمتها، أو خالتها، فلتترك الصلاة عدة تلك الأيام، ولتغتسل وتصلي. قال حنبل: قال أبو عبد الله: هذا حسن. واستحسنه جداً" (¬1). والراجح قول الجمهور، أنها تترك الصلاة إذا رأت الدم؛ لأن الأصل في الدم الذي تراه المرأة قد خرج من رحمها أنه دم حيض، ولا تترك هذا الأصل حتى نتيقن أنه استحاضة؛ ولأن ما خرج من فرج المرأة الأصل فيه أنه أذى، وقد قال سبحانه {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (¬2). والأصل السلامة، وأنه دم طبيعة لا دم علة ومرض، إلا أن قول الجمهور إذا تجاوز أكثر الحيض، وهو عند الأحناف عشرة أيام، وعند المالكية والشافعية إذا تجاوز خمسة عشر يوماً، حكم له بأنه استحاضة، هذا القول ضعيف كما رجحت، أنه لا حد لأكثر الحيض، لكن إن أطبق الدم على المرأة جميع الشهر، فقد علم أنه استحاضة. وحكم الاستحاضة سوف يأتى إن شاء الله في كتاب مستقل. ¬
الفصل الثاني: الحالة الثانية للمبتدأة أن يتجاوز الدم أكثر الحيض
الفصل الثاني: الحالة الثانية للمبتدأة أن يتجاوز الدم أكثر الحيض إذا تجاوز الدم مع المبتدأة أكثر الحيض، على القول بأن لأكثره حداً، فكم تجلس المرأة وهي ليست لها عادة معلومة. فقيل: تجلس عشرة أيام. والباقي من الشهر طهر. وهو مذهب الحنفية (¬1)؛ لأنه أكثر الحيض عندهم. وقيل: تجلس خمسة عشر يوماً، وهو مذهب المالكية (¬2)؛ لأنه أكثر الحيض عندهم. وتعليلهم: أن الدم إذا زاد على أكثر الحيض، لا يمكن جعله حيضاً، فجعلناه استحاضة. وقيل: لا تخلو المبتدأة إما أن تكون مميزة. أو لا. فإن كانت غير مميزة، وهى التي بدأ بها الدم على صفة واحدة، ففيها قولان: الأول: قيل تجلس أقل الحيض؛ لأنه متيقن، وما زاد مشكوك فيه، فلا يحكم بكونه حيضاً. ¬
وهو أحد القولين في مذهب الشافعية، وصححه جمهورهم (¬1). وقيل: ترد إلى غالب عادة النساء، وهو ست أو سبع، أو غالب عادة نسائها. وهذا مذهب الحنابلة (¬2)، ووجه في مذهب الشافعية (¬3) [58] لحديث حمنة بنت جحش، وفيه: "تحيضي ستة أيام، أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي" وسبق الكلام عليه في الحالة الأولى للمبتدأة. وإن كانت المبتدأة مميزة، بحيث يكون بعض دمها أسود، وبعضه أحمر، ولم يعبر الأسود أكثر الحيض، ولم ينقص عن أقله، فالأسود حيضها، والأحمر استحاضة. هذا هو مذهب الشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). واستدلوا بأحاديث سوف يأتي بسطها ومناقشتها في باب الاستحاضة، إن شاء الله تعالى. والراجح أن المبتدأة لا تكون مستحاضة بمجرد أن الدم جاوز خمسة عشر ¬
يوماً، بل لا بد أن يستغرق الدم الشهر كاملاً، أو الشهر إلا يوماً أو يومين، فحينئذ تكون مستحاضة. وإذا حكمنا باستحاضتها، فماذا تعمل؟ وهي ليس لها عادة. سوف يأتي بسط ذلك في كتاب الاستحاضة.
الفصل الثالث: الحالة الثالثة للمبتدأة أن يأتيها الدم وينقطع قبل أن يبلغ أقل الحيض
الفصل الثالث: الحالة الثالثة للمبتدأة أن يأتيها الدم وينقطع قبل أن يبلغ أقل الحيض إذا انقطع دم المبتدأة قبل أن يبلغ أقل الحيض فليس بحيض عند الحنفية (¬1) , والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: يعتبر حيضاً، وهو مذهب المالكية (¬4). وسبب الخلاف خلافهم في أقل الحيض. فمن حد أقل الحيض بزمن معين، وهم الجمهور، قالوا: إذا نقص عن أقله فلا يعتبر حيضاً. أما الذين قالوا: لا حد لأقله، بل تعتبر الدفعة من الدم حيضاً، فلا تأتي هذه المسألة على قواعدهم. وقد فصلنا هذه المسألة، وأدلة كل فريق في الباب الأول: في الخلاف في مقدار الحيض ووقته، فارجع إليها إن شئت غير مأمور. ¬
الفصل الرابع: متى تثبت للمبتدأة عادة
الفصل الرابع: متى تثبت للمبتدأة عادة اختلف العلماء في ثبوت العادة: فقيل: تثبت العادة بمرة للمبتدأة. وهو مذهب المالكية (¬1)، وقول أبي يوسف من الحنفية (¬2)، وقيل الفتوى عليه عندهم (¬3). والمشهور من مذهب الشافعية (¬4) وقيل: تثبت العادة بمرتين. وهو قول أبي حنيفة ومحمد (¬5)، ووجه للشافعية (¬6)، ورواية في مذهب الحنابلة (¬7). وقيل: لا تثبت العادة حتى تتكرر ثلاث مرات، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬8). ¬
أدلة من قال: تثبت العادة بمرة.
أدلة من قال: تثبت العادة بمرة. من القرآن قوله تعالى {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (¬1). فسمى الثاني عوداً، وهو لم يسبق إلا مرة واحدة. [59] من السنة: ما رواه مالك (¬2): عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن امرأة كانت تهراق الدماء في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفتت لها أم سلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التى كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت ذلك فلتغتسل، ثم لتستثفر بثوب، ثم لتصلي". [الحديث، وإن كان رجاله ثقات، إلا أنه أعل بالانقطاع، وفي إسناده اضطراب] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل من قال: إن العادة تثبت بمرتين.
دليل من قال: إن العادة تثبت بمرتين. الدليل الأول: قال الشوكاني: "قد تقرر في كتب اللغة أن العادة مأخوذة من عاد إليه يعود: إذا رجع، فدل ذلك على أنه لا يقال عادة إلا لما تكرر، وأقل التكرار يحصل بمرتين" (¬1) وقال ابن قدامة: "والعادة مأخوذة من المعاودة، ولا تحصل المعاودة بمرة واحدة" (¬2). دليل من قال: العادة تثبت بثلاث مرات. الدليل الأول: [60] ما رواه أبو داود (¬3): حدثنا، محمد بن جعفر بن زياد، حدثنا عثمان ابن أبي شيبة، قال، ثنا شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي ابن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المستحاضة: "تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتصلي، والوضوء عند كل صلاة". ¬
[والحديث ضعيف جداً] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
وجه الاستدلال: قوله: "أيام أقرائها" الإقراء: جمع، وأقل الجمع ثلاثة. الدليل الثاني: كل شيء اعتبر فيه التكرار، اعتبر فيه الثلاث، فالأقراء في عدة الحرة لا بد ¬
فيها من ثلاثة قروء، والشهور في عدة الآيسة، والتي لا تحيض لا بد فيها من ثلاثة شهور، وخيار المصراة جعل له الخيار ثلاثة أيام، ومهلة المرتد، وتعليم الكلب في الوجه الصحيح (¬1). والراجح - والله أعلم - أن المرأة المبتدأة التي جاءتها العادة مرة واحدة، ثم استحاضت فكونها ترد إلى عادتها أقرب من كونها ترد إلى عادة غالب النساء أو إلى أقل الحيض. وأما المرأة إذا كان لها عادة مستقرة كخمسة أيام من كل شهر ثم زادت يومين في آخر حيضة حاضتها قبل استحاضتها فإنها ترد إلى عادتها المستقرة، ولا ترد إلى آخر عادتها؛ لأن ما كان متكرراً مدة طويلة لا يقدم عليه ما كان معها مرة واحدة، خاصة أن لفظ العادة اسم لما يعتاد، ولا يعتاد إلا إذا عاود مرة، ومرتين، وثلاثاً. والله أعلم. ¬
الباب الثالث: في الطوارئ على الحيض
الباب الثالث: في الطوارئ على الحيض ويشتمل على ستة فصول: الفصل الأول: خلاف العلماء في المرأة إذا زاد الدم على عادتها. الفصل الثاني: خلاف العلماء في المرأة إذا طهرت قبل تمام عادتها. الفصل الثالث: كلام أهل العلم في انتقال عادة المرأة بأن تقدمت أو تأخرت. الفصل الرابع: في النقاء المتخلل بين الدمين. الفصل الخامس: خلاف العلماء في الصفرة والكدرة. الفصل السادس: في تعاطي المرأة أدوية ترفع الحيض أو تستعجل نزوله.
الباب الثالث: في الطوارئ على الحيض المقصود بالطواري على الحيض ما يطرأ على عادة المرأة من زيادة أو نقص أو تقدم أو تأخر، أو تغير للون الدم من الصفرة والكدرة ونحوهما، أو ما يحدث بفعل المرأة من استعجال للدم قبل أوانه، أو رفع له قبل نزوله إلى غير ذلك، وسوف أذكر كلام الفقهاء في هذه المسائل إن شاء الله، مبيناً الراجح منها حسب ما ظهر لي. والله أعلم.
الفصل الأول: خلاف العلماء في المرأة إذا زاد الدم على عادتها
الفصل الأول: خلاف العلماء في المرأة إذا زاد الدم على عادتها مثاله: امرأة عادتها خمسة أيام من كل شهر، فاستمر معها الدم ثمانية أيام أو أكثر أو أقل، فماذا تصنع؟ اختلف فيها العلماء إلى أقوال منها: القول الأول: مذهب الحنفية (¬1). قالوا: إذا زادت عادة المرأة، فإن كانت عادتها عشرة أيام - وهي عندهم أكثر الحيض - فما زاد فهو استحاضة؛ لأن الحيض عندهم لا يمكن أن يكون أكثر من عشرة أيام. وستأتي إن شاء الله أحكام المستحاضة. وإن كانت عادتها أقل من عشرة أيام، فاستمر معها الدم وزاد على عادتها وانقطع لعشرة أيام فما دون، قال ابن الهمام: "فالكل حيض بالاتفاق، وإنما الخلاف هل يصير عادة لها، أم لا؟ " (¬2). قلت: من اشترط في انتقال العادة التكرار، كأبي حنيفة، ومحمد لم يعتبرا الزيادة عادة، وإن اعتبراها حيضاً، حتى تتكرر الزيادة مرتين. ومن لم يشترط في انتقال العادة التكرار، اعتبر الزيادة عادة، والغى العادة السابقة كأبي يوسف. وقد فصلت أدلتهم في مسألة مستقلة. ¬
وإذا زاد الدم على عادتها، فهل تستمر على ترك الصلاة والصيام؟ وجهان في مذهب الحنفية: الأول: أنها تصلي وتصوم؛ لاحتمال أن يجاوز الدم عشرة أيام، فتكون مستحاضة، فما دام أن الزيادة مترددة بين الحيض والاستحاضة، فلا تترك من أجلها الواجبات حتى يعلم أن الزيادة حيض، وذلك بانقطاعها لعشرة أيام فما دون، وهذا اختيار أئمة بلخ (¬1). وقيل: تترك الصلاة والصيام استصحاباً للحال؛ ولأن دم الحيض دم صحة، ودم الاستحاضة دم علة، والأصل هو الصحة والسلامة من المرض. وصححه ابن الهمام في شرح فتح القدير والزيلعي في تبيين الحقائق وصححه في المجتبى. واشترط ابن نجيم أن يكون بعده طهر صحيح، وهو خمسة عشر يوماً فأكثر، قال في البحر الرائق: "لو زاد عن العادة - يعني الدم - ولم يزد على الأكثر، فالكل حيض اتفاقاً بشرط أن يكون بعده طهر صحيح، وإنما قيدناه به؛ لأنها لو كانت عادتها خمسة أيام مثلاً من أول كل شهر، فرأت ستة أيام، فإن السادس حيض أيضاً، فإن طهرت بعد ذلك أربعة عشر يوماً، ثم رأت الدم؛ فإنها ترد إلى عادتها خمسة أيام، واليوم السادس استحاضة (¬2) أما إذا زاد الدم على عشرة أيام؛ فإنها مستحاضة. فهل ترد إلى عادتها، أو ¬
إلى أكثر الحيض؟ الجواب: ترد إلى عادتها [61] لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها" (¬1). ولأن ما رأته من الدم في أيام عادتها حيض بيقين، وما زاد على العشرة فهو استحاضة بيقين. وما بين ذلك متردد بين أن يلحق بما قبله فيكون حيضاً فلا تصلي، وبين أن يلحق بما بعده فيكون استحاضة، والصلاة والصيام واجبان بيقين، فلا يتركان بمجرد الشك. هذا مذهب الحنفية فيما إذا زادت عادة المرأة وكانت الزيادة متأخرة عن العادة. أما إذا زادت عادة المرأة، وكانت الزيادة متقدمة عن العادة فإن الحكم عندهم يختلف. وإليك تفصيله. فقد ساق السرخسي في المبسوط مذهب الحنفية، وأسوقه ببعض التصرف. قال السرخسي: صاحبة العادة إذا رأت قبل عادتها دماً، فهو على ثلاثة أوجه: أحدها: حيض بالإتفاق. وفي وجه: اختلفوا فيه. وفي وجه: روايتان عن أبي حنيفة. الوجه الأول: رأت قبل عادتها مالا يمكن أن يجعل حيضاً بانفراده، مثل أن ¬
ترى قبل عادتها يوماً أو يومين - لأن أقل الحيض عندهم ثلاثة أيام - ورأت في عادتها ما يمكن أن يجعل حيضاً بانفراده ثلاثة أيام فأكثر، ولم يجاوز الكل عشرة أيام، فالكل حيض بالاتفاق؛ لأن ما رأته قبل أيامها غير مستقل بنفسه، فيجعل تبعاً لما رأته في أيامه. الوجه الثاني: أن ترى قبل عادتها يوماً أو يومين، وترى في عادتها يوماً أو يومين، بحيث لا يمكن جعل كل واحد منهما حيضاً بانفراده، ما لم يجتمعا، أو ترى قبل عادتها ثلاثة أيام، ولا ترى في عادتها شيئًا، فعند أبي يوسف ومحمد الكل حيض، وعند أبي حنيفة لا يكون شيء من ذلك حيضاً. وجه قولهما: إن الحيض مبني على الإمكان، والمتقدم قياس المتأخر، فكما جعل المتأخر عند الإمكان حيضاً، فكذلك المتقدم. ووجه قول أبي حنيفة: أن المتقدم دم مستنكر، مرئي قبل وقته، فلا يكون حيضاً، كالصغيرة جداً إذا رأت الدم؛ ولأن العادة لا تثبت إلا بالتكرار، ولا يقاس المتقدم على المتأخر؛ لأن المتأخر استبقاء، والمتقدم ابتداء، والاستبقاء أقوى من الابتداء. الوجه الثالث: إذا رأت قبل عادتها ما يكون حيضاً بانفراده، ورأت عادتها، فعلى قول أبي يوسف ومحمد لا إشكال فالجميع حيض بشرط ألا يجاوز الدم أكثر الحيض عندهم - ومقداره عشرة أيام - واعتبروه حيضاً قياساً على ما إذا كانت الزيادة متأخرة عن العادة. وعن أبي حنيفة روايتان:
فرواية محمد عن أبي حنيفة أن أيام عادتها حيض، وأما المتقدم فلا يثبت حتى يتكرر. ورواية أبي يوسف عن أبي حنيفة: الجميع حيض، والمتقدم تبع للأصل (¬1). قلت: هذا القول ضعيف: أولاً: لأنه مبني على أن أكثر الحيض عشرة أيام، وما عداه فهو استحاضة، وقد بينت في مسألة مستقلة بأنه لا حد لأكثر الحيض. ثانياً: اشتراط أن يكون ما بعد الدم الزائد طهراً صحيحاً، وهو خمسة عشر يوماً فأكثر، لا دليل عليه. وقد سبق أن بينت في مسألة مستقلة بأنه لا حد لأقل الطهر. القول الثاني: مذهب المالكية (¬2). مذهب المالكية فيه عدة أقوال سنذكرها إن شاء الله، وهي كالتالي: القول الأول: أنها تجلس عادتها، وتستظهر ثلاثة أيام، ومحل الاستظهار بالثلاثة، ما لم تجاوز نصف الشهر، فمن اعتادت نصف الشهر فلا استظهار عليها، ومن عادتها أربعة عشر يوماً استظهرت بيوم فقط، ومن كانت عادتها ستة أيام استظهرت بثلاثة أيام، ثم اغتسلت، وصامت، وصلت. هذا قول مالك، وأصل مذهبه، والمذكور في المدونة، ولم يبين مالك رحمه الله إن كان يطؤها زوجها فيما بينها وبين الخمسة عشر يوماً أم لا. ومن ثم ¬
اختلف أصحابه على قولين: الأول: أنها بعد الاستظهار تكون مستحاضة، فتغتسل وجوباً، وتصلي، وتصوم، وتطوف إن كانت حاجة، ويأتيها زوجها، وهو ظاهر رواية ابن القاسم، عن مالك في المدونة. وعلى هذه الرواية، تغتسل عند تمام خمسة عشر يوماً استحباباً لا إيجاباً. الثاني: أنها تجلس أيامها المعتادة والاستظهار، ثم تغتسل استحباباً وتصلي احتياطاً، وتصوم، وتقضي الصيام، ولا يطؤها زوجها، ولا تطوف طواف الإفاضة، إلا بعد تمام الخمسة عشر يوماً، فإذا بلغت الخمسة عشر يوماً اغتسلت إيجاباً، وكانت مستحاضة، وهذا دليل رواية ابن وهب عن مالك في كتاب الوضوء من المدونة. والقول الأول هو الراجح من مذهب مالك، اختاره صاحب الشرح الصغير (¬1)، ومختصر خليل (¬2). وقال في حاشية الدسوقي: "هذا مذهب المدونة" (¬3) وبقي في مذهب مالك ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تقعد إلى تمام الخمسة عشر يوماً، ثم تغتسل، وتصلي، وتكون مستحاضة، وهذا القول مبني على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً فما زاد فهو ¬
استحاضة. الثاني: أنها تقعد أيامها المعتادة، ثم تغتسل وتصلي، وتكون مستحاضة من غير استظهار، وهذا قول محمد بن مسلمة. الثالث: أنها تقعد أيامها المعتادة، ثم تغتسل، وتصلي، وتصوم، ولا يأتيها زوجها، فإن انقطع عنها الدم ما بينها وبين خمسة عشر يوماً، علم أنها حيضة, وانتقلت إليها، ولم يضرها ما صامت، ولا ما صلت. يريد: وتغتسل عند انقطاعه. وإن تمادى بها الدم على خمسة عشر يوماً علم أنها كانت مستحاضة، وأن ما مضى من الصلاة والصيام كان في موضعه. هذه ملخص الأقوال في مذهب المالكية، وقد ساقها ابن رشد في المقدمات (¬1). [وجه اعتبار الاستظهار بثلاثة أيام] قل الباجي في المنتقي: "وجه رواية الاستظهار أن هذا خارج من الجسد أريد التمييز بينه وبين غيره، فجاز أن يعتبر فيه بثلاثة أيام. أصل ذلك لبن المصراة" اهـ (¬2). ويقصدون بلبن المصراة ما رواه مسلم، قال: [62] حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا يعقوب - يعني ابن عبد الرحمن ¬
القاري، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من ابتاع شاة مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر (¬1). وهذا من أعجب الاستدلالات، ولا أدري ما وجه الشبه بين المصراة، وبين من زادت عادتها، ويحق في العجب، ويطول عجبي على من فتح باب القياس، ولو لم يكن هناك أصل جامع. وهذا الغلو في القياس هو الذي فتح الباب للجمود على ظاهر النصوص، وعدم قبول القياس الصحيح. وأما دليل من قال: تقعد إلى تمام خمسة عشر يوماً، ثم تغتسل، وتصلي، وتكون مستحاضة، فدليله ما قدمناه في مسألة مستقلة من أن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً، وقد أوضحت أنه لا حد لأكثر الحيض، فارجع إلى المسألة إن شئت. وأما دليل من قال تجلس عادتها، ثم تغتسل، وتصلي، وتكون مستحاضة، فوجهه، والله أعلم - أن العادة عنده لا تزيد، وأن المرأة مأمورة أن تجلس قدر عادتها، كما في الحديث الصحيح: "اجلسي قدر ما كانت تحبسك حيضتك" لكن هذا في امرأة ثبت أنها استحاضت، لا في امرأة زادت عادتها فقط. وأما من قال: تجلس قدر عادتها، ثم تغتسل، وتصلي، فإن انقطع لأقل من خمسة عشر يوماً، فإنها تعيد الصيام الواجب الذي صامته؛ لأنها تبين أنها صامت وهي حائض، وإن تجاوز خمسة عشر يوماً حكمنا بأنها مستحاضة، فهذا قول ضعيف؛ لأنه يوجب على المرأة الصيام مرتين، فمن صام وامتثل الأمر الشرعي ¬
بحسب طاقته فلا يلزم بالاعادة، ولم يوجب الله - سبحانه وتعالى - صيام يوم مرتين. القول الثالث: مذهب الشافعية (¬1) إذا كانت للمرأة عادة، دون خمسة عشر يوماً، فرأت الدم وجب عليها الإمساك، كما تمسك عنه الحائض لاحتمال الانقطاع قبل مجاوزة خمسة عشر يوماً، ويكون الجميع حيضاً. قل النووي في المجموع: "ولا خلاف - يعني في المذهب - في وجوب هذا الإمساك، ثم إن انقطع من خمسة عشر يوماً، فما دونها، فالجميع حيض، وإن جاوز خمسة عشر يوماً، علمنا أنها مستحاضة، فترد إلى عادتها، فتغتسل بعد الخمسة عشر يوماً، فتقضي صلاة ما زاد على عادتها، وإن استمر بها الدم في الشهر الثاني، وجاوز العادة اغتسلت عند مجاوزة العادة، لأننا علمنا في الشهر الأول أنها مستحاضة (¬2). وهذا القول جيد، إلا أن تحديده بخمسة عشر يوماً ضعيف؛ لأنه مبني على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً، والصحيح أنه لا حد لأكثره. القول الرابع: مذهب الحنابلة (¬3). أن من زادت عادتها مثل أن يكون حيضها خمسة أيام من كل شهر فيصير ¬
الدليل الأول
ثمانية، فلا تلتفت إلى الزيادة الخارجة عن العادة، فإذا مضت عادتها اغتسلت وصلت، وصامت ما وجب فيه، ثم تغتسل في المرة الثانية وجوباً عند انقطاعه، فإذا تكررت الزيادة ثلاثة مرات، صارت الزيادة عادة، وتعيد ما صامته أو طافته من طواف فرض. فالخلاصة: أن الزيادة في مذهب الحنابلة، لا تعتبر حتى تتكرر ثلاثاً، وهذا المذهب ضعيف أيضاً، وهو مذهب مهجور. والراجح أن الزيادة حيض، ما دام أن الدم لم يستمر معها الشهر كاملاً، فإن استمر معها الشهر كاملاً، صارت مستحاضة. وسيأتي إن شاء الله تعالى أحكام المستحاضة. والأدلة على ذلك: الدليل الأول: [63] ما رواه مالك في الموطأ، عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه مولاة عائشة أم المؤمنين، انها قالت: كان النساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف، فيه الصفرة من دم الحيضة، فتقول لهن: لا تعجلن، حتى ترين القصة البيضاء" (¬1). [وإسناده حسن، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله في الخلاف في الصفرة والكدرة]. وجه الاستدلال: ¬
الدليل الثاني
قال ابن قدامة في المغني: "لو لم تعد الزيادة حيضاً للزمها الغسل عند انقضاء العادة، وإن كان الدم جارياً" (¬1). الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (¬2) فما دام الدم موجوداً، فالأذى موجود. وكيف يقال بأن الدم قبل تمام العادة بدقائق حيض وبعد تمامها ليس بحيض، والرائحة هي الرائحة واللون هو اللون. الدليل الثالث: لو كان ما زاد على خمسة عشر، أو ما زاد على عشرة أيام استحاضة. أو لا يعتبر حيضاً حتى يتكرر ثلاثاً، لو كان ذلك معتبراً لبينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمته ولما وسعه تأخير بيانه؛ إذ لا يجوز تأخيره عن وقته كيف وأزواجه وغيرهن من النساء يحتجن إلى بيان ذلك في كل وقت فلم يكن ليغفل بيانه، وما جاء عنه عليه الصلاة والسلام ذكر العادة ولا بيانها إلا في حق المستحاضة لا غير (¬3). وهذا هو الذي اختاره ابن تيمية: "وكذلك المنتقلة إذا تغيرت عادتها بزيادة، أو نقص، أو انتقال فذلك حيض حتى تعلم أنها استحاضة باستمرار الدم ... " (¬4). ¬
وقال السعدي رحمه الله: "وأما ما ذكره الحنابلة أنها لا تنتقل إليه حتى يتكرر ثلاثاً، فهو قول ليس العمل عليه، ولم يزل عمل الناس جارياً على القول الصحيح الذي قاله في الإنصاف: لا يسع الناس إلا العمل به، وهو أن المرأة إذا رأت الدم جلست فلم تصل ولم تصم وإذا رأيت الطهر البين تطهرت واغتسلت وصلت سواء تقدمت عادتها أو تأخرت، وسواء زادت مثل أن تكون عادتها خمسة أيام، وترى الدم سبعة، فإنها تنتقل إليها من غير تكرار، وهذا هو الذي عليه عمل نساء الصحابة رضي الله عنهن والتابعين من بعدهم، حتى الذي أدركنا من مشايخنا لا يفتون إلا به، لأن القول الذي ذكروا لا تنتقل إلا بتكراره ثلاثاً قول لا دليل عليه، وهو مخالف للدليل" (¬1). ¬
الفصل الثاني: في طهارة المرأة قبل تمام عادتها.
الفصل الثاني: في طهارة المرأة قبل تمام عادتها. اتفق الفقهاء على أن المرأة المعتادة إذا انقطع دمها دون عادتها فإنها تطهر بذلك، ولا تتم عادتها بشرط ألا يكون انقطاع الدم دون أقل الحيض عندهم (¬1). إلا أن الحنفية كرهوا للزوج وطأها حينئذ حتى تمضي عادتها وإن اغتسلت. التعليل عندهم: لأن عود الدم في العادة غالب فكان الاحتياط في الاجتناب (¬2). وذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5)، إلى أنه لا يكره وطؤها ¬
وحكمها حكم الطاهرة بعد تمام عادتها. ولا وجه لمنع الحنفية، لأننا إذا أذنا لها في الصلاة والصيام فالجماع كذلك. ولأننا حكمنا لها أنها حائض حين كان الأذى موجوداً فحين ارتفع الأذى أصبحت طاهرة، ولأنه ما منع زوجها من الجماع إلا لوجود الأذى. قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬1). فإذا ارتفع الأذى لم يكن هناك حكمة من منع زوجها. بل إذا كان يؤذن للزوج أن يجامعها وهى مستحاضة، ودم الاستحاضة ينزل فكونه يؤذن له والمحل طاهر لا أذى فيه من باب أولى. وكون الدم قد يعود في العادة لا يكفي لمنع زوجها. لأن الأصل استصحاب الحال، وإذا تحققنا من رجوع الدم منع الزوج من الجماع. ¬
الفصل الثالث: في النقاء المتخلل بين الدمين
الفصل الثالث: في النقاء المتخلل بين الدمين إذا كانت المرأة أحياناً ترى دماً، وأحياناً ترى نقاء. فهل هذا النقاء يعتبر له حكم الحيض أم تعتبر فيه المرأة طاهرة؟. في هذا خلاف كبير بين الفقهاء .. وأحياناً في المذهب الواحد عدة أقوال. والذي يهمني أولاً أن أحرر الأقوال في كل مذهب دون أن أتعرض لها بالنقاش حتى يمكن أن يستوعبها القارئ، ثم أختم هذه الأقوال بالقول الراجح الذى أراه. وإليك أقوال المذاهب. القول الأول: مذهب الحنفية (¬1). في مذهب الحنفية خمسة أقوال رواها خمسة من أصحاب أبي حنيفة. القول الأول: رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة قال: إذا كان الطهر الفاصل بين الدمين أقل من خمسة عشر يوماً، لا يكون فاصلاً بين الدمين بل يجعل كالدم المتوالي. مثاله: مبتدأة رأت يوماً دماً، وثلاثة عشر طهراً، ويوماً دماً. فالفاصل أقل من خمسة عشر يوماً. فعلى رواية أبي يوسف أن عشرة الأيام الأولى منذ رأت ¬
الدم يعتبر حيضاً (¬1)، ويحكم ببلوغها. التعليل لهذا القول: أن الطهر بين الدمين يعتبر طهراً فاسداً، لأن أقل الطهر الصحيح خمسة عشر يوماً. ولأن الطهر إذا كان لا يصلح للفصل بين الحيضتين، فلا يصلح للفصل بين الدمين. قال في الهداية: "والأخذ بهذا القول أيسر" (¬2). القول الثاني: عند الحنفية: رواية محمد عن أبي حنيفة ولمحمد روايتان (¬3): الأولى: قال: الطهر إذا تخلل بين الدمين في مدة الحيض، عشرة فأقل فهو كالدم المتوالي، وإلا فلا. مثاله: رأت امرأة مبتدأة يوماً دماً، وثمانية أيام طهراً، ويوماً دماً فالعشرة حيض. مثال آخر: امرأة مبتدأة رأت الدم يوماً، وتسعة أيام طهراً، ثم رأت يوماً دماً، فالجميع إحدى عشرة، فلا يصلح أن يكون حيضاً، لأن أكثر الحيض ¬
عندهم عشرة أيام. دليل هذا القول: قالوا: استيعاب الدم مدة الحيض ليس بشرط بالإجماع، فيعتبر أوله وآخره. دليل آخر: قالوا: قياساً على اشتراط النصاب في الزكاة، فكمال النصاب وحده شرط لوجوب الزكاة، ونقصانه في أثناء الحول لا يؤثر. ورده ابن نجيم، فقال: "قياسها على النصاب غير صحيح؛ لأن الدم منقطع في أثناء المدة بالكلية، وفي المقيس عليه يشترط بقاء جزء من النصاب في أثناء الحول، وإنما الذى اشترط وجوده في الابتداء والانتهاء تمامه" (¬1). الرواية الثانية لمحمد: قال: إذا كان الطهر المتخلل أقل من ثلاثة أيام، فإنه لا يعتبر فاصلاً مطلقاً حتى ولو كان الطهر أكثر من مجموع الدم الأول والثاني، ويكون الطهر بمنزلة الدم المتوالي. وإن كان الطهر ثلاثة أيام فصاعداً فينظر: فإن كان مقدار الطهر مساوياً لمجموع الدم الأول والثاني، أو كان الطهر أقل منهما في العشرة أيام، فإن الطهر في هذه الحال لا يكون فاصلاً، ويعتبر حيضاً. وجه هذا القول: اجتمع مبيح وحرام فغلب جانب الحرام، فالدم يوجب حرمتها، والطهر يوجب حلها، فغلب جانب التحريم. ¬
وإن كان الطهر أكثر من مجموع الدم الأول والثاني، فإن الطهر حينئذ يعتبر فاصلاً. ويبقى النظر: إن أمكن أن يجعل أحد الدمين حيضاً بنفسه جعل حيضاً، والآخر استحاضة، وإن أمكن أن يجعل كل واحد منهما حيضاً بنفسه جعل أسرعهما حيضاً، والثاني استحاضة. وإن لم يمكن أن يجعل أحدهما حيضاً بنفسه، إلا أن يجمع الدم الأول مع الثاني، كان الجميع استحاضة، ولم يجعل شيء من ذلك حيضاً. أمثلة لما سبق: رأت امرأة مبتدأة يومين دماً، وسبعة أيام طهراً، ويوماً دماً فلا يعتبر شيء من هذا حيضاً؛ لأن الطهر أكثر من مجموع الدم الأول والثاني، فلا يضم الثاني إلى الأول؛ لأن الطهر في هذه الحال فاصل بين الدمين، والدم الأول بنفسه لا يعتبر حيضاً، وكذلك الدم الثاني بنفسه لا يعتبر حيضاً؛ لأن أقل واحد منهما لم يبلغ أقل الحيض. مثال آخر: رأت امرأة مبتدأة الدم ثلاثة أيام، ثم طهرت خمسة أيام، ثم رأت يوماً دماً، فالطهر خمسة أيام، فهو أكثر من مجموع الدمين، فيعتبر فاصلاً، فلا يضم الأول للثاني، والدم الأول يصلح لأن يكون حيضاً؛ لأنه ثلاثة أيام، فهو حيضها والثاني استحاضة. مثال ثالث: رأت ثلاثة أيام حيضاً، وثلاثة أيام طهراً، ثم رأت يوماً دماً، فالجميع حيض؛ لأن مجموع الدم الأول والثاني أكثر من الطهر. مثال رابع: رأت يومين دماً، وثلاثة أيام طهراً، ويوماً دماً. فالجميع
حيض؛ لأن مجموع الدم مساو للطهر، فغلب جانب الدم. هذان قولان لمحمد بن الحسن. ولا أدري كيف تعقل المرأة الأمية هذا التفصيل! وما كانت مسائل الحيض بهذا التعقيد. القول الثالث: رواية ابن المبارك وزفر عن أبي حنيفة. قالوا: إذا بلغ مجموع الدم في أيام الحيض العشرة أقل الحيض، وهو ثلاثة أيام، ولا عبرة بالطهر في العشرة. فلو رأت يوماً دماً في أول العشرة، ثم سبعة أيام طهراً، ثم رأت يومين دماً كان الجميع حيضاً. لأن الدم بلغ أقل الحيض وهو ثلاثة أيام. أما لو رأت يوماً دماً في أول العشر ثم رأت ثمانية أيام طهراً ثم رأت يوماً دماً فلا يعتبر الدم حيضاً؛ لأنه لم يبلغ أقل الحيض. ولو رأت يوماً دماً في أول العشر، ويوماً في وسطها، ويوماً في آخر العشر كان الجميع حيضاً. وجه هذه الرواية: أقل الحيض عندهم ثلاثة أيام، فإذا رأت دماً أقل من ثلاثة أيام، لم يكن الدم صالحاً لأن يكون حيضاً، فكذلك الطهر لا يصلح أن يكون حيضاً من باب أولى. وإذا كان الدم صالحاً لأن يكون في نفسه حيضاً كان الطهر حيضاً تبعاً لذلك.
القول الرابع: رواية الحسن بن زياد عن أبي حنيفة. قال: إذا كان الطهر المتخلل بين الدمين، دون ثلاثة أيام، لا يصير فاصلاً، فكان كله كالدم المتوالي ... وإذا بلغ الطهر ثلاثة أيام بلياليها كان فاصلاً مطلقاً، سواء كان الدم أكثر من الطهر، أو مساوياً له، أو أقل منه. أمثلة: لو رأت ساعة دماً، وثلاثة أيام إلا ساعة طهراً، وساعة دماً، فالكل حيض؛ لأن الطهر لم يبلغ ثلاثة أيام فلم يعتبر فاصلاً، واعتبر الجميع حيضاً. مثال آخر: لو رأت يومين دماً، وثلاثة أيام طهراً ويومين دماً، لم يكن شيء منه حيضاً؛ لأن الطهر حين بلغ ثلاثة أيام كان فاصلاً، فلم يضم الأول للثاني، والأول بنفسه لا يصلح أن يكون حيضاً. وكذا الثاني لا يصلح بنفسه أن يكون حيضاً، فلم يعتبر الجميع حيضاً علماً أن مجموع الدم الأول والثاني أكثر من الطهر. مثال ثالث: رأت ثلاثة أيام دماً، وثلاثة أيام طهراً، ثم ثلاثة أيام دماً فالطهر فاصل بين الدمين، لأنه بلغ ثلاثة أيام، ولما كان الدم الأول والدم الثاني يصلح كل واحد منهما أن يكون حيضاً بنفسه، اعتبر الأول لأنه أسرعهما إمكاناً، والثاني استحاضة. هذه هي الروايات في مذهب الحنفية، وقد أكثرت من الأمثلة ليتضح القول للقارئ، وكلها مبنية إما على مجرد الرأي المحض، أو بناء على أن أقل
الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام، وقد بينت أنه لا حد لأقل الحيض ولا لأكثره في مسألة مستقلة فارجع إليها إن شئت. والمتأخرون من الحنفية يرجحون رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة. على رواية محمد بن الحسن، قال ابن نجيم: "الأخذ بقول أبي يوسف أيسر، وكثير من المتأخرين أفتوا به، لأنه أسهل على المفتي، والمستفتي، ولأن في قول محمد وغيره، تفاصيل يحرج الناس في ضبطها، وقد ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما خير بين أمرين إلا اختار أَيسرهما" (¬1). وقال الزيلعي والعيني: نحوه (¬2). المذهب المالكي في الحيضة المتقطعة (¬3). قالوا: المرأة إذا أتاها دم، ثم انقطع، ثم نزل دم آخر، فإن كان بين الدمين طهر صحيح خمسة عشر يوماً فالدم الثاني حيض مستأنف، وإن كان الطهر لا يبلغ نصف شهر كأن يأتيها الدم يوماً ثم تطهر يومين ثم يأتيها يوماً آخر وهكذا، فإنها تلفق أيام الدم بعضها على بعض .. فإن كانت مبتدأة فإنها تلفق أيام الدم فقط خمسة عشر يوماً ولا تلفق الطهر. وإن كانت معتادة تلفق مقدار عادتها وأيام الاستظهار ثلاثة أيام، فما نزل ¬
عليها بعد ذلك فاستحاضة لا حيض. وحكم الملفقة أنها تغتسل وجوباً كما انقطع دمها وتصوم، وتوطأ. هذا ملخص مذهب المالكية. المذهب الشافعي إذا رأت يوماً دماً ويوماً نقاء (¬1). وقبل التفصيل في المذهب نبين أن القول في المسألة كما قال النووي: فيما إذا كان النقاء زائداً على الفترات المعتادة بين دفعات الحيض، فأما الفترات فحيض بلا خلاف. والفرق بين الفترة والنقاء، هو ما نص عليه الشافعي في الأم والشيخ أبو حامد الاسفرائيني، وصاحبه القاضي أبو الطيب الطبري على أن الفترة: هى الحالة التي ينقطع فيها جريان الدم، ويبقى لوث وأثر بحيث لو أدخلت فى فرجها قطنة يخرج عليها أثر الدم من حمرة أو صفرة أو كدرة، فهي في هذه الحالة حائض قولاً واحداً طال ذلك أم قصر. وأما النقاء: هو أن يصير فرجها بحيث لو جعلت القطنة فيه لخرجت بيضاء (¬2). وذكر النووي أيضاً: أن الخلاف إنما هو في الصلاة والصوم والطواف والقراءة والغسل، والاعتكاف والوطء ونحوها، وأما في العدة فلا خلاف أن النقاء ليس بطهر في انقضاء العدة، وكون الطلاق سنياً (¬3)، وحكاه إجماعاً ¬
صاحب مغني المحتاج (¬1). هذا إذا لم يعتبر خلاف ابن حزم، فإن ابن حزم لا يمانع أن تنقضي العدة بثلاثة أو أربعة أيام كما قدمنا في الخلاف في أقل الطهر. إذا تصور هذا، نأتي إلى المسألة في مذهب الشافعية فنقول: المرأة إذا رأت يوماً دماً ويوماً نقاء فلها حالان: الأولى: أن ينقطع دمها، ولا يتجاوز خمسة عشر يوماً. الثاني: أن يتجاوز دمها خمسة عشر يوماً. الحال الأولى: إذا لم يتجاوز ففيه قولان مشهوران. أحدها: أن أيام الدم حيض، وأيام النقاء طهر. التعليل: لأن الدم إذا دل على الحيض، وجب أن يدل النقاء على الطهر. وهذا يسمى قول اللفظ أو التلفيق. الثاني: أن أيام الدم وأيام النقاء كلها حيض. ويسمى قول السحب واختلف الشافعية في الأصح منهما. قال النووي: "صحيح الأكثرون قول السحب" (¬2). وقال المرداوي: "الذى صرح به الشافعي في سائر كتبه أن كل ذلك حيض أيام الدم وأيام النقاء" (¬3). ووجهه: أن عادة النساء في الحيض مستمرة بأن يجري الدم زماناً، ويرقأ ¬
زماناً، وليس من عادته أن يستديم جريانه إلى انقضاء مدته، فلما كان زمان إمساكه حيضاً، لكونه بين دمين، كان زمان النقاء حيضاً لحصوله بين دمين. فعلى هذا تكون الخمسة عشر كلها حيضاً. يحرم عليها فى أيام النقاء ما يحرم عليها في أيام الحيض. وسواء قلنا بالتلفيق أو بالسحب إذا رأت النقاء في اليوم الثاني عملت عمل الطاهرت بلا خلاف؛ لأنا لا نعلم أنها ذات تلفيق لاحتمال دوام الانقطاع، قالوا: فيجب عليها أن تغتسل وتصوم، وتصلي، ولها قراءة القرآن، ومس المصحف والطواف، والاعتكاف، وللزوج وطؤها. فإذا عاودها الدم في اليوم الثالث تبينا أنها ملفقة فإن كلنا بالتلفيق، تبين لنا صحة الصوم والصلاة، ونحوها، وإن قلنا بالسحب تبين لنا بطلان العبادات التي فعلتها في اليوم الثاني فيجب عليها قضاء الصوم والاعتكاف والطواف، والمفعولات عن واجب. هذا حكم الشهر الأول، فإذا جاء الشهر الثاني فرأت اليوم الأول وليلته دماً، والثاني وليلته نقاء. فقيل: تعمل كالشهر الأول، وهكذا لو جاءها في الشهر الثالث والرابع. وقيل: البناء فيها على القول بثبوت العادة بمرة أو مرتين، فإن أثبتنا العادة بمرة، وقلنا بالسحب، فلا تغتسل ولا تصلي ولا تصوم فى فترة النقاء. الحال الثاني: أن ترى يوماً دماً ويوماً نقاء ويتجاوز خمسة عشر يوماً، فهذه مستحاضة اختلط حيضها باستحاضتها. قال النووي: "هذا هو الصحيح المشهور الذي نص عليه الشافعي فى كتاب الحيض، وقطع به جماهير الأصحاب
دليل الحنابلة على كون النقاء طهر نص، ونظر.
المتقدمين والمتأخرين" (¬1). وسيأتي أحكام المستحاضة في باب مستقل إن شاء الله تعالى. المذهب الحنبلي فيما إذا رأت المرأة يوماً دماً ويوم نقاء (¬2). المشهور من مذهب الحنابلة أن الدم حيض والنقاء طهر إلا أن يتجاوز مجموعهما أكثر الحيض، وهو خمسة عشر يوماً، فيكون الدم المتجاوز استحاضة، ويكره وطؤها في أيام النقاء. دليل الحنابلة على كون النقاء طهر نص، ونظر. أما النص فقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى ...} (¬3). فإذا ارتفع الأذى زال حكمه. [64] ومن الأثر ما رواه الأثرم عن أحمد كما في شرح ابن رجب للبخاري (¬4) قال أحمد: حدثنا ابن علية، ثنا خالد الحذاء، عن أنس ابن سيرين، قال: استحيضت امرأة من آل أنس فأمروني فسألت ابن عباس، فقال: أما ما رأت الدم البحراني فإنها لا تصلي، وإذا رأت الطهر ساعة فلتغتسل ولتصلي. [إسناده صحيح]. ¬
وأما النظر؛ فإننا إنما حكمنا على المرأة بكونها حائضاً لوجود الدم، فكذلك نحكم على المرأة بالطهارة لانقطاعه، فإذا كان الدم دليلاً على وجود الحيض، فكذلك انقطاعه دليل على الطهارة. وقيل: إذا كان انقطاع الدم أقل من يوم فليس بطهر، وإن بلغ يوماً فأكثر فهو معتبر. وهو رواية عن أحمد (¬1). دليلهم: قالوا: لأن الدم يجري مرة، وينقطع أخرى، وفي إيجاب الغسل على من تطهر ساعة حرج، ينتفي بقوله سبحانه وتعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬2). ولأننا لو جعلنا انقطاع الدم ساعة طهراً، ولا تلتفت إلى ما بعده من الدم أفضى إلى أن لا يستقر لها حيض، فعلى هذا لا يكون انقطاع الدم أقل من يوم طهراً إلا أن ترى ما يدل عليه، مثل أن يكون انقطاعه في آخر عادتها، أو ترى القصة البيضاء (¬3). وإذا قلنا بانقطاع الدم لا نعني مجرد وقوف جريان الدم فقط، بل المقصود أنها لو احتشت بقطنة في فرجها رجعت القطنة بيضاء، لا أثر فيها من صفرة أو كدرة، أما إذا عادت القطنة وفيها أثر صفرة أو كدرة أو نحوهما فلا يعتبر ¬
الحيض منقطعاً كما أسلفنا في الكلام على مذهب الشافعية، وكما سوف نبين أن الصفرة والكدرة حيض. وهذا القول أقربها للصواب. والله أعلم.
الفصل الرابع: إذا تقدمت عادة المرأة أو تأخرت.
الفصل الرابع: إذا تقدمت عادة المرأة أو تأخرت. إذا تقدمت عادة المرأة أو تأخرت، وهو ما يسمى بانتقال العادة عن موضعها، وقد سبق لنا بحث بما تثبت عادة المبتدأة؟ هل تثبت بمرة؟ أو بمرتين؟ أو بثلاث؟ وهذه المسألة مفرعة عليها، لأن من يرى أن العادة تثبت بمرة يقول: إذا تقدمت العادة أو تأخرت وصلح الدم أن يكون حيضاً لها فهو عادتها، وكذا إذا تأخرت، وأما من يرى التكرار فلا يراه عادة حتى تتكرر. والحنفية يفرقون بين تقدم العادة بالموضع، وبين تقدمها بالعدد ... فإذا رأت قبل عادتها دماً أو بعد عادتها متصلة بها، فهذا عندهم يبحث في زيادة العادة ونقصها، وقد بحثناه في مسألة مستقلة، لكن الكلام على الانتقال في الموضع لا على زيادة العادة والأقوال في المسألة كالتالي: قيل: إذا تقدمت العادة أو تأخرت فهي عادتها بشرط أن يتقدمها طهر صحيح. وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، وأبي يوسف من الحنفية (¬3) وقيل: لا يكون عادة حتى يتكرر مرتين. ¬
دليل القائلين بأن العادة إذا تقدمت أو تأخرت فهي حيض.
وهو مذهب أبي حنيفة، وصاحبه محمد (¬1)، ورواية عن أحمد (¬2). وقيل: لا يكون حيضاً حتى يتكرر ثلاث مرات. وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬3). دليل القائلين بأن العادة إذا تقدمت أو تأخرت فهي حيض. الدليل الأول: من القرآن، قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (¬4). فإذا وجد الأذى وجد الحيض، سواء تقدم أو تأخر. الدليل الثاني: [65] ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر إلا الحج، فلما جئنا سرف طمثت، فدخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أبكي، فقال ما يبكيك؟ قلت: لوددت والله أني لم أحج العام. قال: لعلك نفست؟ قلت: نعم. قال: فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري. ¬
الدليل الثالث
والحديث رواه أيضاً مسلم (¬1) وجه الاستدلال: قال ابن قدامة: "والظاهر أنه لم يأت في العادة، لأن عائشة استكرهته، واشتد عليها، وبكت حين رأته، وقالت: وددت أني لم أكن حججت العام، ولو كانت لها عادة تعلم مجيئه فيها، وقد جاء فيها ما أنكرته، ولا صعب عليها (¬2). الدليل الثالث: لو كانت العادة إذا تقدمت أَو تأخرت لا تعتبر عادة ولا حيضاً حتى يتكرر مرتين أو ثلاثاً، لبينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمته، ولو بينه لنقل إلينا، وما دام أنه لم يبينه فليس التكرار بشرط، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط. دليل من قال يشترط التكرار مرتين. الدليل الأول: قال السرخسي: "العادة مشتقة من العود، ولن يحصل العود بدون تكرار" (¬3). قلت: تسميتها عادة تسمية عرفية، ولم أقف على هذه التسمية من الشارع ¬
الدليل الثاني
وقد راجعت في الحاسب الآلي الموسوعة الحديثية لأربعمائة كتاب، كما راجعت المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوى فلم أجد فيه تسمية الحيض عادة مرفوعاً، أو موقوفاً، ولم أجد إلا قولاً لعطاء في سنن الدارمي: قال: إن كان للنفساء عادة، وإلا جلست أربعين ليلة (¬1). ومثل هذا التعليل المشتق من تسمية عرفيه لا يصلح أن يلغي الدم الذي تراه المرأة مطابقاً لدم الحيض في اللون والصفة والرائحة ثم لا تعتبره حيضاً لمجرد تقدمه أو تأخره. الدليل الثاني: قال السرخسي: "الشيء لا ينسخه إلا ما هو مثله أو فوقه. قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (¬2). والأول متأكد بالتكرار فلا ينسخه إلا ما هو مثله في التأكد. والاستدلال هذا عجيب، والقياس ما على الآية أعجب، لأن المذكور في النسخ هو في الآيات، لا في الدماء، وعلى التنزل فإن عادة تكررت سنوات. يلغيها عندهم عادة جديدة تكررت مرتين، فلا هي مثلها ولا هي خير منها". دليل الحنابلة على اشتراط التكرار. انظر أدلة الحنابلة على اشتراط التكرار ثلاث مرات فى مبحث، متى تكون المبتدأة معتادة. ¬
والعجيب أن الحنابلة لا يعتبرون التكرار فى نقص العادة ويشترطونه في زيادتها وتقدمها وتأخرها. مع أن النقص نوع من تغير العادة فإذا نقصت عادة المرأة ولو مرة واحدة انتقلت إليها وأصبحت هي عادتها. وألغت عادتها السابقة فلو استحيضت بعده جلست عادتها الناقصة، ولم تجلس عادتها المتكررة. والراجح القول الأول بأن العادة إذا تقدمت أو تأخرت فهي حيض وأن الحكم يدور مع علته، فإذا انقطع الدم فهى طاهرة، وإذا جاءها الدم فهي حائض هذا هو الأصل. ولا نجعله دم استحاضة إلا إذا تبين أنه دم علة ومرض كما لو استمر عليها الشهر كاملاً. والله أعلم.
الفصل الخامس: في حكم تعاطي المرأة دواء يقطع حيضها، أو يعجل نزوله
الفصل الخامس: في حكم تعاطي المرأة دواء يقطع حيضها، أو يعجل نزوله أولاً: تعاطي المرأة ما يقطع حيضها. أما تعاطي المرأة ما يقطع حيضها، فإن الحكم يختلف تبعاً للحامل على ذلك. فقد يكون الحامل على ذلك المحافظة على صحة الأم، أو على مصلحة الولد. وقد يكون الحامل على ذلك تنظيم الحمل. وقد يكون الحامل عليه الحرص على إتمام المناسك. وقد تتعاطاه من أجل قطع النسل إما لعدم رغبة في الولد مطلقاً او اكتفاء بعدد معين، أو لغير ذلك من الدوافع، وسوف أناقش هذه الأمور حالة حالة. الأول: إذا تعاطت المرأة ما يقطع الحيض عنها خوفاً على صحتها بأن أخبرها طبيب ثقة أن الحمل فيه خطورة على حياتها سواء كان ذلك أثناء الحمل أو عند الولادة، فإنه يجوز للمرأة بل قد يتعين منع الحمل؛ لأن تعاطي ما يضر بحياتها لا يجوز، وكذلك لو أخبرها طبيب ثقة أنها إذا حملت فسوف يولد الولد متشوهاً تشوهاً غير محتمل يصعب معه الحياة. ولكن يجب التأكد من خبر الطبيب؛ فإنه كثيراً ما يقرر الطبيب شيئاً ولا يتحقق، وكم من امرأة أخبرها طبيب بأنه سوف يكون لها كذا وكذا وكتب الله لها الحمل ولم يعرض لها شيء
مما قالوا، فمن المهم أن يكون الطبيب قوياً أميناً غير متهم، ولا يشترط أن يكون مسلماً جاء في قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، جاء فيه: "أما تعاطي أسباب منع الحمل أو تأخيره في حالات فردية لضرر محقق، ككون المرأة لا تلد ولادة عادية، وتضطر معها إلى إجراء عملية لإخراج الجنين، فإنه لا مانع من ذلك شرعاً، وهكذا إذا كان تأخيره لأسباب أخر شرعية أو صحية يقررها طبيب مسلم ثقة، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرر المحقق على أمه إذا كان يخشى على حياتها منه بتقرير من يوثق به من الأطباء المسلمين (¬1). الحالة الثانية: إذا كان الحامل على ذلك تنظيم الحمل. إذا كان الحامل على ذلك كون المرأة يتتابع حملها، وتريد أن تباعد بين فترات الحمل لتتمكن من القيام بحق الحضانة والرعاية لطفلها، وكان ذلك برضى الزوج، وكان الدواء المتعاطى لا ضرر فيه على صحة المرأة، ولا يتسبب فى منع الحمل مستقبلاً، وكان ذلك مبنياً على خبر طبيب ثقة، والمقصود بالثقة أن يكون قوياً بعمله أميناً فيه غير متهم. ولا يكون في هذا الدواء عدوان على حمل قائم فلا بأس. والخلاف في هذه المسألة مبني على حكم جواز العزل عن المرأة. وهي مسألة اختلف فيها أهل العلم. ¬
دليل من منع العزل.
فقيل: لا يجوز العزل مطلقاً. اختارها ابن حزم! (¬1). وقيل: بالجواز مطلقاً، إلا أن تركه أفضل. وهو أصح القولين في مذهب الشافعي (¬2). وقيل: يجوز إن أذنت الزوجة الحرة. وهو قول الجمهور (¬3). دليل من منع العزل. [66] ما رواه مسلم (¬4)، قال: حدثنا عبيد الله بن سعيد ومحمد ابن أبي عمر، قالا: حدثنا المقرئ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثني أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة، عن جدامة بنت وهب أخت عكاشة، قالت: حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أناس، وهو يقول لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئا، ثم سألوه عن العزل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الوأد الخفي. زاد عبيد الله في ¬
دليل جواز العزل.
حديثه عن المقرئ وهي {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} (¬1) دليل جواز العزل. [67] ما رواه البخاري، قال: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، قال عمرو: أخبرني عطاء سمع جابراً رضي الله تعالى عنه، قال: كنا نعزل والقرآن ينزل. ورواه مسلم (¬2) وزاد: قال سفيان: "لو كان شيء ينهى عنه لنهى عنه القرآن". وقد بينت فيما سبق: أن قول سفيان: قاله من عند نفسه استنباطاً (¬3). [68] وفي رواية لمسلم، قال: حدثني أبو غسان المسمعي، حدثنا معاذ يعني بن هشام، حدثني أبي، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: كنا نعزل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبلغ ذلك نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فلم ينهنا (¬4). دليل من علقه بإذن الزوجة الدليل الأول: قال ابن عبد البر: "لا خلاف بين العلماء أنه لا يعزل عن الزوجة الحرة ¬
الدليل الثاني
إلا بإذنها، لأن الجماع من حقها، ولها المطالبة به، وليس الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه عزل ووافقه في نقل الإجماع ابن هبيرة" (¬1). وسبق لك أن الشافعية يرون جواز العزل مطلقاً في أصح القولين في مذهبهم، فلا يصح الإجماع. الدليل الثاني: [69] ما رواه أحمد، قال: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن الزهري، عن محرر بن أبي هريرة، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن العزل عن الحرة إلا بإذنها" (¬2). الدليل الثالث: من الآثار: [70] أخرج ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن مهدي، ويزيد ابن هارون، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير عن سوار الكوفي، عن عبد ¬
الدليل الرابع
الله قال: يستأمر الحرة، ويعزل عن الأمة. [ضعيف] (¬1). الدليل الرابع: [71] ما رواه عبد الرزاق، قال: عن الثوري، عن عبد الكريم الجزري، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: "تستأمر الحرة في العزل، ولا تستأمر الأمة". [رجاله ثقات، وتكلم ابن معين في حديث عبد الكريم عن عطاء] (¬2). ¬
ولا تعارض بين حديث جابر، وبين حديث جدامة بنت وهب، لأن الرجل إنما يعزل هرباً من الحمل، فأجرى قصده ذلك مجرى الوأد، لا أنه وأد شرعاً. وأن حقيقة الوأد أن يجتمع فيه القصد والفعل، والعزل ليس فيه إلا مجرد القصد، ولهذا وصفه بكونه خفياً، فجعله وأداً من جهة اشتراكهما في قطع الولادة. وإذا لم يكن وأداً ظاهراً لم يكن له حكم الوأد. نعم يدل على كراهية العزل؛ لأن تكثير النسل مقصود من جهة الشرع، مرغب فيه، وإذا كان هناك حاجة للعزل لم يكن هناك كراهية لأن من القواعد أن لا كراهة مع الحاجة ولا تحريم مع الضرورة. الحالة الثالثة: إذا كان الحامل على منع الحيض منع الولد خوف الفقر. إذا كان الحامل على منع الدورة خوف الفقر. سواء كان الفقر متحققاً أو مخوفاً، فإن هذا لا يجوز؛ وهو من سوء الظن بالله سبحانه وتعالى فإن الله سبحانه ¬
وتعالى هو الرزاق ذو القوة المتين. قال سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (¬1). وأنكر الله سبحانه وتعالى على أهل الجاهلية قتل أولادهم دفعاً للفقر أو خوفاً منه. فقال سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (¬2). وقال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (¬3). الحالة الرابعة: إذا كان منع الحيض من أجل إتمام النسك. إذا كان الحامل على المرأة في تعاطيها ما يمنع عادتها من أجل حرصها على إتمامها مناسكها وتخشى أن تعيق رفقة. أو تخشى عدم تمكنها من إتمام مناسكها فلا حرج عليها إن شاء الله تعالى. [72] روى عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: سئل عطاء عن امرأة تحيض يجعل لها دواء فترتفع حيضتها، وهي في قرئها كما هيَّ. تطوف؟ قال: نعم، إذا رأت الطهر فإذا هي رأت خفوقاً ولم تر الطهر الأبيض فلا. [سنده صحيح إلى عطاء، وابن جريج مكثر عن عطاء فلا يشترط تصريحه بالسماع] (¬4). ¬
[73] وروى عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرنا واصل، مولى ابن عيينة، عن رجل سأل ابن عمر، عن امرأة تطاول بها دم الحيضة فأرادت أن تشرب دواء يقطع الدم عنها فلم ير ابن عمر بأساً، ونعت ابن عمر ماء الأراك. قال معمر: وسمعت ابن أبي نجيح يسأل عن ذلك فلم ير به بأساً (¬1). [ضعيف عن ابن عمر للرجل المبهم، صحيح إلى ابن أبي نجيح]. مع أن الدم إذا تطاول بالمرأة حتى صارت مستحاضة، فإنها تكون مريضة، وتعاطي ما يقطع الدم عنها يكون من قبيل التداوي المباح. الحالة الخامسة: إذ كان منع الحيض من أجل الصيام في شهر رمضان إذا كان تعاطيها المانع من أجل الصيام مع المسلمين، فإني أكره لها هذه لأن الحيض أمر كتبه الله عليها. [74] روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا سفيان، قال: سمعت عبد الرحمن بن القاسم، قال: سمعت القاسم يقول: سمعت عائشة تقول: خرجنا لا نرى إلا الحج فلما كنا بسرف حضت فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، قال: ما لك أنفست؟ قلت: نعم، قال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت. قالت: وضحى رسول الله ¬
- صلى الله عليه وسلم - عن نسائه بالبقر. والحديث رواه مسلم (¬1) وجه الشاهد من الحديث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم". وقلنا فيما سبق: أن الكتابة هذه قدرية، فلترضَ المرأة بما قدر الله لها. وقد تضطرب عادة المرأة بعد تركها لهذه الأدوية، ولا تنتظم لها عادة، وقد تقلق في عباداتها من صلاة وغيره بحيث لا يستقيم لها طهر فالأولى اجتنابها في مثل هذه الحالة. الحالة السادسة: إذا كان منع الحيض لقطع النسل مطلقاً. إذا كان الحامل على تعاطيها ما يمنع حيضها منع الحمل منعاً مستمراً فإن هذا لا يجوز، حتى ولو رضي الزوج. وقد صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي (¬2)، وفيه: أن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد فى دورة مؤتمره الخامس في الكويت من: 1 إلى 6 جمادي الأولى 1409 هـ بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع تنظيم النسل واستماعه للمناقشات التي دارت حوله وبناء على أن من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية الإنجاب والحفاظ على النوع الإنساني، وأنه لا يجوز إهدار هذا المقصد، لأن إهداره يتنافى مع نصوص الشريعة وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل، والحافظ عليه، والعناية به باعتبار حفظ ¬
النسل أحد الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها. قرر ما يلي: أولاً: لا يجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب. ثانياً: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة، وهو ما يعرف بـ "الإعقام" أو "التعقيم" ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية. ثالثاً: يجوز التحكم الموقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان إذا دعت إليه حاجة معتبرة شرعاً، بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراض، بشرط ألا يترتب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة. ولا يكون فيها عدوان على حمل قائم. والله أعلم (¬1). الحالة السابعة: إذا كان منع الحيض بنية الإضرار بالآخرين. إذا كان الحامل لمنع الحيض يتضمن إضراراً بالآخرين فلا يجوز كما لو تناولت المانع وكانت معتدة لرجل يجب عليه نفقتها فأرادت إطالة المدة لتزداد النفقة فهذا الفعل محرم. هذا فيما يتعلق بصنع نزول الحيض. ثانياً: الكلام فيما إذا تناولت المرأة دواء يعجل بنزول دم الحيض. إذا تناولت المرأة دواء يعجل بنزول دم الحيض، جاز لها إذا كان لها غرض صحيح، والغرض الصحيح لا يكون إلا بشرطين: ¬
الأول: ألا يكون ذلك حيلة لإسقاط حق عليها، سواء كان هذا الحق لله أو لآدمي. فمثال حق الله: أن تتناول ما يعجل بعادتها. أو يطيلها هرباً من صيام رمضان في أيام الحر، وتريد أن يكون قضاؤها في أيام البرد. فهذا لا يجوز لأن التحايل على إسقاط الواجبات لا يسقطها، والتحايل على فعل المحرمات لا يبيحها ومثال حق الآدمي: أن تكون مطلقة طلاقاً رجعياً. وتحاول أن تعجل بحيضها لتسقط حق الزوج في الرجعة فهذا أيضاً لا يجوز. وقد ذهب الحطاب في مواهب الجليل: أن الدم يكون ملغياً في باب العدة، وإن كان مانعاً من أداء الصلاة والصيام (¬1). الشرط الثاني: أن يكون ذلك بموافقة الزوج، لأن الحيض يمنعه من كمال الاستمتاع، والله أعلم. ¬
الفصل السادس: خلاف العلماء في الصفرة والكدرة
الفصل السادس: خلاف العلماء في الصفرة والكدرة قبل أن نبحث عن حكم الصفرة والكدرة ينبغي أن نعرف ألوان الدم في كل مذهب الأول: مذهب الحنفية: قسموا الدم إلى ستة أقسام: الأول: الأسود، الثاني: الحمرة، الثالث: الصفرة، الرابع: الكدرة، الخامس: التربية، السادس: الخضرة. والدم الأسود، والأحمر معروفان، وهما الأصل في لون الدم، بل الأصل في الدم أن يكون لونه أحمر، إلا أنه قد يغلب عليه السواد فيصير دم الحيض أسود. وأما الصفرة والكدرة، فقال النووي: نقلاً عن الشيخ أبي حامد، هما ماء أصفر وماء كدر، وليسا بدم. وقال إمام الحرمين: هما شيء كالصديد يعلوه صفرة وكدرة، وليس على لون شيء من الدماء القوية ولا الضعيفة. وأما التربية: وهو ما يكون لونه كلون التراب، وهو نوع من الكدرة (¬1). وأما الخضرة فلم يثبت هذا اللون إلا الحنفية، وهم مختلفون فيه، فأنكره بعضهم، وقال مستبعداً وجوده: كأنها أكلت فصيلاً، لأن الدم في الأصل لا يكون أخضر، وقيل: هو نوع من الكدرة (¬2). ¬
هذه ألوان الدماء عند الحنفية. القول الثاني: ألوان الدماء عند المالكية أربعة أنواع (¬1). الأول: الأسود، الثاني: الصفرة، الثالث: الكدرة، الرابع: الترية. وقد تم تفسير الثلاثة الأول، أما الترية فقيل: دم فيه غبرة يشبه لون التراب، فيكون على هذا مساويا للتربية عند الحنفية. وقيل: الماء المتغير دون الصفرة. وقل أحمد بن المعدل: الترية، هي الدفعة من دم الحيض لا يتصل بها من دم الحيض ما يكون حيضة كاملة (¬2). وقال ابن عبد البر: (¬3) أول الحيض دم، ثم صفرة، ثم ترية، ثم كدرة، ثم يكون ريقاً كالفضة، ثم ينقطع (¬4). والذي يظهر أن الترية ترجع إلى الصفرة والكدرة، فقد روى الدارقطني، قال: حدثنا عثمان بن أحمد الدقاق، نا يحيى بن أبي طالب، ثنا عبد الوهاب، أنا هشام بن حسان عن حفصة، عن أم عطية أنها قالت: كنا لا نرى الترية بعد الطهر شيئاً، وهي الصفرة ¬
خلاف العلماء في الصفرة الكدرة.
والكدرة (¬1). [والإسناد فيه ضعف]، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله. القول الثالث: مذهب الشافعية في ألوان الدم. قسم بعض الشافعية الدماء إلى خمسة: الأول الأسود، الثاني الأحمر، الثالث الأشقر، الرابع الأصفر، الخامس الأكدر (¬2). القول الرابع: قسم الحنابلة الدماء إلى أربعة أقسام: الأول: الأسود. الثاني: الحمرة. الثالث الصفرة. الرابع: الكدرة (¬3). خلاف العلماء في الصفرة الكدرة. اختلف العلماء في الصفرة والكدرة: فقيل: الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض، وفي غيرها ليست بحيض. وهو مذهب الحنفية (¬4)، ¬
والحنابلة (¬1)، واختاره ابن الماجشون من المالكية (¬2). وجعله المازي والباجي هو المذهب عند المالكية (¬3). واختار أبو يوسف أن الكدرة في أول الأيام ليست بحيض، وفي آخر أيام الحيض حيض (¬4). وقيل: الصفرة والكدرة حيض مطلقاً، وهو مذهب المدونة (¬5)، وهو أصح الأوجه عند الشافعية بشرط أن يكون في زمان الإمكان (¬6). وقيل: الصفرة والكدرة ليست بحيض مطلقا، وهو اختيار ابن حزم (¬7). ¬
دليل من قال: الصفرة والكدرة حيض مطلقا.
دليل من قال: الصفرة والكدرة حيض مطلقاً. [الدليل الأول] (*) [75] استدلوا بما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن محمد بن إسحاق، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: كنا في حجرها مع بنات ابنتها، فكانت إحدانا تطهر، ثم تصلي، ثم تنكس بالصفرة اليسيرة، فتسألها، فتقول: اعتزلن الصلاة ما رأيتن ذلك، حتى لا ترين إلا البياض خالصاً. [إسناده حسن] (¬1). ¬
الدليل الثاني
وجه الاستدلال: أن أسماء رضي الله عنها أمرتهن باعتزال الصلاة من الصفرة، ولو كانت بعد الطهر والاغتسال حتى ولو كانت الصفرة يسيرة. وأجيب: بأن هذا مخالف لما روي عن عائشة، وعلي بن أبي طالب، وأم عطية، بل ظاهر كلام أم عطية أن له حكم الرفع كما سيأتي تقريره. وقد يفسر قولها: "كانت إحدانا تطهر" أى تطهر بالجفاف لا برؤية البياض، فكانت الواحدة منهن إذا طهرت بالجفاف اغتسلت وصلت ثم يرين بعد ذلك الصفرة اليسيرة فتنهاهن عن الاستعجال، وأن يعتزلن الصلاة حتى يرين البياض خالصاً، والمقصود بها القصة البيضة، ليكون مطابقاً لما روى عن عائشة. والله أعلم. الدليل الثاني: إذا كانت الصفرة والكدرة فى زمن الحيض حيضا، فكذلك إذا كانت بعد ¬
دليل من قال: بأن الصفرة والكدرة ليست حيضا مطلقا.
الطهر، لأنكم إما أن تقولوا: بأنها حيض مطلقاً، في العادة وبعدها. أو تقولوا: ليست بحيض مطلقاً، فأما أن تعتبروها في زمن مانعة من الصلاة والصيام، وفي زمن ليست مانعة، فهذا خطأ يخالف القواعد. وأجيب: بأن التفريق بين زمن العادة وغيرها إنما قلناه تبعاً للنصوص، لا أن ذلك وفقاً للقياس، والنص مقدم على القياس، وقد يقال: إن الصفرة والكدرة على وفق القياس، وذلك أنهما إذا كانا في زمن العادة والحيض، كان هذا وقت سلطان الدم، فهما أثر من آثاره، لأن العادة تبدأ ضعيفة، ثم تشتد ثم تتدرج بالضعف حتى تطهر المرأة، وما دامت في وقت الدم فقد أعطيت حكمه، لأن الكدرة أثر من آثاره، بخلاف ما إذا كان بعد الطهر فإنها ليست من أثر الحيض. والله أعلم. دليل من قال: بأن الصفرة والكدرة ليست حيضاً مطلقاً. [الدليل الأول] (*) [76] استدلوا بما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد ابن أبي عدي، عن محمد - يعني: ابن عمرو - قال: حدثني ابن شهاب، عن عروة ابن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حبيش، قال: إنها كانت تستحاض، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي (¬1). ¬
[ضعيف] (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرها بالإمساك عن الصلاة إلا إذا رأت الدم الأسود، وأما إذا رأت غيره فإنها تصلي، والصفرة والكدرة ليست دماً أسوداً، وبالتالي فهي مأمورة بالصلاة إذا رأته. وأجيب: أولاً: الحديث ضعيف. ثانياً: أن هذا الحكم خاص بالمستحاضة، وهي التي اختلط دم حيضها بدم استحاضتها وكان التمييز بين الدمين لا يمكن إلا باللون، لا أن هذا حكم مطلق لكل امرأة ولو لم تكن مستحاضة. ثالثاً: أنه مقيد بحديث أم عطية: "كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً". وسيأتي تخريجه، وبأثر عائشة: "لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء" وسيأتى، وعليه فيكون ما عدا الدم الأسود ليس حيضاً، إلا في زمن العادة فإنه ¬
الدليل الثاني
حيض حتى ولو كان صفرة وكدرة جمعاً بين هذا الحديث وما روى عن أم عطية وعائشة. والله أعلم. الدليل الثاني: [77] ما رواه البخاري، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا إسماعيل، عن أيوب، عن محمد - يعني ابن سيرين - عن أم عطية قالت: "كنا لا نعد الكدرة والصفرة شيئا" (¬1). فكلمة "شيء" نكرة في سياق النفي فتعم، فلا تعد الصفرة شيئاً لا قبل الطهر ولا بعد الطهر. قلت: قد روته حفصة بنت سيرين عن أم عطية بزيادة: "كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً". وهي زيادة وإن لم يخرجها البخاري، إلا أنه اعتمدها في فقه ترجمته، فقال: باب الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض. وعلى التسليم بأن الزيادة غير محفوظة فإننا نجمع بين هذا وبين حديث عائشة في قولها: "لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء". فيحمل حديث أم عطية على غير أيام الحيض، ويحمل أثر عائشة على ما تراه الحائض من صفرة وكدرة في أيام الحيض. الدليل الثالث: قال تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ ¬
أَذًى} (¬1). فالأذى: هو النجس، ولا نجس إلا الدم. وأجيب: على التسليم بأن الصفرة والكدرة ليست بنجسة، فإن الأذى يطلق على غير النجاسة، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} (¬2). س فالأذى يطلق على ما يتأذى منه، سواء كان طاهراً أو نجساً على أننا لا نسلم بطهارة الصفرة والكدرة، وهي من بقايا دم الحيض، فإذا كنا عرفنا كيف يحدث الحيض للمرأة، وأن الحيض عبارة عن انهدام الغشاء المبطن للرحم، وهو متكون من أوعية دموية وغدد، ونحوها لم يكن الحيض هو الدم الخالص بل كل ما نزل من جدار الرحم يعتبر حيضاً، وهو يتفاوت في أول الحيض وفورته، وآخره. هذا دليل من رأى أن الصفرة والكدرة ليست حيضاً. وممن رأى ذلك ابن حزم، فقال: "إذا رأت المرأة الدم الأسود من فرجها أمسكت عن الصلاة والصوم، وحرم وطؤها على بعلها وسيدها، فإن رأت أثر الدم الأحمر، أو كغسالة اللحم، أو الصفرة، أو الكدرة أو البياض، أو الجفوف التام فقد طهرت" (¬3). وقال أيضا: "وجدنا النص قد ثبت وصح أنه لا حيض إلا الدم الأسود، ¬
دليل من فرق بين كون الكدرة في أول الحيض وبين كونها آخر الحيض.
وما عداه ليس حيضاً، لقوله عليه السلام: "إن دم الحيض أسود يعرف" فصح أن المتلونة الدم طاهرة تامة الطهارة، لا مدخل لها في حكم الاستحاضة، وأَنه لا فرق بين الدم الأحمر، والقصة البيضاء". اهـ (¬1). وهذا الكلام منه رحمه الله مخالف لأثر عائشة وسيأتي. دليل من فرق بين كون الكدرة في أول الحيض وبين كونها آخر الحيض. قال أبو يوسف: إن الكدرة لا تكون حيضاً إلا إذا كانت فى آخر أيام الحيض وجه ذلك ما ذكره الكاساني، قال: "إن الحيض، هو الدم الخارج من الرحم، لا من العرق، ودم الرحم يجتمع فيه زمان الطهر، ثم يخرج الصافي منه، ثم الكدر، ودم العرق يخرج الكدر منه أولاً ثم الصافي، فينظر: إن خرج الصافي أولاً علم أنه من الرحم فيكون حيضاً، وإن خرج الكدر أولاً علم أنه من العرق فلا يكون حيضاً" اهـ (¬2). وهذا التعليل مبني على الرأي المحض، لا على قَول الأطباء، ولا على نص شرعي، والنصوص لم تفرق إلا بين الكدرة في زمن العادة، وبين الكدرة بعد الطهر، بل إن دم المرأة ينزل أول ما ينزل ضعيفاً فى غزارته ولونه، ثم يشتد، ثم يضعف حتى ينقطع، والضعف كما يكون في سيلانه، يكون في لونه ورائحته. والله أعلم. ¬
دليل من قال: الصفرة والكدرة في زمن العادة حيض وفي غيرها فلا.
دليل من قال: الصفرة والكدرة في زمن العادة حيض وفي غيرها فلا. [78] استدلوا بما رواه مالك، قال: عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه مولاة عائشة أم المؤمنين أنها قالت: "كان النساء يبعثن إلى عائشة أم المؤمنين بالدرجة فيها الكرسف، فيه الصفرة من دم الحيضة، فتقول لهن: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء" (¬1). [إسناده حسن] (¬2). وجه الاستدلال: أنها اعتبرت الصفرة في زمن العادة حيضاً، حتى ترى علامة الطهر. وأما الدليل على أن الصفرة والكدرة ليست حيضاً بعد الطهر. [79] ما رواه أبو داود، قل: حدثنا موسى بن إسماعيل، أخبرنا حماد، عن قتادة عن أم الهذيل (حفصة بنت سيرين) عن أم عطية - وكانت بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
- قالت: "كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً" (¬1) [سنده صحيح] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وأما عنعنة قتادة، فقد رواه عنه شعبة، وهو ممن لا يحمل عنه إلا ما صرح فيه بالتحديث، فقد ذكر ابن رجب في شرحه لصحيح البخاري، قال: رواه حرب في مسائلة (259 - أ/ ق) عن الإمام أحمد، عن غندر، عن شعبة، عن قتادة به. وهذه متابعة من شعبة لحماد (¬1) كما تابع حماداً أبان عند البيهقي (¬2)، فرواه عن قتادة به. وتابعه أيضاً سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، كما في رواية الطبراني (¬3)، عن ¬
طريق يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة به. ويزيد ممن روى عن ابن أبي عروبة قبل اختلاطه. فصار مجموع من يرويه عن قتادة: شعبة، وحماد بن سلمة، وأبان، وسعيد ابن أبي عروبة. هذه هي أهم الأقوال في المسألة، مع بيان أدلتها، وهناك أقوال أخرى مبنية على الرأي المحض، أسوقها في ختام هذا البحث استكمالاً للفائدة، وقد ساقها النووي أوجُهاً في الروضة فقال: أحدها: إن سبق الصفرة والكدرة دم قوي من سواد أو حمرة فالصفرة والكدرة بعد حيض، وإلا فلا. وقيل: إن سبقها دم قوي، وتعقبها دم قوي، فهما حيض، وإلا فلا. ويكفي في تقديم القوي وتأخره أي قدر كان ولو لحظة على الأصح. وقيل: لا بد من يوم وليلة (¬1). هذا أهم ما ورد في المسألة من أقوال. الراجح كما أشرت أن الصفرة والكدرة في زمن العادة حيض، وأما في غير زمن العادة فليست بحيض. والله أعلم. ¬
الفرع الأول
الفرع الأول إذا رأت المرأة الصفرة والكدرة، وقد تحققت أنها حائض بنزول دم الحيض المعروف فلا إشكال فيه على القول الراجح. أما لو رأت صفرة وكدرة قبل التحقق من نزول دم الحيض، فهل يحكم له بأنه دم حيض؟ وللجواب على هذا نقول: أولاً: إن كانت في وقت العادة فلا إشكال، لأن الصفرة والكدرة في زمن العادة حيض كما رجحنا. وإن كانت في غير وقت العادة، فقد نقول: بأنها ليست حيضاً، اعتباراً بأنها رأتها بعد الطهر، وقد ثبت لنا حديث: "كنا لا نعد الكدرة والصفرة شيئاً بعد الطهر". وقد يقول قائل: بأن العادة قد تتقدم، وقد تتأخر، وقد تزيد، وقد تنقص، فلماذا لا تعتبر حيضاً؟. وللجواب على هذا أن نقول: إن كانت الصفرة والكدرة مصحوبة بأوجاع العادة المعروفة لدى غالب النساء، وكانت الصفرة والكدرة متصلة بالعادة المعروفة، بحيث رأت الصفرة أو الكدرة في اليوم الأول، والثاني، وفي اليوم الثالث نزل معها دم الحيض، فإنها تعتبرها حيضاً، وإن تقدمت عن زمن العادة المعروف. أما إذا لم تكن مصحوبة بالآم العادة، أو لم يتصل بها دم الحيض، بحيث رأت صفرة أو كدرة ثم انقطعت فلا تعتبر حيضاً.
وإن شكت المرأة، فالأصل أنها طاهرة، لأن هذه الصفرة قد جاءت بعد الطهر ومن غير زمن العادة فلا تعتبر حيضاً. والله أعلم.
الفرع الثاني
الفرع الثاني قوله الصحابي: "كنا نفعل" أو "كانوا يفعلون". كقول أم عطية رضي الله عنها: "كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً". هل يكون له حكم الرفع؟ أو يكون موقوفاً؟ وهل يكون حكاية للإجماع؟ أو حكاية لأكثرهم؟ هذه مسألة اختلف فيها أهل الأصول وبُحثت في مصطلح الحديث، وسوف أشير إلى مقاصد كلامهم بإيجاز .. والأقوال فيها كالآتي: قيل: إنه مرفوع مطلقاً - يعني له حكم الرفع - قال الحافظ: "وهو الذى اعتمده الشيخان في صحيحيهما، وأكثر منه البخاري (¬1). وقيل: موقوف مطلقاً. وقيل: التفصيل بين أن يضيفه إلى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون مرفوعاً، أو لا يضيفه فلا يكون له حكم الرفع، ونسبه الحافظ إلى الجمهور (¬2). وقيل في التفصيل: الفرق بين أن يكون ذلك الفعل مما لا يخفى غالباً فيكون مرفوعاً، أو يخفى فيكون موقوفاً. وعلى تقدير كونه موقوفاً فهل هو من قبيل نقل الإجماع أو لا؟ فجزم بعضهم بأنه إن كان في اللفظ ما يشعر به مثل: كان الناس يفعلون كذا فمن قبيل الإجماع وإلا فلا. ¬
هذه عمدة الأقوال في المسألة. وأرجحها قول الجمهور بأنه: إن أضيف إلى عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو على الصحيح له حكم الرفع، وأقوى دليل في ذلك: [80] ما رواه البخاري، قال: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، قال عمرو: أخبرني عطاء سمع جابراً رضي الله تعالى عنه، قال: كنا نعزل والقرآن ينزل. ورواه مسلم (¬1). وزاد: قال سفيان: "لو كان شيء ينهى عنه لنهى عنه القرآن". قال الحافظ في الفتح: "استدلال جابر بالتقرير من الله غريب، ويمكن أن يكون استدل بتقرير الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكنه مشروط بعلمه بذلك. ويكفي في علمه به قول الصحابي إنه فعله في عهده. والمسألة مشهورة في الأصول، وفي علم الحديث، وهي: أن الصحابي إذا أضافه إلى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له حكم الرفع عند الأكثر، لأن الظاهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع على ذلك وأقره، لتوفر دواعيهم على سؤالهم إياه عن الأحكام، وإذا لم يضفه فله حكم الرفع عند قوم. وهذا من الأول، فإن جابراً صرح بوقوعه في عهده - صلى الله عليه وسلم -. وقد وردت عدة طرق تصرح باطلاعه على ذلك، والذي يظهر في أن الذي استنبط ذلك سواء كان هو جابراً أو سفيان أراد بنزول القرآن ما يقرأ، أعم من المتعبد بتلاوته أو غيره، مما يوحى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكأنه يقول: فعلناه في زمن التشريع، ولو كان حراماً لم نقر عليه .. " ¬
وأقوي دليل للمانعين من الاحتجاج.
الخ كلامه رحمه الله (¬1). قلت: الظاهر من حال الصحابة رضي الله عنهم، وحرصهم على إصابة الحق، والسؤال عنه أنهم لا يقدمون على أمر من أمور الدين والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم إلا إذا كان عالماً به، فيكون من السنة التقريرية. والذين ردوه إنما حجتهم أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطلع على ذلت حتى يكون إقراراً. وعلى التسليم أنه لم يطلع، فقد اطلع الله سبحانه وتعالى، والزمن زمن تشريع، فسكوت الوحي عن ذلك إقرار من الله سبحانه لهذا الفعل. وأقوي دليل للمانعين من الاحتجاج. [81] ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا زهير، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن معمر بن أبي حبيبة، عن عبيد بن رفاعة بن رافع، عن رفاعة بن رافع, وكان عقبياً بدرياً قال: كنت عند عمر، فقيل له: إن زيد بن ثابث يفتي الناس برأيه في المسجد، في الذي يجامع ولا ينزل. فقال: أعجل به، فأتى به، فقال: يا عدو نفسه أوقد بلغت أن تفتي فى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأيك؟! قال: ما فعلت، ولكن حدثني عمومتي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: أي عمومتك؟. قال: أبي بن كعب، وأبو أيوب، ورفاعة بن رافع. فالتفت إلي: ما يقول هذا الغلام؟. ¬
فقلت: كنا نفعله في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فسألتم عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟. قال: كنا نفعله في عهده فلم نغتسل. قال: فجمع الناس، واتفق الناس على أن الماء لا يكون إلا من الماء إلا رجلين، علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، قالا: إذا جاوز الختان الختان، فقد وجب الغسل. فقال علي: يا أمير المؤمنين، إن أعلم الناس بهذا أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل إلى حفصة، فقالت: لا علم لي. فأرسل إلى عائشة ففالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل. قال: فتحطم عمر - يعني: تغيظ - ثم قال: لا يبلغني أن أحداً فعله ولا يغتسل إلا أنهكته عقوبة (¬1). [وهذا الإسناد فيه عنعنة ابن إسحاق وهو مدلس، إلا أنه تابعه الليث عند الطبراني (¬2)، وابن لهيعة عند الطحاوي (¬3)، وبقية رجاله ثقات] (¬4). ¬
وجه الشاهد من القصة.
وجه الشاهد من القصة. أن الصحابة أو كثير منهم، وهم من أهل بدر، كانوا يرون أن الماء من الماء وكان بعضهم يفعل ذلك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك لم يأت الوحي بإنكار فعلهم، وما خالفهم من الصحابة إلا رجلان وعائشة، وكان الصواب مع هذا العدد القليل. ثم إن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين حين قال له رفاعة: كنا نفعله في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعتبر ذلك حجة، واكتفى به، بل قال: هل سألتم عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فلم ير عمر فعل الشيء في عهده - صلى الله عليه وسلم - زمن التشريع حجة إلا إذا علم بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد اطلع عليه. والذي أرى أن هذه القصة ليس فيها حجة، لأن قوله: "كنا نفعله على عهد رسول الله، من الجماع وعدم الاغتسال كان من الممكن أن يكون حجة لو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغ أحداً من الأمة بخلافه، أما وقد بلغ فلا يلزم أن يبلغ كل فرد بعينه، فهؤلاء الذين لم يغتسلوا استصحبوا حكماً سابقاً قد ثبت نسخه، وقد قام ¬
الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ بعض أفراد الأمة نسخه، فكأنه بلغ الأمة كلها. ومثل هذه القصة ما رواه البخاري: [82] , قال: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد عن أيوب، عن نافع أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يكري مزارعه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وصدرا من إمارة معاوية، ثم حدث عن رافع بن خديج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كراء المزارع، فذهب ابن عمر إلى رافع، فذهبت معه، فسأله، فقال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كراء المزارع، فقال ابن عمر: قد علمت أنا كنا نكري مزارعنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما على الأربعاء وبشيء من التبن (¬1). [83] وفي رواية له، قال: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل عن ابن شهاب، أخبرني سالم أن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كنت أعلم في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الأرض تكرى، ثم خشي عبد الله أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أحدث في ذلك شيئا لم يكن يعلمه فترك كراء الأرض (¬2). والحديث في مسلم (¬3). وجه الاستدلال: أن ابن عمر حكى عن بعض الصحابة بأنهم كانوا يكرون الأرض، ولم ¬
يكن هناك نهي من النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنه أضاف الفعل إلى زمن التشريع، واستصحب ابن عمر هذا الحكم فكان يفعله في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستمر على فعله زمن الخلفاء الراشدين من غير نكير، ثم علم فيما بعد من رافع بن خديج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن ذلك، وكون ابن عمر حين بلغه النهي ترك ذلك إنما فعله من باب: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، ولذلك كان ابن عمر إذا سئل عن ذلك قال: زعم ابن خديج أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها، ولم ينسب ذلك إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، وكما أن هذا يفهم من قوله: "زعم" ولم يقل أخبرنا، أو قال لنا. والله أعلم. ولكن الجواب عن هذا هو ما ذكرناه عن الحديث الأول، وهو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يلزمه أن يبلغ كل فرد بالأمة، فإذا بلغ من تقوم به الحجة، وتحفظ به الشريعة كفى. والذي تلخص لي أن الصحابي إذا قال: كنا نفعل، أو كانوا يفعلون، غير مضاف إلى عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يكون مرفوعاً، لأن الإقرار منه - صلى الله عليه وسلم - منتف في غير عهده - صلى الله عليه وسلم -، وهل يكون حجة؟ الجواب: إن خالف مرفوعاً لم يلتفت إليه أبداً. وإن خالف موقوفاً على صحابي آخر نظر في أدلة كل قول. وإن لم يخالف فإنه حجة لا لاعتبار كونه مرفوعاً ولكن باعتبار أنه قول لبعض الصحابة لا يعلم له مخالف، وقول الصحابة مقدم على قول غيرهم، فهم أقرب من غيرهم لفهم الشرع، وقد عاصروا الوحي، وهم أهل اللسان. وقد اختلف العلماء في عده إجماعاً.
فحكى الآمدي فى الإحكام أن جمهور العلماء يعدونه إجماعاً، لأن الصحابي إذا قال: "كانوا يفعلون كذا" فإن هذا يفيد إضافة الفعل المحكي إلى جميع أهل الإجماع من ذلك العصر، فيكون الصحابي بتلك الصيغة قد نقل لنا الإجماع، وقد ذهب إلى ذلك أبو الخطاب في التمهيد، وشيخه أبو يعلى في العدة. واختار بعض الأصوليين بأنه لا يفيد الإجماع ما لم يصرح الصحابي بنقل الإجماع عن أهله، وهم أهل الحل والعقد.
الباب الرابع: في طهارة الحائض
الباب الرابع: في طهارة الحائض ويشتمل على ثلاثة فصول، وسبعة مباحث، وتسعة فروع، وستة مسائل. الفصل الأول: في طهارة عرق الحائض وسؤرها ومخالطتها، وطهارة ثيابها. الفصل الثاني: في طهارة الحائض من الحدث. الفصل الثالث: في طهارة الحائض من دم الحيض. المبحث الأول: في نجاسة دم الحيض. المبحث الثاني: هل يتعين الماء في إزلة دم الحيض؟ المبحث الثالث: هل يجب عدد معين في غسل دم الحيض؟ المبحث الرابع: علامة الطهر عند الحائض.
الفصل الأول: في طهارة سؤر الحائض وعرقها ومخالطتها وطهارة ثيابها
الفصل الأول: في طهارة سؤر الحائض وعرقها ومخالطتها وطهارة ثيابها لا خلاف بين العلماء في طهارة جسد الحائض، وعرقها، وسؤرها، وجواز النوم معها، وأكل طبخها، وعجنها، وما مسته من المائعات، ومساكنتها من غير كراهة، إلا خلافاً لا يثبت عن ابن عباس (¬1)، وقولاً شاذاً لعبيدة السلماني (¬2). والأدلة على هذه المسألة كثيرة. الدليل الأول: [84] ما رواه مسلم، قال حدثني زهير بن حرب، حدثنا عبد الرحمن ابن مهدي، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬3)، فقال - صلى الله عليه وسلم -: اصنعوا كل شيء إلا النكاح فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير، وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ظننا أن ¬
الدليل الثاني
قد وجد عليهما، فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أنه لم يجد عليهما (¬1). وفي رواية للنسائي: "وأن يصنعوا بهن كل شيء مما خلا الجماع". [85] قال النسائي: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قال: كانت اليهود إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوهن ولم يشاربوهن ولم يجامعوهن في البيوت فسألوا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأنزل الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} الآية (¬2) فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يؤاكلوهن، ويشاربوهن، ويجامعوهن في البيوت، وأن يصنعوا بهن كل شيء ما خلا الجماع (¬3). [رجاله ثقات]. الدليل الثاني: [86] ما رواه البخاري، قال: حدثنا المكي بن إبراهيم، قال: حدثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة أن زينب بنت أم سلمة حدثته أن أم سلمة حدثتها قالت: بينا أنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مضطجعة في خميصة إذ حضت فانسللت فأخذت ¬
ثياب حيضتي. قال: أنفست؟ قلت: نعم فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة. والحديث رواه مسلم (¬1). قال النووي: "فيه جواز النوم مع الحائض، والاضطجاع معها في لحاف واحد، إذا كان هناك حائل يمنع من ملاقاة البشرة فيما بين السرة والركبة، أو يمنع الفرج وحده عند من لا يحرم إلا الفرج. قال العلماء: لا تكره مضاجعة الحائض، ولا قبلتها، ولا الاستمتاع بها فيما فوق السرة وتحت الركبة، ولا يكره وضع يدها في شيء من المائعات، ولا يكره غسلها رأس زوجها، أو غيره من محارمها، وترجيله، ولا يكره طبخها وعجنها، غير ذلك من الصنائع، وسؤرها وعرقها طاهران. وكل هذا متفق عليه، وقد نقل الإمام أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري في كتابه، في مذاهب العلماء إجماع المسلمين على هذا كله ودلائله من السنة ظاهرة مشهورة. وأما قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬2). فالمراد: اعتزال وطئهن، ولا تقربوا وطأهن". والله أعلم. اهـ (¬3). وقال ابن قدامة في المغني: كره النخعي الوضوء بسؤر الحائض، وقال جابر بن زيد: لا يتوضأ به للصلاة (¬4). قلت: السؤر هو البقية من الشيء، فلعلهما قالا ذلك: لحديث: "نهى ¬
الدليل الثالث
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء بفضل المرأة" وفضل المرأة وسؤرها بمعنى واحد، لكن لا ينبغي أن يخص هذا بالحائض، بل هو حكم معلق بالمرأة سواء كانت طاهرةً أو جنباً أو حائضاً وليس هذا موضع بحث هذه المسألة، والراجح أن النهي ليس للتحريم، وعليه فيكون تخصيص هذا بالحائض ليس سديداً. الدليل الثالث: [87] ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قالا: حدثنا وكيع، عن مسعر وسفيان، عن المقدام بن شريح عن أبيه، عن عائشة، قالت: كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على موضع فيِّ فيشرب، وأتعرق العرق، وأنا حائض، ثم أناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على موضع فيّ. ولم يذكر زهير فيشرب (¬1). قال القرطبي: قولها: "أتعرق العرْق": أي العظم الذي عليه اللحم، وجمعه عراق، وأتعرقه: آكل ما عليه من اللحم، وهذه الأحاديث متفقة الدلالة على أن الحائض لا ينجس منها شيء، ولا يجتنب إلا موضع الأذى فحسب (¬2). الدليل الرابع: [88] ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على ¬
الدليل الخامس
مالك، عن ابن شهاب، عن عمرة، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلي رأسه من المسجد، وهو مجاور، فأغسله وأنا حائض. ورواه البخاري (¬1). قال الحافظ: وهو دال على أن ذات الحائض طاهرة، وعلى أن حيضها لا يمنع ملامستها (¬2) الدليل الخامس: [89] ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب - قال: يحيى أخبرنا وقال الآخران حدثنا - حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن ثابت بن عبيد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ناوليني الخمرة من المسجد. قالت: فقلت: إني حائض. فقال: إن حيضتك ليست في يدك (¬3) ففي هذا الحديث دلالة على أنه لا ينجس من الحائض إلا موضع الأذى، فكما أن حيضتها ليست في يدها، فهي ليست في شيء من جسمها إلا موضع خروج الأذى. والله أعلم. ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: [90] ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قال زهير حدثنا وكيع، حدثنا طلحة بن يحيى، عن عبيد الله بن عبد الله، قال: سمعته عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل، وأنا إلى جنبه، وأنا حائض وعلي مرط وعليه بعضه إلى جنبه (¬1) قال النووي في شرحه لمسلم: "وفيه جواز الصلاة بحضرة الحائض، وجواز الصلاة في ثوب بعضه على المصلي وبعضه على حائض أو غيرها". الدليل السابع: [91] ما رواه أحمد (¬2) قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن جابر بن الصبح، قال: سمعت خلاساً الهجري يقول: سمعت عائشة قالت: كنت أبيت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشعار الواحد، وانا طامث حائض، فإن أصابه مني شيء غسله، لم يعدُ مكانه وصلى فيه. [إسناده صحيح] (¬3) ¬
قال ابن منظور في اللسان: "الشعار: ما ولي شعر جسد الإنسان، والجمع: أشعره، وشعر" (¬1). وفي المثل: هم الشعار دون الدثار، يصفهم بالمودة والقرب. وفي حديث الأنصار: أنتم الشعار، والناس الدثار (¬2) أي أنتم الخاصة والبطانة كما سماهم عيبته، وكرشه، والدثار: الثوب الذي فوق الشعار" اهـ. قلت: جاء في البخاري ومسلم، في قصة غسل ابنته زينب، وفي آخره: ¬
فألقى إلينا حقوه، فقال: "أشعرنها إياه" (¬1). فإذا كان الشعار هو الثوب الذي يلي الجسد، وكانت تبيت هي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شعار واحد، وهي حائض، فإما أن يقال: هذا بالنسبة لغالب الجسم، لأن عائشة لا بد أن تكون قد لبست الإزار، لأنه ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه كان لا يباشر الحائض حتى تلبس الإزار. وقد يقال: إن هذا لمن أراد أن يباشر، وهو أخص من حالة النوم. والظاهر من حال النساء إذا حضن أن يلبسن على فروجهن ما يمنع انتشار النجاسة على سائر ثيابهن. فإن قيل: هذه الأدلة يعارضها حديث عائشة، وهو: (92) ما رواه أبو داود (¬2)، قال: حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا الأشعث، عن محمد بن سيرين عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يصلي في شعرنا أو لحفنا". قال عبيد الله: شك أبي. [إسناده صحيح، والمحفوظ فيه ذكر اللحاف فقط] (¬3). ¬
والجواب عنه أحد أمرين: أولا: بأن ترك لحاف النساء مستحب، وليس بواجب، لأننا قد نقلنا قبل قليل حديث عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل، وأنا إلى جنبه، وأنا حائض وعلي مرط، وعليه بعضه. وقد اختار هذا الشوكاني، ونقله عنه أحمد شاكر في تحقيقه لسنن الترمذي فقال: "كل ذلك يدل على عدم وجوب تجنب ثياب النساء، وإنما هو مندوب فقط، عملاً بالاحتياط. وبهذا يجمع بين الأحاديث" (¬1). الثاني: أن ذلك مباح، وهو ما اختاره أحمد شاكر، فقال متعقباً لكلام الشوكاني: "لا دليل على الندب، لأنه لم يطلب ذلك في حديث نعلمه، وإنما كان تارة يفعل، وتارة يترك، وهو الجمع الصحيح بين الروايات، فهو أمر مباح". اهـ (¬2). قلت: يفيد الفعل الناقص (كان لا يصلي في لحف نسائه) أن ذلك كان ¬
على سبيل الدوام والاستمرار، وعلى الأقل: أن هذا هو الغالب من فعله - صلى الله عليه وسلم -، بينما حديث عائشة: "وعليّ مرط، وعليه بعضه" يدل على أن ذلك وقع منه، فلعله لحاجة من برد ونحوه، حيث تقاسما المرط، فالاستحباب أظهر من الإباحة وقد يقوي الاستحباب إذا كان يغلب على ظنه وقوع مذي ونحوه. وحديث: "كان لا يصلي في لحف نسائه" يدل على جواز النوم مع الحائض تحت لحاف واحد لأن توقي النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة في لحاف نسائه كان من قبيل الاحتياط مخافة أن يكون أصابه شيء من مذي، أو دم حيض، وطهارة الثوب واجبة أو شرط في صحة الصلاة، بخلاف النوم مع الحائض. والله أعلم. وبهذا نكون قد انتهينا من أدلة القول الأول في المسألة. القول الثاني: قول ابن عباس وعبيدة السلماني بوجوب اعتزال الحائض. روي هذا عن ابن عباس، ولا يثبت عنه، وروي عن عبيدة السلماني وهو شاذ، واستدلوا بما يلي: الدليل الأول: قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬1). واعتزال النساء: اعتزال لجميع بدنها. ومن باشرها لا يصدق عليه أنه اعتزلها. ¬
وأجيب: بأن الذي يوضح القرآن هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد بعثه الله سبحانه وتعالى ليبين للناس ما نزل إليهم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس عند مسلم (¬1)، وقد ذكرته بطوله: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح". وسيأتي في بحث ما يحل للرجل من امرأته استقصاء الأدلة على ذلك. الدليل الثاني: [93] أخرج عبد الرزاق (¬2)، وأحمد (¬3)، وأبو داود (¬4)، والنسائي (¬5)، وابن جرير الطبري (¬6)، والبيهقي (¬7)، واللفظ للبيهقي، رووه كلهم من طريق الزهري، عن حبيب مولى عروة بن الزبير، أن ندبة مولاة ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته أنها أرسلتها ميمونة إلى عبد الله بن عباس في رسالة، فدخلت عليه فإذا فراشه معزول عن فراش امرأته فرجعت إلى ميمونة فبلغتها رسالتها، ثم ذكرت ذلك. فقالت لها ميمونة: ارجعي إلى امرأته فسليها عن ذلك، فرجعت إليها ¬
فسألتها عن ذلك، فأخبرتها أنها إذا طمثت عزل فراشه عبد الله عنها، فأرسلت ميمونة إلى عبد الله بن عباس فتغيظت عليه. وقالت: أترغب عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوالله إن كانت المرأة من أزواجه لتأتزر بالثوب ما يبلغ أنصاف فخذيها، ثم يباشرها بسائر جسده. [إسناده ضعيف] (¬1). وعلى فرض صحته فإنه لا يتوقع من ابن عباس رضي الله عنهما أن تبلغه سنة المصطفى ثم يبقى على رأيه المخالف لفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل والمخالف لقوله. فكونه لم يعترض على ميمونة دليل منه على التسليم والقبول لما أخبرته، وإذا رجحنا رجوعه عنه لم يبق قولاً له. والله أعلم. وممن رأى هذا الرأي عبيدة السلماني: [94] فقد أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره: من طريقين، عن محمد ابن سيرين، قال: قلت لعبيدة السلماني: ما يحل لي من امرأتي إذا كانت حائضاً، قال: الفراش واحد، ¬
واللحاف شتى (¬1). [إسناده صحيح]. وهذا موقوف عليه، ولا حجة في قول أحد مع قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفعله، وقول عبيدة لا يخرق الإجماع المؤيد بالسنة الصحيحة الصريحة ما دام أن الأمر لم يثبت عن ابن عباس. بل الثابت عن ابن عباس خلافه. [95] فقد روى ابن جرير الطبري في تفسيره: من طريق محمد بن عمرو، عن محمد بن ابراهيم بن الحارث قال: قال ابن عباس: إذا جعلت الحائضُ ثوباً، أو ما يكف الأذى، فلا بأس أن يباشر جلدها زوجها (¬2) [إسناده حسن لغيره] (¬3) ¬
قال النووي: "وأما ما حكي عن عبيدة السلماني وغيره، من أنه لا يباشر شيئاً منها بشيء منه فشاذ منكر غير معروف، ولا مقبول، ولو صح عنه لكان مردوداً بالأحاديث الصحيحة المشهورة، المذكورة فى الصحيحين وغيرها من مباشرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فوق الإزار، وإذنه في ذلك بإجماع المسلمين قبل المخالف وبعده" اهـ (¬1). وقال الشوكاني: "وأما ما يروى عن ابن عباس، وعبيدة السلماني، أنه يجب على الرجل أن يعتزل فراش امرأته إذا حاضت فليس بشيء" (¬2) ¬
الفصل الثاني: في طهارة الحائض من الحدث
الفصل الثاني: في طهارة الحائض من الحدث المبحث الأول: في حكم غسل المرأة من الحيض اتفق العلماء على أن الغسل يجب من الحيض. الدلالة عليه من القرآن، والسنة، والإجماع. أما من القرآن: فقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (¬1) وجه الاستدلال: أن المرأة يلزمها تمكين زوجها من الوطء، ولا يجوز ذلك إلا بالغسل، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فإن قيل: أين الدلالة من الآية على أنه لا يجوز الوطء إلا بعد الاغتسال؟ فالجواب: أن الله سبحانه وتعالى علق الحكم بجواز إتيان الزوجة بشرطين: الأول: انقطاع الدم. ويؤخذ من قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى ¬
الدليل من السنة على وجوب الاغتسال
يَطْهُرْنَ} (¬1). فقوله: {يَطْهُرْنَ} بالتخفيف. كلمة "طهر" تستعمل فيما لا كسب فيه للإنسان وهو انقطاع دم الحيض. الشرط الثاني: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} وكلمة (تطهرن) بالتشديد: أي اغتسلن. لأن كلمة (تطهرّ) تستعمل فيما يكتسبه الإنسان بفعله، وهو الاغتسال من الماء. وسيأتي تحرير الخلاف في هذه المسألة إن شاء الله تعالى. الدليل من السنة على وجوب الاغتسال: (96) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن أبي رجاء، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: سمعت هشام بن عروة، قال: أخبرني أبي، عن عائشة رضي الله عنها، أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: إني استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال: لا، إن ذلك عرق ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي (¬2). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثم اغتسلي وصلي" أمر بالاغتسال، والأصل في الأمر الوجوب. (97) ودليل آخر رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن سلمة المرادي، حدثنا ¬
الدليل من الإجماع
عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بن شهاب، عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أم حبيبة بنت جحش ختنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحت عبد الرحمن بن عوف استحيضت سبع سنين فاستفتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن هذه ليست بالحيضة ولكن هذا عرق، فاغتسلي وصلي. قالت عائشة فكانت تغتسل في مركن في حجرة أختها زينب بنت جحش حتى تعلو حمرة الدم الماء. قال بن شهاب فحدثت بذلك أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقال: يرحم الله هنداً لو سمعت بهذه الفتيا، والله إن كانت لتبكي؛ لأنها كانت لا تصلي (¬1). وجه الشاهد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فاغتسلي وصلي". (98) وفي رواية: امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي. وأما الدليل من الإجماع: فقد نقل الإجماع جماعة، منهم الكاساني الحنفي (¬2). وقال النووي: "أجمع العلماء على وجوب الغسل بسبب الحيض، وبسبب النفاس، وممن نقل الإجماع فيهما ابن المنذر، وابن جرير الطبري وآخرون" (¬3). ونقل الإجماع ابن مفلح الحنبلي (¬4). ¬
المبحث الثاني: خلاف العلماء في الموجب للغسل
المبحث الثاني: خلاف العلماء في الموجب للغسل اختلف العلماء في الموجب للغسل: هل الموجب خروج الدم؟ أم انقطاعه؟ أم إرادة الصلاة؟ أم الموجب الجميع (خروج الدم وانقطاعه وإرادة الصلاة)؟ إلى أقوال: فقيل: الموجب للغسل خروج الدم. اختاره بعض الحنفية (¬1)، وقول العراقيين من الشافعية (¬2). وقيل: الموجب انقطاع دم الحيض. اختاره بعض الحنفية (¬3)، وأبو حامد من الشافعية (¬4)، وهو مفهوم كلام الخرقي (¬5). وقيل: الموجب للغسل خروج الدم، لكن الانقطاع شرط لصحته. وهو مذهب المالكية (¬6)، والحنابلة (¬7) ¬
دليل من قال: الموجب للغسل خروج الدم.
وقيل: الموجب للغسل إرادة القيام إلى الصلاة. اختاره بعض الحنفية (¬1)، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: الغسل يجب بمجموع خروج الدم وانقطاعه والقيام إلى الصلاة. وهو وجه في مذهب الشافعية (¬3). دليل من قال: الموجب للغسل خروج الدم. التعليل الأول: قالوا: إذا خرج الدم فقد نقض الطهارة الكبرى، وإن لم يجب الغسل مع سيلان الدم، لأنه ينافيه، فإذا انقطع أمكن الغسل. فوجوبه من أجل الحدث السابق. التعليل الثاني: أن الحيض الذي أوجب الغسل من وجهين: الأول: من حيث كونه سبباً في منع الصلاة والصيام ونحوهما. الثاني: أننا لا يمكن أن نعتبر انقطاع الدم، وهو نوع من الطهارة موجباً للطهارة، فمحال أن الطهارة توجب الطهارة، وإنما الموجب للطهارة هو النجاسة، إنما أجل الاغتسال إلى حين انقطاع الحيض، لأنه لا فائدة من الاغتسال حينئذ. ¬
دليل من قال: الموجب للغسل انقطاع الدم.
دليل من قال: الموجب للغسل انقطاع الدم. قالوا: لأن الدم ما دام باقياً لا يمكن الغسل، وما لا يمكن لا يجب. ورد عليهم: بأن الحائض يحرم عليها الصلاة والصيام بخروج الدم، ولو كان الموجب هو الانقطاع لما حرم عليها حتى ينقطع. ولأن النجاسة حصلت بخروج الدم، فوجب التطهير عنده، إذ التنجس ووجوب التطهير متلازمان. دليل من قال: يجب بإرادة القيام إلى الصلاة. ولعل ملحظ هذا القول رأى بأن الإنسان لا تجب عليه الطهارة الصغرى والكبرى إلا إذا وجب عليه فعل عبادة تشترط لها الطهارة، فإذا طهرت المرأة بعد طلوع الشمس لم يجب عليها الاغتسال إلا عند إرادة فعل صلاة الظهر في وقتها، ولعلهم ذكروا الصلاة وأرادوا بها المثال. أي ومثل الصلاة سائر العبادات التي تشترط لها الطهارة، ولأن الحدث الأصغر والأكبر إنما أمرنا بالطهارة منهما عند القيام إلى الصلاة، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ..} إلى قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬1). دليل من قال: لا يجب الغسل إلا بخروج الدم وانقطاعه والقيام إلى الصلاة. أدلته: مجموع أدلة الأقوال السابقة، وهي أن خروج الدم موجب للحدث الأكبر وانقطاعه وإرادة الصلاة موجبان للغسل كذلك. والراجح من هذه الأقوال: أن خروج الدم موجب للغسل، لكن انقطاعه ¬
شرط للصحة، وهذا الوجوب على التراخي، وليس على الفور، فإذا وجبت عبادة تشترط لها الصلاة وضاق بوقتها ولم يبق من وقتها إلا ما يكفي للغسل والصلاة وجب الغسل حينئذ. والله أعلم.
المبحث الثالث: في صفة الغسل من المحيض
المبحث الثالث: في صفة الغسل من المحيض صفة الغسل من الحيض، كصفة الغسل من الجنابة إلا في أشياء يسيرة اختلف الفقهاء فيها وسوف نأتي على أحكام الغسل من الجنابة حكماً حكماً مبيناً هل هو فرض، أو سنة؟ وخلاف العلماء في ذلك.
الفرع الأول: خلاف العلماء في حكم النية
الفرع الأول: خلاف العلماء في حكم النية اختلف العلماء هل النية شرط في الطهارة من الحيض أم لا؟ فقيل: النية شرط لطهارة الحدث الأصغر والأكبر، بالماء والتيمم. وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وهو الراجح. وقيل: سنة في طهارة الوضوء والغسل، شرط في التيمم، وهو مذهب الحنفية (¬4). وقيل: يجزئ الوضوء، والغسل، والتيمم بلا نية. وهو قول الأوزاعي (¬5). أدلة الجمهور على أن النية شرط. الدليل الأول: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ¬
الدليل الثاني
إلى أن قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬1). وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى قد شرط في صفة فعل الطهارة الصغرى والكبرى إرادة الصلاة، والشرطية ماخوذة من لفظ: "إذا" في قوله: {إِذَا قُمْتُمْ} فإذا كان قد شرط إرادة الصلاة في فعل الطهارة كان من فعله مريداً للتبرد، أو النظافة لم يفعله على الشرط الذي شرطه الله، وذلك يوجب أن لا يجزئه. وقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} (¬2). أي أردتم القيام إلى الصلاة، كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} (¬3). أى إذا أردت قراءته. قال ابن قدامة: "قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} أى للصلاة،: ما يقال: إذا لقيت الأمير فترجل: أي له. وإذا رأيت الأسد فاحذر: أي منه" (¬4). الدليل الثاني: (99) ما رواه البخاري، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني محمد بن إبراهيم أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: ¬
الدليل الثالث
سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: قال النووي: "لفظة: (إنما) للحصر، وليس المراد صورة العمل، فإنها توجد بلا نية، وإنما المراد أن حكم العمل لا يثبت إلا بالنية، ودليل آخر، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإنما لكل امرئ ما نوى" هذا لم ينو الوضوء، فلا يكون له" (¬2). وقال ابن قدامة: "نفى أن يكون له عمل شرعي بدون نية" (¬3). الدليل الثالث: قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬4). والإخلاص: إنما هو النية، والوضوء من الدين، فوجب أن لا يجزئ بغير نية. فإن قيل: ما دليلكم على أن الوضوء من الدين؟ فالجواب: (100) ما رواه مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا حبان بن ¬
هلال، حدثنا أبان، حدثنا يحيى أن زيداً حدثه، أن أبا سلام حدثه، عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك. كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها (¬1). فإذا كان الإيمان عبادة فشطره كذلك. والوضوء عبادة مستقلة رتب الشارع عليها ثواباً عظيماً، وإذا كانت عبادة كانت مفتقرة إلى نية حتى تتميز عن العادة. والدليل على أنه رتب على الوضوء ثواباً ما جاء من الأحاديث في فضل وثواب هذه العبادة ومنها (101) ما رواه مسلم، قال: حدثنا سويد بن سعيد عن مالك ابن أنس ح وحدثنا أبو الطاهر واللفظ له، أخبرنا عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن، فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيا من الذنوب (¬2). ¬
الدليل الرابع
فدل على أن الوضوء عبادة، وإذا كانت كذلك لا تصح إلا بنية، لأنها قربة إلى الله تعالى، وطاعة له، وامتثال لأمره، ولا يحصل ذلك بغير نية. الدليل الرابع: القياس على طهارة التيمم، بجامع أن كلاً منها طهارة عن حدث. الدليل الخامس: الشريعة كلها إما مطلوب أو مباح، والمباح لا يتقرب به إلى الله تعالى، فلا معنى للنية فيه، والمطلوب نواه وأوامر، فالنواهي يخرج الإنسان من عهدته وإن لم يشعر بها، فضلاً عن القصد إليها. فزيد المجهول حرم الله علينا دمه وعرضه، وقد خرجنا عن العهدة وإن لم نشعر به. نعم إن شعرنا بالمحرم ونوينا تركه حصل لنا الثواب مع الخروج من العهدة. والأوامر منها ما يكون صورة فعله كافية في تحصيل مصلحته كأداء الديون، والودائع، ونفقة الزوجات والأقارب، فإن المقصود من هذه الأمور انتفاع أربابه، وذلك لا يتوقف على قصد الفاعل، فيخرج الإنسان من عهدتها وإن لم ينوها. ومنها ما لا يكون صورة فعله كافية في حصول المقصود كالصلوات، والصيام، والنسك، فإن المقصود منها تعظيم الله تعالى والخضوع له، وذلك إنما يحصل إذا قصدت من أجله، وهذا هو الذي أمر الشرع فيه بالنيات، والطهارة من هذا الباب (¬1). ¬
أدلة من قال: إن النية مستحبة وليست بشرط.
أدلة من قال: إن النية مستحبة وليست بشرط. الدليل الأول: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} إلى قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬1). وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى أمر بالوضوء والغسل أمراً مطلقاً دون قيد النية، ولا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل، فمن غسل أعضاءه، ومسح رأسه فقد امتثل الأمر وصح وضوءه، وكذلك من غسل بدنه (¬2). الدليل الثاني: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (¬3). وجه الاستدلال: نهى الجنب عن قربان الصلاة إذا لم يكن عابر سبيل إلى غاية الاغتسال، وأطلق ولم يشترط النية، فيقتضي انتهاء حكم النهي عند الاغتسال، ولو لم يكن معه نية (¬4). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: قال تعالى بعد أن ذكر طهارة الوضوء والغسل: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (¬1). وحصول الطهارة لا يقف على النية، بل على استعمال المطهر في محل قابل للطهارة (¬2). يوضح ذلك أيضاً أن النية إن اعتبرت بجريان الماء على الأعضاء فهو حاصل نوى أو لم ينو. وإن اعتبر لإزالة الحدث المتعلق بالأعضاء فإن الخبث المتعلق بها أقوى من الحدث، وزوال هذا الأقوى لا يتوقف على النية، فكيف للأضعف. الدليل الرابع: (102) ما رواه أبو داود (¬3)، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: إن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله كيف الطهور؟. فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً، ثم مسح برأسه، وأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر اذنيه ثم غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد ¬
أساء وظلم. أو "ظلم وأساء". [إسناده حسن] (¬1). ¬
وجه الاستدلال: فهذا الرجل وهو أعرابي كما في بعض الروايات، كان يجهل الطهور، وقد سأل عن الوضوء فلو كانت النية من شرائطه التي يتوقف عليها صحة الوضوء لذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - النية له. فلما لم يذكرها علم أنها ليست بشرط. ¬
الدليل الخامس
وأجيب: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم المسيء صلاته كيفية الصلاة، ولم يذكر له النية، وقد قلتم بوجوبها للصلاة فما الفرق؟. الدليل الخامس: (103) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر كلهم، عن ابن عيينة. قال إسحاق: أخبرنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن، عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة، قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬1). وجه الاستدلال: قوله: "إنما يكفيك" ساقه مساق الحصر، ولم يذكر النية. قلت: السؤال عن الكيفية، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - لعمار (104) كما في البخاري، ومسلم (¬2) في صفة التيمم: "إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا" وذكر صفة التيمم، ولم يذكر له النية، وأنتم تقولون باشتراط النية في التيمم. ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: القياس على إزالة النجاسة، فإذا كانت طهارة الخبث لا تتوقف على نية فعدم توقف طهارة الحدث على النية أولى؛ وإنما قلنا إن طهارة الخبث أولى؛ لأن سببها وموجبها أمر حسي، وخبث مشاهد؛ ولأنه لا بدل لها من التراب، فقد ظهرت قوتها حساً وشرعاً. وأجيب: هناك فرق بين طهارة الحدث، وطهارة الخبث، فالأولى من باب فعل المأمور، ولم يكن الموجب لها نجاسة حسية، وتخصيصها بالأعضاء الأربعة في الصغرى تعبد، أما طهارة الخبث فالمطلوب التخلي منها، فهي من باب التروك، ولهذا لو صلى ناسياً حدثه أعاد، بخلاف طهارة الخبث، فما كان من باب فعل المأمور وجبت له النية كالصلاة، وما كان من باب التروك لم تجب كالنجاسة وترك الزنا ونحوهما. الدليل السابع: قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}. فإذا كان الماء خلق طهوراً، فهذه صفته وطبيعته، كما خلق الماء مروياً، وخلق مبرداً سائلاً، كل ذلك طبعه ووصفه الذي جعل عليه، فكما أنه لا يحتاج إلى النية فى حصول الري والتبريد، فكذلك في حصول التطهير، فإذا كان الماء خلق طاهراً، وطاهريته لا نتوقف على نية، فكذلك طهوريته (¬1). ¬
الدليل الثامن
الدليل الثامن: المراد من الوضوء النظافة والوضاءة، وقيام العبد بين يدي الرب تبارك وتعالى على أكمل أحواله، مستور العورة، متجنباً للنجاسة، نظيف الأعضاء وضيئها، وهذا حاصل باتيانه بهذه الأفعال، نواها أو لم ينوها، يوضحه أن الوضوء غير مراد لنفسه، بل مراد لغيره، والمراد لغيره لا يجب أن ينوى؛ لأنه وسيلة. وإنما تعتبر النية في المراد لنفسه إذ هو المقصود المراد (¬1). فالراجح قول الجمهور أن النية شرط في طهارة الحدث، وقياسها على طهارة الخبث لا يصح. ¬
الفرع الثاني: هل تشرع التسمية في غسل الحيض
الفرع الثاني: هل تشرع التسمية في غسل الحيض أما إذا توضأت قبل الغسل، فإنه لا شك عندي في مشروعية التسمية للوضوء، أما إذا لم نتوضأ فهل تسمي لغسل الحيض أم لا؟ فالحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، يستحبون لها التسمية. وأما المالكية فيجعلونها من الفضائل (¬3). وقيل: تجب التسمية: وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬4) والراجح أنها لا تشرع. دليل الجمهور على استحباب التسمية. [الدليل الأول] (*) (105) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن مبارك، عن الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله، فهو أبتر أو قال: أقطع (¬5). ¬
[إسناده ضعيف ومتنه مضطرب] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني من القياس: قالوا: إذا كانت التسمية مشروعة في الطهارة الصغرى كانت مشروعة في الطهارة الكبرى من باب أولى، لأنها صغرى وزيادة (¬1). دليل الحنابلة على وجوب التسمية. لما كان الحنابلة يوجبون التسمية في الطهارة الصغرى أوجبوها في الطهارة الكبرى من باب القياس (¬2). والراجح عندي أنها لا تشرع: ¬
أولا: الأصل في العبادات الحضر، حتى يرد دليل صحيح على المشروعية، وأحاديث الاغتسال من الجنابة ومن الحيض ليس فيها ذكر التسمية {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (¬1). واستحباب التسمية في كل شيء ليس على إطلاقه، فهناك أمور تكون التسمية فيها من البدع: كالتسمية للأذان، والتسمية للصلاة، والتسمية لرمي الجمرات، فلم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يسمي لهذه العبادات، فإذا لم ترد التسمية في غسل الجنابة لم تستحب في غسل الحيض، لأن صفة الغسل الواجبة فيهما واحدة، وقد ينفرد الحيض باستحباب بعض الأفعال الخاصة كما سيأتي إن شاء الله. وإليك بعض أحاديث الاغتسال من الحيض والجنابة، لترى أن التسمية لم ترد فيهما. الحديث الأول: (106) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن المثنى، وابن بشار، قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن إبراهيم بن المهاجر، قال: سمعت صفية تحدث، عن عائشة، أن أسماء بنت شكل سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسل المحيض؟ فقال: تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها، فَتَطهَّر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً، حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم ¬
تاخذ فرصة ممسكة فتَطَهَّرُ بها. فقالت أسماء وكيف تَطَهَّرُ بها؟ فقال: سبحان الله تطهرين بها. فقالت عائشة، وكأنها تخفي ذلك: تتبعين أثر الدم. وسألته عن غسل الجنابة؟ فقال: تأخذ ماءً فتطهر فتحسن الطهور، أو تبلغ الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تفيض عليه الماء. فقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين (¬1). ورواه البخاري بأخصر من هذا (¬2). ووجه الدلالة ظاهرة، هو أنه قد وقع هذا الحديث جواباً عن كيفية الغسل من المحيض، وقد ذكر أموراً مستحبة كالسدر، فلو كانت التسمية مشروعة لأرشد عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحديث الثاني: (107) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات ثم غسل سائر جسده. ورواه مسلم (¬3). ¬
فهذه صفة غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة وليس فيها ذكر البسملة. الحديث الثالث: (108) ما رواه مسلم، قال: حدثني علي بن حجر السعدي، حدثني عيسى بن يونس، حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، قال: حدثتني خالتي ميمونة، قالت: أدنيت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسله من الجنابة، فغسل كفيه مرتين أو ثلاثا، ثم أدخل يده فى الإناء، ثم أفرغ بها على فرجه، وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكاً شديداً، ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه، ثم غسل سائر جسده، ثم تنحى عن مقامه ذلك فغسل رجليه، ثم أتيته بمنديل فرده. ورواه البخاري (¬1). وهذا الحديث كغيره ليس فيه التسمية، فيبعد أن تكون التسمية مشروعة ثم لا تنقل من قوله - صلى الله عليه وسلم - ولا من فعله. الحديث الثالث: (109) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر كلهم، عن ابن عيينة. قال إسحاق: أخبرنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن، عبد الله بن ¬
رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأس ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬1). ¬
الفرع الثالث: في وضوء الغسل
الفرع الثالث: في وضوء الغسل المسألة الأولى: خلاف العلماء في حكم الوضوء في غسل الحيض والجنابة اختلف العلماء في حكم الوضوء في الحدث الأكبر كالحيض والجنابة. فقيل: الوضوء سنة. وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: الوضوء شرط في صحة الغسل، وهو رأي داود الظاهري (¬5). وقيل: سنة في غسل الجنابة، وليس مشروعاً في غسل الحيض. ¬
أدلة الجمهور على أن الوضوء في الغسل سنة.
وهو اختيار ابن حزم (¬1) أدلة الجمهور على أن الوضوء في الغسل سنة. الدليل الأول: لم يذكر الوضوء في القرآن، بل قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬2) ولو كان الوضوء واجباً لذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه. الدليل الثاني: (110) ما رواه البخاري من حديث طويل، في قصة الرجل الذي أصابته جنابة ولا ماء، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: خذ هذا فافرغه عليك (¬3). ولو كان الوضوء واجباً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - له، ولم يطلب منه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا مجرد إفراغه عليه. الدليل الثالث: (111) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر كلهم، عن ابن عيينة. قال إسحاق: أخبرنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن، عبد الله ابن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر ¬
الدليل الرابع
رأسي، فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬1). وجه الدلالة: عبر بـ "إنما" الدالة على الحصر، واكتفى بالإفاضة ولم يذكر الوضوء. الدليل الرابع: حكى بعضهم الإجماع على عدم وجوب الوضوء. قال الحافظ في الفتح: "قام الإجماع على أن الوضوء في غسل الجنابة غير واجب" (¬2). وقال ابن عبد البر: الله عز وجل إنما فرض على الجنب الغسل دون الوضوء، بقوله عز وجل: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (¬3) , وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬4) (¬5). ولا تصح دعوى الإجماع مع خلاف داود الظاهري. دليل داود الظاهري بأن الوضوء شرط في صحة الغسل. لعل داود الظاهري رأى أن قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬6) ¬
دليل ابن حزم على أن الوضوء لا يشرع في غسل الحيض.
فقوله سبحانه: {فَاطَّهَّرُوا} أمر، وهو مجمل، وبيانه يؤخذ من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد حافظ على الوضوء قبل الغسل، فإذا كان قوله: {فَاطَّهَّرُوا} أمر، والأصل فى الأمر الوجوب، كان الفعل الذي وقع بياناً لهذا المجمل له حكم المجمل، فيكون واجباً مثله. وهذا الاستدلال ممكن أن يسلم لو أنه لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على صحة الغسل بلا وضوء، كحديث الأعرابي، وحديث أم سلمة، وقد سقناهما في أدلة الجمهور. دليل ابن حزم على أن الوضوء لا يشرع في غسل الحيض. رأى ابن حزم أن الدليل الذي جاء فيه ذكر الوضوء في غسل الحيض كان عن طريق إبراهيم بن المهاجر وهو ضعيف. ولا يرى ابن حزم قياس الحيض على الجنابة (¬1). والحديث الذي ضعفه ابن حزم رواه ابن أبي شيبة، قال: (112) حدثنا أبو الأحوص، عن إبراهيم بن مهاجر، عن صفية ابنة شيبة، عن عائشة قالت: دخلت أسماء بنت شكل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، كيف تغتسل إحدانا إذا طهرت من المحيض؟. قال: تأخذ سدرتها وماءها فتوضأ وتغسل رأسها وتدلكه حتى تبلغ الماء أصول شعرها، ثم تفيض الماء على جسدها، ثم تأخذ فرصتها فتطهر بها. فقالت: يا رسول الله كيف أتطهر بها؟ قال: تطهري بها. قالت: عائشة: ¬
فعرفت الذي يكني عنه فقلت لها تتبعي أثر الدم (¬1). [صحيح، وذكر الوضوء فيه حسن] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المسألة الثانية: هل يكون الوضوء قبل الاغتسال أو بعده
المسألة الثانية: هل يكون الوضوء قبل الاغتسال أو بعده أما في الجنابة فالأحاديث صريحة في أن الوضوء قبل الاغتسال. وأما في الحيض فهل يكون الوضوء قبل الاغتسال أم بعده؟ فالأصل أن الحيض مقيس على الجنابة، لكن قال ابن رجب: "وقال يعقوب بن بختان: سألت أحمد عن الحائض متى تتوضأ؟ قال: إن شاءت توضأت إذا بدأت واغتسلت، وإن شاءت اغتسلت ثم توضأت. وظاهر هذا أنها مخيرة بين تقديم الوضوء وتأخيره، فإنه لم يرد في السنة تقديمه كما في غسل الجنابة، وإنما ورد في حديث أبي الأحوص عن إبراهيم بن المهاجر: (توضأ وتغسل رأسها وتدلكه) بالواو، وهي لا تقتضي ترتيباً، فيحصل من هذا أن غسل الحيض والنفاس يفارق غسل الجنابة من وجوه. أحدها: أن الوضوء فى غسل الحيض لا فرق بين تقديمه وتأخيره، وغسل الجنابة السنة تقديم الوضوء فيه على الغسل" (¬1). قلت: حديث أبي الأحوص جاء بالترتيب أيضاً في رواية أبي داود، قال: [113] حدثنا عثمان بن أبي شيبة، أخبرنا سلام بن سليم، عن إبراهيم بن مهاجر، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة، قالت: دخلت أسماء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله كيف تغتسل إحدانا إذا طهرت من المحيض؟ فقال: تأخذ سدرتها وماءها ¬
فتوضأ ثم تغسل رأسها وتدلكه حتى يبلغ الماء أصول شعرها .. وذكر الحديث (¬1). فقوله: "توضأ ثم تغسل رأسها" دليل على تقديم الوضوء على الغسل، إلا أن الحديث قد رواه البغوي من طريق أبي داود نفسه (¬2) ورواه ابن أبي شيبة، عن أبي الأحوص به (¬3) بلفظ: "توضأ وتغسل رأسها" ورواية (الواو) لا تعارض رواية (ثم) خاصة أنه قد قدم الوضوء بالذكر، وعلى فرض أن الترتيب بين الوضوء والاغتسال لم يرد في الحيض، فإنه مقيس على الجنابة. ولا أرى لها أن تتوضأ بعد الاغتسال إذا لم تتوضأ قبله؛ لأنه لم يرد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ بعد غسله من الجنابة، والغسل وحده كاف في رفع الحدث إلا إن مست فرجها فقد انتقضت الطهارة الصغرى ومس الفرج على الراجح ناقض للوضوء مطلقاً سواء كان بشهوة أم بغير شهوة. ¬
المسألة الثالثة: هل تغسل المرأة أعضاء الوضوء مرة ثانية في الاغتسال أم يكفي غسلها في الوضوء قبل الغسل.
المسألة الثالثة: هل تغسل المرأة أعضاء الوضوء مرة ثانية في الاغتسال أم يكفي غسلها في الوضوء قبل الغسل. إذا توضأت المرأة لغسل الحيض، فهل تغسل بقية بدنها دون أعضاء الوضوء؟ أو يلزمها غسل بدنها مع أعضاء الوضوء؟ فتكون غسلت أعضاء الوضوء مرتين، مرة فى الوضوء، ومرة في الغسل. هاتان مسألتان: الأولى: هل تكرر غسل أعضاء الوضوء مرة في الوضوء، ومرة في الغسل. والثانية: هل يشرع التثليث في غسل البدن، بحيث يغسل بدنه ثلاثاً عند الغسل. وسوف أناقش المسألة الأولى أعني: هل تكرر غسل أعضاء الوضوء مرة في الوضوء، ومرة في الغسل، وأما المسألة الثانية فسوف يأتي الحديث عنها في مبحث خاص. (114) فقد روى البخاري، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بين شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده. ورواه مسلم (¬1). ¬
فقولها: "ثم غسل سائر جسده" أى بقية جسده، وقد ذكر الزبيدي: أن كلمة سائر الناس: أي الباقي من الناس (¬1). وله شاهد من حديث ميمونة من رواية مسلم له، في صفة غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة. (115) وفيه: "ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه، ثم غسل سائر جسده" (¬2). ¬
وقال ابن رجب: الجنب له حالتان: إحداهما: أنه لا يلزمه سوى الغسل، وهو من أجنب من غير أن يوجد منه حدث أصغر، فهذا لا يلزمه أكثر من الغسل، فإن بدأ بأعضاء الوضوء فغسلها لم يلزمه سوى غسل بقية بدنه بغير تردد، وينوي بوضوئه الغسل لا رفع الحدث الأصغر، وهو ظاهر. الثاني: أن يجتمع عليه حدث أصغر وجنابة، كأن يحدث، ثم يجنب، فهل يتداخل الوضوء مع الغسل أم لا؟ في ذلك خلاف بين العلماء. اهـ بتصرف (¬1). قلت: وملخص الأقوال في المسألة كالآتي: قيل: إذا نوى الطهارة الكبرى، أجزأه عن نية الطهارة الصغرى. وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3). وقيل: يجزئ ولو لم ينو أحدهما، باعتبار أن النية ليست بشرط. وهو مذهب الحنفية (¬4). ¬
وقيل: لا تتداخل الطهارتان الكبرى والصغرى إلا بنية، فعلى هذا إما أن يتوضأ قبل الغسل أو ينوي بغسله الطهارة من الحدثين. وهو مذهب الحنابلة (¬1)، ووجه في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: يجب الوضوء، إما قبل الغسل وإما بعده، ولا تتداخل النيتان، وسواء وجد منه الحدث الأصغر أو لم يوجد. وهو رواية في مذهب أحمد (¬3)، ووجه في مذهب الشافعية (¬4). وعلى هذه الرواية تغسل أعضاء الوضوء مرتين، مرة في الوضوء، ومرة في الغسل. وقيل: يجب الوضوء وغسل بقية البدن. وهو وجه في مذهب الشافعية (¬5). وفرق ابن حزم بين غسل الجنابة وبين غيره كغسل الجمعة ونحوها فقال في غسل الجنابة: إذا نوى الوضوء أجزأه، وإن لم ينوه لم يجزه، وقال في غيره ¬
دليل القائلين بأن نية الطهارة الكبرى تجزئ عن نية الطهارة الصغرى.
من الاغتسالات: لا بد أن يأتي بالوضوء مفرداً بنية الوضوء (¬1). هذا ملخص الأقوال في المسألة، وإليك الأدلة. دليل القائلين بأن نية الطهارة الكبرى تجزئ عن نية الطهارة الصغرى. الدليل الأول: قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (¬2). وجه الاستدلال: جعل الله سبحانه وتعالى الغسل غاية المنع من الصلاة، فإذا اغتسل يجب ألا يمنع منها، ولو كانت نية الحدث الأصغر شرطاً لذكرها سبحانه. الدليل الثاني: (116) ما رواه البخاري من حديث عمران بن حصين الطويل، وفيه: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي أصابته جنابة "خذ هذا فأفرغه عليك" (¬3). وجه الاستدلال: أن هذا الرجل كان يجهل التيمم حتى أخبره - صلى الله عليه وسلم -، فلو كانت نية الحدث الأصغر شرطاً لأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن جهله بذلك قد يكون أولى من جهله ¬
الدليل الثالث
مشروعية التيمم. الدليل الثالث: (117) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر كلهم، عن ابن عيينة. قال إسحاق: أخبرنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن، عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟. قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما يكفيك" فهذا دليل على الحصر، وقوله: "فتطهرين" الطهارة هنا مطلقة، فتشمل جميع أنواعها، الصغرى والكبرى، فدل على أن فعلها هذا يجزئ في حصول الطهارة ولو كانت نية الحدث الأصغر شرطاً لبينه لها النبي - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الرابع: (118) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حجين بن المثنى، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سليمان بن صرد، عن جبير بن مطعم قال: ¬
الدليل الخامس
تذاكر غسل الجنابة عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما أنا فآخذ ملء كفي ثلاثاً، فأصب على رأسي، ثم أفيضه بعد على سائر جسدي (¬1). وقد صرح أبو إسحاق بالتحديث عند البخاري (¬2). الدليل الخامس: (119) ما رواه عبد الرزاق (¬3) , عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير. [حديث حسن] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل السادس
وجه الاستدلال من الحديث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: فليمسه بشرته ولم يذكر اشتراط نية الحدث الأصغر، فإذا مسه بشرته فقد تطهر. الدليل السادس: قال ابن عبد البر: "المغتسل من الجنابة إذا لم يتوضأ، وعم جميع جسده ورأسه، ويديه ورجليه، وسائر بدنه بالماء، وأسبغ ذلك وأكمله بالغسل، ومرر يديه، فقد أدى ما عليه إذا قصد الغسل ونواه، وتم غسله، لأن الله عز وجل إنما فرض على الجنب الغسل دون الوضوء بقوله عز وجل: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (¬1). وبقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬2). قال: وهذا إجماع لا خلاف فيه بين العلماء" (¬3). ¬
الدليل السابع
وقال في الفتح: "نقل ابن بطال الإجماع على أن الوضوء لا يجب مع الغسل. قال الحافظ: "وهو مردود، فقد ذهب جماعة منهم أبو ثور، وداود وغيرهما إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للحدث" (¬1). الدليل السابع: من حيث التعليل، قالوا: بأنهما عبادتان من جنس واحد، فتدخل الصغرى في الكبرى كما لو حج قارناً. وهذا هو القول الراجح. دليل الحنفية بأن نية الحدث الأصغر والأكبر ليست واجبة. ذكرت أدلة الحنفية في خلاف العلماء عن حكم النية في الاغتسال من الحيض، وأجبت عنها، فارجع إليها، فلا داعي لإعادتها. دليل الحنابلة على وجوب الوضوء أو نيته في غسل الحيض. (120) ما رواه البخاري حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على المنبر، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه (¬2). ¬
دليل من قال لا يجب غسل أعضاء الوضوء مرة أخرى.
وجه الاستدلال: أنه إذا لم ينو الحدث الأصغر لم يصح منه، لأن الحديث صريح بأن صحة الأعمال متوقفة على النية، وأن لكل امرئ ما نوى، وما دام أنه لم ينوه فكيف يحسب له عمل. واستثنوا الموت، فإنه يجب غسل الميت، والوضوء في غسله سنة فقط. وعللوا هذا الاستثناء: بأن غسل الميت تعبد، وليس عن حدث، لأنه لو كان حدثاً لم يرتفع مع بقاء سببه كالحائض لا تغتسل مع جريان الدم، وليس غسل الميت عن نجاسة، لأنه لو كان عنه لم يطهر مع بقاء سبب التنجيس، وهو الموت، وكون الوضوء مستحباً في حق الميت (121) لما رواه البخاري، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثنا خالد، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية، قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهن في غسل ابنته: ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها. ورواه مسلم (¬1). دليل من قال لا يجب غسل أعضاء الوضوء مرة أخرى. استدلوا بدليلين: أثري ونظري. (122) الأول: ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، ¬
الدليل الثاني
عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيديه شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده (¬1). وقد قدمت أن كلمة: "سائر جسده"، تعني: بقية جسده. الدليل الثاني: قد يستدل له بأنه لا يمكن رفع الحدث الأصغر والأكبر باق، وعليه فتكون نيته في الوضوء، هي نية الغسل، وإنما بدأ بمواضع الوضوء لشرفها، وإذا كانت نيته هي الغسل لم يحسن تكرار غسل مواضع الوضوء، لأن الحدث قد ارتفع عنها، ولا يشرع التكرار إلا في حق الرأس. والفرق بين أن يتوضأ بنية رفع الحدث الأصغر، وبين أن يغسل أعضاء الوضوء بنية الغسل أنه لو أحدث أثناء الوضوء فمن قال: يتوضأ بنية رفع الحدث عليه أن يعيد الوضوء إذا أراد أن يأتي بسنة الوضوء، أما من قال: أنه مجرد تقديم أعضاء الوضوء لشرفها، والنية هى نية الغسل فإنه لو أحدث في أثنائه بنى. قال النووي: "لم يذكر الجمهور ماذا ينوي بهذا الوضوء، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: لم أجد فى مختصر ولا مبسوط تعرضاً لكيفية نية هذا الوضوء إلا لمحمد بن عقيل الشهرزوري فقال: يتوضأ بنية الغسل، قال: إن كان جنباً من ¬
دليل ابن حزم في التفريق بين غسل الجنابة وبين غيره.
غير حدث أصغر فهو كما قال (¬1)، وإن كان جنباً محدثاً كما هو الغالب، فينبغي أن ينوي هذا بوضوئه هذا رفع الحدث الأصغر، لأنا إن أوجبنا الجمع بين الوضوء والغسل فظاهر، لأنه لا يشرع وضوءان، فيكون هذا هو الواجب، وإن قلنا بالتداخل كان فيه خروج من الخلاف" (¬2). دليل ابن حزم في التفريق بين غسل الجنابة وبين غيره. قال ابن حزم: "وأما غسل الجنابة والوضوء فإنه أجزأ فيهما عمل واحد بنية واحدة لهما جميعاً، للنص الوارد في ذلك، ثم ذكر حديث ميمونة من رواية مسلم له وفيه: ثم غسل سائر جسده، فقال: فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعد غسل أعضاء الوضوء فى غسله للجنابة، ونحن نشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ضيع نية كل عمل افترضه الله عليه، فوجب ذلك فى غسل الجنابة خاصة، وبقيت سائر الاغسال على حكمها. اهـ (¬3). يعني: فلا يجزئ عمل واحد عن عملين أو عن أكثر. ويناقش ابن حزم فى كون نية الحدث الأصغر فرضاً من حديث ميمونة، ¬
فلا يستطيع أن يثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد نوى الحدث الأصغر، وإذا لم يثبت ذلك فليس في الحديث حجة له. والله أعلم. الراجح: بعد استعراض الأقوال والأدلة أجد أن القول بأن نية الحدث الأكبر تكفي عن نية الحدث الأصغر أقوى من حيث الدليل، والله أعلم (¬1). ¬
المسألة الرابعة: في حكم المضمضة والاستنشاق في غسل الحيض إذا لم تتوضأ
المسألة الرابعة: في حكم المضمضة والاستنشاق في غسل الحيض إذا لم تتوضأ إذا رجحنا بأن الوضوء ليس بواجب في غسل الجنابة والحيض، فهل المضمضة والاستنشاق واجبان فيهما، أو حكمهما حكم الوضوء باعتبار أنهما جزء من الوضوء. هذه مسألة اختلف فيها العلماء: فقيل: المضمضة والاستنشاق واجبان في الغسل مسنونان في الوضوء وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: مسنونان فيهما. وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3). وقيل: واجبان في الطهارتين الصغرى والكبرى. وهو مذهب الحنابلة (¬4). ¬
أدلة القائلين بأن المضمضة والاستنشاق واجبان في الغسل مسنونان في الوضوء.
وقيل: واجبان في الوضوء دون الغسل (¬1). وقيل: الاستنشاق واجب فيهما، والمضمضة سنة (¬2). أدلة القائلين بأن المضمضة والاستنشاق واجبان في الغسل مسنونان في الوضوء. الدليل الأول: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬3) وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى أمر بتطهير جميع البدن من المكلف، فيدخل كل ما يمكن الإيصال إليه إلا ما كان فيه حرج ومشقة كداخل العينين، والقلفة، لنفي الحرج عن هذه الملة ولا حرج فى داخل الفم والأنف، فشملهما نص الكتاب من غير معارض، ولهذا افترض غسلهما عن النجاسة الحقيقية، فيفترض أيضاً في غسل الجنابة والحيض (¬4). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (123) ما رواه أبو داود (¬1) قال: حدثنا نصر بن علي، أخبرنا الحارث بن وجيه، حدثنا مالك بن دينار، عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر، وأنقوا البشرة". [الحديث إسناده ضعيف] (¬2). ¬
وجه الاستدلال عندهم: أن الأنف لا يخلو من شعر، فيجب إيصال الماء إلى أصول هذا الشعر، لأن ¬
الدليل الثالث
تحت كل شعرة جنابة، وقوله: "وأنقوا البشرة" ففي الفم بشرة، وعليه فيجب ايصال الماء إلى داخل الفم، وهذا يعني: وجوب المضمضة والاستنشاق. وأجيب: بأن الحديث ضعيف، ولو صح لحمل على الشعر النابت على البشرة الظاهرة. وقوله: "وأنقوا البشرة" أي البشرة الظاهرة. الدليل الثالث: (124) ما رواه الدارقطني (¬1) , من طريق بركة بن محمد، أخبرنا يوسف ابن أسباط، عن سفيان الثوري، عن خالد الحذاء، (عن ابن سيرين) (¬2) , عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثاً فريضة. [الحديث موضوع] (¬3). ¬
الدليل الرابع
ومتنه يدل عليه، فإنه المضمضة والاستنشاق ثلاثاً فريضة، ومعلوم أن الواجب على صحة القول به مرة إجماعاً. الدليل الرابع: (125) ما رواه أحمد (¬1) , قال: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن زاذان، عن علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله: من ترك موضع شعرة من جنابة لم يصبها ماء، فعل الله به كذا وكذا من النار. قال علي: ومن ثم عاديت شعري. [المرفوع ضعيف، وصُحح وقفه] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الخامس
وجه الاستدلال: قوله: "من ترك موضع شعرة .. "، فكلمة "شعرة" نكرة في سياق الشرط، فيعم كل شعرة، حتى شعر الأنف. وأجيب: بأن الحديث ضعيف، وعلى فرض صحته فإنه محمول على الشعر الظاهر، ولذلك قال علي بن أبي طالب: ومن ثم عاديت شعر رأسي. الدليل الخامس: قالوا: الفم والأنف عضوان يجب غسلهما من النجاسة، فكذا من الجنابة كما في الأعضاء. وأجيب بما يلي: قال النووي: "هذا منتقض بداخل العين، أما قولهم: داخل الفم والأنف ¬
أدلة القائلين بأن المضمضة والاستنشاق سنة في غسل الحيض والجنابة.
في حكم ظاهر البدن، بدليل عدم الفطر، ووجوب غسل نجاستهما. فجوابه: أنه لا يلزم من كونهما في حكم الظاهر في هذين الأمرين أنه يجب غسلهما، فإن داخل العين كذلك بالاتفاق، فإنه لا يفطر بوضع طعام فيها، ولا يجب غسلها في الطهارة، ويحكم بنجاستها بوقوع نجاسة فيها. وأما قول: لا تنجس العين عند أبي حنيفة، فإنه لا يوجب غسلها. قال الشيخ أبو حامد: قلنا هذا غلط، فإن العين عنده تنجس، وإنما لا يجب غسلها عنده لكون النجاسة الواقعة فيها لا تبلغ قدر درهم ...... " الخ كلامه رحمه الله (¬1) أدلة القائلين بأن المضمضة والاستنشاق سنة في غسل الحيض والجنابة. استدلوا بأدلة كثيرة سقناها في مسألة: هل تكفي نية الطهارة الكبرى، عن نية الطهارة الصغرى، وذكرنا تلك الأدلة للاحتجاج للمالكية والشافعية على أن نية الطهارة الكبرى كافية في رفع الحدثين: الأصغر والأكبر. ومن تلك الأدلة: قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (¬2). ولم يذكر مضمضة ولا استنشاقاً. (126) ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمران بن حصين الطويل للرجل الذي أصابه جنابة ولا ماء: فناوله الرسول - صلى الله عليه وسلم - ماءً، وقال له: "اذهب فأفرغه عليك". ¬
رواه البخاري (¬1). (127) ومنها ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر كلهم عن ابن عيينة - قال إسحاق أخبرنا سفيان - عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة، قالت: قلت: يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة قال لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬2). (128) وحديث أبي ذر رضي الله عنه مرفوعاً: الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته. [وهو حديث حسن]، ولم يطلب مضمضة ولا استنشاقاً (¬3). وإذا كان الوضوء ليس واجباً في الطهارة الكبرى، فكذلك المضمضة والاستنشاق لأنهما جزء منه. ولا يقال: إذا وجبت المضمضة والاستنشاق في الطهارة الصغرى وجبت في الطهارة الكبرى من باب أولى، لأن هناك فروضاً في الطهارة الصغرى لا تجب في الكبرى كالترتيب، والموالاة، وهذا القول هو الراجح. والله أعلم. ¬
دليل من قال: بوجوب المضمضة والاستنشاق في الطهارتين الصغرى والكبرى.
دليل من قال: بوجوب المضمضة والاستنشاق في الطهارتين الصغرى والكبرى. هذا القول هو مذهب الحنابلة، ولما كان دليل الحنابلة في وجوب المضمضة والاستنشاق في الطهارة الكبرى اعتماداً على وجوبهما في الطهارة الصغرى أصبحت مضطراً لذكر أدلتهم على وجوب المضمضة الاستنشاق في الطهارة الصغرى لينظر أولاً هل يصح القول بوجوبهما في الطهارة الصغرى؟ وإذا صح هل يسلم لهم قياس الكبرى على الصغرى؟ وإليك أدلتهم. الدليل الأول: (129) ما رواه أبو داود (¬1)، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد في آخرين، قالوا: ثنا يحيى بن سليم عن إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط بن صبرة، عن أبيه لقيط بن صبرة قال: كنت وافد بني المنتفق - أو في وفد بني المنتفق - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم نصادفه في منزله وصادفنا عائشة أم المؤمنين قال: فأمرت لنا بخزيرة فصنعت لنا، قال: وأتينا بقناع - ولم يقل قتيبة القناع - والقناع الطبق فيه تمر ثم جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هل أصبتم شيئا، أو أمر لكم بشيء، قال: قلنا: نعم يا رسول الله قال فبينا نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جلوس إذ دفع الراعي غنمه إلى المراح ومعه سخلة تيعر، فقال: ما ولدت يا فلان؟ قال: بهمة، قال: فاذبح لنا مكانها شاة، ثم قال: لا تحسِبن ولم يقل لا تحسَبن أنا من أجلك ذبحناها لنا غنم مائة لا نريد أن تزيد فإذا ولد الراعي بهمة ¬
ذبحنا مكانها شاة، قال: قلت: يا رسول الله إن لي امرأة وإن في لسانها شيئا يعني البذاء، قال: فطلقها إذاً. قال: قلت يا رسول الله إن لها صحبة، ولي منها ولد قال: فمرها يقول عظها فإن يك فيها خير فستفعل، ولا تضرب ظعينتك كضربك أميّتك. فقلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء. قال: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما. الشاهد من هذا الحديث الطويل، قوله "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً". وفي رواية لأبي داود، وزاد فيه: "إذا توضأت فمضمض" (¬1). [الحديث صحيح والزيادة شاذة] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (130) ما رواه الدارقطني، قال: ثنا أبو بكر بن أبي داود، ثنا الحسين بن علي بن مهران، نا عصام بن يوسف، نا عبد الله بن المبارك، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن الزهري، عن عروة عن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لا بد منه (¬1). [ضعيف، وروي عن سليمان بن موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وهو على ضعفه أرجح من المتصل] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (131) ما رواه الدارقطني: حدثنا علي بن الفضل بن طاهر البلخي، نا أحمد بن حمدان العائذي أبو الحسن الأنطاكي، نا الحسين بن الجنيد الدامغاني - وكان رجلاً صالحاً - نا علي بن يونس عن إبراهيم بن طهمان، عن جابر، عن ¬
عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لا يتم الوضوء إلا بهما، والأذنان من الرأس" (¬1). [الحديث ضعيف جداً] (¬2). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (132) ما رواه الدارقطني، من طريق هدبة بن خالد، وداود بن المحبر، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمضمضة والاستنشاق (¬1). [ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: أحاديث الأمر بالاستنشاق، هي دليل على وجوب الاستنشاق صراحة والمضمضة ضمناً، لأنهما كالعضو الواحد. فإيجاب أحدهما إيجاب للآخر. ألا ترى أنه لا يفصل بين المضمضة والاستنشاق، ومن عادة الأعضاء المستقلة في الوضوء ألا ينتقل إلى عضو حتى يفرغ من العضو الذي قبله،
بخلاف المضمضة والاستنشاق فإنه يمضمض ثم يستنشق ثم يرجع إلى المضمضة فالاستنشاق وهكذا. فهذا يدل على أنهما في حكم العضو الواحد، فالأمر بأحدهما أمر بالآخر. ومن الأحاديث الآمرة بالاستنشاق والاستنثار: (133) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر، ومن استجمر فليوتر وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده. (134) وفى رواية لمسلم، قال: حدثني محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق ابن همام، أخبرنا معمر، عن همام بن منبه، قل: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر أحاديث منها وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء ثم لينتثر" (¬1). وحاول النووي أن يحمل الأمر على الاستحباب، مع أنه خلاف الأصل، فقال: "من لم يوجبه حمل الأمر على الندب، بدليل أن المأمور به حقيقة وهو الانتثار ليس بواجب بالاتفاق، فإن قالوا: ففي الرواية الأخرى: إذا توضأ فليستنشق بمنخريه من الماء ثم لينتثر، فهذا فيه دلالة ظاهرة للوجوب، لأن حمله على الندب محتم ليجمع بينه وبين الأدلة الدالة على الاستحباب". ¬
وتعقب الشوكاني في النيل (¬1) "دعوى النووي حكاية الإجماع على أن الانتثار ليس بواجب فقال: "ذهب أحمد، وإسحاق، وأبو عبيد وأبو ثور، وابن المنذر، ومن أهل البيت الهادي، والقاسم، والمؤيد بالله إلى وجوب المضمضة والاستنشاق والاستنثار، وبه قال ابن أبي ليلى، وحماد بن سليمان". ثم قال الشوكاني: "وما نقل من الإجماع على عدم وجوب الاستنثار متعقب بهذا" (¬2). قلت: يسلم بوجوب الاستنشاق للأمر به، لكن لا يسلم قياس المضمضة على الاستنشاق، فإن الأنف يحتاج إلى التنظيف أكثر من الفم، وهو موضع أذى، وهو بمثابة منق للهواء، مما يحمله من أتربة وغبار، فيحتاج إلى تعاهده بالتنظيف، ولذلك أمر المسلم إذا استيقظ من نوم الليل كما في الصحيحين أن يستنثر ثلاثاً، بينما الفم هو نظيف أبداً بما فيه من اللعاب، ولذا لم أقف على حديث صحيح يأمر بالمضمضة بخلاف الاستنشاق. هذه أدلة الحنابلة على وجوب المضمضة والاستنشاق، ورأينا أن الأدلة على وجوب المضمضة ضعيفة، فإذا كانت كذلك فلا يصح قياس الحدث الأكبر ¬
دليل من قال بوجوب الاستنشاق دون المضمضة.
على الحدث الأصغر، على أنها لو كانت الأدلة صحيحة وسالمة من القدح لم يسلم لهم قياس الحدث الأكبر على الأصغر، فإن هناك فروضاً في الحدث الأصغر لا تجب في الحدث الأكبر، والعكس، وجميع أحاديث الغسل ليس فيها الأمر في المضمضة والاستنشاق، ولو كانا واجبين لبينه الرسول - صلى الله عليه وسلم -. دليل من قال بوجوب الاستنشاق دون المضمضة. (135) استدلوا بما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ثم لينثر. ورواه مسلم (¬1). قال ابن المنذر: "والذي به نقول: إيجاب الاستنشاق خاصة دون المضمضة، لثبوت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالاستنشاق، ولا نعلم في شيء من الأخبار أنه أمر بالمضمضة" (¬2). وقال ابن عبد البر: "وحجة من فرق بين المضمضة والاستنشاق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل المضمضة ولم يأمر بها، وأفعاله مندوب إليها، ليست بواجبة إلا بدليل، وفعل الاستنثار وأمر به، وأمره على الوجوب أبداً، إلا أن يتبين غير ذلك من مراده". اهـ. (¬3) وهذا القول هو أسعد الأقوال بالوقوف عند النص وعدم تجاوزه إلى غيره، ¬
دليل من قال: المضمضة والاستنشاق واجبان في الوضوء سنة في الغسل.
إلا أنه يصح في الوضوء دون الغسل، ووجوب الاستنشاق في الوضوء لا يصح دليلاً على وجوبه في الغسل. فتأمل. دليل من قال: المضمضة والاستنشاق واجبان في الوضوء سنة في الغسل. أدلة هذا القول مركبة من أدلة قولين قد سبقا. فأدلتهم على وجوب المضمضة والاستنشاق في الوضوء هي أدلة الحنابلة، وأدلتهم على كونها سنة في الغسل هي أدلة المالكية والشافعية. والراجح عندي أن المضمضة سنة في الوضوء والغسل، وأما الاستنشاق فواجب في الوضوء سنة في الغسل، هذا ما تدل عليه النصوص، أما القياس في العبادات والتكلف بإلحاق المضمضة بالاستنشاق فلا يقوم على أصل صحيح. والله أعلم.
المسألة الخامسة: إذا توضأت المرأة لغسل الحيض فهل تمسح رأسها أم تغسله
المسألة الخامسة: إذا توضأت المرأة لغسل الحيض فهل تمسح رأسها أم تغسله وهذه المسألة هي مقيسة على غسل الجنابة. فإذا توضأ المجنب وبلغ في الوضوء رأسه فهل يمسحه؟ أو لا داعي لمسحه ما دام أنه سوف يغسله ويكتفي بغسله؟ أما الوضوء بدون اغتسال فالمشروع فيه المسح، واختلفوا: هل يجزئ الغسل؟ على ثلاثة أقوال: الجواز مع الكراهة، والمنع مطلقاً، والجواز إن مر بيده على رأسه وليس هذا موضع بحثها. أما في الاغتسال للجنابة والحيض. فالحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، يرون مسح الرأس ¬
لأنهم يرون إتمام الوضوء قبل غسل الرأس وإفاضة الماء. وذكر ابن رجب: عن ابن عمر بأنه لا يمسح رأسه، بل يصب عليه الماء صباً ويكتفي بذلك، ونص عليه إسحاق (¬1)، ونقله أبو داود عن أحمد كما في المسائل (¬2). وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة (¬3)، ورواية ابن وهب عن مالك (¬4). ولم يأت دليل صريح بمسح الرأس في الوضوء، وإنما الأدلة إما أن تذكر بأنه توضأ وضوءه للصلاة، وهذا مجمل، أو تذكر بأنه توضأ غير رجليه، وهذا الاستثناء قد يكون فيه دلالة على مسح الرأس، وقد يكون الراوي لم يستثن الرأس لأنه قد غسل وهو مسح وزيادة، وأما الأحاديث التي تأتي صريحة بذكر الوضوء مفصلاً فإنها تذكر غسل الرأس بدل مسحه، فهل يقال إن في الرأس صفتين: له أن يمسحه ثم يغسله، وله أن يكتفي بغسله. أو يقال يجب رد الأحاديث المجملة بذكر الوضوء إلى الأحاديث التي فصلت الوضوء وذكرت غسل الرأس ولم تذكر مسحه، المسألة محتملة، وإن كنت أميل إلى الاقتصار على غسل الرأس، لأنه لا معنى لمسحه وهو سوف ¬
يغسل فرضاً. (136) وهذا نص حديث ميمونة كما رواه البخاري، قال: حدثنا موسى ابن إسماعيل، قال: حدثنا عبد الواحد، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، قال: قالت ميمونة رضي الله عنها: وضعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ماء للغسل، فغسل يديه مرتين أو ثلاثاً، ثم أفرغ على شماله، فغسل مذاكيره، ثم مسح يده بالأرض، ثم مضمض واستنشق، وغسل وجهه ويديه، ثم أفاض على جسده، ثم تحول من مكانه فغسل قدميه (¬1). وهو في مسلم (¬2) بغير هذا اللفظ. وأما حديث عائشة ففيه: "توضأ وضوءه للصلاة" فحملها بعضهم على أن المراد الوضوء الكامل بما في ذلك مسح الرأس. (137) لما رواه البخاري، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليها الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده رواه البخارى واللفظ له ومسلم (¬3). ¬
فقولها: "توضأ وضوءه للصلاة". قد يراد به الوضوء الكامل، وقد يقال باعتبار الأغلب، فهذه ميمونة رضي الله عنها تقول: "توضأ وضوءه للصلاة". والمراد غير رجليه. فإذا صح إطلاق الوضوء على غسل جميع أعضاء الوضوء غير الرجلين، صح إطلاق الوضوء على الوضوء الكامل غير الرجلين والرأس، خاصة أن الرأس لم يترك بل غسل غسلاً وهو مسح وزيادة، وكوننا نحمل حديث عائشة على حديث ميمونة في صفة غسل الرأس أولى من حمله على صفتين، خاصة أننا لم نقف على حديث واحد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصرح بالمسح للرأس. والله أعلم. وحديث ميمونة الذي فيه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ وضوءه للصلاة وتبين أنه لم يغسل رجليه إلا في آخر غسله رواه البخارى، (138) قال البخاري: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة فغسل فرجه بيده، ثم دلك بها الحائط، ثم غسلها، ثم توضأ وضوءه للصلاة، فلما فرغ من غسله غسل رجليه. رواه البخاري اللفظ له ومسلم (¬1). فإذا صح أن تقول ميمونة: توضأ وضوءه للصلاة والمراد غير رجليه صح أن قول عائشة: "توضأ وضوءه للصلاة" أي وغسل رأسه بدل مسحه، وحمل ما ¬
أجمل من حديث عائشة على ما فسر من حديث ميمونة. بل جاء الوضوء مفصلاً عند أحمد (¬1) بسند حسن من حديث عائشة وصرحت بغسل الرأس بدل مسحه. ¬
المسألة السادسة: هل يسن في وضوء الغسل غسل الأعضاء ثلاثا.
المسألة السادسة: هل يسن في وضوء الغسل غسل الأعضاء ثلاثاً (¬1). فقيل: يسن في وضوء الغسل أن يكون ثلاثاً ثلاثاً. وهو مذهب الحنفية (¬2) , والشافعية (¬3) , والحنابلة (¬4)، وبه قال سفيان الثوري (¬5)، وإسحاق بن راهويه (¬6)، ووجه في مذهب المالكية (¬7). وقيل: يتوضأ مرة مرة، وهو وجه في مذهب المالكية (¬8). وقل ابن رجب: لم ينص أحمد إلا على تثليث غسل كفيه ثلاثاً وعلى تثليث ¬
دليل الجمهور على استحباب التثليث في وضوء الغسل من الحدث الأكبر.
صب الماء على الرأس (¬1). وهذه المسألة غير التثليث في غسل البدن. دليل الجمهور على استحباب التثليث في وضوء الغسل من الحدث الأكبر. (139) ما رواه أحمد (¬2) , قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عطاء ابن السائب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يغتسل من جنابة يغسل يديه ثلاثاً، ثم يأخذ بيمينه ليصب على شماله، فيغسل فرجه حتى ينقيه، ثم يغسل يده غسلاً حسناً، ثم يمضمض ثلاثاً، ويستنشق ثلاثاً، ويغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً، ثم يصب الماء على رأسه ثلاثاً، ثم يغتسل، فإذا خرج غسل قدميه (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل من قال: الوضوء في الغسل مرة مرة إلا الكفين والرأس.
دليل من قال: الوضوء في الغسل مرة مرة إلا الكفين والرأس. أما دليل من استحب تثليث الكفين والرأس فقط دون أعضاء الوضوء. فقد استدلوا بحديث ميمونة في البخاري. (140): قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا عبد الواحد، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، قال: قالت ميمونة رضي الله عنها: وضعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ماء للغسل، فغسل يديه مرتين أو ثلاثاً، ثم أفرغ على شماله، فغسل مذاكيره، ثم مسح يده بالأرض، ثم مضمض واستنشق، وغسل وجهه ويديه، ثم أفاض على جسده، ثم تحول من مكانه فغسل قدميه. رواه ¬
البخاري ومسلم واللفظ للبخاري (¬1). فصار عندنا الآن: أولاً: غسل الكفين قبل البداءة بالوضوء. وثانيا: أعضاء الوضوء ما عدا الرأس. ثالثا: الرأس. أولاً: السنة في غسل الكفين. أما الكفان فالمشروع في حقهما غسلهما ثلاثاً كما في حديث عائشة عند مسلم، من طريق وكيع حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة فبدأ فغسل كفيه ثلاثاً .. الحديث (¬2). وفي حديث ميمونة السابق: "فغسلهما مرتين أو ثلاثاً". ثانياً: السنة في أعضاء الوضوء ما عدا الرأس. أما أعضاء الوضوء ما عدا الرأس فيغسلان مرة واحدة كما قدمنا من حديث ميمونة .. حيث لم تذكر التثليث إلا في الكفين والرأس. ومعنى ذلك أن ما عداهما كان الغسل مرة واحدة. والذي يجعلنا نرجح أنه لا يثلث في وضوء الغسل، لأننا نقول لا يشرع في غسل البدن من الجنابة التثليث إلا في الرأس على الراجح من أقوال أهل العلم. ¬
وإذا سلم هذا، فإن الوضوء كذلك لا يشرع فيه التثليث، لأن الوضوء يكون بنية رفع الحدث الأكبر، لا بنية رفع الحدث الأصغر؛ لأن الحدث الأصغر لا يرتفع مع بقاء الأكبر، وإذا كان كذلك فإن أعضاء الوضوء سوف يكتفى بغسلها في الوضوء، ولن تغسل مرة ثانية في غسل الجنابة بل يغسل بقية البدن، والوضوء في الحقيقة غسل للبدن من الجنابة، إلا أنه قدم أعضاء الوضوء في الغسل لشرفها كما قال - صلى الله عليه وسلم - في تغسيل ابنته في حديث أم عطية: (141): اغسلنها وابدأن بمواضع الوضوء منها. متفق عليه (¬1). وإذا كان لا يشرع التثليث في البدن على الصحيح، فلا يشرع التثليث في الوضوء. والبخاري رحمه الله لا يرى غسل أعضاء الوضوء مرة أخرى، بل يتوضأ ثم يغسل بقية بدنه، قال رحمه الله في صحيحه: "باب: من توضأ فى الجنابة ثم غسل سائر جسده، ولم يعد غسل مواضع الوضوء فيه مرة أخرى" (¬2). وقال الحافظ: "واستدل به البخارى على أن الواجب في غسل الجنابة مرة واحدة، وعلى أن من توضأ بنية الغسل، ثم أكمل باقي أعضاء بدنه لا يشرع له تجديد الوضوء من غير حدث". اهـ (¬3). (142) وقد روى البخاري، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: ¬
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيديه شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده. رواه البخاري، واللفظ له، ومسلم (¬1). فقولها: "ثم غسل سائر جسده" أي بقية جسده. فتبين من هذا الكلام: أن الوضوء قبل الغسل نيته رفع الحدث الأكبر، وإن غسل أعضاء الوضوء لا يعاد غسلها مرة أخرى عند غسل البدن، وأن البدن كما أنه لا يشرع فيه التثليث، لا يشرع أيضاً في وضوء الغسل كما هو ظاهر حديث ميمونة، وأن التثليث في الوضوء لم يُرو في شيء من الأحاديث المرفوعة إلا ما كان من رواية عطاء بن السائب، عن أبي سلمة عن عائشة، وقد خالف بكير الأشج عطاء بن السائب فلم يذكر التثليث، وأن أصحاب عطاء قد اختلفوا عليه، فأحفظهم شعبة لم يرو عنه التثليث. والله أعلم. ثالثاً: السنة في غسل الرأس. أما السنة في الرأس: فالذي تدل عليه الأحاديث أنه يخلل أولاً شعره بالماء حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته صب الماء على شعر رأسه ثلاثاً، فكان التخليل أولاً لغسل بشرة الرأس، وصب الماء بعده ثلاثاً لغسل الشعر (¬2). وهذه الصفة مستحبة أحياناً وليست واجبة. ¬
وهي مما ذكر في حديث عائشة دون ميمونة. (143) فقد رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ بغسل يديه، ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على جلده كله (¬1). ورواه مسلم، من طريق أبي معاوية عن هشام به، وفيه: "ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء، فيدخل أصابعه فى أصول الشعر حتى إذا رأى أن قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه" (¬2). قال ابن رجب في شرحه للبخاري: "وهذه سنة عظيمة من سنن غسل الجنابة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتنبه لها أكثر الفقهاء، مع توسعهم للقول في سنن الغسل وآدابه، ولم أر من صرح به منهم إلا صاحب المغني من أصحابنا، وأخذه من عموم قول أحمد: الغسل على حديث عائشة وكذلك ذكره صاحب المهذب من الشافعية". اهـ (¬3). وصفة غسل الرأس في الثلاث غرفات، هل يعم رأسه فى كل غرفة؟ أو ¬
يفرغ واحدة على شقه الأيمن وأخرى على شقه الأيسر؟ وثالثة على وسطه؟. من غير تعميم للرأس بكل واحدة. (144) فقد رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا أبو عاصم، عن حنظلة، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب، فأخذ بكفه، بدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه. ولفظ البخاري: "فأخذ بكفه فبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر فقال بهما على وسط رأسه". ورواه مسلم (¬1). قال القرطبي كما في المفهم: "ولا يفهم من هذه الثلاث حفنات أنه غسل رأسه ثلاث مرات، لأن التكرار في الغسل غير مشروع، لما في ذلك من المشقة، وإنما كان ذلك العدد، لأنه بدأ بجانب رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم على وسط رأسه كما في حديث عائشة" (¬2). وتعقب ابن رجب كلام القرطبي في شرحه للبخاري: فقال عن كلامه "وهو خلاف الظاهر" قال: "والظاهر والله أعلم أنه يعم رأسه بكل مرة، ولكن يبدأ في الأولى بجهة اليمين، وفي الثانية بجهة اليسار، ثم يصب الثالثة على الوسطى" (¬3). ¬
والثلاث غرفات قد جاءت من حديث عائشة بدون تفصيل. (145) فرواه البخاري: "ثم صب على رأسه ثلاث غرف بيديه" (¬1). ولفظ مسلم: "حفن على رأسه ثلاث حفنات" (¬2). (146) وروى مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد وأبو بكر ابن أبي شيبة - قال يحيى أخبرنا وقال الآخران حدثنا أبو الأحوص -، عن أبي إسحاق، عن سليمان بن صرد، عن جبير بن مطعم قال: "تماروا في الغسل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال بعض القوم أما أنا فإني أغسل رأسي كذا وكذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما أنا فأفيض على رأسي ثلاث أكف" رواه مسلم. ولفظ البخاري: "فأفيض على رأسي ثلاثاً" وأشار بيديه كلتيهما (¬3). وهل هناك فرق بين المرأة والرجل؟ الجواب: (147) روى البخاري، قال: حدثنا خلاد بن يحيى، قال: حدثنا إبراهيم ابن نافع، عن الحسن بن مسلم، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة رضي الله عنها قال: كنا إذا أصاب إحدانا جنابة أخذت بيديها ¬
ثلاثاً فوق رأسها، ثم تأخذ بيدها على شقها الأيمن وبيدها الأخرى على شقها الأيسر (¬1). قال ابن رجب: "وظاهر هذا أن المرأة يستحب لها بعد أن تصب على رأسها ثلاثاً، أن تأخذ حفنة بيدها فتصب على شق رأسها الأيمن، ثم تأخذ حفنة أخرى، فتصبها على شقه الأيسر، فيصير على رأسها خمس حفنات" (¬2). وهذا الاستدلال لا يسلم إلا بعد التسليم أن قول الصحابي: "كنا نفعل" ولم يضفه إلى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن له حكم الرفع. قال في الفتح: "وللحديث حكم الرفع، لأن الظاهر اطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وهو مصير من البخاري إلى القول بأن لقول الصحابي: "كنا نفعل كذا" حكم الرفع سواء صرح بإضافته إلى زمنه - صلى الله عليه وسلم - أم لا. وبه جزم الحاكم" (¬3). وقد عرضت أقوال الأصوليين في قول الصحابي: "كنا نفعل" عند الكلام على الصفرة والكدرة، فارجع إليه. فإن سلمت دعوى أن لها حكم الرفع كان في غسل رأس المرأة صفتان: تارة بثلاث غرفات، وتارة بخمس حفنات، وإن كان قول الصحابي: "كنا نفعل" موقوفاً عليه فإن الثلاث مقدمة على الخمس لأن الثلاث صريحة بالرفع. (148) فقد روى مسلم، قال: حدثنا عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزاق، ¬
عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن عبد الله بن رافع، مولى أم سلمة، عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة والحيضة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬1). (149) وروى مسلم أيضاً، قال: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر ابن أبي شيبة وعلي بن حجر جميعا، عن بن علية قال يحيى: أخبرنا إسماعيل بن علية عن أيوب عن أبي الزبير عبيد بن عمير قال: بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن فقالت: يا عجباً لابن عمرو هذا! يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟ لقد كنت اغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، ولا أزيد أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات (¬2). فهذان الحديثان صريحان بالرفع، وأن المقدار للرأس ثلاث غرفات كالرجل. (150) وأما ما رواه أحمد (¬3) , قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا زائدة، عن صدقة (رجل من أهل الكوفة)، ثنا جميع بن عمير (¬4)، حدثني عبد الله بن ¬
ثعلبة، قال: دخلت مع أمي وخالتي على عائشة فسألت إحداهما: كيف كنتن تصنعن عند الغسل؟ فقالت عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفيض على رأسه ثلاث مرات، ونحن نفيض على رؤوسنا خمساً من أجل الضفر. [ضعيف] (¬1). ¬
فهذا الحديث على ضعفه يشهد له ما رواه البخاري (¬1) عن عائشة، إلا أنه ليس صريحاً في الرفع، وصيغته مختلف فيها: هل تكون مرفوعة أم موقوفة؟ ¬
الفرع الرابع: هل تنقض المرأة رأسها في غسل الحيض
الفرع الرابع: هل تنقض المرأة رأسها في غسل الحيض اختلف الفقهاء في هذه المسألة: فقيل: لا تنقض رأسها فى غسل الجنابة والحيض. وهو مذهب المالكية (¬1) , والشافعية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3). وقيل: يجب على الرجل نقض شعره بخلاف المرأة، وهو مذهب الحنفية (¬4). وقيل: لا يجب نقضه في الجنابة ويجب في غسل الحيض، وهو المشهور ¬
دليل من قال: لا تنقض رأسها مطلقا في الحيض والجنابة.
من مذهب الحنابلة (¬1). واختاره الباجي من المالكية (¬2)، وابن حزم من الظاهرية (¬3). دليل من قال: لا تنقض رأسها مطلقاً في الحيض والجنابة. الدليل الأول: (151) ما رواه مسلم: حدثنا عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزاق، عن أيوب ابن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن عبد الله بن رافع، مولى أم سلمة، عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة والحيضة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬4). [زيادة: والحيضة شاذة] (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (152) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن حجر جميعا، عن ابن علية. قال يحيى: أخبرنا إسماعيل بن علية عن أيوب عن أبي الزبير، عن عبيد بن عمير، قال: بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء - إذا اغتسلن - أن ينقضن رؤوسهن، فقالت: يا عجباً لابن عمرو هذا! يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن ¬
الدليل الثالث
رؤوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟ لقد كنت اغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، ولا أزيد أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات (¬1). والحديث لم يتعرض لغسل الجنابة، بل للغسل، فهو مطلق يشمل كل غسل، فهي أنكرت عليه كونه يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، لو كان هناك فرق بين غسل وغسل لبينته رضي الله عنها. الدليل الثالث: (153) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن إبراهيم بن المهاجر، قال: سمعت صفية تحدث عن عائشة، أن أسماء سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسل المحيض، فقال: تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها، فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكا شديدا حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها، فقالت أسماء: وكيف تطهر بها، فقال: سبحان الله تطهرين بها، فقالت عائشة - كأنها تخفي ذلك -: تتبعين أثر الدم. وسألته عن غسل الجنابة، فقال: تأخذ ماء فتطهر فتحسن الطهور أو تبلغ الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تفيض عليها الماء. فقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين (¬2). ¬
الدليل الرابع
وجه الإستدلال: في الحديث أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسماء أن تدلك رأسها دلكاً شديداً، ولو كان النقض واجباً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - لها. والله أعلم. الدليل الرابع: (154) ما رواه ابن أبي شيبة: حدثنا علي بن مسهر، عن عبيد الله - يعني العمري - عن نافع: أن نساء ابن عمر وأمهات أولاده كن يغتسلن من الجنابة والحيض، فلا ينقضن رؤوسهن، ولكن يبالغن في بلها. [وإسناد صحيح] (¬1). الدليل الخامس: (155) ما رواه أبو داود: حدثنا نصر بن علي، حدثنا عبد الله ابن داود، عن عمر بن سويد، عن عائشة بنت طلحة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنا نغتسل وعلينا الضماد، ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محلات ومحرمات. [صحيح] (¬2). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (156) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن بكر ابن السراج العسكري، ثنا إسماعيل بن إبراهيم الترجماني، ثنا عمر بن هارون، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن سالم خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كن أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجعلن رؤوسهن أربع قرون، فإذا اغتسلن جمعنه في وسط رؤوسهن ولم ينقضنه (¬1). [ضعيف جدًا] (¬2). ¬
دليل من قال: يجب على الرجل نقض شعره بخلاف المرأة.
دليل من قال: يجب على الرجل نقض شعره بخلاف المرأة. (157) استدلوا بما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن عوف، قال: قرأت في أصل إسماعيل (ابن عياش)، قال ابن عوف: وحدثنا محمد ابن إسماعيل، عن أبيه، حدثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، قال: أفتاني جبير بن نفير عن الغسل من الجنابة أن ثوبان حدثهم أنهم استفتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: ¬
دليل من فرق بين الجنابة والحيض.
أما الرجل فلينشر رأسه فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر، وأما المرأة فلا عيها أن لا تنقضه، لتغرف على رأسها ثلاث غرفات بكفيها. [إسناده حسن لغيره، وكون المرأة لا تنقض شعرها صحيح من غير هذا الحديث] (¬1). دليل من فرق بين الجنابة والحيض. [الدليل الأول] (*) (158) استدلوا بما رواه البخاري، قال: حدثنا عبيد بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موافين لهلال ذي الحجة. وفي الحديث "فأدركني يوم عرفة وأنا حائض، فشكوت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: دعي عمرتك، وانقضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بحج. الحديث، والحديث رواه مسلم أيضاً (¬2). وترجم له البخارى: "باب نقض المرأة شعرها عند غسل المحيض". وانتقد ابن رجب هذا الاستدلال فقال: "وهذا الحديث لا دلالة فيه، فإن غسل عائشة الذي أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - به لم يكن من الحيض، بل كانت حائضاً، وحيضها حينئذٍ موجود، فإنه لو كان قد انقطع حيضها لطافت للعمرة، ولم تحتج ¬
إلى هذا السؤال، ولكن أمرها أن تغتسل في حال حيضها، وتهل بالحج فهو غسل الإحرام في حال الحيض، كما أمر أسماء بنت عميس لما نفست بذي الحليفة أن تغتسل وتهل" (¬1). ثم قال: "وقد يحمل مراد البخاري - رحمه الله - على وجه صحيح، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر عائشة بنقض شعرها وامتشاطها عند الغسل للإحرام، لأن غسل الإحرام لا يتكرر ولا يشق نقض الشعر فيه، وغسل الحيض والنفاس يوجد فيه هذا المعنى، بخلاف غسل الجنابة فإنه يتكرر فيشق النقض فيه، فكذلك لم يؤمر فيه بنقض الشعر" (¬2). قلت: كونه أمر عائشة بغسل الإحرام بنقضه لا يقال بأن نقضه واجب في غسل الحيض، لأنه لم يثبت إلا في غسل الإحرام، وغسل الإحرام سنة، وكونه في حديث عائشة في قصة أسماء بنت شكل لم يأمرها بنقضه دليل على أنه ليس بواجب في غسل الحيض، وكذلك لا يقال إن الحائض مأمورة بالامتشاط عند غسل المحيض. والله أعلم. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (159) ما رواه الطبراني في الكبير، قال: حدثنا أحمد بن داود المكي، ثنا سلمة بن صبيح اليحمدي، ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا اغتسلت المرأة من حيضها، نقضت شعرها وغسلته بخطمي وأشنان، وإذا اغتسلت من جنابة صبت على رأسها الماء وعصرته (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثالث: الأصل وجوب نقض الشعر ليتحقق وصول الماء إلى ما يجب غسله فعفي عنه في غسل الجنابة، لأنه يكثر فيشق ذلك فيه، والحيض بخلافه فبقي على ¬
الدليل الرابع
مقتضى الأصل في الوجوب (¬1) ويجاب عنه: بأن الواجب هو غسل الشعر على خلاف في هذا، فإذا تحققنا من وصول الماء إلى باطن الشعر فقد فعل الواجب، سواء كان الشعر مظفوراً، أو غير مظفور. الدليل الرابع: من القياس، وقد سبق الإشارة إليه، وهو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر عائشة عند الاغتسال للإحرام أن تنقض شعر رأسها، فإذا أمرت بنقض شعرها. في غسل الإحرام وهو سنة، فكونها تؤمر بنقضه في غسل الحيض وهو واجب من باب أولى (¬2). وأجيب: بأن القول باستحبابه لا بأس به، أما القول بوجوبه فليس بظاهر، وقد أمرها أن تمتشط فهل تقولون بوجوبه أيضاً؟. فالقول الراجح أنها لا تنقض رأسها لا في الحيض ولا في الجنابة. ¬
الفرع الخامس: المسترسل من الشعر هل يجب غسل ظاهره وباطنه
الفرع الخامس: المسترسل من الشعر هل يجب غسل ظاهره وباطنه إذا رجحنا أن المرأة لا يجب عليها نقض شعرها (ضفائرها)، فهل يجب غسل ظاهر الشعر وباطنه؟ أم هل يجب غسل ظاهره فقط؟ أم يجب غسل أصول الشعر (بشرة الشعر) دون المسترسل؟ هذه مسألة اختلف فيها العلماء: فقيل: يجب غسل ما استرسل من الشعر. وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3) وقيل: لا يجب. وهو مذهب الحنفية (¬4)، واختاره ابن قدامة من الحنابلة (¬5). ¬
أدلة الجمهور على وجوب غسل المسترسل.
أدلة الجمهور على وجوب غسل المسترسل. [الدليل الأول] (*) (160) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا نصر بن علي، أخبرنا الحارث بن وجيه، حدثنا مالك بن دينار، عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة (¬1). [سنده ضعيف، وسبق تخريجه] (¬2). الدليل الثاني: (161) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن زاذان، عن علي بن أبي طالب، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من ترك موضع شعره من جنابة لم يصبها ماء، فعل الله به كذا وكذا من النار. قال علي: ومن ثم عاديت شعري (¬3). [المرفوع ضعيف، وصحح وقفه، وسبق بحثه] (¬4). قلت: ولا دلالة فيه، لأن التوعد على ترك موضع الشعرة، لا ترك الشعر ¬
الدليل الثالث
نفسه، وموضع الشعر هو بشرة الرأس، وهذا يجب غسلها اتفاقاً. الدليل الثالث: (162) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا هشام بن عمار، ثنا يحيى بن حمزة، حدثني عتبة بن أبي حكيم، حدثني طلحة بن نافع، حدثني أبو أيوب الأنصاري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، وأداء الأمانة، كفارة لما بينها قلت: وما أداء الأمانة؟ قال: غسل الجنابة، فإن تحت كل شعرة جنابة (¬1). [سنده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الرابع
ولا دلالة فيه، فإن قوله: "تحت كل شعرة" دليل على وجوب غسل البشرة من الرأس وليس هذا محل نزاع. الدليل الرابع: ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يخلل شعره في غسل الجنابة، وتخليل الشعر إيصال الماء إلى باطنه، وفعله - صلى الله عليه وسلم - بيان للمجمل في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬1). (163) فقد روى البخاري، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليها الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده. رواه البخاري، واللفظ له، ومسلم (¬2). وأجيب: أن التخليل ليس للشعر حتى يقال: إنه من أجل إيصال الماء إلى باطنه، بل التخليل كان لغسل بشرة الرأس، وقول عائشة صريح في هذا: "حتى إذا ظن أنه ¬
الدليل الخامس
قد أروى بشرته أفاض عليه الماء". ولو سلم فإنه فعل لا يدل على الوجوب، وليس له حكم المجمل حتى يكون بياناً للمجمل، لأنكم لا تقولون بوجوب التخليل. وليس النزاع في الاستحباب. الدليل الخامس: (164) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، - يعني الثقفي -، حدثنا جعفر، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من جنابة صب على رأسه ثلاث حفنات من ماء. فقال له الحسن بن محمد: إن شعري كثير، قال جابر: فقلت له: يا ابن أخي كان شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من شعرك وأطيب. وهو في البخاري، بنحوه (¬1). وجه الاستدلال: أن جابراً رضي الله عنه، حين اعترض عليه بأن الشعر كثير فلا تكفي ثلاث حفنات لم يقل لا يجب غسل الشعر، بل قال: إن شعر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكثر، مما يدل على أنه مستقر غسل الشعر. وأجيب: بأن المرفوع من حديث جابر: "صب على رأسه ثلاث حفنات" ولم يقل: "صب على شعره" فالواجب غسل الرأس، وحين اعترض الحسن بن محمد بأن شعره كثير، كان يحتمل أمرين: ¬
الدليل السادس
الأول: بأن شعري كثير فيمنع وصول الماء إلى بشرة الرأس. والثاني: يحتمل قوله: "إن شعري كثير" فيتطلب ماءً أكثر من أجل غسله، وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال، فرجعنا إلى القدر المرفوع من الحديث وهو: "كون الصب على الرأس فقط" ثم إننا نقول بوجوب غسل الشعر، ولكن نشترط أن يكون على بشرة تجب غسلها الدليل السادس: قالوا: شعر الرأس شعر نابت في محل الغسل، فوجب غسله كشعر الحاجبين وأهداب العينين. ورده ابن قدامة: "وأما الحاجبان فيجب غسلهما، لأن من ضرورة غسل بشرتهما غسلهما، وكذا كل شعر، من ضرورة غسل بشرته غسله، فيجب غسله ضرورة لأن الواجب لا يتم إلا به" (¬1). الدليل السابع: (165) ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا زائدة، عن صدقة (رجل من أهل الكوفه)، ثنا جميع بن عمير، حدثني عبد الله بن ثعلبة، قال: دخلت مع أمي وخالتي على عائشة، فسألت احداهما: كيف كنت تصنعين عند الغسل؟ فقالت عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفيض علي رأسه ثلاث مرات، ونحن نفيض على رؤسنا خمساً من أجل ¬
الضفر (¬1). وجه الاستدلال: أنها زادت في غسل رأسها من أجل الضفر، وهذا يدل على وجوب غسله. وأجيب: بأن الحديث ضعيف، وقد سبق تخريجه (¬2). وفي الصحيحين عن عائشة وصف الغسل للرأس، ولم تذكر الضفر، (166) فقد روى البخاري، قال: حدثنا خلاد بن يحيى، قال: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن الحسن بن مسلم، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كنا إذا أصاب إحدانا جنابة أخذت بيديها ثلاثاً فوق رأسها، ثم تأخذ بيدها على شقها الأيمن، وبيدها الأخرى على شقها الأيسر (¬3). وفي هذا الحديث ذكرت عائشة أن ثلاثاً فوق رأسها، وواحدة لشق رأسها الأيمن، وأخرى لشقه الأيسر. (167) وروى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا أبو عاصم، عن حنظلة، عن القاسم، عن عائشة: قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب، فأخذ بكفه، ¬
الدليل الثامن
فبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، فقال بها على وسط رأسه. ورواه مسلم أيضاً (¬1). فصار الغسل لفوق الرأس، ولشقه الأيمن، لشقه الأيسر، وليس به تعرض للضفائر. الدليل الثامن: (168) ما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، عن حذيفة، قال، قال لامرأته: خللي رأسك بالماء، لا تخلله النار، قليل بقاياه عليه (¬2). [سنده صحيح] (¬3). ¬
أدلة من قال: لا يجب غسل باطن الضفائر ولا المسترسل من الشعر.
والجواب عن الأثر: أولاً: أنه موقوف على صحابي. ثانياً: أنه طلب تخليل الرأس، لا تخليل الشعر، وبينهما فرق، فتخليل الرأس من أجل إيصال الماء إلى بشرة الرأس، وهو مشروع كما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخلل شعره بيده حتى إذا ظن أنه أروى بشرته، أفاض الماء ثلاث مرات، ثم أفاض الماء على سائر جسده. فتبين من هذه الأدلة أن الصحيح منها ليس بصريح، وأن الصريح منها ليس بصحيح. أدلة من قال: لا يجب غسل باطن الضفائر ولا المسترسل من الشعر. الدليل الأول: أن الأحاديث كلها في غسل الجنابة تنص على غسل الرأس، وفرق بين غسل الرأس وغسل الشعر، فلو كان الواجب غسل الشعر لذكر. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (¬1). وهي أحاديث كثيرة أسوق بعضها: (169) حديث جبير بن مطعم في البخاري، ومسلم: ولفظ البخاري قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما أنا فأفيض. وقال مسلم: فأفرغ على رأسي ثلاثاً، وأشار بيديه كلتيهما. ¬
وفي رواية لمسلم: فيه أما أنا فإني أفيض على رأسي ثلاث أكف (¬1). (170) ومنها حديث جابر في البخاري، ومسلم، وفيه: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذ ثلاث أكف فيفيضها على رأسه .. وذكر بقية الحديث. هذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة صب على رأسه ثلاث حفنات من ماء (¬2). (171) وحديث جابر في مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، وإسماعيل بن سالم، قالا: أخبرنا هشيم، عن أبي بشر، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله، أن وفد ثقيف سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن أرضنا أرض باردة فكيف بالغسل؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: أما أنا فأفرغ على رأسي ثلاثا (¬3). (172) وفي حديث عائشة فى صفة غسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة كما في البخاري: "ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات" (¬4). ولفظ مسلم: "حفن على رأسه ثلاث حفنات" (¬5). ¬
(173) وفي حديث ميمونة في البخاري: "ثم أفاض على رأسه الماء" (¬1). ولفظ مسلم: "ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات" (¬2). (174) وحديث أم سلمة في مسلم: إنما يكفي أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات .. الحديث (¬3). وسوف أسوقه بتمامه في الدليل الثاني. (175) وحديث عائشة في مسلم: لقد كنت اغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، ولا أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات (¬4). وإذا كان لا يجب مسح المسترسل من الشعر في الطهارة الصغرى، لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬5). ولم يقل: بشعوركم. فكذلك لا يجب غسل المسترسل منه في الطهارة الكبرى، لأن الأحاديث لا تذكر إلا غسل الرأس، ولا تذكر غسل الشعر، وليس الاحتياط فى إيجاب غسل المسترسل منه، بل الاحتياط عدم الجزم بالوجوب، وتأثيم الناس حتى يثبت دليل صحيح صريح خال من النزاع. فإن قيل: أليس قوله تعالى: {فَاطَّهَّرُوا} يشمل جميع البدن؟ قيل: بلى، ولكن المسترسل من الشعر ليس من البدن، فنحن نوجب غسل ما كان ساتراً للبدن متصلاً به من أصول الشعر وليس المسترسل منه ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (176) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر كلهم عن ابن عيينة - قال إسحاق أخبرنا سفيان - عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي، افأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا، إنما يكفي أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬1). وجه الاستدلال: أن أم سلمة رضي الله عنها أخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها تشد ضفر رأسها، فلم يأمرها بنقض ضفرها، ولو وجب غسل باطن الشعر، لوجب نقضه ليعلم أن الماء قد وصل إليه، ولما كفاه ثلاث حثيات. قال ابن قدامة: ومثل هذا لا يبل الشعر المشدود ضفره في العادة" (¬2). ولو كان واجباً لقال: "أن تحثي على شعرك" بدلاً من قوله: "على رأسك". الدليل الثالث: (177) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة ¬
الدليل الرابع
وعلي بن حجر جميعا، عن ابن علية قال يحيى: أخبرنا إسماعيل بن علية عن أيوب عن أبي الزبير، عن عبيد بن عمير قال: بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، فقالت: يا عجباً لابن عمرو هذا! يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟ لقد كنت اغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، ولا أزيد أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات (¬1). وجه الاستدلال منه كوجه الاستدلال من حديث أم سلمة. الدليل الرابع: قال ابن قدامة: "ولأن الشعر ليس من أجزاء الحيوان - يعني المتصل بل هو في حكم المنفصل - بدليل أنه لا ينجس بموته، ولا حياة فيه - يعني حياة حيوانية بل حياته كحياة الزرع - ولا ينقض الوضوء مسه من المرأة، ولا تطلق بطلاقة، فلم يجب غسله للجنابة كثيابها" (¬2). الدليل الخامس: (178) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن إبراهيم بن المهاجر, قال: سمعت صفية بنت شيبة، تحدث عن عائشة أن أسماء سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسل المحيض؟ فقال: "تأخذ إحداكن ¬
ماءها وسدرتها، فتطهر فتحسن الطهور، ثم نصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرضة ممسكة فتطهر بها" فقلت أسماء: وكيف أتطهر بها؟ فقلى: "سبحان الله تطهرين بها" فقالت عائشة - كأنها تخفي ذلك -: تتبعين أثر الدم، وسألته عن غسل الجنابة؟ فقال: "تأخذ ماء فتطهر فتحسن الطهور، أو تبلغ الطهر، ثم تصب على رأسها فتدلكه، حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تفيض عليها من الماء" فقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين (¬1). وجه الاستدلال: قوله: "ثم تصب على رأسها فتدلكه" أي تدلك رأسها، فلم يأمرها إلا بدلك الشعر الذي على رأسها، بدليل قوله: "حتى تبلغ شؤون رأسها" والشؤون كما قال ابن الأثير: هي عظامه، وطرائقه ومواصل قبائله (¬2) , وكذا هو في اللسان (¬3). والمقصود من ذلك أصول شعر رأسها حتى يبلغ بشرة الرأس، ولم يذكر غسل ضفائرها. وهذا القول هو الراجح. والله أعلم. والقول الأول أحوط. ¬
مسألة استحباب التيامن في الاغتسال
مسألة استحباب التيامن في الاغتسال أما التيامن في غسل الرأس ففيه دليل خاص: (179) فقد روى مسلم، قال: حدثنا محمد بن المثنى العنزي، حدثني أبو عاصم، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب، فأخذ بكفه، بدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه. رواه البخاري، ومسلم واللفظ لمسلم (¬1). وأما التيامن في البدن فليس فيه حديث صريح في غسل الجنابة والحيض، ولكن فيه حديث أم عطية رضي الله عنها: (180) قال البخاري: حدثنا مسدد، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثنا خالد، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية، قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهن في غسل ابنته: "ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها". رواه البخاري ومسلم (¬2). (181) وفيه حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري، ومسلم (¬3) من طريق شعبة، عن الأشعث بن سليم، سمعت أبي يحدث عن مسروق عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، ¬
وطهوره، وفي شأنه كله (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الفرع السادس: في غسل البدن, وهل يغسل ثلاثا
الفرع السادس: في غسل البدن, وهل يغسل ثلاثاً فقيل: يستحب، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: لا يستحب، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬4). واختاره ابن تيمية من الحنابلة (¬5)، وهو الراجح. ¬
أدلة الجمهور في استحباب غسل البدن ثلاثا.
وقيل: يستحب التكرار في غسل الحيض دون الجنابة. وهو رواية عن أحمد (¬1) أدلة الجمهور في استحباب غسل البدن ثلاثاً. الدليل الأول: (182) روى مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا هشام، عن أبيه عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة، فبدأ فغسل كفيه ثلاثاً (¬2). والوضوء جزء من غسل الجنابة، فإذا ثلث فيه غسل الكفين كان التثليث في سائره مشروعاً. الدليل الثاني: (183) ما رواه أحمد، قال: ثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يغتسل من جنابة يغسل يديه ثلاثاً، ثم يأخذ بيمينه ليصب على شماله، فيغسل فرجه حتى ينقيه، ثم يغسل يده غسلاً حسناً، ثم يمضمض ثلاثاً، ويستنشق ثلاثاً، ويغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً، ثم يصب الماء على رأسه ثلاثاً، ثم يغسل، فإذا خرج غسل قدميه (¬3). ¬
الدليل الثالث
وجه الاستدلال: إذا ثبت التثليث في الوضوء، وهو جزء من غسل الجنابة، كان التثليث في سائر البدن مقيساً عليه. وأجيب: أما التثليث في الوضوء من الحدث الأصغر فهذا ثابت في السنة الصحيحة، ولكن لا يسلم القياس لاختلاف الموجب. وما يجب في هذا قد لا يجب في ذاك، كالترتيب والموالاة، وإذا اختلفا فيما يجب اختلفا فيما يستحب. وأما التثليث في وضوء الغسل من الجنابة فالصحيح أنه لا يشرع، وقد بينا في مسألة مستقلة شذوذ حديث عطاء بن السائب عن أبي سلمة فقد رواه بكير الأشج عن أبي سلمة به وليس فيه ذكر التثليث كما في مسلم، كما اختلف أصحاب عطاء في ذكر التثليث، فرواه شعبة عن عطاء، وهو من أثبت من روى عنه ولم يذكر التثليث، وحديث ميمونة فى غسل الجنابة فيه تفصيل الوضوء ولم تذكر تثليثاً. انظر مسألة الخلاف بين العلماء: هل يسن تثليث أعضاء الوضوء؟ وما هو الراجح منها؟ الدليل الثالث: (184) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا سليمان بن حرب الواشحي، ومسدد قالا: حدثنا حماد عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة - قال سليمان - يبدأ فيفرغ
بيمينه على شماله، وقال مسدد: غسل يديه يصب الإناء على يده اليمنى، ثم اتفقا: فيغسل فرجه. وقل مسدد: يفرغ الإناء على شماله - وربما كنت عن الفرج - ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يدخل يديه في الإناء، فيخلل شعره، حتى إذا رأى أنه قد أصاب البشرة أو أنقى البشرة افرغ على رأسه ثلاثاً، فإذا فضل فضلة صبها عليه (¬1). [الحديث صحيح، إلا زيادة: "فإذا فضل فضلة صبها عليه فليست محفوظة] (¬2). ¬
الدليل الرابع
وجه الاستدلال: قوله: "فإذا فضل فضلة صبها عليه". لا تسمى فضلة إلا بعد الفراغ من الاغتسال، وكونه صبها على بدنه بعد الفراغ من الاغتسال فيه تكرار الغسل للموضع الذي أصابه الماء، وإذا جاز تكراره أكثر من مرة جاز ثلاثاً. الدليل الرابع: (185) ما رواه أحمد، قال: ثنا وكيع، حدثني فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: سأله رجل عن الغسل من الجنابة، فقال: ثلاثاً، ¬
فقال: إني كثير الشعر، قال أبو سعيد: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر شعراً منك وأطيب (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الخامس
وقال ابن رجب في شرح البخاري: "عطية هو العوفي، فيه ضعف مشهور، ولعله أراد الثلاث في غسل الرأس ولهذا قال له السائل: إن شعري كثير". وقد خرجه أبو نعيم: الفضل بن دكين في كتاب الصلاة له، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية قال: سأل رجل أبا سعيد الخدري، كم يكفي لغسل رأسه؟ قال: ثلاث حفنات، وجمع يديه، وذكر بقية الحديث". اهـ (¬1). الدليل الخامس: (186) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا الحسين بن عيسى الخراساني، حدثنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن شعبة - يعني مولى لابن عباس - قال: إن ابن عباس كان إذا اغتسل من الجنابة يفرغ بيده اليمنى على يده اليسرى سبع مرار، ثم يغسل فرجه، فنسي مرة كم أفرغ، فسألني كم أفرغت؟ فقلت: لا أدري، فقال: لا أم لك وما يمنعك أن تدري؟ ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفيض على جلده الماء، ثم يقول: هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتطهر (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬
وكأن الإمام أحمد رحمه الله فهم من الحديث التسبيع فى غسل البدن. قل ابن رجب: "وحكى الإمام أحمد أن ابن عباس كان يغتسل من الجنابة بسبع مرار وقال: هو من حديث شعبة يعني: مولى ابن عباس مشهور عنه (¬1). وهكذا فهم أبو الطيب محمد شمس الحق أبادي، قال: "الظاهر من هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل أعضاءه في الغسل سبع مرار" (¬2). والظاهر أن التسبيع كان في غسل الفرج، لأنه لم يذكر التسبيع إلا في غسل اليد اليسرى، واليد اليسرى هي التي يغسل بها المرء فرجه قبل الاغتسال. قال ابن رجب: "وليس في هذه الرواية التسبيع سوى في غسل يده اليسرى قبل الاستنجاء، ويحتمل أن المراد به التسبيع في غسل الفرج خاصة، وهو الأظهر" (¬3). ¬
دليل من قال: لا يستحب التثليث في غسل البدن من الحدث الأكبر.
وذكر ابن عبد البر في التمهيد، قال: عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس أنه كان إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه سبعاً وفرجه سبعاً" فنص على غسل الفرج، وإن كان هذا الاحتمال يضعفه أن شعبة كان يفرغ على ابن عباس، ولا يمكن أن يكشف ابن عباس عورته لشعبة وعلى كل فالحديث ضعيف فلا حجة فيه (¬1) دليل من قال: لا يستحب التثليث في غسل البدن من الحدث الأكبر. قالوا: الأحاديث الصحيحة في صفة غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة لم يرد فيها أنه غسل بدنه ثلاثاً، وإذا لم يرد، لم يكن مشروعاً، فحديث عائشة، وحديث ميمونة في الصحيحين وحديث أم سلمة في مسلم وغيرها من الأحاديث لا تذكر التثليث. قال ابن رجب: "حكت ميمونة غسل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم تذكر في غسل شيء من أعضائه عدداً إلا في غسل يديه في ابتداء الغسل، مع شك الراوى هل كان غسلهما مرتين أو ثلاثاً؟ وهذا الشك هو من الأعمش، ثم قال: "وأطلقت الغسل في الباقي، فظاهره أنه لم يكرر غسل شيء من جسده بعد ذلك، لا في الوضوء ولا في الغسل بعد" (¬2). ¬
دليل التفريق بين غسل الحيض وبين غسل الجنابة.
وقال البخاري: باب الغسل مرة، ثم ذكر حديث ميمونة وفيه: "ثم أفاض على جسده" (¬1). قال الحافظ: "قال ابن بطال، لم يقيده بعدد، فيحمل على أقل ما يسمى وهو المرة الواحدة، لأن الأصل عدم الزيادة عليها". وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله (¬2). وقال السعدي رحمه الله: "والصحيح أن التثليث لا يشرع في الغسل إلا في غسل الرأس، لأن ذلك هو الوارد في صفة غسله، فلم يثبت عنه سوى هذا، وقياس الوضوء على الغسل غير مسلم لوجود الفارق من وجوه كثيرة" انتهى كلامه رحمه الله (¬3). قلت: يضاف إلى الرأس غسل الكفين ثلاثاً في ابتداء الغسل، فإنه قد ثبت فيه التثليث. دليل التفريق بين غسل الحيض وبين غسل الجنابة. وفرق بعضهم بين غسل الحيض وبين غسل الجنابة، فقال في التكرار فى غسل الحيض ولم يستحبه في غسل الجنابة. فقد نقل ابن رجب عن يعقوب بن بهتان: سألت أحمد عن النفساء والحائض كم مرة يغتسلان؟ قال: كما تغسل الميتة (¬4). ¬
وقال ابن رجب أيضاً: "غسل الحيض يستحب تكراره كغسل الميتة، بخلاف غسل الجنابة. هذا ظاهر كلام أحمد" (¬1). والدليل على استحبابه التثليث في غسل الميتة. (187) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثني مالك، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أم عطية: رضي الله عنها قالت: دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توفيت ابنته فقال: اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك، بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغن فآذنني، فلما فرغنا آذناه، فأعطانا حقوه، فقال: أشعرنها إياه. ورواه مسلم (¬2). ولعل من الحق الحيض بغسل الميت رأى أنهما غسلان يستحب فيهما استعمال السدر ولا يستحب في غسل الجنابة، والراجح مذهب المالكية، وأنه لا يشرع التثليث في غسل الحيض ولا في غسل الجنابة، ولا حاجة إلى استعمال القياس مع ورود صفة الغسل من الجنابة والحيض من الشارع. والله أعلم. ¬
الفرع السابع في غسل الرجلين
الفرع السابع في غسل الرجلين إذا اغتسلت المرأة للحيض، وبدأت بالوضوء، فهل تغسل رجليها مع الوضوء، أم تؤخر غسلهما إلى تمام الغسل، اختلف الفقهاء في ذلك. فقيل: لا تغسلهما مع الوضوء بل تؤخر غسلهما إلى تمام الغسل. وهو مذهب الحنفية، (¬1) وقول في مذهب المالكية (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: يغسلهما مع الوضوء. وهو مذهب المالكية (¬5)، والمشهور عند الشافعية (¬6). ¬
دليل من قال يؤخر غسل رجليه.
وقيل: يغسلهما مع الوضوء، ويعيد غسلهما بعد تمام الغسل. وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: إن كان المكان غير نظيف فالمستحب تأخيرهما، وإلا فالتقديم (¬2). وقيل: التقديم في غسل الرجلين والتأخير سواء. وهو رواية عن أحمد (¬3). دليل من قال يؤخر غسل رجليه. (188) استدلوا بما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا سفيان، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب, عن ابن عباس، عن ميمونة قالت: سترت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يغتسل من الجنابة، فغسل يديه، ثم صب بيمينه على شماله، فغسل فرجه وما أصابه، ثم مسح بيده على الحائط أو الأرض، ثم توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه، ثم أفاض على جسده الماء، ثم تنحى فغسل قدميه. ورواه مسلم أيضاً بنحوه (¬4). دليل من قال: لا يؤخر غسل القدمين. (189) استدلوا بحديث عائشة، فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة ¬
دليل من قال: التقديم والتأخير سواء.
زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب على رأسه ثلاث غرف بيديه، ثم يفيض الماء على جلده كله. ورواه مسلم بنحوه (¬1). دليل من قال: التقديم والتأخير سواء. لعل من خير بينهما رأى أن حديث عائشة وحديث ميمونة صفتان في الغسل، فأيهما فعل فقد فعل السنة. دليل من قال: إن التقديم والتأخير يتعلق بالمكان. قال: الظاهر أنه غسل قدميه في حديث ميمونة عند الحاجة كما لو كانت الأرض طيناً، ولو لم يغسلهما لتلوثت رجلاه بالطين، ويدل لهذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يغسل قدميه في حديث عائشة بعد الغسل. قال النووي: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعيد غسل القدمين بعد الفراغ لإزالة الطين، لا لأجل الجنابة (¬2). دليل من قال يغسل القدمين مرتين مع الوضوء وفي نهاية الغسل. (190) استدلوا بحديث عائشة عند مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قال: ¬
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، حتى إذا رأى أن قد استبرأ، حفن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه (¬1). ¬
الشاهد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم قال: ثم غسل رجليه" فالحديث ظاهره أنه غسل رجليه مرتين، مرة مع الوضوء، ومرة بعد تمام الغسل. والله أعلم. الراجح من هذه الأقوال: القولان: بتقديم الرجلين أو تأخيرهما هما اللذان لهما حظ من النظر، أما بقية الأقوال في المسألة كتعليقه بالحاجة كالطين ونحوه فلا يظهر لي رجحانه. وحديث عائشة وقوله: "ثم توضأ وضوءه للصلاة" ظاهره الوضوء كاملاً، لكن لا يمنع من اطلاق الوضوء ويراد به أكثره، كما جاء في حديث ميمونة، فإنهم لا يختلفون أنه توضأ إلا رجليه، ومع ذلك جاء في حديث ميمونة أنه توضأ للصلاة. (191) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، ¬
قال: حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة، فغسل فرجه بيده، ثم دلك بها الحائط، ثم غسلها، ثم توضأ وضوءه للصلاة، فلما فرغ من غسله غسل رجليه. فهنا في الحديث ذكر أنه توضأ وضوءه للصلاة، ثم ذكر بعد تمام الغسل غسل الرجلين، فالمراد توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه، فأطلق الوضوء والمراد غير رجليه، فلا يمنع أن يكون الوضوء في حديث عائشة المراد به غير رجليه. خاصة إذا قلنا إن رواية أبي معاوية، عن هشام بن عروة، عن عائشة في صحيح مسلم تؤيد ما ذكر، تؤيدها أيضاً رواية حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبي سلمة، عن عائشة. قال الحافظ في الفتح متعقباً النووي في قوله: "أصحهما وأشهرهما ومختارهما أنه يكمل وضوءه، قال: لأن أكثر الروايات عن عائشة وميمونة كذلك" اهـ كلام النووي، قال ابن حجر معقباً: "كذا قال، وليس في شيء من الروايات عنهما التصريح بذلك، بل هي إما محتملة كرواية: "توضأ وضوءه للصلاة" أو ظاهرة في تأخيرهما كرواية أبي معاوية المتقدمة، وشاهدها من طريق أبي سلمة، ويوافقها أكثر الروايات عن ميمونة، أو صريحة في تأخيرهما كحديث الباب - يعني رواية التصريح في رواية ميمونة: وفيه: "توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه" - وراويها مقدم في الحفظ والفقه على جميع من رواه عن الأعمش، وقول من قال: إنما فعل ذلك مرة لبيان الجواز، متعقب، فإن رواية أحمد، عن أبي
معاوية، عن الأعمش ما يدل على المواظبة: ولفظه: كان رسول إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، فذكر الحديث، وفي آخره: "ثم يتنحى فيغسل رجليه". اهـ (¬1) وأبو معاوية من أثبت الناس في الأعمش، وحديثه عنه في الصحيحين. وقول الحنفية: إن الحامل على غسل الرجلين لأن المكان كان قد اجتمع فيه ماء مستعمل، فيغسل القدمان من الغسالة (¬2) قول ضعيف؛ لأن الماء المستعمل طهور على الصحيح. والله أعلم. ¬
الفرع الثامن: الفرق بين غسل الحيض وغسل الجنابة
الفرع الثامن: الفرق بين غسل الحيض وغسل الجنابة قال ابن رجب: "غسل الحيض والنفاس يفارق غسل الجنابة من وجوه: أحدهما: أن الوضوء في غسل الحيض لا فرق بين تقديمه وتأخيره، وغسل الجنابة السنة تقديم الوضوء فيه على الغسل". وأخذه ابن رجب من سؤال يعقوب بن بختان لأحمد: وسألت أحمد عن الحائض متى توضأ؟ قال: إن شاءت توضأت إذا بدأت واغتسلت، وإن شاءت اغتسلت ثم توضأت". وعلق على هذا ابن رجب فقال: وظاهر هذا أنها مخيرة بين تقديم الوضوء وتأخيره، فإنه لم يرد في السنة تقديمه - كما في غسل الجنابة - وإنما ورد في حديث أبي الأحوص، عن إبراهيم بن المهاجر: "توضأ وتغسل رأسها وتدلكه" بالواو، وهي لا تقتضي ترتيباً (¬1). قلت: قد قدمت بأن تقديم الوضوء على غسل الحيض ثابت، وناقشت هذه المسألة في فصل مستقل، وهذا الذي ذكره لا يصح ذكره من الفروق بين الغسلين والثاني: قال ابن رجب موصولاً بما تقدم: "أن غسل الحيض يستحب أن ¬
يكون بماء وسدر، ويتأكد استعمال السدر فيه، بخلاف غسل الجنابة". قلت: الدليل على استعمال السدر مع الماء في غسل الحيض. (192) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن إبراهيم بن المهاجر، قال: سمعت صفية تحدث عن عائشة، أن أسماء بنت شكل سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسل المحيض؟ فقال: "تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها، فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء" وذكر بقية الحديث. وقد خرجته فيما سبق. وقد فهم القرطبي رحمه الله في المفهم أن السدر يستعمل لإزالة ما عليها من نجاسة الحيض، لا أنها تستعمله في غسل بدنها. قال رحمه الله: "قوله: "تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها" السدر: هنا هو الغاسول المعروف، وهو المتخذ من ورق شجر النبق، وهو السدر، وهذا التطهر الذي أمر باستعمال السدر فيه، هو لإزالة ما عليها من نجاسة الحيض، والغسل الثاني للحيض" (¬1). فجعل القرطبي أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فتطهر فتحسن الطهور" هو إزالة ما عليها من نجاسة دم الحيض بالماء والسدر. وقوله: "ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً حتى تبلغ شؤون رأسها ثم تصب عليها الماء" هذا وهو غسل الحيض ¬
وهو بالماء وحده. والذي يظهر لي أن قوله: "تأخذ ماءها وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور" المقصود به الوضوء خاصة بدليل الرواية المفصلة عند أبي داود: "تأخذ سدرها وماءها فتوضأ ثم تغسل رأسها" الحديث ... (¬1). فالصحيح أن السدر تستعمله في غسل بدنها كما يستعمل في غسل الميت، فتغسل به بدنها. ففي شرح البخاري لابن رجب "قال الميموني: قرأت على ابن حنبل: أيجزئ الحائض الغسل بالماء؟ فأملى علي: إذا لم تجد إلا هو وحده اغتسلت به، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ماءك وسدرتك"، وهو أكثر من غسل الجنابة. قلت: وإن كانت قد اغتسلت بالماء ثم وجدته؟ قال: أحب إلي أن تعود لما قال" (¬2). فهذا فارق صحيح بين غسل الحيض وغسل الجنابة، وإذا لم تجد السدر يكفي ما ينوب منابه من الصابون ونحوه من المطهرات. الفارق الثالث: يستحب للحائض أن تأخذ شيئاً من مسك فتجعله في قطنة أو خرقة أو نحوها وتدخلها في فرجها بعد اغتسالها ومثلها النفساء. (193) لما روى البخاري، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا ابن عيينة، عن ¬
منصور بن صفية، عن أمه، عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسلها من المحيض فأمرها أن تغتسل، قال: خذي فرصة من مسك فتطهري بها. قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: تطهري بها. قالت: كيف؟ قال: سبحان الله تطهري بها، فاجتبذتها، فقلت: تتبعي بها أثر الدم. ورواه مسلم أيضاً (¬1). قال ابن رجب: "وعلل أحمد ذلك بأنه يقطع زفورة الدم، وهذا هو المأخذ الصحيح عند أصحاب الشافعي أيضاً. وشذ الماوردي فحكى في ذلك وجهين: أحدهما: أن المقصود بالطيب تطييب المحل ليكمل استمتاع الزوج بإثارة الشهوة وكمال اللذة. والثاني: لكونه أسرع إلى علوق الولد. قال: فإن فقدت المسك، وقلنا بالأول أتت بما يقوم مقامه في دفع الرائحة. وإن قلنا بالثاني فما يسرع إلى العلوق كالقسط والأظفار ونحوهما قال: واختلف الأصحاب في وقت استعماله، فمن قال بالأول: قال: بعد الغسل. ¬
ومن قال بالثاني: فقبله، ثم قال: "والصواب أن المقصود به تطييب المحل، وأنها تستعمل بعد الغسل، ثم ذكر حديث عائشة أن أسماء بنت شكل سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسل المحيض، فقال: "تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها، فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها" (¬1). قال: وقد اتفقوا على استحبابه للزوجة وغيرها، والبكر والثيب. والله أعلم. قال: واستعمال الطيب سنة متأكدة يكره تركه بلا عذر (¬2). وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خذي فرصة ممسكة فتطهري بها"، وفي رواية: "توضئي بها" يدل على أن المراد به التنظيف والتطيب والتطهير. وذلك سماه تطهيراً وتوضئاً، والمراد الوضوء اللغوي الذى هو النظافة. وقد ترجم البخاري رحمه الله فقال: باب الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض. (194) وساق البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن حفصة، عن أم عطية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً، ولا نكتحل، ولا نتطيب، ولا نلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب، وقد ¬
رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيض في نبذة من كست أظفار، وكنا ننهى عن اتباع الجنائز (¬1). قل الحافظ ابن حجر رحمه الله: المراد بالترجمة أن تطيب المرأة عند الغسل من المحيض متأكد بحيث أنه رخص للحادة التي حرم عليها استعمال الطيب في شيء منه مخصوص، ثم نقل عن النووي: "ليس القسط والظفر من مقصود الطيب، وإنما رخص فيه للحادة إذا اغتسلت من الحيض لإزالة الرائحة الكريهة. وقال المهلب: رخص لها في التبخر لدفع رائحة الدم عنها لما تستقبله من صلاة" (¬2). وقال ابن رجب: "كذلك قول عائشة: "تتبعي به مجاري الدم" إشارة إلى إدخاله الفرج. واستحب بعض الشافعية استعمال الطيب في كل ما أصابه دم الحيض من الجسد أيضاً، لأن المقصود قطع رائحة الدم حيث كان. ونص أحمد على أنه لا يجب غسل باطن الفرج من حيض ولا جنابة ولا استنجاء. قال جعفر بن محمد: قلت لأحمد: إذا اغتسلت من المحيض تدخل يدها؟ قال: لا إلا ما ظهر ولم ير أن تدخل أصابعها ولا يدها في فرجها في غسل ولا وضوء" (¬3). ¬
الفرع التاسع: صفة الغسل الكامل والمجزي
الفرع التاسع: صفة الغسل الكامل والمجزي ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا فرق بين غسل الجنابة وغسل الحيض، فقد روى ابن أبي شيبة، قال رحمه الله تعالى: حدثنا علي بن مسهر، عن عبيد الله - يعني: ابن عمر - عن عطاء والزهري قالا: الغسل من الجنابة والحيض واحد (¬1). وسنده صحيح. ورواه الدارمي من طريق الأوزاعي، عن عطاء، والزهري به (¬2). وقال ابن عبد البر في التمهيد كما في فتح البر: قال مالك: اغتسال المرأة من المحيض كاغتسالها من الجنابة (¬3). وقال الشافعي في الأم: وغسلها من الحيض كغسلها من الجنابة لا يختلفان (¬4). ولعل قولهم: "غسل الجنابة والحيض واحد" يعني فيما يجب لا فيما يستحب، فالسدر، والمسك يستحبان في غسل الحيض والنفاس، ولا يستحبان في غسل الجنابة كما قد أوضحت". وإذا كان غسل الجنابة والحيض واحداً، فسوف نفصل الاغتسال من ¬
الجنابة ما لم يرد ذكره مفصلاً في غسل الحيض، وسنعتمد إن شاء الله على مشروعيته والاستدلال عليه من وروده في غسل الجنابة. فأقول وبالله التوفيق: الغسل نوعان: كامل - ومجزي أما صفة الكامل. أولاً: أن تنوي، وقد ذكرنا موقف العلماء من حكم النية، فالجمهور على أن النية شرط، والأحناف على أن النية مستحبة، والحق مع الجمهور. ثانياً: لا يشرع لها التسمية. لكن إن توضأت المرأة قبل اغتسالها قد يستحب لها ذلك، وقد فصلنا الخلاف في هذا. ثالثاً: غسل اليدين ثلاثاً قبل إدخالها في الإناء. (195) لما رواه البخاري ومسلم: عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ... الحديث (¬1). وهذا مستحب، إلا إن كانت قائمة من نوم الليل فالحنابلة يوجبونه (¬2). والجمهور على استحبابه (¬3). ¬
(196) وفي حديث ميمونة في البخاري، ومسلم: فغسل يديه مرتين أو ثلاثاً (¬1). (197) وفي حديث عائشة عند مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة فبدأ فغسل كفيه ثلاثاً (¬2). رابعاً: غسل الأذى الذي على البدن. (198) لما رواه مسلم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل بدأ بيمينه فصب عليها من الماء فغسلها ثم صب الماء على الأذى الذي به بيمينه، وغسل عنه بشماله حتى إذا فرغ من ذلك صب على رأسه (¬3). قلت: وهذا الأذى إن كان يمنع وصول الماء كانت إزالته واجبة وإلا فمستحبة. خامساً: تنظيف اليد بعد غسل الأذى. (199) لما روى البخاري، ومسلم، واللفظ له: عن ميمونة رضي الله عنها قالت: أدنيت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسله من الجنابة فغسل كفيه مرتين أو ثلاثاً، ثم أدخل يده في الإناء، ثم أفرغ به على فرجه، ¬
وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكاً شديداً ... الحديث (¬1). فيستحب بعد غسل الأذى على البدن، أن تدلك يدها لتطهرها، إما بالأرض، أو بالحائط، أو ما يقوم مقامهما من الصابون ونحوه. سادساً: البداءة بالغسل بأعضاء الوضوء. وهو سنة، ومحله قبل الاغتسال، وتتوضأ إلا في رأسها فإنها تغسله بدل مسحه، ولا يشرع في هذا الوضوء غسل الأعضاء ثلاثاً بل تكتفي بغسلها مرة واحدة بنية رفع الحدث الأكبر، ثم تغسل بقية بدنها ولا تعيد غسل أعضاء الوضوء مرة ثانية، ولا تنقض شعرها لغسل الجنابة والحيض ولا لغيرهما، ويستحب لها غسل ما استرسل من الشعر، وسواء دخل الماء إلى باطن الضفائر أم لا. والسنة في غسل الرأس أن تخلل شرها بالماء حتى إذا ظنت أنها قد أروت بشرة رأسها أفاضت عليه الماء ثلاثاً، مبتدأة بجانب رأسها الأيمن، ثم الأيسر ثم الأوسط، تعم رأسها فى كل حفنة، ولها أن تغسل رجليها مع الوضوء، ولها أن تؤخر غسل رجليها إلا بعد الفراغ من الغسل. سابعاً: ثم تفيض الماء على ما تبقى من بدنها مرة واحدة. ثامناً: يستحب لها أن يكون مع الماء سدر أو ما يقوم مقامه من صابون وغيره، وهذه للحائض والنفساء خاصة. ¬
تاسعاً: فإذا فرغت من غسلها أخذت قطعة من القطن، ووضعت فيها شيئاً من المسك ونحوه وتتبعت بها أثر الدم. والغسل المجزي: أن تنوي وتعم بدنها بالغسل مرة
الفصل الثالث في طهارة الحائض من دم الحيض
الفصل الثالث في طهارة الحائض من دم الحيض وفيه مباحث: المبحث الأول: في نجاسة دم الحيض. المبحث الثاني: هل يتعين الماء في إزالة دم الحيض، أو يزال بأي مطهر. المبحث الثالث: هل يجب عدد معين في غسل دم الحيض. المبحث الرابع: علامة الطهر عند الحائض.
المبحث الأول في نجاسة دم الحيض
المبحث الأول في نجاسة دم الحيض نقل الإجماع على نجاسة دم الحيض كثير من الفقهاء، وإليك النقول عن بعضهم. قال النووي: "والدلائل على نجاسة الدم متظاهرة، ولا أعلم فيه خلافاً عن أحد من المسلمين إلا ما حكاه صاحب الحاوي عن بعض المتكلمين أنه قال: هو طاهر، ولكن المتكلمين لا يعتد بهم في الإجماع والخلاف على المذهب الصحيح الذي عليه جمهور أهل الأصول من أصحابنا وغيرهم، لا سيما في المسائل الفقهيات" (¬1). وقال ابن عبد البر: الدم المسفوح رجس نجس، وهذا إجماع من المسلمين (¬2). وقال الشوكاني: "واعلم أن دم الحيض نجس بإجماع المسلمين" (¬3). الأدلة على نجاسة دم الحيض. الدليل الأول: (200) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن هشام، قال: حدثتني فاطمة عن أسماء، قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬
فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب، كيف تصنع. قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه، وتصلي فيه. ورواه مسلم (¬1). قال الحافظ رحمه الله: (تحته): أي تحكه. كذا رواه ابن خزيمة، والمراد بذلك إزالة عينه. (ثم تقرصه): أي تدلك موضع الدم بأطراف أصابعها، ليتحلل بذلك، ويخرج ما تشربه الثوب منه. (وتنضحه) قال الخطابي: أي تغسله. وقال القرطبي: المراد به الرش؛ لأن غسل الدم استفيد من قوله: "تقرصه بالماء". وأما النضح فهو لما شكت فيه من الثوب. قال الحافظ: فعلى هذا فالضمير في قوله: تنضحه يعود على الثوب، بخلاف تحته. فإنه يعود على الدم، فيلزم منه اختلاف الضمائر، وهو على خلاف الأصل. ثم إن الرش على المشكوك فيه لا يفيد شيئاً؛ لأنه إن كان طاهراً فلا حاجة إليه، وإن كان متنجساً لم يطهر بذلك. فالأحسن ما قاله الخطابي (¬2). قلت: النضح يأتي في اللغة بمعنى الغسل، كما يأتي بمعنى الرش، قال ابن الأثير: قد يرد النضح بمعنى الغسل والإزالة، ومنه الحديث: نضح الدم عن جبينه (¬3). (201) قلت: الحديث قد رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع ومحمد بن بشر، عن الأعمش، عن شقيق، ¬
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه، فهو ينضح الدم عن جبينه (¬1). قال السيوطي في شرحه للحديث ينضح الدم بكسر الضاد أي يغسله ويزيله (¬2). وقال الطحاوي: فقد يجوز أن يكون أراد بالنضح الغسل لأن النضح قد يسمى غسلا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأعرف مدينة ينضح البحر بجانبها يعني يضرب البحر بجانبها. (¬3) اهـ. وهذا الحديث الذي ذكره الطحاوي. (202) قد رواه أحمد، قال: ثنا يزيد، أخبرنا جرير، أنبأنا الزبير بن الخريت، عن أبي لبيد قال: خرج رجل من طاحية مهاجراً يقال له بيرح بن أسد، فقدم المدينة بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأيام فرآه عمر رضي الله تعالى عنه فعلم أنه غريب، فقال له: من أنت؟. قال من أهل عمان. قال: نعم قال فأخذ بيده فأدخله على أبي بكر رضي الله تعالى عنه. فقال: هذا من أهل الأرض التي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إني لأعلم أرضاً يقال لها عمان، ينضح بناحيتها البحر، بها حي من العرب لو أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر (¬4). ¬
الدليل الثاني
[وإسناده ضعيف] (¬1). الدليل الثاني: (203) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا إنما ذلك عرق وليس بحيض فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك ¬
الدليل الثالث
الدم ثم صلي. قال وقال أبي ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (¬1) وجه الاستدلال من الحديث: قوله: "فاغسلي عنك الدم" أمر، والأصل فيه الوجوب. الدليل الثالث: (204) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أصبغ، قال: أخبرني ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن عبد الرحمن بن القاسم، حدثه عن أبيه، عن عائشة قالت: كانت إحدانا تحيض، ثم تقترص الدم من ثوبها عند طهرها فتغسله، وتنضح على سائره، ثم تصلي فيه (¬2). الدليل الرابع: (205) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني ثابت أبو المقدام، قال: حدثني عدى بن دينار، قال: سمعت أم قيس بنت محصن قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثوب يصيبه دم الحيض. قال: حكيه بضلع (¬3) ¬
واغسليه بالماء والند وسدر. [إسناده صحيح] (¬1). ¬
الدليل الخامس
قال السندي: حكيه بضلع بكسر معجمة وفتح لام: أي بعود وفي الأصل واحد أضلاع الحيوان أريد به العود لشبهه به، وقد تسكن اللام تخفيفا. قال الخطابي: وإنما أمر بحكه لينقلع المتجسد منه اللاصق بالثوب، ثم يتبعه الماء ليزيل الأثر وزيادة السدر للمبالغة وإلا فالماء يكفي، وذكر الماء لأنه المعتاد ولا يلزم منه أن غيره من المائعات لا تجزى كيف ولو كان لبيان اللازم لوجب السدر أيضاً ولا قائل به (¬1). الدليل الخامس: (206) ما رواه أحمد، قال: ثنا حسن، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا حيي بن عبد الله، أن أبا عبد الرحمن الحبلي حدثه، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها طرقتها الحيضة من الليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فأشارت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثوب وفيه دم فأشار إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة اغسليه فغسلت موضع الدم ثم أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الثوب فصلى ¬
فيه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
المبحث الثاني: هل يتعين الماء في إزالة دم الحيض، أو يكفي أي مطهر
المبحث الثاني: هل يتعين الماء في إزالة دم الحيض، أو يكفي أي مطهر اختلف العلماء في هذه المسألة. فقيل: لا تزال النجاسة إلا بالماء، ومنها دم الحيض. وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، ومحمد وزفر من الحنفية (¬4). وقيل: النجاسة تزال بأي مزيل طاهر، ولا يتعين الماء. وهو المشهور من مذهب الحنفية (¬5)، واختيار ابن تيمية (¬6). وقيل: إن نص الشارع على تطهيره بالماء كنجاسة دم الحيض لم يجز العدول إلى غيره. ¬
أدلة الجمهور على أن النجاسة لا تزال إلا بالماء.
وإن نص الشارع على غير الماء كطهارة النعلين، فيجوز الاقتصار عليه. ويجوز العدول إلى الماء؛ لأن الماء أقوى من غيره بالتطهير. وإن كان الشارع لم ينص على مادة التطهير، وجب الاقتصار على الماء فقط. وهذا القول اختيار الشوكاني رحمه الله (¬1). أدلة الجمهور على أن النجاسة لا تزال إلا بالماء. الدليل الأول: قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ...} الآية (¬2). وجه الاستدلال: قال النووي: ذكره سبحانه امتناناً، فلو حصل بغيره لم يحصل الامتنان (¬3). الجواب عليه: لا يظهر لي أن الله سبحانه عندما ذكره امتناناً أنه إذا حصل بغيره لم يحصل الامتنان، فقد يكون حصول الماء أيسر من غيره، وقد يكون ذكر الماء باعتبار أن العبد ليس له سبب في وجوده، فالله هو الذي ينزل الغيث، وقد يكون لغير ذلك. والله أعلم. الدليل الثاني: (207) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمَّد بن المثنى، نقال: حدثنا يحيى، ¬
الدليل الثالث
عن هشام، قال: حدثتني فاطمة، عن أسماء، قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب كيف تصنع؟ قال: تحته ثم تقرصه بالماء وتنضحه وتصلي فيه (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أرشد في تطهير الثوب من دم الحيض إلى الماء، ولم يرشد إلى غيره، فتعين الماء لإزالة نجاسة الثوب من دم الحيض، لكونه هو المنصوص عليه، وباقي النجاسات مقيسة عليه. الدليل الثالث: (208) ما رواه البخاري، قال: حدثنا خالد، قال: وحدثنا سليمان، عن يحيى بن سعيد، قال: سمعت أنس بن مالك، قال: جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما قضى بوله أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذنوب من ماء فأهريق عليه. وراه مسلم (¬2). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أراد تطهير المسجد من بول الأعرابي أمر بالماء، لقوله في الحديث: "أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذنوب من ماء" فهذا الأمر دال على الوجوب. قالوا: وهذا دال على اختصاص الماء بالتطهير. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (209) ما رواه مسلم، قال: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام بن حسان، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب". (¬1) فهذه الأحاديث وغيرها من الأحاديث التي نص الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تطهيرها بالماء كحديث أبي ثعلبة الخشني في الصحيحين في غسل آنية الكفار إذا لم نجد غيرها - كلها دليل على أن الماء هو آلة التطهير، ولا يطهر غيره. وأجيب عن هذه الأدلة: هذه الأدلة دليل على أن الماء يزيل النجاسة، وهذا لا إشكال فيه، وهو محل إجماع (¬2)، لكن ليس فيها دلالة على أن النجاسة لا تزال إلا بالماء. وفرق بين المسألتين. الدليل الرابع من النظر: قالوا: إذا كانت طهارة الحدث لا تكون إلا بالماء مع وجوده، فكذلك إزالة النجاسة لا تكون إلا بالماء. وأجيب: بأن القياس على طهارة الحدث قياس مع الفارق لما يلي: ¬
أدلة القائلين: لا يشترط الماء لإزالة النجاسة.
أولاً: طهارة الحدث تشترط لها النية على الصحيح خلافاً للحنفية، بخلاف طهارة الخبث. ثانياً: طهارة الحدث لا تسقط بالجهل والنسيان على الصحيح، بخلاف طهارة الخبث. ثالثاً: طهارة الحدث طهارة تعبدية محضة، غير معقولة المعنى، وأما طهارة الخبث فإنها طهارة معللة بوجود النجاسة الحسية. وإذا ثبت الفرق لم يصح القياس. أدلة القائلين: لا يشترط الماء لإزالة النجاسة. الدليل الأول: (210) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع، عن الأعمش ح وحدثنا يحيى بن يحيى واللفظ له، أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان، قال: قيل له: قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى الخراءة، قال فقال: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (¬1). وجه الاستدلال: أن الاستنجاء بالأحجار إزالة للنجاسة بغير الماء، وفي هذا دليل على أنه لا يتعين الماء في إزالة النجاسة. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (211) ما رواه أحمد، قال: يزيد، أنا حماد بن سلمة، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى، فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا. قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعله فلينظر فيها فإن رأى بها خبثاً فليمسه بالأرض ثم ليصل فيهما (¬1). [الحديث إسناده صحيح] (¬2). ¬
الدليل الثالث
وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أرشد إلى تطهير النعلين بالتراب، وهو غير الماء. الدليل الثالث: (212) ما رواه أحمد، قال: ثنا أبو كامل، ثنا زهير - يعني ابن معاوية - ثنا عبد الله بن عيسى، عن موسى بن عبد الله، قال وكان رجل صدق، ¬
عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: قلت: يا رسول الله إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة فكيف نصنع إذا مطرنا؟ قال: أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ قالت: قلت: بلى قال: فهذه بهذه (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). وجه الاستدلال: أن هذا تطهير لذيل المرأة بالتراب، وهو غير الماء. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: من النظر: أن النجاسة عين خبيثة لها طعم، أو لون، أو رائحة. والمطلوب هو إزالة كل ذلك، فإذا ذهب طعمها, ولونها ورائحتها بأي مزيل زال حكمها، وأصبح المحل طاهراً، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. دليل الشوكاني على تقسيمه النجاسة إلى ثلاثة أقسام. احتج الشوكاني: أن ما نص الشارع على تطهيره بالماء، كنجاسة دم الحيض، وبول الأعرابي إذا كان على الأرض، وبول الجارية، ونحوها. لا يجوز العدول إلى غير الماء. والتعليل: لأن الشارع لما نص على الماء تعين، ولأن الماء لا يساويه غيره في قوة التطهير. أما النوع الذي نص على تطهيره بغير الماء كطهارة النعلين، وذيل المرأة بالتراب، وكالاستنجاء بالحجارة، فهذا النوع يجوز الاقتصار على التراب والأحجار لورود النص به. ويجوز العدول إلى الماء؛ لأن الماء أقوى من غيره في التطهير. وأما النجاسة التي لم ينص الشارع على مادة تطهيرها، فيجب الاقتصار على الماء؛ لأن تطهيره بالماء متيقن، وطهارته بغير الماء مشكوك فيها، فلا نترك اليقين إلى الشك (¬1). وظاهر هذا القول القوة، ولكن عند التأمل تراه ظاهرية واضحة، إذ لا فرق بين أن تكون النجاسة على ذيل المرأة فتزال بالأحجار، أو تكون على وسط الثوب فيتعين الماء كطهارة بول الجارية، فإن بول الجارية أرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى تطهيره بالماء. ¬
المبحث الثالث: هل يجب تكرار الغسل في نجاسة دم الحيض
المبحث الثالث: هل يجب تكرار الغسل في نجاسة دم الحيض اختلف العلماء في وجوب تكرار الغسل في نجاسة دم الحيض، فقيل: إن كانت النجاسة مرئية، كالدم يكفي فيها غسلة واحدة تذهب بعينها، وإن كانت غير مرئية، وجب غسلها ثلاثاً، وذلك مثل نجاسة ولوغ الكلب، ونحوها. وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: لا يجب العدد في غسل النجاسات مطلقاً ما عدا الكلب، وهو مذهب مالك، (¬2) والشافعية إلا أنهم الحقوا الخنزير بالكلب (¬3). وقيل: يجب غسل جميع النجاسات سبعاً، إلا نجاسة بول الصبي الذي لم يأكل الطعام، والنجاسة التي على الأرض. وهو مذهب الحنابلة (¬4) والراجح أنه يكفي في غسل النجاسات غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة، فإن لم تذهب كرر ذلك حتى تذهب. والله أعلم. ¬
دليل من قال لا يشترط التكرار في غسل النجاسات
دليل من قال لا يشترط التكرار في غسل النجاسات الدليل الأول: (213) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمَّد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن هشام، قال: حدثتني فاطمة عن أسماء، قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب، كيف تصنع. قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه، وتصلي فيه. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: فهنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر عدداً في غسل نجاسة دم الحيض، والمقام مقام بيان، وجواب عن سؤال كيف يطهر الثوب، وقد أرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى حته، وقرصه، وغسله، مع أن الحت ليس بواجب مع الغسل، فدل على أن التكرار ليس بواجب. الدليل الثاني: (214) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمَّد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا إنما ذلك عرق ¬
الدليل الثالث
وليس بحيض فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي قال وقال أبي ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرها بغسل الدم، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "واغسلي عنك الدم، ثم صلي". ولو كان العدد معتبراً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثالث: (215) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني ثابت أبو المقدام، قال: حدثني عدى بن دينار، قال: سمعت أم قيس بنت محصن قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثوب يصيبه دم الحيض. قال: حكيه بضلع، واغسليه بالماء والند والسدر. [إسناده صحيح] (¬2). وجه الاستدلال: الاستدلال بهذا الحديث كالاستدلال بالذي قبله، وقد ذكر السدر مع كونه ليس واجباً، فكيف يترك ذكر العدد مع وجوبه. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: من النظر، قالوا: النجاسة عين محسوسة، ووجوب غسلها معلل ببقائها، فإذا زالت من الغسلة الأولى ارتفع حكمها. والله أعلم. دليل الحنابلة على وجوب غسل النجاسات سبعاً. الدليل الأول: (216) قال ابن قدامة: روي عن ابن عمر أنه قال: أمرنا بغسل الأنجاس سبعا (¬1). والجواب على هذا من وجهين. الأول: أن هذا الأثر لا يعرف مسنداً في كتب الحديث، إنما ذكره الحنابلة في كتبهم الفقهية، فلا حجة فيه. الثاني: على فرض صحته قد روي ما يدل على أنه منسوخ. (217) فقد روى أحمد، قال:، ثنا حسين بن محمَّد، ثنا أيوب بن جابر، عن عبد الله - يعني بن عصمة -، عن ابن عمر قال: كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرار، والغسل من البول سبع مرار، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا، والغسل من الجنابة مرة، والغسل من البول مرة (¬2). ¬
الدليل الثاني
[إسناده ضعيف] (¬1). الدليل الثاني: قالوا: ثبت الأمر بغسل نجاسة الكلب سبعاً، وغيرها من النجاسات ¬
والدليل على وجوب غسل نجاسة الكلب سبعا.
قياساً عليه. والدليل على وجوب غسل نجاسة الكلب سبعاً. (218) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا. ورواه مسلم (¬1). وأجيب: بأن نجاسة الكلب مغلظة لا يمكن قياس النجاسة العادية على النجاسة المغلظة. أرأيت نجاسة دم الحيض مع أنه مجمع على نجاسته كما قدمنا إلا أنه لم يرد فيه تكرار الغسل، ولم يرد ذكر التراب في تطهير شيء من النجاسات إلا نجاسة الكلب، والرواية التي فيها ذكر التراب رواها مسلم في صحيحة، (219) قال مسلم: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام بن حسان، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب (¬2). دليل الحنفية على التفريق بين النجاسة المرئية وبين النجاسة غير المرئية. قالوا: بأن النجاسة إذا كانت مرئية كالدم ونحوه فطهارتها زوال عينها، ولا عبرة فيه بالعدد؛ لأن النجاسة في العين، فإن زالت العين زالت النجاسة، ¬
[الدليل الأول]
وإن بقيت بقيت. وأما إن كانت النجاسة غير مرئية فإنه يجب غسلها ثلاث مرات، والدليل على ذلك. [الدليل الأول] (*) (220) ما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار، قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق، قال ثنا أبو نعيم: قال ثنا عبد السلام بن حرب، عن عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هريرة في الإناء يلغ فيه الكلب أو الهر قال يغسل ثلاث مرار (¬1). [الحديث المحفوظ من حديث أبي هريرة الأمر بغسله سبعاً] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
قال الطحاوي: "فلما كان أبو هريرة قد رأى أن الثلاثة يطهر الإناء من ولوغ الكلب فيه وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا ثبت بذلك نسخ السبع لأنا نحسن الظن به فلا نتوهم عليه أنه يترك ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا إلى مثله، وإلا سقطت عدالته فلم يقبل قوله ولا روايته". قلت: الصحابي لا يتعمد مخالفة ما روى، ولكن قد يخالف ما يروي وليس بمعصوم، فقد ينسى ما روى، وقد يظن من عام أنه خاص، أو من مطلق أنه مقيد، أو العكس. وقال البيهقي منتقداً الطحاوي فيما قال: "استدل به - يعني الطحاوي على نسخ السبع على حسن الظن بأبي هريرة بأنه لا يخالف النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عنه. وهل أخذ بالأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في السبع، وبما روينا من فتيا أبي هريرة بالسبع، وبما روينا عن عبد الله بن المغفل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -". الدليل الثاني للحنفية: (221) ما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر البكراوي قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده ¬
في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً فإنه لا يدري أين باتت يده (¬1). وجه الاستدلال: قال الطحاوي: "كانوا يتغوطون أي: يقضون حاجتهم ويبولون ولا يستنجون بالماء، فأمرهم بذلك إذا قاموا من نومهم؛ لأنهم لا يدرون أين باتت أيديهم من أبدانهم، وقد يجوز أن يكون كانت في موضع قد مسحوه من البول أو الغائط فيعرقون فتنجس بذلك أيديهم فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بغسلها ثلاثاً وكان ذلك طهارتها من الغائط أو البول إن كان أصابها، فلما كان ذلك يطهر من البول والغائط وهما أغلظ النجاسات كان أحرى أن يطهر بما دون ذلك من النجاسات" (¬2). قلت: لا يمكن أن يجعل تطهير الكلب النجس، بما ورد في غسل اليدين الطاهرتين، والعلة ليست النجاسة كما توهم الطحاوي؛ لأن العلة لو كانت النجاسة لكان حكم اليدين حكم نجاسة دم الحيض، وأنتم لا تشترطون عدداً في نجاسة دم الحيض، بل يكفي فيها غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة. قال البيهقي في المعرفة: "زعم الطحاوي أنه تتبع الآثار، ثم روى الأحاديث الصحيحة في ولوغ الكلب، وترك القول بالعدد في تطهير الإناء منه، واستعمال التراب فيه. وجعل نظير ذلك الأحاديث التي وردت في غسل اليدين ¬
قبل إدخالهما الإناء، وهو يوجب غسل الإناء من الولوغ، ولا يوجب غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، فكيف يشتبهان؟ " (¬1). ¬
المبحث الرابع: علامة الطهر عند الحائض
المبحث الرابع: علامة الطهر عند الحائض فقيل: إذا انقطع الحيض طهرت مطلقاً، سواء خرجت بعده رطوبة بيضاء أم لا. وهذا مذهب الحنفية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3). وقيل: إن كانت ممن يرى القصة البيضاء، فلا تطهير حتى تراها، وإن كانت ممن لا يراها فطهرها الجفوف. وهو المنصوص عليه في المدونة عن الإِمام مالك رحمه الله (¬4). ¬
وقيل: من كان طهرها القصة البيضاء ورأت الجفوف فقد طهرت، ولا تطهر التي طهرها الجفوف برؤية القصة البيضاء حتى ترى الجفوف (¬1). وقيل: للطهر علامتان: الجفوف، والقصة البيضاء، فأيهما رأته المرأة كان علامة على طهرها. وسواء كانت المرأة ممن عادتها أن تطهر بالقصة البيضاء أو بالجفوف. وبه قال ابن حبيب من أصحاب مالك رحمه الله (¬2). وقيل: متى رأت أثر الدم الأحمر، أو كغسالة اللحم، أو الصفرة أو الكدرة، أو البياض، أو الجفوف التام فقد طهرت. وهذا مذهب ابن حزم (¬3). فتبين من هذا أن الأقوال كالاتي: الأول: أن العبرة بالجفوف مطلقاً. الثاني: أن القصة البيضاء مقدمة على الجفوف إن كانت تراها. الثالث: أن الجفوف مقدم على القصة البيضاء فيما لو كانت تراهما. الرابع: أن الجفوف والقصة البيضاء كلاهما علامة على الطهر. ¬
أدلة من قال: العبرة بالجفوف.
الخامس: متى رأت أثر الدم الأحمر، أو كغسالة اللحم، أو الصفرة أو الكدرة، أو البياض، أو الجفوف التام فقد طهرت. أدلة من قال: العبرة بالجفوف. قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} الآية (¬1) وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى وصف الحيض بكونه أذى، فإذا ذهب الأذى وجب زوال الحيض (¬2). قال تعالى {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (¬3). فقوله سبحانه وتعالى {حَتَّى يَطْهُرْنَ} ومن انقطع عنها دم الحيض، فقد طهرت منه. ولم يجعل النهي ممتداً حتى ترى السائل الأبيض. أدلة من قال: العبرة برؤية القصة البيضاء. (222) ما رواه مالك في الموطأ، قال: عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه مولاة عائشة أم المؤمنين، أنها قالت: كان النساء يبعثن إلى عائشة أم المؤمنين بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة من دم الحيضة يسألنها عن الصلاة فتقول لهن لا تعجلن حتى ترين القصة ¬
البيضاء. تريد بذلك الطهر من الحيضة (¬1). [إسناده حسن] (¬2). قال الحافظ: "القصة: هي ماء أبيض يدفعه الرحم عند انقطاع الحيض. قال مالك: سألت النساء عنه فإذا هو أمر معلوم عندهن يعرفنه عند الطهر" (¬3). وقد اختلف الناس في معنى القصة البيضاء إلى قولين: الأول: أن القصة البيضاء عبارة عن سائل أبيض يخرج عقب الدم من النساء في آخر الحيض، يكون علامة على طهرها، ولا تطهر بدونه، وقيل: إنه يشبه الخيط الأبيض. وهذا قول مالك وغيره. وقيل: معنى القصة البيضاء أن تخرج القطنة بيضاء ليس فيها شيء من الصفرة ولا الكدرة، فيكون ذلك علامة نقائها وطهرها (¬4). حكى الخطابي عن ابن وهب أنه قال في تفسير القصة البيضاء: رأت القطن الأبيض كأنه هو (¬5). قال ابن رجب: "واختلف قول أحمد في تفسير القصة البيضاء، فنقل ¬
دليل من قال إن كانت ترى القصة البيضاء فلا عبرة بالجفوف.
الأكثرون عنه أنه شيء أبيض يتبع الحيضة ليس بصفرة ولا كدرة، فهو علامة الطهر، وحكاه أحمد عن الشافعي (¬1). ونقل حنبل عن أحمد أن القصة البيضاء هو الطهر وانقطاع الدم. وكذلك فسر سفيان الثوري القصة البيضاء بالطهر من الحيض" اهـ كلامه رحمه الله (¬2). قلت: القصة البيضاء معلومة لا تخفى على النساء، لكنه عند غالب النساء، وليس كلهن، فكنت إذا سُئلت من قبل بعض النساء وسألتهن عن علامة الطهر فكان الغالب يرى هذا السائل الأبيض، وبعضهن: تقول: إنها لا تراه، ولكنها تشعر بالطهارة إذا جفت. دليل من قال إن كانت ترى القصة البيضاء فلا عبرة بالجفوف. قال عيسى بن دينار: القصة البيضاء أبلغ في براءة الرحم من الجفوف (¬3). وقال الحافظ: "إن القطنة قد تخرج جافة في أثناء الأمر - يعني في أثناء الحيض - فلا يدل ذلك على انقطاع الحيض، بخلاف القصة البيضاء" (¬4). دليل من قال يقدم الجفوف على القصة البيضاء جاء في الاستذكار: "قال ابن حبيب: الجفوف أبرأ للرحم من القصة البيضاء، فمن كانت طهرها القصة البيضاء فرأت الجفوف فقد طهرت. قال: ¬
دليل من قال إذا رأت أحدهما القصة والجفوف فقد طهرت.
ولا تطهر التي طهرها الجفوف برؤيتها القصة البيضاء حتى ترى الجفوف. قال: وذلك أن أول الحيض دم، ثم صفرة، ثم كدرة، ثم يكون نقاء كالفضة (¬1)، ثم ينقطع، فإذا انقطع قبل هذه المنازل فقد برئت الرحم من الحيض" (¬2). دليل من قال إذا رأت أحدهما القصة والجفوف فقد طهرت. لعله لاحظ أن كل واحد منهما علامة على خلو الرحم من الحيض، وإذا كانت عادة المرأة قد تنتقل، وتزيد وتنقص، فلا مانع أن تتغير علامة الطهر كغيرها، والمطلوب هو التأكد من خلو الرحم من الحيض سواء كان دماً أو صفرة أو كدرة فأي أمارة على هذا يكون قد حصل المقصود. دليل من قال: تطهر بانقطاع الدم الأسود قد ذكرت أدلة هذا القول في باب الصفرة والكدرة، وأجبت عن أدلته، ودليله حديث: "إن دم الحيض دم أسود يعرف" وقد أجبت عنه. وأثر أم عطية: كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً، ويفسرون الطهر بانقطاع الدم. وقوله تعالى {حَتَّى يَطْهُرْنَ} ويفسرون ذلك أي حتى تنقطع النجاسة التي هي الدم خاصة. ¬
والراجح: أن المرأة حسب عادتها إن كان طهرها رؤية السائل الأبيض تنتظر حتى تراه، وإن كان طهرها بالجفوف طهرت برؤيته، وكلا العلامتين يصلح أن يكون علامة على طهر المرأة. والله أعلم.
الباب الخامس: فيما يتعلق بالحائض من أحكام العبادات.
الباب الخامس: فيما يتعلق بالحائض من أحكام العبادات. ويشتمل على خمسة فصول. الفصل الأول: في الحائض، وتعبدها بكتاب الله. الفصل الثاني: في أحكام الحيض من حيث الصلاة. الفصل الثالث: في أحكام الحيض من حيث الصوم. الفصل الرابع: في أحكام الحيض من حيث المسجد. الفصل الخامس: في أحكام الحيض من حيث المناسك.
[الفصل الأول: في الحائض، وتعبدها بكتاب الله]
المبحث الأول: خلاف العلماء في قراءة القرآن للحائض اختلف العلماء في هذه المسألة: فقيل: لا تقرأ الحائض شيئاً من القرآن. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3) وقيل: لا تمنع الحائض حال نزول الدم، وأما إذا انقطع الدم وقبل الاغتسال، فقد اختلف المالكية إلى قولين: الأول: وهو المعتمد، أنها تمنع مطلقاً، سواء كانت متلبسة بجنابة قبل الحيض أم لا. والثاني: لا تمنع إذا انقطع الحيض إلا إذا كانت متلبسة بجنابة قبله (¬4). ¬
أدلة الجمهور على منع الحائض من قراءة القرآن.
وقيل: لا تمنع الحائض مطلقاً من قراءة القرآن. وهو قول للشافعي في القديم (¬1)، واختيار ابن حزم (¬2)، وابن تيمية (¬3). وقيل: تمنع إلا من قراءة الآية والآيتين. وهو قول ابن عقيل من الحنابلة (¬4). وقيل: تمنع إلا من قراءة ما دون الآية. وهو رواية عن أبي حنيفة، اختارها بعض أصحابه ومنهم الطحاوي (¬5). أدلة الجمهور على منع الحائض من قراءة القرآن. استدل الحنفية والشافعية والحنابلة على منع الحائض بأدلة منها: ¬
الدليل الأول
الدليل الأول: (223) حدثنا علي بن حجر والحسن بن عرفة، قالا حدثنا إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (224) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا عبد الصمد بن علي، حدثنا ¬
إبراهيم بن أحمد بن مروان، ثنا عمر بن عثمان بن عاصم، ثنا محمَّد بن الفضل عن أبيه، عن طاوس، عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقرأ الحائض ولا النفساء من القرآن شيئاً (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: القياس على الجنب؛ لأنه إذا منع الجنب منعت الحائض, لأن حدث الحيض أغلظ، حيث يمنع من الصيام، وقضاء الصلاة. وأحاديث منع الجنب من قراءة القرآن منها: (225) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا شعبة، عن عمرو ابن مرة، عن عبد الله بن سَلِمة، عن علي، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً (¬1). [إسناده ضعيف، والمعروف أنه موقوف على عليّ] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال: أن تبليغ القرآن من الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجب، وكونه يترك هذا الواجب يدل على أنه تركه لما هو أوجب منه، وإذا منع الجنب منعت الحائض؛ لأن الحيض أغلظ، حيث يمنع الصوم، وقضاء الصلاة، وانظر أدلة منع الجنب من قراءة القرآن في أدلة من يفرق بين الحيض والجنابة. ونوزع هذا الاستدلال بما يلي: أولاً: قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - منها ما هو واجب، ومنها ما هو على سبيل الاستحباب، كالتعبد بتلاوته، وتبليغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - واحداً من أمته تبليغ للأمة، فأكثر ما تكون قراءته له - صلى الله عليه وسلم - على وجه الذكر والتعبد، فإذا كان كذلك، كان حديث عليّ لو صح مجرد فعل من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب. قال ابن خزيمة: "لا حجة في هذا الحديث لمن منع الجنب من القراءة؛ لأنه ¬
ليس فيه نهي، وإنما هو حكاية فعل" (¬1). وقال ابن حزم: "فأما منع الجنب من قراءة القرآن فاحتجوا بما رواه عبد الله بن سلمة، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة. وهذا لا حجة فيه؛ لأنه ليس فيه نهي عن أن يقرأ الجنب القرآن، وإنما هو فعل منه عليه السلام لا يلزم، ولا بين عليه السلام أنه إنما يمتنع من قراءة القرآن من أجل الجنابة، وهو عليه السلام لم يصم قط شهراً كاملاً غير رمضان، ولم يزد قط في قيامه على ثلاث عشرة ركعة، ولا أكل قط على خوان، ولا أكل متكئاً، أفيحرم أن يصام شهر كامل غير رمضان، أو أن يتهجد المرء بأكثر من ثلاث عشرة ركعة، أو أن يأكل على خوان، أو أن يأكل متكئاً؟ هذا لا يقولونه، ومثل هذا كثير جداً، وقد جاءت آثار في نهي الجنب، ومن ليس على طهر عن أن يقرأ شيئاً من القرآن، ولا يصح منها شيء" (¬2). (226) ومنها ما رواه الدارقطني، من طريق أبي نعيم النخعي (عبد الرحمن بن هانئ)، نا أبو مالك النخعي، عن عبد الملك بن حسين، حدثني أبو إسحاق السبيعي، عن الحارث، عن علي. قال أبو مالك: وأخبرني عاصم بن كليب، عن أبي بردة، عن أبي موسى كلاهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
يا علي إني أرضى لك ما أرضى لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي، لا تقرأ القرآن وأنت جنب، ولا أنت راكع، ولا أنت ساجد، ولا تصل، وأنت عاقص شعرك، ولا تدبح تدبيح الحمار. [إسناده ضعيف جداً] (¬1). ¬
(227) ومنها ما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار من طريق عبد الله ابن لهيعة، عن عبد الله بن سليمان، عن ثعلبة بن أبي الكنود، عن مالك بن عبادة الغافقي، قال: أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جنب، فأخبرت عمر بن الخطاب، فجرني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله إن هذا أخبرني أنك أكلت وأنت جنب. قال: نعم إذا توضأت أكلت وشربت، ولكني لا أصلي ولا أقرأ حتى أغتسل (¬1). [إسناده ضعيف، ولو صح لكان حكاية فعل في الجنب خاصة] (¬2). ¬
(228) ومن أدلة منع الجنب من قراءة القرآن ما رواه عبد الرزاق، قال: عن الثوري، عن أبي وائل، عن عبيدة السلماني، قال: كان عمر بن الخطاب يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب. [رجاله ثقات، والكراهة عند السلف تعني التحريم، وعمر له سنة متبعة؛ لأنه من الخلفاء الراشدين المأمورين باتباع سنتهم] (¬1). ¬
والجواب: أن يقال: الصحابة قد اختلفوا، وإذا اختلفوا نظرنا في أقربهم للحق. (229) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا غندر، عن شعبة، عن حماد، عن إبراهيم، أن ابن مسعود كان يمشي نحو الفرات، وهو يقرئ رجلاً القرآن، فبال ¬
ابن مسعود، فكف الرجل عنه، فقال ابن مسعود: مالك؟ فقال: إنك بلت. فقال ابن مسعود: إني لست بجنب. [إسناده منقطع، إبراهيم لم يسمع من ابن مسعود، وباقي رجاله ثقات إلا حماد بن أبي سليمان فإنه صدوق له أوهام] (¬1). (230) ومنها ومنها ما رواه الدارقطني: حدثنا محمَّد بن مخلد، نا العباس ابن محمَّد الدوري (ح) وحدثنا إبراهيم بن دُبَيْس بن أحمد الحداد، نا محمد بن سليمان الواسطي، قالا: نا أبو نعيم، نا زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، قال: كان ابن رواحة مضطجعاً إلى جنب امرأته، فقام إلى جارية له في ناحية الحجرة، فوقع عليها، وفزعت امرأته، فلم تجده في مضجعه، فقامت وخرجت، فرأته على جاريته، فرجعت إلى البيت، فأخذت الشفرة، ¬
فقال: مهيم؟ فقالت: مهيم! لو أدركتك حيث رأيتك لوجأت بين كتفيك بهذه الشفرة. قال: وأين رأيتيني؟ فقالت: رأيتك على الجارية. فقال: ما رأيتيني، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرأ أحدنا القرآن، وهو جنب، قالت: فاقرأ، فقال: أتانا رسول الله يتلو كتابه ... كما لاح مشهور من الفجر ساطع أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع فقالت: آمنت بالله، وكذبت البصر. ثم غدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فضحك حتى رأيت نواجذه - صلى الله عليه وسلم -. [إسناد القصة ضعيف، وفيه انقطاع، والشعر ثابت لعبد الله ابن رواحة من غير هذا الطريق] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
هذه أدلة منع الجنب من قراءة القرآن، وإذا كان الجنب ممنوعاً كانت الحائض أولى بالمنع؛ لأن حدثها أغلظ، وقد عرفت أن هذه الأدلة ليست قوية، فلا تكفي في التحريم. وقد قال بالمنع جماعة من التابعين، منهم عطاء بن أبي رباح (¬1)، مجاهد (¬2)، ¬
أدلة القائلين بجواز قراءة الحائض القرآن.
وأبو وائل شقيق بن سلمة (¬1)، والزهري (¬2)، وإبراهيم النخعي (¬3)، والشعبي. أدلة القائلين بجواز قراءة الحائض القرآن. استدل القائلون بأنه يجوز للحائض أن تقرأ القرآن بأدلة منها الدليل الأول: أمر الله بتلاوة القرآن، وتدبره قال تعالى {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (¬4). وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (¬5)، وهذا الأمر بالتدبر مطلق، فمن ادعى المنع في بعض الأحوال كلف أن يأتي بالبرهان (¬6). الدليل الثاني: لو كانت الحائض ممنوعة من قراءة القرآن لجاءت الأحاديث الصحيحة الصريحة بمنعها، كما جاءت في منعها من الصلاة والصيام، فلما كانت الأحاديث الواردة لا تقوم بها حجة علم أن الشرع لم يمنعها من ذلك، وكل شيء يحتاج إليه في الشرع، ويتكرر، وتكون حاجته عامة ليست مقصورة على ¬
الدليل الثالث
فرد معين، لا بد وأن تأتي النصوص فيه صحيحة صريحة واضحة تقوم بمثلها الحجة. قال سبحانه وتعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1). الدليل الثالث: (231) استدلوا بما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر إلا الحج، فلما جئنا سرف طمثت، فدخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟ قلت: لوددت والله أني لم أحج العام. قال: لعلك نفست؟ قلت: نعم. قال: فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري. ورواه مسلم (¬2). وجه الاستدلال: احتج به البخاري في صحيحه على أن الحائض لا تمنع من قراءة القرآن؛ لأنها لم تنه إلا عن الطوف، فلما أبيح لها جميع أفعال المناسك، وهي مشتملة على ذكر وتلبية ودعاء إلا الطواف، دخل في ذلك قراءة القرآن، ومنع الحائض من قراءة القرآن إن كان لكونه ذكراً فلا فرق بينه وبين ما ذكر، وإن كان المنع تعبداً، ¬
الدليل الرابع
فيحتاج إلى دليل خاص، ولا دليل (¬1). والذي يظهر لي أن الحديث ليس فيه دليل؛ لأن الطواف استثني من أفعال المناسك، فحين قال لها - صلى الله عليه وسلم -: "افعلي ما يفعل الحاج" دخل فيه جميع أفعال المناسك من الرمي، والوقوف، والسعي، والمبيت. وقوله - صلى الله عليه وسلم - "غير ألا تطوفي في البيت" فأخرج من أفعال المناسك الطواف، وبقي ما عداه. وليست قراءة القرآن من أفعال المناسك الخاصة، حتى تدخل في عموم: "افعلي ما يفعل الحاج". الدليل الرابع: إذا كان الجنب على الصحيح لا يمنع من قراءة القرآن، وهو حدث أكبر لم تمنع الحائض من باب أولى؛ لأن الجنابة من كسب العبد، ويملك رفعها، والحيض ليس من كسب المرأة، ولا تملك رفعه، وقد يطول بها، وقد تتعرض لنسيان ما حفظت، وإليك الأحاديث الدالة على جواز قراءة القرآن للجنب (232) ما رواه مسلم، قال حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، وإبراهيم ابن موسى، قالا: حدثنا ابن أبي زائدة، عن أبيه، عن خالد بن سلمة، عن البهي، عن عروة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه (¬2). ¬
وجه الاستدلال: قولها رضي الله عنها: "يذكر الله على كل أحيانه". قال ابن حجر: "والذكر أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره، وإنما فرق بين الذكر والتلاوة بالعرف" (¬1). فإذا كان لفظ الذكر يشمل قراءة القرآن، وكان لفظ الذكر مطلقاً في الحديث، فمن قيد الذكر بما عدا القرآن فعليه الدليل. وحاول أن يرده ابن رجب، فقال: "ليس فيه دليل على جواز قراءة القرآن للجنب؛ لأن ذكر الله إذا اطلق لا يراد به القرآن" (¬2). وهذا غير صحيح، لأن قوله: "الذكر إذا اطلق لا يراد به القرآن" هل يريد لا يراد به القرآن شرعاً أم عرفاً. فإن كان يقصد العرف فمسلم والعرف يختلف من قوم إلى قوم، ومن زمان إلى آخر، وأما في الشرع فإن القرآن كله يسمى الذكر، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬3) وقال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (¬4)، والآيات في هذا كثيرة، والحقيقة الشرعية مقدمة على الحقيقة العرفية. ¬
الدليل الخامس
(233) ومنها ما روى ابن المنذر، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل، ثنا زياد ابن أيوب، ثنا أبو عبيد، ثنا عبيد بن عبيدة من بني عباب الناجي، قال: قرأ ابن عباس شيئاً من القرآن، وهو جنب، فقيل له في ذلك، فقال: ما في جوفي أكثر من ذلك (¬1). الدليل الخامس: (234) ما رواه مسلم، قال رحمه الله: حدثني محمد بن عمرو ابن عباد بن جبلة حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: حدثنا سعيد ابن حويرث، أنه سمع ابن عباس يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى حاجته من الخلاء، فقرب إليه طعام فأكل ولم يمس ماء. قال وزادني عمرو بن دينار عن سعيد بن الحويرث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: إنك لم توضأ، قال: ما أردت صلاة فأتوضأ. وزعم عمرو أنه سمع من سعيد بن الحويرث (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل من فرق بين الحيض والجنابة.
وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أردت صلاة فأتوضأ" فمعناه أن الوضوء لا يجب إلا للصلاة، ولا يجب الوضوء لغير الصلاة من قراءة القرآن للجنب والحائض وغيرهما. وانظر مزيد شرح للاستدلال بهذا الحديث في مسألة جواز مس المصحف. دليل من فرق بين الحيض والجنابة. قالوا: التفريق قائم من جهة الأثر والنظر. أما الآثار، فيرون أن أحاديث منع الحائض شديدة الضعف، وأحاديث منع الجنب صالحة للاحتجاج، إما بنفسها، أو بجميع طرقها .. ومن هذه الأحاديث: (235) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا شعبة، عن عمرو ابن مرة، عن عبد الله بن سليمة، عن علي، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً (¬1). (236) ومنها ما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار من طريق عبد الله ابن لهيعة، عن عبد الله بن سليمان، عن ثعلبة بن أبي الكنود، عن مالك بن عبادة الغافقي، قال: أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جنب، فأخبرت عمر بن الخطاب، فجرني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله إن هذا أخبرني أنك أكلت وأنت جنب. قال: نعم إذا توضأت أكلت وشربت، ولكني ¬
لا أصلي ولا أقرأ حتى أغتسل (¬1). (237) ومنها ما رواه عبد الرزاق، قال: عن الثوري، عن أبي وائل، عن عبيدة السلماني، قال: كان عمر بن الخطاب يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب. [رجاله ثقات] (¬2). (238) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا غندر، عن شعبة، عن حماد، عن إبراهيم، أن ابن مسعود كان يمشي نحو الفرات، وهو يقرئ رجلاً القرآن، فبال ابن مسعود، فكف الرجل عنه، فقال ابن مسعود: مالك؟. فقال: إنك بلت. فقال ابن مسعود: إني لست بجنب. [إسناده منقطع، إبراهيم لم يسمع من ابن مسعود، وباقي رجاله ثقات إلا حماد بن أبي سليمان فإنه صدوق له أوهام] (¬3). (239) ومنها ما رواه الدارقطني: حدثنا محمد بن مخلد، نا العباس بن محمد الدوري (ح) وحدثنا إبراهيم بن دُبَيْس بن أحمد الحداد، نا محمد بن سليمان الواسطي، قالا: نا أبو نعيم، نا زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، قال: كان ابن رواحة مضطجعاً إلى جنب امرأته، فقام إلى جارية له في ناحية الحجرة، فوقع عليها، وفزعت امرأته، فلم تجده في مضجعه، ¬
فقامت وخرجت، فرأته على جاريته، فرجعت إلى البيت، فأخذت الشفرة، فقال: مهيم؟ فقالت: مهيم! لو أدركتك حيث رأيتك لوجأت بين كتفيك بهذه الشفرة. قال: وأين رأيتيني؟ فقالت: رأيتك على الجارية. فقال: ما رأيتيني، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرأ أحدنا القرآن، وهو جنب، قالت: فاقرأ، فقال: أتانا رسول الله يتلو كتابه ... كما لاح مشهور من الفجر ساطع أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع فقالت: آمنت بالله، وكذبت البصر، ثم غدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فضحك حتى رأيت نواجذه - صلى الله عليه وسلم -. [إسناد القصة ضعيف، وفيه انقطاع، والشعر ثابت لعبد الله ابن رواحة من غير هذا الطريق] (¬1). وأما من جهة النظر. قالوا: إن مدة الحيض قد تطول، فيخشى عليها النسيان، وهي غير قادرة على رفع المانع بخلاف الجنب فهي قادرة على رفعه. وأجيب: بأن أحاديث نهي الجنب ليست قوية أيضاً، وعلى التسليم بصحتها فهي مجرد فعل من النبي - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد كره ذكر الله إلا على طهارة عندما تيمم لرد السلام، فهل يقال: باشتراط الطهارة لرد السلام. ثم إن قولكم: إن الحيض قد يطول، ولا يملك الإنسان رفعه، ¬
دليل من أذن في قراءة الآية والآيتين أو ما دون الآية ومنع من قراءة المصحف.
فهذا ليس دليلاً؛ لأن القراءة إن كانت حراماً عليها فلا يبيحها لها طول أمدها، وإن كانت حلالاً فلا معنى للاحتجاج بطول المدة، وقد يندفع هذا المحذور بتذكر القرآن بالقلب، وهو غير ممنوع، وإذا أبحتم القراءة للحائض، وهي أشد حدثاً من الجنب؛ لأن الحائض تمنع مما يمنع منه الجنب وزيادة، كالوطء والصوم، إذا جاز مع ذلك القراءة للحائض، جاز للجنب من باب أولى. دليل من أذن في قراءة الآية والآيتين أو ما دون الآية ومنع من قراءة المصحف. (240) استدلوا بما جاء في حديث أبي سفيان الطويل في كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل الروم، قال البخاري رحمه الله، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن عبد الله بن عباس أخبره، أن أبا سفيان بن حرب أخبره، أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارًا بالشام في المدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، وفي آخر الحديث: قال: ثم دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بعث به دحية إلى عظيم بصري، فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ
دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬1) الحديث قطعة من حديث طويل. ورواه مسلم (¬2). ورواه ابن حزم، وقال: "بعض الآية، والآية قرآن بلا شك، ولا فرق بين أن يباح له آية، أو أن يباح له أخرى، أو بين أن يمنع من آية أو يمنع من أخرى" (¬3). وقال ابن رجب: "وأما الاستدلال بحديث الكتاب إلى هرقل فلا دلالة فيه؛ لأنه إنما كتب ما تدعو الضرورة إليه للتبليغ" (¬4). وقال الحافظ ابن حجر: "وأما الجنب فيحتمل أن يقال: إذا لم يقصد التلاوة جاز، على أن في الاستدلال بذلك من هذه القصة نظراً، فإنها واقعة عين لا عموم لها، فقيد الجواز على ما إذا وقع احتياج إلى ذلك كالإبلاع والإنذار كما في هذه القصة، وأما الجواز مطلقاً حيث لا ضرورة، فلا يتجه" (¬5). وقد يقال: إن الآية ذكرت لا أنها من كلام الله، ولكنها من كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث إن من قرأ الخطاب، وهو لا يعرف الآية لا يدري أنها من كلام الله فهل أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - الاقتباس؛ لأنه معلوم أن الإنسان إذا نطق لفظاً ولم ينو به قرآناً لم يكن له حكم القرآن، كما لو قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أو قال: الحمد ¬
لله، أو قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. الخ أو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك قبل نزول الآية، فوافق لفظه لفظها لما نزلت. أو أنه قال ذلك امتثالاً لأمر الله، والذي يؤيد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أراد أن ذلك من كلامه زيادة الواو في الآية فإنها ليست من القرآن، وقد يكون للواو توجيه آخر لو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أراد بذلك القرآن، وليس هذا محل ذكرها. وقد اختلف العلماء في تمكين الكافر من تلاوة القرآن. قال ابن رجب: "اختلف أصحابنا في ذلك، فمنهم من منعه مطلقاً، ومنهم من رخص فيه مطلقاً، ومنهم من جوزه إذا رجي من حال الكافر الاستهداء والاستبصار، ومنعه إذا لم يرج ذلك، والمنقول عن أحمد أنه كرهه. وقال أصحاب الشافعي: إن لم يرج له الاستهداء بالقراءة منع منها، وإن رجي له ذلك لم يمنع على أصح الوجهين" (¬1). هذه أدلة الأقوال، والراجح - والله أعلم - القول بجواز القراءة مطلقاً للحائض والجنب، وهو مذهب البخاري كما أسلفنا، واختاره ابن المنذر، وقال تعليقاً على حديث عائشة: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه" قال: "الذكر قد يكون بقراءة القرآن، وقد يكون بغيره، فكلما وقع عليه اسم ذكر الله فغير جائز أن يمنع منه أحد إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمتنع من ذكر الله على كل أحيانه، وحديث علي لا يثبت إسناده؛ لأن عبد الله بن سلمة تفرد به، وقد تكلم فيه عمرو بن مرة، قال: سمعت عبد الله بن سلمة، وإنا لنعرف وننكر، فإذا كان هو ¬
الناقل لخبره، فجَرَحَه، بطل الاحتجاج به، ولو ثبت خبر علي لم يجب الامتناع من القراءة من أجله؛ لأنه لم ينه عن القراءة، فيكون الجنب ممنوعاً منه (¬1). ¬
المبحث الثاني: في حكم مس الحائض والمحدث المصحف
المبحث الثاني: في حكم مس الحائض والمحدث المصحف اختلف العلماء في من يريد مس المصحف هل يشترط أن يكون على طهارة من الحدث أم لا. فقيل: يحرم على المحدث مس المصحف. وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1) واختيار ابن تيمية (¬2). وقيل: تستحب له الطهارة، ولا تجب. قال البيهقي: اختارها العراقيون (¬3) وهو مذهب الظاهرية (¬4)، ¬
أدلة الجمهور على اشتراط الطهارة.
واختيار ابن المنذر (¬1). أدلة الجمهور على اشتراط الطهارة. الدليل الأول: من الكتاب قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬2). فالآية خبر بمعنى النهي، أي لا يمس المصحف إلا المطهر: والمطهر هو المتطهر من الحدث الأصغر والأكبر، ومنه الحيض. وأجيب: بأن المراد بالمطهرون الملائكة. والضمير في قوله: "لا يمسه" يعود إلى أقرب مذكور، وهو الكتاب المكنون. وهذا قول ابن عباس (¬3). ¬
وقال مالك (¬1): "أحسن ما سمعت في هذه الآية {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} إنما هي بمنزلة هذه الآية التي في عبس: قول الله تبارك وتعالى {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} (¬2). قال ابن المنذر: قال أنس (¬3)، وابن جبير، ومجاهد، والضحاك، وأبو العالية: المراد بالآية: الملائكة (¬4). وجواب ثان عن الآية: قالوا: إن ما ورد في الآية ليس أمراً، وإنما هو خبر، والله سبحانه وتعالى لا يقول إلا حقاً، ولا يجوز أن يصرف لفظ الخبر إلى معنى الأمر إلا بنص جلي، أو إجماع متيقن، ولما كان المصحف يمسه الطاهر وغير الطاهر علمنا أنه عز وجل لم ¬
الدليل الثاني
يعن المصحف، وإنما عنى كتاباً آخر، وهو الكتاب المكنون. والجواب الأول أقوى، لأن الخبر قد يأتي بمعنى الأمر، قال تعالى {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} (¬1) وقال سبحانه وتعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬2)، بل إن النهي إذا جاء بصيغة الخبر فالمراد منه توكيد النهي، وكأنه أمر لا يمكن تخلفه، وتوكيد النهي لا يعني إلا التحريم. وقالوا أيضاً: في قوله {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} المطهرون: اسم مفعول، ولو كان يريد المتطهر لعبر باسم الفاعل، كما قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (¬3). الدليل الثاني: (241) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا الحسين بن إسماعيل، نا سعيد بن محمد بن ثواب، ثنا أبو عاصم، ثنا ابن جريج، عن سليمان بن موسى قال: سمعت سالما يحدث عن أبيه قال قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا يمس القرآن إلا طاهر (¬4). [إسناده ضعيف] (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (242) ما رواه الدارقطني، قال رحمه الله تعالى: حدثنا محمد بن مخلد نا جعفر بن أبي عثمان الطيالسي، حدثني إسماعيل بن إبراهيم المنقري، قال: سمعت أبي، نا سويد أبو حاتم، نا مطر الوراق، عن حسان بن بلال، عن حكيم بن حزام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: لا تمس القرآن إلا وأنت على طهر (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (243) ما رواه الطبراني في الكبير، قال رحمه الله: حدثنا أحمد ابن عمرو الخلال المكي، ثنا يعقوب بن حميد، ثنا هشام بن سليمان، عن إسماعيل بن رافع، عن محمد بن سعيد بن عبد الملك، عن المغيرة بن شعبة، قال: قال عثمان بن أبي العاص - وكان شاباً (¬1) - وفدنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجدني أفضلهم أخذاً للقرآن، وقد فضلتهم بسورة البقرة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قد أمرتك على أصحابك، وأنت أصغرهم، فإذا أممت قوما فأمهم بأضعفهم؛ فإن ورائك الكبير والصغير والضعيف وذا الحاجة، وإذا كنت مصدقا فلا تأخذ الشافع: وهي الماخض، ولا الربى، ولا فحل الغنم، وحزرة الرجل هو أحق بها منك، ولا تمس القرآن إلا وأنت طاهر. وأعلم أن العمرة هي الحج الأصغر، وأن عمرة خير من الدنيا وما فيها وحجة خير من عمرة (¬2). ¬
[إسناده ضعيف] (¬1). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (244) ما رواه علي بن عبد العزيز في منتخبه، قال رحمه الله: حدثنا إسحاق بن إسماعيل، قال: حدثنا مسعدة البصري، عن خصيب بن جحدر، عن النضر بن شفي، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان، قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يمس القرآن إلا طاهر، العمرة الحج الأصغر، وعمرة خير من الدنيا وما فيها، وحجة أفضل من عمرة. [ضعيف جداً] (¬1). قال ابن القطان: "وهو إسناد في غاية الضعف، ولم أجد للنضر ابن شفي ذكراً في شيء من مظان وجوده. وهو مجهول جداً (¬2). وأما الخصيب بن جحدر، فقد رماه ابن معين بالكذب، واتقى أحمد بن حنبل حديثه، وإنما كان يروي ثلاثة عشر أو أربعة عشر حديثاً. وقال أبو حاتم: له أحاديث مناكير. ¬
الدليل السادس
وأما مسعدة البصري: فهو ابن اليسع، خرق أحمد بن حنبل أحاديثه، وتركه. وقال أبو حاتم: إنه يكذب على جعفر بن محمد" اهـ (¬1). فهو إسناد مظلم. الدليل السادس: حديث عمرو بن حزم، وهو حديث طويل، من كتاب كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل اليمن، وسنذكره بطوله لنرى ما توبع فيه مما انفرد به. (245) قال ابن حبان رحمه الله: أخبرنا الحسن بن سفيان وأبو يعلى وحامد ابن محمد بن شعيب في آخرين، قالوا: حدثنا الحكم بن موسى، حدثنا يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود، حدثني الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم، فقرئت على أهل اليمن، وهذه نسختها: من محمد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى شرحبيل بن عبد كلال، والحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال قَيْلِ (¬2) ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد، فقد رجع رسولكم، وأعطيتم الغنائم خمس الله، وما كتب الله على المؤمنين من العشر في العقار، وما سقت السماء أو كان سيحا أو بعلاً ففيه العشر إذ بلغ خمسة أوسق، وما سقي بالرشاء والدالية ففيه نصف العشر إذا بلغ خمسة ¬
أوسق. وفي كل خمس من الإبل سائمة شاة إلى أن تبلغ أربعاً وعشرين فإذا زادت واحدةً على أربع وعشرين ففيها ابنة مخاض، فإن لم توجد بنت مخاض، فابن لبون ذكر إلى أن تبلغ خمساً وثلاثين، فإذا زادت على خمس وثلاثين ففيها ابنة لبون إلى أن تبلغ خمساً وأربعين، فإذا زادت على خمس وأربعين ففيها حقة طروقة إلى أن تبلغ ستين، فإن زادت على ستين واحدة ففيها جذعة إلى أن تبلغ خمسة وسبعين، فإن زادت على خمس وسبعين واحدة ففيها ابنتا لبون إلى أن تبلغ تسعين فإن زادت على تسعين واحدة ففيها حقتان طروقتا الجمل إلى أن تبلغ عشرين ومئة، فما زاد ففي كل أربعين ابنة لبون وفي كل خمسين حقة طروقة الجمل. وفي كل ثلاثين باقورة بقر وفي كل أربعين شاة سائمة إلى أن تبلغ عشرين ومئة فإن زادت على عشرين ومئة واحدة ففيها شاتان إلى أن تبلغ مئتين فإن زادت واحدة فثلاثة شياه إلى أن تبلغ ثلاثة مائة فما زاد ففي كل مائة شاة شاة، ولا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا عجفاء ولا ذات عوار ولا تيس الغنم، ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خيفة الصدقة، وما أخذ من الخليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية. وفي كل خمس أواق من الورق خمسة دراهم، فما زاد ففي كل أربعين درهم وليس فيها دون خمس أواق شيء. وفي كل أربعين ديناراً دينار، وإن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته وإنما هي الزكاة تزكى بها أنفسهم في فقراء المؤمنين، أو في سبيل الله، وليس في رقيق ولا مزرعة ولا عمالها شيء إذا كانت تؤدي صدقتها من العشر وليس في عبد المسلم ولا فرسه شيء وإن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة الإشراك بالله، وقتل النفس المؤمنة بغير الحق،
والفرار في سبيل الله يوم الزحف، وعقوق الوالدين، ورمي المحصنة، وتعلم السحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم وإن العمرة الحج الأصغر. ولا يمس القرآن إلا طاهر، ولا طلاق قبل إملاك، ولا عتق حتى يبتاع ولا يصلين أحدكم في ثوب واحد ليس على منكبه منه شيء، ولا يحتبين في ثوب واحد ليس بينه وبين السماء شيء، ولا يصلين أحدكم في ثوب واحد وشقه باد، ولا يصلين أحدكم عاقصاً شعره، وإن من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فهو قود إلا أن يرضى أولياء المقتول، وإن في النفس الدية مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل أصبع من الأصابع من اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل وفي الموضحة خمس من الإبل، وإن الرجل يقتل بالمرأة وعلى أهل الذهب ألف دينار لفظ الخبر لحامد بن محمد بن شعيب. قال أبو حاتم: سليمان بن داود هذا هو سليمان بن داود الخولاني من أهل دمشق ثقة مأمون وسليمان بن داود اليمامي لا شيء وجميعهما يرويان عن الزهري. [إسناده ضعيف جداً، والصحيح أنه مرسل] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وما ورد مسنداً لا تقوم به حجة؛ لأنه إما من رواية متروك أو مجهول أو ضعيف، وأما المرسل فإسناده صحيح، ولكن المرسل من قسم الضعيف. وبعضهم احتج به لا من جهة الإسناد، ولكن من جهة تلقي العلماء له بالقبول، قال ابن حجر: "صحح الحديث بالكتاب المذكور جماعة من الأئمة، لا من حيث الإسناد، بل من حيث الشهرة. فقال الشافعي في رسالته: لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن عبد البر: هذا كتاب مشهور عند أهل السير، معروف ما فيه عند أهل العلم، معرفة يستغنى بشهرتها عن الإسناد؛ لأنه أشبه التواتر في مجيئه، لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة. وقال العقيلي: هذا حديث ثابت محفوظ إلا أنا نرى أنه كتاب غير مسموع ممن فوق الزهري. ¬
وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتاباً أصح من كتاب عمرو بن حزم هذا؛ فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم. قال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز وإمام عصره الزهري لهذا الكتاب بالصحة، ثم ساق ذلك بسنده إليهما" اهـ (¬1). وقال ابن تيمية: "قال أحمد لا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتبه له" (¬2). مناقشة هذا الكلام: أولاً: مناقشة دعوى تلقي الناس له بالقبول، كما نقله الحافظ عن ابن عبد البر. المقصود بالناس: هم العلماء، فهي حكاية عن الإجماع. وهل هي حكاية للإجماع بما ورد فيه من أحكام، أو الإجماع على صحة الكتاب وثبوته، ولا يلزم منه الإجماع على دلالته؛ لأنه قد يصح الدليل، وينازع في الاستدلال، كلاهما محتمل، وإن كان الراجح أن المقصود الإجماع على صحة الكتاب، ودعوى أن الكتاب متلقى بالقبول يدخلها ما يدخلها. أولاً: إثبات هذا التلقي؛ فإن كثيراً من الفقهاء قد يدّعون في أحاديث أنها متلقاة في القبول، وعند التمحيص لا تثبت هذه الدعوى، ولم أر البخاري ومسلماً قد خرجا في صحيحيهما أحاديث اعتماداً على تلقي الناس لها بالقبول، وإنما المعتمد هو الإسناد، وقد ضعف هذا المرسل داود الظاهري، وابن حزم، ¬
وابن المنذر، وخلافهم معتبر، وهو يبطل دعوى الإجماع؛ لأنهم من جملة المؤمنين الداخلين في قوله تعالى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}، هذا إن كانت دعوى الإجماع على صحة الكتاب، وإن كانت دعوى الإجماع على ما ورد فيه من أحكام؛ فإن الخلاف في مس المصحف محفوظ من لدن التابعين إن لم يكن من لدن الصحابة. ثانياً: عبارة ابن عبد البر في التمهيد تختلف عن العبارة التي نقلها الحافظ، فقد قال ابن عبد البر: "والدليل على صحة كتاب عمرو بن حزم تلقي جمهور العلماء له بالقبول .... " إلخ (¬1) وفرق بين قوله: "تلقي الناس له بالقبول"، وبين قوله: "تلقي جمهور العلماء ... " فإن اللفظ الثاني يثبت أن التلقي ليس من كافة العلماء، وإنما هو من جمهورهم. ثالثاً: على فرض أن دعوى التلقي بالقبول مسلم؛ فإن مسألة مس المصحف مستثناة. أرأيت الصحيحين قد تلقاهما الناس بالقبول، ومع ذلك لا يدخل في هذا التلقي ما تكلم فيه الأئمة كالدارقطني وغيره. فإذا كنا نستثني الأحاديث التي تكلم فيها العلماء من هذا التلقي، استثنينا أيضاً مس المصحف من ثبوت التلقي لثبوت النزاع فيها؛ إذا لا يمكن إثبات الإجماع وضده في آن واحد، فإن قال قائل: لا يمكن أن نحتج بهذا المرسل في الدماء والأموال، ثم لا يحتج به في هذه المسألة، التي هي أهون بكثير من انتهاك ¬
مال المسلم أو دمه، بل قد انعقد الإجماع على استحباب الطهارة لمس المصحف. فالجواب: أن ما يتعلق بالأموال والدماء ليس الاعتماد على هذا المرسل، بل الاعتماد على أحاديث أخرى ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ¬
واستشكل الاستدلال به من حيث المعنى. قالوا: إن اطلاق اسم النجس ¬
على المؤمن الذي ليس بطاهر من الجنابة أو الحيض أو الحدث الأصغر لا يصح حقيقة ولا مجازاً, فالمؤمن طاهر دائماً، سواء كان جنباً أو حائضاً أو على بدنه نجاسة، أم لا. فقوله: "لا يمس القرآن إلا طاهر" يحتمل أن المعنى: لا يمس القرآن إلا مؤمن. يؤيده كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بعثه إلى نجران، وفيها مشركون، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}. (246) وروى البخاري، قال رحمه الله: حدثنا عياش، قال: حدثنا عبد الأعلى، حدثنا حميد، عن بكر، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، قال: لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا جنب، فأخذ بيدي، فمشيت معه حتى قعد، فانسللت، فأتيت الرحل، فاغتسلت ثم جئت، وهو قاعد، فقال: أين كنت يا أبا هر. فقلت له، فقال: سبحان الله، يا أبا هر إن المؤمن لا ينجس. ورواه مسلم (¬1). (247) وروى مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال قرأت على مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو. ويحتمل أنه طاهر من الحدث الأكبر. ويحتمل أنه طاهر من الحدث الأصغر. ويحتمل أنه طاهر من النجاسة الحسية، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل الاستدلال. وهذا الكلام يشكل عليه أن القرآن والسنة كانت تخاطب جماعة الصحابة ¬
بوصف الإيمان والإسلام {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...}. {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ ...} {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ...}. {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ...} ولم يخاطب القرآن جماعة الصحابة بصفة الطاهرين، فلم يقل: يا أيها الطاهرون .. فيبقى الطاهر، لكل هو من الحدث أو من النجاسة. أنها من تطهر من الحدث، وعلى بدنه نجاسة فإنه لا يمنع من مس المصحف، إذا كانت النجاسة لا تتعدى. لا أعلم في المسألة خلافاً، فخرجت طهارة الخبث، وبقيت طهارة الحدث، ونحن نقول بشمولها للحدثين الأصغر والأكبر. ثم لا مانع من حمل المشترك على جميع أفراده، وعدم إخراج واحد منها إلا بدليل. والله أعلم. (248) وقد قال البخاري رحمه الله: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زكريا، عن عامر، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه، قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما. ورواه مسلم (¬1). فوصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - قدميه بعد الوضوء بأنها طاهرة: أي من الحدث. وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} إلى قوله {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (¬2). فسمى الله الاغتسال من الجنابة طهارة، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - هو القائل: إن المؤمن لا ¬
الدليل السادس
ينجس. (249) روى مسلم رحمه الله، قال: حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد وأبو كامل الجحدري - واللفظ لسعيد - قالوا: حدثنا أبو عوانة، عن سماك ابن حرب، عن مصعب بن سعد، قال: دخل عبد الله بن عمر على ابن عامر يعوده، وهو مريض، فقال: ألا تدعو الله لي يا ابن عمر، قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول وكنت على البصرة (¬1). والطهور: اسم لما يتطهر به، فالخلاصة أن حديث عمرو بن حزم الراجح فيه أنه مرسل. الدليل السادس: (250) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا محمّد بن عبد الله بن غيلان، نا الحسن بن الجنيد، وحدثنا أحمد بن محمّد بن إسماعيل الآدمي، نا محمّد بن عبيد الله المنادي، قالا: نا إسحاق الأزرق، نا القاسم بن عثمان البصري، عن أنس بن مالك، قال: خرج عمر متقلداً السيف، فقيل له: إن ختنك وأختك قد صبوا، فأتاهما عمر، وعندهما رجل من المهاجرين، يقال له خباب، وكانوا يقرؤون طه، فقال: أعطوني الكتاب الذي عندكم أقرأه، وكان عمر يقرأ الكتاب، فقالت له أخته: إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون، فقم فاغتسل أو توضأ، فقام عمر فتوضأ، ¬
ثم أخذ الكتاب، فقرأ طه. قال الدارقطني: القاسم بن عثمان ليس بقوي (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل السابع
وهذا الأثر مع كونه موقوفاً، يشكل عليه أن الكافر لا تصح منه العبادة، ولو توضأ وقت كفره أو اغتسل لم تصح منه الطهارة حال كفره، وقولها: إنك رجس: أي نجس، ومعلوم أن الكافر نجاسته معنوية، وليست حسية، وهو رجس بكفره. الدليل السابع: (251) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا محمّد بن مخلد، نا الصغاني، ثنا شجاع بن الوليد، ثنا الأعمش (ح). وثنا محمّد بن مخلد، نا إبراهيم الحربيّ، نا ابن نمير، ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان قال: ¬
كنا معه في سفر، فانطلق فقضى حاجته، ثم جاء، فقلت: أي أبا عبد الله توضأ لعلنا نسألك عن آي من القرآن، فقال: سلوني فإني لا أمسه؛ إنه لا يمسه إلا المطهرون، فسألناه فقرأ علينا قبل أن يتوضأ. قال الدارقطني: المعنى قريب كلها صحاح (¬1). ¬
الدليل الثامن
الدليل الثامن: (252) روى مالك في الموطأ، قال: عن إسماعيل بن محمّد بن سعد بن أبي وقاص، عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص، أنه قال: كنت أمسك المصحف على سعد بن أبي وقاص، فاحتككت. فقال: لعلك مسست ذكرك. قال: فقلت: نعم. فقال: قم فتوضأ، فقمت فتوضأت ثم رجعت (¬1). [إسناده صحيح]. ومع صحة إسناده إلا أنه ليس صريحاً في وجوب الوضوء؛ لأن الوضوء لا نزاع في كونه مشروعاً لمس المصحف، ولكن النزاع هل يجب أو لا يجب. والصحابة من أحرص الناس على الخير، وأكملهم في طلبه، ولا غرابة أن يطلب من ابنه الطهارة لقراءة القرآن ومسه، وهذا الأثر قد وقع فيه خلاف على سعد من جهتين: من جهة الوضوء لمس المصحف. ومن جهة الوضوء لمس الذكر (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
أدلة القائلين بجواز مس المصحف بدون طهارة.
هذا ما أمكنني جمعه من أدلة القول الأول. والله أعلم. أدلة القائلين بجواز مس المصحف بدون طهارة. الدليل الأول: عدم الدليل المقتضي لوجوب الطهارة، والأصل عدم الوجوب حتى يقوم دليل صحيح على وجوب الطهارة لمس المصحف. والأدلة التي احتج بها من منع لا يصح منها شيء، لأنه إما حديث مرسل، وقد ناقشت الاستدلال به، ودعوى أنه متلقى بالإجماع، وإما حديث ضعيف جداً، أو ضعيف فقط، وإما موقوف على صحابي قد يكون خالفه غيره، وغاية ما يدل عليه بعضها مشروعية الطهارة لمس المصحف، وهي ليست محل خلاف، وأما الاستدلال بالقرآن في قوله: {لَا يَمَسُّهُ إلا الْمُطَهَّرُونَ} فقد رجحت أن المراد بهم الملائكة، كما قاله جمع ¬
الدليل الثاني
من السلف. الدليل الثاني: الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يبينها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بياناً عاماً، ولا بد أن تنقلها الأمة، فإذا انتفى هذا علم أنه ليس من دينه، فلو كانت الطهارة واجبة لمس المصحف لجاءت الأدلة الصحيحة على بيانه؛ لأن هذا الأمر يحتاجه غالب المسلمين، ولا يستغني عنه أحد منهم؛ لأن حاجة المسلمين إلى قراءة كتاب الله، وتدبره، والعمل به، كحاجتهم إلى الطعام والشراب والنفس، فإن في قراءة القرآن حياة أرواحهم، كما أن في الطعام قوام أبدانهم، فلماذا لم يأت دليل صحيح يقطع النزاع في هذه المسألة المهمة. أتكون أذكار دخول المنزل، والخروج منه، وركوب الدابة، وأذكار السفر، وغيرها من الأذكار المستحبة تأتي فيها الأدلة صحيحة صريحة، وتكون الأدلة في مس المصحف لقراءة القرآن أشرف الكلام: كلام الله سبحانه وتعالى، وحجته على خلقه، والهادي إلى سبيل السلام، والأمة مضطرة لمسه وتعلمه، مع كل هذه الحاجة تأتي الأدلة على وجوب الطهارة له إما مرسل، أو حديث ضعيف، فهذا يدل على أن المسألة لا يثبت فيها نهي أصلاً. الدليل الثالث: (253) ما رواه مسلم، قال رحمه الله: حدثني محمّد بن عمرو بن عباد بن جبلة حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: حدثنا سعيد ابن حويرث، أنه سمع ابن عباس يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى حاجته من الخلاء، فقرب إليه
الدليل الرابع
طعام فأكل ولم يمس ماء. قال وزادني عمرو بن دينار عن سعيد بن الحويرث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: إنك لم توضأ، قال: ما أردت صلاة فأتوضأ. وزعم عمرو أنه سمع من سعيد بن الحويرث (¬1). ورواه عبد بن حميد كما في المنتخب، قال: أخبرنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس. وفيه: "إنما أمرتم بالوضوء للصلاة". وسنده صحيح، وفيه التعبير بالحصر بـ (إنما). وقد استدل به ابن تيمية على عدم وجوب الطهارة للطواف، وغفل أن يستدل به أيضاً على عدم وجوب الطهارة لمس المصحف، وقد ذكرت كلامه في بحث اشتراط الطهارة للطواف، فانظره غير مأمور. الدليل الرابع: القياس على قراءة القرآن، فإذا كانت قراءة القرآن من دون مس جائزة بالإجماع، فكذلك مسه من باب أولى؛ لأننا قد تُعِبدنا بقراءة القرآن، ولم نتعبد بمجرد مسه بدون قراءة، والأدلة على جواز قراءة القرآن من غير طهارة كثيرة. أولاً: الإجماع. قال النووي في المجموع: "أجمع المسلمون على جواز قراءة القرآن للمحدث، والأفضل أن يتطهر لها. قال إمام الحرمين والغزالي في البسيط: ولا نقول: قراءة المحدث مكروهة، ¬
الدليل الخامس
فقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ مع الحدث" (¬1). ثانياً: (254) روى مسلم رحمه الله، قال: حدثنا أبو كريب محمّد بن العلاء وإبراهيم بن موسى، قالا: حدثنا ابن أبي زائدة، عن أبيه، عن خالد بن سلمة، عن البهي، عن عروة، عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه (¬2). فقولها: "يذكر الله" مطلق يشمل قراءة القرآن، ويشمل غيره من الأذكار، وتسمية (ذكر الله بقراءة القرآن) تلاوة اصطلاح حادث، وإلا فالذكر يشمل هذا وهذا، بل إن أولى الذكر وأشرفه ما كان قراءة لكتابه. الدليل الخامس: إذا كان مس المصحف بالعصا جائز، أو من وراء حائل، فمسه باليد مثله أو أولى؛ لأن يد المسلم طاهرة. (255) لما رواه مسلم، قال رحمه الله تعالى: حدثني زهير بن حرب وأبو كامل ومحمد بن حاتم، كلهم عن يحيى بن سعيد، قال زهير: حدثنا يحيى، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فقال: يا عائشة ناوليني ¬
الدليل السادس
الثوب، فقالت: إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك، فناولته (¬1) فإذا كانت الحيضة ليست في اليد، كانت اليد طاهرة. الدليل السادس: (256). استدلوا بما جاء في حديث أبي سفيان الطويل في كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل الروم، قال البخاري رحمه الله، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود، أن عبد الله بن عباس أخبره، أن أبا سفيان بن حرب أخبره، أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، وفي آخر الحديث: قال: ثم دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من محمّد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬2). الحديث قطعة ¬
الدليل السابع
من حديث طويل. ورواه مسلم (¬1). قال ابن حزم: "فإن قالوا: إنما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل آية واحدة، ولم يمنع - صلى الله عليه وسلم - من غيرها، وأنتم أهل قياس، فإن لم تقيسوا على هذه الآية ما هو أكثر منها، فلا تقيسوا على هذه الآية غيرها" اهـ (¬2). وكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعث بهذه الآية القرآنية الكاملة إلى الكفار، وهم يجمعون بين نجاستي الشرك والنجاسة الحسية والحدث دليل على عدم اشتراط الطهارة لمس المصحف. وعندي أن هذا الاستدلال لا يسلم من النزاع. قال الحافظ في الفتح: وقد أجيب ممن منع ذلك - وهم الجمهور - بأن الكتاب اشتمل على أشياء غير الآيتين، فأشبه ما لو ذكر بعض القرآن في كتب الفقه أو التفسير، فإنه لا يقصد منه التلاوة، ونص أحمد أنه يجوز مثل ذلك في المكاتبة في مصلحة التبليغ، وقال به كثير من الشافعية، ومنهم من خص الجواز في القليل، كآية وآيتين. قال النووي: لا بأس أن يعلم النصراني الحرف من القرآن عسى الله أن يهدي به (¬3). الدليل السابع: إذا كان يجوز عند أكثر المانعين، إن لم يكن كلهم جواز مس الصبي اللوح ¬
الدليل الثامن
المكتوب فيه القرآن، فالبالغ أولى؛ لأن الصبي قد لا يحافظ على طهارة يده كما يحافظ عليها البالغ المكلف. الدليل الثامن: ذكر ابن الجوزي في تفسيره، والشوكاني في النيل، وفي فتح القدير (¬1)، والقرطبي في تفسيره (¬2). عن ابن عباس أنه يرى جواز مس المصحف للمحدث حدثاً أصغر، وذكر معه جماعة من التابعين كالشعبي وغيره، فإذا ثبت هذا عن ابن عباس، لم يصح دعوى إجماع الصحابة على ذلك. والله أعلم (¬3). الدليل التاسع: أكثر المسلمين لا يحفظون القرآن، وإذا منعناهم من مس المصحف إلا على طهارة فإن طائفة كبيرة قد تحجم عن قراءته إما عجزاً في تحصيل الطهارة أو قد لا يكون الماء في المتناول وإن لم يكن معدوماً، وما دامت الأدلة ليست بالقوية، وهي معارضة لأدلة أخرى، وحرصاً على تيسير قراءة القرآن لعموم المسلمين في كل الأوقات، فإن النفس قد يكون فيها حرج في إيجاب مثل هذا. نعم الطهارة عبادة عظيمة، وهي تكفر السيئات، وهي عبادة مقصودة لذاتها، كما أنها مشروعة بالإجماع لذكر الله، بل حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - ألا يرد السلام إلا على طهارة، ولكن مع ذلك، فإن الجزم بالإيجاب أمر ليس بالسهل، ويخشى ¬
الإنسان أن يكون قد ضيق أمراً فيه سعة، ولا نقول إلا اللهم يا مفهم سليمان فهمنا، ويا معلم داود علمنا، اللهم أرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه. وبعد تحرير هذا البحث، كانت هناك مذاكرة مع بعض المشايخ، تبين لي فيها طريق آخر لمرسل عمرو بن حزم يتقوى به مرسل عمرو بن حزم، (257) فقد روى عبد الرزاق في المصنف، عن معمر، عن عبد الله ابن عبد الرحمن الأنصاري، عن ابن المسيب، قال: قضى عمر بن الخطاب في الأصابع بقضاء، ثم أخبر بكتاب كتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - لآل حزم في كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل، فأخذ به وترك أمره الأول (¬1). [رجاله ثقات إن ثبت سماع ابن المسيب له من عمر، وعلى تقدير أنه منقطع، فمرسلات ابن المسيب من أصح المراسيل، والله أعلم] (¬2). ¬
إلا أن هذا الحديث لم يحل المشكلة، فهو يثبت صحة كتاب عمرو بن حزم بالجملة، ولا يثبت ما ورد فيه من ألفاظ ولو جاءت من طرق شديدة الضعف، فتأمل، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني: في أحكام الحائض من حيث الصلاة
الفصل الثاني: في أحكام الحائض من حيث الصلاة المبحث الأول: حرمة الصلاة على الحائض وعدم استحباب القضاء يحرم على الحائض فعل الصلاة ولا يستحب لها أن تقضي، هذا قول العلماء من السلف والخلف (¬1). وخالف في ذلك بعض الخوارج، فقالوا بوجوب القضاء على الحائض (¬2). أدلة من قال: لا تصلي الحائض ولا تقضي. أما الأدلة على كونها لا تصلي فكثيرة. منها الإجماع .. حكاه كثير من أهل العلم. قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم لا اختلاف بينهم على إسقاط فرض الصلاة عن الحائض في أيام حيضها" (¬3). وقال ابن عبد البر تعليقا على حديث: فإذا أقبلت الحيضة فاتركي ¬
الصلاة .. قال: "وهذا نص صحيح في أن الحائض تترك الصلاة ليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب أثبت من جهة نقل الآحاد العدول والأمة مجمعة على ذلك" ثم قال: "وما أجمع المسلمون عليه فهو الحق، والخير القاطع للعذر. وقال الله عز وجل: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬1). والمؤمنون هنا: الإجماع، لأن الخلاف لا يكون معه اتباع غير سبيل المؤمنين، لأن بعض المؤمنين مؤمنون، وقد اتبع المتبع سبيلهم، وهذا واضح يغني عن القول فيه" (¬2). وقال النووي: "أجمعت الأمة على أنه يحرم عليها الصلاة فرضها ونفلها، وأجمعوا على أنه يسقط عنها فرض الصلاة، فلا تقضي إذا طهرت. قال أبو جعفر بن جرير في كتابه اختلاف الفقهاء: أجمعوا على أن عليها اجتناب كل الصلوات وأنها إن صلت أو صامت، أو طافت لم يجزها ذلك عن فرض أو نفل كان عليها" (¬3). وقال النووي في شرح مسلم: "أجمع المسلمون على أن الحائض والنفساء لا تجب عليها الصلاة ولا الصوم في الحال" (¬4). ونقل الإجماع القرطبي في المفهم شرح مسلم (¬5). ¬
(258) ومن السنة ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا سعيد بن أبي سريعة، قال: أخبرنا محمّد بن جعفر، أخبرنا زيد هو ابن أسلم، عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري، قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى - أو فطر - إلى المصلى فمر على النساء فقال: "يا معشر النساء تصدقن، فإني أريتكم أكثر أهل النار" فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: "تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن" قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل" قلن: بلى، قال: "فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم" قلن: بلى، قال: "فذلك من نقصان دينها". وأخرجه مسلم (¬1). (259) وأخرج مسلم أيضاً، قال رحمه الله: حدثنا محمّد بن رمح بن المهاجر المصري، أخبرنا الليث، عن ابن الهاد، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار. فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن. قلت: يا رسول الله، وما نقصان العقل والدين؟ قال: أما نقصان ¬
وأما الأدلة على كون الحائض لا تقضي الصلاة.
العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين (¬1). (260) وروى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا محمّد، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله، إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا، إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (¬2). وأخرجه مسلم، دون قوله، قال أبي: ثم توضئي لكل صلاة .. إلخ (¬3). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة"، فإنه نص صريح لوجوب ترك الصلاة زمن الحيض. وأما الأدلة على كون الحائض لا تقضي الصلاة. (261) ما أخرجه البخاري:، قال رحمه الله: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا همام، قال: حدثنا قتادة، قال: حدثتني معاذة، ¬
أن امرأة قالت لعائشة: أتجزئ إحدانا صلاتها إذا طهرت. فقالت: أحرورية أنت؟ كنا نحيض مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يأمرنا به، أو قالت: فلا نفعله (¬1). قولها: فلا يأمرنا به. قال ابن حجر في الفتح: "عدم الأمر بالقضاء هنا قد ينازع في الاستدلال على عدم الوجوب لاحتمال الاكتفاء بالدليل العام على وجوب القضاء، والله أعلم" (¬2). لكن قال ابن رجب: "نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كن يحضن في زمانه فلا يقضين الصلاة إذا طهرن فإنما يكون ذلك بإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وأمره به. فإن مثل هذا لا يخفى عليه، ولو كان القضاء واجباً عليهن لم يهمل ذلك، وهو لا يغفل عن مثله لشدة اهتمامه بأمر الصلاة" (¬3). (262) قلت: ورواه مسلم (¬4) من طريق معمر عن عاصم عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، فقالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية ولكني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة. ¬
وقال ابن رجب (¬1): وقد حكى غير واحد من الأئمة إجماع العلماء على أن الحائض لا تقضي الصلاة، وأنهم لم يختلفوا في ذلك، منهم الزهري، والإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر وغيرهم. اهـ. (263) وروى عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء قال: قلت له: أتقضي الحائض الصلاة؟ قال: لا، ذلك بدعة. [إسناده صحيح] (¬2). (264) وروى عبد الرزاق، قال: عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة قال: سئل أتقضي الحائض الصلاة؟ قال: لا، ذلك بدعة. [رجاله ثقات] (¬3). وقال الترمذي في السنن: وقد روي عن عائشة من غير وجه، أن الحائض لا تقضي الصلاة، وهو قول عامة الفقهاء، لا اختلاف بينهم، في أن الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة (¬4). وقال ابن حزم: ولا تقضي الحائض إذا طهرت شيئاً من الصلاة التي مرت في أيام حيضها، وتقضي صوم الأيام التي مرت بها في أيام حيضها، وهذا نص ¬
دليل من ذهب إلى وجوب قضاء الصلاة من الخوارج.
مجمع لا يختلف فيه أحد (¬1). دليل من ذهب إلى وجوب قضاء الصلاة من الخوارج. وبالرغم من أن هذا الخلاف شاذ، ولا يعتد به، إلا أني ما سقت دليلهم إلا لبيان باطلهم، من ردهم السنة الصحيحة، وتحكيم العقل في أمور الشرع. قال ابن حجر: من أصولهم المتفق عليها بينهم - يعني الخوارج - الأخذ بها دل عليه القرآن، ورد ما زاد عليه من الحديث مطلقاً (¬2). وخاب وخسر من رد السنة بالقرآن، وقد نزل القرآن باتباع السنة: قال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬3). وقال سبحانه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬4). وكيف يصلي الإنسان؟ وكيف يؤدي زكاته؟ لولا أن بيان ذلك جاء في السنة. فليس في كتاب الله إلا الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. (265) وأما ما روى أبو داود، قال رحمه الله: حدثنا الحسن بن يحيى، أخبرنا محمّد بن حاتم - يعني حبي - حدثنا عبد الله بن المبارك، عن يونس بن نافع، عن كثير بن زياد، قال: حدثتني الأزدية - يعني: مسة - قالت: حججت فدخلت على أم سلمة، فقلت: يا أم المؤمنين إن سمرة بن جندب يأمر النساء ¬
يقضين صلاة المحيض. فقالت: لا يقضين، كانت المرأة من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - تقعد في النفاس أربعين ليلة لا يأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - لقضاء صلاة النفاس (¬1). [ضعيف] (¬2). قال ابن رجب في شرحه للبخاري: في سنن أبي داود بإسناد فيه لين أن سمرة بن جندب كان يأمر النساء بقضاء صلاة الحيض (¬3). وإذا كان الإسناد ضعيفاً فلا يثبت هذا إن شاء الله عن سمرة، ولو ثبت فليس لأحد حجة بعد كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن حجر تعليقاً على قول البخاري (¬4): لا تقضي الحائض الصلاة. قال الحافظ: "نقل ابن المنذر، وغيره إجماع العلماء على ذلك، وروى عبد الرزاق عن معمر أنه سأل الزهري عنه، فقال: اجتمع الناس عليه، وحكى ابن عبد البر عن طائفة من الخوارج أنهم كانوا يوجبونه، وعن سمرة بن جندب أنه كان يأمر به فأنكرت عليه أم سلمة، لكن استقر الإجماع على عدم الوجوب، ¬
كما قاله الزهري، وغيره" (¬1). وربما استدل بعض الخوارج بالقياس على وجوب قضاء الصوم، فإذا كانت تؤمر بقضاء الصوم فكذلك الصلاة فإنها من أهل التكليف. وهذا قياس في مقابلة النص، فيكون قياساً فاسداً. فقد أخرج البخاري تعليقاً في صيغة الجزم، قال البخاري: "وقال أبو الزناد: إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيراً على خلاف الرأي فما يجد المسلمون بداً من اتباعها، من ذلك أن الحائض تقضي الصيام، ولا تقضي الصلاة". اهـ (¬2). وقوله: على خلاف الرأي، يقصد به بادي الرأي، وإلا فالشرع لا يخالف العقل إذا كان النظر صحيحاً، لكن العقل عاجز عن إدراك الحكمة في كل أوامر الله، وإلا فالله لا يفرق بين متماثلين، ولا يجمع بين متفرقين، ولا يأمر ولا ينهى إلا لحكمة وهو الحكيم العليم. وقال العلامة أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على سنن الترمذي: "وأمر الحائض بقضاء الصوم وترك أمرها بقضاء الصلاة، إنما هو تعبد صرف لا يتوقف على معرفة حكمته، فإن أدركناها فذاك، وإلا فالأمر على العين والرأس، وكذلك الشأن في جميع أمور الشريعة، لا كما يفعل الخوارج، ولا كما يفعل كثير من أهل هذا العصر، يريدون أن يحكموا عقولهم في كل شأن من شئون الدين فما قبلته قبلوه، وما عجزت عنه فهمه وإدراكه أنكروه وأعرضوا عنه، وشاعت هذه ¬
الآراء المنكرة بين الناس، وخاصة المتعلمين منهم، حتى ليكاد أكثرهم يعرض عن كثير من العبادات، وينكر أكثر أحكام الشريعة في المعاملات، اتباعاً للهوى، ويزعمون أن هذا هو ما يسمونه روح التشريع، أو حكمة التشريع، وإنه ليخشى على من يذهب هذا المذهب الردي أن يخرج من ساحة الإسلام المنيرة إلى ظلام الكفر والردة، والعياذ بالله من ذلك، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعصمنا باتباع الكتاب والسنة، والاهتداء بهديهما. اهـ (¬1). وقد تلمس بعض العلماء الحكمة من التفريق بين الصلاة والصيام، قال ابن رجب: وقد فرق كثير من الفقهاء من أصحابنا وأصحاب الشافعي بين قضاء الصوم والصلاة بأن الصلاة تتكرر كل يوم وليلة خمس مرات، والحيض لا تخلو منه كل شهر غالباً، فلو أمرت الحائض بقضاء الصلاة مع أمرها بأداء الصلاة في أيام طهرها لشق ذلك عليها، بخلاف الصيام فإنه إنما يجيء مرة واحدة في السنة فلا يشق قضاؤه. ومنهم من قال: جنس الصلاة يتكرر في كل يوم من أيام الطهر، فيغني ذلك عن قضاء ما تركته منها في الحيض بخلاف صيام رمضان فإنه شهر واحد في السنة لا يتكرر فيها، فإذا طهرت الحائض أمرت بقضاء ما تركته أيام حيضها لتأتي بتمام عدته المفروضة في السنة كما يمر بذلك من أفطر لسفر أو مرض (¬2). هذا فيما يتعلق بالصلاة وحكم قضائها. ¬
المبحث الثاني: في هل يستحب للحائض أن تتوضأ وقت الصلاة، وتجلس في مصلاها تذكر الله وتسبحه مقدار الصلاة.
المبحث الثاني: في هل يستحب للحائض أن تتوضأ وقت الصلاة، وتجلس في مصلاها تذكر الله وتسبحه مقدار الصلاة. قال النووي: مذهبنا ومذهب جمهور العلماء من السلف والخلف، أنه ليس على الحائض وضوء ولا تسبيح، ولا ذكر في أوقات الصلوات، ولا في غيرها، وممن قال بهذا الأوزاعي ومالك، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور، حكاه عنهم ابن جرير (¬1). وقال ابن نجيم من الحنفية: وأما أئمتنا فقالوا: إنه يستحب لها أن تتوضأ لوقت كل صلاة، وتقعد على مصلاها تسبح، وتهلل، وتكبر (¬2). وقال أيضاً: وصحح في الظهيرية أنها تجلس مقدار أداء فرض الصلاة كيلا تنسى العبادة. دليل من استحب لها الذكر وقت الصلاة. (266) واستدل من استحب ذلك بما رواه الطبراني، قال: حدثنا جعفر بن محمّد الفريابي، ثنا محمّد بن سماعة الرملي. (ح) وحدثنا محمّد بن جابر، ثنا محمّد بن أبان البلخي، قالا: ثنا أيوب بن سويد الرملي، عن عتبة بن أبي حكيم، عن أبي سفيان طلحة بن نافع، حدثني عبد الله بن عباس، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وعد العباس ذوداً من إبل، ¬
فبعثني إليه، فبت عنده، وكانت ليلة ميمونة بنت الحارث، فنام النبي - صلى الله عليه وسلم - غير كثير، فتوسدت التي توسدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قام عليه السلام فتوضأ، فأسبغ الوضوء، وأقل هراقة الماء، ثم قام فافتتح الصلاة، وكانت ميمونة حائضاً فقامت فتوضأت، ثم قعدت خلفه تذكر الله أنه بات عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة ميمونة بنت الحارث، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فاسبغ الوضوء، وقل هراقه لماء، وقام فافتتح الصلاة، فقمت فتوضأت، وقمت عن يساره، فأخذ بأذني فأقامني عن يمينه، وكانت ميمونة حائضاً فقامت فتوضأت ثم قعدت خلفه تذكر الله عز وجل (¬1). [ضعيف] (¬2). ¬
وقال ابن رجب: وقد استحب طائفة من السلف أن تتوضأ في وقت كل، صلاة مفروضة، وتستقبل القبلة، وتذكر الله عز وجل بمقدار تلك الصلاة، منهم الحسن، وعطاء، وأبو جعفر محمّد بن علي، وهو قول إسحاق، وروي عن عقبة بن عامر أنه كان يأمر الحائض بذلك وأن تجلس بفناء مسجدها. خرجه الجوزجاني. وقال مكحول: كان ذلك من هدي نساء المسلمين في أيام حيضهن (¬1). (267) أما قول عطاء: فأخرجه ابن أبي شيبة، قال رحمه الله: حدثنا حفص بن غياث، عن عبد الملك، عن عطاء أنه كان يقول في الحائض: تتنظف وتتخذ مكاناً في مواقيت الصلاة تذكر الله فيه (¬2). وعبد الملك لم ينسبه الراوي، ويحتمل أن يكون ابن جريح، ويحتمل أن يكون عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، فإن كان الأول فإنه، وإن كان ثقة إلا ¬
أنه مدلس وقد عنعن. إلا أني أرى أنه مكثر عن عطاء، فلا تؤثر عنعنته. وإن كان الثاني وهو الراجح، فإن الإسناد صحيح، لأن عبد الملك ابن عبد العزيز بن جريح قد غلبت عليه كنيته، فأكثر المصنفين يذكرونه بكنيته، وإذا ذكروا اسمه ذكروا معه كنيته بخلاف الثاني. وأما قول الحسن فقد ثبت عنه بسند صحيح (268) فقد روى ابن أبي شيبة: حدثنا يزيد بن هارون، عن يزيد ابن إبراهيم، عن الحسن قال: سمعته يقول في الحائض: توضأ عند كل صلاة وتذكر الله. [إسناده صحيح] (¬1). وأما قول أبي جعفر: (269) فرواه ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر قال: إنا لنأمر نساءنا في الحيض أن يتوضأن في وقت كل صلاة، ثم يجلسن ويسبحن ويذكرن الله (¬2). [إسناده ضعيف جداً] (¬3). ¬
وأما قول عقبة بن عامر (270) فرواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن المقري، عن سعيد ابن أبي أيوب، قال: حدثني خالد بن يزيد الصدفي، عن أبيه عن عقبة بن عامر أنه كان يأمر المرأة الحائض وقت الصلاة أن تتوضأ وتجلس بفناء المسجد، وتذكر الله وتهلل وتسبح (¬1). ولم أقف على ترجمة خالد بن يزيد الصدفي، ولا ترجمة أبيه، وباقي رجاله ثقات (¬2). والله أعلم. والحق أن استحباب ذلك بدعة. قال ابن رجب: "وأنكر ذلك أكثر العلماء، وقال أبو قلابة: قد سألنا عن هذا فما وجدنا له أصلاً. وقال سعيد بن عبد العزيز: ما نعرف هذا ولكننا نكرهه. وقال ابن عبد البر: على هذا القول جماعة الفقهاء، وعامة العلماء في الأمصار" (¬3). ¬
وقول أبي قلابة الذي أشار إليه الحافظ ابن رجب. قد رواه ابن أبي شيبة، قال رحمه الله: (271) حدثنا معتمر، عن أبيه، قال: قيل لأبي قلابة: الحائض تسمع الأذان فتوضأ، وتكبر، وتسبح، قال: قد سألنا عن ذلك فما وجدنا له أصلاً. [سنده صحيح] (¬1). (272) وروى ابن أبي شيبة، قال رحمه الله: حدثنا ابن مهدي، عن شعبة، قال: سألت الحكم وحماداً فكرهاه (¬2). ولسنا نمنع الحائض من ذكر الله تعالى، فإن ذكر الله مستحب في كل حين، لكن استحبابه على هذه الصفة بدعة. فأولاً: أين الدليل على مشروعية الوضوء للحائض؟ قال النووي: إذا قصدت الطهارة تعبداً مع علمها بأنها لا تصح فتأثم بهذا، لأنها متلاعبة بالعبادة، فأما إمرار الماء عليها بغير قصد العبادة فلا تأثم به بلا خلاف. وهذا كما أن الحائض إذا أمسكت عن الطعام بقصد الصوم أثمت، وإن أمسكت بلا قصد لم تأثم. اهـ (¬3). ثانياً: لا يكفي أن يكون أصل العبادة مشروعاً، حتى يكون فعلها مشروعاً في وقت مخصوص. فكل من تحرى وقتاً معيناً في أداء عبادة معينة، فإن كان هناك ¬
دليل على تحريه هذا الوقت وإلا كان تحريه لها بدعة، ولا يشفع له أن أصلها مشروع. فنقول في مسألتنا هذه: أين الدليل على تحريها للذكر أوقات الصلاة؟ بل تذكر الله في غير أوقات الصلوات من الذكر المطلق والمقيد، ولا يكون ذلك بسبب الحيض، بل لأن ذكر الله مشروع في كل وقت. (273) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة حين حاضت: "افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري" (¬1). وقوله: "افعلي ما يفعل الحاج" دخل فيه جميع ما يفعله الحجاج من ذكر الله فإنها تقف بعرفة وتدعو هناك وتذكر الله، وتقف في المشعر الحرام وتذكر الله هناك، وترمي الجمارات، وتذكر الله بعد رمي الجمرة الأولى والوسطى، فهي ليست ممنوعة من ذكر الله، لكن استحبابه على صفة مخصوصة يحتاج إلى دليل. نعم جاء لها ذكر معين من الممكن أن يكون من الذكر المقيد. (274) فقد روى البخاري، قال رحمه الله: حدثنا محمّد، حدثنا عمر ابن حفص، قال: حدثنا أبي، عن عاصم، عن حفصة، عن أم عطية قالت: كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد، حتى تخرج البكر من خدرها، حتى تخرج الحيض، فيكن خلف الناس، فيكبرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته. وهو في مسلم، دون قوله: ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته (¬2). ¬
المبحث الثالث: هل تثاب الحائض على ترك الصلاة
المبحث الثالث: هل تثاب الحائض على ترك الصلاة قال الحافظ في الفتح: الحائض لا تأثم بترك الصلاة زمن الحيض، لكنها ناقصة عن المصلى، وهل تثاب على هذا الترك لكونها مكلفة به كما يثاب المريض على النوافل التي كان يعملها في صحته وشغل بالمرض عنها؟ قال النووي: الظاهر أنها لا تثاب. والفرق بينها وبين المريض أنه كان يفعلها بنية الدوام عليها مع أهلية، والحائض ليست كذلك وعندي (أي عند الحافظ ابن حجر) في كون هذا الفرق مستلزماً لكونها لا تثاب - وقفة. اهـ (¬1). وقيل: تثاب الحائض على ترك ما حرم عليها من العبادات إذا نوت الامتثال بالترك لا على العزم على الفعل لولا الحيض (¬2). والذي يظهر - والله أعلم - أنها لا تعطى ثواب المصلي؛ وفرق بينها وبين المريض؛ لأن المريض مكلف بالأداء لولا العجز، ولذلك لو تحامل على نفسه وصلى، قبلت صلاته، ولم يفعل محرماً، بينما الحائض ليست مكلفة في أداء الصلاة، أرأيت الإنسان حين لا يصلي عند طلوع الشمس وعند غروبها، لا يقال: يعطى ثواب المصلي؛ لأنه إنما منع من قبل الشرع. نعم تثاب على كونها التزمت ذلك النهي من الشارع ثواب امتثال، لا ثواب أداء للصلاة، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع: هل يستحب للحائض قضاء الصلاة؟
المبحث الرابع: هل يستحب للحائض قضاء الصلاة؟ سبق أن ذكرنا أن العلماء مجمعون على أن القضاء لا يجب على الحائض، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الخوارج، وكون القضاء لا يجب عليها فهل تمنع من القضاء، لأن نفي الوجوب قد لا يستلزم نفي الاستحباب. وقد وجدت قولين لأهل العلم ممن يقولون بأن القضاء لا يجب: القول الأول: أنه يحرم القضاء، ولا يجوز لها أن تفعله. جاء في الفروع لابن مفلح (¬1): قيل لأحمد في رواية الأثرم: فإن أحبت أن تقضيها؟ قال: لا. هذا خلاف - يعني السنة - فظاهر النهي التحريم. اهـ. ثم إن السنة التركية كالسنة الفعلية، ولذلك حكم عطاء، وعكرمة بأن ذلك بدعة. (275) فقد روى عبد الرزاق في المصنف: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء، قال: قلت له: أتقضي الحائض الصلاة؟ قال: لا ذلك بدعة. [وإسناده صحيح] (¬2). (276) وروى عبد الرزاق أيضاً، قال: عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة قال: سئل أتقضي الحائض الصلاة؟ قال: لا ذلك بدعة. ¬
[ورجاله ثقات] (¬1). (277) وقول عائشة كما في البخاري، قال رحمه الله: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا همام، قال: حدثنا قتادة، قال حدثتني معاذة أن امرأة قالت لعائشة: أتجزي إحدانا صلاتها إذا طهرت فقالت أحرورية أنت كنا نحيض مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يأمرنا به. أو قالت فلا نفعله (¬2). فكون أمهات المؤمنين لا يفعلن القضاء، دليل على أنه غير مطلوب، والعبادة إذا كانت غير مطلوبة فهي محرمة. وفي رواية لمسلم: "كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة" (¬3). فقوله: "ولا نؤمر": نفي للأمر مطلقاً، سواء كان أمر إيجاب أو أمر استحباب. والله أعلم. القول الثاني: إن القضاء ليس بحرام ولكنه مكروه فقط. وهو وجه في مذهب الشافعي (¬4). وقال ابن مفلح في الفروع: "ويتوجه احتمال يكره" (¬5). ¬
قال في مغني المحتاج: "وهل يحرم قضاؤها أو يكره؟ - يعني قضاء الصلاة للحائض -: فيه خلاف ذكره في المهمات، فنقل فيها عن ابن الصلاح، والمصنف عن البيضاوي أنه يحرم، لأن عائشة رضي الله عنها نهت السائل عن ذلك، ولأن القضاء محله فيما أمر بفعله، وعن ابن الصلاح، والروياني، والعجلي، أنه مكروه، بخلاف المجنون والمغمى عليه. فيسن لهما القضاء". اهـ (¬1). قال البيضاوي: والأوجه كما قال شيخنا عدم التحريم (¬2). وسبب الخلاف والله أعلم الخلاف في تعليل الأمر بسقوط القضاء فمن نظر إلى أن سقوط القضاء عنها كان السبب فيه التخفيف عنها، نظراً لكثرة الصلوات ودورانها، لم يمنعها من قضاء الصلوات، لأن سقوط الصلاة كان رخصة وليس عزيمة والأخذ بالرخص ليس بواجب، وأقوى دليل لهم على أنه رخصة كون الصيام يجب قضاؤه على الحائض. وقال بعضهم: بل سقوط القضاء عزيمة، وليس برخصة، ووجوب الصيام خارج عن القياس، وهؤلاء يحرمون قضاء الصلاة عليها. وقد نقل النووي في المجموع (¬3) عن الغزالي في التفريق بين وجوب قضاء الصوم دون الصلاة على الحائض، قال: ونحن نقرر الفرق فنقول: العزيمة الحكم الثابت على وفق الدليل، والرخصة الحكم الثابت على خلاف الدليل ¬
لمعارض راجح، وإنما كان سقوط قضاء الصلاة عن الحائض عزيمة، لأنها مكلفة بترك الصلاة، فإذا تركتها فقد امتثلت ما أمرت به من الترك، فلم تكلف مع ذلك بالقضاء، ولا نقول الفرق بين الصوم والصلاة كثرتها، وندوره، فيكون إسقاط قضائها تخفيفاً ورخصة، بل سبب إسقاط قضائها ما ذكرناه، وهذا يقتضي إسقاط قضاء الصوم أيضاً، لكن للشرع زيادة اعتناء بصوم رمضان، فأوجب قضاءه بأمر محدود في وقت ثان، وتسميته قضاء مجاز. وهو في الحقيقة فرض مبتدأ، فمخالفة الدليل إن حصلت فهي وجوب قضاء الصوم لا في عدم قضاء الصلاة، فثبت أن عدم قضاء الصلاة ليس رخصة (¬1). قلت: الشافعية يرون أن وجوب قضاء الصوم لم يكن بالأمر السابق وإنما بأمر جديد. قال في مغني المحتاج: "وهل تنعقد صلاتها أو لا؟ فيه نظر والأوجه عدم الانعقاد، لأن الأصل في الصلاة إذا لم تكن مطلوبة عدم الانعقاد، ووجوب القضاء عليها في الصوم بأمر جديد من النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن واجباً حال الحيض والنفاس لأنها ممنوعة منه، والمنع والوجوب لا يجتمعان. اهـ (¬2). قلت: قد يقال: عدم القضاء هو الذي على خلاف الأصل، فالأصل أن ¬
من أمر بشيء ثم تركه لعذر قضاه بزوال ذلك العذر كالنائم والناسي عن الصلاة، وكذلك قضاء الصيام على وفق القياس لكن الصلاة هي التي جاء نص بأنها لا تقضى ولولا هذا النص لقضيت، فلا يحتاج الصوم إلى أمر جديد بالقضاء لأن القضاء على وفق الأصل. قال النووي في المجموع: "قال الرافعي: فالحاصل أن من لم يؤمر بالترك لا يستحيل أن يؤمر بالقضاء، فإذا لم يؤمر كان تخفيفاً، ومن أمر بالترك فامتثل الأمر لا يؤمر بالقضاء إلا الحائض والنفساء في الصوم فإنهما يؤمران بتركه وبقضائه، وهو خارج عن القضاء للنص، والله أعلم". اهـ (¬1). ¬
الفرع الأول: هل تستثنى ركعتي الطواف، فيشرع لهما القضاء
الفرع الأول: هل تستثنى ركعتي الطواف، فيشرع لهما القضاء (*) استثنى بعض العلماء ركعتي الطواف، فقال النووي في المجموع: "قال أبو العباس ابن القاص في التلخيص، والجرجاني في المعاياة: كل صلاة تفوت في زمن الحيض لا تقضى إلا صلاة واحدة وهي ركعتا الطواف فإنها لا تتكرر" (¬1). وقال المرداوي: "ولا تقضي الصلاة، ولعل المراد إلا ركعتي الطواف، لأنها نسك لا آخر لوقتها، فيعايابها. رد شيخنا وابن نصر الله على المصنف كونها تقضى، والذي يظهر لي أن محل ذلك إذا قلنا تطوف الحائض، فإذا طافت فإنها لا تصلي حتى تطهر. وقد أومى إليه شيخنا أيضاً". اهـ (¬2). وقال النووي في المجموع: "أنكر الشيخ أبو علي السنجي هذا، وقال: هذا لا يسمى قضاء، لأن الوجوب لم يكن في زمن الحيض، ولو جاز أن يسمى هذا قضاء لجاز أن يسمى قضاء فائتة كانت قبل الحيض، وهذا الذي قاله أبو علي هو الصواب، لأن ركعتي الطواف لا يدخل وقتها إلا بالفراغ من الطواف، فإن ¬
قدر أنها طافت ثم حاضت عقيب الفراغ من الطواف صح ما قاله أبو العباس - يعني من قضاء ركعتي الطواف - إن سلم لهما ثبوت ركعتي الطواف في هذه الصورة. والله أعلم. اهـ (¬1). ¬
المبحث الخامس: إذا حاضت المرأة في وقت الصلاة وقبل أن تصلي فهل يجب عليها القضاء إذا طهرت؟
المبحث الخامس: إذا حاضت المرأة في وقت الصلاة وقبل أن تصلي فهل يجب عليها القضاء إِذا طهرت؟ هذه المسألة يسميها بعض الفقهاء إذا طرأ المانع بعد دخول وقت الصلاة وقبل أن يصلي .. كما لو طرأ جنون، أو إغماء، أو حيض أو نفاس بعد دخول وقت الصلاة، فهل يجب قضاء تلك الصلاة بعد ارتفاع المانع أي بعد أن يفيق المجنون والمغمى عليه، وتطهر الحائض والنفساء ... والذي يعنينا في هذا الباب إذا طرأ الحيض أو النفاس بعد دخول وقت الصلاة، هل يجب على المرأة القضاء أم لا؟ اختلف العلماء في هذه المسألة إلى ستة أقوال: فقيل: لا يجب عليها مطلقاً. سواء حاضت في أول الوقت أو آخره، وهو مذهب الحنفية (¬1)، ورواية في مذهب المالكية (¬2)، وهو مذهب ابن حزم (¬3)، وخرجه ابن سريج قولاً في مذهب الشافعية (¬4). وقيل: إن كان الباقي من الوقت يسع ركعة وجب قضاء تلك الصلاة ¬
وهو مذهب المالكية (¬1). وقيل: أن أدركت من الوقت قدراً يسع تلك الصلاة، وجب القضاء وإن كان الذي أدركته من الوقت لا يسع تلك الصلاة فلا يجب عليها القضاء (¬2) , وهو مذهب الشافعية (¬3). وقيل: إن أدركت من الوقت مقدار ركعة كاملة، وجب القضاء وإلا فلا. ¬
اختاره بعض الشافعية، ومنهم أبو يحيى البلخي (¬1). وقيل: إن أدركت من الوقت قدر تكبيرة الإحرام ثم حاضت، وجب عليها القضاء. وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: إن كان الباقي من الوقت حين حاضت مقدار ما يمكنها أن تصلي فيه، فليس عليها قضاء تلك الصلاة، وإن كان دون ذلك فعليها القضاء وهو اختيار زفر من الحنفية (¬3) ورجحه ابن تيمية من الحنابلة (¬4)، وهو الراجح، والله أعلم. وسبب الخلاف في هذه المسألة، خلافهم في مسألة أصولية. هل الصلاة تجب في أول الوقت أو في آخره؟ وهل إذا دخل الوقت ومضى معه مقدار ما يسع الأداء أصبحت الصلاة ديناً في ذمته، فلو سافر من بلده لم يقصر تلك الصلاة، لأنها وجبت عليه في وقت ¬
دليل الحنفية على أن المرأة إذا حاضت في وقت الصلاة لا يجب عليها القضاء.
الحضر، أو أن الصلاة لا تجب في أول الوقت على التعيين، وإنما تجب في جزء من الوقت غير معين، فإذا شرع في أول الوقت يجب في ذلك الوقت، وكذا إذا شرع في وسطه أو آخره، ومتى لم يعين بالفعل حتى بقي من الوقت مقدار ما يسع الصلاة وجب عليه تعيين ذلك الوقت ويأثم بترك التعيين. أو أن الصلاة في أول الوقت سنة وفي آخره واجب، ويلزم منه أن يكون فعل المندوب أفضل من فعل الفرض. هذا سبب الخلاف، وأدلته تبحث في أصول الفقه ... وفي أقسام الواجب في كونه ينقسم إلى قسمين: واجب موسع، وواجب مضيق. وإليك أدلة كل قول من الأقوال التي ذكرناها. دليل الحنفية على أن المرأة إذا حاضت في وقت الصلاة لا يجب عليها القضاء. قالوا: إذا بقي شيء من وقت الصلاة لم تصبح الصلاة ديناً في ذمة المرأة بل هي في الوقت، فإذا حاضت فقد تعذر عليها الأداء بسبب الحيض، وذلك غير موجب للقضاء، فأما إذا حاضت بعد خروج الوقت فإن الصلاة تصبح ديناً في ذمتها والحيض لا يمنع كون الصلاة ديناً في ذمتها. قال ابن حزم في المحلى: "برهان قولنا هو أن الله تعالى جعل للصلاة وقتاً محدوداً، أوله وآخره، وصح أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلاة في أول وقتها، وفي أخر وقتها، فصح أن المؤخر لها إلى آخر وقتها ليس عاصياً، لأنه عليه السلام لا يفعل المعصية، فإذ هي ليست عاصية فلم تتعين الصلاة عليها بعد، ولها تأخيرها، فإذا لم تتعين عليها حتى حاضت فقد سقطت عنها، ولو كانت الصلاة تجب بأول
دليل المالكية على أن المرأة إذا حاضت وقد بقي من الوقت ما يسع ركعة سقطت عنها الصلاة.
الوقت لكان من صلاها بعد مضي مقدار تأديتها من أول وقتها قاضياً لها لا مصلياً، وفاسقاً بتأخيرها عن وقتها، ومؤخراً لها عن وقتها وهذا باطل لا اختلاف فيه من أحد" (¬1). دليل المالكية على أن المرأة إذا حاضت وقد بقي من الوقت ما يسع ركعة سقطت عنها الصلاة. (278) استدلوا بما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا عبد الله بن سلمة، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن يسار وعن بسر بن سعيد، وعن الأعرج يحدثوا به. عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر (¬2). وأخرجه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك به (¬3). وجه الاستدلال: قالوا: إن من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك وقتها، فإذا حصل الحيض وقد بقي من الوقت مقدار ركعة كاملة، فقد حصل العذر في وقتها، فسقطت. أما إذا حصل الحيض وقد بقي أقل من ركعة، فقد خرج وقت الصلاة، ¬
دليل الشافعية على أنه يشترط أن تدرك من الوقت قدرا يسع تلك الصلاة.
واستقرت في ذمته، فإذا طرأ الحيض بعد ذلك فقد حصل العذر خارج وقتها فيجب عليه القضاء (¬1). دليل الشافعية على أنه يشترط أن تدرك من الوقت قدراً يسع تلك الصلاة. استدل الشافعية بأن الصلاة تجب بأول الوقت، وكونها لها تأخيرها إلى آخر وقتها لا يسقط عنها ما وجب عليها من الصلاة بأوله، قالوا: والدليل على أن الصلاة تجب بأول الوقت أن المسافر لو صلى في أول الوقت قبل أن يدخل العصر، ثم دخل العصر في وقته أجزأه (¬2). فإذا أدركت من الوقت ما يسع تلك الصلاة فقد وجبت عليها لتمكنها من الفعل في الوقت فلا يسقط بما يطرأ بعده قياساً على الزكاة إذا وجبت وتمكن من أدائها فلم يخرج حتى هلك المال (¬3). واستدلوا بأن الصلاة تجب في أول الوقت بأدلة منها: قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (¬4). فإذا قيل: إن دلوك الشمس أول وقتها، دل على أن الوجوب يتعلق بأوله. وأجيب: بأن الوجوب يتعلق بأوله ووسطه وآخره لقوله تعالى: {إِلَى غَسَقِ ¬
اللَّيْلِ} (¬1). فهذا يقضي كل الوقت. (279) واستدل بعضهم بما رواه الترمذي، قال: حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا يعقوب بن الوليد المدني، عن عبد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الوقت الأول من الصلاة رضوان الله، والوقت الآخر عفو الله (¬2). [إسناده ضعيف جداً أو موضوع] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال: قالوا: إن الرضوان من الله إنما يكون للمحسنين، والعفو يشبه أن يكون للمقصرين، فدل على أن الوجوب متعلق في أول الوقت. ويشكل عليه أنهم مع كونهم يرون وجوب الصلاة في أول الوقت، إلا أنهم ¬
دليل من قال: يجب القضاء إذا أدركت الحائض من الوقت مقدار ركعة.
يرون أن المصلي لا يأثم بتأخيرها إلى آخر الوقت لأنها تجب في أول الوقت وجوباً موقتاً. ولذلك قال النووي في المجموع: قوله العفو إنما يكون للمقصرين "قوله للمقصرين" قد يستشكل من حيث إن التأخير لا إثم فيه، فكيف يكون فاعله مقصراً؟؟ وأجابوا بوجهين: أحدهما: أنه مقصر بالنسبة إلى أول الوقت، وإن كان لا إثم عليه. والثاني: أنه مقصر بتفويت الأفضل، كما يقال: من ترك صلاة الضحى فهو مقصر، وإن لم يأثم (¬1). لكن يغني عن هذا الجواب أن الحديث لا تقوم به حجة، فلا يلزم الإجابة عليه. دليل من قال: يجب القضاء إذا أدركت الحائض من الوقت مقدار ركعة. (280) استدلوا بما رواه البخاري، قال حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة. وأخرجه مسلم (¬2). وجه الاستدلال: أن من أدرك من وقت الصلاة مقدار ركعة فقد أدرك وقت الصلاة، ¬
فأصبحت في ذمته، فيجب عليه قضاؤها (¬1) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل الحنابلة على أن المرأة الحائض إذا أدركت من الصلاة قدر تكبيرة الإحرام وجب عليها القضاء
دليل الحنابلة على أن المرأة الحائض إذا أدركت من الصلاة قدر تكبيرة الإحرام وجب عليها القضاء الدليل الأول: (281) استدلوا بما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته (¬1). الدليل الثاني: (282) ما رواه مسلم، قال رحمه الله: حدثنا حسن بن الربيع، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، قال: حدثنا عروة عن عائشة قالت: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس، ومن الصبح قبل أن تطلع فقد أدركها. والسجدة إنما هي الركعة (¬2). ¬
وجه الاستدلال: قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أدرك أحدكم سجدة" أي مقدار سجدة، وذكر السجدة أشار إلى إدراك مثلها أي إدراك جزء من الوقت ولو بمقدار تكبيرة الإحرام. والصحيح أن المراد بالسجدة هي الركعة لما يلي: أولاً: لأن الزهري قد رواه عن أبي سلمة به بلفظ، "من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة" وسبق تخريجه. ورواه جماعة عن أبي هريرة بلفظ: من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ... الحديث في الصحيحين وسبق تخريجه قبل قليل. وثانياً: قال القرطبي: "أهل الحجاز يسمون الركعة سجدة" اهـ (¬1). قلت: وقد ورد في السنة الصريحة إطلاق السجدة على الركعة. (283) فقد روى البخاري، قال رحمه الله: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى ابن سعيد، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدتين بعد الظهر، وسجدتين بعد المغرب، وسجدتين بعد العشاء، وسجدتين بعد الجمعة، فأما المغرب والعشاء ففي بيته (¬2). وأخرجه مسلم (¬3). ¬
دليل من قال: يجب القضاء إذا كان الباقي من الوقت حين حاضت لا يتسع لفعل الصلاة وإلا فلا يجب.
(284) وروى مسلم أيضاً، قال رحمه الله: حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير عن سعيد بن أبي هند، أن أبا مرة مولى عقيل، حدثه أن أم هانئ حدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وفيه: "ثم قام فصلى ثمان سجدات وذلك ضحى" (¬1). والمراد: ثمان ركعات ... والأمثلة في هذا كثيرة. دليل من قال: يجب القضاء إذا كان الباقي من الوقت حين حاضت لا يتسع لفعل الصلاة وإلا فلا يجب. الدليل الأول: قالوا: بأن الصلاة: لا يجب فعلها في أول الوقت وإذا حاضت المرأة ولم يجب عليها بعد فعل الصلاة، لم يجب عليها القضاء؛ لأنه إذا كان قد أذن لها في التأخير، فما ترتب على المأذون غير مضمون، ولكن إذا بقي من الوقت ما يتسع لفعل الصلاة فقط فقد أوجب عليها فعل الصلاة. فإذا كان الباقي من الوقت لا يتسع لفعل الصلاة فقد استقرت في ذمتها فوجب عليها القضاء إذا حاضت. الدليل الثاني: أن هذا يقع كثيراً في نساء الصحابة، ولو كان يجب على المرأة القضاء، لأمرها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو أمرها لنقل، فلما لم ينقل علم أن القضاء ليس بواجب. (285) وقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا إسماعيل، حدثني ¬
مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم "فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" (¬1). ورواه مسلم بأطول منه (¬2). استدل به البيهقي رحمه الله (¬3) على مسألتنا هذه وهذا ذهاب منه إلى أنه لا يرى وجوب القضاء على الحائض إذا حاضت في وقت الصلاة وهذا القول هو الراجح، والله أعلم. ¬
المبحث السادس: في طهر المرأة من الحيض قبل خروج وقت الصلاة
المبحث السادس: في طهر المرأة من الحيض قبل خروج وقت الصلاة يطلق الفقهاء على هذه المسألة (زوال المانع) بينما يسمون التي قبلها (حدوث المانع) وزوال المانع يشمل الحائض والنفساء إذا طهرتا، ويشمل المجنون والمغمى عليه إذا أفاقا، والصبي إذا بلغ، والكافر إذا أسلم وأمثالهم. وقد اختلف الفقهاء في الحائض والنفساء إذا طهرتا. فقيل: إذا طهرت المرأة من الحيض وأدركت من الصلاة قدراً يع الغسل وتكبيرة الإحرام وجبت عليها تلك الصلاة وحدها ولا تقضي معها ما يجمع إليها. فإن أدركت من الصلاة مقداراً لا تستطيع فيه الغسل فليس عليها قضاء تلك الصلاة إلا إذا كانت عادتها انقطعت لعشر أيام (أكثر الحيض عندهم) فإنها إذا أدركت من الوقت شيئاً قليلاً أو كثيراً، وجبت عليها تلك الصلاة سواء تمكنت فيه من الاغتسال أو لم تتمكن وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: إذا طهرت قبل الغروب بمقدار يسع خمس ركعات في الحضر، أو ثلاث في السفر، وجبت عليها الظهر والعصر. وإن بقي أقل من ذلك إلى ركعة وجبت العصر وحدها، وإن بقي أقل من ركعة سقطت الظهر والعصر. وإن طهرت قبل الفجر بمقدار أربع ركعات، وجب عليها المغرب ¬
والعشاء، وإن بقي أقل من ذلك إلى ركعة وجبت العشاء وحدها، وإن بقي أقل من ركعة سقطت المغرب والعشاء. وإن طهرت قبل طلوع الشمس بمقدار ركعة وجبت عليها الصبح وإلا سقطت. وهذا مذهب المالكية (¬1)، ومذهب الشافعي في القديم (¬2). وقيل يجب عليها فعل الصلاة إذا أدركت من وقت الصلاة مقدار ركعة كاملة .. وهو قول للشافعية (¬3) ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: إذا أدركت من الوقت قدر تكبيرة الإحرام وجبت عليها تلك الصلاة، فإن كانت الصلاة هي العصر أو العشاء وجبت مع العصر الظهر، ومع المغرب العشاء وهذا القول هو الصحيح من مذهب الشافعية (¬5). قال النووي: باتفاق الأصحاب (¬6)، ¬
دليل من قال: تجب الصلاة على الحائض إذا طهرت وقد أدركت من الوقت مقدار تكبيرة الإحرام.
والمشهور من مذهب الحنابلة (¬1). دليل من قال: تجب الصلاة على الحائض إذا طهرت وقد أدركت من الوقت مقدار تكبيرة الإحرام. (286) استدلوا بما رواه البخاري، قال رحمه الله حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا شيبان، عن يحي، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته (¬2). ورواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها (¬3). وقد أجبت في المسألة السابقة بأن المراد بالسجدة الركعة، ودللت على ذلك من السنة فارجع إليه إن شئت. دليل من قال: تجب الصلاة على الحائض إذا طهرت وقد أدركت من الوقت مقدار ركعة. (287) استدلوا بما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن سلمة، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، وعن بسر بن سعيد، وعن الأعرج يحدثونه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أدرك من الصبح ركعة قبل أن ¬
دليل من قال: إذا طهرت في وقت العصر وجب أن تصلي معه الظهر أو في وقت العشاء صلت معه المغرب.
تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر (¬1). وأخرجه مسلم (¬2): حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك به. دليل من قال: إذا طهرت في وقت العصر وجب أن تصلي معه الظهر أو في وقت العشاء صلت معه المغرب. الدليل الأول: (288) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن محمد ابن عثمان المخزومي، قال: أخبرتني جدتي، عن مولى لعبد الرحمن بن عوف، قال: سمعته يقول: إذا طهرت الحائض قبل غروب الشمس صلت الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل الفجر صلت المغرب والعشاء (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (289) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، عن يزيد، عن مقسم، عن ابن عباس قال: إذا طهرت قبل المغرب صلت الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل الفجر صلت المغرب والعشاء (¬1). ورواه ابن المنذر (¬2) من طريق أبي عوانة عن يزيد بن أبي زياد به، واللفظ لابن المنذر. [إسناده ضعيف] (¬3). الدليل الثالث: قالوا: بأن الصلاتين المجموعتين وقت إحداهما وقت للأخرى في حق المعذور كالمسافر ونحوه فهؤلاء مثلهم من أهل الأعذار فإذا أدرك العصر فقد أدرك الظهر، وإذا أدرك العشاء فقد أدرك المغرب. ¬
وقد قال بهذا القول جماعة من التابعين منهم عطاء (¬1)، وطاووس (¬2)، ومجاهد (¬3)، وإبراهيم النخعي (¬4)، والحكم (¬5). وهذا القول ضعيف. أولاً: لعدم الدليل الموجب لقضاء الصلاتين، فلو كانت تدرك الظهر بطهارة الحائض في وقت العصر لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو بينه لنقل إلينا. فلما لم ينقل علم أن ذلك لا يجب. وما ورد عن عبد الرحمن بن عوف، وابن عباس لا يثبت عنهما كما قرأت. ثانياً: أن هذا القول مخالف للسنة الصريحة من حديث أبي هريرة: "من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" وهو متفق عليه وسبق تخريجه ولو كانت تدرك الظهر لقال: فقد أدرك العصر والظهر. وثالثاً: أنه مخالف للقياس. فلو أنه أدرك ركعة من صلاة الظهر. ثم وجد مانع لم يلزمه إلا قضاء الظهر فقط، مع أن وقت الظهر وقت لها، وللعصر عند العذر والجمع فما الفرق بين المسألتين؟؟! رابعاً: قد بينا الإجماع على أن الحائض لا تقضي الصلاة التي مرت عليها ¬
دليل المالكية على أن المرأة إذا طهرت وقد أدركت من الوقت ما يسع خمس ركعات للحاضر أو ثلاث للمسافر وجبت عليها صلاة الظهر والعصر.
وهي حائض لحديث عائشة في مسلم (¬1). "وكنا نؤمر بقضاء الصيام ولا نؤمر بقضاء الصلاة"، ولو أنها صلت صلاة الظهر وقد خرج وقتها وهي حائض لكانت مأمورة بقضاء بعض الصلاة وهي حائض. دليل المالكية على أن المرأة إذا طهرت وقد أدركت من الوقت ما يسع خمس ركعات للحاضر أو ثلاث للمسافر وجبت عليها صلاة الظهر والعصر. قالوا: لا بد أن يدرك من الوقت ما يسع عدد ركعات الصلاة الأولى كلها، وهي أربع ركعات في الحضر، وركعتان في السفر، ويدرك ركعة من الصلاة: الثانية التي هي العصر، فيصير مجموع عدد الركعات خمس في الحضر، وثلاث في السفر. وعللوا ذلك بأن الوقت اعتبر لإدراك الصلاتين، فاعتبر وقت يمكن الفراغ من إحداهما، وإدراك ركعة من الأخرى (¬2). وإذا طهرت قبل الفجر فلا بد من إدراك أربع ركعات، ثلاث للمغرب وركعة للعشاء ولا فرق في المسألة هذه بين المقيم والمسافر، لأن المغرب لا تقصر. وهذا القول مبني على أن وقت العصر وقت لها وللظهر في حال العذر، وكذا وقت العشاء والمغرب، وقد بينت ضعف هذا القول في القول الذي قبل هذا. والراجح من هذه الأقوال أن الحائض إذا أدركت من الوقت مقدار ركعة، ¬
فقد أدركت الصلاة، والسنة صريحة في هذا، والمقصود بالركعة ليس مجرد ركوع، بل ركعة كاملة بقيامها وسجودها. والله أعلم.
المبحث السابع: هل تحصيل الطهارة شرط في إدراك الوقت
المبحث السابع: هل تحصيل الطهارة شرط في إدراك الوقت إذا طهرت الحائض في وقت صلاة، وأخذت في غسلها، فلم تفرغ حتى خرج وقت تلك الصلاة، هل يجب عليها قضاء تلك الصلاة. أو لا تجب عليها تلك الصلاة باعتبار أن تحصيل الطهارة شرط في إدراك الوقت. اختلف الفقهاء في هذه المسألة. فقيل: إن الفراغ من الطهارة شرط. فإذا لم تتمكن من الغسل والوضوء حتى خرج الوقت، فلا يلزمها قضاء تلك الصلاة. وهذا مذهب المالكية (¬1)، وقول في مذهب الشافعية (¬2)، واختاره ابن حزم (¬3). وقيل: تجب عليها الصلاة، سواء كان الوقت يتسع للطهارة أم لا. وهو مذهب الحنابلة (¬4)، وقول في مذهب الشافعية (¬5). وهو الراجح. ¬
دليل من اشترط مع أدراك الركعة زمنا يمكن فيه فعل الطهارة من الاغتسال ونحوه.
دليل من اشترط مع أدراك الركعة زمنا يمكن فيه فعل الطهارة من الاغتسال ونحوه. قال ابن حزم: "فإن طهرت في آخر وقت للصلاة بمقدار ما لا يمكن الغسل والوضوء حتى يخرج الوقت فلا تلزمها تلك الصلاة بل ولا قضاؤها، وهو قول الأوزاعي وأصحابنا". ثم قال: "برهان صحة قولنا أن الله عز وجل لم يبح الصلاة إلا بطهور، وقد حد الله للصلاة أوقاتها، فإذا لم يمكنها الطهور، وفي الوقت بقية، فنحن على يقين من أنها لم تكلف تلك الصلاة التي لم يحل لها أن تؤديها في وقتها" (¬1). دليل من لم يشترط زمن الطهارة ويكتفي بإدراك زمن يتسع لركعة كاملة. الدليل الأول: أن الأحاديث لم تتعرض لاشتراط الطهارة، وما ورد مطلقاً يجب العمل به على اطلاقه، وتخصيص العام، وتقييد المطلق لا يجوز إلا بدليل. (290) فقد روى البخاري، قال رحمه الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة. الدليل الثاني: قالوا: إذا طهرت الحائض في وقت صلاة، وأخذت في غسلها، فلم تفرغ حتى خرج وقت تلك الصلاة، وجب عليها قضاء تلك الصلاة، لأنها في وقتها غير حائض وليس فوت الوقت عن الرجل بمسقط عنه الصلاة إن اشتغل ¬
بوضوئه أو غسله حتى فاته الوقت. وكذلك الحائض إذا طهرت لا تسقط عنها الصلاة من أجل غسلها، لأن شغلها بالاغتسال لا يضيع عنها ما لزمها من فرض الصلاة، وإنما تسقط الصلاة عن الحائض ما دامت حائضاً، فإذا طهرت كالجنب، لزمها صلاة وقتها التي طهرت فيه (¬1). وهذا هو الراجح، كما قالوا إذا طهرت قبل الصبح، ثم صامت واغتسلت بعد طلوع الصبح صح صومها، وسيأتي مزيد إيضاح لهذه المسألة إن شاء الله في فصل مستقل. ¬
الفصل الثالث: أحكام الحائض من حيث الصوم
الفصل الثالث: أحكام الحائض من حيث الصوم المبحث الأول: يحرم على الحائض فعل الصوم ويجب عليها القضاء إذا طهرت (291) روى عبد الرزاق، قال: عن معمر عن الزهري قال: الحائض تقضي الصوم. قلت: عمن؟ قال: هذا ما اجتمع الناس عليه، وليس في كل شيء نجد الإسناد. أما تحريم فعل الصوم: (292) ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أخبرنا محمد بن جعفر، قال: أخبرني زيد - هو ابن أسلم - عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمر على النساء، فقال: يا معشر النساء تصدقن؛ فإني أريتكن أكثر أهل النار. فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن. قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله. قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان
دينها. ورواه مسلم (¬1). (293) وحديث ابن عمر في مسلم، وفيه: "وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين" (¬2). وانظر الحديث كاملاً في الفصل الذي قبل هذا. وأما وجوب القضاء: (294) فقد روى مسلم، قال: حدثنا عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن عاصم، عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية ولكني أسأل، قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة (¬3). ورواه البخاري من طريق قتادة عن معاذة به بنحوه (¬4). ونقل ابن المنذر الإجماع على وجوب قضاء الصوم (¬5) وقد نقل الإجماع أيضاً طائفة من العلماء. انظر النقول عنهم في المسألة التي قبلها. ¬
المبحث الثاني: إذا طهرت الحائض في نهار رمضان فهل يجب عليها الإمساك بقية النهار
المبحث الثاني: إذا طهرت الحائض في نهار رمضان فهل يجب عليها الإمساك بقية النهار قيل: يجب عليها الإمساك بقية الصوم، ويجب عليها القضاء. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: لا يجب عليها الإمساك بقية يومها وعليها القضاء. وهو مذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، ورواية في مذهب الحنابلة (¬5). وقال بعض الشافعية: يستحب لها إخفاء الإفطار، لئلا تتعرض إلى التهمة والعقوبة (¬6). أدلة القائلين بوجوب الإمساك. الدليل الأول: قالوا: إنه معنى لو وجد قبل الفجر أوجب الصيام، فإذا طرأ بعد الفجر ¬
الدليل الثاني
أوجب الإمساك، كقيام البينة بالرؤية. فمن صار في بعض النهار على صفة لو كان عليها في أول النهار يلزمه الصوم فعليه الإمساك في بقية النهار والقضاء (¬1). الدليل الثاني: أنها أبيح لها الفطر، عندما كان السبب موجوداً، فإذا زال السبب المبيح وجب عليها الإمساك. الدليل الثالث: أن الإمساك حق للوقت؛ لأنه وقت معظم. الدليل الرابع: أن كل من أدرك جزءاً من وقت العبادة لزمته تلك العبادة، فمن أدرك جزءاً من وقت الصلاة لزمته تلك الصلاة، وكذلك من أدرك جزءاً من وقت الصيام لزمه الإمساك (¬2). الدليل الخامس: قالوا: لو أكلت ولا عذر لها اتهمها الناس، والتحرز من مواضع التهم واجب. دليل من قال: لا يجب عليها الإمساك. الدليل الأول: (295) ما رواه ابن أبي شيبة، قال رحمه الله: حدثنا وكيع، عن بن عون، ¬
الدليل الثاني
عن ابن سيرين، قال: قال عبد الله: من أكل أول النهار فليأكل في آخره. [إسناده صحيح إن كان ابن سيرين سمعه من عبد الله] (¬1) الدليل الثاني: قال ابن حزم: لا يختلف المخالفون لنا في أن التي طهرت من المحيض والنفاس والقادم من السفر، والمفيق من المرض لا يجزئهم صيام ذلك اليوم، وعليهم قضاؤه، فصح أنهم في هذا اليوم غير صائمين أصلاً، وإذا كانوا غير صائمين فلا معنى لصيامهم، ولا أن يؤمروا بصوم ليس صوماً، ولا هم مؤدون به فرضاً لله تعالى، ولا هم عاصون له بتركه (¬2). الدليل الثالث: إذا كان يجوز لها الأكل في أول النهار ظاهراً وباطناً بغير شبهة، جاز لها الأكل في آخره كسائر الأيام. الدليل الرابع: الصوم: هو الإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية العبادة، فإذا كان كذلك لم ينطبق على الحائض التي طهرت في أثناء اليوم، ولم يعتبر فعلها صوماً شرعاً، فلا معنى لإمساكها. ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: قالوا: إن صوم اليوم الواحد عبادة واحدة، بدليل أن أوله يفسد بفساد آخره، فلا يجوز أن يكون آخر العبادة واجباً، وأولها غير واجب، كالصلاة الواحدة (¬1). والراجح من هذه الأقوال القائل بأنه لا يجب عليها الإمساك. ¬
المبحث الثالث: في المرأة تطهر قبل الفجر، ولا تغتسل إلا بعد طلوع الصبح
المبحث الثالث: في المرأة تطهر قبل الفجر، ولا تغتسل إلا بعد طلوع الصبح إذا طهرت المرأة من الحيض ليلاً، ونوت الصيام، وأخرت الغسل إلى طلوع الصبح، فهل يصح صومها ذلك اليوم. اختلف العلماء في ذلك. فقيل: إن طهرت قبل الفجر بوقت يتسع فيه للغسل فلم تغتسل حتى طلع الفجر أجزأها، وإن كان الوقت ضيقاً لا يتسع للغسل لم يصح صومها (¬1). وهذا مذهب الحنفية، واختاره من المالكية عبد الملك، ومحمد بن مسلمة (¬2). ¬
دليل الجمهور على صحة صومها
وقيل: صيامها صحيح. وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: لا يباح الصيام مطلقاً حتى تغتسل. وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2)، وحكي قولاً للأوزاعي (¬3). دليل الجمهور على صحة صومها الدليل الأول: من القرآن الكريم، قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ¬
الدليل الثاني
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (¬1). وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى لما أباح المباشرة إلى تبين الفجر، علم أن الغسل إنما يكون بعده (¬2). الدليل الثاني: (295) ما رواه مسلم، قال رحمه الله: حدثني هارون بن سعيد الأيلي، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو - وهو بن الحارث - عن عبد ربه، عن عبد الله بن كعب الحميري، أن أبا بكر حدثه، أن مروان أرسله إلى أم سلمة رضي الله تعالى عنها يسأل عن الرجل يصبح جنباً، أيصوم؟ فقالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنبا من جماع، لا من حلم، ثم لا يفطر، ولا يقضي. وفي رواية: يصبح جنباً من غير احتلام، ثم يصوم (¬3). الدليل الثالث: (296) ما رواه مسلم، قال رحمه الله: حدثني محمد بن حاتم، حدثنا يحيى ابن سعيد، عن ابن جريج (ح). وحدثني محمد بن رافع - واللفظ له - حدثنا عبد الرزاق بن همام، أخبرنا ¬
ابن جريج، أخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي بكر قال: سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقص، يقول في قصصه: من أدركه الفجر جنباً فلا يصم، فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن الحارث لأبيه، فأنكر ذلك، فانطلق عبد الرحمن وانطلقت معه حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما، فسألهما عبد الرحمن عن ذلك، قال: فكلتاهما قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنبا من غير حلم، ثم يصوم. قال: فانطلقنا حتى دخلنا على مروان، فذكر ذلك له عبد الرحمن، فقال مروان: عزمت عليك إلا ما ذهبت إلى أبي هريرة، فرددت عليه ما يقول. قال: فجئنا أبا هريرة - وأبو بكر حاضر ذلك كله - قال: فذكر له عبد الرحمن، فقال أبو هريرة: أهما قالتاه لك. قال: نعم قال: هما أعلم، ثم رد أبو هريرة ما كان يقول في ذلك إلى الفضل بن العباس، فقال أبو هريرة: سمعت ذلك من الفضل ولم أسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك. قلت لعبد الملك: أقالتا في رمضان. قال: كذلك كان يصبح جنبا من غير حلم ثم يصوم. رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم (¬1). وجه الاستدلال من الحديثين: يؤخذ منهما أنه إذا كان وجوب الغسل من الحدث الأكبر لا يفسد الصوم، لم يفسد من الحائض إذا طهرت من الدم. لأن كلاً منهما يملك أن يرفع حدثه متى شاء. فالحائض عندما انقطع دمها قد طهرت من الخبث، وبقيت طهارتها من الحدث، فأصبح حدثها بعد انقطاع دمها لا يوجب إلا الغسل كالجنب تماماً، ¬
دليل القائلين لا يصح صومها مطلقا حتى تغتسل قبل الفجر.
وصفة الغسل فيهما واحدة كما بينا في صفة الغسل. فيكون حكمهما واحداً. والله أعلم. دليل القائلين لا يصح صومها مطلقاً حتى تغتسل قبل الفجر. قالوا: حدث الحيض يمنع الصوم، وإذا أصبحت وهي لم تغتسل فيومها يوم فطر؛ لأنها في بعضه غير طاهرة، وليست كالجنب؛ لأن الاحتلام لا ينقض الصوم، والحيضة تنقضه. وأجاب ابن قدامة بقوله: "ما ذكروه لا يصح، فإن من طهرت من الحيض ليست حائضاً، وإنما عليها حدث موجب للغسل، فهي كالجنب فإن الجماع الموجب للغسل لو وجد في الصوم أفسده كالحيض" (¬1). دليل القائلين بأنه يشترط أن تطهر من الحيض في وقت يمكنها فيه الغسل. دليل القائلين: بأنها إن طهرت قبل الفجر في وقت يمكنها فيه الاغتسال، ففرطت ولم تغتسل حتى أصبحت لم يضرها كالجنب، وإن كان الوقت ضيقاً لا تدرك فيه الغسل لم يصح صومها، ويومها يوم فطر، الخلاف في هذه المسألة كالخلاف في من طهرت قبل خروج وقت الصلاة هل يشترط أن تدرك من الوقت زمناً يتسع للغسل حتى تكون الصلاة واجبة في ذمتها، أو يكفي أن تدرك من الوقت مقدار تكبيرة الإحرام، أو مقدار ركعة، على الخلاف المعروف، ولا مدخل فيه لوقت الغسل، وقد سقت دليل كل قول في مسألة مستقلة، فارجع إليه إن شئت غير مأمور. والله أعلم. ¬
المبحث الرابع: إذا أفطرت المرأة بالجماع ثم نزل الحيض في ذلك اليوم هل تسقط الكفارة
المبحث الرابع: إذا أفطرت المرأة بالجماع ثم نزل الحيض في ذلك اليوم هل تسقط الكفارة إذا جامع الرجل امرأته في رمضان، وهي طاهرة، وكان ذلك برضاها، ثم نزل عليها دم الحيض في نفس اليوم، فهل تجب عليها الكفارة أو تسقط. في ذلك خلاف بين العلماء فقيل: لا كفارة عليها. وهو مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: تجب عليها الكفارة. وهو مذهب المالكية (¬3)، ¬
دليل الحنفية على سقوط الكفارة.
والحنابلة (¬1)، وقول في مذهب الشافعية (¬2)، واختاره زفر من الحنفية (¬3) دليل الحنفية على سقوط الكفارة. قالوا: الحيض ينافي الصوم، وصوم واحد لا يتجزأ، فتقرر المنافي في آخره يمكن شبهة المنافاة في أوله (¬4). فلما خرج هذا اليوم عن كونه مستحقاً، فلم يجب بالوطء فيه كفارة، كصوم المسافر، أو كما لو قامت البينة على أنه من شوال (¬5). دليل الجمهور على وجوب الكفارة. قال ابن قدامة: أنه معنى - يعني الحيض - طرأ بعد وجوب الكفارة فلم يسقطها كالسفر، ولأنه أفسد صوماً واجباً في رمضان بجماع تام، فاستقرت الكفارة عليه، كما لو لم يطرأ عذر (¬6). ¬
وأجاب ابن قدامة عن القياس على المسافر ومن تبين أنه في شوال بقوله: "والوطء في صوم المسافر ممنوع، وإن سلم فالوطء لم يوجب أصلاً، لأنه وطء مباح في سفر أبيح الفطر فيه، بخلاف مسألتنا، وكذا إذا تبين أنه من شوال، فإن الوطء غير موجب؛ لأنا تبينا أن الوطء لم يصادف رمضان، والموجب إنما هو الوطء المفسد لصوم رمضان" (¬1). ¬
الفصل الرابع: في أحكام الحائض من حيث المسجد
الفصل الرابع: في أحكام الحائض من حيث المسجد المبحث الأول: في خلاف العلماء في المكث في المسجد فقيل: لا يجوز للحائض المكث فيه. وهو مذهب أبي حنيفة (¬1)، ومالك (¬2)، والشافعي (¬3)، وأحمد (¬4). وقيل: يجوز للحائض المكث فيه. وهو مذهب داود وابن حزم (¬5) واختيار المزني (¬6). أدلة الجمهور القائلين بالمنع. الدليل الأول: (297) ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا موسى ابن إسماعيل، قال: حدثنا يزيد بن إبراهيم، عن محمد، ¬
عن أم عطية، قالت: أمرنا أن نخرج الحيض يوم العيدين، وذوات الخدور فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم، ويعتزل الحيض عن مصلاهن. قالت امرأة: يا رسول الله إحدانا ليس لها جلباب؟ قال: لتلبسها صاحبتها من جلبابها (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر الحيض، أن يعتزلن المصلى والمراد به مكان الصلاة، فهذا نص في منع الحائض من الدخول في المسجد. ورد عليهم بأقوال منها: قيل: إن الأمر باعتزال الحيض المصلى ليس للوجوب، بل هو للندب، لأن المصلى ليس بمسجد فيمتنع الحيَّض من دخوله، ونسب ابن حجر هذا القول للجمهور (¬2). والأصل أن أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - باعتزال الحائض المصلى للوجوب، ولا يصرف للندب إلا لقرينة، وأما قولهم إن مصلى العيد ليس بمسجد فهذه مسألة محل نزاع (¬3) ولا يكفي هذا صارفاً للأمر من الوجوب إلى الندب. ¬
وقيل: إن اعتزال الحيَّض المصلى إنما هو حال الصلاة ليتسع على النساء الطاهرات مكان صلاتهن ثم يختلطن بهن، ورجحه ابن رجب (¬1). وهذا الافتراض لا دليل عليه من اللفظ، فإن الأمر باعتزال المصلى مطلق وليس مقيداً بحال الصلاة، وتقييد ما أطلقه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز إلا بدليل. وقيل: المراد بالمصلى هنا الصلاة نفسها لدليلين: (298) الأول: أن مسلماً أخرجه (¬2) حدثنا عمرو الناقد، حدثنا عيسى ابن يونس، حدثنا هشام، عن حفصة بنت سيرين: عن أم عطية قالت: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق، والحيَّض، وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير، ودعوة المسلمين. قالت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب. قال: لتلبسها أختها من جلبابها (¬3). ¬
فقال: "يعتزلن الصلاة"، فعلم أن المراد باعتزال المصلى، الصلاة نفسها. الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا يصلون بالفضاء، وليس بالمسجد، فإذا طلب منهن اعتزال المصلى علم أن المراد الصلاة. وحتى لا يقطع الحيَّض صفوف الطاهرات، طلب منهن أن يكن خلف الصفوف. (299) فقد رواه البخاري، من طريق عاصم الأحول عن حفصه، عن أم عطية قالت: كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد، حتى نخرج البكر من خدرها، حتى نخرج الحيض فيكن خلف الناس، فيكبرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته. هذا لفظ البخاري، وأخرجه مسلم عدا قوله: "يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته" فقد انفرد بها البخاري (¬1). وكون الحيض خلف الناس لا يلزم منه أن يكن خارج المصلى. والحقيقة أن هذا الحديث محتمل، فيحتمل أن الأمر باعتزال المصلى المقصود به الصلاة ... كما ورد عند مسلم. ¬
الدليل الثاني
ويحتمل أن النهي عن الصلاة المراد به المصلى، ومع الاحتمال لا يكون الدليل نصاً صريحاً في المطلوب، والدليل إذا ورد عليه الاحتمال بطل به الاستدلال فيطلب المنع من دليل آخر. الدليل الثاني: (300) ما رواه أبو داود (¬1) , قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا عبد الواحد ابن زياد قال: حدثنا أفلت بن خليفة، قال: حدثتني جسرة بنت دجاجة، قالت: سمعت عائشة تقول: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد، ثم دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يضع القوم شيئاً رجاء أن ينزل فيهم رخصة، فخرج إليهم بعدُ فقال: وجهوا البيوت عن المسجد فإني لا أحلُّ المسجد لحائض ولا جنب. [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (301) ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر إلا الحج، فلما جئنا سرف طمثت، فدخل عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟ قلت: لوددت والله أني لم أحج العام. قال: لعلك نُفِست؟ قالت: نعم. قال: فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري" ورواه مسلم (¬1). فحملوا منعها من الطواف من خوف المكث في المسجد فإنها ممنوعة منه عندهم لما قد يترتب على ذلك من تلويث المسجد. وهذا الاستدلال ضعيف؛ لأن النهي صريح في المنع من الطواف، وهو أخص من المكث، فلو منعها من المكث لدخل في ذلك الطواف وليس العكس، ثم إن حمل النهي على المكث صرف للنهي عن ظاهره وحمل له على أمر لم يذكره الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث. وتعطيل لما نص عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو كانت علة النهي للحائض من الطواف خوف التلوث لأرشدها الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الاستثفار كما أرشد إلى ذلك أسماء بنت عميس حيث ولدت في الميقات، ¬
(302) فقد روى مسلم من حديث جابر الطويل في حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه: خرجنا معه - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي (¬1). ولو كانت العلة خوف التلويث لما كان النهي عن الطواف حتى تغتسل الحائض، ولكان النهي يمتد إلى حين انقطاع دم الحيض. (303) فقد رواه مسلم بلفظ: "افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي" (¬2). ولو كانت العلة خوف التلويث لمنعت المستحاضة من دخول المسجد. (304) فقد روى البخاري، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا خالد بن عبد الله، عن خالد، عن عكرمة، عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكف معه بعض نسائه وهي مستحاضة ترى الدم، فربما وضعت الطست تحتها من الدم (¬3). وقد يستدل بحديث عائشة على عكس قولهم، فيستدل به على جواز المكث في المسجد لأن قوله: "افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت". فيقال: إن الاستثناء معيار العموم، فلم يستثن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا الطواف، ومعلوم ¬
الدليل الرابع
أن الحاج يمكث في المسجد، ولو كان لا يحل لها لنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه. وبهذا الاستدلال قال ابن حزم، فقد قال: "لو كان دخول المسجد لا يجوز للحائض لأخبر بذلك عليه السلام عائشة إذ حاضت فلم ينهها إلا عن الطواف في البيت، ومن الباطل المتيقن أن يكون لا يحل لها دخول المسجد فلا ينهاها عليه السلام عن ذلك، ويقتصر على منعها من الطواف" (¬1). وهذا الاستدلال فيه نظر، لأن استثناء الطواف من العموم السابق: "افعلي ما يفعل الحاج" فكأنه قال: افعلي جميع المناسك ما عدا الطواف، والمكث في المسجد ليس من الأعمال الخاصة بالمناسك، والله أعلم. الدليل الرابع: القياس على الجنب. فإذا كان الجنب ممنوعاً من المكث في المسجد كانت الحائض أولى؛ لأن حدث الحيض أغلظ؛ حيث تمنع من الصيام ولا يمنع الجنب من ذلك ولا تقضي الحائض الصلاة، والجنب مأمور بفعلها إذا تطهر. والدليل على منع الجنب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (¬2). (305) فقد روى عبد الرزاق (¬3)، قال: عن معمر، عن عبد الكريم ¬
الجزري، عن أبي عبيدة بن عبد الله، عن ابن مسعود أنه كان يرخص للجنب أن يمر في المسجد مجتازاً ولا أعلمه إلا قال: {وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ} (¬1). [وسنده منقطع أبو عبيدة لم يسمع من أبيه] (¬2). (306) وروى ابن المنذر، قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو نعيم، ثنا أبو جعفر الرازي، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس قال: {وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيل} قال: إلا وأنت مار فيه" (¬3). [سنده ضعيف] (¬4)، وقد ثبت عن ابن عباس في تفسير الآية خلاف هذا ¬
بسند صحيح عنه. (307) فقد روى ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، ومحمد بن المثني، قالا: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة عن قتادة، عن أبي مجلز عن ابن عباس في قوله: {وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ} قال: المسافر. وقال ابن المثنى: السفر (¬1). فهذا سند في غاية الصحة، ولا تضر عنعنة قتادة وقد جاء حديثه من طريق شعبة (¬2). وله شاهد من قول علي - رضي الله عنه -. (308) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا علي بن هاشم، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن عباد بن عبد الله وزر عن علي {وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ} (¬3)، قال: المار الذي لا يجد الماء يتيمم ويصلي (¬4). ¬
ورواه ابن جرير الطبري (¬1)، وابن المنذر (¬2)، من طريق ابن أبي ليلى إلا أن ابن المنذر لم يذكر عباد بن عبد الله، وابن جرير رواه عن عباد أو عن زر. [وهذا الإسناد فيه ضعف منجبر] (¬3). وقد فسر قوله تعالى: {عَابِرِي سَبِيلٍ} بالمسافرين جماعة من التابعين، منهم مجاهد (¬4)، وعمرو بن دينار (¬5)، وسعيد بن جبير (¬6)، وسليمان بن موسى (¬7)، والحكم بن عتيبة (¬8)، ¬
والحسن بن مسلم (¬1). وذهب عطاء (¬2)، والحسن (¬3)، وإبراهيم النخعي (¬4)، إلى أن معنى قوله: {وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ} الجنب يمر في المسجد. وقد حكي عن ابن مسعود بسند منقطع، وعن ابن عباس بسند ضعيف، وسبق الكلام عليهما فتحصل في معنى الآية قولان: الأول: أن معنى قوله: {وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ} أي لا يقرب الصلاة الجنب إلا أن يكون مسافراً فيتيمم ويصلي وهذا التفسير هو الثابت عن ابن عباس وعلي وجماعة من التابعين. الثاني: أن معنى قوله: {وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ} أي: لا تقرب موضع الصلاة وأنت جنب إلا أن تكون ماراً في المسجد غير ماكث فيه. وعليه فيكون معنى قوله: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} أي لا تقربوا مواضع الصلاة (¬5). ولكل قول عندي مرجح. ¬
فأما ترجيح أن المراد به المجتاز، وليس المسافر، فيرجحه أن الله سبحانه وتعالى قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا ...} الآية. فلو كان يقصد بقوله: إلا عابري سبيل هو المسافر، لم يكن لإعادة ذكره معنى. وأما ترجيح تفسير {عَابِرِي سَبِيلٍ} بالمسافر، فيكفي أنه تفسير اثنين من الصحابة رضي الله عنهما، ابن عباس، وعلي بن أبي طالب، ولأنه لا يحتاج إلى تقدير في الآية، فمعنى {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} على حقيقته وليس مواضع الصلاة كما فسرها أصحاب القول الأول ... وتفسير الصحابة أحب إلى نفسي وإن كان ¬
الدليل الخامس
قد يبدو لفهمي القاصر خلاف المعنى. والله أعلم. وعلى القول بأن الجنب منهي عن المكث في المسجد، فقياس الحائض عليه ليس دليلاً مسلماً من كل وجه ... أولاً: لضعف القياس في مثل هذه الأمور. وثانياً: الجنب بيده أن يتطهر، ففي الآية حث له على الإسراع على التطهر أما الحائض فلا تملك أمرها. الدليل الخامس: (309) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا هشام بن يوسف، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت ترجل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي حائض وهو معتكف في المسجد، وهي في حجرتها يناولها رأسه. ورواه مسلم بنحوه (¬1). وجه الاستدلال: قالوا لو كانت الحائض تدخل المسجد لما أحوجت عائشة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا الفعل، ولبادرت إليه. وأجيب: بأن مثل هذا لا يلزم منه تحريم دخول الحائض، وقد يكون هذا الفعل من حسن معاملة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأهله، فلم يرغب في تكليفهم بالخروج من البيت. ¬
أدلة القائلين بجواز مكث الحائض في المسجد.
وقد تكون عائشة تعتقد أن المسجد ليس محلاً لغسل الرأس، وكان الترجيل معه غسل. (310)، كما روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يباشرني، وأنا حائض، وكان يخرج رأسه من المسجد وهو معتكف، فأغسله وأنا حائض. ولفظ مسلم: وهو مجاور - فأغسله وأنا حائض (¬1). وقد يكون في المسجد رجال أجانب، ولم يحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يطلعوا على ذلك، وغايته أنه فعل لا يرقى إلى تحريم دخول الحائض المسجد. أدلة القائلين بجواز مكث الحائض في المسجد. في الحقيقة أن أصحاب هذا القول ليسوا بحاجة إلى دليل؛ لأن المطالب بالدليل من منع ذلك. أما هؤلاء فيكفي أن يجيبوا عن أدلة القول الأول إجابة مقنعة، فإن فعلوا كفاهم دليلاً .. ومع ذلك فسوف نسوق بعض الأدلة التي ذكروها، وإن كان بعضها فيه نزاع كما سنرى. الدليل الأول: الأصل الحل، وبراءة الذمة، ولم يرد دليل صحيح صريح في منع الحائض من المكث في المسجد، ولا يجوز منع الحائض إلا بدليل صحيح سالم من ¬
الدليل الثاني
المعارضة ولم يصح في هذا الباب شيء. الدليل الثاني: (311) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عياش، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا حميد، عن بكر، عن أبي رافع عن أبي هريرة قال: "لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا جنب، فأخذ بيدي، فمشيت معه حتى قعد، فانسللت، فأتيت الرحل فاغتسلت، ثم جئت وهو قاعد فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ فقلت له: فقال: سبحان الله، يا أبا هريرة إن المؤمن لا ينجس. ورواه مسلم (¬1). وجه الشاهد منه، قوله: "إن المؤمن لا ينجس". فإذا كان المؤمن لا ينجس فالحائض والجنب ونحوهما أجسامهم طاهرة؛ لأنهم من جملة المؤمنين، والطاهر لا يمنع من دخول المسجد. والحقيقة أن قوله: "إن المؤمن لا ينجس" يحتمل أن المؤمن لا ينجس بالجنابة، لأنه معلوم أن المؤمن كغيره تلحقه النجاسة الحسية كما لو وقع عليه بول أو غائط، ودم الحيض مجمع على نجاسته. ويحتمل: "إن المؤمن لا ينجس" أي أن المؤمن طاهر بإيمانه فهي طهارة معنوية، كما أن المشرك نجس بشركه نجاسة معنوية، وإن كان بدنه طاهراً حساً. وعلى كلا الاحتمالين فلا يصلح هذا دليلاً في مسألتنا. الدليل الثالث: (312) ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد ¬
الداروردي، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، قال: رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤا وضوء الصلاة (¬1). [وهشام بن سعد وإن كان فيه كلام، إلا أن أبا داود قال فيه: أثبت الناس في زيد بن أسلم، وباقي رجاله ثقات إلا الداروردي فإنه صدوق فحديثه من قبيل الحسن وهو من رجال مسلم]. وقد اختلف على هشام بن سعد (¬2)، وعلى فرض صحته فإنه لا يدل على الوجوب. أولاً: لأنه حكاية فعل عن بعض أصحاب رسول الله، والفعل المجرد من النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على الوجوب فكيف من غيره. ¬
الدليل الرابع
ثانياً: لو صح وسلم في دلالته على الوجوب، فإن دلالته على منع الحائض من باب القياس، وهل يؤذن للحائض إذا توضأت أن تمكث في المسجد كالجنب، فإن قلت: لا تمكث هدمت القياس، وإن لم تمنع يبقى الفارق بين الجنابة والحيض. فالجنب يملك أن يرفع الجنابة، وبقاؤه جنباً من كسبه بخلاف الحائض. ثالثاً: على تفسير: {وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (¬1) بأن المقصود به المجتاز فإنه يعارض هذا الأثر، فإن الآية تضمنت نهي الجنب عن المكث في المسجد وجعلت غاية النهي هي الاغتسال، بينما الأثر جعل غاية النهي الوضوء. رابعاً: أن الأثر لم يحك عنهم أن هذا الفعل منهم كان زمن التشريع، بل صريح في أن زيد بن أسلم رآهم، وهذا يدل على أنه كان ذلك بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يحك عن عموم الصحابة حتى يكون حكاية للإجماع، فلا يصلح للاحتجاج. الدليل الرابع: (313) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، وأبو بكر ابن أبي شيبة، وأبو كريب، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن ثابت ابن عبيد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ناوليني الخمرة من المسجد، ¬
قالت: فقلت: إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك (¬1). وهذا الحديث لا دلالة فيه على المكث بكل حال، وإنما النزاع هل يدل على جواز المرور فيه لتناول حاجة في المسجد أم لا؟ فمن منع المكث له أن يقول: ليس فيه إلا جواز المرور، ومع ذلك دلالته على جواز المرور فيها نزاع؛ لأن العلماء قد اختلفوا في معناه على قولين أو ثلاثة ولكل وجهة. والحديث محتمل، ومع الاحتمال لا يصح الاستدلال. وإليك الأقوال في معنى الحديث. فقيل: إن الخمرة هي التي كانت في المسجد وأخذوا الحديث بظاهره. (314) واستدلوا لقولهم بما أخرجه أحمد، قال: ثنا سفيان، عن منبوذ، عن أمه، قالت: كنت عند ميمونة فأتاها ابن عباس، فقالت: يا بني، مالك شعثاً رأسك؟ قال: أم عمار مرجلتي حائض. قالت: أي بني وأين الحيضة من اليد؟ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل على إحدانا وهي حائض، فيضع رأسه في حجرها، فيقرأ القرآن وهي حائض، ثم تقوم إحدانا بخمرته فتضعها في المسجد وهي حائض. أي بني وأين الحيضة من اليد؟ (¬2). [وإسناده ضعيف] (¬3). ¬
وعلى هذا القول يكون معنى: "إن حيضتك ليست في يدك" تحتمل معنين: الأول: أن حيضتك في تقدير الله سبحانه وتعالى، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: "إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم". المعنى الثاني: أن يدك هي التي سوف تباشر الخمرة، ويدك طاهرة، فليست الحيضة في اليد. القول الثاني في معنى الحديث: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - طلب أن تناوله الخمرة وهو في المسجد وعائشة حائض، فيكون معنى ناوليني الخمرة من المسجد أي من قبل المسجد كما تقول: اعطني الثوب من النافذة أي من جهة النافذة. فقد نقل النووي عن عياض، قال: "معناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها ذلك من المسجد: أي وهو في المسجد، لتناوله إياها من خارج المسجد، لا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تخرجها له من المسجد؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان في المسجد معتكفاً، وكانت عائشة في حجرتها وهي حائض، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن حيضتك ليست في يدك" فإنها خافت من إدخال يدها في المسجد، ولو كان أمرها بدخول المسجد لم يكن لتخصيص اليد معنى" (¬1). ¬
فعلى هذا يكون الحديث فيه إشارة لمنع الحائض من دخول المسجد إذا حملناه على هذا المعنى، بل يدل على منع المرور فيه فضلاً عن المكث. ويشهد لهذا التأويل، ما رواه مسلم في صحيحه. (315) قال مسلم: حدثني زهير بن حرب، وأبو كامل، ومحمد بن حاتم كلهم عن يحيى بن سعيد، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم. عن أبي هريرة قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فقال: يا عائشة ناوليني الثوب "فقالت: إني حائض. فقال: إن حيضتك ليست في يدك، فناولته. القول الثالث في معنى الحديث: قالوا: يحتمل الحديث "ناوليني الخمرة من المسجد" أي من المصلى، ولا يلزم أن يكون المصلى في المسجد، حتى الموضع الذي يصلي فيه من البيت يسمى مصلى، وهو مسجد، لأنه موضع للسجود. (316) ويشهد لهذا ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الرزاق وابن بكر، قالا: أنا ابن جريج، قال: أخبرني منبوذ أن أمه أخبرته أنها بينا هي جالسة عند ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ دخل عليها ابن عباس، فقالت: مالك شعثاً؟ قال: أم عمار مرجلتي حائض. فقالت: أي بني، وأين الحيضة من اليد؟ لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل على إحدانا وهي متكئة حائض، قد علم أنها حائض، فيتكئ عليها، فيتلوا القرآن وهو متكئ عليها، أو يدخل عليها قاعدة وهي حائض فيتكئ في حجرها، ويتلو القرآن في حجرها وتقوم وهي حائض فتبسط له الخمرة في مصلاه. وقال ابن بكر: خمرته فيصلي عليها في بيتي،
الدليل الخامس
أي بني وأين الحيضة من اليد؟ (¬1). [وإسناده ضعيف، أم منبوذ مجهولة]. وإذا احتمل الحديث هذه الاحتمالات لم يصلح دليلاً، لا للمانعين، ولا للمجيزين. الدليل الخامس: (317) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبيد بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب فأعتقوها وكانت معهم، وفيه قصة، وفي آخر الحديث: فجاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلمت. قالت عائشة: فكان لها خباء في المسجد أو حفش ... الحديث (¬2). وجه الدلالة: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرها وقت حيضتها أن تعتزل المسجد وليس في الحديث أنها كانت عجوزاً، حتى يمكن أن تكون يائسة من المحيض. قال ابن رجب: "استدل بحديث عائشة طائفة من أهل الظاهر، على جواز مكث الحائض في المسجد؛ لأن المرأة لا تخلو من الحيض كل شهر غالباً. وفي ذلك نظر؛ لأنها قضية عين لا عموم لها، ويحتمل أن هذه السوداء كانت عجوزاً ¬
الدليل السادس
قد يئست من الحيض" (¬1). وقول ابن رجب: "قضية عين لا عموم لها"، يصح لو أنه كان هناك دليل صريح في منع الحائض من المكث في المسجد فيقال: إن هذه قضية عين لا يمكن أن تعارض ما صح في منع الحائض، أما ما لم يرد دليل صريح فالدليل هذا متوجه على جواز مكث الحائض في المسجد. والله أعلم. الدليل السادس: إذا كان المشرك يدخل المسجد، ويمكث فيه، ولا يبعد أن يكون جنباً، فالحائض أولى من المشرك. (318) فقد روى البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثنا الليث، قال: حدثنا سعيد بن أبي سعيد، أنه سمع أبا هريرة، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. وقد اختصره البخاري (¬2). ¬
وأجاب النووي على هذا الدليل بقوله: "القياس على المشرك جوابه من وجهين: الأول: أن الشرع فرق بينهما!! فقام دليل تحريم مكث الجنب، وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس بعض المشركين في المسجد، فإذا فرق الشرع لم يجز التسوية. الثاني: أن الكافر لا يعتقد حرمة المسجد، فلا يكلف بها، بخلاف المسلم، وهذا كما أن الحربي لو أتلف على المسلم شيئاً لم يلزمه ضمانه، لأنه لم يلتزم الضمان بخلاف المسلم والذمي إذا أتلفا" (¬1). هذه أدلة كل فريق، والقائلون بجواز مكث الحائض في المسجد يكفيهم دليلاً أن معهم الأصل، وهو الحل، وبراءة الذمة، والقول بالتحريم فيه احتياط إلا أن أدلته محتملة، ولا يستطيع الباحث أن يجزم بتحريم المكث، فمن أراد الاحتياط فالاحتياط بابه واسع، والاحتياط في الاختيار للنفس غير الاحتياط في تحرير الأقوال، وبيان الأرجح والأقوى. فسلوك الاحتياط عند التحريم والتحليل للغير أن لا يتجرأ طالب العلم على تحريم شيء حتى يتبين له وجهه بما يستطيع به الجزم أو غلبة الظن بأن هذا حرام. قال سبحانه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} (¬2)، ولا يكفي أن يكون هذا القول قد ذهب إليه الجمهور، فإن الحق لا يعرف بالكثرة. ¬
المبحث الثاني: في مرور الحائض في المسجد بلا مكث
المبحث الثاني: في مرور الحائض في المسجد بلا مكث اختلف العلماء فيما لو احتاجت المرأة إلى العبور في المسجد من دون أن تمكث فيه. فقيل: لا يجوز لها المرور مطلقاً سواء أمنت التلويث أم لا. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، ووجه في مذهب الشافعية اختاره إمام الحرمين (¬3). وقيل: يكره العبور، فإن كان لعذر لم يكره. وهو وجه في مذهب الشافعية، اختاره منهم ابن إسحاق المروزي والبندنيجي (¬4). وقيل: يجوز العبور إذا أمنت التلويث، فإن خافت التلويث منعت. وهو المشهور من مذهب الحنابلة. وهذه الأقوال قبل أن ينقطع دم الحيض، أما إذا انقطع دم الحيض وقبل ¬
أدلة القائلين بتحريم مرور الحائض في المسجد.
الاغتسال. فالشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) يجيزون عبورها. وأجاز الحنابلة لبثها في المسجد إذا توضأت كالجنب عندهم، لأن الوضوء يخفف الحدث فيزول بعض ما يمنعه، ومسألة اللبث في المسجد سبق مناقشتها، فحصل من هذه الأقوال أن المسألة كالتالي: المنع مطلقاً، والجواز مطلقاً، والجواز بشرط انقطاع الدم، والكراهة من العبور لغير حاجة، وجواز لبثها في المسجد إذا انقطع دم الحيض بشرط الوضوء. أدلة القائلين بتحريم مرور الحائض في المسجد. استدلوا بالأدلة التي ذكرناها لهم في تحريم مكث الحائض في المسجد، فإذا حرم المكث عندهم حرم المرور فيه، لأن المرور نوع من المكث، ولأنهم لحظوا في تحريم المكث تحريم دخول الحائض المسجد، فإذا كان دخول المسجد محرماً على الحائض كان المكث والمرور ممنوعين على الحائض. وقد سقت أدلتهم في المسألة السابقة فلا داعي لإعادتها. أدلة القائلين بجواز مرور الحائض في المسجد. الدليل الأول: (319) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، وأبو بكر ابن أبي شيبة، وأبو كريب، ثلاثتهم عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن ثابت بن عبيد، عن ¬
الدليل الثاني
القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ناوليني الخمرة من المسجد. قالت، فقلت: إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك" (¬1). وقد ناقشت اختلاف العلماء في دلالة الحديث، وأن الحديث يحتمل المرور في المسجد، ويحتمل أن المراد بالمسجد المصلى الذي في المنزل، ويحتمل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي في المسجد، وأن عائشة كانت في البيت ومع الاحتمال لا يمكن الجزم بدلالة الحديث على المراد. انظر أدلة كل احتمال في أدلة المسألة السابقة. الدليل الثاني: استدلوا بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}. فإذا صح للجنب أن يعبر المسجد جاز ذلك للحائض، وقد ناقشت دلالة الآية على المراد، واختلاف العلماء في تفسيرها. وقد ثبت عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب بأن المراد بعابري السبيل المسافرون إذا لم يجدوا الماء يتيممون، وهو قول جماعة من التابعين انظر المسألة التي قبل هذه. وعلى تسليم إباحة العبور للجنب يبقى هل يسلم لهم قياس الحائض عليه فإن حدث الحيض أغلظ من حدث الجنابة، فإن الحائض متلبسة بالحدث ¬
أدلة القائلين بالجواز إذا انقطع الدم وقبل الاغتسال.
وبالنجاسة، أما الجنب فهو محدث فقط، ولذا يصح صيام الجنب ولا يصح صيام الحائض. ومع ضعف الدليلين إلا أن هذا القول هو الصحيح، لأنه لم يرد دليل صحيح صريح في منع الحائض من المكث فضلاً عن العبور. أدلة القائلين بالجواز إذا انقطع الدم وقبل الاغتسال. لعل هؤلاء فهموا أن العلة في المنع هو خوف تلويث المسجد، فإذا انقطع الدم أصبحت الحائض عندهم بمنزلة الجنب فطهرت من النجاسة الحسية، وبقي الطهارة من الحدث، وإذا كان الجنب له أن يعبر المسجد، فالمرأة بعد انقطاع الدم لها ذلك قياساً عليه. أدلة القائلين بكراهة العبور. لعل سبب الكراهة عندهم. أولاً: اتخاذ المسجد طريقاً، والمساجد لم تبن لهذا. (320) ولذا روى مسلم، قال رحمه الله: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا عمر بن يونس الحنفي، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا إسحاق ابن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك، وهو عم إسحاق، قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مه مه. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تزرموه دعوه، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه، فقال له: إن هذه
أدلة القائلين بجواز لبث الحائض في المسجد إذا انقطع دمها بشرط الوضوء.
المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فأمر رجلا من القوم، فجاء بدلو من ماء، فشنه عليه (¬1). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن"، إشارة إلى أنها لم تبن لاتخاذها طرقاً. ثانياً: الاحتياط والخروج من خلاف العلماء، وإذا كان هناك حاجة للعبور ارتفعت الكراهة؛ لأنه معلوم أن الضرورة ترفع التحريم، والحاجة ترفع الكراهة. أدلة القائلين بجواز لبث الحائض في المسجد إذا انقطع دمها بشرط الوضوء. (321) استدلوا بما رواه سعيد بن منصور في سننه، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد الداروردي، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤا للصلاة (¬2). وسبق تخريجه (¬3)، وقد ناقشت الاستدلال بهذا الحديث في أدلة المسألة التي قبل هذه فارجع إليها. ¬
والراجح كما قلت سابقاً: جواز مكث الحائض وعبورها المسجد بشرط أن تأمن التلويث، لأن المساجد يجب صيانتها حتى من البصاق الطاهر فضلاً عن الدم النجس. والله أعلم.
المبحث الثالث: هل يصح الاعتكاف مع الحيض
المبحث الثالث: هل يصح الاعتكاف مع الحيض اختلف العلماء في هذه المسألة: فقيل: لا يصح. وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). وقيل: يصح الاعتكاف مع الحيض. وهو اختيار ابن حزم (¬2). دليل من قال: لا يصح اعتكاف الحائض. الدليل الأول: الإجماع. قال ابن قدامة: "وإذا حاضت المرأة خرجت من المسجد، ثم قال: وأما خروجها من المسجد فلا خلاف فيه؛ لأن الحيض حدث يمنع اللبث في المسجد، فهو كالجنابة، وآكد منه" (¬3). ¬
الدليل الثاني
وقال ابن رشد: "ولا خلاف فيما أحسب عندهم أن الحائض تبني" (¬1). والإجماع لا يثبت مع خلاف ابن حزم، ومن قبله داود الظاهري. الدليل الثاني: أن الاعتكاف عبادة من شرطها أن تكون في مسجد، والحائض ممنوعة من اللبث في المسجد. وقد بينت في مسألة مستقلة الخلاف في هذه المسألة، وبينت أن الراجح أن الحائض يجوز لها المكث فيه. والله أعلم. ثم إن مسألة أن يكون الاعتكاف من المرأة في مسجد ليست محل إجماع (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: قالوا: إن من شرط الاعتكاف أن تكون المرأة صائمة، والحائض ليس عليها صيام (¬1). (322) فقد روى أبو داود رحمه الله، قال: حدثنا وهب بن بقية، أخبرنا خالد، عن عبد الرحمن يعني - ابن إسحاق - عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع. قال أبو داود غير عبد الرحمن لا يقول فيه: قالت: السنة. قال أبو داود جعله قول عائشة. [ضعيف مرفوعاً، ورجح البيهقي أن يكون من كلام الزهري أو عروة] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الشاهد من الحديث: قوله "ولا اعتكاف إلا بصوم"، والحديث لا حجة فيه مع ضعفه، وقد جاء في الصحيح ما يشهد لصحة الاعتكاف بدون صوم. (323) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى ابن سعيد، عن عبيد الله، أخبرني نافع، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن عمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. قال: فأوف بنذرك. ورواه مسلم (1). قال ابن قدامة: "لو كان الصوم شرطاً لما صح اعتكاف الليل؛ لأنه لا صيام فيه" (2). والراجح أن الليلة تطلق، ويراد بها اليوم، ويطلق اليوم وتدخل الليلة، ولذلك رواه مسلم، بلفظ اليوم. (324)، قال مسلم، حدثني أبو الطاهر أخبرنا، عبد الله بن وهب حدثنا جرير بن حازم، أن أيوب حدثه، أن نافعا حدثه، أن عبد الله بن عمر حدثه، أن عمر بن الخطاب سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالجعرانة بعد أن رجع من ـــــــــــــــــــــــــ وعطاء فسألتهما عن ذلك فقال طاوس: كان ابن عباس لا يرى على المعتكف صياماً إلا أن يجعله على نفسه وقال عطاء ذلك رأي. هذا هو الصحيح موقوف، ورفعه وهم، وكذلك رواه عمرو بن زرارة، عن عبد العزيز موقوفاً، وهو فيما أنبأني أبو عبد الله إجازة، أن أبا الوليد أخبرهم، ثنا عبد الله بن محمد بن شيرويه، ثنا عمرو بن زرارة، ثنا عبد العزيز، فذكره موقوفاً مختصراً، قال: فقال: كان ابن عباس لا يرى على المعتكف صوماً. وقال عطاء: ذلك رأي اهـ. قد ساقه البيهقي بإسناده مرفوعاً، وحكم بوهمه. وصحح الموقوف عن ابن عباس. (1) صحيح البخاري (2032)، ومسلم (1656). (2) المغني (4/ 460، 459).
دليل القائلين بصحة الاعتكاف مع الحيض.
الطائف، فقال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوما في المسجد الحرام، فكيف ترى. قال: اذهب فاعتكف يوما .... الحديث (¬1). وقال تعالى في سورة آل عمران: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلا رَمْزًا} (¬2). وقال سبحانه في مريم {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} (¬3). لكن الدلالة من الحديث على عدم اشتراط الصوم، ليس في ذكر الليلة، ولكن كونه - صلى الله عليه وسلم - لم يذكره لعمر، ولو كان الصوم شرطاً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - له، وتأخير البيان عن وقته لا يجوز. والله أعلم. دليل القائلين بصحة الاعتكاف مع الحيض. الدليل الأول: لم يأت نهي من الشرع ينهى الحائض من الاعتكاف، أو ينهاها عن الدخول في المسجد، وإذا لم يأت نهي، وكان الاعتكاف مطلوباً شرعاً، كان الاعتكاف مشروعاً للحائض كغيرها، ومن منع الحائض فعليه الدليل. ولا دليل. قال ابن حزم: "وجائز للحائض والنفساء أن يتزوجا، وأن يدخلا المسجد، وكذلك الجنب؛ لأنه لم يأت نهي عن شيء من ذلك، وقد قال الرسول ¬
الدليل الثاني
- صلى الله عليه وسلم -: "المؤمن لا ينجس" اهـ (¬1). الدليل الثاني: (325) ما رواه البخاري، قال: حدثنا قتيبة: قال: حدثنا يزيد ابن زريع، عن خالد، عن عكرمة، عن عائشة، قالت: اعتكفت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من أزواجه فكانت ترى الدم والصفرة والطست تحتها وهي تصلي (¬2). وجه الاستدلال: أن الدم إذا كان لا يمنع المرأة المستحاضة من الاعتكاف، لم يمنع الحائض. الدليل الثالث: كل الأدلة التي ذكرتها في جواز دخول الحائض المسجد، هي دليل على صحة اعتكاف الحائض؛ لأن من منع عمدته إما المنع من دخول المسجد، وهو مرجوح، أو اشتراط الصيام لصحة الاعتكاف، وهو ضعيف. والراجح أن المرأة لا تمنع من الاعتكاف، وهي حائض، فإن حقيقة الاعتكاف مكث في مقام مخصوص، فلا يشترط فيه الطهارة من الحيض، كما لا يشترط فيه الصيام كما لو وقفت بعرفة، فإنه يصح وقوفها مع كونها حائضاً مفطرة غير صائمة. والله أعلم. ¬
الفرع الأول: إذا حاضت المرأة وهي معتكفة
الفرع الأول: إذا حاضت المرأة وهي معتكفة (*) أما الذين لا يشترطون الطهارة للاعتكاف، فهذا واضح أنها تمضي في اعتكافها، وأما على قول الجمهور الذين يشترطون الطهارة من الحيض، فقد اختلفوا في الواجب على المرأة في هذه الحالة. فقيل: ترجع إلى بيتها، فإذا طهرت رجعت وبنت على ما مضى وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3). وقيل: إن كان للمسجد رحبة استحب لها أن تخرج إليها، وتضرب خباءها فيها، وإن لم يكن فيه رحبة رجعت إلى بيتها، فإذا طهرت رجعت، فأتمت اعتكافها. وهذا مذهب الحنابلة (¬4). وقال إبراهيم النخعي: تضرب فسطاطها في دارها، فإذا طهرت قضت ¬
دليل الجمهور على جواز خروجها إلى منزلها إذا حاضت.
تلك الأيام، وإن دخلت بيتاً أو سقفاً استأنفت (¬1). دليل الجمهور على جواز خروجها إلى منزلها إذا حاضت. قالوا: لما وجب عليها الخروج من المسجد، لم يلزمها الإقامة في رحبته، كالخارجة لعدة، أو خوف الفتنة. وناقش ذلك ابن قدامة، فقال: "وفارق المعتدة؛ فإن خروجها لتقيم في بيتها، وتعتد فيه، ولا يحصل ذلك مع الكون في الرحبة، وكذلك الخائفة من الفتنة، فلا تقيم في موضع لا تحصل السلامة بالإقامة فيه" (¬2). ويمكن أن يستدل لهم، بأنها حين منعت من المسجد، وعبادة الاعتكاف متعلقة بالمسجد، تساوى ما عداه من الأمكنة، فلا فضل للرحبة على غيرها. ولذلك لو نذرت اعتكافها في مكان له فضل على غيره تعين، كما لو نذرت الاعتكاف في المسجد الحرام، لم يجز اعتكافها في غيره. فإذا كان المكان لا فضل له على غيره لم يتعين. دليل من استحب أن تمكث في رحبة المسجد. (326) قال ابن قدامة: روى أبو حفص بإسناده، عن المقدام بن شريح، عن عائشة، قالت: كن المعتكفات إذا حضن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإخراجهن من المسجد، وأن يضربن الأخبية في رحبة المسجد حتى يطهرن. [لم أقف على إسناده] (¬3). ¬
الفصل الخامس: في أحكام الحائض من حيث المناسك
الفصل الخامس: في أحكام الحائض من حيث المناسك المبحث الأول: في إحرام الحائض والنفساء في الحج والعمرة يجوز للحائض والنفساء الإحرام بالحج والعمرة، ولا يمنع الحيض والنفاس من صحة الإحرام، والأدلة على ذلك ما يلي: الدليل الأول: الإجماع. فقد أجمع العلماء على صحة إحرام الحائض والنفساء، وأن الحيض والنفاس لا يمنع صحة الإحرام. وقد حكى الإجماع ابن عبد البر (¬1)، والنووي (¬2). الدليل الثاني: من السنة. (327) روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله تعالى عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال النبي: من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا، فقدمت مكة، وأنا حائض ولم ¬
أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: انقضي رأسك وامتشطي. وأهلي بالحج ودعي العمرة. ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم، فاعتمرت، فقال: هذه مكان عمرتك. قالت: فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافاً واحداً بعد أن رجعوا من منى، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا (¬1). (328) ومنه ما رواه مسلم، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، ومحمد بن رمح جميعا، عن الليث بن سعد. قال قتيبة: حدثنا ليث، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال: أقبلنا مهلين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج مفرد، وأقبلت عائشة رضي الله تعالى عنها بعمرة حتى إذا كنا بسرف عركت، حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحل منا من لم يكن معه هدي. قال: فقلنا: حل ماذا؟ قال: الحل كله، فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية، ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة رضي الله تعالى عنها فوجدها تبكي، فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني أني قد حضت، وقد حل الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن. فقال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي، ثم أهلي بالحج، ففعلت، ووقفت المواقف حتى إذا طهرت طافت ¬
الدليل الثالث
بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال: قد حللت من حجك وعمرتك جميعاً، فقالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت. قال: فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم وذلك ليلة الحصبة (¬1). وجه الاستدلال من الحديثين: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأهلي بالحج" مع كونها حائضاً، فهذا دليل على صحة إحرام الحائض، ومثلها النفساء. الدليل الثالث: (329) ما رواه مسلم، قال: حدثنا هناد بن السري وزهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة كلهم، عن عبدة. قال زهير: حدثنا عبدة ابن سليمان عن عبيد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر بالشجرة فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر يأمرها أن تغتسل وتهل (¬2). (330) ومنها حديث جابر، عند مسلم، قال: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم جميعاً، عن حاتم. قال أبو بكر: حدثنا حاتم بن إسماعيل المدني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: دخلنا على جابر بن عبد الله، فسأل عن القوم حتى انتهى إلي فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين، فأهوى بيده إلى رأسي فنزع زري الأعلى، ثم نزع زري ¬
الأسفل، ثم وضع كفه بين ثديي، وأنا يومئذ غلام شاب فقال: مرحبا بك يا ابن أخي، سل عما شئت، فسألته وهو أعمى، وحضر وقت الصلاة فقام في نساجة ملتحفاً بها كلما وضعها علي منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها، ورداؤه إلى جنبه على المشجب فصلى بنا. فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال بيده فعقد تسعا، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -حاج، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي. [الحديث قطعة من حديث طويل في صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬1). والاستدلال بهذين الحديثين ظاهر على صحة إحرام النفساء. ¬
المبحث الثاني: خلاف العلماء في اشتراط الطهارة للطواف
المبحث الثاني: خلاف العلماء في اشتراط الطهارة للطواف اختلف العلماء في اشتراط الطهارة للطواف. فقيل: الطهارة من الحيض، بل ومن الحدث الأصغر شرط لصحة الطواف. وهو المشهور من مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: الطهارة من الحيض ومن الحدث الأصغر واجبة، ويصح الطواف بدونها، وتجبر بدم. وهو الراجح عند الحنفية (¬4)، ورواية عن أحمد (¬5). وقيل: الطهارة واجبة من الحيض، سنة من الحدث الأصغر. وهو اختيار ابن تيمية (¬6). الأدلة على اشتراط الطهارة من الحيض والحدث الأصغر. الدليل الأول: (331) حدثنا أصبغ، عن ابن وهب، أخبرني عمرو، عن محمد ابن ¬
عبد الرحمن، ذكرت لعروة، قال: فأخبرتني عائشة رضي الله تعالى عنها: أن أول شيء بدأ به حين قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ، ثم طاف، ثم لم تكن عمرة. الحديث (¬1). وجه الاستدلال: أولاً: أن هذا الفعل امتثال لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬2). ثانياً: قد روى مسلم في صحيحه، قال رحمه الله: (332) حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعلي بن خشرم جميعاً، عن عيسى بن يونس. قال ابن خشرم: أخبرنا عيسى، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابراً يقول: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمى على راحلته يوم النحر ويقول: لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه (¬3). قال الشنقيطي: وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - لطوافه، قد دل دليلان على أن الوضوء لازم لا بد منه. أحدهما: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع: "خذوا عني مناسككم" وهذا الأمر للوجوب والتحتم، فلما توضأ للطواف لزمنا أن نأخذ عنه الوضوء للطواف امتثالاً لأمره، في قوله - صلى الله عليه وسلم - "خذوا عني مناسككم" ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن فعله في الطواف من الوضوء له، ومن هيئته التي أتي به عليها كلها بيان وتفصيل لما أجمل في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وقد تقرر في الأصول أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان لبيان نص من كتاب الله، فهو على اللزوم والتحتم، ولذا أجمع العلماء على قطع يد السارق من الكوع؛ لأن قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - للسارق من الكوع، بيان وتفصيل لما أجمل في قوله تعالى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} لأن اليد تطلق على العضو إلى المرفق، وإلى المنكب" (¬1). وقال النووي في شرحه لهذا الحديث: "لتأخذوا عني مناسككم" فهذه اللام لام الأمر، ومعناه: خذوا عني مناسككم، وهكذا وقع في رواية غير مسلم، وتقديره: هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحج، وصفته، وهي مناسككم فخذوها عني، واقبلوها واعملوا بها، وعلموها الناس، وهذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج (¬2). وأجيب عن هذا الدليل: أما كونه لما طاف توضأ، فهذا وحده لا يدل على الوجوب؛ فإنه كان - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ لكل صلاة حتى ولو كان طاهراً، وتيمم لرد السلام، وقال: إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر. وأما الجواب عن قوله: "لتأخذوا عني مناسككم". ¬
الدليل الثاني
قال ابن القيم: "أن نفعل كما فعل على الوجه الذي فعل، فإذا كان قد فعل فعلاً على وجه الاستحباب، فأوجبناه لم نكن قد أخذنا عنه وتأسينا به، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل في حجته أشياء كثيرة جداً لم يوجبها أحد من الفقهاء" اهـ (¬1). وعلى كل حال لا أرى الاستدلال بمثل هذا الأمر العام المشتمل على أحوال وهيئات، وصفات وأقوال، أحكامها مختلفة، لا أرى أن يستدل على وجوبها بهذا العموم. فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني مناسككم" يدل على كونه مشروعاً، وأنه من أفعال المناسك، أما دلالته على الوجوب فيحتاج إلى دليل خاص، كما أن دلالته على الشرطية أو الركنية يحتاج إلى دليل خاص كذلك. فإذا كان ورود الأمر الخاص فيه نزاع في دلالته على الوجوب كما هو معلوم في أصول الفقه، فما بالك في حديث: "خذوا عني مناسككم" والذي يشمل جميع أفعال المناسك. الدليل الثاني: (333) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا سفيان، قال: سمعت عبد الرحمن بن القاسم، قال: سمعت القاسم يقول: سمعت عائشة تقول: خرجنا لا نرى إلا الحج، فلما كنا بسرف حضت، فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي. قال: ما لك أنفست؟ قلت: نعم. قال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت. ¬
قالت: وضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عن نسائه بالبقر. ورواه مسلم (¬1). وفي رواية لهما: فافعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري. وفي رواية لمسلم (حتى تغتسلي). وأجيب عن هذا الدليل: بأن الحائض إنما منعت من الطواف من أجل المكث في المسجد. (334) لما رواه مسلم، قال رحمه الله: حدثني أبو الربيع الزهراني، حدثنا حماد، حدثنا أيوب، عن محمد، عن أم عطية قالت: أمرنا تعني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور وأمر الحيَّض أن يعتزلن مصلى المسلمين. ورواه البخاري (¬2). قلت: التعليل بأن النهي من أجل المكث في المسجد ليس ظاهراً من الحديث، وصرف للفظ عن ظاهره، وكان من الممكن أن يقول - صلى الله عليه وسلم -: غير ألا تمكثي في المسجد، ولأن النهي عن المكث أعم من النهي عن الطواف، فلو نهى عن المكث لدخل فيه الطواف، بخلاف العكس، فحين نهى عن الطواف، وهو أخص من المكث لم يدخل المكث فيه، وهو ظاهر. ولو كان النهي من أجل صيانة المسجد خوفاً من التلوث لم يجعل النهي ممتداً حتى الاغتسال، كما في رواية مسلم: "حتى تغتسلي". لأن الحائض لا تغتسل إلا وقد انقطع دم الحيض، فلما جعل غاية النهي الاغتسال فلا يكفي ¬
الدليل الثالث
حتى ولو طهرت من الدم، ما دام أنها لم تتطهر. ولو كانت العلة صيانة المسجد لما أذن الشارع للمستحاضة في دخول المسجد والاعتكاف فيه مع خروج الدم، فعلم بهذا أن العلة ليست صيانة المسجد من التلويث. نعم الحديث لا يصلح دليلاً على اشتراط رفع الحدث الأصغر؛ لأن الحديث في الطهارة من الحيض، وهو من الحدث الأكبر، وبالتالي الحديث يبقى دليلاً على اشتراط الطهارة من الحيض فقط، وليس كل شيء اشترط له رفع الحدث الأكبر يلزم منه رفع الحدث الأصغر، فقراءة القرآن على مذهب الجمهور تجوز للمحدث حدثاً أصغر، ويمنع الجنب من القراءة عندهم، فليس بينهما تلازم. الدليل الثالث: (335) ما رواه البخاري، رحمه الله، قال: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، حدثني عروة بن الزبير وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرتهما، أن صفية بنت حيي زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حاضت في حجة الوداع فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أحابستنا هي؟ فقلت: إنها قد أفاضت يا رسول الله، وطافت بالبيت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فلتنفر. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال من الحديث: وجه الاستدلال منه كالاستدلال بالحديث الذي قبله، والجواب عن ذلك هو الجواب عنه. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (336) ما رواه الترمذي، قال رحمه الله: حدثنا قتيبة، حدثنا، جرير عن عطاء بن السائب، عن طاوس، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الطواف حول البيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه فمن تكلم فيه فلا يتكلمن إلا بخير. قال أبو عيسى وقد روي هذا الحديث عن ابن طاوس وغيره عن طاوس عن ابن عباس موقوفاً، ولا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث عطاء بن السائب. [إسناده ضعيف، والراجح وقفه على ابن عباس] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
كما أن متنه شاهد على أنه ليس من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالحديث يعتبر الطواف كالصلاة إلا في الكلام، وقد قال علماء الأصول: الاستثناء معيار العموم، بمعنى أنها تثبت للطواف جميع أحكام الصلاة إلا ما استثني، وعند التأمل نرى أنه يجوز بالطواف الأكل والشرب، وليس فيه تسليم، ولا دعاء استفتاح، ولا استقبال القبلة، ولا تجب له قراءة الفاتحة، وله أن يقطع طوافه لشهود صلاة الجنازة، أو لحضور الجماعة، ثم يبني على طوافه بخلاف الصلاة، ولا يحتاج فيه إلى تسوية صفوف، ولا تقديم الرجال على النساء، وله أن يطوف وهو عاري الكتفين، وبالتالي فهذه المخالفات تدل على أن الكلام ليس من ¬
الرسول - صلى الله عليه وسلم - {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (¬1). وقد قال بعضهم: إن هذا الحديث على فرض صحته يشبه حديث أبي هريرة في الصحيح (337) فقد روى البخاري، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا عبد الواحد، قال: حدثنا الأعمش، قال: سمعت أبا صالح يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ، فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه، اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة (¬2). والذي ينتظر الصلاة لا يلزمه ما يلزم المصلي، فله أن يأكل ويلتفت عن القبلة، وغيرها، فقد يكون الطواف صلاة من أجل أن الصلاة شرعت لإقامة ذكر الله، قال تعالى {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬3) والطواف إنما شرع لإقامة ذكر الله، وإن كانت الصلاة في اللغة: الدعاء، والطواف يدعو به الطائف ما شاء من أمور الدنيا والآخرة. ¬
وهذا الكلام ليس دقيقاً، لأن هناك فرقاً بين أن أقول الطواف كالصلاة في الأجر والمثوبة، وبين أن أقول: الطواف صلاة إلا في الكلام، فهذا واضح أن الحديث لم يتعرض للثواب، وإنما تعرض فيما يجب ويلزم ويمنع. قال الكاساني تعليقاً على حديث "الطواف بالبيت صلاة": يحمل على التشبيه كما في قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أي كأمهاتهم، ومعناه أن الطواف كالصلاة إما في الثواب، أو في أصل الفرضية في طواف الزيارة؛ لأن كلام التشبيه لا عموم له فيحمل على المشابهة في بعض الوجوه، عملاً بالكتاب والسنة" اهـ (¬1). فإن قيل: أليس بعد الطواف صلاة ركعتين؟ والصلاة تشترط فيها الطهارة، من أجل هذا يلزمه أن يطوف متطهراً. فالجواب: قال ابن تيمية: "وجوب ركعتي الطواف فيه نزاع، وإذا قدر وجوبهما لم تجب فيها الموالاة، وليس اتصالهما بالطواف بأعظم من اتصال الصلاة بالخطبة يوم الجمعة، ومعلوم أنه لو خطب محدثاً ثم توضأ وصلى الجمعة جاز، فلأن يجوز أن يطوف محدثاً، ثم يتوضأ، ويصلي الركعتين بطريق الأولى. وهذا كثيراً ما يبتلى به الإنسان إذا نسي الطهارة في الخطبة والطواف، فإنه ¬
الدليل الخامس على اشتراط الطهارة.
يجوز له أن يتطهر ويصلي. وقد نص على أنه إذا خطب، وهو محدث جاز" (¬1). الدليل الخامس على اشتراط الطهارة. استدل بعضهم بقوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (¬2) وجه الاستدلال من وجهين: الأول: أن الطواف ذكر مع الصلاة، فإذا كانت الصلاة تشترط لها الطهارة، فكذلك الطواف. بل إن تقديم الطواف على الصلاة يدل على أن الطهارة فيه أولى. الوجه الثاني: إذا وجب تطهير مكان الطائف، فبدنه من باب أولى. وأجيب: بأن هذه الدلالة دلالة اقتران، وهي من أضعف الدلالات، ولا يلزم من اقترانهما اشتراكهما في الحكم. قال تعالى {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬3). والأكل مباح، فهل إتيان حقه يوم حصاده تقولون: إنه مباح. ثم إنه قال ¬
الدليل السادس
في الآية الأخرى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (¬1). هل تقولون: إن المعتكف لا يصح اعتكافه إلا على طهارة؛ لأنه قرن بالصلاة، فإذا سقطت الدلالة من هذه الآية، سقطت من تلك. وكونه قدم الطواف على الصلاة ليس دليلاً على كونه أولى بالطهارة من الصلاة، فقد يكون قدم باعتبار أن الطواف أخص بالبيت من الصلاة، فالصلاة يصليها الإنسان في كل المساجد، بل في الأرض كلها. وأما الطواف فلا يطوف الإنسان إلا في هذا البيت، والله أعلم. وأما الأمر بتطهير المكان، فالمراد من الشرك، وهو نجاسة معنوية، ومن الخبث وهو نجاسة حسية، وأما المؤمن فإنه ليس بنجس، ولا ينجس بالحدث، ولا يمنع المحدث من دخول البيت، فليس مقصوداً في الآية. الدليل السادس: أن الطواف عبادة متعلقة بالبيت، فكانت الطهارة شرطاً فيها كالصلاة. قال ابن تيمية: وهذا القياس فاسد، فإنه يقال: لا نسلم أن العلة في الأصل كونها متعلقة بالبيت، ولم يذكروا دليلاً على ذلك، والقياس الصحيح ما بين فيه أن المشترك بين الأصل والفرع هو علة الحكم أو دليل العلة. وأيضاً فالطهارة إنما وجبت لكونها صلاة، سواء تعلقت بالبيت أو لم تتعلق، ألا ترى أنهم لما كانوا يصلون إلى الصخرة كانت الطهارة أيضاً شرطاً ¬
دليل من قال الطهارة واجبة ويصح الطواف بدونها وتجبر بدم.
فيها، ولم تكن متعلقة بالبيت. وكذلك أيضاً إذا صلى إلى غير القبلة كما يصلي المتطوع في السفر، وكصلاة الخوف راكباً؛ فإن الطهارة شرط، وليست متعلقة بالبيت، حتى قال: ثم هناك عبادة من شرطها المسجد، ولم تكن الطهارة شرطاً فيها كالاعتكاف (¬1). دليل من قال الطهارة واجبة ويصح الطواف بدونها وتجبر بدم. استدلوا: على أن الطهارة واجبة بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬2). وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى أمر بالآية بالطواف، وهو اسم للدوران حول البيت، وذلك يتحقق من المحدث والطاهر، فاشتراط الطهارة في الطواف يكون زيادة على النص، ومثل هذه الزيادة لا تثبت بخبر الواحد، ولا بالقياس؛ لأن الركنية لا تثبت إلا بدليل قاطع، فأما الوجوب فيثبت بخبر الواحد؛ لأنه يوجب العمل، ولا يوجب علم اليقين، والركنية إنما تثبت بما يوجب علم اليقين. وأصل الطواف ركن ثابت بالنص، والطهارة فيه تثبت بخبر الواحد، فيكون موجباً للعمل دون العلم، فلم تصر الطهارة ركناً، ولكنها واجبة، والدم يقوم مقام الواجبات في الحج (¬3). ¬
أدلة القائلين بأن الطهارة من الحيض شرط ومن الحدث الأصغر سنة.
وهذا القول منهم ضعيف؛ لأن التفريق بين ما هو قطعي الدلالة، وما هو ظني الدلالة، والأول يصلح أن يكون دليلاً على الفرض، والثاني يكون دليلاً على الواجبات دون الشروط والأركان، والتفريق بين الواجب والفرض كل هذه الأمور مرجوحة لا تقوم على دليل صحيح، ولا يوافقهم فيها الجمهور. ثم الراجح من خبر الآحاد أنه يفيد العلم ما لم يعارضه ما هو أقوى منه، وتجويز الخطأ في خبر الآحاد تجويز عقلي، والأصل عدمه، ولو فتح الباب للتجويز العقلي لهدم الشرع، وهي لا تخرج عن أوهام ووساوس، لا تبنى على أسس، إنما بنيت على شفا جرف هار، وقد كان البلاغ في الرسالة يقوم على خبر الواحد، وهو أصل الشرع، فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرسل الآحاد من الصحابة لتبليغ رسالته، وتقوم الحجة به، فغيره من باب أولى. وليس هذا مقام بسط الكلام بالاحتجاج بخبر الواحد. أدلة القائلين بأن الطهارة من الحيض شرط ومن الحدث الأصغر سنة. أما الدليل على كون الطهارة من الحيض شرطاً. فالإجماع. قال ابن عبد البر: الحائض لا تطوف بالبيت، وهو أمر مجتمع عليه، لا أعلم فيه خلافاً (¬1). وقال ابن رشد: "اتفق المسلمون على أن الحيض يمنع أربعة أشياء، وذكر الثالث منها، قال: والثالث: فيما أحسب الطواف" (¬2). ¬
وأما الدليل على كون الطهارة من الحدث الأصغر سنة.
قال النووي: وقد أجمع العلماء على تحريم الطواف على الحائض والنفساء. وأجمعوا على أنه لا يصح منهما طواف مفروض ولا تطوع، وأجمعوا على أن الحائض والنفساء لا تمنع من شيء من مناسك الحج إلا الطواف وركعتيه، نقل الإجماع في هذا كله ابن جرير وغيره (¬1). وقال ابن تيمية: "وأما الذي لا أعلم فيه نزاعاً أنه ليس لها أن تطوف مع الحيض، إذا كانت قادرة على الطواف مع الطهر، فما أعلم منازعاً أن ذلك يحرم عليها، وتأثم به (¬2). وقال ابن حزم: أما امتناع الصلاة والصوم والطواف والوطء في الفرج حال الحيض فإجماع متيقن مقطوع به، لا خلاف بين أحد من أهل الإسلام فيه (¬3). وأما الدليل على كون الطهارة من الحدث الأصغر سنة. الدليل الأول: عدم الموجب للطهارة، والأصل براءة الذمة حتى يثبت الدليل الصحيح الصريح. قال ابن تيمية: "لم ينقل أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بإسناد صحيح، ولا ضعيف أنه أمر بالوضوء للطواف مع العلم أنه قد حج معه خلائق عظيمة، وقد اعتمر ¬
الدليل الثاني
عمراً متعددة، والناس معتمرون معه، فلو كان الوضوء فرضاً في الطواف لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بياناً عاماً، ولو بينه لنقل ذلك المسلمون عنه، ولم يهملوه" (¬1). وقال ابن القيم: "لم ينقل أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر المسلمين بالطهارة، لا في عمرته، ولا في حجته، مع كثرة من حج معه واعتمر، ويمتنع أن يكون ذلك واجباً ولا يبينه للأمة، وتأخير البيان عن وقته ممتنع" (¬2). قلت: وقد طاف مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حجته خلق كثير، وكثير منهم حديث عهد بالإسلام، ومع ذلك لم يأمرهم بالطهارة، وقد ينتقض وضوء كثير منهم أثناء الطواف، ومع هذا الاحتمال القوي، لم يبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه يلزمهم الطهارة في الطواف، مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أنه يعلن أفعاله ليأخذ الناس مناسكهم فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشعر بأنه قد لا يحج العام القابل، وكان كما تنبأ النبي - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثاني: (338) ما رواه أحمد، قال رحمه الله: ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن الحنفية، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم (¬3). [وهذا الحديث حسن، وابن عقيل مختلف فيه، والأكثر على ضعفه، وهذا الحديث من أحاديثه المقبولة، حيث يشهد له عمومات أخر، كحديث لا تقبل ¬
صلاة بغير طهور ونحوها، ويتقى من حديثه ما ينفرد به مما لا يوجد ما يعضده] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الدلالة: قال ابن تيمية: "في هذا الحديث دلالتان: إحداهما: أن الصلاة تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، فما لم يكن تحريمه ¬
الدليل الثالث
التكبير وتحليله التسليم لم يكن من الصلاة. الثانية: أن هذه هي الصلاة التي مفتاحها الطهور، وكل صلاة مفتاحها الطهور، فتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، فما لم يكن تحريمه التكبير وتحليله التسليم، فليس مفتاحه الطهور". وقال: "الطواف ليس له تحريم ولا تحليل، وإن كبر في أوله فكما يكبر على الصفا والمروة وعند رمي الجمار من غير أن يكون ذلك تحريماً، ولهذا يكبر كلما حاذى الركن. والصلاة لها تحريم؛ لأنه بتكبيرها يحرم على المصلي ما كان حلالاً له من الكلام، أو الأكل أو الضحك أو الشرب أو غير ذلك، فالطواف لا يحرم شيئاً، بل كل ما كان مباحاً قبل الطواف في المسجد، فهو مباح في الطواف، وإن كان قد يكره ذلك؛ لأنه يشغل عن مقصود الطواف". حتى قال: "ولا يعرف نزاع بين العلماء أن الطواف لا يبطل بالأكل والشرب والقهقهة، كما لا يبطل غيره من مناسك الحج بذلك، وكما لا يبطل الاعتكاف بذلك" (¬1). الدليل الثالث: قال ابن تيمية: "يثبت أيضاً أن الطهارة لا تجب لغير الصلاة، (339) لما ثبت في صحيح مسلم، من حديث ابن جريج، حدثنا سعيد بن الحارث، عن ابن عباس، ¬
الدليل الرابع
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى حاجته من الخلاء، فقرب له طعام، فأكل، ولم يمس ماء. قال ابن جريج: وزادني عمرو بن دينار، عن سعيد ابن الحارث، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: إنك لم تتوضأ؟ قال: ما أردت صلاة فأتوضأ. قال عمرو: سمعته من سعيد بن الحارث. اهـ (¬1). ثم قال: "ما أردت صلاة، فأتوضأ، يدل على أنه لم يجب عليه الوضوء إلا إذا أراد صلاة، وأن وضوءه لما سوى ذلك مستحب، وليس بواجب" اهـ. الدليل الرابع: وإن لم يكن بمنزلة الدليل، ولكنه من باب الاستئناس بأقوال بعض السلف المتقدمين، حيث يكون للإنسان إسوة بمن تقدم رحمهم الله رحمة واسعة. (340) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا غندر، عن شعبة، قال: سألت حماداً ومنصوراً وسليمان عن الرجل يطوف بالبيت على غير طهارة، فلم يروا به بأساً. [وهذا إسناد في غاية الصحة] (¬2). (341) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم أنه قال في المرأة تطوف ثلاثة أشواط، ثم تحيض، قال: يعتد به. ¬
[وهذا إسناد حسن، إن سلم من تدليس مغيرة] (¬1). (342) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن ليث، عن عطاء، قال: إذا طافت المرأة ثلاثة أطواف فصاعداً، ثم حاضت أجزأ عنها (¬2). (343) وروى ابن أبي شيبة أيضاً، قال: حدثنا أبو خالد، عن حجاج، عن عطاء، قال: تستقبل الطواف أحب إلي، وإن فعلت فلا بأس به. [حسن عن عطاء بمجموع الطريقين] (¬3). الراجح من هذه الأقوال أن الطهارة من الحيض شرط في صحة الطواف، وأما الطهارة من الحدث الأصغر فليست شرطاً فيه، لكن لا ينبغي للإنسان أن يتساهل في هذه السنة خروجاً من الخلاف، خاصة أن الطهارة لا نزاع في مشروعيتها. والطواف ركن الحج والعمرة مقصود لذاته، وغيره من الأعمال تبع له. ¬
المبحث الثالث: في المرأة إذا اضطرت للطواف وهي حائضة
المبحث الثالث: في المرأة إذا اضطرت للطواف وهي حائضة خلصنا من البحث السابق أن الطهارة من الحيض شرط لصحة الطواف كما أن الطهارة شرط لصحة الصلاة، وبقي أن نبحث فيما لو عجزت المرأة عن تحقيق هذا الشرط، بأن كانت لا تستطيع البقاء في مكة حتى تطهر، فهل يصح طوافها في مثل هذه الحال؟ أم لا يجوز لها الطواف؟ في هذه المسألة وقع خلاف بين العلماء: فقيل: لا يصح طوافها بحال. وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: الطهارة من الحيض ليست بشرط، ولكنها واجبة تجبر بدم. وهو مذهب الحنفية (¬4)، ورواية عن أحمد (¬5)، واختلفوا في الدم هل هو شاة أم بدنة. فقيل بدنة، وهو مذهب الحنفية. وقيل شاة. وقيل: إذا عجزت عن الطهارة صح طوافها ولا يحتاج إلى جبران، وهو ¬
أدلة الجمهور على أنه لا يصح طوافها بحال.
اختيار ابن تيمية (¬1)، وابن القيم (¬2)، وهو الصواب. أدلة الجمهور على أنه لا يصح طوافها بحال. سبق أن ذكرنا أدلتهم في مسألة اشتراط الطهارة للطواف، والجواب عليها، فارجع إليها إن شئت. أدلة الحنفية على أن الطهارة واجبة وليست بشرط وتجبر بدم. استدلوا بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬3). قال السرخسي: "قال الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا} وهو اسم للدوران حول البيت، وذلك يتحقق من المحدث والطاهر، فاشتراط الطهارة فيه يكون زيادة على النص، ومثل هذه الزيادة لا تثبت بخبر الواحد، ولا بالقياس؛ لأن الركنية لا تثبت إلا بالنص، فأما الوجوب فيثبت بخبر الواحد؛ لأنه يوجب العمل، ولا يوجب علم اليقين، والركنية إنما تثبت بما يوجب علم اليقين، وأصل الطواف ركن ثابت بالنص، والطهارة فيه تثبت بخبر الواحد، فيكون موجبًا للعمل دون العلم، فلم تصر الطهارة ركناً، ولكنها واجبة، والدم يقوم مقام الواجبات في باب الحج" (¬4). ¬
وهذا الكلام مدخول من أكثر من وجه: أولاً: قوله: إن خبر الواحد يوجب العمل، ولا يوجب علم اليقين، فإن كان مقصوده أن خبر الآحاد لا يوجب العلم بل يوجب مجرد الظن فغير مسلم، لأن قوله: "لا يوجب علم اليقين" فاليقين يقابله الشك والظن، والصحيح أن خبر الآحاد يوجب العلم، وإن كان قد يتفاوت فالحديث المشهور ليس كالغريب، والمتفق عليه ليس كالحديث الذي انفرد به أحد الصحيحين، لكن دلالته على العلم ثابتة وكون التصور العقلي لا يمنع خطأ الثقة، لو فتحنا هذا التجويز العقلي لهدمت أدلة الشرع، وأصبح الدليل الشرعي إذا لم يوافق هوى المبتدع أدخل فيه احتمال الخطأ من الثقة، فالأصل عدم الخطأ، ولا يحكم بخطأ الثقة إلا بدليل واضح بين. ثانياً: الأدلة من الشرع على قبول خبر الآحاد في أمور الاعتقاد، وفي الأمور العملية أكثر من أن تحصى وليس هذا موضع بحثها، بل إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - اكتفى بتبليغ الشرع وقيام الحجة بخبر الآحاد، فأرسل رسله إلى الملوك ليبلغوا عنه رسالته. وقامت الحجة على هؤلاء بهؤلاء الرسل وهم آحاد. وإن كان مقصوده بأن خبر الآحاد لا يوجب العلم اليقيني، بل يوجب العلم النظري، المتوقف على النظر والاستدلال والبحث عن أحوال الرجال فلا نزاع في هذا، لكنه بعد البحث والاستدلال يفيد العلم القطعي إذا خلص
أدلة من قال: تسقط الطهارة بالعجز ويصح طوافها.
الباحث إلى صحة الحديث (¬1)، فإذا دل خبر الآحاد على اشتراط شيء قلنا: إنه شرط ولو كان صادراً من خبر الآحاد. والله أعلم. أدلة من قال: تسقط الطهارة بالعجز ويصح طوافها. الدليل الأول: قالوا: إن جميع الشروط والواجبات في العبادة معلقة بالقدرة، فمن عجز عن تحقيق شرط، أو ركن أو واجب سقط عنه. والدليل على هذه القاعدة نصوص كثيرة، منها قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. (344) ومنها ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم. ورواه مسلم بأطول من هذا (¬2). وجه الاستدلال: قوله: "وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم". ¬
الدليل الثاني
(345) ومنها ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبدان، عن عبد الله، عن إبراهيم بن طهمان، قال: حدثني الحسين المكتب، عن ابن بريدة، عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -، قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة؟ فقال: صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب" (¬1). الدليل الثاني: القياس على سقوط الطهارة في الصلاة بالعجز. ووجهه: معلوم أن غاية ما في الطهارة أنها شرط في الطواف، ومعلوم أن كونها شرطاً في الصلاة أوكد منها في الطواف. وإذا كان كذلك، وشروط الصلاة تسقط بالعجز، فسقوط شروط الطواف بالعجز أولى وأحرى. فهذا الكلام مبني على مقدمتين ونتيجة: المقدمة الأولى: أن اشتراط الطهارة في الصلاة آكد منه في الطواف. المقدمة الثانية: أن الطهارة في الصلاة تسقط في العجز. النتيجة: أن الطهارة في الطواف تسقط بالعجز كالصلاة. أما المقدمة الأولى: وهي أن اشتراط الطهارة في الصلاة آكد منه في الطواف فالدليل على صحة هذه المقدمة. أولاً: أن اشتراط الطهارة في الصلاة مع المقدرة عليها مجمع عليه، بخلاف الطهارة في الطواف فإنهم مختلفون في اشتراطها، فقد قال بعض العلماء بأن ¬
الطهارة سنة في الطواف كما قررته في مسألة مستقلة. وقيل: بل واجب يجبر بدم. وقيل: شرط. قال ابن القيم: "ولا ريب أن وجوب الطهارة، وستر العورة في الصلاة آكد من وجوبها في الطواف، فإن الصلاة بلا طهارة مع القدرة باطلة بالاتفاق، وكذلك صلاة العريان، وأما طواف الجنب والحائض والمحدث والعريان بغير عذر ففي صحته قولان مشهوران، وإن حصل الاتفاق بأنه منهي عنه في هذه الحال" (¬1). قلت: أما المحدث حدثاً أصغر فلم يثبت لي أن الشارع قد نهى عنه. فتأمل، وكذا الجنب إلا لمن قاسه على الحائض. ثم قال ابن القيم موصولاً بالكلام السابق: "وكذلك أركان الصلاة وواجباتها آكد من أركان الحج وواجباته، فإن واجبات الحج إذا تركها عمداً لم يبطل حجه، وواجبات الصلاة إذا تركها عمداً بطلت صلاته" (¬2). فمن هذا الكلام يتبين لنا أن المقدمة الأولى صحيحة، وأن اشتراط الطهارة في الصلاة آكد منه في الطواف. أما المقدمة الثانية: أن الطهارة في الصلاة تسقط بالعجز. والمقصود بالطهارة ما يتطهر به من ماء أو تراب عند فقد الماء. فهل هذه ¬
المقدمة محل وفاق، وأن من عجز عن الماء والتراب صلى بدونهما؟ فالجواب: أن هذه المقدمة ليست محل وفاق، بل اختلف العلماء فيها على أربعة أقوال: فقيل: لا يصلي حتى يقدر على الوضوء أو التيمم، فإذا قدر على ذلك قضى ما وجب عليه. وهو مذهب الثوري (¬1)، والأوزاعي (¬2)، وأبي حنيفة (¬3). (346) وحجتهم ما رواه مسلم، قال: حدثنا سعيد بن منصور، وقتيبة بن سعيد، وأبو كامل الجحدري (واللفظ لسعيد) قالوا: حدثنا أبو عوانة، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، قال: دخل عبد الله بن عمر على ابن عامر يعوده وهو مريض، فقال: ألا تدعو الله لي يا ابن عمر؟ قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول (¬4). وقيل: لا يصلي ولا قضاء عليه، وهو المشهور من مذهب مالك (¬5)، وهذا ¬
أضعف الأقوال، وقد قاسوه على المغمى عليه والمجنون والحائض (¬1)، ولا أدري ما هي العلة الجامعة بين المقيس والمقيس عليه. وقيل: يصلي ويعيد. وهو المشهور من مذهب الشافعي (¬2)، ورواية في مذهب مالك (¬3). وقيل: يصلي وتستحب له الإعادة، وهو منسوب للشافعي في القديم (¬4). وقيل: يصلي ولا يعيد، ويسقط عنه فرض الطهارة وهو الصحيح، وهو المشهور من مذهب أحمد (¬5)، ورجحه ابن المنذر (¬6)، وعليه بوب البخاري (¬7). واستدلوا لهذا القول بدليل عام، وخاص. أما العام: فقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} (¬8)، وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬9). وأما الدليل الخاص: فمنها ما رواه البخاري، قال: حدثنا زكريا ابن يحيى، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه، ¬
عن عائشة، أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً فوجدها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوا فشكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى آية التيمم، فقال أسيد بن حضير لعائشة: جزاك الله خيراً، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله ذلك لك وللمسلمين فيه خيرا. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أن هؤلاء كان فرضهم قبل نزول آية التيمم الوضوء بالماء فقط فحين عدموا الماء صلوا في تلك الحال بغير طهور ولم ينتظر حتى يجدوا الماء، ولم يؤمروا بالإعادة، فكان الحكم واحداً فيمن فقد الماء والتراب يصلي ولا إعادة عليه، ولا ينتظر حتى يجد ماء أو تراباً، وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله: باب إذا لم يجد ماء ولا تراباً. وهذا القول هو الصواب، وبترجيح هذ القول، أصبحت المقدمة الثانية صحيحة على الراجح من أقوال أهل العلم. فإذا سلمت المقدمتان، صحت النتيجة. ونعيد ذكر المقدمتين لطول الفصل: الأولى: أن اشتراط الطهارة في الصلاة آكد من اشتراط الطهارة في الطواف. المقدمة الثانية: أن الطهارة في الصلاة إذا عجز عن تحقيقها سقطت. ¬
النتيجة أن الطهارة في الطواف إذا عجزت المرأة عن تحقيقها سقطت عنها قياساً على الطهارة في الصلاة. وقد نافح ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم عن هذا القول، ونصراه في كلام طويل لهما أورده مختصراً قدر الإمكان. ساق ابن القيم في أعلام الموقعين الأقوال في المسألة: فقال: "ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري". فظن من ظن أن هذا حكم عام في جميع الأحوال والأزمان، ولم يفرق بين حال القدرة والعجز، ولا بين زمن إمكان الاحتباس لها حتى تطهر وتطوف، وبين الزمن الذي لا يمكن فيه ذلك وتمسك بظاهر النص". ونازعهم في ذلك فريقان: أحدهما: صحح الطواف مع الحيض، ولم يجعلوا الحيض مانعاً من صحته بل جعلوا الطهارة واجبة تجبر بدم، كما يقول أبو حنيفة وأصحابه، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وهي أنصهما عنه. وهؤلاء لم يجعلوا ارتباط الطهارة بالطواف كارتباطها بالصلاة ارتباط الشرط بالمشروط، بل جعلوها واجبة من واجباته، وارتباطها به كارتباط واجبات الحج به، يصح فعله مع الإخلال بها ويجبرها الدم. الفريق الثاني: جعل وجوب الطهارة للطواف واشتراطها بمنزلة سائر شروط الصلاة وواجباتها التي تجب وتشترط مع القدرة وتسقط مع العجز.
شروط الصلاة وواجباتها التي تجب وتشترط مع القدرة وتسقط مع العجز. قالوا: وليس اشتراط الطهارة للطواف أو وجوبها له بأعظم من اشتراطها للصلاة، فإذا سقطت بالعجز عنها، فسقوطها في الطواف بالعجز عنها أولى وأحرى. قالوا: وقد كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين تحتبس أمراء الحج للحيض، حتى يطهرن ويطفن، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن صفية وقد حاضت: "أحابستنا هي؟ قالوا: إنها قد أفاضت، قال: فلتنفر إذاً" وحينئذ كانت الطهارة مقدورة لها يمكنها الطواف بها، فأما في هذه الأزمان التي يتعذر إقامة الركب لأجل الحيض فلا تخلو من أقسام: أحدها: أن يقال لها: أقيمي بمكة، وإن رحل الركب حتى تطهري وتطوفي، وقد يكون لا نفقة لها، ولا مكان تأوي إليه بمكة، وقد يعرض لها من يستكرهها على الفاحشة. الثاني: أن يقال: يسقط طواف الإفاضة للعجز عن شرطه، وهذا مع أنه لا قائل به، فلا يمكن القول به، فإنه ركن الحج الأعظم، وهو الركن المقصود لذاته والوقوف بعرفة وتوابعه مقدمات له. الثالث: أن يقال: إذا علمت أو خشيت مجيء الحيض في وقته جاز لها تقديمه على وقته. وهذا كالذي قبله، لا يعلم به قائل. الرابع: أن يقال: إذا كانت تعلم بالعادة أن حيضها يأتي في أيام الحج، وأنها
حيضها بالكلية. وهذا القول وإن كان أفقه من الذي قبله، فإن الحج يسقط لما هو دون هذا من الضرر، ومع هذا ممتنع لأكثر من وجه. الوجه الأول: لازمه سقوط الحج عن كثير من النساء، أو أكثرهن. الوجه الثاني: القول بسقوط الحج بالعجز عن بعض الشروط قول باطل، فإن العبادات لا تسقط بالعجز عن شرائطها وواجباتها، ولا عن بعض أركانها لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، ولهذا وجبت الصلاة بحسب الإمكان. الوجه الثالث: القول بعدم وجوب الحج على من تخاف الحيض لا يعلم به قائل. الخامس: أن يقال: إذا لم يمكنها الطواف، ولا المقام بمكة أن ترجع وتبقى محرمة تمتنع من النكاح ووطء الزوج إلى أن يمكنها الرجوع، فإن لم يمكنها بقيت محرمة إلى أن تموت. وهذا ممتنع من وجوه: أولاً: أن الله لم يأمر أحداً أن يبقى محرماً إلى أن يموت، حتى المحصر بعدو له أن يتحلل باتفاق العلماء، والمحصر بمرض أو فقر له أن يتحلل على الأرجح من أقوال أهل العلم. ثانياً: أن في هذا إيجاب سفرين كاملين على الإنسان للحج من غير تفريط منه ولا عدوان، وهذا خلاف الأصول. فإن الله لم يوجب الحج على الناس إلا مرة واحدة، وإذا أوجب القضاء على المفسد فذلك بسبب جنايته على إحرامه،
وإذا أوجبه على من فاته الوقوف بعرفة فذلك بسبب تفريطه. ثالثاً: أن هذه المرأة إذا أمكنها العودة فلا يؤمن أن يصيبها الحيض كما أصابها في المرة الأولى، وهو أمر ممكن جداً، ولا يستحيل حدوثه، فيقال لها: إذا لم يمكنك البقاء اذهبي إلى بلدك وارجعي مرة أخرى، والله سبحانه وتعالى لم يجعل على الأمة مثل هذا الحرج، ولا ما هو قريب منه. السادس: أن يقال لها: تحللي كما يتحلل المحصر، مع بقاء الحج في ذمتها، فمتى قدرت على الحج لزمها، ثم إذا أصابها ذلك تحللت، وهكذا أبداً حتى يمكنها الطواف طاهراً. فهذا التقدير وإن كان أفقه من التقدير الذي قبله؛ فإن هذه منعها خوف المقام من إتمام النسك، فهي كمن منعها عدو من الطواف في البيت، ومع هذا فالتقدير ضعيف، فإن الإحصار حقيقته أمر عارض للحاج يمنعه من الوصول إلى البيت في وقت الحج، وهذه متمكنة من البيت، ومن الحج من غير عدو ولا مرض ولا ذهاب نفقة، وإذا جعلنا هذه كالمحصر أوجبنا عليها الحج مرة ثانية مع خوف وقوع الحيض منها، والعذر للتحلل بالإحصار، وإذا كان الحيض لا يسقط فرض الحج عليها ابتداء،، فلا يكون موجباً للتحلل والإحصار. السابع: أن تستنيب من يحج عنها، وتكون كالمعضوب العاجز عن الحج بنفسه. وهذا القول أولاً: لا يوجد أحد قال به. وثانياً: أن المعضوب الذي يجب عليه الاستنابة هو الذي لا يرجو زوال
عذره، أما من كان يرجو زوال عذره فليس له أن يستنيب، والحائض لا تيأس من زوال عذرها لجواز أن تبقى إلى زمن اليأس وانقطاع الدم، وقد ينقطع دمها قبل سن اليأس لعارض من فعلها أو من غير فعلها، فليست كالمعضوب لا حقيقه ولا حكماً. فإذا لم يمكن فعل جميع هذه الحالات لم يبق لها إلا أن يقال: تطوف الحائض بالبيت والحالة هذه، وتكون هذه ضرورة مقتضية لدخول المسجد مع الحيض والطواف معه، وليس في هذا ما يخالف قواعد الشريعة، بل يوافقها كما تقدم إذ غايته سقوط الواجب أو الشرط بالعجز عنه، ولا واجب في الشريعة مع عجز ولا حرام مع ضرورة. فإن قيل: في ذلك محذوران: أحدهما: دخول الحائض المسجد. والثاني: طوافها في حال الحيض. أما الجواب عن الأول فمن وجوه: أحدها: أن الراجح من أقوال أهل العلم أن الحائض لا تمنع من دخول المسجد، فلم يأت دليل صحيح صريح في منعها وقد بينت هذه المسألة في مسألة مستقلة. الثاني: على فرض أنها ممنوعة، فالضرورة تبيح دخول المسجد للحائض والجنب، فإنها لو خافت من عدو، أو من يستكرهها على الفاحشة، أو أخذ مالها، ولم تجد ملجأ إلا دخول المسجد جاز لها دخوله مع الحيض. وهذه الحائض تخاف
من بقائها في مكة أن يتعرض لها أحد باعتداء على عرض أو مال. الثالث: أن طوافها بمنزلة المرور في المسجد، ويجوز للحائض المرور فيه إذا أمنت التلويث، وقد ناقشت هذه المسألة في مسألة مستقلة. الرابع: أن دم الحيض في تلويثه المسجد كدم الاستحاضة، والمستحاضة يجوز لها دخول المسجد للطواف إذا تلجمت اتفاقاً وذلك لأجل الحاجة، وحاجة هذه أولى. أما الجواب عن المحذور الثاني: وهو كونها تطوف مع الحيض، فقد ذكرت الأدلة الإيجابية لجوازه وهو مبني على دليلين: الأول: أن جميع الشروط في العبادة تسقط مع العجز. الثاني: القياس على سقوط الطهارة في الصلاة عند العجز عنها فكذلك الطواف (¬1). فالراجح من هذا الخلاف أن الطهارة من الحيض شرط في صحة الطواف، وأن الحائض إذا كانت لا تتمكن من البقاء لحين طهارتها إما خوفاً على نفسها أو على مالها أو تعذر بقاء الرفقه، أو لم يرض محرمها في الانحباس من أجلها، ولم تكن من أهل هذه البلاد بأن كانت من مصر آخر لا تتمكن من العودة إلى البيت مرة أخرى فالقول بصحة طوافها متوجه، أما إن كانت من أهل هذه البلاد، والطريق آمنة، والمحرم يتطوع في الرجوع معها متى شاءت، وتستطيع تحمل النفقة فإنها ترجع إن شاءت إلى بلدها وإذا طهرت رجعت وطافت. والله أعلم. ¬
المبحث الرابع: هل للحائض أن تسعى بين الصفا والمروة
المبحث الرابع: هل للحائض أن تسعى بين الصفا والمروة لا يوجد دليل يمنع الحائض من السعي بين الصفا والمروة، بل هناك دليل إيجابي على أن للحائض أن تسعى بين الصفا والمروة. (347) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر إلا الحج، فلما جئنا سرف طمثت، فدخلت علي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي. فقال: ما يبكيك؟ قلت: لوددت والله أني لم أحج العام. قال: لعلك نُفست؟ قلت: نعم. قال: فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري". ورواه مسلم (¬1). فالحديث لم يستثن من أفعال المناسك شيئاً إلا الطواف، ولا يقال: إن السعي بين الصفا والمروة طوافا بينهما، لأن الطواف إذا أطلق لا ينصرف إلا إلى الطواف بالبيت، وكما يقال: الاستثناء معيار العموم، فلما استثنى الطواف بقى ما عداه جائزاً. قال ابن حزم: "ولها - يعني الحائض - أن تطوف بين الصفا والمروة، لأنها لم تنه إلا عن الطواف بالبيت فقط" اهـ (¬2). ¬
(348) ويشكل على هذا ما رواه مالك: عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: قدمت مكة وأنا حائض، فلم أطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا بين الصفا والمروة حتى تطهري" (¬1). [الحديث ظاهره منع الحائض من السعي بين الصفا والمروة، لكن زيادة: (ولا بين الصفا والمروة) زيادة شاذة]. قال ابن عبد البر: "هكذا قال يحيى عن مالك في هذا الحديث غير ألا تطوفي بالبيت، ولا بين الصفا والمروة حتى تطهري، وقال غيره من رواة الموطأ: غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري لم يذكروا "ولا بين الصفا والمروة" ولا ذكر أحد من رواة الموطأ في هذا الحديث "ولا بين الصفا والمروة" غير يحيى فيما علمت، وهو عندي وهم منه. والله أعلم" (¬2). ¬
(349) وأما ما جاء عن ابن عمر عند ابن أبي شيبة: حدثنا أبو معاوية، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة (¬1). [وسنده صحيح] وصحح إسناده الحافظ ابن حجر (¬2). فهذا مع كونه موقوفاً على ابن عمر إلا أنه محمول على الرأي الذي يقول: إن السعي لا بد أن يتقدمه طواف، فلا يصح السعي من الحائض إذا لم تكن قد طافت بالبيت، والذي يجعلني أحمله على هذا المحمل (350) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن عبيد الله ابن عمر، عن نافع، ¬
عن ابن عمر، قال: إذا طافت بالبيت ثم حاضت قبل أن تسعى بين الصفا والمروة فلتسع بين الصفا والمروة. [وسنده صحيح] (¬1). وتقدم السعي على الطواف فيه تفصيل، أما في العمرة فهو إجماع لا يصح أن يتقدم السعي على الطواف. قال ابن عبد البر: "أجمع العلماء على أن المعتمر لا يسعى بين الصفا والمروة حتى يطوف بالبيت، وعليه يحمل فعل عائشة رضي الله عنها لما حاضت، فإنها لم تسع بين الصفا والمروة، لأنها كانت قد أحرمت بالعمرة" (¬2). وأما تقديم سعي الحج على طواف الحج ففيه خلاف بين العلماء، ليس هذا موضع بحثه لأنه من مباحث الحج الخاصة، لا تعلق له بالحيض، والراجح، والله أعلم جواز تقديم السعي على طواف الحج (351) لما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عيسى بن طليحة، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع وجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر حلقت قبل أن أذبح قال: اذبح ولا حرج، وجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي. قال: ارم ولا حرج فما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
يوماً إذْ عن شيء قدم ولا أخر، إلا قال: افعل ولا حرج. ورواه مسلم (¬1) وجه الاستدلال: قوله: فما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ - يعني يوم النحر - عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: "افعل ولا حرج"، ويدخل في ذلك الطواف والسعي، لأنهما من الأعمال التي تعمل يوم النحر، والله أعلم. وقد رأى جماعة من التابعين جواز السعي بدون طهارة. (352) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حفص بن غياث، عن حجاج، قال: سألت عطاء عن امرأة طافت بالبيت ثم حاضت. قال: تسعى بين الصفا والمروة (¬2). [والإسناد حسن لغيره، فيه حجاج بن أرطأة، فيه ضعف، ولكن له متابع]. (353) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الأعلى، عن هشام، عن الحسن وعطاء، قالا: تسعى بين الصفا والمروة (¬3). [وهذا الإسناد وإن كان رجاله كللهم ثقات إلا أن هشام بن حسان في روايته عن الحسن وعطاء مقال. فالإسناد بمجموع الطريقين يصبح حسناً لغيره] وهو مذهب إبراهيم النخعي، والحكم، وحماد (¬4)، بأن للحائض أن تسعى بين الصفا والمروة. ¬
المبحث الخامس: في المرأة المتمتعة إذا حاضت قبل طواف العمرة وخشيت فوات الحج
المبحث الخامس: في المرأة المتمتعة إذا حاضت قبل طواف العمرة وخشيت فوات الحج اختلف العلماء في ذلك. فقيل: ترفض العمرة، وتهل بالحج. وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: تدخل الحج على العمرة، فتصير قارنة. وهذا مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، واختاره ابن حزم (¬5). دليل الحنفية على رفض العمرة. الدليل الأول: (354) روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله تعالى عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال النبي: من كان معه هدي فليهل ¬
[الدليل الثاني]
بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا، فقدمت مكة، وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة. ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الرحمن ابن أبي بكر إلى التنعيم، فاعتمرت، فقال: هذه مكان عمرتك. قالت: فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافاً واحداً بعد أن رجعوا من منى، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا (¬1). وفي رواية للبخاري، قال: ارفضي عمرتك، قال البخاري رحمه الله: [الدليل الثاني] (*) (355) حدثنا محمد بن سلام، أخبرنا أبو معاوية، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موافين لهلال ذي الحجة، فقال لنا: من أحب منكم أن يهل بالحج فليهل، ومن أحب أن يهل بعمرة فليهل بعمرة، فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة، قالت: فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج، وكنت ممن أهل بعمرة، فأظلني يوم عرفة وأنا حائض فشكوت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أرفضي عمرتك، وانقضي رأسك وامتشطي، وأهلي بالحج، فلما كان ليلة الحصبة أرسل معي عبد الرحمن إلى التنعيم فأهللت بعمرة مكان عمرتي (¬2). وجه الاستدلال من الحديثين: أولاً: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أرفضي عمرتك" وقوله: "دعي عمرتك" صريح بأن ¬
[الدليل الثالث]
الحائض إذا خشيت فوات الحج بأنها ترفض عمرتها. ثانياً: قوله - صلى الله عليه وسلم - "هذه مكان عمرتك" ولو كانت العمرة الأولى باقية لم تكن هذه مكانها، فلا تحل الثانية مكان الأولى إلا إذا كانت الأولى قد بطلت. ثالثاً: قالت عائشة رضي الله عنها كما في رواية لمسلم: أيرجع الناس بحجة وعمرة وأرجع بحجة. [الدليل الثالث] (*) (356) فقد روى مسلم، قال: حدثني سليمان بن عبيد الله أبو أيوب الغيلاني، حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، حدثنا عبد العزيز ابن أبي سلمة الماجشون، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر إلا الحج، حتى جئنا سرف، فطمثت، فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي. فقال: ما يبكيك؟ فقلت: والله لوددت أني لم أكن خرجت العام. قال: مالك لعلك نفست؟ قلت: نعم. قال: هذا شيء كتبه الله على بنات آدم، افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري. قالت: فلما قدمت مكة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: اجعلوها عمرة، فأحل الناس إلا من كان معه الهدي. قالت: فكان الهدي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر وعمر وذوي اليسارة، ثم أهلوا حين راحوا. قالت: فلما كان يوم النحر طهرت فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأفضت. قالت: فأتينا بلحم بقر. فقلت: ما هذا؟ فقالوا: أهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه البقر، فلما كانت ليلة الحصبة، قلت: يا رسول الله يرجع الناس بحجة وعمرة، وأرجع بحجة. قالت: فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر فأردفني على جمله. قالت: فإني
لأذكر، وأنا جارية حديثة السن، أنعس فيصيب وجهي مؤخرة الرحل حتى جئنا إلى التنعيم، فأهللت منها بعمرة جزاء بعمرة الناس التي اعتمروا (¬1). فقولها رضي الله عنها: "يرجع الناس بحجة وعمرة، وأرجع بحجة" صريح أنها لم تكن قارنة، وإلا لما قالت ذلك, لأن القارن قد رجع بحج وعمرة. رابعاً: قوله: "انقضي رأسك وامتشطي" دليل على أنها لم تكن محرمة؛ لأن الامتشاط لا يجوز للمحرم. هذه أوجه الاستدلال من الحديث. وقد ناقش الجمهور هذه الاستدلالات، وأجابوا عنها، وإليك بيانها: الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - دعي عمرتك أو أرفضي عمرتك. فأجابوا عنها بعدة إجابات. منها إعلال هذه اللفظة، فقد ذهب بعضهم إلى شذوذها، وأنها غير محفوظة. قال ابن قدامة: فأما حديث عروة، فإن قوله: "انقضي رأسك، وامتشطي، ودعي العمرة" انفرد به عروة، وخالف به سائر من روى عن عائشة حين حاضت، وقد روى ذلك طاووس (¬2)، ¬
والقاسم (¬1)، والأسود (¬2) وعمرة (¬3) عن عائشة، فلم يذكروا ذلك، وحديث جابر وطاووس مخالفان لهذه ¬
الزيادة، وقد روى حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة حديث حيضها، فقال فيه: حدثني غير واحد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: دعي العمرة، وانقضي رأسك، وامتشطي، وذكر تمام الحديث. وهذا يدل أن عروة لم يسمع هذه الزيادة من عائشة (¬1)، وهو مع ما ذكرنا من مخالفته بقية الرواة، يدل على ¬
الوهم مع مخالفتها الكتاب والأصول؛ إذ ليس لنا موضع آخر يجوز فيه رفض العمرة مع إمكان إتمامها" (¬1). وقال ابن القيم: "تعليل هذه اللفظة وردها - يعني دعي عمرتك - بأن عروة انفرد بها، وخالف بها سائر الرواة، وقد روى حديثها طاووس، والقاسم، ¬
[الدليل الرابع]
والأسود، وغيرهم، فلم يذكر أحد منهم هذه اللفظ" (¬1). قلت: لم ينفرد بها عروة، فقد تابعه القاسم في الموطأ، [الدليل الرابع] (*) (357) قال مالك: عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كان معه هدى فليهلل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً، قالت: فقدمت مكة، وأنا حائض، فلم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: انقضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بالحج، ودعي العمرة. قالت: ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق إلى التنعيم، فاعتمرت، فقال: هذا مكان عمرتك، فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا منها، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم وأما الذين كانوا أهلوا بالحج أو جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً. وحدثني ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة بمثل ذلك (¬2). ¬
ففي هذه الرواية تابع فيها القاسم بن محمَّد عروة بن الزبير بقوله: "دعي عمرتك". [لكن هذه المتابعة خطأ قطعاً، التبس على يحيى الراوي عن مالك حديث مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، بحديث عبد الرحمن ابن القاسم، عن القاسم، عن عائشة، وكل من رواه عن عبد الرحمن بن القاسم على كثرتهم لم يذكروا هذا عنه] (¬1). ¬
الجواب الثاني: قال ابن عبد البر: "جماعة من أصحابنا تأولوا قوله: "ودعي العمرة" دعي عمل العمرة، يعني الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، وكذلك تأولوا من روى: "واسكتي عن العمرة" ورواية من روى: "وأمسكي عن العمرة": أي أمسكي عن عمل العمرة، لا أنه أمر برفضها، وابتداء الحج وإنشائه كما زعم العراقيون" (¬1). وقال ابن القيم: قوله "دعي العمرة" أي دعيها بحالها، لا تخرجي منها، وليس المراد تركها، قالوا: ويدل عليه وجهان: أحدهما: قوله: "يسعك طوافك لحجك وعمرتك" الثاني: قوله: "كوني في عمرتك" قالوا: وهذا أولى من حمله على رفضها لسلامته من التناقض" (¬2). الجواب الثالث: قالوا: كانت عائشة يومئذ مهلة بالحج، ولم تكن مهلة بعمرة، وإذا كانت ¬
مهلة بالحج سقط القول عنا في رفض العمرة؛ لأنها لم تكن مهلة بعمرة (¬1). (358) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان، قال: حدثني يحيى، قال: حدثتني عمرة، قالت: سمعت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخمس بقين من ذي القعدة، ولا نرى إلا الحج، حتى إذا دنونا من مكة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت أن يحل. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر، فقلت: ما هذا؟ فقيل: ذبح النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه. قال يحيى: فذكرت هذا الحديث للقاسم، فقال: أتتك بالحديث على وجهه. ورواه مسلم (¬2). وتابع الأسود بن يزيد النخعي عمرة على قولها: "لا نرى إلا الحج". (359) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا أبو النعمان، حدثنا أبو عوانة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نرى إلا الحج، فقدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فطاف بالبيت وبين الصفا والمروة، ولم يحل، وكان معه الهدي فطاف من كان معه من نسائه وأصحابه، وحل منهم من لم يكن معه الهدي، فحاضت هي فنسكنا مناسكنا من حجنا، فلما كان ليلة الحصبة ليلة النفر، قالت: يا رسول الله كل أصحابك يرجع بحج وعمرة غيري. قال: ما كنت تطوفين بالبيت ليالي قدمنا؟ ¬
قلت: لا. قال: فاخرجي مع أخيك إلى التنعيم، فأهلي بعمرة، وموعدك مكان كذا وكذا، فخرجت مع عبد الرحمن إلى التنعيم، فأهللت بعمرة وحاضت صفية بنت حيي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: عقرى حلقى إنك لحابستنا أما كنت طفت يوم النحر. قالت: بلى. قال: فلا بأس انفري، فلقيته مصعداً على أهل مكة، وأنا منهبطة، أو أنا مصعدة وهو منهبط (¬1). كما تابعهما القاسم بن محمَّد، عن عائشة. (360) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا سفيان، قال: سمعت عبد الرحمن بن القاسم، قال: سمعت القاسم يقول: سمعت عائشة تقول: خرجنا لا نرى إلا الحج، فلما كنا بسرف حضت، فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، قال: مالك أنفست؟ قلت: نعم. قال: إن هذا أمر كتبه الله علي بنات آدم، فاقضي ما يقضيى الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت. قالت: وضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه بالبقر. ورواه مسلم (¬2). بل قالت عائشة في رواية مسلم: "لبينا بالحج". (361) قال مسلم: وحدثني أبو أيوب الغيلاني، حدثنا بهز، حدثنا حماد، عن عبد الرحمن، عن، أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: لبينا بالحج، حتى إذا كنا بسرف حضت، فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي وساق الحديث بنحو حديث الماجشون ... (¬3). ¬
فهذه عمرة، والأسود، والقاسم يتابع بعضهم بعضاً أن عائشة قالت: خرجنا لا نرى إلا الحج، وقالت: لبينا بالحج. وإذا كانت عائشة حاجة سقط القول برفض العمرة كما يقول الحنفية. وهذا القول مع أنه قد قيل به (¬1) إلا أنه ضعيف عندي، ومن تأمل الأحاديث تبين أن عائشة أحرمت بالعمرة، وأنها لم ترفض العمرة بل أدخلت الحج على العمرة. فقد روى البخاري ومسلم من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، أنها قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع، فأهللنا بعمرة ... الحديث من حديث طويل لهما (¬2). وقولها: "فأهللنا بعمرة" تقصد نفسها رضي الله عنها. ولهما من طريق عقيل، عن ابن شهاب به، وفيه: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج" حتى قالت: "ولم أهلل إلا بعمرة" (¬3). وتابع هشام بن عروة ابن شهاب. فرواه البخاري من طريق أبي معاوية (¬4) ¬
ومن طريق أبي أسامة (¬1)، ومن طريق يحيى بن سعيد (¬2). ورواه مسلم، من طريق عبدة بن سليمان (¬3)، ومن طريق ابن نمير (¬4)، ومن طريق وكيع (¬5)، كلهم، عن هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة، وفيه: فأهل ¬
بعضهم بعمرة، وبعضهم بحج، وكنت أنا ممن أهل بعمرة. وجاء أيضاً من غير حديث عائشة أنها كانت ممن أحرم بعمرة. (362) فقد روى مسلم رضي الله عنه، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد ومحمد ابن رمح جميعا، عن الليث بن سعد، قال قتيبة: حدثنا ليث، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال: أقبلنا مهلين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج مفرد وأقبلت عائشة رضي الله تعالى عنها بعمرة حتى إذا كنا بسرف عركت، حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحل منا من لم يكن معه هدي، قال فقلنا: حل ماذا؟ قال: الحل كله، فواقعنا النساء وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة رضي الله تعالى عنها، فوجدها تبكي، فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني أني قد حضت وقد حل الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن، فقال: إن هذا أمر كتبه الله علي بنات آدم، فاغتسلي، ثم أهلي بالحج، ففعلت، ووقفت المواقف حتى إذا طهرت طافت بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال: قد حللت من حجك وعمرتك جميعا. فقالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، قال: فاذهب بها يا عبد الرحمن، فأعمرها من التنعيم وذلك ليلة الحصبة (¬1). ¬
وجابر من أكثر الناس عناية بحجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد صرح رضي الله عنه أن عائشة كانت ممن أهل بالعمرة، وأنها حاضت، وأنها قالت للرسول - صلى الله عليه وسلم -: حل الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن: أي لم تحلل من عمرتها، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لها: قد حللت من حجك وعمرتك جميعاً، وأن طوافها للعمرة بعد نسكها لم يكن إلا من باب تطييب خاطرها، حيث قالت للرسول - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت. فهذا الحديث يوضح ما أجمل من الروايات الأخرى. بقي الجواب على الروايات التي سقناها، والتي فيها: "خرجنا لا نرى إلا الحج" الجواب على ذلك أن يقال: قول عائشة رضي الله عنها: خرجنا لا نرى إلا الحج، أو قالت: لبينا بالحج. فهذا والله أعلم أنه كان منهم نية قبل أن يدخلوا في النسك خاصة أنهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج، وعليه فيكون معنى خرجنا لا نرى: أي لا نعتقد. كما تقول: أرى كذا: أي أعتقده وأظنه، وحين قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أحب أن يهل بالحج فليهلل، ومن أحب أن يهل بالعمرة فليهلل، فأحرمت عائشة بالعمرة، خاصة أنها روت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: "لولا أن أهديت لأهللت بعمرة". والذي يؤيد ذلك ما سقناه من الروايات أن عائشة أحرمت بالعمرة، ولأن قولها خرجنا لا نرى إلا الحج، كونها ربطت ذلك بالخروج دليل على أن ذلك كان نية لها عند خروجها.
وقال ابن القيم: غاية من زعم أنها كانت مفردة قولها: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرى إلا الحج. فيا لله العجب!! أيظن بالمتمتع أنه خرج لغير الحج، بل خرج للحج متمتعاً، كما أن المغتسل للجنابة إذا بدأ فتوضأ لا يمتنع أن يقول: خرجت لغسل الجنابة، وصدقت أم المؤمنين رضي الله عنها إذ كانت لا ترى إلا أنه الحج حتى أحرمت بعمرة بأمره - صلى الله عليه وسلم -، وكلامها يصدق بعضه بعضاً (¬1). ووجه آخر ذكره ابن عبد البر، قال: "ليس في رواية من روى عن عائشة: كنا مهلين بالحج، وخرجنا لا نرى إلا الحج، بيان انها كانت مهلة بالحج، وإنما هو استدلال؛ لأنه يحتمل أن تكون أرادت بقولها: خرجنا، تعني خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مهلين بالحج، تريد بعض أصحابه، أو أكثر أصحابه، والله أعلم، وليس الاستدلال المحتمل للتأويل كالصريح، وقد صرح جابر بأنها كانت مهلة يومئذ بعمرة، كما قال عروة عنها، قالوا: والوهم الذي دخل على عروة، والله أعلم، وإنما كان في قوله: انقضي رأسك، وامتشطي، ودعي العمرة، وأهلي بالحج" اهـ (¬2). والذي ذكرته أرجح، ولا يحتمل الحذف والتقدير. وجه ثالث: أن عائشة أحرمت أولا بالحج، ثم أحرمت بالعمرة حين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة. ثم لما حاضت وتعذر عليها إتمام العمرة والتحلل منها وأدركت الإحرام بالحج أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإحرام بالحج ¬
فأحرمت به فصارت مدخلة للحج على العمرة وقارنة. وهذا ضعيف؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر الصحابة أن يحلوا بعد طوافهم وسعيهم، ولو كانت عائشة قد طافت لم تحتج إلى إدخال العمرة على الحج. والله أعلم. الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - هذه مكان عمرتك. أجابوا بعدة وجوه: أحدها: قال ابن القيم: قوله: "هذه مكان عمرتك" فعائشة أحبت أن تأتي بعمرة مفردة، فأخبرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن طوافها وقع عن حجتها وعمرتها، وأن عمرتها قد دخلت في حجها، فصارت قارنة، فأبت إلا عمرة مفردة كما قصدت أولاً فلما حصل لها ذلك، قال: هذه مكان عمرتك" (¬1). فهذه عمرة مفردة مكان عمرتك المفردة التي لم تتم لك منفردة، كما تمت لسائر أمهات المؤمنين، وكما تمت للناس الذين فسخوا الحج إلى العمرة وأتموا العمرة وتحللوا منها قبل يوم التروية ثم أحرموا بالحج من مكة يوم التروية فحصلت لهم عمرة منفردة. وقيل: أحرمت أولا بالحج كما صح عنها في رواية الأكثرين، وكما هو الأصح من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأكثر أصحابه، ثم أحرمت بالعمرة حين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة. ثم لما حاضت وتعذر عليها إتمام العمرة والتحلل منها وأدركت الإحرام بالحج أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإحرام بالحج فأحرمت ¬
به فصارت مدخلة للحج على العمرة وقارنة (¬1). وهذا ضعيف لأنه مبنى على أن عائشة رضي الله عنها كانت محرمة بالحج أولا وقد بينت بالأحاديث الصحيحة أن عائشة أهلت بالعمرة، ولم تهل بالحج. وقيل: بضعف رواية: "هذه مكان عمرتك" قال مالك: ليس العمل على حديث عروة عن عائشة عندنا قديما ولا حديثا (¬2). فقيل تفرد عروة، عن عائشة بقوله: "هذه مكان عمرتك"، وهي غير محفوظة، فكما قيل: بشذوذ "دعي عمرتك" يقال: هنا. وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: يسعك طوافك لحجك وعمرتك. (363) فقد روى مسلم، قال: حدثني محمَّد بن حاتم، حدثنا بهز، حدثنا وهيب، حدثنا عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها أهلت بعمرة، فقدمت، ولم تطف بالبيت حتى حاضت، فنسكت المناسك كلها وقد أهلت بالحج، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النفر: يسعك طوافك لحجك وعمرتك، فأبت. فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج (¬3). ¬
وفي رواية جابر عند مسلم، وفيه: "حتى إذا طهرت طافت بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال رسول الله: قد حللت من حجك وعمرتك جميعا. فقالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، قال: فاذهب بها يا عبد الرحمن، فأعمرها من التنعيم" (¬1). الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - انقضي رأسك وامتشطي. أجابوا عدة إجابات، منها. أولاً: شذوذ هذه اللفظة، كما قدمنا النقل عن ابن قدامة، وابن عبد البر، وابن القيم، وغيرهم. ثانياً: على فرض أن اللفظ محفوظ، فهو دليل على أنه يجوز للمحرم أن يمشط رأسه، ولا دليل من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع على منع المحرم من تمشيط رأسه، وهذا قول ابن حزم (¬2). ثالثاً: أنها كانت مضطرة إلى ذلك، فرخص لها كما رخص لكعب بن عجرة (¬3). وهذا ضعيف؛ لأنها لو كانت مضطرة لجاء ذكر ذلك في الحديث، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لها: "انقضي رأسك" لم يكن بناء على طلب منها في نقض رأسها أو بسبب ألم برأسها. ولو كان محرماً تمشيط شعرها، وكانت مضطرة لنقضه لوجب ¬
دليل الجمهور على أن الحائض تحرم بالحج وتصير قارنة.
عليها فدية كما وجب على كعب بن عجرة. والله أعلم ورابعها: أن ذلك خاص بها. ولذلك قال مالك: حديث عروة، عن عائشة ليس عليه العمل عندنا قديماً ولا حديثاً (¬1). ودعوى الخصوصية تحتاج إلى توقيف، ودعوى ترك العمل ليس دليلاً عليها الخصوصية، ولم يترك العمل به كلية بدليل أن ابن حزم يرى أنه لا حرج عليها كما قدمنا. سادساً: أن المراد بالنقض والامتشاط: تسريح الشعر لغسل الإهلال بالحج، ولعلها كانت لبدت رأسها، ولا يتأتى إيصال الماء إلى البشرة مع التلبيد إلا بحل الضفرة، وتسريح الشعر، ويتأيد بما في حديث جابر، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "فاغتسلي، ثم أهلي بالحج" (¬2). ودعوى أنها كانت ملبدة رأسها مجرد توهم، وأين الإشارة إليه من الحديث. فاقوى الإجابات عندي أنه يجوز للمحرم أن يمشط شعره، وأن يسرحه خاصة المرأة إذا اغتسلت كانت حاجتها إلى تسريحه قوية. والله أعلم. دليل الجمهور على أن الحائض تحرم بالحج وتصير قارنة. الدليل الأول: الإجماع، قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء في أن للمحرم بالعمرة إدخال الحج على العمرة، ما لم يبتدئ الطواف بالبيت لعمرته، هذا إذا كان في ¬
الدليل الثاني
أشهر الحج (¬1). قال ابن قدامة: "إدخال العمرة على الحج جائز بالإجماع من غير خشية الفوات، فمع خشيته أولى. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، أن لمن أهل بعمرة أن يدخل عليها الحج، ما لم يفتتح الطواف بالبيت" (¬2). ونقل الإجماع أيضاً ابن رشد (¬3). الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من كان معه هدي في حجة الوداع أن يهل بالحج مع العمرة (¬4). الدليل الثالث: قال الله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} (¬5). فالحج والعمرة لا يتأتى الخروج منهما إلا بإتمامهما (¬6). الدليل الرابع: الأحاديث الصحيحة التي تصرح أنها كانت قارنة. منها ¬
(364) ما رواه مسلم، قال: حدثني محمَّد بن حاتم، حدثنا بهز، حدثنا وهيب، حدثنا عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها أهلت بعمرة، فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت، فنسكت المناسك كلها وقد أهلت بالحج، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النفر: يسعك طوافك لحجك وعمرتك، فأبت. فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج (¬1). (365) ومنها أيضاً حديث جابر رواه مسلم رضي الله عنه، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد ومحمد بن رمح جميعا، عن الليث بن سعد، قال قتيبة: حدثنا ليث، عن أبي الزبير عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال: أقبلنا مهلين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج مفرد وأقبلت عائشة رضي الله تعالى عنها بعمرة حتى إذا كنا بسرف عركت، حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة، فامرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحل منا من لم يكن معه هدي، قال فقلنا: حل ماذا؟ قال: الحل كله، فواقعنا النساء وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة رضي الله تعالى عنها، فوجدها تبكي، فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني أني قد حضت وقد حل الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن، فقال: إن هذا أمر كتبه الله علي بنات آدم، فاغتسلي، ثم أهلي بالحج، ففعلت، ووقفت المواقف حتى إذا طهرت طافت ¬
بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال: قد حللت من حجك وعمرتك جميعا. فقالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، قال: فاذهب بها يا عبد الرحمن، فأعمرها من التنعيم وذلك ليلة الحصبة (¬1). ¬
المبحث السادس: طواف الوداع يسقط عن الحائض
المبحث السادس: طواف الوداع يسقط عن الحائض إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت فإن طواف الوداع يسقط عنها. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، وهو قول عامة الصحابة والفقهاء (¬5). وذهب عمر وابن عمر وزيد بن ثابت بأنه يلزمها طواف الوداع، ويجب عليه المقام حتى تطوف. وقد رجع ابن عمر وزيد بن ثابت عن هذا القول وقالا: بسقوط طواف الوداع، وبقي هذا القول مذهباً لعمر (¬6). أدلة الجمهور على سقوط طواف الوداع. أدلة الجمهور كثيرة ونذكر بعضها، فمنها: [الدليل الأول] (*) (366) روى الإِمام البخاري، قال: حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي، ¬
الدليل الثاني
حدثنا الأعمش، حدثني إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: حاضت صفية ليلة النفر، فقالت: ما أراني إلا حابستكم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: عقرى حلقى: أطافت يوم النحر؟ قالت: نعم. قال: فانفري. ورواه مسلم (¬1). الدليل الثاني: (367) روى الإِمام البخاري رحمه الله، قال: حدثنا مسدد، حدثنا سفيان، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض. ورواه مسلم (¬2). الدليل على رجوع زيد بن ثابت وابن عمر عن قولهما بأن الحائض يلزمها طواف الوداع. (368) روى مسلم، قال: حدثني محمَّد بن حاتم، حدثا يحيى ابن سعيد، عن ابن جريج، أخبرني الحسن بن مسلم، عن طاووس، قال: كنت مع ابن عباس إذ قال زيد بن ثابت: تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟ فقال ابن عباس: إما لا. فسل فلانة الأنصارية، هل أمرها بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: فرجع زيد بن ثابت إلى ابن عباس يضحك، وهو يقول: ما أراك إلا قد صدقت (¬3). ¬
(369) وروى البخاري، قال: حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد، عن أيوب عن عكرمة: أن أهل المدينة سألوا ابن عباس رضي الله عنهما عن امرأة طافت ثم حاضت. قال لهم: تنفر. قالوا: لا نأخذ بقولك وناع قول زيد. قال: إذا قدمتم المدينة فاسألوا، فقدموا المدينة فسألوا فكان فيمن سألوا أم سليم، فذكرت حديث صفية (¬1). (370) وأما رجوع ابن عمر، فقد قال البخاري رحمه الله: حدثنا مسلم، حدثنا وهيب، حدثنا ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رخص للحائض أن تنفر إذا أفاضت، قال: وسمعت ابن عمر يقول: إنها لا تنفر، ثم سمعته يقول بعد: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لهن (¬2). جاء في فتح الباري: "قال ابن المنذر: قال عامة الفقهاء بالأمصار، ليس على الحائض التي قد أفاضت طواف وداع، وروينا عن عمر بن الخطاب، وابن عمر، وزيد بن ثابت، أنهم أمروها بالمقام إذا كانت حائضاً لطواف الوداع، وكأنهم أوجبوه عليها كما يجب عليها طواف الإفاضة إذ لو حاضت قبله لم يسقط عنها، ثم أسند عن عمر بإسناد صحيح إلى نافع عن ابن عمر قال: طافت امرأة بالبيت يوم النحر ثم حاضت، فأمر عمر بحبسها بمكة بعد أن ينفر الناس، حتى تطهير وتطوف بالبيت، وقد ثبت رجوع ابن عمر وزيد بن ثابت عن ذلك، وبقى ¬
الدليل على أن القول بسقوط طواف الوداع هو قول عامة أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -.
عمر فخالفناه لثبوت حديث عائشة (¬1). وينبغي أن يضاف إليهم جابر بن عبد الله فإنه كان ممن يرى أن على الحائض طواف الوداع. (371) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: ثنا وكيع، عن معمر، عن عبد الملك بن ميسرة، عن طاووس، قال: ما رأيت ابن عباس خالفه أحد في شيء فتركه حتى يقرره، فخالفه جابر بن عبد الله في المرأة تطوف ثم تحيض، فقال ابن عباس: تنفر، فأرسلوا إلى امرأة كان أصابها ذلك فوافقت ابن عباس (¬2). [وسنده صحيح]. وفيه إشارة إلى رجوع جابر؛ لأنه أشار أن ابن عباس لم يتركه، حتى يقرره، وأنهم أرسلوا إلى امرأة كان أصابها ذلك، فوافقت ابن عباس، ولا يسع جابراً إلا الرجوع لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -. الدليل على أن القول بسقوط طواف الوداع هو قول عامة أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. (372) روى ابن أبي شيبة، قال: ثنا جرير، عن أبي فروة، قال: سألت القاسم بن محمَّد عن امرأة زارت البيت يوم النحر، ثم حاضت يوم النحر، فقال: يرحم الله عمر. قال أصحاب محمَّد: قد فرغت إلا عمر، فإنه كان يقول: يكون آخر عهدها بالبيت (¬3). ¬
دليل عمر على وجوب طواف الوداع على الحائض.
[وسنده صحيح]. وأبو فروة هذا هو عروة بن الحارث من رجال الشيخين. دليل عمر على وجوب طواف الوداع على الحائض. (373) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا أبو عوانة، عن يعلي بن عطاء، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن الحارث بن عبد الله بن أوس الثقفي، قال: سألت عمر بن الخطاب عن المرأة تطوف بالبيت ثم تحيض، فقال: آخر عهدها بالبيت. فقال الحارث: كذلك أفتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال عمر: أُرِبْت عن يديك، سألتني عن شيء، سألت عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيما أخالفه (¬1). [الحديث إسناد رجاله ثقات] (¬2). والجواب: عن هذا القدر المرفوع يحتمل عدة إجابات: الأول: أن نسلك مسلك الترجيح، فيقال: الأحاديث التي ترخص للحائض بأن تترك طواف الوداع أقوى وأكثر. لحديث عائشة في الصحيحين، وحديث ابن عباس فيهما أيضاً، وحديث أم سليم وابن عمر وغيرهم من ¬
الأحاديث، ومعلوم أن كثرة الأحاديث، وكون بعضها في الصحيحين قرينة قوية على ترجيحها على غيرها، بل لم يعارضها إلا هذا الحديث عن الحارث ابن أسامة. الجواب الثاني: أن نقول بالنسخ، فالأحاديث التي ترخص للحائض بتركها للطواف كانت في حجة الوداع فتكون ناسخة وهذا ما رجحه الطحاوي (¬1). الجواب الثالث: أن يحمل حديث الحارث إذا كان في الزمان نفس، وفي الوقت مهلة، أما إذا أعجلها السير كان لها أن تنفر من غير وداع وهو اختيار الخطابي (¬2). الجواب الرابع: قال بعضهم: إن الحارث بن عبد الله بن أسامة مختلف في صحبته، وعليه يكون حديثه مرسلاً. وهذا القول ليس بشيء. الجواب الخامس: أن عمر حين سئل عن الحائض قال: وليكن آخر عهدها الطواف بالبيت، كما في رواية أحمد، فوافق كلام عمر - رضي الله عنه - الحديث المرفوع: "لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت الطواف" وحين سمع منه الحارث قوله: "ليكن آخر عهدها الطواف بالبيت" قال الحارث كذلك أفتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت الطواف، وكان قصد الحارث ¬
حين سأل عمر يريد دليلاً خاصاً لا دليلاً عاماً، فأجابه عمر بالحديث العام، والذي هو عند الحارث، ويبعد أن يكون عند الحارث حديث خاص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يطلب العلم من غيره. وعلى هذا يكون باقي الصحابة الذين قالوا: تنفر، قد وقفوا على المخصص المخرج للحائض، وبهذا يزول الإشكال، ولأن من قال: تنفر، قوله هذا خلاف القياس، فلا يقولونه إلا بتوقيف، بخلاف من قال: لا تنفر، فقد يكون أخذ بالعموم. والله أعلم وهذا الوجه قد ظهر لي والله أعلم بصحته ولم أعلم أحداً قال به فالراجح أن طواف الوداع يسقط عن الحائض، وهو قول عامة الصحابة كما سبق.
المبحث السابع: إذا نفرت الحائض قبل طواف الوداع وطهرت قبل مفارقة البنيان
المبحث السابع: إذا نفرت الحائض قبل طواف الوداع وطهرت قبل مفارقة البنيان إذا نفرت الحائض قبل طواف الوداع، ثم طهرت، فهل يلزمها الرجوع إلى مكة للطواف. اختلف العلماء في ذلك. فقيل: يلزمها طواف الوداع ما لم تبلغ مسافة قصر وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية في أحد القولين (¬2). وقيل: يلزمها العود ما لم تفارق الحرم. وهو أحد الوجهين عند الشافعية (¬3). وقيل: يلزمها العود ما لم تفارق بنيان مكة، وهو مذهب الحنابلة (¬4)، والصحيح من الوجهين عند الشافعية (¬5). دليل من قال لا يلزمها الرجوع إذا بلغت مسافة القصر. قال النووي: "ولو طهرت الحائض أو النفساء، فإن كان قبل مفارقة ¬
دليل من علق الرجوع ما لم تفارق البنيان.
بناء مكة لزمها طواف الوداع لزوال عذرها، وإن كان بعد مسافة قصر لم يلزمها العود بلا خلاف" (¬1). دليل من علق الرجوع ما لم تفارق البنيان. قالوا إذا لم تفارق البنيان فهي في حكم المقيمة، وليست في حكم المسافرة، بدليل أنها لا يمكن أن تستبيح رخص السفر. وإذا كانت مقيمة وجب عليها الطواف, لأنها مخاطبة به، مثلها مثل من لم يشرع في السفر. قال ابن قدامة: "إذا نفرت الحائض بغير وداع، فطهرت قبل مفارقة البنيان، رجعت فاغتسلت، وودعت؛ لأنها في حكم الإقامة بدليل أنها لا تستبيح الرخص، فإن لم يمكنها الإقامة فمضت، أو مضت لغير عذر، فعليها دم، وإن فارقت البنيان لم يجب الرجوع؛ لأنها قد خرجت عن حكم الحاضر" (¬2). دليل من علق الرجوع ما لم تفارق الحرم. لعلهم يرون الحرم بمثابة البلد الواحد، فإن كان كذلك فهذا ليس بجيد، بدليل أن أهل مكة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلوا معه بمكة صلاة المقيم، ثم صلوا معه في منى صلاة المسافر، مع أنهم لم يفارقوا الحرم، فليس الحرم بمثابة البلد الواحد. والله أعلم. والراجح والله أعلم أن حكم المرأة في هذا معلق بالترخص في أحكام السفر، فإذا بدأت تترخص في أحكام السفر لم يجب عليها الرجوع، ومعلوم أن المسافر يحق له الترخص في أحكام السفر متى فارق البينان. والله أعلم. ¬
المبحث الثامن: لا يستحب للحائض والنفساء الدعاء عند باب المسجد الحرام
المبحث الثامن: لا يستحب للحائض والنفساء الدعاء عند باب المسجد الحرام بينت فيما سبق أن طواف الوداع يسقط عن الحائض والنفساء، وقد استحب بعض الفقهاء من الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) الوقوف عند باب المسجد الحرام قبل الانصراف إلى بلدها للدعاء. ولا أعلم لهم دليلاً على الاستحباب، بل الدليل على خلافه. (373) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، حدثني عروة بن الزبير وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرتهما أن صفية بنت حيي زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حاضت في حجة الوداع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أحابستنا هي؟ فقلت: إنها قد أفاضت يا رسول الله وطافت بالبيت، فقال ¬
النبي - صلى الله عليه وسلم -: فلتنفر. ورواه مسلم (¬1). فلم يأمرها - صلى الله عليه وسلم - أن تذهب إلى باب المسجد، وتدعو، ولو كان خيراً لسبقونا إليه. ¬
المبحث التاسع: طواف الوداع للمستحاضة
المبحث التاسع: طواف الوداع للمستحاضة معلوم أن المرأة المستحاضة إذا أقبلت حيضتها تركت الصلاة، وكانت في حكم الحائض، وإذا أدبرت اغتسلت وصلت، وأصبحت في حكم الطاهرات. (375) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا محمَّد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي، فقالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا إنما ذلك عرق وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. قال وقال أبي ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت. ورواه مسلم إلا قوله: قال أبي ثم توضئي لكل صلاة ... الخ (¬1). فقوله: "فإذا أقبلت فدعي الصلاة" أي: فأنت حائض، وإذا كانت حائضاً لم يصح منها طواف، وسقط عنها طواف الوداع، وكان لها أن تنفر. وقوله: "وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي" أي: فأنت طاهرة، وإذا كانت طاهرة كان عليها ما على الطاهرات من وجوب طواف الوداع. قال النووي: وأما المستحاضة إذا نفرت في يوم حيضها فلا وداع عليها، ¬
وإن نفرت في يوم طهرها لزمها الوداع (¬1). وإذا كانت المستحاضة تصلي، كان عليها الطواف، لا سيما إذا علمنا أن المستحاضة لا تمنع من دخول المسجد، حتى على قول من يمنع الحائض من ذلك. (376) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا قتيبة: قال: حدثنا يزيد ابن زريع، عن خالد، عن عكرمة، عن عائشة، قالت: اعتكفت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من أزواجه فكانت ترى الدم والصفرة والطست تحتها وهي تصلي (¬2). وإذا كانت المستحاضة تعتكف، مع كون الاعتكاف ليس واجباً عليها، فكونها تطوف الطواف الواجب من باب أولى. ¬
الباب السادس: في أحكام الحائض من حيث العلاقات الزوجية.
الباب السادس: في أحكام الحائض من حيث العلاقات الزوجية. ويشتمل على فصول: الفصل الأول: تحريم وطء الحائض في فرجها. الفصل الثاني: خلاف العلماء في مباشرة الحائض فيما بين السرة والركبة. الفصل الثالث: إذا جامع الرجل امرأته وهي حائض هل عليه كفارة؟ الفصل الرابع: في حكم طلاق الحائض وهل يقع؟ الفصل الخامس: في حكم الخلع في زمن الحيض. الفصل السادس: خلاف العلماء في خلع الحائض.
الفصل الأول: تحريم وطء الحائض في فرجها
الفصل الأول: تحريم وطء الحائض في فرجها أجمع العلماء على أنه يحرم على الزوج أن يجامع زوجته في فرجها حال الحيض، وممن نقل الإجماع ابن المنذر في الأوسط (¬1)، وابن حزم في مراتب الإجماع، وابن قدامة (¬2)، والنووي (¬3)، ونقل الإجماع أيضاً خلق كثير من المفسرين، والمحدثين، والفقهاء منهم الطبري رحمه الله في تفسيره (¬4)، والقرطبي في التفسير (¬5)، وابن كثير في تفسيره (¬6)، وابن تيمية (¬7). واستثنى الحنابلة للرجل الذي به شبق أن يطأ امرأته وهي حائض، بشرط ألا تندفع شهوته إلا بالوطء في الفرج، ويخاف تشقق أنثييه إن لم يطأ، وليس عنده غير زوجته الحائض، بحيث لا يقدر على مهر حرة ولا ثمن أمه. وهذا الاستثناء من الحنابلة داخل في تحليل الحرام للضرورة لقوله تعالى: {إلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (¬8)، وقوله تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ ¬
حَرَجٍ} (¬1)، وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬2) (¬3). وأما الاستمتاع فيما فوق السرة وتحت الركبة، فقد حكى بعضهم الإجماع على جوازه، منهم ابن قدامه (¬4). وقال النووي بعد أن ساق خلاف العلماء في الاستمتاع فيما بين السرة والركبة، قال: "وأما ما سواه - يعني سوى ما بين السرة والركبة - فمباشرتها فيه حلال بإجماع المسلمين، نقل الإجماع فيه الشيخ أبو حامد والمحاملي، وابن الصباغ، والعبدري وآخرون" (¬5). (377) وأما ما يروى عن ابن عباس من طريق حبيب مولى عروة ابن الزبير، أن ندبة مولاة ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته أنها أرسلتها ميمونة إلى عبد الله بن عباس في رسالة، فدخلت عليه، فإذا فراشه معزول عن فراش امرأته، فرجعت إلى ميمونة فبلغتها رسالتها ثم ذكرت ذلك، فقالت لها ميمونة: ارجعي إلى امرأته فسليها عن ذلك، فرجعت إليه فسألتها عن ذلك،، فأخبرتها أنها إذا طمثت عزل عبد الله فراشه عنها، فأرسلت ميمونة إلى عبد الله ابن عباس، فتغيظت عليه، وقالت: أترغب عن سنة رسول الله ¬
- صلى الله عليه وسلم -؟ فوالله إن كانت المرأة من أزواجه لتأتزر بالثوب ما يبلغ أنصاف فخذيها ثم يباشرها بسائر جسده. [سنده ضعيف] (¬1). (378) وأما ما رواه ابن جرير الطبري بسند صحيح، عن محمَّد ابن سيرين، قال: قلت لعبيدة: ما يحل لي من امرأتي إذا كانت حائضاً؟ قال: الفراش واحد واللحاف شتى (¬2). فهذا لا حجة فيه, لأنه موقوف على تابعي، مخالف لما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومع هذا فله تأويل مقبول، قال ابن رجب: "الصحيح عن عبيدة ما رواه وكيع في كتابه، عن ابن عون، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضاً؟ قال: الفراش واحد، واللحاف شتى، فإن لم يجد بداً رد عليها من طرف ثوبه. وهذا إنما يدل على أن الأولى أن لا ينام معها متجردة في لحاف واحد، حتى يسترها بشيء من ثيابه. وهذا مما لا خلاف فيه (¬3). (379) وأما ما رواه أحمد، قال: ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا ابن لهيعة، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن سويد بن قيس، عن ابن قريظة الصدفي (¬4)، قال: ¬
قلت لعائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضاجعك وأنت حائض؟ قالت: نعم، إذا شددت على إزاري، ولم يكن لنا ذاك إلا فراش واحد، فلما رزقني الله فراشاً آخر اعتزلت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). [سنده ضعيف] (¬2). (380) وروى أبو داود، قال: حدثنا سعيد بن عبد الجبار، حدثنا عبد العزيز - يعني ابن محمَّد - عن أبي اليمان، عن أم ذرة، عن عائشة أنها قالت: كنت إذا حضت نزلت عن المثال على الحصير، فلم نقرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ندن منه حتى نطهر (¬3). [وسنده ضعيف أيضاً] (¬4). ¬
(381) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا الفضل بن دكين، عن أبي هلال، عن شيبة بن هشام الراسبي، قال: سألت سالماً عن الرجل يضاجع امرأته وهي حائض. فقال: نحن آل عمر فنعزلهن. (¬1) [إسناده ضعيف] (¬2). وضعف إسناده ابن رجب (¬3) وخرج القاضي إسماعيل، من طريق جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي ¬
أمامة، قال: قال عمر: كنا نضاجع النساء في الحيض، وفي الفرش واللحف قلة، فأما إذا وسع الله الفرش واللحف فاعتزلوهن كما أمر الله عز وجل (¬1). [قال ابن رجب: هذا لا يثبت، وجعفر بن الزبير متروك الحديث] (¬2). ¬
الفصل الثاني: خلاف العلماء في مباشرة الحائض فيما بين السرة والركبة
الفصل الثاني: خلاف العلماء في مباشرة الحائض فيما بين السرة والركبة تبين لنا من خلال الفصل السابق، تحريم الوطء في الفرج، وهو إجماع. وتبين لنا جواز الاستمتاع فيما فوق السرة ودون الركبة، وأن القول به كالإجماع، وإن كان فيه خلاف فلعله لا يصح. وهو شاذ مخالف للأدلة الكثيرة وسوف نأتي على ذكرها إن شاء الله. وأما مباشرة المرأة الحائض فيما بين السرة والركبة عدا الفرج ففيه خلاف بين العلماء. فقيل: يحرم عليه الاستمتاع بما تحت الإزار، وهو ما بين السرة والركبة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3). وقيل: لا يحرم عليه إلا الإيلاج في الفرج خاصة. وهو مذهب الحنابلة (¬4)، ¬
أدلة الجمهور على تحريم المباشرة من تحت الإزار.
واختاره محمَّد بن الحسن من الحنفية (¬1)، وأصبغ وابن حبيب من المالكية (¬2)، وقواه النووي من الشافعية (¬3)، وابن حزم من الظاهرية (¬4)، وقيل: يستحب في المباشرة أن تكون من فوق الإزار ولا يجب (¬5). وقيل: إن وثق المباشر تحت الإزار بضبط نفسه جاز وإلا فلا، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬6). أدلة الجمهور على تحريم المباشرة من تحت الإزار. من القرآن: قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬7). وجه الاستدلال: ظاهر الآية تقتضي اعتزال الحائض حال الحيض، فلما دلت الأحاديث على جواز الاستمتاع منها بما فوق الإزار دل ذلك على أن ما عداه باق على المنع. ¬
[الدليل الأول]
وأجيب: بأن المحيض يحتمل معنيين: الأول: أن يكون مصدراً من حاضت المرأة حيضاً ومحيضاً، وعلى هذا التأويل يتوجه استدلالكم. والثاني: يحتمل أن المراد بالمحيض في الآية اسم لمكان الحيض، كالمقيل، والمبيت (¬1)، وعلى هذا المعنى، يكون تخصيصه موضع الدم بالاعتزال دليل على إباحته فيما عداه، وهذا التأويل أرجح من الأول لأمرين: أحدهما: لو أراد بالمحيض الحيض، لكان أمراً باعتزال النساء في مدة الحيض بالكلية، والإجماع على خلافه. الثاني: أن هذا التفسير موافق لسبب نزول الآية. [الدليل الأول] (*) (382) فقد روى مسلم، قال: حدثني زهير بن حرب، حدثنا عبد الرحمن ابن مهدي، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم، لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ...} (¬2) الآية. فقال رسول الله: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن حضير، وعباد بن بشر، فقال يا رسول الله: إن اليهود تقول كذا وكذا، فلا نجامعهن؟ فتغير وجه ¬
الدليل الثاني
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ظننا أنه قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل في أثرهما فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما. وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" دليل على أن المحرم هو الوطء في الفرج، وأن المراد بالمحيض هو مكان الحيض. الدليل الثاني: (383) ما رواه البخاري، قال: حدثنا قبيصة، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود عن عائشة قالت: كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، كلانا جنب، وكان يأمرني فأتزر، فيباشرني وأنا حائض، وكان يخرج رأسه إليَّ وهو معتكف وأنا حائض. وأخرجه مسلم، من طريق جرير، عن منصور به بلفظ: "كانت إحدانا إذا كانت حائضاً أمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتأتزر بإزار ثم يباشرها" (¬1). الدليل الثالث: (384) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو النعمان، حدثنا عبد الواحد، قال: حدثنا الشيباني، قال: حدثنا عبد الله بن شداد، قال سمعت ميمونة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض. ¬
ورواه مسلم، من طريق خالد بن عبد الله، عن الشيباني به بلفظ: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يباشر نساءه فوق الإزار وهن حيض" (¬1). وأجيب عن هذين الحديثين، بأنهما حكاية فعل للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ليس فيها النهي عن المباشرة فيما تحت الإزار، والفعل لا يقدم على القول، وحديث: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" صريح بالجواز. وقد يقال: بأن هذا الفعل من النبي - صلى الله عليه وسلم - في فور الحيضة واشتدادها. (385) فقد روى البخاري، قال: نا إسماعيل بن خليل، أنا علي بن مسهر، أخبرنا أبو إسحاق - هو الشيباني - عن عبد الرحمن ابن الأسود، عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضاً، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يباشرها، أمرها أن تتزر في فور حيضتها ثم يباشرها. وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يملك إربه. وأخرجه مسلم (¬2). (386) وروى ابن ماجه، قال: حدثنا الخليل بن عمرو، ثنا ابن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سويد بن قيس، عن معاوية بن خديج، عن معاوية بن أبي سفيان، عن أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: سألتها كيف تصنعين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحيضة؟ قالت: كانت إحدانا في فورها أول ما تحيض، تشد عليها إزاراً إلى ¬
أنصاف فخذيها، ثم تضطجع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). [وهذا إسناد ضعيف فيه عنعنة ابن إسحاق وهو مدلس]. قال ابن رجب في شرح البخاري: وفي هذا الحديث مع حديث عائشة الثاني الذي خرجه البخاري ها هنا دلالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يأمر الحائض بالاتزار في أول حيضها - وهو فور الحيضة وفوجها - فإن الدم حينئذ يفور لكثرته، فكلما طالت مدته قل الدم - وهذا مما يستدل به على أن الأمر بشد الإزار لم يكن لتحريم الاستمتاع بما تحت الإزار، بل خشية من إصابة الدم والتلوث به، ومبالغة في التحرز من إصابته. وقد روى محمَّد بن بكار بن بلال، نا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتقي سورة الدم ثلاثاً، ثم يباشر بعد ذلك، وهذا الإسناد وإن كان فيه لين، إلا أن الأحاديث الصحيحة تعضده وتشهد له. اهـ (¬2) كلام ابن رجب وحديث أم سلمة سبق أن مر معنا. فملخص الجواب عن حديث عائشة وحديث ميمونة، في كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - يباشر من نسائه وهي حائض إذا اتزرت إما أن يقال: هذا فعل، والفعل لا يدل على الوجوب، بل غاية ما يدل عليه ¬
الدليل الرابع
استحباب ذلك الفعل، والأحاديث القولية صريحة بجواز مباشرة الحائض لجميع بدنها ما عدا الفرج. وإما أن يقال: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك في فور الحيضة ووقت شدتها حرصاً واتقاء للدم، والله أعلم. الدليل الرابع: (387) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا هارون بن محمَّد بن بكار، قال: حدثنا مروان - يعني ابن محمَّد - قال: حدثنا الهيثم بن حميد، قال: حدثنا العلاء بن الحارث، عن حرام بن حكيم، عن عمه أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: لك ما فوق الإزار. وذكر مؤاكلة الحائض أيضاً وساق الحديث (¬1). [وسنده ضعيف] (¬2). الدليل الخامس: (388) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا أحمد بن إسحاق الخشبي الرقي، ثنا عبد الله بن جعفر، ثنا عبد الله بن عمرو - يعني الرقي - عن زيد - يعني ابن أبي ¬
أنيسه - عن أبي إسحاق، عن عاصم بن عمرو، عن عمير مولى عمر، قال: جاء نفر من العراق إلى عمر، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئناك لنسألك عن ثلاث. قال: ما هي؟ قالوا: صلاة الرجل في بيته تطوعاً، ما هي؟ وما يحل للرجل من امرأته حائضاً؟، وعن الغسل من الجنابة؟ فقال: أسحرة أنتم؟ قالوا: لا والله يا أمير المؤمنين، ما نحن بسحرة، قال: أفكهنة أنتم؟ قالوا: لا، فقال: لقد سألتموني عن ثلاث ما سألني عنهن أحد منذ سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهن قبلكم، فقال: أما صلاة الرجل في بيته تطوعاً فنور، فنوّر بيتك ما استطعت، وأما الحائض فلك ما فوق الإزار، وليس لك ما تحته، وأما الغسل من الجنابة فتفرغ بيمينك على شمالك، ثم تدخل يدك في الإناء، فتغسل فرجك وما أصابك، ثم توضأ وضوءك للصلاة، ثم تفرغ على رأسك ثلاث مرات وتدلك رأسك كل مرة (¬1). [إسناده ضعيف، وفيه اختلاف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (389) ما رواه مالك في الموطأ، قال: عن زيد بن أسلم، أن رجلاً سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لتشد عليها إزارها، ثم شأنك بأعلاها. ¬
الدليل السابع
[ضعيف لكونه مرسلاً] (¬1). الدليل السابع: (390) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا هشام بن عبد الملك اليزني، حدثنا بقية بن الوليد، عن سعد الأغطش - وهو ابن عبد الله - عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي - قال هشام: هو ابن قرط أمير حمص - عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يحل للرجل من امرأته، وهي حائض، قال: فقال: ما فوق الإزار، والتعفف عن ذلك أفضل (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬
الدليل الثامن
الدليل الثامن: (391) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا أبو نعيم ضرار بن صرد، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن صفوان بن سليم، وزيد ابن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رجلاً قال: يا رسول الله، مالي من امرأتي وهي حائض؟ قال: تشد إزارها ثم شأنك بها (¬1). [إسناده ضعيف، والمعروف أنه عن عطاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً] (¬2). ¬
فهذه الأحاديث التي تصرح بأن للزوج ما فوق الإزار، كلها ضعيفه، لا تخلو من مقال، فلا تعارض ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح". وقد يقال: إن قوله: "لك ما فوق الإزار" لا تحرم ما تحت الإزار إلا بالمفهوم، وحديث: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" منطوقه أنه لا يحرم من الحائض شيء إلا الفرج خاصة، والمنطوق مقدم على المفهوم. والله أعلم. قال ابن رجب: "وأما الأحاديث التي رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عما يحل من الحائض؟ فقال: "فوق الإزار" فقد رويت من وجوه متعددة لا تخلوا أسانيدها من لين، وليس رواتها من المبرزين في الحفظ، ولعل بعضهم روى ذلك بالمعنى الذي فهمه من مباشرة النبي - صلى الله عليه وسلم - للحائض من فوق الإزار. وقد قيل: إن الإزار كناية عن الفرج، ونقل ذلك عن اللغة، وأنشدوا فيه شعراً. قال وكيع: الإزار عندنا: الخرقة التي على الفرج". اهـ كلام الحافظ ابن ¬
رجب رحمه الله (¬1). وروى القول بأن للزوج ما فوق الإزار عن علي بن أبي طالب، وعائشة وابن عباس رضي الله عنهم. (392) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الأعلى، عن برد، عن مكحول، عن علي، قال: ما فوق الإزار (¬2). [ولا يعلم لمكحول سماع من علي، ولا أدركه] (¬3). (393) وأما ما جاء عن عائشة فقد روى مالك، قال: عن نافع، أن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أرسل إلى عائشة يسألها: هل يباشر الرجل امرأته وهي حائض؟ فقالت: لتشد إزارها على أسفلها، ثم يباشرها إن شاء (¬4). [إسناده صحيح] (¬5). ¬
وقد روى مسروق عن عائشة أنه يحل للزوج كل شيء إلا فرجها وسوف يأتي ذكره في أدلة القول الثاني، فيكون لعائشة في المسألة قولان: وأما ما يروى عن ابن عباس. (394) فقد أخرجه ابن جرير الطبري، قال: حدثنا أبو كريب، وأبو السائب، قالا: ثنا ابن إدريس، عن يزيد، عن سعيد بن جبير، قال: سئل ابن عباس عن الحائض، ما لزوجها منها؟ فقال: ما فوق الإزار (¬1). [سنده ضعيف] (¬2). وقد روى عن ابن عباس ما يخالف هذا، كما في أدلة القول الثاني. وممن قال بهذا القول - أعني أن للزوج أن يستمتع بما فوق الإزار - شريح (¬3)، ¬
أدلة القائلين لا يحرم من الحائض إلا الفرج خاصة.
وطاووس (¬1)، وعبيدة (¬2)، وقتادة (¬3)، وغيرهم. أدلة القائلين لا يحرم من الحائض إلا الفرج خاصة. الدليل الأول: من القرآن: قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬4)، فالمراد اعتزال النساء في المحيض اعتزال فروجهن. (395) أولاً: لما روى ابن جرير الطبري، قال: حدثني علي ابن داود، قال: حدثني أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} اعتزلوا نكاح فروجهن (¬5). [إسناده ضعيف] (¬6). ¬
الدليل الثاني
وثانياً: أن المحيض في الآية اسم لمكان الحيض كالمقيل والمبيت. قاله ابن عقيل: وهو ظاهر كلام أحمد (¬1). وثالثاً: قال ابن تيمية، قوله تعالى: {هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا} فذكر الحُكْم بعد الوصف بالفاء، فدل على أن الوصف هو العلة، لا سيما وهو مناسب للحكم، كآية السرقة، والأمر بالاعتزال في الدم للضرر والتنجيس، وهو مخصوص بالفرج، فيختص الحكم بمحل سببه (¬2). الدليل الثاني: (396) ما رواه مسلم، قال: حدثني زهير بن حرب، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت، عن أنس، أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم، لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬3). فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح ... " الحديث (¬4). وقد سقت الحديث بتمامه في أدلة أصحاب القول الأول. ورواه أحمد، عن عبد الرحمن بن مهدي به، وفيه: اصنعوا كل شيء إلا ¬
الدليل الثالث
الجماع (¬1). فلم يستثن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا الجماع، وما عداه فهو مأمور به أمر إرشاد وإباحة، وهذا الحديث تضمن تفسير قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} وأن المقصود اعتزال الوطء في الفرج، فلم يبق مجال للاجتهاد في تفسير الاعتزال ولا في تفسير كلمة "المحيض"، وقد جاءت مفسرة من النبي - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثالث: (397) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، وأبو بكر ابن أبي شيبة، وأبو كريب، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن ثابت ابن عبيد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ناوليني الخمرة من المسجد قالت: فقلت: إني حائض. فقال: إن حيضتك ليست في يدك (¬2). وجه الاستدلال. قال ابن عبد البر، قال: "دل هذا الحديث على أن كل عضو منها ليس فيه الحيضة في الطهارة، ثم قال: ودل على أن الحيض ليس يغير شيئاً من المرأة مما كان عليه قبل الحيض غير موضع الحيض وحده" (¬3). ونقل نحوه عن أبي جعفر الطحاوي. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (398) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن أيوب، عن عكرمة، عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً (¬1). وقد اختلف في رفعه ووقفه، ولم يثبت لي سماع عكرمة من أزواج - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ¬
الدليل الخامس
وقد صحح إسناده ابن عبد الهادي (¬1). الدليل الخامس: (399) ما رواه ابن جرير الطبري، قال: حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن كتاب أبي قلابة: أن مسروقاً ركب إلى عائشة، فقال: السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أهل بيته، فقالت عائشة: أبو عائشة، مرحباً، فأذنوا له فدخل، فقال: إني أريد أن أسألك عن شيء، وأنا استحيي!! فقالت: إنما أنا أمك وأنت ابني. فقال: ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ قالت: كل شيء إلا فرجها (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). قال ابن رجب، قال: "احتج أحمد بأن عائشة أفتت بإباحة ما دون الفرج من الحائض، وهي أعلم الناس بهذه المسألة، فيتعين الرجوع فيها إلى قولها، كما رجع إليها في الغسل من التقاء الختانين، وكذا في المباشرة للصائم" (¬4). ¬
وممن قال بهذا القول من التابعين إبراهيم النخعي (¬1)، والحسن (¬2)، وعطاء (¬3)، ومجاهد (¬4)، والحكم (¬5)، والشعبي (¬6)، وبه قال سفيان الثوري (¬7)، والأوزاعي (¬8)، وإسحاق (¬9)، وأبو ثور (¬10)، وابن المنذر (¬11)، وداود الظاهري، ووافقه ابن حزم (¬12). ¬
دليل من قال يستحب أن يباشرها من فوق الإزار ولا يجب.
قال ابن حزم: "وللرجل أن يتلذذ من امرأته الحائض، في كل شيء حاشا الإيلاج في الفرج، وله أن يشفر ولا يولج". ثم أجاب عن أدلة المانعين واحتج عليهم بحديث أنس، حين سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ...}، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اصنعوا كل شيء إلا النكاح. وعلق ابن حزم على هذا الحديث قائلاً: "هذا الخبر بصحته، وبيان أنه كان أثر نزول الآية هو البيان عن حكم الله تعالى في الآية، وهو الذي لا يجوز تعديه، وأيضاً؛ فقد يكون المحيض في اللغة موضع الحيض وهو الفرج، وهذا فصيح معروف، وتكون الآية حينئذ موافقةً للخبر المذكور، ويكون معناها: فاعتزلوا النساء في موضع الحيض .... " الخ كلامه رحمه الله (¬1). دليل من قال يستحب أن يباشرها من فوق الإزار ولا يجب. هذا القول عمدته الجمع بين حديث أنس في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" رواه مسلم وسبق ذكره بتمامه. وبين حديث عائشة وميمونة وكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يباشر أحداً من نسائه أمرها فاتزرت، مع كونه - صلى الله عليه وسلم - أملكنا لإربه، فأخذوا من أمره السابق بأنه أمر إرشاد وإباحة، وأخذوا من فعله - صلى الله عليه وسلم - استحباب أن تكون المباشرة من فوق الإزار. قال ابن المنذر: الأعلى، والأفضل اتباع السنة واستعمالها، ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
دليل من قال: إن وثق المباشر بضبط نفسه جاز له مباشرة ما تحت الإزار وإلا فلا.
أمر عائشة رحمها الله أن تترز، ثم يباشرها، وهي حائض. ولا يحرم عندي أن يأتيها دون الفرج إذا اتقى موضع الأذى. والفرج بالكتاب، وباتفاق أهل العلم محرم في حال الحيض. وسائر البدن إذا اختلفوا فيه على الإباحة التي كانت قبل أن تحيض، وغير جائز تحريم غير الفرج إلا بحجة، ولا حجة مع من منع ذلك ... الخ كلامه رحمه الله (¬1). وقال النووي: "وأما مباشرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فوق الإزار فمحمولة على الاستحباب، جمعاً بين قوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله" (¬2). دليل من قال: إن وثق المباشر بضبط نفسه جاز له مباشرة ما تحت الإزار وإلا فلا. لا ينبغي أن يكون هذا القول قولاً مستقلاً، بل يرجع هذا القول إلى القول الأول، وهو جواز المباشرة لما تحت الإزار، لأن هذا الشرط معتبر عندهم، ومثله المباشرة للصائم، والقبلة له، فإذا ترتب على ارتكاب المباح أمراً محظوراً حرم المباح. قال النووي في المجموع: "إن وثق المباشر تحت الإزار بضبط نفسه عن الفرج، لضعف شهوة، أو شدة ورع جاز وإلا فلا، حكاه صاحب الحاوي ومتابعوه عن أبي الفياض البصري وهو حسن" (¬3). ¬
واستحسنه ابن رجب، وقال: "في كلام عائشة ما يشهد له، فإنها قالت: وأيكم يملك إربه، كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يملك إربه؟ ويشهد لهذا مباشرة المرأة في حال الصيام، فإنه يفرق فيها بين من يخاف على نفسه ومن يأمن. وقالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل ويباشر وهو صائم، وكان أملككم لإربه". اهـ كلام الحافظ ابن رجب (¬1). قلت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أملك الأمة لإربه، ومع ذلك كان يباشر من فوق الإزار، فليست المباشرة فوق الإزار خاصة لمن خشي الوقوع في المحرم، فالقول باستحباب أن يكون ذلك من فوق الإزار مطلقاً هو الأقرب، إلا أن يقال: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك تشريعاً لغيره ممن ليس بمعصوم، لكن من الممكن أن يبين بالقول ولا يترك المباشرة لما تحت الإزار. ¬
الفرع الأول: حكم الاستمتاع بما تحت الإزار بالنظر واللمس دون الوطء اختلف جمهور العلماء القائلون بتحريم المباشرة بالوطء بما تحت الإزار في حكم الاستمتاع بما تحت الإزار بالنظر واللمس ونحوهما إلى قولين: فقيل: يجوز الاستمتاع بالنظر ونحوه لما تحت الإزار، لأن النظر ليس أعظم من التقبيل ومع ذلك يجوز. اختاره ابن نجيم من الحنفية (¬1)، وبعض المالكية (¬2)، وبعض الشافعية (¬3). وقال بعضهم: لا يجوز (¬4)، لأنه مدعاة لجماعها، ولأنه استمتاع بما لا يحل مباشرته. وسبب الاختلاف: اختلاف التعبير عند المؤلفين. فمن عبّر بالاستمتاع، قال: يحرم النظر واللمس بشهوة، ولأنه نوع من الاستمتاع. ¬
ومن عبّر بالمباشرة: قال لا يحرم الاستمتاع بالنظر ولو بشهوة، لأنه ليس أعظم من تقبيلها في فمها ووجهها بشهوة، وقد تبين من المسألة السابقة أنه لا يحرم سوى الفرج.
الفصل الثالث: إذا جامع الرجل امرأته وهي حائض فهل عليه كفارة
الفصل الثالث: إذا جامع الرجل امرأته وهي حائض فهل عليه كفارة اختلف الفقهاء في هذه المسألة: فقيل: عليه التوبة والاستغفار، وتستحب له الكفارة. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والقول الجديد في مذهب الشافعي (¬2). وقيل: ما عليه إلا التوبة والاستغفار، وهو مذهب المالكية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: تجب عليه الكفارة. وهذا المشهور من مذهب الحنابلة (¬5). واختلفوا في تقدير الكفارة. فقيل: هي على التخيير، دينار أو نصفه، وهو المشهور عند الحنابلة (¬6). وقيل: إن كان الدم أسود فدينار، وإن كان أصفر فنصف دينار (¬7) وقيل: إن كان في إقبال الدم وفي زمن قوته وشدته فدينار، ¬
أدلة القائلين بوجوب الكفارة.
وإن كان في إدبار الدم بأن كان زمن ضعفه وقربه من الانقطاع فنصف دينار (¬1). وقيل: إن جامعها في زمن الحيض فدينار، وإن جامعها بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال فنصف دينار. وهو قول قتادة والأوزاعي (¬2). وقيل: عليه خمسة دنانير وينسب هذا القول لعمر (¬3). وقيل: عليه عتق رقبة، وهو قول سعيد بن جبير (¬4). وقيل: عليه كفارة من جامع في نهار رمضان، وهو قول الحسن (¬5). أدلة القائلين بوجوب الكفارة. (400) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى، عن شعبة، ومحمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مقسم، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي يأتي امرأته وهي حائض: يتصدق بدينار، أو نصف دينار. [الحديث الصحيح فيه أنه موقوف على ابن عباس، وفي متنه اختلاف كثير] (¬6). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل القائلين بأنه لا يجب عليه إلا التوبة والاستغفار.
دليل القائلين بأنه لا يجب عليه إلا التوبة والاستغفار. الدليل الأول: عدم الدليل الموجب للكفارة. قال ابن عبد البر: "وحجة من لم يوجب عليه كفارة إلا الاستغفار والتوبة، اضطراب هذا الحديث عن ابن عباس وأن مثله لا تقوم به حجة، وأن الذمة على البراءة، ولا يجب أن يثبت فيها شيء لمسكين ولا غيره إلا بدليل لا مدفع فيه، ولا مطعن عليه، وذلك معدوم في هذه المسألة" اهـ (¬1). ¬
الدليل الثاني
وقال ابن المنذر: "الكفارة لا يجوز إيجابها إلا أن يوجبها الله عز وجل، أو يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أوجبها، ولا نعلم إلى هذا الوقت حجة توجب ذلك والله أعلم" (¬1). وذكر ابن المنذر: بأن القول بأن لا غرم عليه في ماله، ولكن يستغفر الله، هو قول عطاء وإبراهيم النخعي، ومكحول، وابن أبي مليكة، والشعبي، والزهري، وربيعة، وابن أبي الزناد، وحماد بن أبي سليمان الكوفي، وأيوب السختياني، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، وسفيان الثوري والشافعي، والنعمان، ويعقوب (¬2). الدليل الثاني: دليل نظري، قالوا: إن الجماع في الفرج حال الحيض حرم لعلة الأذى، فلا يوجب ذلك كفارة، كالوطء في الدبر. فقد عصى الله تعالى، وفرض عليه التوبة والاستغفار، ولا كفارة عليه في ذلك". وقال ابن حزم: "إذا لم يصح في إيجاب شيء على واطيء الحائض فما له حرام فلا يجوز أن يلزم حكماً أكثر مما ألزمه الله من التوبة من المعصية التي عمل والاستغفار والتعزير لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده" وقد ذكرناه بإسناده" (¬3). ¬
دليل القائلين باستحباب الكفارة.
دليل القائلين باستحباب الكفارة. لعل القائلين بالاستحباب ذهبوا إلى ذلك من باب الاحتياط، فإنهم حين رأوا الاختلاف في الحديث والاضطراب في إسناده ومتنه لم يجزموا بالوجوب، وحين رأوا ثبوت ذلك عن ابن عباس من قوله قوي عندهم القول بالاستحباب. واستدل بعضهم على أن الأثر للاستحباب من وجه آخر. قال أحمد شاكر في تحقيقه لسنن الترمذي: "إذا ثبت أن أصل الحديث الأمر بالتخيير بين الدينار وبين نصف الدينار، فأرى أن الأمر فيه ليس للوجوب، وإنما هو للندب، لأن الأصل في الأمر أن يكون للوجوب على الحقيقة، ولا يكون للندب إلا مجازاً، والمجاز لا بد له من قرينة تمنع إرادة المعنى الحقيقي، والقرينة هنا في نفس اللفظ، لأن التخيير في المأمور به بين أن يكون قليلاً أو كثيراً من نوع واحد، يدل على أن الزائد على القليل ليس واجباً، لأن الدينار الواحد له نصفان، وقد أمر مخيراً بين أدائه كله، وبين أداء نصف من نصفيه، فإذا أدى النصف كان آتياً بالمأمور به في أحد شقي الأمر، ولم يأت إلا ببعضه في الشق الآخر وبرئت ذمته بما أتاه من الأمور به، فكان الذي لم يأت به غير واجب عليه، بنفس دلالة اللفظ، فدل لفظ الأمر، على أن بعض مدلوله ليس مراداً به الوجوب فخرج بذلك عن الحقيقة إلى المجاز، وإذا خرج في بعض مدلوله عن الحقيقة لهذه القرينة القاطعة، خرج في كل مدلوله، لامتناع استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه معاً، وتحقيق ذلك في موضعه من علم الأصول" اهـ.
دليل القائلين إن كان الدم كذا فدينار أو كذا فنصف دينار.
كلام شاكر (¬1). دليل القائلين إن كان الدم كذا فدينار أو كذا فنصف دينار. عمدة القائلين في ذلك بأن ذلك قد ورد عن ابن عباس من قوله، وهو صحابي عربي اللسان، ترجمان القرآن وحبر الأمة، وهو أدرى بما روى، وتفسيره مقدم على تفسير غيره. والذي يرجح ذلك أن احتمال كون (أو) في قوله "يتصدق بدينار أو نصف دينار" للشك بعيداً، وإن كان قد حصل الشك لبعض الرواة، لأن الشريعة في نفسها لا يمكن أن يكون فيها حكم مشكوك فيه، وهي من لدن حكيم خبير، والشك وصف عارض قد يطرأ على الإنسان لضعفه وعجزه، وأما حقيقة الأمر فالشريعة ليس فيها شك. وتحتمل أن (أو) للتخيير، فلما احتملت هذا وهذا رأينا أن تفسير ابن عباس في كون (أو) للتنويع هو الفيصل. (401) فقد روى البيهقي، من طريقين عن أبي العباس محمد ابن يعقوب، ئنا محمد بن إسحاق الصنعاني، ثنا أبو الجواب، ثنا سفيان الثوري، عن ابن جريج عن عطاء، عن ابن عباس، في الرجل يأتي امرأته وهي حائض، قال: إن أتاها في الدم تصدق بدينار، وإن أتاها في غير الدم تصدق بنصف ¬
دليل من قال: هو مخير بين دينار ونصف دينار.
دينار (¬1). [وإسناده حسن، وسبق الكلام عليه عند الكلام على حديث ابن عباس]. وقد توبع ابن جريج ... فقد رواه أبو داود (¬2)، والحاكم (¬3)، والبيهقي (¬4) من طريق علي بن الحكم البناني، عن أبي الحسن الجزري، عن مقسم، عن ابن عباس موقوفاً عليه. [وهذا سند ضعيف، لكنه صالح في المتابعات وسبق الكلام عليه]. دليل من قال: هو مخير بين دينار ونصف دينار. دليلهم أن التفصيل الوارد إن كان الدم كذا فدينار أو كذا فنصف دينار لم يثبت منه شيء مرفوع، وأن القدر المرفوع منه هو (402) ما رواه أحمد: حدثنا يحيى عن شعبة، ومحمد بن جعفر حدثنا شعبة، عن عبد الحكيم عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مقسم، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي يأتي امرأته وهي حائض: يتصدق بدينار أو نصف دينار (¬5). وليس في الحديث ما يدل على أن (أو) للشك فبقي أنه مخير بين الدينار أو ¬
دليل من قال: عليه خمسا دينار.
نصف دينار. فإن قيل: إن التخيير في الجنس الواحد ينافي الوجوب، فإذا كان مخيراً بين نصف دينار، وبين إخراج دينار ... لم يكن إخراج الدينار واجباً. وإذا كان الأمر كذلك خرج الأمر من كونه يراد به الوجوب، إذ لا يمكن أن يكون الأمر في شيء واحد مشتركاً بين الوجوب والاستحباب، فبعضه واجب، وبعضه مستحب. أجاب ابن قدامة، بقوله: "فإن قيل: فكيف يخير بين شيء ونصفه؟ قلنا: كما يخير المسافر بين قصر الصلاة وإتمامها، فأيهما فعل كان واجباً، كذا ها هنا" (¬1). وهذا الجواب فيه ما فيه. دليل من قال: عليه خمسا دينار. (403) ما رواه الدارمي، قال: أخبرنا محمد بن يوسف، ثنا الأوزاعي، عن يزيد بن أبي مالك، عن عبد الحميد بن زيد بن الخطاب، قال: كان لعمر بن الخطاب امرأة تكره الجماع، وكان إذا أراد أن يأتيها اعتلت عليه بالحيض، فوقع عليها فإذا هي صادقة، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يتصدق بخمسي دينار (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الفرع الأول: إذا قالت المرأة لزوجها إنها حائض فهل يلزمه تصديقها مطلقا
الفرع الأول: إذا قالت المرأة لزوجها إنها حائض فهل يلزمه تصديقها مطلقاً قال ابن نجيم، نقلاً عن السراج الوهاج قال: "إذا أخبرته بالحيض، إن كانت فاسقة لا يقبل قولها، وإن كانت عفيفة يقبل قولها، ويترك وطؤها. وقال بعضهم: إن كان صدقها ممكناً، بأن كانت في أوان حيضها قبلت، ولو كانت فاسقة كما في العدة وهذا القول أحوط وأقرب إلى الورع. قال ابن نجيم: فعلم من هذا أنها إذا كانت فاسقة ولم يغلب على ظنه صدقها، بأن كانت في غير أوان حيضها لا يقبل قولها اتفاقاً" (¬1). قلت: قد يتمكن الزوج من الوقوف على صدقها من كذبها قبل الجماع، والوسائل كثيرة، لأن الحيض أمر محسوس، معلوم بالمشاهدة والرائحة. دليل من قال: يعتق نسمه أو قال: عليه كفارة من جامع في نهار رمضان. لا أعلم لهذين القولين دليلاً، من الكتاب ولا من السنة، ولا من قول صاحب، وإنما نسب القول بإعتاق رقبة لسعيد بن جبير، حكاه ابن المنذر عنه في الأوسط (¬2) ولم أقف على إسناده. وحكى القول بكفارة من جامع أهله في نهار رمضان للحسن. ¬
(404) رواه عبد الرزاق، قال: أخبرنا هشام عن الحسن أنه كان يقيسه بالذي يقع على أهله في رمضان (¬1). [وهشام في روايته عن الحسن فيها كلام، قيل: إنه كان يرسل عنه]. ورواه الدارمي: وفيه رجل مبهم (¬2). والراجح لي أن من جامع امرأته في فرجها حال الحيض أنه لا يجب عليه شيء وعليه التوبة والاستغفار، وإن أخرج ديناراً أو نصفه فإنه مستحب لقول ابن عباس، ولا يثبت عندي مرفوعاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم بالصواب. ¬
الفرع الثاني: هل يكفر من استحل جماع الحائض في فرجها؟
الفرع الثاني: هل يكفر من استحل جماع الحائض في فرجها؟ قال النووي في المجموع: "أجمع المسلمون على تحريم وطء الحائض، للآية الكريمة، والأحاديث الصحيحة" ثم قال: "قال أصحابنا وغيرهم: من استحل وطء الحائض حكم بكفره، ومن فعله جاهلاً وجود الحيض، أو تحريمه، أو ناسياً، أو مكرهاً، فلا إثم عليه ولا كفارة" (¬1). وجزم بكفره من الحنفية السرخسي (¬2)، وابن الهمام (¬3). والدليل على كفره أنه مكذب للقرآن في قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬4). وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" رواه مسلم وسبق تخريجه. وجاء في البحر الرائق لابن نجيم، قال: "صحح أنه لا يكفر صاحب الخلاصة، ويوافقه ما نقله أيضاً من الفصل الثاني في ألفاظ الكفر من اعتقد الحرام حلالاً، أو على القلب، يكفر إذا كان حراماً لعينه، وثبتت حرمته بدليل مقطوع به، أما إذا كان حراماً لغيره بدليل مقطوع به، أو حراماً لعينه بأخبار ¬
الآحاد لا يكفر إذا اعتقده حلالاً. فعلى هذا لا يفتى بتكفير مستحله لما في الخلاصة أن المسألة إذا كان فيها وجوه توجب التكفير ووجه واحد يمنع، فعلى المفتي أن يميل إلى ذلك الوجه" اهـ (¬1). والراجح الأول: فكل ما كان مجمعاً على تحريمه، فإن من استحله، ومثله لا يجهل الدليل على التحريم فإنه يُعَلَّم، فإن أصر حكم بكفره. وسواء كان الدليل من القرآن أو من السنة المتواترة، أو من أخبار الآحاد ما دام أن التحريم لا خلاف فيه بين العلماء. أما إذا اختلف في تحريمه. فاستحله أحد فلا يكفر، بناء على أن التحريم منازع فيه. ¬
الفرع الثالث: هل جماع المرأة في حال الحيض من كبائر الذنوب أم يعد من الصغائر؟
الفرع الثالث: هل جماع المرأة في حال الحيض من كبائر الذنوب أم يعد من الصغائر؟ قسم الشرع الذنوب إلى كبائر وصغائر. قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (¬1)، وقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (¬2). وقال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} (¬3). فقيل: من أتى امرأته وهي حائض عالماً بالحرمه عامداً مختاراً فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب. وهو مذهب الحنفية (¬4)، أو الشافعية (¬5). وقيل: يأثم ولا يكون مرتكباً لكبيرة لعدم انطباق تعريف الكبيرة عليه وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬6). ¬
دليل الحنفية والشافعية على أن جماع الحائض كبيرة.
دليل الحنفية والشافعية على أن جماع الحائض كبيرة. الدليل الأول: (405) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا حماد ابن سلمة، قال: أخبرنا حكيم الأثرم، عن أبي تميمة الهجيمي، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها، أو كاهناً فصدقه، فقد برئ مما أنزل على محمد. وفي رواية: فقد كفر بما أنزل على محمد (¬1). [إسناده منكر، والمعروف وقفه على أبي هريرة بقصة إتيان النساء في أدبارهن دون ذكر الحيض] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال: قوله: "فقد كفر" لا شك أن هذا اللفظ لو صح لفهم منه أنه كبيرة من كبائر الذنوب ... والكفر هنا لا يراد به الكفر المخرج من الملة. فقال السرخسي في المبسوط: " (فقد كفر بما أنزل على محمد) مراده: إذا استحل ذلك الفعل" (¬1). ولا يظهر لي هذا القيد، لأن الحديث خلا منه. وقال المناوي: "ومن لم يستحلها - يعني هذه الأفعال - فهو كافر بالنعمة، على ما مر غير مرة، وليس المراد حقيقة الكفر، وإلا لما أمر في وطء الحائض بالكفارة كما بينه الترمذي (¬2). وعلى هذا فالمراد فقد كفر: أي بالنعمة. ¬
وقال الترمذي: معنى هذا عند أهل العلم على التغليظ. اهـ (¬1). وقيل في معنى الحديث أقوال ساقها النووي في شرحه لصحيح مسلم. قال: أحدها: إن ذلك كفر في حق المستحل بغير حق. الثاني: المراد به كفر النعمة وحق الإسلام. الثالث: أنه يقرِّب من الكفر ويؤدي إليه. الرابع: أنه فعل كفعل الكفار. الخامس: المراد حقيقة الكفر، ومعناه: لا تكفروا بل دوموا مسلمين. السادس: حكاه الخطابي وغيره، أن المراد بالكفار المتكفرون بالسلاح، يقال: تكفر الرجل بسلاحه إذا لبسه. قال الأزهري في كتابه "تهذيب اللغة": يقال للابس السلاح كافر. والسابع: قاله الخطابي: معناه لا يكفر بعضكم بعضاً فتستحلوا فقال بعضكم بعضاً. اهـ وإطلاق الكفر وإرادة الكفر الأصغر كثير في الشرع. (406) فقد روى البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، عن منصور، قال: سمعت أبا وائل يحدث عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر. وأخرجه مسلم (¬2). ¬
(407) كما أخرج البخاري، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني علي بن مدرك، عن أبي زرعة، عن جرير، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع: استنصت الناس، فقال: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض. وأخرجه مسلم (¬1). وقتال المسلم ولو كان عدواناً لا يخرج به المسلم عن الإسلام، ولا يكفر به كفراً يخرج عن الملة .. قال سبحانه وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ...} إلى قوله تعالى: " {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}. فلم تنتف الإخوة مع القتل ... وقوله سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ...} إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}. (408) ومنها حديث أبي ذر في البخاري، قال: حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث، عن الحسين، عن عبد الله بن بريدة، قال: حدثني يحيى بن يعمر أن أبا الأسود الديلي، حدثه عن أبي ذر، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -، يقول: ليس من رجل ادَّعى لغير أبيه، وهو يعلمه إلا كفر، ومن ادَّعى قوماً ليس له فيهم نسب فليتبوأ مقعده من النار. ورواه مسلم (¬2). (409) ومنها حديث جرير في مسلم، قال رحمه الله: حدثنا علي بن حجر ¬
الدليل الثاني
السعدي، حدثنا إسماعيل يعني بن علية، عن منصور بن عبد الرحمن، عن الشعبي، عن جرير أنه سمعه يقول: أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم. قال منصور: قد والله روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكني أكره أن يروى عني ههنا بالبصرة (¬1). فالمراد أن الكفر قد يطلق ويراد به كفر لا يخرج عن الملة .. لكن يعد من كبائر الذنوب ... أو من أكبرها. الدليل الثاني: الدليل الثاني على أن إتيان الحائض كبيرة من كبائر الذنوب. (410) ما رواه أحمد: من طريق شعبة، عن الحكم، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مقسم، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرجل الذي يأتي امرأته، وهي حائض يتصدق بدينار، أو نصف دينار (¬2). [المحفوظ أنه موقوف على ابن عباس ... وسبق تخريجه]. وجه الاستدلال: أن الفعل لما رتبت عليه عقوبة (كفارة) ... دل على أنه ليس من الصغائر، فكل فعل رتبت عليه عقوبة دنيوية أو أخروية، أو رتب عليه وعيد بغضب أو ¬
دليل الحنابلة بأن وطء، الحائض ليس كبيرة.
لعن، أو نحوها فإن هذا دليل على أن الفعل كبيرة، لأن الراجح من أقوال أهل العلم أن الكبائر محدودة وليست معدودة. دليل الحنابلة بأن وطء، الحائض ليس كبيرة. قال البهوتي في كشاف القناع: "ووطؤها - أي الحائض - في الفرج ليس بكبيرة، لعدم انطباق تعريفها عليه" اهـ (¬1). فلما لم تصح أدلة القول الأول: "من أتى حائضاً فقد كفر بما أنزل على محمد" لم يكن هذا الفعل داخلاً في حد الكبيرة، والله أعلم. والعجيب أن الحنابلة يرون وجوب الكفارة، وهي عقوبة، ومع ذلك لا يقولون بأنها كبيرة. ويجيبون عن هذا، بما قاله ابن مفلح الصغير: "إنما شرعت الكفارة زجراً عن معاودته، ولهذا أغنى وجوبها عن التعزير" (¬2). قلت: لو وجبت الكفارة لكانت نوعاً من التعزير، لأن التعزير قد يقع على البدن، وقد يقع على المال. والراجح كما أسلفنا أن الكفارة ليست واجبة، وأن جماع الحائض لا يدخل في حد الكبيرة، والله أعلم. ¬
الفرع الرابع: إذا قيل بوجوب الكفارة على من أتى امرأته وهي حائض فهل تجب على الجاهل والناسي
الفرع الرابع: إذا قيل بوجوب الكفارة على من أتى امرأته وهي حائض فهل تجب على الجاهل والناسي قال ابن قدامة: "على وجهين: أحدهما: تجب لعموم الخبر؛ ولأنها كفارة تجب بالوطء أشبهت كفارة - الوطء في الصوم والإحرام - قلت: وهذا هو المشهور عند الحنابلة ثم قال: والثاني: لا تجب؛ لقوله عليه السلام: "عفى لأمتي عن الخطأ والنسيان" ولأنها تجب لمحو المأثم، فلا تجب مع النسيان ككفارة اليمين، فعلى هذا لو وطئ طاهراً فحاضت في أثناء وطئه لا كفارة عليه، وعلى الرواية الأولى عليه الكفارة .. " اهـ (¬1). قلت: الصحيح أن الوطء في الصوم والإحرام كغيره لا يجب على الناسي والجاهل شيء، فالصحيح لو قلنا بوجوب الكفارة أن الجاهل والناسي لا شيء عليهما بدلالة الكتاب قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (¬2). (411) وأخرج مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب، وإسحاق بن إبراهيم، واللفظ لأبي بكر، عن وكيع، عن سفيان، عن آدم بن سليمان مولى خالد، قال: سمعت سعيد بن جبير يحدث ¬
عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} (¬1) قال: دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا" قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل اله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال: قد فعلت. {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال: قد فعلت. {وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا} قال: قد فعلت (¬2). (412) وأخرج البخاري، قال: حدثنا عبدان، أخبرنا يزيد بن زريع، حدثنا هشام، حدثنا ابن سيرين، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا نسي فأكل وشرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه. وأخرجه مسلم (¬3). والاستدلال بهذه الأحاديث أولى من الاستدلال بحديث: "عفي لأمتي الخطا والنسيان". للاختلاف في صحته. فالناسي والجاهل إذا كان مثله يجهل لا شيء عليهما، لو قيل بوجوب الكفارة. والمقصود بالجاهل من يجهل التحريم، أما إذا كان يعلم بالتحريم، ويجهل الكفارة، فإن ذلك لا يسقط الكفارة عنه. لأنه فعل فعله وهو يعلم أنه محرم. ¬
الفرع الخامس: إذا قلنا بوجوب نصف الدينار فهل تخرج القيمة
الفرع الخامس: إذا قلنا بوجوب نصف الدينار فهل تخرج القيمة قال ابن قدامة: "يجزئ نصف دينار من أي ذهب إذا كان صافياً من الغش، ويستوي تبره ومضروبه لوقوع الإسم عليه. وهل يجوز إخراج قيمته؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن المقصود يحصل بإخراج هذا القدر من المال، على أي صفة كان من المال، فجاز بأي مال كان، كالخراج والجزية. والثاني: لا يجوز؛ لأنه كفارة، فاختص ببعض أنواع المال، كسائر الكفارات، فعلى هذا الوجه، هل يجوز إخراج الدراهم مكان الدينار؟ فيه وجهان: بناء على إخراجها عنه في الزكاة، والصحيح جوازه، لما ذكرنا؛ ولأنه حق يجزئ فيه أحد الثمنين، فأجزأ فيه الآخر كسائر الحقوق" اهـ (¬1). واعتبر ابن تيمية في الدينار أن يكون مضروباً (¬2). قال أبن مفلح في الفروع: "وهو أظهر" (¬3). وهذا التفريع هو على القول المرجوح الموجب للكفارة. ¬
الفرع السادس: هل تلزم المرأة كفارة؟
الفرع السادس: هل تلزم المرأة كفارة؟ قال ابن قدامة: "المنصوص أن عليها الكفارة، قال أحمد في امرأة غرت زوجها: إن عليه الكفارة وعليها، وذلك لأنه وطء يوجب الكفارة فأوجبها على المرأة المطاوعة ككفارة الوطء في الإحرام. وقال القاضي في وجه وجوبها على المرأة وجهان: أحدهما: لا يجب؛ لأن الشرع لم يرد بإيجابها عليها، وإنما يتلقى الوجوب من الشرع، وإن كانت مكرهة أو غير عالمة فلا كفارة عليها، لقوله عليه السلام: "عفى لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬1). قلت: الأولى في الاستدلال بأن المكره لا شيء عليه بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (¬2) فإذا كان يعذر بالإكراه حتى بالكفر فما دونه من باب أولى. ولو قلنا بوجوب الكفارة، فالرجل مثل المرأة سواء إن طاوعته وكانت عالمة بالتحريم وجبت عليها الكفارة وإن كانت ناسية أو جاهلة فلا شيء عليها. ¬
الفصل الرابع: في حكم طلاق الحائض وهل يقع
الفصل الرابع: في حكم طلاق الحائض وهل يقع أجمع العلماء على أن طلاق الحائض محرم بدعي مخالف للسنة. وإذا طلقها فهل يقع أم لا؟ اختلف العلماء في ذلك. فقيل: يقع مع التحريم. وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2) , والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: لا يقع، وهو مذهب الظاهرية (¬5)، واختاره ابن تيمية (¬6) , وابن القيم (¬7)، والشوكاني (¬8). ¬
أدلة الجمهور على وقوع الطلاق.
أدلة الجمهور على وقوع الطلاق. الدليل الأول: من القرآن: قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬1). وقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬2). وقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬3). وجه الاستدلال: أن هذه الآية مطلقة، تدل على وقوع الطلاق مطلقاً في حال الحيض أو الطهر أو غيرهما، ولم يخص حالاً دون حال، فوجب أن تحمل الآيات على العموم، ولا يجوز تخصيصها إلا بكتاب أو سنة أو إجماع، ولا يوجد ما يخصصها (¬4). وأجيب: بأن الطلاق إذا أطلق لا يراد به إلا الطلاق الشرعي. قال ابن القيم في زاد المعاد: "دعواكم دخول الطلاق المحرم تحت نصوص ¬
الطلاق، وشمولها للنوعين إلى آخر كلامكم فنسألكم ما تقولون فيمن ادعى دخول أنواع البيع المحرم والنكاح المحرم تحت نصوص البيع والنكاح، وقال: شمول الاسم الصحيح من ذلك والفاسد سواء، بل وكذلك سائر العقود المحرمة إذا ادعى دخولها تحت ألفاظ العقود الشرعية، وكذلك العبادات المحرمة المنهي عنها إذا ادعى دخولها تحت الألفاظ الشرعية، وحكم لها بالصحة لشمول الاسم لها، هل تكون دعواه صحيحه أو باطلة؟. فإن قلتم: صحيحة، ولا سبيل لكم إلى ذلك كان قولاً معلوم الفساد بالضرورة من الدين. وإن قلتم: دعواه باطلة، تركتم قولكم، ورجعتم إلى ما قلناه. وإن قلتم تقبل في موضع وترد في موضع. قيل لكم: فرقوا لنا تفريقاً صحيحاً، مطرداً، ومنعكساً، معكم به برهان من الله بَيْنَ ما يدخل من العقود المحرمة تحت ألفاظ النصوص، فيثبت له حكم الصحة، وبين ما لا يدخل تحتها فيثبت له حكم البطلان. وإن عجزتم عن ذلك فاعلموا أنه ليس بأيديكم سوى الدعوى التي يحسن كل أحد مقالتها ومقابلتها بمثلها، أو الاعتماد على من يحتج لقوله لا بقوله، وإذا كشف الغطاء عما قررتموه في هذه الطريق، وجد غير محل النزاع جعلتموه مقدمة في الدليل وذلك عين المصادرة على المطلوب، فهل وقع النزاع إلا في دخول الطلاق المحرم المنهي عليه تحت قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} (¬1). ¬
الدليل الثاني
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬1). وأمثال ذلك. وهل سلم لكم منازعكم ذلك حتى تجعلوه مقدمة لدليلكم" اهـ (¬2). الدليل الثاني: (413) ما رواه البخاري: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثني مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء. وأخرجه مسلم (¬3). وجه الاستدلال: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مره فليراجعها" هذا اللفظ لا نزاع في ثبوته، وثبوت المراجعة دليل على أن الطلاق واقع وأنه معتد به، والمراجعة بدون وقوع الطلاق محال، فبقي أن الطلاق واقع. وهذا من أقوى الأدلة لهذا القول. وأجيب: عن قوله: "فليراجعها" بعدة أقوال: ¬
منها: أن المقصود: فليراجعها: أي فليردها إلى بيته، وكان من عادة المطلقة أن تخرج من بيت الزوج، فأمر بإرجاعها. وقيل: المقصود: فليراجعها، أي فليراجع بدنها، قال ابن تيمية: "جرت العادة من الرجل إذا طلق امرأته اعتزلها ببدنه، واعتزلته ببدنها، فقال لعمر: مره فليراجعها، ولم يقل: فليرتجعها، والمراجعة مفاعلة من الجانبين: أي ترجع إليه ببدنها فيجتمعان كما كانا؛ لأن الطلاق لم يلزمه" (¬1). وقال لي بعض الإخوة في المذاكرة: أن ابن عمر حين توهم وقوع الطلاق خاطبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - حسب ظنه وفهمه الخاطئ، فأمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمراجعة مع أن الطلاق لم يقع. قال ابن القيم: "المراجعة وقعت في كلام الله ورسوله على ثلاث معان: أحدها: ابتداء النكاح، لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (¬2) ولا خلاف بين أحد من أهل العلم بالقرآن أن المطلق ها هنا الزوج الثاني وأن التراجع بينها وبين الزوج الأول، وذلك نكاح مبتدأ. وثالثها: الرد الحسي الذي كان عليها أولاً كقوله لأبي النعمان بن بشير، لما نحل ابنه غلاماً خصه به دون ولده، قال له: رده. فهذا رد ما لم تصح فيه الهبة الجائرة التي سماها الرسول - صلى الله عليه وسلم - جوراً، وأخبر أنها لا تصلح، وأنها خلاف العدل ¬
ومن هذا قوله لمن فرق بين جارية وولدها في البيع فنهاه عن ذلك ورد البيع، وليس هذا الرد مستلزماً لصحة البيع، فإنه يبيع باطل بل هو رد شيئين إلى حالة اجتماعها كما كانا وهكذا الأمر بمراجعة ابن عمر امرأته ارتجاع ورد إلى حالة الاجتماع كما كان قبل الطلاق، وليس في ذلك ما يقتضي وقوع الطلاق في الحيض البتة" اهـ (¬1). ولم يذكر المعنى الثاني للمراجعة، لأنها هي الأصل، وهي إرجاع المرأة المطلقة الرجعية إلى عقد الزوجية. وقد بين ابن القيم في تهذيب السنن المعنى الثالث للإرجاع .. فقال: "وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - مره فليراجعها، فهو حجة على عدم الوقوع، لأنه لما طلقها، والرجل من عادته إذا طلق امرأته أن يخرجها عنه أمره بأن يراجعها، ويمسكها، فإن هذا الطلاق الذي أوقعه ليس بمعتبر شرعاً، ولا تخرج المرأة عن الزوجية بسببه، فهو كقوله - صلى الله عليه وسلم - لبشير بن سعد في قصة نحله ابنه، وذكر نحواً مما نقلناه عنه من الزاد. ثم قال: فكذلك أمره برد المرأة ورجعتها لا يدل على أنه لا يكون إلا بعد نفوذ الطلاق، بل لما ظن ابن عمر جواز هذا الطلاق فأقدم عليه قاصداً لوقوعه، فرد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأته، وأمره أن يردها، ورد الشيء إلى ملك من أخرجه لا يستلزم خروجه من ملكه شرعاً كما ترد العين المغصوبة إلى مالكها ويقال للغاصب ردها إليه ولا يدل ذلك على زوال ملك صاحبها عنها .. " الخ كلامه (¬2). ¬
والحقيقة هذا الجواب من ابن القيم ليس بالذي يشفي الصدر، فلا يزال في النفس شيء، فقوله: إن إطلاق المراجعة على ابتداء النكاح فهي ليست في مسألتنا، والتعبير "أن يتراجعا" يختلف عن قوله: "فليراجعها" فإن الأول مفاعلة من الطرفين، لأن ابتداء النكاح لا بد فيه من الرضا منهما، والمراجعة حق للزوج ولو لم ترضى الزوجة، وأما قوله: إن الرجل من عادته إذا طلق زوجته أن يخرجها عنه فأمره أن يراجعها ويمسكها فهذا لا يظن من ابن عمر، وقد كان الطلاق منه بعد سورة الطلاق لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: (فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء)، وقد قال سبحانه في سورة الطلاق: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} (¬1). وحرص ابن عمر على السنة معلوم، وليس في الحديث ذكر أن ابن عمر قد أخرجها من بيته حتى يقال المراد "فليراجعها" الرد الحسي، وجميع طرق الحديث لم تتعرض لهذا، فاعتقاد أن ابن عمر قد أخرجها من بيته فأمره أن يرده إليه بيته دعوى لا دليل عليها، ولو أخرجها لأنكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - إخراجها من بيته، ولم يسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عمر، هل أخرجها من بيته؟ وسؤال عمر لم يتعرض لهذا، فمن أين أخذ ذلك ابن القيم رحمه الله من الحديث؟ وأما قوله في هبة الولد "رده" فهذا على حقيقته، لأنه قد أعطاه إياه فخرج من يده، فاحتاج الأمر إلى رده، وهو استعمال للفظ في حقيقته، فلا دليل فيه على مسألتنا. ولو أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "فليراجعها" صورة اللفظ ولم يرد الحقيقة ¬
الدليل الثالث
الشرعية بمعنى أن يبقيها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق أو أمسك فلماذا يأمر بإمساكها بعد مراجعتها فقد قال له - صلى الله عليه وسلم -: "مره فليراجعها ثم ليمسكها" فالمراجعة رد للمرأة لعصمته، وإمساكها إبقاء لها على عقد الزوجية، والله أعلم. أما قول ابن تيمية: بأن المراد فليراجعها: أي لا يعتزل بدنها؛ لأن العادة جرت أن المطلق يعتزل بدن المطلقة، فهو وإن كان من أحسن ما قيل إلا أن يشكل عليه أنه قال في الحديث: مره فليراجعها ثم ليمسكها. فالإمساك بعد المراجعة لا يقصد إمساك بدنها، وإنما الإبقاء على عقد الزوجية، وهذا الأمر بالإمساك جاء بعد الأمر بالمراجعة، فلو كانت زوجته لأمكنه إمساكها من غير مراجعة. والله أعلم. وأما القول: بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك لابن عمر بناء على ظنه بأن الزوجة قد طلقت فإنه بعيد جداً؛ لأن الرسول لا يمكن أن يعطي لفظاً شرعياً بناءً على فهمٍ باطل. الدليل الثالث: (414) ما رواه البخاري معلقاً وفي بعض النسخ مسنداً: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: حسبت علي بتطليقة (¬1). ¬
وجه الاستدلال: قول الصحابي - رضي الله عنه -: "حسبت" على البناء للمجهول. وفي عهد النبوة لا بد أن يكون الحاسب لذلك هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، كقول الصحابي: "أمرت"، أو "نهيت عن كذا"، في عصر الوحي فإن الآمر والناهي هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنه مرفوع حكماً، وعلى أقل أحواله أن يكون ذلك موقوفاً على ابن عمر. وهو صاحب القصة، وهو راوي الحديث فإذا قال: إنها حسبت عليَّ تطليقة كان ذلك مقدماً على قول غيره، كما أنه حين اختلف ابن عباس وميمونة، هل تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرم أو وهو حلال قدم قول ميمونة لكونها صاحبة القصة. فكذلك هنا. بل قال الحافظ في الفتح: "لا ينبغي أن يجيئ فيه الخلاف الذي في قول الصحابي: "أمرنا بكذا" فإن ذلك محله حيث يكون اطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ليس صريحاً، وليس كذلك في قصة ابن عمر، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الآمر بالمراجعة، وهو المرشد لابن عمر فيما يفعل إذا أراد طلاقها بعد ذلك، وإذا أخبر ابن عمر أن الذي وقع منه حسبت عليه بتطليقة كان احتمال أن يكون الذي حسبها عليه غير النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيد جداً مع احتفاف القرائن في هذه القصة بذلك، وكيف يتخيل أن ابن عمر يفعل في القصة شيئاً برأيه وهو ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تغيظ من صنيعه، ¬
كيف لم يشاوره فيما يفعل" (¬1). وحاول ابن القيم أن يرد الحديث باحتمال فيه غرابة، فقال رحمه الله في تهذيب السنن: "لم يذكر فاعل الحساب، فلعل أباه حسبها بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوقت الذي ألزم الناس فيه بالطلاق الثلاث، وحسبه عليهم اجتهاداً منه ومصلحة رآها للأمة، لئلا يتتابعوا في الطلاق المحرم، فإذا علموا أنه يلزمهم وينفذ عليهم أمسكوا عنه" اهـ (¬2). وتعقبه الحافظ ابن حجر في الفتح، فقال: "غفل رحمه الله عما ثبت في صحيح مسلم من رواية أنس بن سيرين، على وفاق ما روى سعيد بن جبير، وفي سياقه ما يشعر بأنه إنما راجعها في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولفظه: سألت ابن عمر عن امرأته التي طلق، فقال: طلقتها وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: مره فليراجعها، فإذا طهرت فليطلقها لطهرها. قال: فراجعتها، ثم طلقتها لطهرها. قلت: فاعتددت بتلك التطليقة. فقال: ما لي لا أعتد بها، وإن كنت عجزت واستحمقت. وعند مسلم أيضاً من طريق ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، عن سالم في حديث الباب: وكان عبد الله بن عمر طلقها تطليقة. فحسبت من طلاقها، فراجعها كما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... " الخ ما ذكره في الفتح رحمه الله (¬3). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: أن مذهب ابن عمر الاعتداد بالطلاق في الحيض، وهو صاحب القصة، وأعلم الناس بها، ومن أشدهم اتباعاً للسنن، وتحرجاً من مخالفتها. وإليك الأدلة على كون ابن عمر يرى أنها حسبت عليه بتطليقه. وأنه يرى وقوع طلاق الحائض. (415) منها ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن قتادة، قال: سمعت يونس بن جبير، قال: سمعت ابن عمر يقول: طلقت امرأتي وهي حائض، فأتى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له. فقال - صلى الله عليه وسلم -: ليراجعها، فإذا طهرت، فإن شاء فليطلقها. قال: فقلت لابن عمر، احتسبْتَ بها؟ قال: ما يمنعه، أرأيت إن عجز واستحمق. وهو في البخاري وليس فيه قوله: "ما يمنعه" وإنما فيه: "أرأيت إن عجز واستحمق" (¬1). ورواه أحمد، من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة به. وفيه: "فقلت لابن عمر: أبحسب طلاقه ذلك طلاقاً؟ قال: نعم. أرأيت إن عجز واستحمق" (¬2). [وسنده صحيح]. (416) وفي رواية لمسلم، من طريق عبد الملك، عن أنس بن سيرين قال: ¬
سألت ابن عمر عن امرأته التي طلق؟ فقال: طلقتها وهي حائض، فذكر ذلك لعمر، فذكره للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: مره فليراجعها، فإذا طهرت فليطلقها لطهرها. قال: فراجعتها ثم طلقتها لطهرها، قلت: فاعتددت بتلك التطليقة التي طلقت وهي حائض. قال: ما لي لا أعتد بها، وإن كنت عجزت واستحمقت (¬1). ورواه البخاري، ومسلم، من طريق شعبة، عن أنس بن سيرين به. وفيه: "قلت تحتسب قال: فمه؟. وفي لفظ مسلم: "أفاحتسبت بتلك التطليقه؟ قال: فمه" (¬2). قال البغوي: "أرأيت إن عجز واستحمق" معناه: أرأيت إن عجز واستحمق أيسقط عنه الطلاق حمقه، أو يبطله عجزه؟ فهذا من باب المحذوف المدلول عليه بالفحوى. اهـ (¬3). قلت: قوله (عجز) أي عن الصبر عن الطلاق حتى تطهر فيوقع الطلاق في زمن الطهر، ودفعه عجزه عن الصبر إلى وقوع الطلاق في زمن الحيض. وقوله: (واستحمق) أي فعل فعل الأحمق بمخالفة المشروع فعجزه واستحماقه لا يمنع وقوع طلاقه. وقال ابن حجر: "قوله: فمه؟ أصله: "فما" وهو استفهام فيه اكتفاء: أي فما يكون إن لم تحتسب، ويحتمل أن تكون الهاء أصلية، وهي كلمة تقال للزجر: ¬
أي كف عن هذا الكلام فإنه لا بد من وقوع الطلاق بذلك. قال ابن عبد البر: قول ابن عمر (فمه) معناه فأي شيء يكون إذا لم يعتد بها؟ إنكاراً لقول السائل: أيعتد بها، فكأنه قال: وهل من ذلك بد (¬1). وقوله: (أرأيت إن عجز واستحمق) أي إن عجز عن فرض فلم يقمه، أو استحمق فلم يأت به أيكون ذلك عذراً له؟. وقال الخطابي: في الكلام حذف: أي أرأيت إن عجز واستحمق أيسقط عنه الطلاق حمقه أو يبطله عجزه؟ وحذف الجواب لدلالة الكلام عليه". اهـ. وقد روى مسلم، من طريق الزبيدي، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر، وفيه: قال ابن عمر: فراجعتها. وحسبت لها التطليقة التي طلقتها" (¬2). وقد كان نافع وسالم وهما أحفظ من روى عن ابن عمر وأثبت من روى عنه، كانا إذا سئلا عن التطليقة التي فعلها ابن عمر هل اعتد بها قالا: نعم. فقد روى مسلم، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر قال: طلقت امرأتي على عهد رسول الله وهي حائض فذكر الحديث وفي آخره: قال عبيد الله قلت لنافع: ما صنعت تلك التطليقة؟ قال: واحدة اعتد بها (¬3). ¬
ورواه مسلم من طريق محمد (وهو ابن أخي الزهري)، عن عمه (ابن شهاب)، عن سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر قال: طلقت امرأتي وهي حائض. فذكر ذلك عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فتغيظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وذكر الحديث وفي آخره: وكان عبد الله طلقها تطليقه واحدة فحسبت من طلاقها، وراجعها عبد الله كما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ومن الأدلة على أن ابن عمر يرى وقوع طلاق الحائض، أنه كان يفتي أنه من طلق امرأته ثلاثاً في الحيض لم تحل له، ولو جاز أن تكون الطلقة الواحدة في الحيض لا يعتد بها لكانت الثلاث أيضاً لا يعتد بها قاله ابن عبد البر في التمهيد، وقال: وهذا مما لا إشكال فيه عند كل ذي فهم. اهـ (¬2). قلت: والدليل على ما قاله ابن عبد البر (417) ما رواه مسلم، قال: حدثني زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل، عن أيوب، عن نافع، أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يراجعها، ثم يمهلها حتى تحيض حيضة أخرى، ثم يمهلها حتى تطهر، ثم يطلقها قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء، فكان ابن عمر إذا سئل عن الرجل يطلق امرأته وهي حائض يقول: أما أنت طلقتها واحدة أو اثنتين إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يراجعها، ثم يمهلها حتى تحيض حيضة ¬
الدليل الخامس
أخرى، ثم يمهلها حتى تطهر، ثم يطلقها قبل أن يمسها، وأما أنت طلقتها ثلاثاً فقد عصيت ربك في أمرك به من طلاق امرأتك وبانت منك. وهو في البخاري من طريق الليث عن نافع (¬1). الدليل الخامس: (418) ما رواه الدارقطني، قال: نا عثمان بن أحمد الدقاق، نا الحسن بن سلام، نا محمد بن سابق، نا شيبان عن فراس، عن الشعبي، قال: طلق ابن عمر امرأته واحدة، وهي حائض، فانطلق عمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فأمره أن يراجعها ثم يستقبل الطلاق في عدتها، وتحتسب بهذه التطليقة والتي طلق أول مرة (¬2). [إسناده حسن] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (419) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا موسى بن هارون، ثنا إسماعيل بن إبراهيم الترجماني، ثنا سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رجلاً أتى عمر، فقال: إني طلقت امرأتي البتة، وهي حائضة، فقال عمر: عصيت ربك، وفارقت امرأتك، فقال الرجل: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر ابن عمر حين فارق امرأته أن يراجعها، فقال عمر إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يراجع بطلاق بقي له، وإنه لم يبق لك ما ترتجع به امرأتك. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث بهذا اللفظ عن عبيد الله بن عمر إلا سعيد بن عبد الرحمن تفرد به الترجماني" اهـ (¬1). [وإسناده حسن] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
قال الدارقطني: قال لنا أبو القاسم: روى هذا الحديث غير واحد ولم يذكر فيه كلام عمر، ولا أعلمه روى هذا الكلام غير سعيد ابن عبد الرحمن الجمحي (¬1). قلت: الرواة الذين رووا الحديث عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر في قصة طلاقه امرأته وهي حائض، والحديث هذا ليس فيه ذكر قصة طلاق ابن عمر، وإنما هو في قصة رجل طلق امرأته وأبانها وهي حائض، فاستفتى عمر وأفتى له بأنه قد أبان امرأته، وحين ذكر له قصة ابن عمر معترضاً بها على فتوى عمر، أخبره عمر بأن ابن عمر قد حسبت طلقته، ولكنه قد بقي له من طلاقها فالحديث في قصتين مختلفتين عندي، فلا يقال الرواة الذين رووا هذا الحديث عن عبيد الله لم يذكروا فيه كلام عمر، نعم لو كانت القصة واحدة في الحديثين، ثم زاد فيها سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، لكانت زيادته قد يحكم لها بالشذوذ إذا خالفت من هو أوثق منه، والله أعلم، إلا أن يقال: تفرد سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن بقية تلاميذ أصحاب عبيد الله يجعلها منكرة، فإن عبيد الله بن عمر لو كانت هذه القصة من حديثه لرواها أكابر أصحابه، ولمَا غفلوا عن ذكرها، والمتقدمون من أئمة الحديث ربما أعلوا الحديث بمثل هذا إذا كان المتن مما يستنكر، وإما إن كان المتن مستقيماً قبلوه، بخلاف المتأخرين فلا يعتبرون التفرد من الثقة علة في الحديث مطلقاً. والله أعلم. ¬
الدليل السابع
وفي القصة دليل من وجه آخر: وهو أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو من الخلفاء الراشدين يرى وقوع طلاق الحائض، وهو الذي راجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلاق ابن عمر، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد كلفه أن يبلغ ابنه بمراجعة زوجته، فيبعد أن يفهم عمر وابنه فهماً غير مراد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الدليل السابع: (420) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: قال: حدثنا ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فأتى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له فجعلها واحدة (¬1). [جميع رجاله ثقات، إلا أني أخشى أن يكون الحديث لما اختصر روي بالمعنى، فقد رواه جماعة عن نافع، ولم يذكروا ما ذكره ابن أبي ذئب إلا أنه قد توبع، فقد تابعه ابن جريج عن نافع] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
(421) فقد أخرجه الدارقطني، قال: أخبرنا أبو بكر، يعني النيسابوري نا عياش بن محمد، نا أبو عاصم، عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: هي واحدة (¬1). [رجاله ثقات لولا عنعنة ابن جريج وهو سند صالح لما قبله، وكما أن ¬
الدليل الثامن
متابعة الشعبي عن ابن عمر مرفوعاً عند الدارقطني بسند حسن، ورواية سعيد ابن جبير عن ابن عمر (حسبت عليه) بتطليقه تبعد احتمال شذوذ رواية ابن أبي ذئب، والله أعلم (¬1). الدليل الثامن: (422) ما رواه البيهقي: من طريق عبد الملك بن محمد الرقاشي، ثنا بشر ابن عمر، نا شعبة، عن أنس بن سيرين، عن ابن عمر، وذكر الحديث. ¬
وفيه: "فقال عمر: يا رسول الله أفتحتسب بتلك التطليقة؟ قال: نعم" (¬1). [إسنادها ضعيف]. فتبين من هذه الأدلة أن الاستدلال على وقوع الطلاق كالآتي: 1 - قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: "مره فليراجعها" وحمله على الرد الحسي أي إرجاعها إلى بيته لا يقبل. أولاً: أن اللفظ إذا جاء عن الشارع وكان له حقيقة شرعية، فإنها مقدمة على الحقيقة اللغوية والعرفية. ثانياً: لم يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل أخرجها ابن عمر من بيته حتى يطلب منه إرجاعها إلى البيت. ثالثاً: أن وقوع الطلاق من ابن عمر بعد نزول سورة الطلاق، وبعد النهي الصريح عن إخراج المطلقة من بيت الزوجية {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} (¬2). ولا نظن بابن عمر مخالفة السنة، ولو ثبت أن ابن عمر أخرجها من بيتها منعنا هذا الاحتمال لأن ابن عمر غير معصوم، ولكنه لم يثبت، فكيف يحمل اللفظ على أمر لم يتعرض له في الحديث البتة وعلى التنزل أن يقال: إن لفظ: "مره فليراجعها" يحتمل المراجعة الشرعية ويحتمل المراجعة الحسية، فإذا حملنا هذا اللفظ المتشابه، على بقية الألفاظ، وهو كون ابن عمر روى عنه مرفوعاً وموقوفاً، أنها حسبت عليه طلقة، تَعَيْن أن قولها "مره فليراجعها" المراد به ¬
المراجعة الشرعية لا غير، مع أنه من المسلم إنه إذا ورد لفظ له حقيقتان: شرعية ولغوية، قدمت الحقيقة الشرعية؛ لأن لكلام ورد على لسان الشارع، ومثله الصلاة والصيام وغيرهما مما له حقيقتان. 2 - ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عمر قال: حسبت على بتطليقة، وهو في البخاري في بعض النسخ معلقاً، وفي بعضها مسنداً (¬1)، والمعلق بالنظر إلى من أسنده فهو صحيح. وأما قولهم: لم يصرح بمن حسبها عليه، ولا حجة في قول أحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقد أجبت عليه فيما سبق، وأن قوله: "حسبت علي بتطليقة" أبلغ من قوله: "أمرنا، ونهينا". قال الحافظ: "لا ينبغي أن يجيء فيه الخلاف الذي في قول الصحابي: (أمرنا بكذا) فإن ذلك محله حيث يكون اطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ليس صريحاً، وليس كذلك في قصة ابن عمر، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الآمر بالمراجعة، وهو المرشد لابن عمر فيما يفعل إذا أراد طلاقها بعد ذلك، وإذا أخبر ابن عمر أن الذي وقع منه حسبت عليه بتطليقة كان احتمال أن يكون الذي حسبها عليه غير النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيداً جداً مع احتفاف القرائن في هذه القصة بذلك، وكيف يتخيل أن ابن عمر يفعل في القصة شيئاً برأيه وهو ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تغيظ من صنيعه، كيف لم يشاوره فيما يفعل" (¬2). 3 - ثبت عن ابن عمر مرفوعاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدها واحدة منها رواية ¬
الشعبي عن ابن عمر بسند حسن وقد تقدم ذكرها. ومنها رواية أبي داود الطيالسي بسند رجاله رجال الشيخين، عن ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً ... وتابع أبا داود الطيالسي يزيد بن هارون وابن وهب. ومنها رواية ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر، عند الدارقطني، ولا يضعفها إلا عنعنة ابن جريج، وقد توبع من ابن أبي ذئب، كما تقدم. 4 - ما ثبت عن ابن عمر موقوفاً عليه من طرق أنه عدها طلقة، وراوي القصة قوله مقدم على قول غيره، وقد أنكر على من سأله هل احتسبت عليه طلقة كيف لا تحتسب. ومنها: رواية يونس بن جبير، عن ابن عمر في الصحيحين. ومنها: رواية أنس بن سيرين في الصحيحين. ومنها: رواية سالم عن أبيه عند مسلم، قال ابن عمر: "فراجعتها وحُسِبَت لها التطليقة التي طلقتها". وكان نافع وسالم يرون أن الطلقة التي وقعت من ابن عمر حسبت عليه، وهما من أجل من روى عن ابن عمر، وقولهما ثابت في صحيح مسلم. 5 - ذكرت أن عمر يرى وقوع طلاق الحائض، وقد كان هو الذي راجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطلاق ابن عمر لزوجته، وعلم انكار الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ابن عمر فعله، ونقل كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - لابنه عبد الله، فهل يظن من عمر وابنه أن يفهما خلاف ما يريد الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
أدلة القائلين بأن طلاق الحائض لا يقع.
أدلة القائلين بأن طلاق الحائض لا يقع. استدل من قال بأن طلاق الحائض لا يقع بأدلة منها. الدليل الأول: من القرآن الكريم: قال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬1). وجه الاستدلال من الآية من وجهين: الأول: قال الشوكاني في نيل الأوطار: لم يرد - يعني الطلاق إلا المأذون فيه، فدل على أن ما عداه ليس بطلاق لما في هذا التركيب الصيغة الصالحة للحصر، أعني تعريف المسند إليه باللام الجنسية (¬2). الوجه الثاني: قال ابن القيم في زاد المعاد: أن الله سبحانه وتعالى إنما أمر بالتسريح بإحسان، والتسريح المحرم أمر ثالث غيرهما فلا عبرة به البتة (¬3). وأجيب: بأن الآية ليست في موضع النزاع، وليست الآية مسوقة هنا لبيان الوقت الذي يجوز فيه الطلاق، والوقت الذي لا يجوز ذلك فيه. والمقصود من الإمساك بمعروف، أو التسريح بإحسان، النهي عن إمساك المرأة بقصد إضرارها. ¬
الدليل الثاني
(423) فقد أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره، من طريقين بسند صحيح، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان الرجل يطلق ما شاء، ثم إن راجع امرأته قبل أن تنقضي عدتها كانت امرأته، فغضب رجل من الأنصار على امرأته، فقال لها: لا أقربك ولا تحلين مني، قالت له: كيف؟ قال: أطلقك حتى إذا دنا أجلك راجعتك ثم أطلقك، فإذا دنا أجلك راجعتك. قالت: فشكت ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى ذكره: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} اهـ. فأمر أن يكون إمساك المرأة مصحوباً بالمعروف وأن يكون تسريحها مصحوباً بالإحسان لا لقصد الإضرار بها (¬1). وروى ابن جرير الطبري مثله عن قتادة. الدليل الثاني: (424) ما رواه مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد، جميعاً، عن أبي عامر، حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري، عن سعد بن إبراهيم، قال: سألت القاسم بن محمد عن رجل له ثلاثة مساكن، فأوصى بثلث كل مسكن منها، قال يجمع ذلك كله في مسكن واحد، ثم قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد (¬2). ¬
وروى البخاري القدر المرفوع منه معلقاً (¬1). وجه الاستدلال: قال ابن القيم في تهذيب السنن: إن المطلق في الحيض، قد طلق طلاقاً ليس عليه أمر الشارع، فيكون مردوداً فلو صح ولزم لكان مقبولاً منه، وهو خلاف النص. وقوله: (فهو رد) الرد: فَعْل بمعنى المفعول، أي فهو مردود، وعبر عن المفعول بالمصدر مبالغة، حتى كأنه نفس الرد، وهذا تصريح بإبطال كل عمل على خلاف أمره ورده، وعدم اعتباره في حكم المقبول، ومعلوم أن المردود هو الباطل بعينه، بل كونه رداً أبلغ من كونه باطلاً، إذ الباطل قد يقال لما لا نفع فيه أو منفعته قليلة جداً، وقد يقال لما ينتفع به ثم يبطل نفعه، وأما المردود فهو الذي لم يجعله شيئاً ولم يترتب عليه مقصوده أصلاً (¬2). أما الاستدلال بحديث: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" فالعمل به تقديم للعام على الخاص، والذي قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" هو الذي حكم بإيقاع طلاق الحائض، وعدها طلقة، كما سقناه في أدلة القول الأول ... ثم ليس كل شيء محرم لا يصح. فالتحريم والصحة ليسا متلازمين، فقد يحرم الشيء ويصح، وقد يحرم ولا يصح. فالنهي لا يقتضي الفساد في كل الصور، إلا إذا كان عائداً لذات المنهي عنه، بخلاف ما إذا كان النهي عائداً ¬
لشرطه، أو عائداً لأمر خارج عنه، ومن الأمثلة التي تقرب هذا: تلقي الركبان منهي عنه، فإذا حصل التلقي جعل للبائع الخيار إذا أتى السوق، وثبوت الخيار فرع عن صحة البيع. وهذا الظهار قد حكم الله سبحانه وتعالى بأنه منكر من القول وزور، ومع ذلك إذا قاله الرجل ترتب على ذلك أثره، وهو تحريمه الزوجة إلى أن يُكَفَّر، فكذلك الطلاق البدعي محرم ويترتب عليه أثره إلى أن يراجع ولا فرق بينهما. فإن قيل: إن الظهار ليس له جهتان جهة حل وجهة حرمة، بل كله حرام، فإنه منكر من القول وزور، فلا يمكن أن ينقسم إلى حلال جائز وحرام باطل، فلا يتصور أن يقال منه حلال صحيح وحرام باطل. فالجواب: أن الهزل بالطلاق محرم، ومع ذلك يقع، مع أنه يوجد من الطلاق ما هو صحيح جائز، ومنه ما هو محرم، ووجود هذا التقسيم لم يمنع وقوع طلاق الهازل المحرم، فليس تقسيم الطلاق إلى جائز محرم مانعاً من وقوع المحرم فإذا وقع طلاق الهازل مع تحريمه فطلاق الجاد أولى أن يقع مع تحريمه. وقد أجاب ابن حجر على استدلال ابن القيم المتقدم بقوله: "القياس في معارضة النص فاسد الاعتبار وقد عورض بقياس أحسن من قياسه، فقال ابن عبد البر: "ليس الطلاق من أعمال البر التي يتقرب بها، وإنما هو إزالة عصمة فيها حق آدمي، فكيفما وقع أوقعه سواء أجر في ذلك أو أثم، ولو لزم المطيع ولم يلزم العاصي لكان العاصي أخف حالاً من المطيع" اهـ.
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (425) ما رواه أحمد، قال: حدثنا روح، حدثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن يسأل ابن عمر، وأبو الزبير يسمع، فقال: كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضاً؟ فقال: إن ابن عمر طلق امرأته على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليراجعها" عليَّ ولم يرها شيئاً. وقال: فردَّها، "إذا طهرت فليطلق أو يمسك" قال ابن عمر. وقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬1) قال ابن جريج: وسمعت مجاهداً يقرؤها كذلك (¬2). [الحديث صحيح، وزيادة لم يرها شيئاً زيادة شاذة] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
والجواب عن هذا الحديث: أولاً: ضعف قوله: "ولم يرها شيئاً" فقد حكم بضعفها الشافعي وأبو داود وابن عبد البر والخطابي وغيرهم. ثانياً: على فرض ثبوتها ... فإنه لا بد إما من الترجيح، أو الجمع بين هذا الحديث والأحاديث التي تدل على وقوع الطلاق. فأما الترجيح فلا شك أن الأحاديث التي تثبت وقوع الطلاق أقوى إسناداً وأكثر عدداً، وقد سقتها في أدلة القول الأول (¬1). ¬
قال الحافظ في الفتح: "وأما قول ابن عمر: إنها حسبت عليه بتطليقه، فإنه وإن لم يصرح برفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن فيه تسليم أن ابن عمر قال: إنها حسبت عليه، فكيف يجتمع مع هذا قوله: إنه لم يعتد بها، أو لم يرها شيئاً على المعنى الذي ذهب إليه المخالف، لأنه إن جعل الضمير للنبي - صلى الله عليه وسلم - لزم منه أن ابن عمر خالف ما حكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه القصة بخصوصها، لأنه قال: إنها حسبت عليه ¬
بتطليقه، فيكون من حسبها عليه خالف كونه لم يرها شيئاً. وكيف يظن به ذلك مع اهتمامه، واهتمام أبيه بسؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ليفعل ما يأمره به؟ وإن جعل الضمير في قوله: "لم يعتد بها أو لم يرها" لابن عمر لزم منه التناقض في القصة الواحدة، فيفتقر إلى الترجيح، ولا شك أن الأخذ بما رواه الأكثر والأحفظ أولى من مقابله عند تعذر الجمع عند الجمهور، والله أعلم (¬1). هذا جواب من رام الترجيح بين الأحاديث. وأما من رام الجمع بينهما، فإن الأحاديث التي تدل على وقوع الطلاق مع صحتها صريحه لا تحتمل التأويل. وأما حديث أبي الزبير "فردها علي ولم يرها شيئاً" فمحتمل للتأويل. قال ابن عبد البر: قوله: "ولم يرها شيئاً" لو صح فمعناه عندي، والله أعلم ولم يرها شيئاً مستقيماً، لكونها لم تقع على السنة. وقال الخطابي بعد أن ضعف رواية أبي الزبير: وقد يحتمل أن يكون معناه ولم يرها شيئاً تحرم معه المراجعة، أو لم يرها شيئاً جائزاً في السنة ماضياً في الاختيار إن كان لازماً له مع الكراهة. وحمله الشافعي قوله: (لم يرها شيئاً) أي لم يعدها شيئاً صواباً غير خطأ بل يؤمر صاحبه أن لا يقيم عليه، لأنه أمره بالمراجعة، ولو كان طلقها طاهراً لم يؤمر بذلك، فهذا كما يقال للرجل إذا أخطأ في فعله، أو أخطأ في جوابه لم يصنع شيئاً، ¬
الدليل الرابع
أي: لم يصنع شيئاً صواباً. هذا سبيل من رام الجمع، وفي كلا الأمرين في حال الترجيح، أو الجمع يبقى القول بوقوع الطلاق قولاً لا يمكن دفعه لكثرة رواياته. الدليل الرابع: احتج القائلون بأن طلاق الحائض لا يقع (426) بما رواه ابن حزم، بإسناده من طريق محمد بن عبد السلام الخشني، نا محمد بن بشار، نا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، نا عبيد الله بن عمر، عن نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض، قال ابن عمر: لا يعتد لذلك (¬1). وصحح إسناده الحافظ في الفتح في كتاب الطلاق: باب إذا طلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق، وهو كما قال. كما صحح إسناده ابن القيم في تهذيب السنن (¬2). وجه الاستدلال: قالوا: إن قول ابن عمر: "لا يعتد لذلك" أي لا يعتد بتلك الطلقة وإذا كان لا يعتد بها فكأنها لا شيء فلم تحتسب. ¬
وأجيب: بأن اللفظ فيه اختصار موهم، (427) فقد رواه ابن أبي شيبة، نا عبد الوهاب الثقفي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر في الذي يطلق امرأته وهي حائض قال: لا تعتد بتلك الحيضة (¬1). وأخرجه البيهقي، من طريق يحيى بن معين، نا عبد الوهاب الثقفي به، قال يحيى: وهذا غريب ليس يحدث به إلا عبد الوهاب الثقفي (¬2). فتبين أن حديث عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي هو في نفي الاعتداد بتلك الحيضة، وليس في نفي الطلاق في الحيض. ونفي الاعتداد بتلك الحيضة معناه الاعتداد في غيرها، فهو يومئ إلى وقوع الطلاق في الحيض، فلو كان لا يقع لم يحتج إلى التأكيد إلى نفي الاعتداد بتلك الحيضة؛ لأنها لن تعتد بتلك الحيضة ولا بغيرها. لكن لما كان الطلاق معتبراً أشار إلى عدم الاعتداد بتلك الحيضة التي وقع فيها الطلاق. وقد أوقع الاختصار الذي في رواية ابن حزم، أوقع ابن حزم وابن القيم إلى الجزم بأن ابن عمر قد اختلف عليه في احتساب ذلك الطلاق منه وإلى تقوية رواية أبي الزبير بهذه الرواية الموقوفة، فتبين ولله الحمد أنه لا دليل فيها، وأن ابن عمر لم يختلف عليه في وقوع الطلاق. ¬
ولو فرضنا أن قوله: "لا يعتد بها .. " أي لا يعتد بتلك الطلقة لكان معناه أنه قد اختلف على عبد الوهاب الثقفي فرواه محمد بن بشار بلفظ: "لا يعتد بها ... ". ورواه ابن أبي شيبة، ويحيى بن معين عنه: "لا يعتد بتلك الحيضة" وهما أرجح وأقوى منه حفظاً، بل كل واحد منهما بانفراده مقدم عليه مع أن حمل الرواية المجملة على الرواية المبينة هو المتعين. بل إن عبيد الله بن عمر الذي روى عنه عبد الوهاب الثقفي قوله: "لا يعتد لذلك" كان يروى عنه من قوله ومن روايته عن نافع أنها حسبت على ابن عمر. (428) فقد أخرج الدارقطني، من طريقين عن محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، نا معتمر بن سليمان، قال: سمعت عبيد الله، عن نافع، عن عبد الله أنه طلق امرأته وهي حائض تطليقة، فانطلق عمر فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك وذكر الحديث. وفيه: قال عبيد الله: وكان تطليقه إياها في الحيض واحدة، غير أنه خالف السنة (¬1). [وسنده صحيح] فهذا من قوله يدل على أنها وقعت عليه واحدة. (429) وأما ما كان من روايته عن نافع. فقد أخرجه مسلم: من طريق عبد الله بن نمير، حدثنا عبيد الله، عن نافع عن ابن عمر وذكر الحديث، قال ¬
الدليل الخامس
عبيد الله: قلت لنافع: ما صنعت التطليقة؟ قال: واحدة اعتد بها (¬1). الدليل الخامس: قال ابن القيم في تهذيب السنن: من النظر قالوا: إن مفسدة الطلاق الواقع في الحيض لو كان واقعاً لا يرتفع بالرجعة والطلاق بعدها، بل إنما يرتفع بالرجعة المستمرة التي تلم شعث النكاح وترقع خرقه، فأما رجعة يعقبها طلاق فلا تزيل مفسدة الطلاق لو كان واقعاً (¬2). وقال ابن تيمية: "لو كان الطلاق قد لزم لم يكن في الأمر بالرجعة ليطلقها طلقة ثانية فائدة، بل فيه مضرة عليهما، فإن له أن يطلقها بعد الرجعة بالنص والإجماع، وحينئذ يكون في الطلاق مع الأول تكثير الطلاق، وتطويل العدة وتعذيب الزوجين جميعاً" (¬3). وقال أيضاً: "ولو كان الطلاق المحرم قد لزم لكان حصل الفساد الذي كرهه الله ورسوله، وذلك الفساد لا يرتفع برجعة يباح له الطلاق بعدها، والأمر برجعة لا فائدة فيها مما تنزه عنه الله ورسوله؛ فإنه إن كان راغباً في المرأة فله أن يرتجعها، وإن كان راغباً عنها فليس له أن يرتجعها فليس في أمره برجعتها مع لزوم الطلاق له مصلحة شرعية بل زيادة مفسدة، ويجب تنزيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الأمر بما يستلزم زيادة الفساد" (¬4). ¬
الدليل السادس
والجواب عن هذا بأن يقال: هذا النظر ممكن أن يكون جيداً، لولا أنه في مقابلة النص، والمفسدة والمصلحة ليست عقلية محضة، والشرع مقدم على النظر القاصر، وكل نظر في مقابلة النص فهو فاسد. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا نقول لمن طلق امرأته: راجعها، وسيكون لزاماً عليك طلاقها بعد طهرها، وإنما نقول: إذا لم يراجعها، فقد وقع الطلاق مع الإثم إن كان عالماً، وإذا راجعها ورأى أن يمسكها فله ذلك إلا أنه تعد عليه طلقة. الدليل السادس: استدل ابن القيم في تهذيب السنن: على أن قول ابن عمر: "أرأيت إن عجز واستحمق" أن ابن عمر ليس عنده سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوقوع الطلاق في الحيض، لأن قوله: "أرأيت" رأي محض، وكيف يظن بابن عمر أنه يكتم نصاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الاعتداد بتلك الطلقة ثم يحتج بقوله: "أرأيت إن عجز واستحمق" وقد سأله مرة رجل عن شيء فأجابه بالنص فقال السائل: أرأيت إن كان كذا وكذا؟ قال: اجعل أرأيت باليمن (¬1). والجواب عن هذا أن ابن عمر لم يكتم النص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويعتذر لابن القيم أنه لم يقف على كثير من الروايات عن ابن عمر في التصريح بوقوع الطلاق من ذلك رواية الشعبي عن ابن عمر .. ومن ذلك ظنه تفرد ابن وهب، عن ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً، حتى شك ابن القيم في لفظ الحديث هل هو من كلام ابن وهب أم من ¬
كلام ابن أبي ذئب أم من كلام نافع، أم من كلام ابن عمر ... مع أن اللفظ صريح في الرفع، ولا يحتمل الشك وكذلك ظن تفرد ابن وهب، ولم يقف على المتابعات لابن وهب كمتابعة أبي داود الطيالسي، ويزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب به. وكذلك متابعة ابن جريج لابن أبي ذئب، وقد سقتها كلها. وأما الاستدلال بالرأي مع الدليل الشرعي، فإنه معروف في أقوال الصحابة، ولا يقدح هذا، بل إن اتفاق النظر العقلي للدليل النقلي يشرح الصدر، كما في قول إبراهيم: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (¬1) وكما قيل صحيح العقل لا يخالف صريح النقل. وكما قال أحد الصحابة للرسول - صلى الله عليه وسلم - أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيه أجر قال: "أرأيت لو وضعها في حرام أيكون عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال". (430) وروى البخاري، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تخرج العواتق وذوات الخدور، أو العواتق ذوات الخدور، والحيض، وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين، ويعتزل الحيض المصلى" قالت حفصة آلحيض؟ فقالت: أليس تشهد عرفة وكذا وكذا. والحديث رواه مسلم بنحوه دون قول حفصة (¬2). ¬
الدليل السابع
فهنا أم عطية مع احتجاجها بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكفى به حجة، احتجت بالقياس. الدليل السابع: قال ابن القيم في زاد المعاد، قال: "لا يزال النكاح المتيقن إلا بيقين مثله من كتاب أو سنة أو إجماع متيقن، فإذا أوجدتمونا واحداً من هذه الثلاثة رفعنا حكم النكاح به ولا سبيل إلى رفعه بغير ذلك" (¬1). والجواب: أننا نوافقكم على هذا الدليل، وقد أثبتنا الأدلة المتكاثرة، عن ابن عمر مرفوعاً وموقوفاً عليه بوقوع الطلاق، والمعارض لا ينهض على رد هذه الأحاديث إما لشذوذه، أو لكونه غير صريح، ويعارض هذا الدليل بمعارض آخر، أن الطلاق الأصل فيه أنه يخرج المرأة من عصمة الرجل فمن ادعى أن هناك طلاقاً لاغياً لا تأثير له فعليه الدليل. والقول بتحريمه غير كافٍ، لأن التحريم تعلقه بالإثم لا بالصحة، فالتحريم والصحة غير متلازمين. الدليل الثامن: قالوا: "إن الحكمة في منع الطلاق في الحيض أو في طهر مسها فيه أن ذلك يطيل على المرأة العدة، فإنها إن كانت حائضاً لم تحتسب الحيضة من عدتها، فستنتظر حتى تطهر من حيضها، وتتم مدة طهرها، ثم تبدأ العدة من الحيضة التالية، وإن كانت طاهراً، ومسها في الطهر فإنها لا تدري بما تعتد: أبالحيض أم ¬
بوضع الحمل إذا كانت حملت من ذلك المسيس؟ فلو كانت الروايات التي يحتج بها القائلون بوقوع طلقة ابن عمر في الحيض صحيحة لكان الأمر بمراجعتها ثم التربص بها إلى أن تطهر، ثم يطلقها إن شاء في الطهر الثاني قبل أن يمس -: أمراً بإطالة عدتها زمناً أكثر مما أريد من الرفق بها" (¬1). والجواب عن ذلك: أن يقال: قد اختلف العلماء في الحكمة من منع الطلاق في الحيض إلى ثلاثة أقوال: قال ابن تيمية: "وتنازعوا في علة منع طلاق الحائض هل هو تطويل العدة كما يقول أصحاب مالك والشافعي وأكثر أصحاب أحمد؟ أو لكونه حال الزهد في وطئها فلا تطلق إلا في حال رغبة في الوطء لكون الطلاق ممنوعاً لا يباح إلا لحاجة، كما يقول أصحاب أبي حنيفة، وأبو الخطاب من أصحاب أحمد؟ أو هو تعبد كما يقول بعض المالكية؟ على ثلاثة أقوال" (¬2). فإذا كانت العلة غير منصوص عليها، لا يجوز أن نترك النصوص المرفوعة والموقوفة عن ابن عمر في الاعتداد بتلك الطلقة لعلة مستنبطة، قد تكون هي العلة، وقد تكون العلة غيرها. ¬
الدليل التاسع
هذا من جهة، ومن جهة أخرى إذا راجعها، ثم طلقها بعد حيضتها التالية، فما دامت في عقد الزوجية لا يقال: إنها في عدة، وأن عدتها طالت، وأن الضرر قد لحقها في ذلك؛ لأنها ما زالت زوجة، لها حقوق الزوجة من النفقة والميراث، ونحوهما حتى تحيض الحيضة التالية، فيقع الطلاق، وهو غير ملزم للزوج، بل إن شاء طلق وإن شاء أمسك. والله أعلم. الدليل التاسع: أننا إذا أوقعنا الطلاق، ثم أمرناه بالمراجعة وجوباً، ثم طلق مرة ثانية، يكون وقع منه طلقتان، وهو لم يرد إلا طلقة واحدة، وتضررت المرأة بوقوع الطلقتين، وهي لا ذنب لها. وأجيب: بأن كلاً من الطلقتين قد وقعت باختيار الرجل وإرادته، فالأول طلق في زمن الحيض، وهو محرم، فكان عقوبته أن أمر بالمراجعة، والطلاق الثاني وقع أيضاً باختياره دون إكراه، وأما المرأة فالطلاق حق للرجل، وليس للمرأة. الدليل العاشر: معلوم أن الرجل إذا طلق زوجته، ثم أراد أن يراجعها كان مأموراً بالإشهاد والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر ابن عمر بالإشهاد، فهذا دليل على أنه لم يحسب ما وقع طلاقاً (¬1). ¬
روى ابن جرير الطبري في تفسيره، قال: حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال: إن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها أشهد رجلين، كما قال الله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬1) عند الطلاق وعند المراجعة. قال ابن جرير في تفسير الآية: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} أشهدوا على الإمساك إن أمسكتموهن، وذلك هو الرجعة. ذوي عدل منكم: وهما اللذان يرضى دينهما وأمانتهما (¬2). قلت: عدم النقل هنا ليس نقلاً للعدم، وما المانع أن يكون ابن عمر قد أشهد عدلين، خاصة أن عمر قد علم ذلك. ويبقى أن هذا لا يقوى أن يكون دليلاً بنفسه، فضلاً عن معارضته للأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر مرفوعاً وموقوفاً أن فعله حسب عليه طلقة. والله أعلم. فالقول الراجح أن طلاق الحائض يقع مع الإثم. والقائلون بأنه لا يقع ليس عندهم من الأدلة المرفوعة إلا حديث أبي الزبير عن ابن عمر .. ولا يجوز الأخذ به ... مع وجود ثلاثة من الحفاظ يروونه عن ابن عمر مرفوعاً بوقوع الطلاق منهم الشعبي، وسعيد ابن جبير، عن ابن عمر، وابن أبي ذئب وابن جريج كلاهما عن نافع عن ابن عمر .. فكيف ترجح رواية أبي الزبير على روايات هؤلاء. ¬
فإذا أضفت إلى هؤلاء الثلاثة، ثلاثة آخرين رووه عن ابن عمر موقوفاً بما يوافق الرواية المرفوعة أصبحوا ستة من الحفاظ منهم سالم، ونافع، وأنس بن سيرين. مع أن رواية أبي الزبير قد قدمت لها تأويلاً صحيحاً يوافق رواية الجماعة وأن قوله: "لم يرها شيئاً" أي لم يرها صواباً، أو لم يرها شيئاً جائزاً وقد أثبتنا أيضاً الخلاف على أبي الزبير في ذكرها، فقد روى الحديث حجاج بن محمد المصيصي وأبو عاصم وهما ثقتان وروايتهما في مسلم روياه عن ابن جريج عن أبي الزبير عن ابن عمر وليس فيه: "ولم يرها شيئاً" فروايتهما الموافقة لرواية الجماعة أولى بالقبول، والله أعلم. وإذا طلق الرجل في الحيض أمر بالمراجعة كما أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ابن عمر، إلا أن تكون الطلقة هي الطلقة الثالثة. وقد أطلت الكلام في هذه المسألة، وربما أعدت الكلام الواحد أكثر من مرة، لأن الفتوى عند بعض مشايخنا تخالف ما رجحت، فأردت أن أكرر الكلام ليتضح أكثر فأكثر. والله أسأل أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
الفصل الخامس: حكم الخلع في زمن الحيض
الفصل الخامس: حكم الخلع في زمن الحيض تعريف الخلع: جاء في لسان العرب: خلع امرأته خُلعاً بالضم، وخِلاعاً، فاختلعت، وخالعته: أزالها عن نفسه، وطلقها على بَذْل منها. فهي خالع. والاسم: الخُلْعة، وقد تخالعا، واختلعت منه اختلاعاً فهي مختلعة. ثم قال: وسمي ذلك الفراق خلعاً، لأن الله تعالى جعل النساء لباساً للرجال والرجال لباساً للنساء، فقال سبحانه: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (¬1) وهي ضجيعه وضجيعته، فإذا افتدت المرأة بمال تعطيه لزوجها ليبينها منه فأجابها إلى ذلك فقد بانت منه، وخلع كل واحد منهما لباس صاحبه. ثم نقل عن ابن الأثير قوله: وفائدة الخلع إبطال الرجعة إلا بعقد جديد (¬2)، وانظر تاج العروس (¬3). وأما الخلع في اصطلاح الفقهاء فقد عرفوه بألفاظ مختلفة تبعاً لاختلاف مذاهبهم في كونه طلاقاً أو فسخاً، ولذا سوف أذكر من التعاريف ما يكون صالحاً لكلا القولين. ¬
خلاف العلماء في جواز الخلع.
قال البهوتي - من الحنابلة - في الروض المربع في تعريف الخلع: "هو فراق الزوجة بعوض بألفاظ مخصوصة" (¬1). خلاف العلماء في جواز الخلع. ذهب بكر بن عبد الله المزني رحمه الله إلى أن الخلع غير جائز، وأن قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬2)، منسوخ بقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (¬3). وتعقبه ابن عبد البر بقوله: "وهذا خلاف السنة، الثابتة في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثابت بن قيس ابن شماس أن يأخذ من زوجته ما أعطاها ويخلي سبيلها. ولا ينبغي لعالم أن يجعل شيئاً من القرآن منسوخاً إلا بتدافع يمنع من استعماله وتخصيصه ثم بين ابن عبد البر أن قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬4) أي بالتراضي منهما، وحمل قوله عز وجل: {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} أي: بغير رضاها، وعلى كره منها، وإضرار بها. ¬
وبهذا صح استعمال الآيتين" اهـ. نقلاً من الاستذكار (¬1). وقال ابن حجر في الفتح، عن قول بكر بن عبد الله المزني: "تعقب مع شذوذه، بقوله تعالى في النساء أيضاً: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (¬2). وبقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا} (¬3). وبالحديث - يعني حديث ابن عباس - في قصة امرأة ثابت بن قيس - وسيأتي تخريجه - وكأنه لم يثبت عنده أو لم يبلغه، وانعقد الإجماع بعده على اعتباره وأن آية النساء مخصوصة بآية البقرة وبآيتي النساء الآخريين (¬4). القول الثاني: ذهب ابن سيرين وأبو قلابة أنه لا يحل الخلع حتى يجد على بطنها رجلاً. (431) رواه ابن أبي شيبة، قال: أنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي قلابة وابن سيرين قالا: لا يحل الخلع حتى يوجد رجل على بطنها لأن الله يقول: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬5). [وسنده صحيح] (¬6). ¬
قال ابن عبد البر: "وهذا عندي ليس بشيء، لأن الفاحشة قد تكون في البذاء والجفاء، ومنه قيل للبذي فاحش ومتفاحش وعلى أنه لو اطلع منها على الفاحشة كان له لعانها، وإن شاء طلقها، وإما أن يضارها حتى تفتدي منه بمالها فليس ذلك له. وما أعلم أحداً قال له أن يضارها ويسيء إليها حتى تختلع منه إذا وجدها تزني غير أبي قلابة" والله أعلم (¬1). وقال الله عز وجل: {إلا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (¬2) يعني: في حق العشرة، والقيام في حق الزوج، والقيام بحقها، فلا جناح عليهما فيما افتدت به. القول الثالث: وهو قول العلماء قاطبة - إلا من تقدم ذكره في القولين السابقين - أن الخلع جائز إذا خاف كل من الزوجين، أو أحدهما ألا يقيما حدود الله، قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬3). وروى البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي، حدثنا قراد أبو نوح، حدثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، ¬
ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق، إلا أني أخاف الكفر. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فتردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم. فرددت عليه، فأمره ففارقها (¬1). ¬
الفصل السادس: خلاف العلماء في خلع الحائض
الفصل السادس: خلاف العلماء في خلع الحائض الخلاف في هذه المسألة يرجع إلى الخلاف في مسألة: هل الخلع طلاق أم فسخ؟ فمن رأى أنه طلاق، صار الخلاف فيه كالخلاف في طلاق الحائض، وقد حررت مسألة طلاق الحائض في مسألة مستقلة. ومن رأى أنه فسخ، وليس بطلاق فربما لم يمانع من الخلع في زمن الحيض ولم يحرمه. ولهذا قبل الخوض في مسألة خلع الحائض، يجب أن نحرر هل خلع الحائض طلاق أم فسخ؟ ثم نأتي إلى مسألة خلع الحائض. فذهب الحنفية (¬1) والمالكية (¬2) والشافعي في الجديد (¬3) ورواية عن أحمد (¬4) إلى أن الخلع طلاق يقع به طلقة بائنة. وقيل: بل هو فسخ وليس بطلاق إلا إن نوى به الطلاق فيقع طلاقاً، وهو ¬
دليل من قال: إن الخلع طلاق مطلقا نوي أو لم ينو.
المشهور من مذهب الحنابلة (¬1) والقول القديم للشافعي (¬2). وقيل: هو فسخ مطلقاً سوى نوى به الطلاق أو لم ينو. وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله (¬3). دليل من قال: إن الخلع طلاق مطلقاً نوي أو لم ينو. الدليل الأول: (432) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أزهر بن جميل، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، حدثنا خالد، عن عكرمة عن ابن عباس: أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقبل الحديقة وطلقها تطليقه (¬4). ¬
وجه الاستدلال: لو كان مجرد قبول العوض تحصل به الفرقة ويكون فسخاً، لما أمره بطلاقها بعد قبوله الحديقة. والجواب: أن هذا الحديث يصلح رداً لمن قال: إن الخلع فسخ ولو نوى به الطلاق ما دام قد دخله المال أما من قال: إن الخلع فسخ بشرط أن لا ينوي به الطلاق فلا ¬
الدليل الثاني
يكون الحديث حجة عليه. لأن هذا قد ذكر به صريح الطلاق. قال الحافظ في الفتح: "قوله: "طلقها" يحتمل أن يراد طلقها على ذلك، فيكون طلاقاً صريحاً على عوض، وليس البحث فيه، إنما الاختلاف فيما إذا وقع لفظ الخلع أو ما كان في حكمه من غير تعرض لطلاق بصراحة ولا كناية، هل يكون الخلع طلاقاً أو فسخاً (¬1). وأجاب الشوكاني على هذا الحديث في النيل: "وأجيب بأنه ثبت من حديث المرأة صاحبة القصة عند أبي داود والنسائي ومالك في الموطأ بلفظ: "وخل سبيلها". وصاحب القصة أعرف بها. وأيضاً ثبت بلفظ الأمر بتخلية السبيل من حديث الرُّبيِّع وأبي الزبير كما ذكره المصنف" اهـ (¬2). الدليل الثاني: (433) روى الدارقطني، قال: نا أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد المصري، نا عبد الله بن وهيب الغزي، نا محمد بن أبي السري، نا رواد، أخبرنا عباد بن كثير، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الخلع تطليقة بائنة (¬3). ¬
الدليل الثالث
[إسناده ضعيف، والثابت عن ابن عباس خلافه لما سيأتي]. الدليل الثالث: (434) روى مالك في الموطأ، عن نافع، أن ربيع بنت معوذ بن عفراء جاءت هي وعمها إلى عبد الله بن عمر، فأخبرته أنها اختلعت من زوجها في زمان عثمان بن عفان، فبلغ ذلك عثمان بن عفان فلم ينكره، وقال عبد الله ابن عمر: عدتها عدة المطلقة" (¬1) [إسناده صحيح، ولكن لا حجة فيه وقد اختلف الصحابة]. الدليل الرابع: (435) روى مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن جمهان - مولى الأسلميين - عن أم بكرة الأسلمية، أنها اختلعت من زوجها عبد الله بن أسيد، فأتيا عثمان بن عفان في ذلك، فقال: هي تطليقة إلا أن تكون سميت شيئاً، فهو ما سميت (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (436) روى ابن أبي شيبة، قال: نا ابن ادريس، عن موسى ابن مسلم، عن مجاهد، قال: قال علي: إذا خلع الرجل أمر أمرأته من عنقه، فهي واحدة، وإن اختارته. [إسناده منقطع، لم يسمع مجاهد من علي] (¬1). الدليل السادس: (437) روى ابن أبي شيبة، قال: نا وكيع وابن عيينة، عن ابن أبي ليلى، عن طلحة، عن إبراهيم، عن عبد الله، قال: لا تكون تطليقة بائنة إلا في فدية أو إيلاء. ¬
أدلة القائلين بأن الخلع فسخ.
[إسناده ضعيف] (¬1). الدليل السابع: من النظر: لو كان الطلاق فسخاً لما جاز على غير الصداق كالإقالة (¬2). ويقابل هذا النظر بنظر آخر. ولو كان الخلع طلاقاً لما كان على عوض، ولو كان الفسخ طلاقاً لحق له أن يراجعها. أدلة القائلين بأن الخلع فسخ. الدليل الأول: من القرآن: قال الله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}، ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}. فهذه ثلاث تطليقات. وقال بينهم: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} فذكر الخلع من الطلاق فلو كان الخلع طلاقاً، لكان الطلاق أربعاً. وهذا من أقواها. الدليل الثاني: (438) روى ابن أبي شيبة، قال: نا ابن عيينة، عن عمرو يعني ابن دينار، عن طاوس، ¬
الدليل الثالث
عن ابن عباس قال: إنما فرقة وفسخ، وليس بطلاق، وذكر الله الطلاق في أول الآية، وفي آخرها، والخلع بين ذلك، فليس بطلاق. {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الثالث: (439) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة - أحسبه - عن ابن عباس، قال: كل شيء أجازه المال فليس بطلاق، يعني الخلع (¬3). [إسناده صحيح]. الدليل الرابع: (440) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا محمود بن غيلان، أنبأنا الفضل بن موسى، عن سفيان، أنبأنا محمد بن عبد الرحمن، وهو مولى آل طلحة، عن سليمان ابن يسار، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء، أنها اختلعت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو أمرت أن تعتد بحيضة. ¬
قال أبو عيسى: حديث الربيع، الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة (¬1). [إسناده صحيح, إلا أن المحفوظ فيه، أنها أمرت أن تعتد بحيضة، وأن الآمر لها عثمان بن عفان - رضي الله عنه -] (¬2). وله شاهد من حديث ابن عباس. (441) رواه أبو داود، حدثنا محمد بن عبد الرحيم البزاز، ثنا علي بن بحر القطان، ثنا هشام بن يوسف، عن معمر، عن عمرو بن سلم، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن امرأة ثابت بن قيس، اختلعت منه، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عدتها ¬
حيضة (¬1). ورواه هشام بن يوسف عن معمر موصولاً. رواه عبد الرزاق عن معمر مرسلاً. قال أبو زرعة عن هشام بن يوسف، وعبد الرزاق. ومحمد بن ثور: كان هشام أكبرهم، وأحفظهم، وأتقنهم (¬2). وجه الاستدلال: قال الخطابي في معالم السنن: "وهذا - يعني كون عدتها حيضة - أدل شيء، على أن الخلع فسخ، وليس بطلاق، وذلك أن الله تعالى قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬3). فلو كانت مطلقة لم يقتصر على قرء ¬
الدليل الرابع
واحد" (¬1). وقال ابن القيم في تهذيب السنن عن كون عدتها حيضة قال: "وهذا مقتضى القياس، فإنه استبراء لمجرد العلم ببراءة الرحم، فكفت فيه حيضة كالمسبية، والأمة المستبرأة، والحرة، والمهاجرة، والزانية إذا أرادت أن تنكح" اهـ. الدليل الرابع: من النظر: لو كان الخلع طلاقاً لكان فيه الرجعة (¬2). ورد: بأنه لما أخذ من المطلقة عوضاً، وكان من ملك عوض شيء خرج من ملكه، لم تكن له رجعة فيما ملك عليه، فكذلك المختلعة. الدليل الخامس: قال ابن القيم في زاد المعاد: "الذي يدل على أنه ليس بطلاق، أن الله سبحانه وتعالى رتب على الطلاق بعد الدخول الذي لم يستوف عدده ثلاثة أحكام: أحدها: أن الزوج أحق بالرجعة فيه. الثاني: أنه محسوب من الثلاث. الثالث: أن العدة فيه ثلاثة قروء. وقد ثبت بالنص والإجماع، أنه لا رجعة في الخلع، وثبت بالسنة وأقوال الصحابة أن العدة فيه حيضة واحدة. ¬
دليل من قال الخلع فسخ إلا إن نوى به الطلاق.
ثم قال: وإذا كانت أحكام الفدية غير أحكام الطلاق دل على أنها من غير جنسه، فهذا مقتضى النص والقياس، وأقوال الصحابة، ثم من نظر إلى حقائق العقود ومقاصدها دون ألفاظها يعد الخلع فسخاً بأي لفظ كان، حتى بلفظ الطلاق، ومن اعتبر الألفاظ ووقف معها واعتبرها في أحكام العقود، جعله بلفظ الطلاق طلاقاً، وقواعد الفقه وأصوله تشهد أن المرعي في العقود حقائقها ومعانيها، لا صورها وألفاظها، وبالله التوفيق، ومما يدل على هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر ثابت بن قيس أن يطلق امرأته في الخلع تطليقة، ومع هذا أمرها أن تعتد بحيضة، وهذا صريح في أنه فسخ، ولو وقع بلفظ الطلاق (¬1). ولا يظهر لي أن العدة لما كانت حيضة دل ذلك على أنه فسخ، بل لما كانت المرأة في عدتها بائنة لم تحتج أن تعتد بثلاثة قروء، فيكفى في ذلك حيضة واحدة دليلاً على براءة رحمها. والله أعلم. دليل من قال الخلع فسخ إلا إن نوى به الطلاق. الدليل الأول: الإجماع. نقل ابن حجر في الفتح، عن الطحاوي الإجماع على أنه إذا نوى بالخلع الطلاق وقع الطلاق، وأن محل الخلاف فيما إذا لم يصرح بالطلاق ولم ينوه (¬2). وذكر مثله ابن قدامة (¬3). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (442) ما رواه البخاري، قال: حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير قال حدثنا سفيان قال حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري قال أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على المنبر قال سمعت رسول الله يقول: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه (¬1). الدليل الثالث: من النظر: قال ابن قدامة: إذا نوى بالخلع الطلاق، فقد أتى بكناية الطلاق، فكان طلاقاً (¬2). ¬
الباب السابع: في أحكام الاستحاضة
الباب السابع: في أحكام الاستحاضة ويشتمل على سبعة فصول: المبحث الأول: في تعريف الاستحاضة. المبحث الثاني: في الفرق بين دم الحيض والاستحاضة الفصل الأول: في حكم المستحاضة إذا كانت مبتدأة. الفصل الثاني: خلاف العلماء في تقدير طهر المستحاضة. الفصل الثالث: في المستحاضة المعتادة. الفصل الرابع: في المرأة المستحاضة المتحيرة. الفصل الخامس: في طهارة المستحاضة. الفصل السادس: خلاف العلماء في وجوب الغسل على المستحاضة. الفصل السابع: خلاف العلماء في وطء المستحاضة.
[تمهيد]
المبحث الأول: تعريف الاستحاضة تعريف الاستحاضة لغة: جاء في اللسان: "الاستحاضة: أن يستمر بالمرأة خروج الدم بعد أيام حيضها المعتاد. يقال: استحيضت فهي مستحاضة، وهو استفعال من الحيض. وقال أيضاً: والمستحاضة: التي لا يرقأ دم حيضها، ولا يسيل من المحيض، ولكنه يسيل من عرق يقال له: العاذل. وقال أيضاً: إذا سال - يعني الدم - في غير أيامه المعلومة، ومن غير عرق المحيض قيل: استحيضت فهي مستحاضة". اهـ (¬1). وعرفه في المصباح: دم غالب ليس بالحيض (¬2). تعريف الاستحاضة في الاصطلاح: عرفها العيني من الحنفية، فقال: "اسم لما نقص عن أقل الحيض، أو زاد على أكثره" (¬3). وهذا التعريف مبني على التسليم في أن الحيض له أقل وأكثر .. وهي مسألة فيها نزاع، سبق وأن حررتها في مسائل الكتاب. ¬
وقال في الاختيار لتعليل المختار: الاستحاضة: الدم الخارج من الفرج دون الرحم (¬1). وهذا تعريف: لا أراه وافياً بالمقصود، ولا مطابقاً لما جاء عن الأطباء فإن الاستحاضة دم عرق، وقد يكون من الفرج، وقد يكون من أدنى الرحم، وقد يكون من الرحم نفسه (¬2)، المهم أن دم الاستحاضة دم مرض وعلة، فمن أين ¬
تعريف المالكية
كان مصدره، فهو غير دم الجبلة والطبيعة. تعريف المالكية: عرفها ابن رشد في المقدمات: "ما زاد على دم الحيض والنفاس. وهو دم علة وفساد" (¬1). تعريف الشافعية: قال في مغني المحتاج: "الاستحاضة دم علة يسيل من عرق من أدنى الرحم يقال له العاذل، وسواء خرج أثر حيض أو لا" (¬2). سبق أن بينت أن دم الاستحاضة أسبابه كثيرة، فقد يكون المرض من الرحم، وقد يكون المرض من الفرج، وقد يكون من أدنى الرحم أو من أقصاه، فلا يصح التحديد بأنه من أدنى الرحم. ¬
تعريف الحنابلة
تعريف الحنابلة: قال في كشاف القناع "سيلان الدم في غير أوقاته، من مرض وفساد من عرق فمه في أدنى الرحم يسمى العاذل" (¬1). العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي: قول ابن رشد فيما تقدم عن دم الاستحاضة: ما زاد على دم الحيض والنفاس فيه نظر؛ لأن العادة قد تزيد كما بيناه في باب الطوارئ على الحيض. لكن المعنى اللغوي واضح أن الاستحاضة ليست مجرد زيادة الدم على العادة. فقد جاء في اللسان: المستحاضة التي لا يرقأ دم حيضها. وقوله أيضاً: أن يستمر بالمرأة خروج الدم. فالاستحاضة في الحقيقة هي استمرار الدم على المرأة بحيث لا ينقطع عنها أبداً، أو يكون انقطاعه عنها مدة يسيرة .. ". وهذا المعنى اللغوي هو الذي تؤيده الأحاديث الشرعية ومنها حديث عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش. فقد رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: (443) جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت يا رسول الله إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفادع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك ¬
الدم، ثم صلي. وأخرجه مسلم (¬1). الشاهد قولها: إني أستحاض فلا أطهر. وقول أهل اللسان والفقه يخرج من عرق، جاء مرفوعاً، من حديث عائشة المتقدم، ومن حديثها في قصة استحاضة أم حبيبة وهو في الصحيحين رواه البخاري، ومسلم (¬2). (444) وأما تسمية أهل اللسان والفقه للعرق بالعاذل، فقد روى أبو عبيد في غريبه (¬3)، نا حجاج، عن حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس: أنه سئل عن المستحاضة، فقال: ذلك العاذل يغذو. [وسنده حسن] (¬4). قال أبو عبيد: العاذل: اسم العرق الذي يخرج منه دم الاستحاضة. وقوله: يغذو. أي يسيل. ويقال له: "عرق عاند". (445) فقد روى النسائي، قال: أخبرنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: أن امرأة مستحاضة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قيل ¬
لها: إنه عرق عاند، فأمرت أن تؤخر الظهر وتعجل العصر، وتغتسل لهما غسلاً واحداً، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل لهما غسلاً واحداً، وتغتسل لصلاة الصبح غسلاً واحداً (¬1). [الحديث وإن كان رجاله ثقات إلا أنه معلول بالإرسال، والمحفوظ أنه مرسل وسيأتي تخريجه في أحكام الاستحاضة]. (446) وأخرج أبو عبيد، قال: أنا أبو النضر، عن شعبة، عن مجاهد عن ابن عباس قال: إنه عرق عاند، أو ركضة من الشيطان (¬2). قال: وقوله: "عاند" قال أبو عبيد: العرق العاند الذي عَنَد وبغى كالإنسان يعاند عن القصد، فهذا العرق في كثرة ما يخرج من الدم بمنزلته، شبه به لكثرة ما يخرج منه على خلاف عادته. وعَنَد العرق وعَنُد: سال فلم يكد يرقأ. وأعند أنفه كثر سيلان الدم منه. ودم عاند يسيل جانباً. اهـ بتصرف (¬3). وكونه دم علة وفساد. فمعناه أنه ليس كدم الحيض، فدم الحيض دم جبلة وطبيعة يرخيه الرحم بعد البلوغ في أوقات معتادة بينما دم الاستحاضة دم عارض لمرض فكون العرق ينفجر وينزف منه الدم ذلك دليل على علة في المرأة. ¬
تعريف الاستحاضة في الطب
تعريف الاستحاضة في الطب: جاء في توصيات الندوة الثالثة للفقه الطبي المنعقدة في الكويت: أن كل دم مرضي غير سوي استحاضة. وأسبابها المرضية شتى (¬1). هذا ما تيسر في شرح تعريف الاستحاضة. ¬
المبحث الثاني: الفرق بين دم الحيض والاستحاضة
المبحث الثاني: الفرق بين دم الحيض والاستحاضة لا شك أن هناك فرقاً بين دم الحيض ودم الاستحاضة، لأن الشارع فرق بينهما في الأحكام، ولو كانا متماثلين لما فرق بينهما وسوف أسوق في هذا الفصل الفرق بين دم الحيض وبين دم الاستحاضة سواء من خلال الأحاديث المرفوعة إن أمكن، أو من كلام أهل الفقه. فالشرع صرح بأن الاستحاضة دم عرق .. إشارة إلى أن ذلك كالنزيف من هذا العرق الذي انفجر. أما الحيض فهو دم جبلة وطبيعة، والحيض في نظر الأطباء وأهل الاختصاص بأنه ينزل من الغشاء المبطن لجدار الرحم في حالة عدم حدوث إخصاب للبويضة فبعد خروج البويضة من المبيض، يتأهب الغشاء المبطن لجدار الرحم، ويستعد لاستقبال وغرس البويضة الملقحة، فإذا لم يحدث جماع يؤدي إلى إخصاب البويضة، ينهدم هذا الغشاء، وينزل على شكل دم، ولهذا أطلق على دم الحيض، بأنه دموع الغشاء المبطن لجدار الرحم حزناً لما أصابه من خيبة أمل (¬1). ومن الفروق المحسوسة بين دم الحيض ودم الاستحاضة. الأول: اللون. فدم الحيض دم يميل إلى السواد، ودم الاستحاضة أحمر يميل إلى الصفرة. ¬
(447) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا يزيد بن زريع، عن خالد، عن عكرمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: اعتكفت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة مستحاضة من أزواجه فكانت ترى الحمرة والصفرة، فربما وضعنا الطست تحتها وهي تصلي (¬1). قال ابن رجب في شرحه للبخاري: وفي حديث عائشة ما يدل على أن دم الاستحاضة يتميز عن دم الحيض بلونه وصفرته (¬2). (448) وروى ابن أبي شيبة (¬3)، قال: حدثنا إسماعيل بن عليه، عن خالد - يعني الحذاء - عن أنس بن سيرين قال: استحيضت امرأة من آل أنس، فأمروني فسألت ابن عباس، فقال: أما ما رأت الدم البحراني، فلا تصلي، وإذا رأت الطهر ولو ساعة من النهار فلتغتسل ولتصلي (¬4). [وسنده صحيح]. قال ابن الأثير: دم بحراني: شديدة الحمرة، كأنه نسب إلى البحر، وهو اسم قعر الرحم. ¬
وفي تاج العروس: دم بحراني: أي أسود، نسب إلى بحر الرحم، وهو عمقه. وقال قبل: البحر: عمق الرحم وقعرها، ومنه قيل للدم الخالص الحمرة بحراني (¬1). وقال ابن رجب: البحراني: هو الأحمر الذي يضرب إلى سواد (¬2). (449) وروى أبو داود، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا ابن أبي عدي، عن محمد - يعني: ابن عمرو - قال: حدثني ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حبيش، أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضيء وصلي (¬3). [الحديث إسناده منقطع، ومتنه منكر] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
(450) وروى الدارقطني، من طريق إبراهيم بن مهدي المصيصي، عن حسان بن إبراهيم، عن عبد الملك، عن العلاء، عن مكحول، عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أقل ما يكون المحيض عن الجارية البكر ثلاث، وأكثر ما يكون من المحيض عشرة أيام، فإذا رأت الدم أكثر من عشرة أيام فهي مستحاضة، تقضي ما زاد على أيام أقرائها، ودم الحيض لا يكون إلا دماً أسود عبيطاً تعلوه حمرة، ودم الاستحاضة رقيق تعلوه صفرة، فإن أكثر عليها في الصلاة فلتحتشي كرسفاً ... الحديث (¬1). [وفيه العلاء بن كثير وهو متروك] (¬2). وقال أبو داود: وقال مكحول: إن النساء لا يخفى عليهن الحيضة، إن دمها أسود غليظ، فإذا ذهب ذلك، وصارت صفرة رقيقة، فإنها استحاضة، فلتغتسل ولتصلي (¬3). وساقه البيهقي مسنداً إلى أبي داود، ولم أقف على سنده إلى مكحول (¬4). (451) وأخرجه الدارمي، قال: حدثنا حجاج بن نصير، ثنا قره، عن ¬
الضحاك أن امرأة سألته فقالت: إني امرأة استحاض؟ فقال: إذا رأيت دماً عبيطاً فأمسكي أيام أقرائك (¬1). [وسنده ضعيف من أجل حجاج]. الفارق الثاني: أن دم الحيض ثخين، ودم الاستحاضة رقيق. قال الشافعي في الأم: "إذا كان الدم ينفصل، فيكون في أيام أحمر قانئاً ثخيناً محتدماً، وأيامٍ رقيقاً إلى الصفرة، أو رقيقاً إلى القلة، فأيام الدم الأحمر القاني المحتدم الثخين أيام الحيض، وأيام الدم الرقيق أيام استحاضة (¬2). قال المرداوي في الحاوي: المحتدم هو الحار المحترق، مأخوذ من قولهم: يوم محتدم، إذا كان شديد الحر، ساكن الريح (¬3). قلت: جاء في تاج العروس: احتدم فلان عليه غيظاً إذا تحرق، وكذا احتدم صدره: أي تغيظ وتحرق. وفي التهذيب: كل شيء التهب فقد احتدم. واحتدم الدم: اشتدت حمرته حتى يسود. اهـ (¬4). وهذا موضع الشاهد. فإذاً المقصود بالدم المحتدم إذا كان حاراً، وقد اشتدت حمرته حتى مال إلى السواد. وقال الخرقي في مختصره كما في المغني: "فمن طبق بها الدم، فكانت ممن ¬
تميز، فتعلم إقباله، بأنه أسود ثخين منتن، وإدباره رقيق أحمر، تركت الصلاة في إقباله، فإذا أدبر اغتسلت وتوضأت لكل صلاة وصلت" (¬1). ولا أعلم دليلاً على اعتبار كونه ثخيناً إلا أن يكون الاستدلال من حيث الواقع، أما شيء مرفوع فلا أعلم. نعم جاء في كتب الأطباء ما يبين سبب ثخونة دم الحيض، وذلك أن دم الحيض ليس مجرد دم فقط، بل إن الدم ينزل ومعه قطع من الغشاء المبطن للرحم مفتتة (¬2). الفارق الثالث: الرائحة. فدم الحيض منتن، كريه الرائحة، ودم الاستحاضة لا رائحة له. وممن ذكر الرائحة فرقاً الشافعي كما في مختصر المزني، (¬3) والخرقي كما سقنا كلامه قبل قليل، وذكره ابن قدامة في المقنع (¬4). ¬
الفرق الرابع: التجمد. فدم الحيض لا يتجمد إذا ظهر، لأنه تجمد في الرحم ثم انفجر وسال فلا يعود ثانية للتجمد، وأما دم الاستحاضة فإنه دم عرق إذا ظهر تجمد (¬1). فهذه أربعة فروق ... اللون، الرقة، الرائحة، التجمد ... ولم يأت مرفوعاً إلا التفريق باللون، ولم أقف على حديث مرفوع أو أثر موقوف على اعتبار ما عداه. وحتى اللون لا يعتبر التمييز فيه فقط بالدم الأسود، بل ذكر صاحب مغني المحتاج: أن التمييز هو بين الدم القوي والضعيف، فقال: إن الأحمر ضعيف بالنسبة للأسود، وقوي بالنسبة للأشقر، والأشقر أقوى من الأصفر، والأصفر أقوى من الأكدر، وما له رائحة كريهة أقوى مما لا رائحة له، والثخين أقوى من الرقيق، فالقوي هو الحيض وما عداه استحاضة (¬2). وهذا الكلام جيد؛ لأن دم الحيض ليس مقصوراً على الأسود فقط. (452) فقد روى مالك في الموطأ، قال: عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه مولاة عائشة أم المؤمنين أنها قالت: ¬
كان النساء يبعثن إلى عائشة أم المؤمنين، بالدرجة فيها الكرسف، فيه الصفرة من دم الحيضة، فتقول لهن: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء. [وإسناده حسن] (¬1). فإن كان هناك دليل على اعتبار التمييز في غير اللون، سواء كان مرفوعاً أو موقوفاً قبلته وإلا فيقتصر على التمييز باللون فقط، وهو رأي أبي المعالي، ذكره ابن مفلح في الفروع (¬2)، وابن مفلح الصغير في المبدع (¬3). قال النووي: والوجه الثاني: أن المعتبر في القوة اللون وحده، وادعى إمام الحرمين اتفاق الأصحاب على هذا الوجه. واقتصر عليه الغزالي. والصحيح عند الأصحاب الوجه الأول. اهـ (¬4). ¬
الفصل الأول: في حكم المستحاضة إذا كانت مبتدأة
الفصل الأول: في حكم المستحاضة إذا كانت مبتدأة المبحث الأول: تعريف المبتدأة, ومتى تكون مستحاضة؟ المبتدأة: المرأة التي جاءها الحيض، ولم يتقدم لها حيض قبل ذلك (¬1). قال البهوتي من الحنابلة في كشاف القناع: "المبتدأة، التي رأت دماً، ولم تكن حاضت في سن تحيض لمثله كبنت تسع سنين فأكثر ... " اهـ (¬2). وهي في مقابلة المعتادة ... وقد اختلف الفقهاء في المبتدأة إذا استمر بها الدم متى نحكم بأنها مستحاضة؟ وذلك لاختلافهم في أكثر الحيض. فقيل: إذا استمر مع المرأة الدم إلى أن جاوز عشرة أيام فهي مستحاضة وكذا إن نقص عن ثلاثة أيام، وهو مذهب الحنفية (¬3). لأن أكثر الحيض عندهم عشرة أيام، وأقله ثلاثة أيام، وسبق مناقشة هذا ¬
القول. وقيل: إذا جاوز الدم خمسة عشر يوماً فهي مستحاضة، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وهذا مبني أيضاً على أن أكثر الحيض عندهم خمسة عشر يوماً. وقيل: المبتدأة تجلس ما تراه من الدم حتى يطبق عليها الدم، فإذا استمر معها الدم شهراً كاملاً صارت مستحاضة، وهو اختيار ابن تيمية. قال في الاختيارات: "المستحاضة تجلس ما تراه من الدم ما لم تصر مستحاضة" (¬4). وهذا مبني على أنه لا حد لأقل الحيض ولا لأكثره .. والأصل أن الحيضة تكون في الشهر لا تكون شهراً ولذا جعل الله سبحانه وتعالى عدة الحائض ثلاث حيض، وعدة المرأة التي لا تحيض ثلاثة أشهر، فكان في مقابل كل حيضة وطهر شهراً، فثلاث حيض بثلاثة أشهر، فلا يصح أن يكون الحيض مستغرقاً للشهر كاملاً، فإذا استمر معها الدم شهراً كاملاً علمنا أنها مستحاضة. وقد استعرضت في مسائل متقدمة حجة من حدد أكثر الحيض بخمسة عشر أو عشرة أيام وبينت ضعف هذه الأقوال. ¬
المبحث الثاني: خلاف العلماء في المستحاضة المبتدأة
المبحث الثاني: خلاف العلماء في المستحاضة المبتدأة عرفنا فيما سبق متى تكون المبتدأة مستحاضة؟ فإذا حكمنا عليها بأنها مستحاضة فما الحكم؟ والجواب أن نقول: المستحاضة المبتدأة قسمان: الأولى: مبتدأة مميزة: ويقصد بها أن لون دمها يتميز بعضه من بعض، فبعضه يكون أسود، وبعضه أحمر، أو بعضه يكون أحمر، وبعضه أصفر، أو بعضه يكون له رائحة كريهة وبعضه لا رائحة له على القول بالتمييز بالرائحة، فهذه تسمى مستحاضة مميزة. الثانية: مبتدأة غير مميزة: وهي التي يكون دمها على صفة واحدة لا تتغير.
الفرع الأول: خلاف العلماء في المستحاضة المبتدأة إذا كانت مميزة.
الفرع الأول: خلاف العلماء في المستحاضة المبتدأة إذا كانت مميزة. فقيل: حيضها عشرة أيام من أول ما رأت الدم، وطهرها عشرون يوماً، ولا عبرة بالتمييز وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: تعمل بالتمييز بشرط أن يكون التمييز صالحاً لأن يكون حيضاً. وهو مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، واختاره ابن القاسم (¬4)، وابن العربي من المالكية (¬5). ¬
دليل الحنفية: بأنها تجلس عشرة أيام فقط.
وكيف يكون التميز صالحاً لأن يكون حيضاً؟ يكون التمييز صالحاً بأن يكون حيضاً بأن يكون الدم الأسود لا يتجاوز أكثر الحيض، وهو خمسة عشر يوماً، عند المالكية والشافعية والحنابلة. ولا ينقص الأسود عند الشافعية والحنابلة عن أقل الحيض فإن نقص الأسود عن يوم وليلة فليس بحيض. واختار أبو يوسف: أنها تأخذ بالاحتياط. فتغتسل بعد ثلاثة أيام - أقل الحيض عنده - ثم تصوم، وتصلي بالشك، ولا يقربها زوجها حتى تغتسل بعد تمام العشرة، وتقضي صيام الأيام السبعة (¬1). دليل الحنفية: بأنها تجلس عشرة أيام فقط. قالوا: عشرة الأيام حيض، بدليل لو أن الدم انقطع لعشرة أيام فأقل كان حيضاً، فحين زاد الدم على عشرة أيام وقع الشك في كون الدم الزائد على أقل الحيض (¬2) هل يكون حيضاً أم لا، ومجرد الشك لا يخرجه عن كونه حيضا (¬3). ¬
دليل الجمهور على العمل بالتمييز.
قال السرخسي في المبسوط: "فإن جاوز - يعني الدم - العشرة، واستمر بها الدم، فحيضها عشرة أيام من أول ما رأت الدم، وطهرها عشرون يوماً، لأن أمر الحيض مبني على الإمكان، لتأييده بسبب ظاهر، وهو رؤية الدم، وإلى العشرة الإمكان موجود، فجعلناها حيضاً، وإذا انقطع بتمام العشرة كان الكل حيضاً، فزيادة السيلان لا ينتقص الحيض، وإذا كانت العشرة حيضاً فبقية الشهر وذلك عشرون يوماً طهرها، لأن الشهر يشتمل على الحيض والطهر عادة" اهـ (¬1). فالأحناف لا يرون العمل بالتمييز مطلقاً، لا في المرأة المبتدأة ولا في غيرها. دليل الجمهور على العمل بالتمييز. الدليل الأول: (453) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا ابن أبي عدي، عن محمد - يعني ابن عمرو بن علقمة - قال: حدثني ابن شهاب، عن عروة ابن الزبير، عن فاطمة بن أبي حبيش: أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان دم الحيض، فإنه أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي (¬2). [الحديث ضعيف، إسناده منقطع، ومتنه منكر] (¬3). ¬
الدليل الثاني
والمعروف من قصة استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش أنه ردها إلى العادة. الدليل الثاني: (454) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا إسماعيل بن عليه، عن خالد - يعني الحذاء - عن أنس بن سيرين قال: استحيضت امرأة من آل أنس فأمروني فسألت ابن عباس فقال: أما ما رأت الدم البحراني، فلا تصلي، وإذا رأت الطهر ولو ساعة من النهار فلتغتسل وتصلي (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). وفي اللسان (¬3)، وتاج العروس (¬4): دم بحراني: شديد الحمرة. اهـ والنسبة هنا ليست إلى البحر المعروف، ولكن إلى الرحم، فإنه يطلق البحر على قعر الرحم، ومنه قيل للدم الخالص الحمرة بحراني. وفي تاج العروس: ومن المجاز: دم بحراني: أي أسود، نسب إلى بحر الرحم وهو عمقه (¬5). وقال ابن رجب في شرح البخاري: البحراني، هو الأسود الذي يضرب إلى ¬
الدليل الثالث
سواد (¬1). وهذا الأثر عندي هو الحجة بالعمل بالتمييز، لا حديث محمد بن عمرو، وقول الصحابي حجة على الصحيح بشرطين: الشرط الأول ألا يخالف نصاً. الثاني: ألا يعارضه قول صحابي مثله. الدليل الثالث: من النظر، أن التمييز علامة قوية على التفريق بين دم العرق، وبين دم الجبلة والطبيعة، ولأن أحكام الحيض معقولة المعنى، قال تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى}، فإذا ميزت المرأة بين الأذى، وبين دم العرق عملت به. الدليل الرابع: لما فرق الشارع بين دم الحيض وبين دم الاستحاضة في الأحكام، فالأول مانع من الصلاة ومن الصيام ومن الوطء بخلاف الثاني، كان لا بد أن الدم هذا لا يشبه هذا، ولو كانا متماثلين ما فرق بينهما الشارع، لأن الشارع حكيم لا يفرق بين متماثلين ولا يجمع بين متفرقين ... وافتراقهما في الأحكام راجع إلى اختلافهما في الصفة، فهذا له صفة من لون ورقة ورائحة تختلف عن هذا فوجب العمل بالتمييز بينهما بالرجوع إلى صفتهما. دليل أبي يوسف على وجوب الاغتسال بعد ثلاثة أيام وتصوم وتقضي؟ أوجب أبو يوسف الاغتسال بعد ثلاثة أيام، لأنه يرى أن أقل الحيض ¬
ثلاثة أيام، وهذه المبتدأة من الجائز أن حيضها أقل الحيض، لأنها ليست لها عادة ممكن أن تعمل بها، فنأخذ بالاحتياط، فتغتسل بعد ثلاثة أيام - أقل الحيض عنده - ثم تصوم، وتصلي بالشك، ولا يقربها زوجها حتى تغتسل بعد تمام العشرة، وتقضي صيام الأيام السبعة احتياطاً. وهذا القول ضعيف جداً؛ لأنه مبني على أن الحيض لأقله حد، وقد بينت في فصل مستقل ضعف هذا القول، ثم هو ضعيف من وجه آخر، إذ كيف تكلف المرأة بصيام يوم واحد مرتين من غير تفريط منها، فالله لم يوجب على العباد صيام يوم واحد مرتين، ولا صيام شهر رمضان مرتين في العام.
الفرع الثاني: خلاف العلماء في المستحاضة المبتدأة إذا كانت غير مميزة
الفرع الثاني: خلاف العلماء في المستحاضة المبتدأة إذا كانت غير مميزة إذا كان دم المبتدأ المستحاضة على صفة واحدة، فقد اختلف العلماء: فقيل: تجلس عشرة أيام - أكثر الحيض عندهم - وطهرها عشرون يوماً. وهو مذهب الحنفية، ولا فرق بين كونها مميزة أو غير مميزة (¬1). وقيل: تقعد خمسة عشر يوماً ثم تكون مستحاضة (¬2). وهي رواية ابن القاسم وأكثر المدنيين عن مالك (¬3). ¬
وقيل: تقعد ما تقعد النساء من أسنانها وأترابها ولداتها (¬1)، ثم هي مستحاضة بعد ذلك، تصلي وتصوم ويأتيها زوجها إلا أن ترى دماً لا تشك فيه أنه دم حيضة. وهو رواية علي بن زياد عن مالك (¬2). وقيل: تقعد أيام لداتها ثم تستظهر بثلاثة أيام. وهي رواية ابن وهب عن مالك (¬3). وقيل: تجلس يوماً وليلة. وهو أحد القولين في مذهب الشافعية، وصححه جمهورهم (¬4). ¬
دليل من قال تجلس عشرة أيام.
وقيل: ترد إلى غالب عادة النساء، وهو ست أو سبع بالتحري. وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1)، ووجه في مذهب الشافعية (¬2). دليل من قال تجلس عشرة أيام. ذكرنا دليلهم في المبتدأة المميزة، لأنه لا فرق عندهم بين المبتدأة المميزة وغير المميزة لأنهم لا يقولون بالعمل بالتمييز مطلقاً. وهذا القول مبني على أن أكثر الحيض عشرة أيام وهو قول ضعيف. دليل من قال: تجلس خمسة عشر يوماً. وهذا القول مبني على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً،. فإذا كانت مدة الحيض خمسة عشر يوما، ورأت الدم فيه وجب أن يكون حيضاً؛ لأنه في زمن الإمكان، فتجلس المستحاضة أقصى مدة يمكن أن تحيض فيها (¬3). دليل من قال: تقعد أيام لداتها. قال الباجي في المنتقى: وجهه: أنها لما لم تكن لها عادة ترجع إليها، وجهل أمرها، وجب اعتبارها بأحوال لذاتها؛ إذ لا طريق لها إلى معرفة حالها بأكثر من ذلك، ولو كانت لها عادة لردت إليها، فإذا لم يكن لها عادة ولا تمييز فالظاهر أن ¬
دليل من قال: تقعد أيام لداتها ثم تستظهر بثلاثة أيام.
حيضها كحيض لداتها (¬1). دليل من قال: تقعد أيام لداتها ثم تستظهر بثلاثة أيام. قال الباجي في المنتقى: "وجه رواية الاستظهار، أن هذا خارج من الجسد، أريد التمييز بينه وبين غيره فجاز أن يعتبر فيه بثلاثة أيام، أصل ذلك لبن المصراة" اهـ (¬2). وقال ابن عبد البر: "احتجوا فيه من جهة النظر بالقياس على المصراة في اختلاط اللبنين، فجعلوا كذلك اختلاط الدمين، دم الاستحاضة ودم الحيض. وفي السنة من حديث ابن سيرين وغيره عن أبي هريرة أن المصراة تستبرأ ثلاثة أيام ليعلم بذلك مقدار لبن التصرية من لبن العادة، فجعلوا كذلك الذي يزيد دمها على عادتها ليعلم بذلك أحيض هو أم استحاضة؟ استبراء واستظهاراً" (¬3). (455) ويقصدون بلبن المصراة ما رواه مسلم، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا يعقوب - يعني: ابن عبد الرحمن القاري - عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من ابتاع شاة مصراة، فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها ورد معها صاعاً من تمر (¬4). وهذا من عجيب القول، وغريب القياس، فالخيار في المصراة جعل له ¬
دليل من قال: تجلس يوما وليلة.
ثلاثة أيام؛ لأنه زمن يظهر فيه أثر التصرية غالباً، ويتأكد المشتري من عيب التدليس، فأين هذا مما نحن فيه!! دليل من قال: تجلس يوماً وليلة. قالوا: لأنه أقل الحيض، فهو المتيقن، وما زاد فمشكوك فيه، ومن الجائز أن يكون حيضها أقل الحيض، فنكون قد احتطنا للعبادات الواجبة، ووجوب العبادات متيقن، وكونه حيضاً مشكوك فيه، والشك لا يرفع اليقين. دليل من قال تجلس ستة أيام أو سبعة أيام غالب عادة النساء. (456) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الملك بن عمرو، قال: ثنا زهير (يعني ابن محمد الخرساني)، عن عبد الله بن محمد (يعني ابن عقيل) بن أبي طالب، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن عمه عمران ابن طلحة، عن أمه حمنه بنت جحش، قالت: كنت استحاض حيضة شديدة كثيرة، فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استفتيه وأخبره، فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش، قالت: فقلت يا رسول الله: إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها، قد منعتني الصلاة والصيام، قال: أنعت لك الكرسف، فإنه يذهب الدم، قالت: هو أكثر من ذلك، قال: فتلجمي، قالت: إنما أثج ثجاً، قال: سآمرك بأمرين أيهما فعلت فقد أجزأ عنك من الآخر، فإن قويت عليهما، فأنت أعلم. فقال لها: إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام أو سبعة في علم الله، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستيقنت، واستنقأت فصلي أربعاً وعشرين ليلة أو ثلاثاً وعشرين ليلة، وأيامها، وصومي، فإن ذلك يجزئك،
وكذلك فافعلي في كل شهر، كما تحيض النساء وكما يطهرن بميقات حيضهن وطهرهن وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين ثم تصلين الظهر والعصر جميعاً، ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الفجر وتصلين، وكذلك فافعلي، وصلي وصومي، إن قدرت على ذلك. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وهذا أعجب الأمرين إلي (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
القول الراجح. أما القول بأنها تجلس أكثر الحيض، سواء كان عشرة أيام كما عند الأحناف، أو خمسة عشر يوماً كما عند الجمهور، فهو قول مبني على قول ضعيف وهو أن أكثر الحيض له حد ينتهي إليه. وقد ناقشت هذه المسألة في مسألة مستقلة فلا نعيده. وأما القول بأنها تجلس أقل الحيض فهذا مثله .. فليس لأقل الحيض حد، وهذه المرأة المستحاضة المبتداة لا يمكن ردها إلى العادة كما هي أحاديث الصحيحين في المستحاضة المعتادة؛ لأنه لا عادة لها، ولا يمكن ردها إلى التمييز استدلالاً بقول ابن عباس المتقدم؛ لأنه لا تمييز لها، لكن إذا كان لا يمكن ردها إلى عادتها أمكن ردها إلى عادة أختها، وأمها، وخالتها، وعمتها ... فإن شبه المرأة بأمها وأخواتها أقرب من شبه المرأة بالنساء الأجنبيات، وهذا معلوم لمن التمسه، حتى إن المرأة إذا كانت تعاني من عادتها أوجاعاً شديدة رأيت ذلك عند كثير من بناتها. ¬
الفصل الثاني: خلاف العلماء في تقدير طهر المستحاضة.
الفصل الثاني: خلاف العلماء في تقدير طهر المستحاضة. علمنا في المسألة الماضية خلاف العلماء في تقدير حيض المستحاضة سواء كان عشرة أيام كما عند الأحناف، أو خمسة عشر يوماً كما عند بعضهم، أو ستة أيام أو سبعة كما هو حيض غالب النساء، أو يوماً وليلة كما هو أقل الحيض، لكن في هذا الفصل سوف نناقش كيف نقدر طهر المستحاضة. أما إذا كانت مميزة، فقد سبق البحث فيها، ومتى يعتبر الدم الأحمر طهراً. وأما إذا كانت غير مميزة، بحيث يكون الدم صفته واحدة، فهذه تحتاج إلى أن نقدر طهرها كما قدرنا حيضها. فقيل: يقدر حيضها وطهرها في كل شهر .. على ما تقدم. فالحنفية عشرة أيام حيض، وعشرون يوماً طهراً (¬1). وقيل: يقدر حيضها بست أو سبع فالباقي من الشهر طهر. ويكون دورها أبداً ثلاثين يوماً، وهو قول في مذهب الشافعية (¬2) والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). ¬
وقيل: يقدر حيضها يوما وليلةً ففي طهرها ثلاثة أوجه: أصحها: أنه تسعة وعشرون يوماً. والثاني: يقدر بأقل الطهر، فعلى هذا دورها ستة عشر يوماً (¬1). والثالث: ترد إلى غالب الطهر، ثلاثة وعشرون يوماً أو أربعة وعشرون يوماً، وهو قول في مذهب الشافعية (¬2). أما المالكية: فلم يقدروا الطهر بالشهر، بل اعتبروا أن ترى دماً قد أقبل غير الدم الذي كان بها، فإذا لم يأتها دم غير الدم الذي كان بها فإنها تعتبر مستحاضة أبداً: أي في حكم الطاهرة يطؤها زوجها وتصوم وتصلي ولو مكثت طول عمرها (¬3). فصارت الأقوال ترجع إلى ثلاثة أقوال: ¬
دليل من قدر الحيض والطهر في الشهر مرة واحدة.
الأول: في كل شهر مرة، سواء اعتبرنا أكثر الحيض كما عند الحنفية أو أقله، وهو أصح الوجهين عند الشافعية، أو أغلبه كما عند الحنابلة، ووجه عند الشافعية. وقيل: دورتها ستة عشر يوماً. يوم وليلة حيض، وخمسة عشر يوماً استحاضة. وهو رواية عند الشافعية. وقيل: الأمر يقدر بأن يقبل دم جديد غير الدم الذي كان عليها، ولا يقدرون بالشهر. وهو مذهب المالكية. دليل من قدر الحيض والطهر في الشهر مرة واحدة. قالوا: الغالب أن المرأة تحيض في الشهر مرة واحدة، ولذلك جعلت عدة المطلقة ثلاث حيض، وللمرأة التي لا تحيض لكبر أو صغر أو غيرهما ثلاثة أشهر، فجعل في مقابل كل حيضة وطهر شهراً واحداً. وقد سبق أن نقلت كلام الأطباء في الموضوع نفسه في موضع سابق. دليل من قدر طهر المستحاضة بستة عشر يوماً. قال: إذا رددنا المرأة إلى أقل الحيض، وهو يوم وليلة، رددناها إلى أقل الطهر وهو خمسة عشر يوماً، فيكون دورها ستة عشر يوماً. ورده النووي في المجموع، فقال: وهذا في غاية الضعف، قال إمام الحرمين: هذا الوجه اتباع لفظ، وإعراض عن المعنى، لأن الرد إلى أقل الحيض إنّما كان لتكثر صلاتها، فإذا ردت إلى أقل الطهر عاجلها الحيض فقلت
دليل من قدر طهر المستحاضة بثلاثة وعشرين أو أربعة وعشرين يوما.
صلاتها (¬1). وقال أيضاً في الروضة: "وهو نص غريب للشافعي رحمه الله، ثم قال: وهو شاذ ضعيف" (¬2). دليل من قدر طهر المستحاضة بثلاثة وعشرين أو أربعة وعشرين يوماً. (457) ما رواه أحمد، عن حمنة بنت جحش رضي الله عنها مرفوعاً، وفيه: "إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام، أو سبعة في علم الله، ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أنك قد طهرت، واستيقنت واستنقأت، فصلي أربعاً وعشرين ليلة، أو ثلاثاً وعشرين ليلة، وأيامها وصومي، فإن ذلك يجزئك .... " الحديث (¬3). [واسناده ضعيف] (¬4). دليل المالكية على أن الطهر يستمر إلى إقبال دم جديد غير الدم الذي كان عليها. (458) ما رواه البخاري (331)، حدثنا أحمد بن يونس، عن زهير، قال: حدثنا هشام، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي (¬5). ¬
ويفسرون الإقبال والإدبار بأن ترى دماً قد أقبل غير الدم الذي كان عليها، فإذا أقبل بعد طهر تام فهو حيض، وكذا الإدبار. جاء في التمهيد لابن عبد البر: "أما قول مالك في المرأة التي لم تحض قط، ثم حاضت فاستمر بها الدم، فإنها تترك الصلاة إلى أن تتم خمسة عشر يوماً، فإن انقطع عنها قبل ذلك علمنا أنه حيض واغتسلت، وإن انقطع عنها لخمس عشرة فكذلك أيضاً، وهي حيضة قائمة تصير قرءاً لها. وإن زاد الدم على خمسة عشر، اغتسلت عند انقضاء الخمس عشرة، وتوضأت لكل صلاة وصلت، وكان ما بعد خمسة عشر من دمها استحاضة، يغشاها فيه زوجها وتصلي فيه وتصوم، ولا تزال بمنزلة الطاهر حتى ترى دماً قد أقبل غير الدم الذي كان بها" (¬1). قوله: "ولا تزال بمنزلة الطاهر حتى ترى دماً قد أقبل غير الدم الذي كان بها دليل على أنهم لا يحدون طهر المستحاضة وحيضتها في كل شهر مرة". وقال أيضاً: "قال محمد بن مسلمة: أقصى ما تحيض النساء عند علماء أهل المدينة مالك وغيره خمسة عشر يوماً، فإذا رأت المرأة الدم أمسكت خمسة عشر يوماً ... ثم قال: فإن تمادى بها الدم أكثر من خمسة عشر يوماً، اغتسلت عند انقضاء الخمسة عشر، وعلمنا أنها مستحاضة، فأمرناها بالغسل لأنها طاهر، وتصلّي من يومها ذلك، ولا تصلي ما كان قبل ذلك، لأنها تركت الصلاة باجتهاد في أمر يختلف فيه، وقد ذهب وقت تلك الصلاة، وقلنا: أقيمي طاهرة حتى تقبل ¬
الحيضة، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك أن تأتيها دفعة من دم تنكره بعد خمسة عشر يوماً من يوم غسلها، لأنه أقل الطهر عندنا، فإذا رأت الدفعة بعد خمسة عشر يوماً من الطهر كفت عن الصلاة ما دامت ترى الدم إلى خمسة عشر ثم اغتسلت وصلت فيما تستقبل كما ذكرنا" (¬1). الراجح من هذه الأقوال: إذا كنا قد رجحنا في المستحاضة المبتدأة غير المميزة أن تجلس قدر عادة أهل بيتها من أم أو أخت أو عمة وخالة، فإنها تجلس في الطهر كذلك مقدار طهرهن قل أو كثر، سواء كان ذلك يقدر في كل شهر مرة، أو في كل شهرين بحسب طهر قريباتها. والله أعلم (¬2). ¬
الفصل الثالث: في المستحاضة المعتادة
الفصل الثالث: في المستحاضة المعتادة تنقسم المستحاضة المعتادة إلى قسمين: - معتادة مميزة. - ومعتادة غير مميزة. والمقصود بالمعتادة: هي التي تعرف شهرها ووقت حيضها ووقت طهرها، هكذا عرفه البهوتي من الحنابلة في الروض المربع (¬1). ¬
المبحث الأول: خلاف العلماء في المستحاضة المعتادة المميزة
المبحث الأول: خلاف العلماء في المستحاضة المعتادة المميزة قيل: إذا زاد الدم على عشرة أيام ردت إلى عادتها، وما زاد فهي مستحاضة، فتجلس مقدار عادتها، ولا تعمل بالتمييز. وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: المستحاضة المعتادة التي تميز دمها فترى منه دماً أسود محتدماً منتناً، وبعضه أصفر رقيقاً، فإن الدم الأسود حيض، ولكن هل تجلس مقدار الدم الأسود، أو تجلس مقدار عادتها؟ (¬2). فقيل: تجلس من الأسود مقدار عادتها المعلومة قبل الاستحاضة، ثم تغتسل وتصلي وتبقى مستحاضة، ورجحه ابن عبد البر في الكافي (¬3). ¬
وقيل: إن استمر بها الدم الأسود جلست مقدار عادتها واستظهرت بثلاثة أيام ثم اغتسلت وصلت، وإن لم يستمر بها الدم الأسود جلست مقدار عادتها فقط ثم هي مستحاضة، ورجحه الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (¬1). وقيل: إن استمر بها الدم الأسود جلست إلى تمام خمسة عشر يوماً ثم هي مستحاضة، ثم بعد ذلك إن استمر بها الدم على صفة واحدة لم يتميز فهي مستحاضة في حكم الطاهرة، ولو مكثت عمرها كله هكذا، وإن تميز دمها فإن كان بعد طهر تام فالمميز حيض تجلسه على التفصيل السابق (¬2). هذا تفصيل الأقوال في مذهب مالك (¬3). ¬
والمقصود بالطهر التام، أن يبلغ أقل الطهر عندهم، وقد ذكرنا الأقوال في مذهب المالكية في أقل الطهر في مسألة مستقلة، أشهرها أنه خمسة عشر يوماً. وقيل: تعمل بالتمييز، ولا تعمل بالعادة إلا إن وافقت العادة التمييز، وهو مذهب الشافعية (¬1). وقيل: تعمل بالعادة ولا تعمل بالتمييز، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وهو وجه في مذهب الشافعية (¬3). فصارت الأقوال في المستحاضة المعتادة المميزة على قولين: الأول: العمل بالعادة وحدها دون التمييز. وهو مذهب الحنفية، والحنابلة، ووجه في مذهب الشافعية. وقيل: العمل بالتمييز. ¬
دليل من قال: تعمل المستحاضة بالعادة دون التمييز.
وهو المشهور من مذهب المالكية والشافعية على خلاف بينهم هل تمكث التمييز فقط، أو تمكث من الأسود مقدار عادتها فقط. دليل من قال: تعمل المستحاضة بالعادة دون التمييز. الدليل الأول: (459) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن أبي رجاء، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: سمعت هشام بن عروة قال: أخبرني أبي عن عائشة، أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: إني استحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال: لا. إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي" (¬1). ورواه البخاري، من طريق مالك عن هشام به. وفيه: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما ذلك عرق، وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، وإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي" (¬2). ورواه ابن حبان في صحيحه بسند صحيح من طريق أبي عوانة عن هشام به، وفيه: "تدع الصلاة أيامها" (¬3). ورواه ابن حبان أيضاً، من طريق أبي حمزة عن هشام به، وفيه: "ليس ذاك بحيض ولكنه عرق فإذا أقبل الحيض فدعي الصلاة عدد أيامك التي كنت ¬
الدليل الثاني
تحيضين فيه .. " (¬1) الحديث (¬2). فهذا الحديث في قصة فاطمة بنت أبي حبيش صريح في ردها إلى العادة، ولو كان التمييز مؤثراً لسألها الرسول - صلى الله عليه وسلم -: هل أنت تميزين دم حيضتك من دم استحاضتك، فعلم أن التمييز لا أثر له مع كون المرأة لها عادة معلومة. الدليل الثاني: (460) ما رواه مسلم، قال رحمه الله: حدثنا محمّد بن رمح، أخبرنا الليث (ح) وحدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن جعفر، عن عراك، عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن أم حبيبة سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدم؟ فقالت عائشة: رأيت مركنها ملآن دماً، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي (¬3). الدليل الثالث: (461) ما رواه مالك في الموطأ، عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن امرأة كانت تهراق الدماء في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك ¬
الدليل الرابع
من الشهر، فإذا خلفت ذلك فلتغتسل، ثم لتستثفر بثوب، ثم لتصلي (¬1). [والحديث، وإن كان رجاله ثقات، إلا أنه أعل بالانقطاع، وفي إسناده اضطراب] (¬2). الدليل الرابع: (462) ما رواه الطبراني في الصغير، قال: حدثنا يونس بن محمد أبو جعفر الرازي، قاضي البصرة، حدثنا العباس بن محمّد الدوري، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا أيوب أبو العلاء، عن عبد الله بن شبرمة القاضي عن قمير امرأة مسروق، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في المستحاضة: تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل مرة، ثم تتوضأ إلى مثل أيام أقرائها، فإن رأت صفرة انتضحت، وتوضأت، وصلت. قال الطبراني: لم يروه عن ابن شبرمة إلا أيوب أبو العلاء تفرد به يزيد ابن هارون (¬3). ¬
[المحفوظ وقفه على عائشة، ورفعه شاذ] (¬1). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (463) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا مورع بن عبد الله، ثنا الحسن بن عيسى، ثنا حفص بن غياث، عن العلاء بن المسيب، عن الحكم بن عتيبة، عن جعفر، ¬
الدليل السادس
عن سودة بنت زمعة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تجلس فيها ثم تغتسل غسلاً واحداً، ثم تتوضأ لكل صلاة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل السادس: (464) روى الطبراني في الأوسط (¬3)، وفي الصغير (¬4)، قال: حدثنا إبراهيم بن أيوب الواسطي، قال: حدثنا وهب بن بقية (¬5)، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، أن فاطمة بنت قيس قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المستحاضة، قال: تعتد أيام أقرائها ثم تغتسل كل طهر، ثم تحتشي وتصلي". قال الطبراني: لم يروه عن ابن جريج إلا جعفر. [إسناده ضعيف من أجل عنعنة ابن جريج، فإنه مدلس مكثر، وكذا عنعنة أبي الزبير عند من عده مدلساً مكثراً، وهو صالح في الشواهد] (¬6). ¬
الدليل السابع
وفاطمة بنت قيس هذه، هي فاطمة بنت أبي حبيش، فإن أبا حبيش اسمه قيس بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي، ذكر هذا النسب صاحب تهذيب الكمال (¬1). الدليل السابع: (465) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمّد بن جعفر بن زياد، حدثنا عثمان ابن أبي شيبة، قال: ثنا شريك عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت عن ¬
دليل من قال: تعمل بالتمييز ولا عبرة بالعادة.
أبيه, عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المستحاضة: تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتصلي والوضوء عند كل صلاة (¬1). [والحديث إسناده ضعيف جداً]. هذه الأدلة كلها تحيل الاستحاضة إلى العادة، والدليل الأول وحده كافٍ، فإنه في الصحيحين، وكذا الدليل الثاني في مسلم. دليل من قال: تعمل بالتمييز ولا عبرة بالعادة. الدليل الأول: (466) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن يونس، عن زهير قال: حدثنا هشام، عن عروة، عن عائشة قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي (¬2). ورواه مسلم، من طريق وكيع عن هشام به، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله: إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال: إنما ذلك عرق، وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي (¬3). ¬
قال الحافظ في الفتح: في الحديث دليل على أن المرأة إذا ميزت دم الحيض من دم الاستحاضة، تعتبر دم الحيض، وتعمل على إقباله وإدباره، فإذا انقضى قدره اغتسلت عنه، ثم صار حكم دم الاستحاضة حكم الحدث (¬1). وقال ابن رجب في شرح البخاري: وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فقد اختلف العلماء في تأويله، فتأوله الأكثرون، منهم مالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، على أن المراد به اعتبار التمييز، وأن هذه المستحاضة كان دمها متميزاً، بعضه أسود وبعضه غير ذلك، فردها إلى زمن دم الحيض، وهو الأسود الثخين، فإذا أقبل ذلك الدم تركت الصلاة، فإذا أدبر وجاء دم غيره، فإنها تغتسل وتصلي اهـ (¬2). فإذاً الجمهور يفسر أن قوله في الحديث: "فإذا أقبلت الحيضة، وإذا أدبرت" أن المقصود بإقباله عن طريق التمييز، أي فإذا أقبل الدم الأسود فاتركي الصلاة، وإذا أدبر الدم الأسود فاغتسلي وصلي. والصحيح أن المقصود بالإقبال ليس إقبال الدم الأسود، بل إقبال العادة والإدبار إدبارها، فيكون معنى الحديث، فإذا أقبل وقت العادة حملاً على الروايات الأخرى ... فإن الحديث هو حديث عائشة في قصة استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش ومداره على هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. فرواه مالك عن هشام وفيه: ¬
"فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي" (¬1). وهذا ظاهره اعتبار العادة. ورواه أبو أسامة عن هشام في البخاري: "ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها" (¬2). ورواه ابن حبان، من طريق أبي عوانة عن هشام به، وفيه: "تدع الصلاة أيامها" (¬3). وقوله: "فإذا أقبلت وإذا أدبرت" لا يلزم منه العمل بالتمييز، فقد روى ابن حبان أيضاً حديث فاطمة بنت أبي حبيش، من طريق أبي حمزة السكري عن هشام به، وفيه: "فإذا أقبل الحيض فدعي الصلاة عدد أيامك التي كنت تحيضين فيها، فإذا أدبرت فاغتسلي وتوضي لكل صلاة" (¬4). فهنا أمرها إذا أقبل الحيض أن تجلس مقدار عادتها، وعليه فيفهم من قوله: "فإذا أقبلت، وإذا أدبرت" أنه لا يعارض العمل بالعادة المستقرة، وكوننا نجمع بين الروايات المختلفة أولى من كوننا نعتبر بعض الروايات تردها إلى العادة وبعضها تردها إلى التمييز، مع أن القصة واحدة، واحتمال التعدد بعيد (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: مما يستدل به على تقديم التمييز على العادة (467) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمّد بن المثنى، حدثنا ابن أبي عدي، عن محمّد - يعني ابن عمرو - قال: حدثني ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي (¬1). [والحديث إسناده منقطع، ومتنه منكر]، وسبق تخريجه في المستحاضة المبتدأة. والمعروف في قصة فاطمة بنت أبي حبيش أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ردها إلى العادة. وقد ضعفه النسائي، وأبو حاتم، وابن القطان، والباجي في المنتقى شرح الموطأ، ومن حسنه ظن أن حديث عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش بلفظ: "فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي" ظن أنه يشهد له من العمل بالتمييز، وقد بينا أن المراد فإذا أقبلت أي العادة، وإذا أدبرت: أي العادة أيضاً، وليس المراد إذا أقبل وأدبر الدم الأسود، جمعاً بينه وبين ¬
الدليل الثالث
الألفاظ الأخرى في الحديث. والله أعلم. الدليل الثالث: (468) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا إسماعيل بن علية، عن خالد - يعني الحذاء - عن أنس بن سيرين، قال: استحيضت امرأة من آل أنس، فأمروني فسألت ابن عباس، فقال: أما ما رأت الدم البحراني فلا تصلي، وإذا رأت الطهر ولو ساعة من النهار - فلتغتسل وتصلي (¬1). [إسناده صحيح]، وسبق ذكره. والجواب: إما أن يقال: هذا موقوف، ولا يعارض به ما كان مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما أن يقال: نقبله في المرأة المبتدأة المميزة التي لا عادة لها، وكذا من نسيت عادتها، وأما المرأة المعتادة فلا يمكن أن نقدم قول ابن عباس على قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد رد فاطمة بنت أبي حبيش إلى عادتها. الدليل الرابع: قالوا إن العمل بالتمييز أولى من العمل بالعادة، لأن العادة قد تختلف، والتمييز لا يختلف، ولأن النظر إلى اللون اجتهاد، والنظر إلى العادة تقليد، والاجتهاد أولى من التقليد (¬2). وهذا النظر هو في مقابلة النص فيكون نظراً فاسداً، وكل نظر في مقابلة ¬
الدليل الخامس
النص الشرعي فهو مطروح. الدليل الخامس: قالوا: إن دم الحيض موصوف بأنه أذى، وهو يختلف عن دم العرق الذي هو دم الاستحاضة بصفته، ولو كانت صفتهما واحدة لما فرق الشارع بينهما في الأحكام، فإذا رأت الدم الموصوف بالأذى رأت لونه ورائحته، وثخونته، وجب أن تعمل به، خاصة وأن الحيض من الأحكام المعقولة المعنى؛ لأن الله وصفه بكونه أذى، فوجب ترك الصلاة إذا رأت ما تعرفه المرأة من دم الحيض ولو خالف عادتها. وأجيب: بأن هذا النظر ممكن أن يكون جيداً لولا أنه في مقابلة النص، وكل نظر يصادم النص فهو نظر قاصر وإن كان قد يبدو في الظاهر خلاف ذلك، وممكن أن يقال: إن هذه المرأة المستحاضة اختلط دم حيضها بدم استحاضتها، فتركت العمل بالدم وحكمت العادة بصرف النظر عن لون الدم ورائحته ... والله أعلم. دليل المالكية على أنها إذا كانت مميزة جلست منه قدر عادتها، وإن لم تكن مميزة فهي طاهر أبداً. جمعوا بين روايات حديث عائشة في قصة استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي"، حملوه على التمييز، فإذا ميزت دم الحيض من دم
الاستحاضة صارت حائضاً، وتجلس مقدار العادة عملاً بحديث: "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك". فحتى نعمل بكلا اللفظين فيقال: إذا تميز دم الحيض من دم الاستحاضة فأنت حائض، واجلسي من هذا الدم الأسود مقدار عادتك فقط. وقد جاءت رواية تجمع بينهما بين العمل بالتمييز، وبين الجلوس مقدار العادة، (469) وهو ما رواه ابن حبان (¬1)، من طريق علي بن الحسن بن شقيق، قال: أخبرنا أبو حمزة، عن هشام بن عروة، عن أبيه. عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله إني استحاض الشهر والشهرين؟ قال: ليس ذاك بحيض، ولكنه عرق، فإذا أقبل الحيض فدعي الصلاة عدد أيامك التي كنت تحيضين فيها، فإذا أدبرت فاغتسلي وتوضئي لكل صلاة (¬2). فقوله "فإذا أقبل الحيض" أي أقبل الحيض بلونه، ورائحته وثخونته وهذا عمل بالتمييز، ومعناه إذا لم يقبل ولم يتميز فأنت طاهر أبداً. وقوله: "فدعي الصلاة عدد أيامك" أي فإذا تميز دم الحيض من دم الاستحاضة فاجلسي من الدم الأسود المنتن مقدار عادتك السابقة فقط لا مقدار ¬
الدم الأسود. القول الراجح: الراجح من هذه الأقوال والله أعلم القول الأول، وأن المستحاضة المعتادة تعمل بعادتها ولا تعمل بالتمييز.
المبحث الثاني: خلاف العلماء في المستحاضة المعتادة غير المميزة
المبحث الثاني: خلاف العلماء في المستحاضة المعتادة غير المميزة إذا كانت المستحاضة المعتادة غير مميزة، بحيث يكون دمها على صفة واحدة، لا يتميز بعضه من بعض على الصحيح. أو يكون الدم الذي يصلح للحيض ينقص عن أقل الحيض أو يزيد على أكثره عندهم (¬1). فقيل: تجلس مقدار عادتها ثم تغتسل وتصلي. وهو المشهور من مذهب الحنفية (¬2) والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4). وأما مذهب مالك فيمن استمر معها الدم وكانت معتادة عدة روايات. الراوية الأولى: أنها تجلس عادتها، وتستظهر بثلاثة أيام، ومحل الاستظهار بالثلاثة ما لم تجاوز نصف الشهر، فمن اعتادت نصف الشهر فلا استظهار عليها، ومن عادتها أربعة عشر يوماً استظهرت بيوم واحد فقط، ومن كانت عادتها سبعة أيام استظهرت بثلاثة فقط، ثم اغتسلت وصامت وصلت. ¬
هذا قول مالك، وأصل مذهبه، والمذكور في المدونة (¬1). وبقي في مذهب مالك عدة روايات. قيل: تقعد إلى تمام خمسة عشر يوماً ثم هي مستحاضة (¬2). وقيل: تقعد عادتها بدون استظهار ثم تغتسل وتصلي. وهذا قول محمّد بن مسلمة (¬3). وقيل: تقعد أيامها المعتادة ثم تغتسل وتصلي وتصوم، ولا يأتيها زوجها، فإن انقطع الدم ما بينها وبين خمسة عشر يوماً علم أنها حيضة، وانتقلت إليها، ولا يضرها ما صامت وصلت فيه، وإن تمادى بها الدم على خمسة عشر يوماً علم ¬
دليل الجمهور على اعتبار العادة.
أنها كانت مستحاضة، وأن ما مضى من الصلاة والصيام كان في موضعه. فإن استمر الدم لا يتميز بعد أن جلست ما جلست على التفصيل السابق فهي مستحاضة أبداً تصلي وتصوم حتى يتميز دمها، فإن تميز أصبحت مستحاضة معتادة مميزة وقد نقلنا الأقوال فيها في مسألة مستقلة (¬1). هذا ملخص أقوال مالك. دليل الجمهور على اعتبار العادة. الدليل الأول: (470) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن أبي رجاء، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: سمعت هشام بن عروة، قال: أخبرني أبي، عن عائشة رضي الله عنها أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال: لا. إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي صلي (¬2). الدليل الثاني: (471) ما رواه مسلم، قال رحمه الله تعالى: حدثنا محمّد بن رمح، أخبرنا الليث (ح) وحدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن جعفر، عن عراك، عن عروة، ¬
دليل من قال: تجلس عادتها وتستظهر بثلاثة أيام.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن أم حبيبة سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدم؟ فقالت عائشة: رأيت مركنها ملآن دماً، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي. وفي الباب حديث أم سلمة، وسودة، وجابر، وثابت الأنصاري عن أبيه، سقناه في المسألة التي قبل هذه وتكلمت عليها صحة وضعفاً. دليل من قال: تجلس عادتها وتستظهر بثلاثة أيام. الدليل الأول: (472) ما رواه البيهقي، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر ابن إسحاق الفقيه، ثنا إبراهيم بن إسحاق، ثنا ابن عبد الملك - يعني: محمداً - ثنا الفريابي، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن حرام بن عثمان، عن ابن جابر، عن أبيه، أن ابنة مرشد الأنصارية، أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: تنكرت حيضتي. قال: كيف؟ قالت: تأخذني، فإذا تطهرت منها عاودتني، قال: فإذا رأيت ذلك فامكثي ثلاثاً (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني من القياس: قال ابن عبد البر في الاستذكار (¬1): جعل الاستظهار بثلاثة أيام ليستبين منها انفصال دم الحيض من دم الاستحاضة استدلالاً بحديث المصراة؛ إذ حَدَّ فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام في انفصال اللبن: لبن التصرية من اللبن الطارئ. والقول بالاستظهار قول ضعيف، ولا يعرف قائل به من الأئمة غير مالك. اهـ (¬2) ¬
وقد استدل ابن عبد البر بحديث عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش: "فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي". على تضعيف القول بالاستظهار. قال في الاستذكار: "الحديث فيه رد على من قال بالاستظهار، لأنه أمرها إذا علمت أن حيضتها قد أدبرت، وذهبت أن تغتسل وتصلي ولم يأمرها أن تترك الصلاة ثلاثة أيام لاستظهار حيض يجيء أو لا يجيء، والاحتياط إنما يجب في عمل الصلاة، لا في تركها ثلاثة أيام. ولا يخلو قوله عليه السلام في الحيضة "فإذا ذهب قدرها" أن يكون أراد انقضاء أيام حيضها لمن تعرف الحيضة وأيامها، أو يكون أراد انفصال دم الحيض من دم الاستحاضة لمن تميزه، فأي ذلك كان فقد أمرها عند ذهاب حيضتها أن تغتسل وتصلي، ولم يأمرها باستظهار" (¬1). وقال أيضاً: "السنة نفي الاستظهار، لأن أيام دمها جائز أن تكون استحاضة وجائز أن تكون حيضاً، والصلاة فرض بيقين، فلا يجوز أن تدعها ¬
دليل من قال: تقعد المستحاضة المعتادة خمسة عشر يوما
حتى تستيقن أنها حائض. وذكروا أن مالكاً وغيره من العلماء قالوا: لأن تصلي المستحاضة وليس عليها ذلك، خير من أن تدع الصلاة، وهي واجبة عليها؛ لأن الواجب الاحتياط للصلاة فلا تترك إلا بيقين لا بالشك فيه" اهـ (¬1). دليل من قال: تقعد المستحاضة المعتادة خمسة عشر يوماً: هذا القول مبني على مسألة خلافية. وهو أن الحيض لا يمكن أن يتجاوز خمسة عشر يوماً. وقد فصلت الخلاف في هذه المسألة، وبينت الراجح وأن الحيض لا حد لأكثره. وإذا كان ذلك كذلك فإن هذا القول مبني على قول ضعيف فيكون ضعيفاً. الراجح: قول الجمهور، وأن المرأة تجلس مقدار عادتها. والأحاديث في هذا صريحة. ¬
الفصل الرابع: في المرأة المستحاضة المتحيرة
الفصل الرابع: في المرأة المستحاضة المتحيرة المرأة المستحاضة المتحيرة لها ثلاثة أحوال: الأول: المتحيرة في العدد. وهي التي نسيت عدد أيامها في الحيض، مع علمها بمكان العادة من كل شهر. الثاني: المتحيرة في المكان. وهي التي علمت عدد حيضها ونسيت مكانها. الثالث: المتحيرة بهما، وهي التي نسيت عدد عادتها، ونسيت مكانها. والمتحيرة وتوصف بالمتحيرة بصيغة اسم الفاعل، لأنها تحير المفتي، وبصيغة اسم المفعول، لأنها تحيرت بسبب نسيانها. ومسائل المحيرة من أصعب مسائل الحيض وأدقها، ولها صور كثيرة، وتفريعات دقيقة، كلها أو جلها بنيت على الآراء المحضة حتى قال النووي: بأن الدارمي صنف فيها مجلداً ضخماً ليس فيه غير مسألة المتحيرة، وتقريرها (¬1). ولو أتينا على هذه التفريعات المرجوحة لكان هذا عيباً في الكتاب، وصارفاً لطلبة العلم من الاستفادة منه. ويكفينا من هذه الأقوال المرجوحة أن نأتي على ذكرها بأشد ما يكون الاختصار. لأن إهمالها قد ينتقد والتفصيل فيها كذلك ولقد ¬
أحسن الشوكاني عندما قال في النيل: "وقد أطال المصنفون في الفقه الكلام في المستحاضة، واضطربت أقوالهم اضطراباً يبعد فهمه على أذكياء الطلبة فما ظنك بالنساء الموصوفات بالعي في البيان، والنقص في الأديان، وبالغوا في التعسير حتى جاءوا بمسألة المتحيرة فتحيروا، والأحاديث الصحيحة قد قضت بعدم وجودها، وذلك لأن بعضها ظاهر في معرفتها إقبال الحيضة وإدبارها، وبعضها صريح في أن دم الحيض يعرف ويتميز عن دم الاستحاضة فطاحت مسألة المتحيرة، ولله الحمد" اهـ (¬1). ¬
المبحث الأول: خلاف العلماء في المستحاضة المتحيرة بالعدد
المبحث الأول: خلاف العلماء في المستحاضة المتحيرة بالعدد المتحيرة بالعدد،: هي التي نسيت عدد أيامها في الحيض، مع علمها بمكان العادة من كل شهر. القول الأول: مذهب الحنفية. قسموا المستحاضة المتحيرة في العدد فقط إلى قسمين: الأول: إذا نسيت عدد أيامها، وعلمت أن الحيض يأتيها في كل شهر مرة فهذه يجب عليها أن تجلس أقل الحيض ثلاثة أيام بلياليها من أول الاستمرار لتيقنها بالحيض فيها.، وتغتسل سبعة أيام لكل صلاة لتردد حالها فيها بين الحيض، والطهر، والخروج وإنما قالوا سبعة أيام، لأنه مع الثلاثة أيام تكون قد بلغت أكثر الحيض وهو عشرة أيام، ثم تتوضأ عشرين يوماً لوقت كل صلاة لتيقنها فيها بالطهر ويأتيها زوجها. الثاني: أن تنسى عدد أيامها، ولا تعلم أن الحيض يأتيها في كل شهر مرة فلا تدري كم دورتها. ففيها وجهان: الوجه الأول: لا تعلم عدد حيضها، ولا عدد طهرها. فهذه تعمل ما يلي: تدع الصلاة أقل الحيض ثلاثة أيام، لأنه حيض بيقين. ثم تصلي سبعة أيام بالاغتسال لكل صلاة بالشك لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر، والخروج من الحيض .. ولا يأتيها زوجها في هذه العشرة أيام،
ثم تصلي ثمانية أيام بالوضوء لوقت كل صلاة، ويأتيها زوجها فيها، لأنها بيقين الطهر في هذه الثمانية، فإنه إن كان حيضها ثلاثة أيام، فهذا آخر طهرها، وإن كان حيضها عشرة فهذا أول طهرها. ثم تصلي ثلاثة أيام بالوضوء بالشك لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر ولا يأتيها زوجها، فبلغ الحساب واحداً وعشرين يوماً. ثم تصلي بعد ذلك بالاغتسال لكل صلاة بالشك، لأنه لم يبق لها يقين بالطهر ولا بالحيض بعد هذا، فما من ساعة بعد هذا إلا ويتوهم أنه وقت خروجها من الحيض إما بالزيادة في حيضها على الثلاثة، أو في طهرها على خمسة عشر. الوجه الثاني: لا تعلم عدد حيضها، وتعلم عدد طهرها. مثاله: امرأة تعلم أن عدد طهرها خمسة عشر، ولا تدري كم حيضها، فيلزمها ما يلي: - تترك الصلاة من أول الاستمرار ثلاثة أيام لكونها أقل الحيض، لأنه حيض بيقين. - ثم تصلي سبعة أيام بالاغتسال لكل صلاة بالشك لتردد حالها بين الحيض والطهر والخروج من الحيض، ولا يأتيها زوجها في هذه العشرة أيام. - ثم تصلي ثمانية أيام بالوضوء لوقت كل صلاة ويأتيها زوجها، لأنها بيقين الطهر في هذه الثمانية أيام. فإنه إن كان حيضها ثلاثة أيام فهذا آخر طهرها، وإن كان عشرة فهذا أول طهرها.
- ثم تصلي ثلاثة أيام بالوضوء بالشك. فبلغ ذلك واحداً وعشرين يوماً، ولو كان حيضها ثلاثة فابتداء طهرها الثاني بعد واحد وعشرين يوماً، (¬1) وإن كان حيضها عشرة فابتداء طهرها الثاني بعد خمسة وثلاثين (¬2)، ففي هذه الأربعة عشر تصلي بالاغتسال لكل صلاة بالشك لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر والخروج من الحيض، ثم تصلي يوماً واحداً بالوضوء لوقت كل صلاة، بيقين الطهر وذلك بعدما تغتسل عند تمام خمسة وثلاثين يوماً، لأن في هذا اليوم يقين الطهر، ثم تصلي ثلاثة أيام بالوضوء بالشك لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر، ثم تغتسل بعد ذلك لكل صلاة أبداً؛ لأنه لم يبق لها يقين في شيء بعدها فما من ساعة إلا ويتوهم أنه وقت خروجها من الحيض (¬3). القول الثاني: المذهب الشافعي: المذهب الشافعي في المرأة المستحاضة الناسية لعددها الذاكرة لمكانها كالتالي: إذا تيقنت الحيض أو الطهر، فاليقين له حكمه. ¬
وإذا كان الزمن يحتمل الحيض والطهر، فإنها تصلي بالوضوء لكل صلاة. ويسمى حيضاً مشكوكاً فيه. وإذا كان الزمن يحتمل الحيض، والطهر، والانقطاع، فإنها تصلي بالغسل لكل صلاة، ويسمى طهراً مشكوكاً فيه (¬1). فمثلاً: لو جاءت امرأة، وقالت: إني ذاكرة للوقت ناسية للعدد، فينظر: إن كانت ذاكرة لوقت ابتدائه، بأن قالت: كان ابتداء حيضي من أول يوم من الشهر، حيضناها يوماً وليلة من أول الشهر، لأنه حيض بيقين، ثم تغتسل بعده فتصير في طهر مشكوك فيه إلى آخر الخامس عشر، فتغتسل لكل صلاة؛ لجواز انقطاع الدم، وما بعده طهر بيقين إلى آخر الشهر، فتتوضأ لكل صلاة. وإن كانت ذاكرة لوقت انقطاعه بأن قالت: كان حيضي ينقطع في آخر الشهر حيضناها قبل ذلك يوماً وليلة، وكانت طاهراً من أول الشهر إلى آخر الخامس عشر، تتوضأ لكل صلاة فريضة، لأنه لا يحتمل انقطاع الحيض، ولا يجب الغسل إلا في آخر الشهر، في الوقت الذي تيقنا انقطاع الحيض فيه (¬2). ¬
القول الثالث: المذهب الحنبلي: قالوا في المرأة إذا نسيت عدد أيامها وهي تعلم موضعها. مثاله: امرأة تقول: عادتي تأتي في أول يوم من الشهر، لكني لا أدري هل هي خمسة أو ستة أو أكثر أو أقل. فتجلس غالب الحيض من كل شهر، إن اتسع شهرها لها بأن كان عشرين يوماً فأكثر (¬1)، وإن لم يتسع شهرها لغالب الحيض، جلست الفاضل من شهرها بعد أقل الطهر. فلو فرض أن شهرها خمسة عشر يوماً، جلست الزائد عن أقل الطهر بين الحيضتين، ومقداره هنا يومين (¬2). وهذا هو المشهور من المذهب (¬3) لحديث حمنة (¬4). وقيل: تجلس أقل الحيض، وهي رواية عند أحمد. ولم نذكر مذهب المالكية، لأن المرأة عندهم إذا لم تميز دمها فهي مستحاضة ¬
أبداً في حكم الطهر تصلي وتصوم وتوطأ أبداً حتى يتميز دمها، أو ينقطع فيأتي دفعة من الدم تنكره وإذا تميز لم تكن متحيرة. الراجح من الأقوال: يلاحظ أن الأقوال السابقة مبنية إما على أقل الحيض، وإما على أكثر الحيض والراجح أنه لا حد لأقله ولا لأكثره. والراجح في هذه المرأة التي نسيت عدد حيضها وهي تعلم موضعها أنها تجلس موضعه من الشهر وتعتبر حيضها عدد قريباتها من أم وأخت وعمة وخالة، لأن شبه المرأة بقريباتها أكثر من شبهها بالأجنبيات.
المبحث الثاني: خلاف العلماء في المستحاضة المتحيرة بالوقت فقط
المبحث الثاني: خلاف العلماء في المستحاضة المتحيرة بالوقت فقط المتحيرة بالوقت: هي المرأة التي علمت عدد حيضها، ونسيت وقت عادتها. وقد اختلف العلماء فيها. القول الأول: قالوا: إذا كانت ناسية لوقت الحيض، ذاكرة لعدده، فالقاعدة فيه أن كل زمان تيقنا فيه حيضها ثبت فيه جميع أحكام الحيض، وكل زمان تيقنا فيه طهرها، ثبت فيه جميع أحكام الطاهرة المستحاضة، وكل زمان أوجبنا فيه الاحتياط، فيجب عليها ما يجب على الطاهر من العبادات، وحكمها في الاستمتاع حكم الحائض. ثم إن كان هذا الزمن المحتمل للطهر والحيض لا يحتمل انقطاع الحيض لزمها الوضوء لكل فريضة، ولا يجب الغسل، وإن كان يحتمل انقطاع الحيض وجب الغسل لكل فريضة، لاحتمال انقطاع الدم قبلها، فإن علمت أنه كان ينقطع في وقت بعينه من ليل أو نهار اغتسلت كل يوم في ذلك الوقت، ولا غسل عليها إلى مثل ذلك الوقت من اليوم الثاني. وهذا هو مذهب الحنفية (¬1)، ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
والشافعية (¬1). ¬
وأما مذهب الحنابلة (¬1)، فالمشهور من المذهب الحنبلي أن المرأة المستحاضة إذا كانت عالمة بالعدد ناسية للموضع جلست أيام حيضها من أول شهر هلالي. وقيل: تجلسها بالتحري. وكونهم اعتبروا الشهر الهلالي؛ لأن المواقيت الشرعية بالأهلة ولحديث ¬
حمنة (¬1). والقول بأنها تجلس أول الشهر الهلالي قول ضعيف، بل تجلس أول ما رأت الدم وتحسب شهراً منذ رؤيته قياساً على الزكاة، والعدد والديات، والكفارات وغيرها، إنما تبتدئ من حين الشروع سواء وافقت الهلال أو خالفته. وأما كونه يقدم دم الحيض على دم الاستحاضة، لأن دم الحيض جبلة ودم الاستحاضة عارض، فإذا رأت الدم وجب تقديم دم الحيض ولحديث حمنة. وهذا هو القول الراجح: أنها تجلس أيام حيضها من أول ما رأت الدم ثم الباقي استحاضة. ¬
المبحث الثالث: خلاف العلماء في المستحاضة المتحيرة الناسية لعددها ووقتها
المبحث الثالث: خلاف العلماء في المستحاضة المتحيرة الناسية لعددها ووقتها القول الأول: المذهب الحنفي: قالوا: إذا استحيضت ونسيت عدد أيامها ومكانها فإنها أولاً: تتحرى، فإن وقع تحريها على طهر تعطى حكم الطاهرات، وإن كان على حيض تعطى حكمه. لأن غلبة الظن من الأدلة الشرعية عند تعذر اليقين. ثانياً: إذا لم يمكنها التحري اغتسلت لكل صلاة على الصحيح. وقيل: لوقت كل صلاة. وتصلي المكتوبات، والواجبات، والسنن المؤكدة، ولا تصلي ولا تصوم تطوعاً (¬1)، ولا تقرأ شيئاً من القرآن خارج الصلاة، ولا تمس المصحف، ولا تدخل المسجد، وأما الصوم فإنها تصوم كل شهر رمضان؛ لاحتمال طهارتها كل يوم، وتعيد بعد رمضان عشرين يوماً، ووجه كون القضاء عشرين يوماً، فإننا نعلم أن أكثر ما أفسد من صيامها عشرة أيام، وهو أكثر الحيض، وإنما لم يجزها صيام عشرة أيام، ولا بد من عشرين حتى تخرج من العهدة بيقين، لأننا نخشى أن يوافق ابتداء حيضها ابتداء القضاء فلا يجزيها صومها في عشرة أيام فإذا ¬
صامت عشرين يوماً خرجت مما عليها من القضاء بيقين (¬1). القول الثاني: المذهب الشافعي: مذهب الشافعية في المرأة المستحاضة الناسية لعدد الحيض ووقتها لهم فيها قولان: الأول: حكمها حكم المبتدأة. وقد علينا مذهبهم في المبتدأة، وأن لهم فيها قولين: قيل: تجلس يوماً وليلة. وقيل: تجلس غالب الحيض ستاً أو سبعاً. القول الثاني: وهو المشهور من مذهبهم: وجوب الاحتياط، والاحتياط أن لا يعتبر لها حيض ولا طهر بيقين. فيحرم الوطء، ومس المصحف، والقراءة في غير الصلاة، وتصلي الفرائض أبداً، وكذا النفل في الأصح، وتغتسل لكل فرض. وأما كيف تصوم المتحيرة بالعدد والوقت: فقالوا: يجب أن تصوم شهر رمضان، وشهراً آخر كاملاً معه، فيحصل لها من كل شهر أربعة عشر يوماً .. فيكون مجموع ما صامته من الشهرين ثمانية وعشرين يوماً .. لأن غاية ما يفسده الحيض من كل شهر ستة عشر يوماً، وذلك أن الحيض لا يمكن أن يزيد على خمسة عشر يوماً، وقد يطرأ الحيض في أثناء يوم، ¬
وينقطع في أثناء يوم فيكون مجموع ما فسد عليها ستة عشر يوماً ... ويبقى عليها يومان حتى تصوم شهراً كاملاً بيقين. وحتى تصومهما بيقين، يجب أن تضاعفهما، وتضم إليهما يومين فيصير مجموع ما تصوم ستة أيام .. وكيفية صيام هذه الستة، قالوا: حتى يحصل لها يومان بيقين، يجب أن تصوم ثلاثة أيام،، ثم تفطر اثني عشر يوماً، فالمجموع خمسة عشر يوماً، ثم تصوم السادس عشر والسابع عشر، والثامن عشر، فيحصل لها اليومان يقيناً؛ لأن الحيض إن طرأ في أثناء اليوم الأول من صومها، انقطع في أثناء السادس عشر، فيحصل لها صيام اليومين بعده، أو طرأ في اليوم الثاني انقطع في السابع عشر، فيحصل لها صيام اليوم الأول والأخير، أو طرأ في اليوم الثالث فيحصل اليومان الأولان، أو طرأ في اليوم السادس عشر انقطع في اليوم الأول، فيحصل لها الثاني والثالث، وهكذا لا بد أن يحصل لها يومان بيقين، هذا فيما يتعلق بالصيام. وأما الصلاة فإنها تلزمها الصلوات الخمس أبداً، هذا لا خلاف فيه عند الشافعية؛ لأن كل وقت يحتمل طهرها، فمقتضى الاحتياط وجوب الصلاة. قال النووي: ظاهر نص الشافعي أنه لا يجب؛ لأنه نص على وجوب قضاء الصوم، ولم يذكر قضاء الصلاة. والتعليل لعدم وجوب القضاء أن المستحاضة المتحيرة إن كانت حائضاً فلا صلاة عليها، وإن كانت طاهراً فقد صلت. واختار بعض الشافعية وجوب قضاء الصلاة كالصيام، لجواز انقطاع
الحيض في أثناء الصلاة، أو بعدها في الوقت، وعللوا ذلك بأنه مقتضى الاحتياط، والشافعي كما لم يذكر القضاء لم ينفه، ومقتضى مذهبه الوجوب. وأجاب القائلون بعدم القضاء بأنه لا يلزم المتحيرة كل ممكن لأنه يؤدي إلى حرج شديد، والشريعة تحط عن المكلف أموراً بدون هذا الضرر والدليل على أنه لا يلزمها كل ممكن أن عدتها تنقضي بثلاثة أشهر، ولا تقعد إلى اليأس. وأما الغسل. قال النووي: أن علمت وقت انقطاع الحيض، بأن قالت: أعلم أن حيضتي كانت تنقطع مع غروب الشمس، لزمها الغسل كل يوم مع غروب الشمس، وليس عليها في اليوم والليل غسل سواه وتصلي بذلك الغسل المغرب، وتتوضأ لما سواه من الصلوات، لأن الانقطاع عند كل مغرب محتمل، ولا يحتمل فيما سواه، وإن لم تعلم وقت انقطاعه لزمها أن تغتسل لكل فريضة لاحتمال الانقطاع قبلها. الدليل على هذا العنت والتشديد. قال النووي: قال أصحابنا: وإنما أمرت بالاحتياط، لأنه اختلط حيضها بغيره وتعذر التمييز بصفة أو عادة، أو مرد كمرد المبتدأة، ولا يمكن جعلها طاهراً أبداً في كل شيء، ولا حائضاً أبداً في كل شيء، فتعين الاحتياط، ومن الاحتياط تحريم وطئها أبداً، ووجوب العبادات كالصوم، والصلاة، والطواف، والغسل لكل فريضة وغير ذلك (¬1). ¬
قلت: ينبغي أن تكون المستحاضة أولى بالتخفيف من غيرها، لأن المريض أولى بالعذر من الصحيح، ولا أعلم حرجاً في الشرع كإيجاب صيام شهرين وإيجاب الصلاة ثم إيجاب قضائها، وتحريم الوطء أبداً، وتحريم قراءة القرآن في غير الصلاة، إلى غيرها من الأمور التي تؤدي إلى تبغيض عبادة الله إلى عباد الله، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ}. القول الثالث: المذهب الحنبلي: في المرأة إذا نسيت عددها ووقتها تجلس غالب الحيض ستاً أو سبعاً. فإن عرفت ابتداء الدم، بأن علمت أن الدم كان يأتيها في أول النصف الأخير من الشهر، فهو أول دورها، فتجلس منه، وإن جهلت كون موضعها في شيء من ذلك فإنها تجلس غالب الحيض من أول كل شهر هلالي كمبتدأة. واستدلوا بحديث حمنة بنت جحش فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "تحيضي ستة أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي وصلي أربعاً وعشرين ليلة، أو ثلاثاً وعشرين ليلة، وأيامها وصومي" فقدم حيضها على الطهر، ثم أمرها بالصلاة، والصوم إلى بقية الشهر. وقيل: تتحرى وهو وجه في المذهب، فأي وقت أداها الجلوس فيه جلسته سواء كان ذلك الوقت من أول الشهر أو وسطه أو آخره (¬1). ¬
الراجح في المستحاضة عموماً. أن يقال إذا أطبق الدم على المرأة وصارت مستحاضة نظر. فإن كانت مبتدأة .. عملت بالتمييز إن كانت تميز دم الحيض من دم الاستحاضة، بأن ترى بعضه أسود وبعضه أحمر؛ لأن التمييز علامة ظاهرة واضحة. فإن كان على صفة واحدة فإن لم يمكن التحري رجعت إلى عادة النساء من أقاربها: من أم، وأخت، وعمة، وخالة. فإن اختلفت عادتهن فالاعتبار بالغالب منهن، فإن لم يوجد غالب في النساء القريبات تحرت واجتهدت فإن لم تستطع فغالب النساء في بلدتها ... وإن كانت المرأة معتادة قدمنا العادة على التمييز فجلست عادتها. وإن كانت المرأة لا عادة لها، فإن كان لها تمييز عملت به. وإن كانت لا تمييز لها رجعت إلى عادة النساء القريبات، فإن اختلفت تحرت، فإن لم تستطع فالاعتبار بغالب النساء عموماً. ¬
الفصل الخامس: في طهارة المستحاضة
الفصل الخامس: في طهارة المستحاضة المبحث الأول: في خلاف العلماء في وجوب الوضوء من دم الاستحاضة (*) اختلف العلماء هل يعتبر خروج دم الاستحاضة، وكذا من به حدث دأئم هل يعتبر حدثاً يوجب الوضوء أم لا؟ فقيل: يجب أن تتوضأ لوقت كل صلاة. وهو مذهب الحنفية (¬1) والحنابلة (¬2). وقيل: يجب أن تتوضأ لكل فريضة، مؤداة أو مقضية، وأما النوافل فتصلي بطهارتها ما شاءت. وهو مذهب الشافعية (¬3). وقيل: لا يعتبر خروج دم الاستحاضة حدثاً ناقضاً للوضوء، بل يستحب منه الوضوء ولا يجب. وهو مذهب المالكية (¬4). ¬
دليل القائلين بوجوب الوضوء لكل صلاة.
وقيل: الوضوء واجب لكل صلاة، فرضاً كانت أو نفلاً، خرج الوقت أو لم يخرج. وهذا اختيار ابن حزم (¬1). دليل القائلين بوجوب الوضوء لكل صلاة. [الدليل الأول] (*) (473) استدلوا بما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، قال: ثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا؛ إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. ¬
قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (¬1). [زيادة قال هشام قال أبي الراجح أنها موقوفة على عروة، ورفعها غير محفوظ] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (474) ما رواه أحمد، قال: ثنا وكيع، ثنا الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة، جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول ¬
الله إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: لا، اجتنبي الصلاة أيام محيضك، ثم اغتسلي، وتوضئي لكل صلاة، ثم صلي وإن قطر الدم على الحصير (¬1). [الحديث ضعيف، وفيه عنعنة حبيب بن أبي ثابت، وعروة مختلف فيه، قيل: عروة المزني، وهو مجهول، وقيل: عروة بن الزبير] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (475) ما رواه الدارمي، قال: أخبرنا محمد بن عيسى، ثنا شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها في كل شهر، فإذا كان عند انقضائها اغتسلت وصلت، وصامت، وتوضأت عند كل صلاة (¬1). [ضعيف جداً]. الدليل الرابع: (476) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا أحمد بن القاسم الطائي، ¬
ثنا بشر بن الوليد الكندي، ثنا أبو يوسف القاضي، عن عبد الله بن علي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن أبي أيوب الأفريقي، وهو عبد الله بن علي، إلا أبو يوسف (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (477) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا مورع بن عبد الله، ثنا الحسن بن عيسى، ثنا حفص بن غياث، عن العلاء بن المسيب، عن الحكم بن عتيبة عن جعفر، عن سودة بنت زمعة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تجلس فيها، ثم تغتسل غسلاً واحداً ثم تتوضأ لكل صلاة (¬1). ¬
دليل القائلين بوجوب الوضوء لوقت كل صلاة.
[إسناده ضعيف]. فتبين أن الأمر بالوضوء لكل صلاة من حديث عائشة، المحفوظ أنه موقوف على عروة، ورفعه شاذ، والشاذ غير صالح للاعتبار. ومن حديث غيرها ضعيف، ومن يحسن بالشواهد مطلقاً، فإن الحديث عنده قد يرقى إلى الحسن. دليل القائلين بوجوب الوضوء لوقت كل صلاة. حمل الحنفية والحنابلة الأحاديث الواردة بالوضوء لكل صلاة، بأن المراد بكل صلاة، بوقت كل صلاة، قالوا: وإطلاق الصلاة على الوقت جاء الدليل على صحته من القرآن والسنة: الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ} (¬1). فقوله: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أي: لوقت دلوكها. الدليل الثاني: (478) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن سنان - هو العوقي - قال: حدثنا: هشيم (ح) قال: وحدثني سعيد بن النضر، قال: أخبرنا هشيم، قال أخبرنا سيار، قال حدثنا يزيد - هو ابن صهيب الفقير - قال: أخبرنا جابر بن عبد الله، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من ¬
الدليل الثالث
قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة. ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬1). وجه الاستدلال: قوله: "أدركته الصلاة" أي أدركه وقت الصلاة. الدليل الثالث: (479) ما رواه أحمد، قال: ثنا محمد بن فضيل، ثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن للصلاة أولاً وآخراً، وإن أول وقت الظهر حين تزول الشمس، وإن آخر وقتها حين يدخل وقت العصر، وإن أول وقت العصر حين يدخل وقتها، وإن آخر وقتها حين تصفر الشمس، وإن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس، وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق، وإن أول وقت العشاء الآخرة حين يغيب الأفق، وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل، وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر، وإن آخر وقتها حين تطلع الشمس (¬2). وجه الاستدلال: قوله: "إن للصلاة أولاً وآخراً". أي إن لوقت الصلاة، فأطلقت الصلاة ¬
وأريد بها الوقت. [والحديث ضعيف والمحفوظ أنه مرسل ووصله شاذ] (¬1). وقد رد ابن حزم هذا القول، فقال رحمه الله: "وأما قول أبي حنيفة ففاسد أيضاً؛ لأنه مخالف للخبر الذي تعلق به، ومخالف للمعقول والقياس، وما وجدنا ¬
دليل الشافعية على وجوب الوضوء لكل فريضة دون النافلة.
طهارة قط تنتقض بخروج وقت، وتصح بكون الوقت قائماً، وموه بعضهم في هذا بأن قالوا: قد وجدنا الماسح في السفر والحضر تنتقض طهارته بخروج الوقت المحدد لها، فنقيس عليها المستحاضة. قال ابن حزم: القياس كله باطل، ثم لو كان حقاً لكان هذا منه عين الباطل؛ لأنه قياس خطأ وعلى خطأ، وما انتقضت طهارة الماسح بانقضاء الأمد المذكور، بل هو طاهر كما كان، ويصلي ما لم ينتقض وضوءه بحدث من الأحداث". الخ كلامه (¬1). دليل الشافعية على وجوب الوضوء لكل فريضة دون النافلة. حمل الشافعية أحاديث الأمر بالوضوء لكل صلاة - والتي مرت معنا في أدلة القول الأول - حملوها على الفريضة دون النافلة، فأوجبوا الصلاة لكل فريضة مؤداة أو مقضية، بخلاف النافلة، فإنهم يجيزون لها أن تصلي ما شاءت من النوافل. وهذا التفريق بين الفريضة والنافلة، لا أعلم له دليلاً مسوغاً، وكلمة "كل" في قوله: "وتوضئي لكل صلاة" من ألفاظ العموم، فأين الدليل على إخراج النوافل. قال ابن حزم في المحلى: "ومن المحال الممتنع في الدين، الذي لم يأت به قط نص، ولا دليل، أن يكون إنسان طاهراً إن أراد أن يصلي تطوعاً، ومحدثاً غير طاهر في ذلك الوقت بعينه إن أراد أن يصلي فريضة، هذا ما لا خفاء به، وليس إلا ¬
أدلة المالكية على استحباب الوضوء للمستحاضة وأنه غير واجب.
طاهر أو محدث". اهـ (¬1). قلت: وحديث: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور" كلمة "صلاة" نكرة في سياق النفي، فتعم كل صلاة، نفلاً كانت أو فرضاً، فلما صحت النافلة بكونها طاهرة، فلماذا لا تقبل الفريضة. أو يقال: لما لم تصح الفريضة علمنا أنها محدثة فلا تصح النافلة، لأن الله لا يقبل صلاة بغير طهور. أدلة المالكية على استحباب الوضوء للمستحاضة وأنه غير واجب. الدليل الأول: قالوا: إن من كان به حدث دائم لو تطهر فلن يرتفع حدثه، وإذا كان كذلك، كان طهارته استحباباً لا وجوباً. الدليل الثاني: إذا كان دم الاستحاضة لا يبطل الطهارة بعد الوضوء، وقبل الصلاة، لم يكن حدثاً يوجب الوضوء عند تجدد الصلاة أو خروج الوقت، ولذا حملنا الأمر على الاستحباب. الدليل الثالث: دم العرق لا ينقض الوضوء، فلو خرج دم من عرق اليد، أو الرجل لم ينتقض وضوءه على الصحيح، فكذلك دم الاستحاضة، فإنه دم عرق كما في ¬
الدليل الرابع
أحاديث الصحيحين، ولا يقال: إن خروجه من الفرج جعل حكمه يختلف؛ لأن المني يخرج من الفرج، ومع ذلك هو طاهر. الدليل الرابع: الشارع حكيم، لا يؤاخذ الإنسان إلا بما فعل، فإذا كان خروج الدم ليس من فعل الإنسان، ولا من قصده، لم تفسد عبادته، ولهذا لا يؤاخذ الإنسان باللغو في اليمين لعدم توفر القصد. قال ابن المنذر في الأوسط: "والنظر دال على ما قال ربيعة - يعني: في عدم وجوب الوضوء - إلا أنه قول لا أعلم أحداً سبقه إليه. وإنما قلت: النظر يدل عليه؛ لأنه لا فرق بين الدم الذي يخرج من المستحاضة قبل الوضوء، والذي يخرج في أضعاف الوضوء، والدم الخارج بعد الوضوء؛ لأن دم الاستحاضة إن كان يوجب الوضوء فقليل ذلك وكثيره في أي وقت كان يوجب الوضوء، فإذا كان هكذا، وابتدأت المستحاضة في الوضوء، فخرج منها دم بعد غسلها بعض أعضاء الوضوء، وجب أن ينتقض ما غسلت من أعضاء الوضوء، لأن الدم الذي يوجب الطهارة في قول من أوجب على المستحاضة الطهارة قائم. وإن كان ما يخرج منها بين أضعاف الوضوء، وما خرج منها قبل أن تدخل الصلاة، وما حدث في الصلاة منه لا ينقض طهارة، وجب كذلك أن ما خرج منها بعد فراغها من الصلاة لا تنقض طهارة إلا بحدث غير دم الاستحاضة هذا
الذي يدل عليه النظر". اهـ (¬1) فالراجح ما ذهب إليه مالك رحمه الله، ولا ينهض عندي تحسين الأحاديث الضعيفة بالشواهد؛ لأن اللفظ في حديث عائشة بالأمر بالوضوء لكل صلاة شاذ، والشاذ لا يصلح للشواهد، وما عداه لا يكفي للتحسين بمثل هذه المسألة التي يحتاج إليها، وقد وقعت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتكرر وقوعه مرات، فلو كان الأمر بها محفوظاً لجاءت الأحاديث الصحيحة التي تبين وجوب الوضوء بصورة تقوم بمثلها الحجة. والله أعلم. ولو قلنا: بموجب حديث: توضئي لكل صلاة، لكان الوضوء واجباً لكل صلاة، فرضاً كانت أو نفلاً، خرج الوقت أو لم يخرج، وهذا رأي ابن حزم، للأمر بالوضوء لكل صلاة وأما حمل الأمر بالوضوء لكل صلاة: أي لوقت كل صلاة، كما هو مذهب الحنفية فيحتاج الأمر إلى دليل على أن المراد الوقت، وليس خروج الوقت حدثاً، ويكفي أن حملهم خلاف ظاهر اللفظ بلا مسوغ. والجواب عما قاله الحنفية رحمهم الله: أن إطلاق الصلاة قد يطلق ويراد بذلك الوقت إذا صح إنما يصح لقرينة تمنع من إرادة الصلاة نفسها، وإلا فالأصل في الكلام عدم الحذف وعدم التقدير، ولا قرينة هنا تمنع من إرادة الصلاة، أي فعلها، فوجب حمل اللفظ على ظاهره، لو قلنا بصحة الحديث. وأما حمل الشافعية بالصلاة بأن المراد بها الفريضة دون النافلة، فهذا من أضعف الأقوال. ¬
الفرع الأول: خلاف العلماء في وجوب غسل فرج المستحاضة عنه الوضوء لم يذكر ذلك الحنفية، ولعل ذلك لأن الاستنجاء ليس بواجب عندهم (¬1) وغسله إنما هو من قبيل الاستنجاء (¬2). وأوجب غسل الفرج الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وهل يكفي غسله مرة واحدة؟ أو تغسله لكل صلاة. ¬
أدلة الشافعية والحنابلة على وجوب غسل الفرج.
المشهور من مذهب الشافعية ما قاله النووي: في شرح صحيح مسلم: قال: "وأما تجديد غسل الفرج وحشوه، وشده لكل فريضة، فينظر فيه: فإن زالت العصابة عن موضعها زوالاً له تأثير، أو ظهر الدم على جوانب العصابة وجب التجديد، وإن لم تزل العصابة عن موضعها ولا ظهر الدم، ففيه وجهان لأصحابنا، أصحهما: وجوب التجديد كما يجب تجديد الوضوء" اهـ (¬1). وأما المشهور من المذهب الحنبلي أنه لا يلزمها غسل الفرج لكل صلاة إذا لم تفرط (¬2). وفي مذهب الحنابلة قولان آخران: قيل: يلزمها ذلك. وقيل يلزمها إن خرج شيء، وإلا فلا (¬3). أدلة الشافعية والحنابلة على وجوب غسل الفرج. استدلوا بأدلة عامة، وخاصة. أما الدليل الخاص. (480) فقد استدلوا بما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، قال: ثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، ¬
عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا؛ إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: "فاغسلي عنك الدم وصلي". قال ابن رجب في شرحه للبخاري: "واختلفوا هل يجب عليها غسل الدم، والتحفظ والتلجم عند كل صلاة؟ فيه قولان: هما روايتان عن أحمد. وربما يرجع هذا الاختلاف إلى الاختلاف المشهور في أن الأمر المطلق هل يقتضي التكرار أم لا؟ وفيه خلاف مشهور، لكن الأصح هنا أنه لا يقتضي التكرار لكل صلاة، فإن الأمر بالاغتسال وغسل الدم إنما هو معلق بانقضاء الحيضة وإدبارها فإذا قيل: إنه يقتضي التكرار لم يقتضيه إلا عند إدبار كل حيضة فقط. اهـ (¬2). وأما الأدلة العامة: فهي من قبيل القياس، فيقاس غسل الفرج من دم الاستحاضة بأحاديث الاستنجاء والاستجمار، بجامع أن كلاً منها قطع للنجاسة من السبيلين. وأحاديث الاستنجاء كثيرة، ويكفي منها: ¬
أدلة الحنفية على أنه لا يجب الاستنجاء ومنه غسل الفرج من دم الاستحاضة.
(481) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع والأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان، قال: قيل له: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة. قال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم. رواه مسلم (¬1). ولا يسلم القياس إلا بتحقق أمرين: أولهما: أن يكون غسل الفرج قاطعاً للخارج، كما أن الاستنجاء يقطع الخارج. وهذا لا يتحقق هنا؛ لأن الاستنجاء هنا لن يقطع دم الاستحاضة. وثانيهما: أن يكون دم الاستحاضة نجساً، كالحال في الاستنجاء من البول والغائط، وأما من رأى أن دم الاستحاضة طاهر؛ لأنه دم عرق، مثله مثل دم سائر العروق من البدن، فلا يسلم القياس، ولا يوجب غسل الفرج؛ لأنه كالمني لا يجب الاستنجاء منه. والله أعلم. أدلة الحنفية على أنه لا يجب الاستنجاء ومنه غسل الفرج من دم الاستحاضة. الدليل الأول: (*) (482) ما رواه أحمد، قال: حدثنا سريج بن النعمان، قال: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا ثور بن يزيد، عن حصين الحبراني، عن أبي سعد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج عليه. ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ¬
ومن لا، فلا حرج، ومن أكل فما تخلل فليلفظ، ومن أكل بلسانه فليبتلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً فليستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج (¬1). [إسناده ضعيف، يرويه مجهول، عن مجهول] (¬2). ¬
الشاهد منه: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج". وجه الاستدلال: قال الكاساني: "الاستدلال به من وجهين: ¬
أحدهما: أنه نفى الحرج في تركه، ولو كان فرضاً لكان في تركه حرج. الثاني: أنه قال: "من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومثل هذا لا يقال في المفروض، وإنما يقال في المندوب إليه، والمستحب" اهـ (¬1). والجواب على هذا الحديث من وجهين: الأول: أن نفي الحرج لا يرجع إلى الاستنجاء، وإنما يرجع إلى الإيتار؛ لأنه أقرب مذكور، وهو صفة في الاستنجاء، وليس في أصله. الثاني: أن الحديث ضعيف، وما بني على الضعيف فهو ضعيف. ¬
الفرع الثاني: شد عصابة الفرج عند الوضوء ذهب الحنفية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3) إلى أنه يجب على المستحاضة أن ¬
الأدلة على وجوب التلجم والتحفظ.
تشد فرجها وتعصبها، وهل يجب عليها ذلك في كل صلاة، على الخلاف السابق في غسل الفرج. الأدلة على وجوب التلجم والتحفظ. الدليل الأول: (483) ما رواه مالك في الموطأ، قال: عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن امرأة كانت تهراق الدماء في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر، قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت فلتغتسل، ثم لتستثفر، ثم لتصلي" (¬1). [والحديث رجاله ثقات، إلا أنه أعل بالانقطاع، وفي إسناده اضطراب] (¬2). وجه الاستدلال: قوله: "ثم لتستثفر بثوب". ¬
قال ابن منظور في اللسان: وهو أن تشد فرجها بخرقة عريضة أو قطنة تحتشي بها، وتوثق طرفيها في شيء تشده على وسطها فتمنع سيلان الدم وهو مأخوذ من: ثَفَر الدابة الذي يجعل تحت ذنبها. وفي نسخة: "وتوثق طرفيها، ثم تربط فوق ذلك رباطاً، تشد طرفيه إلى حقب تشده كما تشد الثفر تحت ذنب الدابة" (¬1). وقال في تاج العروس: "والاستثفار أن يدخل الإنسان إزاره بين فخذيه ملوياً ثم يخرجه، والرجل يستثفر بإزاره عند الصراع، إذا هو لواه على فخذيه فشد طرفيه في حجزته وزاد ابن ظفر في شرح المقامات: حتى يكون كالتُّبان، وقد تقدم أن التبان هو السراويل الصغير، لا ساقين له .. الخ كلامه" (¬2). وورد كذلك التلجم والتحفظ في حديث حمنة بنت جحش، فقد رواه أحمد، وفيه: "فقلت: يا رسول الله، إني استحاض حيضة كثيرة شديدة، فما ترى فيها، قد منعتني الصلاة والصيام، قال: أنعت لك الكرسف؛ فإنه يذهب الدم، قالت: هو أكثر من ذلك. قال: فتلجمي. قالت: إنما اثج ثجاً ... الحديث". [والحديث ضعيف] (¬3). وجه الاستدلال: قوله: "تلجمي"، قال ابن منظور في اللسان: "تلجمت المرأة، إذا ¬
[الدليل الثاني]
استثفرت لمحيضها. واللجام: ما تشده الحائض، وفي حديث المستحاضة: "تلجمي" أي شدي لجاماً، وهو شبيه بقوله: "استثفري" أي: ألجمي موضع خروج الدم عصابة تمنع الدم، تشبيهاً بوضع اللجام في فم الدابة. (¬1) وقال: نحوه صاحب تاج العروس (¬2). وكانت النساء تستثفر ولو لم تجب عليها الصلاة حرصاً على عدم تلوثها في الدم. [الدليل الثاني] (*) (484) فجاء في حديث جابر عند مسلم في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه، حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف أصنع؟ قال: اغتسلي، واستثفري، وأحرمي" (¬3). ¬
الفصل السادس: خلاف العلماء في وجوب الغسل على المستحاضة
الفصل السادس: خلاف العلماء في وجوب الغسل على المستحاضة اختلف العلماء هل يجب على المستحاضة الغسل إلى أقوال: فقيل: يجب عليها الغسل لكل صلاة. وهو مروي عن ابن عمر، وابن الزبير، وعطاء بن أبي رباح، وهو رواية أيضاً عن علي وابن عباس (¬1). وقيل: يجب عليها أن تغتسل للظهر والعصر غسلاً واحداً، تصلي به الظهر في آخر وقتها، والعصر في أول وقتها، وتغتسل للمغرب والعشاء كذلك تؤخر المغرب وتعجل العشاء، وتغتسل للفجر غسلاً واحداً. وهو قول علي، وابن عباس، وإبراهيم النخعي، وعبد الله بن شداد وفرقة (¬2) وقيل: تغتسل كل يوم غسلاً واحداً. وهو مروي عن عائشة (¬3). وقيل: تغتسل من صلاة الظهر إلى صلاة الظهر. ¬
أدلة من قال يجب عليها الغسل لكل صلاة.
وهو قول ابن المسيب، والحسن، وعطاء، وروى مثل ذلك عن ابن عمر، وأنس، وهو رواية عن عائشة (¬1). وقيل: لا يجب عليها الغسل لشيء من الصلوات إلا مرة واحدة عند إدبار حيضها. وهو مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، وأحمد (¬5). إلا أن الحنفية والشافعية والحنابلة يرون أنه يجب عليها الوضوء إما لوقت كل صلاة أو لكل فريضة بخلاف مالك فإنه يستحب لها الوضوء، ولا يوجبه، وسبق بيانه. قال النووي: "وبهذا قال جمهور السلف والخلف. وهو مروى عن علي وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال عروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن" (¬6). أدلة من قال يجب عليها الغسل لكل صلاة. الدليل الأول: (485) ما رواه أحمد: ثنا أحمد بن الحجاج، قال: ثنا عبد العزيز بن أبي ¬
حازم، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة، أن أم حبيبة بنت جحش كانت تحت عبد الرحمن بن عوف، وأنها استحيضت فلا تطهر، فذكر شأنها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ليست بالحيضة، ولكنها ركضة من الرحم، فلتنظر له قدر قرئها التي كانت تحيض، فلتنظر له، فلتترك الصلاة، ثم لتنظر ما بعد ذلك، فلتغتسل عند كل صلاة ولتصل" (¬1). [المحفوظ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرها بالغسل لكل صلاة، وإنما شيء فعلته هي من تلقاء نفسها] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (486) ما رواه أحمد، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا محمد - يعن: ابن إسحاق ¬
- عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن زينب بنت جحش استحيضت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالغسل لكل صلاة، فإن كانت لتدخل المركن مملوءاً ماء، فتنغمس فيه، ثم تخرج منه، وإن الدم لغالبه فتخرج فتصلي" (¬1). [وهم فيه ابن إسحاق، وقد رواه جماعة عن الزهري، وليس فيه الأمر بالغسل لكل صلاة] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (487) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج (أبو معمر)، حدثنا عبد الوارث، عن الحسين، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، قال: أخبرتني زينب بنت أبي سلمة، أن امرأة كانت تهراق الدم، وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تغتسل عند كل صلاة وتصلي (¬1). [رجاله ثقات إلا أنه أعل بالإرسال] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
أدلة من قال تغتسل لكل صلاتين مجموعتين وتغتسل للفجر غسلا واحدا.
أدلة من قال تغتسل لكل صلاتين مجموعتين وتغتسل للفجر غسلاً واحداً. الدليل الأول: (488) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا وهب بن بقية، أخبرنا خالد، عن سهيل - يعني: ابن أبي صالح - عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن أسماء بنت عميس، قالت: قلت: يا رسول الله، إن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت، منذ كذا وكذا فلم تصلي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سبحان الله، إن هذا من الشيطان، لتجلس في مركن، فإذا رأت صفرة فوق الماء فلتغتسل للظهر والعصر غسلاً واحداً، وتغتسل للمغرب والعشاء غسلاً واحداً، وتتوضأ فيما بين ذلك (1). [الحديث ضعيف، خالف فيه سهيل بن صالح جميع من رواه عن الزهري، واختلف عليه في لفظه] (2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (489) ما رواه أحمد، قال: عن حمنة بنت جحش من حديث طويل وفيه: "إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام، أو سبعة في علم الله، ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أنك قد طهرت، واستيقنت، واستنقأت فصلي أربعاً وعشرين ليلة، أو ثلاثاً وعشرين ليلة، وأيامها وصومي، فإن ذلك يجزئك، وكذلك فافعلي في كل شهر، كما تحيض النساء، وكما يطهرن بميقات حيضهن وطهرن، وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغسلين، ثم تصلين الظهر والعصر جميعاً، ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الفجر وتصلين، وكذلك فافعلي، وصلي، وصومي إن قدرت على ذلك". وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وهذا أعجب الأمرين إليَّ" (¬1). [والحديث ضعيف، وسبق تخريجه] وليس فيه دليل على وجوب الغسل لكل صلاة مجموعة، بل الحديث ¬
الدليل الثالث
صريح في تخيير الرسول - صلى الله عليه وسلم - لها بين أن تصلي الصلوات بطهر واحد، وبين أن تغتسل في اليوم والليلة ثلاث مرات. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وهذا أعجب الأمرين إلي" أي أحسن الأمرين أي فكلا الأمرين حسن، وهذا أحسن، يعني الغسل مع الجمع. وفي تاج العروس: شيء معجب: إذا كان حسناً جداً (¬1). وفي اللسان: أعجبه الأمر: سره وأعجب به (¬2). الدليل الثالث: (490) ما رواه عبد الرزاق في المصنف، قال: عن معمر، عن أيوب عن سعيد بن جبير، أن امرأة من أهل الكوفة كتبت إلى ابن عباس بكتاب، فدفعه إلى ابنه ليقرأه، فتعتع فيه، فدفعه إلي، فقرأته، فقال ابن عباس: أمَّا لو هذرمته كما هذرمه الغلام المصري، فإذا في الكتاب: إني امرأة مستحاضة، أصابني بلاء وضر، وإني أدع الصلاة الزمان الطويل، وإن علي بن أبي طالب سئل عن ذلك فأفتاني أن اغتسل عند كل صلاة، فقال ابن عباس: اللهم لا أجد لها إلا ما قال علي، غير أنها تجمع بين الظهر والعصر بغسل واحد، والمغرب والعشاء بغسل واحد، وتغتسل للفجر، قال: فقيل له: إن الكوفة أرض باردة، وإنه يشق عليها. قال: لو شاء لابتلاها بأشد من ¬
ذلك (¬1). [إسناده صحيح إلا أنه موقوف على ابن عباس]. والخلاف في المسألة بين الصحابة محفوظ، فمنهم من يرى عليها الاغتسال لكل صلاة، ومنهم من يرى عليها الاغتسال لكل صلاتين مجموعتين، والاغتسال لصلاة الفجر، ومنهم من يرى الاغتسال مرة واحدة في اليوم، ومنهم من يرى أن عليها الاغتسال مرة واحدة عند إدبار حيضها، وعند الاختلاف فليس قول بعضهم حجة على البعض. كما أن ابن عباس قد اختلف قوله في المسألة (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (491) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثني أبي، عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: استحيضت امرأة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمرت أن تعجل العصر، وتؤخر الظهر، وتغتسل لهما غسلاً، وأن تؤخر المغرب وتعجل العشاء، وتغتسل لهما غسلاً، وتغتسل لصلاة الصبح غسلاً (¬1). [ضعيف، وقد أعل بالإرسال، وفي إسناده اختلاف] (¬2) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل من قال: تغتسل في كل يوم غسلا واحدا.
دليل من قال: تغتسل في كل يوم غسلاً واحداً. [الدليل الأول] (*) (492) استدلوا بما رواه الحاكم، من طريق أبي عاصم النبيل، ثنا عثمان ابن سعد القرشي، ثنا ابن أبي مليكة، قال: جاءت خالتي فاطمة بنت أبي جحش إلى عائشة فقالت: إني أخاف أن أقع في النار، إني أدع الصلاة السنة والسنتين لا أصلي فقالت انتظري حتى يجيء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاء، فقالت عائشة: هذه فاطمة تقول كذا وكذا، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قولي لها فلتدع الصلاة في كل شهر أيام قرئها، ثم لتغتسل في كل يوم غسلاً واحداً، ثم الطهور عند كل صلاة، ولتتنظف، ولتحتشي فإنما هو داء عرض، أو ركضة من الشيطان، أو عرق انقطع (¬1). ¬
[إسناده ضعيف] (¬1) ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (493) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا أحمد بن حنبل، عن عبد الله بن نمير، عن محمد بن أبي إسماعيل - وهو محمد بن راشد - عن معقل الخثعمي، عن علي قال: المستحاضة إذا انقضى حيضها اغتسلت كل يوم واتخذت صوفة فيها سمن وزيت (¬1). [وسنده ضعيف جداً] (¬2). ¬
دليل من قال: تغتسل من الظهر إلى الظهر.
والذي جاء عن علي إما الاغتسال لكل صلاة، وإما الاغتسال لكل صلاتين مجموعتين، والاغتسال لصلاة الصبح. دليل من قال: تغتسل من الظهر إلى الظهر. لا أعلم فيه حديثاً مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال أبو داود في السنن: وروى عن ابن عمر وأنس بن مالك: "تغتسل من ظهر إلى ظهر" (¬1) وكذا قال ابن عبد البر في التمهيد (¬2)، والاستذكار (¬3)، ولم أقف عليه مسنداً عنهما (¬4) فالله أعلم من رواه عنهما. وأما التابعون فقد جاء ذلك عن سعيد بن المسيب، والحسن. (494) فقد رواه مالك في الموطأ، عن سمي مولى أبي بكر، أن القعقاع وزيد بن أسلم أرسلاه إلى سعيد بن المسيب يسأله كيف تغتسل المستحاضة؟ فقال: تغتسل من ظهر إلى ظهر، وتتوضأ لكل صلاة، فإن غلبها الدم استثفرت بثوب (¬5). ¬
[سنده صحيح] (¬1). (495) وكذلك روى ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن، قال: تغتسل من صلاة الظهر إلى مثلها من الغد. [وسنده صحيح] (¬2). ¬
الفصل السابع: خلاف العلماء في وطء المستحاضة
الفصل السابع: خلاف العلماء في وطء المستحاضة يحرم وطء المستحاضة أثناء نزول الدم الذي تعتبره حياضاً، لأنها حائض حقيقة وحكماً، وقد بينا في أدلة سابقة تحريم وطء الحائض. أما وطء المستحاضة أثناء نزول الدم التي تعتبره استحاضة، فقد اختلف العلماء فيه: فقيل: يجوز وطؤها، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4)، ¬
أدلة الجمهور على جواز وطء المستحاضة.
واختيار ابن حزم (¬1). فقيل: يحرم، إلا مع خوف العنت من الزوج أو الزوجة، وهو المشهور من مذهب أحمد (¬2). وقيل: يكره. وهو رواية عن أحمد (¬3). وقيل: إن تيقنت استحاضتها بتميزها من حيضها جاز وطؤها فيه وإن اختلط دم حيضها، بدم استحاضتها، فلم تميز لم توطأ. وهو مذهب إسحاق ابن راهوية (¬4)، وهو مذهب الشافعية في المرأة المتحيرة (¬5). أدلة الجمهور على جواز وطء المستحاضة. الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬6). فالآية دليل على أنه لا يجب اعتزال النساء فيما سواه، والاستحاضة غير ¬
الدليل الثاني
الحيض. الدليل الثاني: (496) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا إبراهيم بن خالد، ثنا معلى بن منصور، عن علي بن مسهر، عن الشيباني، عن عكرمة قال: كانت أم حبيبة تستحاض، فكان زوجها يغشاها. قال أبو داود: قال يحيى بن معين: معلى ثقة، وكان أحمد بن حنبل لا يروى عنه؛ لأنه كان ينظر في الرأي (¬1). [إسناده صحيح إن كان عكرمة سمعه من أم حبيبة] (¬2). الدليل الثالث: (497) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا أحمد بن أبي سريج الرازي، أخبرنا عبد الله بن الجهم، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن عاصم، عن عكرمة، عن حمنة بنت جحش، أنها كانت مستحاضة، وكان زوجها يجامعها (¬3). ¬
الدليل الرابع
[إسناده حسن إن شاء الله إن كان عكرمة سمعه من حمنة] (¬1) الدليل الرابع: أن أم حبيبة قد استحيضت، وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف (¬2)، وكذلك ¬
الدليل الخامس
وكذلك استحيضت حمنة (¬1)، وكانت تحت طلحة، وقد سألتا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حكم الاستحاضة، فلم يذكر لهما تحريم الجماع، ولو كان حراماً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما (¬2). الدليل الخامس: (498) روى البخاري معلقاً بصيغة الجزم، قال: قال ابن عباس: تغتسل وتصلي، ولو ساعة، ويأتيها زوجها إذا صلت، الصلاة أعظم (¬3) ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: من النظر: قال ابن المنذر: غير جائز يشبه دم الحيض بدم الاستحاضة، وقد فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما، فقال في الحيض: "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة" وقال في الاستحاضة: "إنما ذلك عرق، وليس بالحيض" والمسوي بينهما بعد تفريق النبي - صلى الله عليه وسلم - غير منصف في تشبيه أحدهما بالآخر، وقد أجمع أهل العلم على التفريق بينهما، قالوا: دم الحيض مانع من الصلاة، ودم الاستحاضة ليس كذلك، ودم الحيض يمنع الصيام، والمستحاضة تصوم وتصلي، وأحكامها أحكام الطاهرة، وإذا كان كذلك جاز وطؤها؛ لأن الصلاة والصوم لا يجبان إلا على الطاهر من الحيض. والله أعلم (¬1). وقال ابن حزم في الرد على من أوجب الصلاة والصيام وحرم الوطء، قال: "هذا خطأ؛ لأنها - أي المستحاضة - إما حائض، وإما طاهر غير حائض، ولا سبيل إلى قسم ثالث في غير النفساء، فإن كانت حائضاً فلا تحل لها الصلاة، ولا الصوم، وإن كانت غير نفساء ولا حائض فوطء زوجها لها حلال، ما لم يكن أحدهما صائماً، أو محرماً، أو معتكفاً، أو كان مظاهراً منها، فبطل هذا القول. وبالله تعالى التوفيق" (¬2). وممن قال بجواز وطء المستحاضة عكرمة (¬3)، ¬
دليل من منع وطء المستحاضة.
وعطاء (¬1)، وسعيد ابن جبير (¬2)، وسعيد بن المسيب (¬3)، والحسن (¬4)، والزهري (¬5). دليل من منع وطء المستحاضة. الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬6). وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى حرم نكاح الحائض لوجود الأذى، ودم الاستحاضة أذى، ولهذا حرم الوطء في الدبر؛ لأنه محل الأذى (¬7). وكل دم هو أذى يجب غسله من الثوب والبدن، فلا فرق في المباشرة بين دم الحيض ودم الاستحاضة؛ ¬
الدليل الثاني
لأنه كله رجس، وأما الصلاة فرخصة وردت بها السنة كما يصلي بسلس البول (¬1). الدليل الثاني: (499) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن غيلان ابن جامع، عن عبد الملك، عن الشعبي، عن قمير، عن عائشة، قالت: المستحاضة لا يأتيها زوجها. [اختلف فيه، فروي موقوفاً على عائشة، ورواه بعضهم موقوفاً على الشعبي] (¬2). ¬
ولو صح، فهو موقوف على عائشة، معارض بمثله من قول ابن عباس رضي الله عنه. والقول بالمنع، هو قول ابن سيرين (¬1)، وإبراهيم النخعي (¬2)، والشعبي (¬3)، والحكم (¬4)، وسليمان بن يسار (¬5)، وغيرهم. ¬
دليل من قال بالكراهة
والراجح من القولين هو القول الأول لقوة أدلته. والله أعلم. دليل من قال بالكراهة: ربما استدل من قال بالكراهة؛ لأنه يرى جماع المستحاضة مباشرة للنجاسة، على القول بنجاسة دم الاستحاضة، وملابسة النجاسة عنده مكروهة. فإن كان هذا دليله، فأولاً: لا يسلم نجاسة دم الاستحاضة، والنجس من الدماء، الدم المسفوح، ودم الحيض، ودم الحيوان النجس، وهذا ليس منه، وليس هذا موضع تحرير نجاسة الدم. ثانياً: على القول بالنجاسة، فاين الدليل على كراهة مباشرة النجاسة في غير الصلاة، فهذا الاستنجاء يباشر الإنسان النجاسة بيده، ولم يمنع من ذلك. ثالثاً: على التسليم بالكراهة، فإن الجماع حاجة، ولا مكروه معها. والله أعلم.
الباب الثامن: في أحكام النفاس
الباب الثامن: في أحكام النفاس ويشتمل تمهيد وإحد عشر فصلاً. التمهيد: في تعريف النفاس لغة واصطلاحاً. الفصل الأول: بأي شيء يثبت حكم النفاس الفصل الثاني: في أحكام السقط. الفصل الثالث: في خلاف العلماء في الدم مع الولادة. الفصل الرابع: في خلاف العلماء في الدم التي تراه الحامل قبل الولادة. الفصل الخامس: في النقاء المتخلل بين الدمين. الفصل السادس: إذا ولدت المرأة ولم تر دماً. الفصل السابع: في جماع النفساء إذا طهرت قبل الأربعين. الفصل الثامن: خلاف العلماء في أقل النفاس. الفصل التاسع: في خلاف العلماء في أكثر النفاس. الفصل العاشر: إذا وضعت المرأة توأمين فالنفاس من أيهما؟ الفصل الحادي عشر: في الأحكام المترتبة على النفاس.
تمهيد
تمهيد تعريف النفاس: النفاس لغة، قال في تاج العروس: "النِّفاس بالكسر: ولادة المرأة" اهـ (¬1). وفي المصباح المنير: "مأخوذ من النَّفس، وهو الدم، ومنه قولهم: "لا نفس له سائلة: أي: لا دم له يجري، وسمي الدم نفساً؛ لأن النفس التي هي اسم لجملة الحيوان، قوامها بالدم. والنفساء من هذا" اهـ (¬2). وقال ثعلب: النفساء: الوالدة، والحامل، والحائض. وقال أبو حاتم: نفست، على ما لم يسم فاعله. وحكى ثعلب: نُفِسَت ولداً، على فعل المفعول، والولد منفوس. ومنه الحديث: "ما من نفس منفوسة": أي مولودة. وفي حديث ابن المسيب: "لا يرث المنفوس حتى يستهل صارخاً". ومنه قولهم: ورث فلان هذا قبل أن ينفس فلان: أي قبل أن يولد. ويقال: نُفِسَت، ونَفِست: كـ عُني، وسَمِع. نفساً، ونفاسة، ونِفاساً: أي ولدت. وأما الحيض فلا يقال فيه إلا نَفِست، قاله الأزهري (¬3). التعريف الإصطلاحي: اختلفت تعريفات الفقهاء لاختلافهم في حكم الدم الخارج مع الولادة، أو قبلها متصلاً بها، فمن اعتبر الدم الخارج قبل الولادة أو معها متصلاً بها، من اعتبره ¬
نفاساً أدخله في الحد، ومن لم يعتبره لم يدخله. تعريف الحنفية: قالوا: هو الدم الخارج عقب الولادة (¬1). وزاد ابن الهمام في شرح فتح القدير: "من الفرج". ليخرج ما لو ولدت ولدها من بطنها، فإنها تكون عندهم صاحبة جرح سائل، لا نفساء. اهـ (¬2). وهي كثيرة في عصرنا هذا، وتسمى ولادة قيصرية. وتعريف الحنفية صريح بأنه لا يعتبر الدم الخارج أثناء الولادة نفاساً؛ لأنهم قصروه على الدم الخارج عقب الولادة. تعريف المالكية: عرفه خليل في مختصره: بأنه دم خرج للولادة. قال في الشرح الكبير: "النفاس دم صفرة أو كدرة خرج من القبل للولادة، معها أو بعدها لا قبلها على الأرجح" (¬3). وقال في الشرح الصغير: النفاس للولادة، معها أو بعدها، ولو بين توأمين (¬4). ثم قال: "أما ما خرج قبلها فالراجح أنه حيض". ¬
تعريف النفاس عند الأطباء.
تعريف الشافعية: قال في مغني المحتاج: "النفاس: هو الدم الخارج بعد فراغ الرحم من الحمل". فخرج بها ذكر: "دم الطلق، والخارج مع الولد، فليسا بحيض؛ لأن ذلك من آثار الولادة، ولا نفاس لتقدمه على خروج الولد، بل ذلك دم فساد." (¬1). تعريف الحنابلة: قال في كشاف القناع: النفاس "دم ترخيه الرحم مع ولادة، وقبلها بيومين أو ثلاثة مع أمارة، وبعدها إلى تمام أربعين يوماً" (¬2). وقال ابن مفلح الصغير: "دم يرخيه الرحم للولادة، وبعدها إلى مدة معلومة". (¬3) تعريف النفاس عند الأطباء. الأصل فيه تمزق جدار الرحم الوظيفي، ونزول الدم منه بعد أن تحول أثناء فترة الحمل إلى ما يسمى Decidua، وهو مماثل تماماً لجدار الرحم في النصف الثاني من الحمل، ولكن بكثافة أكثر، وكذلك خروج أنسجة أخرى خصوصاً من مكان المشيمة - التي تقع أعلى الرحم - أثناء التئام ذلك المكان. وفي نفس الوقت يتكون جدار وظيفي جديد من جدار الرحم الأساسي ليحل مكان جدار السابق ذكره. ¬
ومكونات دم النفاس هي خلايا جدار الرحم، وكرويات دم بيضاء، ومكونات الدم الأخرى، ويكون أحمر في الأيام الأولى من النفاس، ثم يبهت لونه تدريجياً حتى يصبح سائلاً أبيض مائلاً للاصفرار في الإسبوع الثالث أو الرابع، ومكوناته كرويات الدم البيضاء على الأكثر. بعد هذا التمزق لجدار الرحم الوظيفي، ونزول الدم منه يستبدل جدار جديد به بعد أربعة أسابيع من الولادة غير أنه لا يكتمل رجوع جميع الأعضاء التناسلية إلى حجمها الطبيعي، ونزول العادة الشهرية - لدى المرأة غير المرضعة ورجوع الجسم إلى حالته - إلا بعد ستة أسابيع من نزول الولد في الغالب (¬1). جاء في وقائع الندوة الثالثة للفقه الطبي، المنعقدة في الكويت "وقد عرف الأطباء النفاس: بأنه الفترة التي تعقب الولادة، وتحدث أثناءها بعض التغييرات لعودة الجهاز التناسلي إلى وضعه الطبيعي قبل الحمل. وسائل النفاس: هو عبارة عن الإفرازات التي تخرج من الرحم بعد الولادة، ويكون عبارة عن دم في أول أربعة أيام، ثم يفتح لونه، وتقل كمية الدم حتى يصبح عبارة عن مخاط، لا لون له بعد عشرة أيام" (¬2). ويقول بعض الأطباء:"يعرف دم النفاس وما يتبعه من إفرازات في الطب: بأنه ¬
الدم والافرازات التي تخرج من الرحم بعد الولادة، وتستمر لمدة ثلاثة أو أربعة أسابيع. وقد تطول إلى ستة أسابيع (أربعين يوماً). وفي الأيام الثلاثة أو الأربعة يكون الدم قانياً، وغليظاً ومحتوياً على جلطات (دم متجمد) ثم يخف تدريجياً بعد ذلك، ثم يصير بني اللون، مختلطاً بمادة مخاطية .. وأخيراً تظهر القصة البيضاء. ويكون دم النفاس وإفرازاته قلوي التفاعل في الرحم، وليس له رائحة عفنة، وإذا حدثت عفونة فإن ذلك دليل على وجود التهابات ميكروبية بالرحم أو المهبل، وتحتاج إلى علاج سريع قبل تحولها إلى حمى النفاس الخطيرة. وقد تتوقف الإفرازات الدموية لفترة، ثم يعود الدم إلى الظهور، ويعتبر ذلك نتيجة لوجود بقايا ولو بسيطة من المشيمة في الرحم، أو أن الرحم انقلب إلى الخلف بدلاً من وضعه الطبيعي إلى الأمام" (¬1). فبناء على هذا التعريف الطبي يكون النفاس هو الدم النازل بعد فراغ الرحم من الولد، فعند فراغ الرحم ينهدم الجدار الوظيف للرحم، فينزل على شكل دم في الأيام الأولى من النفاس، ثم يبهت لونه تدريجياً حتى ينقطع. والله أعلم. وذكر الأطباء أيضاً: "أن رحم المرأة بعد الولادة ينزل إلى مستوى السرة بعد أن كان يملأ تجويف البطن .. من القص إلى العانة ... وقبيل الولادة كان الرحم (بدون محتوياته) يزن كيلو جرام، وبعد أسبوع فقط يكون وزنه نصف كيلو جرام، وبعد أسبوعين من الولادة يصبح وزنه ربع كيلو إجرام، ثم ينخفض ¬
تدريجياً حتى يعود في نهاية فترة النفاس إلى وزنه الطبيعي وهو خمسين جراماً فقط وتعود ثخانة جدار الرحم من خمسة سنتيمترات إلى أقل من سنتمتر .. وأما الفراغ الذي كان بداخل الرحم حيث كان الجنين وأغشيته .. والذي كان يتسع لسبعة آلاف ميليلتر؛ فإنه يعود بعد انتهاء فترة النفاس إلى شق صغير لا يتسع لأكثر من ميليلترين فقط .... وتستمر التغيرات في جدار الرحم .... وفي غشائه الداخلي حتى يعود أدراجه إلى سالف عهده قبل الحمل" (¬1). ¬
الفصل الأول: بأي شيء يثبت حكم النفاس.
الفصل الأول: بأي شيء يثبت حكم النفاس. إذا القت المرأة نطفة في طورها الأول، فهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم أنه لا يترتب على ذلك الإسقاط حكم من أحكام إسقاط الحمل (¬1). وكذلك إذا أسقطت الجنين بعد أربعة أشهر فلا أعلم خلافاً أنها تكون نفساء (¬2) واختلف العلماء في العلقة والمضغة. فقيل: يثبت حكم النفاس إذا استبان من السقط بعض خلقه كالإصبع، والشعر والظفر، فهي نفساء. وهو مذهب الحنفية (¬3). وقيل: يثبت حكم النفاس بوضع ما يتبين فيه خلق الإنسان، فلو وضعت علقة أو مضغة لا تخطيط فيها لم يثبت لها حكم النفاس، وهو مذهب الحنابلة (¬4) وهو الراجح. وقيل: إذا ألقت علقة ثبت لها حكم النفساء، وهو مذهب المالكية (¬5). ¬
تعليل من قال: يثبت النفاس إذا تبين فيه خلق إنسان.
وقيل: إذا ألقت مضغة أو علقة وقال القوابل: إنه مبتدأ خلق آدمي، فالدم بعده نفاس، وهو مذهب الشافعية (¬1). وقيل: إذا وضعت مضغة مطلقاً ثبت حكم النفاس. وهي رواية في مذهب الإمام أحمد (¬2) وقيل: إذا وضعت لأربعة أشهر (¬3). تعليل من قال: يثبت النفاس إذا تبين فيه خلق إنسان. قال تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬4). ولم يقل أن يضعن أولادهن. تعليل آخر: إذا سقط الحمل وهو علقة، أو مضغة لم تتخلق، يحتمل أن يكون دماً متجمداً، أو قطعة لحم ليس أصلها الإنسان، ومع الإحتمال لا يمكن أن تترك الصلاة والصيام. وسبب ثالث: أن كثيراً من النساء لا ينتبهن إلى أنهن قد أجهضن إذا كان الحمل في دور العلقة أو المضغة، بخلاف ما إذا ألقت الجنين وقد تخلق. والله أعلم. تعليل من قال: إذا وضعت علقة. قالوا: لما تحولت إلى علقة انقلب من حاله إلى أصل الإنسان، فيكون نفاساً. ¬
تعليل من قال: إذا وضعت مضغة.
تعليل من قال: إذا وضعت مضغة. قالوا: إن المضغة هي بداية خلق الآدمي، فيكون نفاساً (¬1) تعليل من قال: إذا وضعت لأربعة أشهر فهو نفاس وإلا فلا: (500) ربما استدلوا بما رواه البخاري، حدثنا الحسن بن الربيع، حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش عن زيد بن وهب: قال عبد الله: حدثنا رسول الله - وهو الصادق المصدوق - قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة (¬2). وجه الإستدلال: أن الجنين لا ينفخ به الروح إلا بعد تمام أربعة أشهر، وقبل نفخ الروح لا يعتبر إنساناً بدليل لو سقط لم يبعث. والله أعلم والراجح والله أعلم القول بأنها إذا وضعت ما فيه خلق إنسان فإنها تكون نفساء لقوة أدلته. والله أعلم. وإذا رجحنا أن السقط متى ما تبين فيه خلق إنسان فإن المرأة تكون نفساء، ¬
فالسؤال الذي يطرح نفسه، كم يحتاج الجنين من يوم ليبدأ في التخلق للجواب على هذا السؤال، وعلى غيره رأيت أن أفرد فصلاً مستقلاً عن السقط، وأحكامه في الفصل التالي. والله المستعان.
الفصل الثاني: في أحكام السقط
الفصل الثاني: في أحكام السقط تعريف الإسقاط لغة وشرعاً: جاء في المصباح المنير: "السِّقط: الولد ذكراً كان أو أنثى يسقط قبل تمامه، وهو مستبين الخلق". وفي تاج العروس: "الولد يسقط من بطن أمه لغير تمام" اهـ ولم يشترط كونه مستبين الخلق. وجاء في المصباح المنير، يقال: سقط الولد من بطن أمه سقوطاً، فهو سقط بالكسر. والتثليث لغة. ولا يقال: وقع. وأسقطت الحامل: القت سقطاً. وفي تاج العروس: السقط مثلثة، والكسر أكثر. وجاء في تاج العروس أيضاً: "أسقطت الناقة وغيرها ولدها: إذا القت ولدها، والذي في أمالي القالي: أنه خاص في بني آدم". اهـ وفي معنى الإسقاط: الإجهاض. جاء في المصباح المنير: أجهضت المرأة ولدها إجهاضاً: أسقطته ناقص الخلق اهـ (¬1) ملاحظة: الإطلاق اللغوي للإسقاط لا يفرق بين كون السقط سقط من تلقاء نفسه، أو كان السقط حدث بفعل فاعل من جناية أو دواء. وجاء في المعجم الوسيط: أن مجمع اللغة العربية أقر إطلاق كلمة إجهاض ¬
على خروج الجنين قبل الشهر الرابع، وكلمة إسقاط على إلقائه ما بين الشهر الرابع والسابع، وهذا التعريف اصطلاح حادث. تعريف الإسقاط في اصطلاح الفقهاء. تبين لنا من تعريف الإسقاط لغة أنه يطلق على إلقاء العمل ناقصاً سواء كان النقص في المدة، أو كان النقص في الخلق. وتعريف الفقهاء لا يخرج عن هذا المعنى. عرف ابن عابدين الإجهاض في رسائله: "هو إنزال الجنين قبل أن يستكمل مدة الحمل (¬1). وللفقهاء ألفاظ مرادفة لمعنى الإسقاط والإجهاض، وهي تؤدي نفس المعنى منها: الإلقاء، الإملاص، الإنزال، الإخراج، الطرح. ¬
المبحث الأول: في أسباب الإسقاط
المبحث الأول: في أسباب الإسقاط الإسقاط تارة يكون تلقائياً، ويكون سببه والله أعلم إما تشوهات في الجنين، أو يكون رحم المرأة يعاني من أمراض معينة، أو يعاني من اتساع في عنق الرحم، أو غيرها من الإسباب التي يعرفها أهل الاختصاص (¬1). وتارة تكون أسبابه اجتماعية، كأن يقصد من الإسقاط التستر على الفاحشة (الزنا) أو الرغبة في تحديد النسل. وتارة تكون أسبابه صحية، كأن يكون الحامل على الإجهاض المحافظة على صحة الأم، أو إراحة الجنين بحيث لو ترك ينمو ولداً مشوهاً تشويهاً غير محتمل. وسوف نتناول حكم الإجهاض إذا كان اختيارياً، ومتى تكون المرأة المسقطة نفساء، ومتى لا تكون. أما الإجهاض التلقائي فلا يلحق به تكليف؛ لأنه خارج عن إرادة المرأة. ¬
المبحث الثاني: في الحكم التكليفي للإسقاط
المبحث الثاني: في الحكم التكليفي للإسقاط هناك من الفقهاء من فرق بين حكم الإجهاض بعد نفخ الروح، وبين حكمه قبل ذلك، لذلك سنعرض حكم كل حالة من الحالات على انفراد. الفرع الأول: في إسقاط الجنين بعد نفخ الروح ذهب الحنفية (¬1) والمالكية (¬2) , والشافعية (¬3) , والحنابلة (¬4) إلى تحريم الإجهاض بعد نفخ الروح. الأدلة على تحريم الإسقاط بعد نفخ الروح. الدليل الأول: الإجماع. فقد حكى الإجماع غير واحد. جاء في الشرح الكبير:"لا يجوز إخراج المني المتكون في الرحم، ولو قبل ¬
الدليل الثاني
الأربعين يوماً، وإذا نفخت فيه الروح حرم إجماعاً" (¬1). وقال ابن جزي: "وإذا قبض الرحم المني لم يجز التعرض له، وأشد من ذلك إذا تخلق، وأشد من ذلك إذا نفخ فيه الروح؛ فإنه قتل نفس إجماعا" (¬2). ونقله صاحب أسهل المدارك، وأقره (¬3). وقال ابن تيمية: إسقاط الحمل حرام بإجماع المسلمين، وهو من الوأد، الذي قال الله فيه: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (¬4). وقد قال الله تعالى {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} (¬5) (¬6). الدليل الثاني: وجوب الدية في قتله دليل على تحريم إسقاطه؛ إذ لو كان جائزاً لما وجبت به عقوبة. (501) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أنه قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرة: عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضى لها بالغرة توفيت، فقضى ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها (¬1). وقد ذهب ابن حزم إلى وجوب القود، فيمن تعمد قتل الجنين بعد نفخ الروح، فقال رحمه الله: "فإن قال قائل: فما تقولون فيمن تعمدت قتل جنينها، وقد تجاوزت مائة ليلة وعشرين ليلة بيقين، فقتلته، أو تعمد أجنبي قتله في بطنها، فقتله، فمن قولنا: إن القود واجب في ذلك، ولا بد، ولا غرة في ذلك حينئذ إلا أن يعفى عنه، فتجب الغرة فقط؛ لأنها دية، ولا كفارة في ذلك؛ لأنه عمد، وإنما وجب القود؛ لأنه قاتل نفس مؤمنة عمداً، فهو نفس بنفس، وأهله مخيرين: إما القود، وإما الدية، أو المفادات كما حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمن قتل مؤمناً. وبالله تعالى التوفيق" (¬2). وشرط الفقهاء في وجوب القود أن ينفصل حياً، ثم يموت. قال الحافظ: "وقد شرط الفقهاء في وجوب الغرة انفصال الجنين ميتاً بسبب الجناية، فلو انفصل حياً، ثم مات، وجب فيه القود أو الدية كاملة" (¬3). وليس هذا موضع تحرير هذه المسألة، والذي يهمنا وجوب العقوبة على من أسقط الجنين، وهو ظاهر في تحريم الإسقاط. والله أعلم. بقي سؤال: متى نحكم بأن الجنين قد نفخت فيه الروح؟ ذهب الفقهاء إلى أن نفخ الروح يكون بعد أن يتم للحمل أربعة أشهر. ¬
الدليل على أن نفخ الروح يكون بمد تمام أربعة أشهر.
الدليل على أن نفخ الروح يكون بمد تمام أربعة أشهر. الدليل الأول: الإجماع، فقد نقل الإجماع غير واحد على أن مرحلة نفخ الروح بعد تمام الحمل أربعة أشهر: قال القرطبي: "لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يوماً، وذلك تمام أربعة أشهر، ودخوله في الخامس" (¬1). وقال النووي: "اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر" (¬2). وقال ابن حجر: "اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر" (¬3). الدليل الثاني: (502) روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، قال عبد الله: حدثنا رسول الله - وهو الصادق المصدوق - قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه ¬
وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة (¬1). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثم ينفخ فيه الروح" جعل هذا بعد أطوار النطفة، والعلقة، والمضغة، وقد كان لكل طور أربعون يوماً، فمجموع ذلك مائة وعشرون يوماً. ¬
الفرع الثاني: حكم الإسقاط قبل نفخ الروح.
الفرع الثاني: حكم الإسقاط قبل نفخ الروح. اختلف في هذه المسألة على أقوال: فقيل يحرم الإسقاط مطلقاً، ولو كان نطفة. ذهب إلى هذا بعض الحنفية (¬1) , وهو المعتمد عند المالكية (¬2) , وقول الغزالي (¬3) , وابن العماد من الشافعية (¬4)، واختيار ابن الجوزي من الحنابلة (¬5). ¬
وقيل: يجوز التسبب لإسقاط الجنين مطلقا، ما لم يتخلق، والمراد بالتخلق عندهم نفخ الروح. وهو الراجح عند الحنفية (¬1). فهذان قولان متقابلان: التحريم مطلقاً، والإباحة مطلقاً ما لم ينفخ فيه الروح. وبقي في المسألة أقوال: منها: وقيل: يباح الإسقاط ما دام نطفة مطلقاً لعذر أو لغير عذر، أما العلقة والمضغة فلا يجوز إسقاطها. انفرد به اللخمي من المالكية (¬2)، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: يباح إلقاء النطفة إذا كان لعذر، أما من غير عذر فلا يجوز، اختاره بعض الحنفية (¬4). ¬
أدلة القائلين بتحريم إسقاط النطفة.
وقيل: يجوز التسبب لإسقاط النطفة والعلقة دون المضغة. حكاه الكرابيسي عن أبي بكر الفراتي من الشافعية (¬1). وقيل: يكره إلقاء النطفة اختاره علي بن موسى من الحنفية (¬2) , وهو رأي عند بعض المالكية فيما قبل الأربعين يوماً (¬3). أدلة القائلين بتحريم إسقاط النطفة. [الدليل الأول] (*) قالوا: النطفة بعد الإستقراء آيلة إلى التخلق، مهيأة لنفخ الروح فلا يجوز ¬
الدليل الثاني
إسقاطها، وهي أول مراحل الوجود؛ إذ الولد لا يخلق من مني الرجل وحده، بل من الزوجين جميعاً، فإذا امتزج ماء الرجل بماء المرأة، واستقر في الرحم فإن النطفة حينئذٍ تكون مهيأة للتخلق ووجود الولد. الدليل الثاني: حرم الله تعالى قتل الصيد حال الإحرام، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} الآية (¬1). وجاء في السنة تحريم أكل بيض الصيد؛ لأنه أصل الصيد، فكذلك لا يجوز إلقاء النطفة؛ لأنها أصل الإنسان. (503) والحديث الذي فيه تحريم أكل بيض الصيد قد رواه أحمد، قال: حدثني أبي ثنا هاشم بن سليمان يعني بن المغيرة عن علي بن زيد ثنا عبد الله ابن الحارث بن نوفل الهاشمي قال: كان أبي الحرث على أمر من أمر مكة في زمن عثمان، فأقبل عثمان رضي الله تعالى عنه إلى مكة، فقال عبد الله بن الحارث، فاستقبلت عثمان بالنزل بقديد، فاصطاد أهل الماء حجلا، فطبخناه بماء وملح، فجعلناه عراقا للثريد، فقدمناه إلى عثمان وأصحابه، فأمسكوا، فقال عثمان: صيد لم أصطده ولم نأمر بصيده اصطاده قوم حل فأطعموناه، فما بأس؟ فقال عثمان: من يقول في هذا؟ فقالوا: على. فبعث إلى علي رضي الله تعالى عنه، فجاء. قال عبد الله بن الحارث: فكأني أنظر إلى علي حين جاء، وهو يحت الخبط عن كفيه، فقال له عثمان: صيداً لم نصطده، ولم ¬
نأمر بصيده اصطاده قوم حل، فأطعموناه فما بأس؟ قال: فغضب على، وقال: أنشد الله رجلاً شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أتى بقائمة حمار وحش فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا قوم حرم فأطعموا أهل الحل. قال: فشهد اثنا عشر رجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال على: أشهد الله رجلا شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أتى ببيض النعام فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا قوم حرم أطعموه أهل الحل، قال: فشهد دونهم من العدة من الاثني عشر. قال: فثنى عثمان وركه عن الطعام، فدخل رحله وأكل ذلك الطعام أهل الماء. [الحديث إسناده ضعيف، والحديث بقصة حمار الوحش صحيح لغيره، وزيادة بيض النعام زيادة منكرة] (¬1). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: أول الوجود أن تقع النطفة في الرحم، وتختلط بماء المرأة، وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية. ووجهه قال: ماء المرأة ركن في الإنعقاد، فيجري الماءان مجرى الإيجاب والقبول، فمن أوجب، ثم رجع قبل القبول - يعني العزل - لم يكن جانياً على العقد بالنقض والفسخ، ومهما اجتمع الإيجاب والقبول - يعني ماء الرجل والمرأة - كان الرجوع بعده رفعاً، وفسخاً وقطعاً، وكما أن النطفة في الفقار لا يتخلق منها الولد، فكذا بعد الخروج من الإحليل، ما لم يمتزج بماء المرأة أو دمها، فهذا هو القياس الجلي (¬1). دليل من أباح إسقاط النطفة. الدليل الأول: القياس على جواز العزل، فإذا كان العزل جائزاً، وهو إلقاء الماء خارج الفرج، فكذلك إنزال المني بعد وجوده في الرحم إذ لا فرق، فإخراج النطفة من رحم المرأة لا يثبت لها حكم السقط أو الوأد؛ لأنه لا يصدق عليها ذلك، فلا ¬
الدليل الثاني
حرمة في إخراجها (¬1). الدليل الثاني: المني حال نزوله جماد محض، لا يتهيأ للحياة بوجه، بخلافه بعد استقراره في الرحم، وأخذه في مبادي التخلق. وبداية التخلق كما أرشد إليها حديث حذيفة الغفاري يكون بعد اثنتين وأربعين ليلة،. (¬2) (504) فقد روى مسلم، حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير المكي أن عامر بن واثلة حدثه أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. فأتى رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري، فحدثه بذلك من قول ابن مسعود، فقال: وكيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا، فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضى ربك ما شاء، ويكتب الملك ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضى ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص (¬3). ¬
دليل من قال: يجوز إسقاط الجنين قبل التخلق.
فهذا الحديث نص أن المني قبل الأربعين لا يكون قد تهيأ للحياة، وإنما هو نطفة، هو والعزل سواء، بخلاف بعد الأربعين فقد بدأ بالتخلق، وهو مرحلة كونه علقة. والله أعلم دليل من قال: يجوز إسقاط الجنين قبل التخلق. قالوا: إذا لم يتخلق بظهور الأعضاء الدالة على كونه آدمياً، فلا يثبت له حكم الآدمي من وجوب صيانته وحرمة الاعتداء عليه، وعليه فلا إثم في إسقاطه (¬1). دليل من قال: يجوز إسقاط الجنين قبل أن ينفخ فيه الروح. قال ابن عقيل: ما لم تحله الروح يجوز إسقاطه؛ لأنه ليس وأداً؛ لأن الوأد لا يكون إلا بعد التارات السبع {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} إلى قوله {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} (¬2) .. قال ابن مفلح: وهذا منه فقه عظيم، وتدقيق حسن، حيث سمع {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (¬3). وهذا لما حلته الروح؛ لأن ما لم تحله الروح لا يبعث، فيؤخذ منه أنه لا يحرم إسقاطه. وله وجه. اهـ (¬4). الراجح جواز إلقاء النطفة بشروط: ¬
أولاً: ألا يكون في ذلك ضرر على الأم، لا حالاً، ولا مآلاً. ثانياً: أن يكون ذلك برضى الزوج؛ لأن له حقاً في طلب الولد. ثالثاً: أن يكون في ذلك تحقيق مصلحة، أو دفع مفسدة. وإن قَلَّت؛ لأن إلقاء النطفة إذا كان خلواً من المصلحة كان منافياً لمقصود الشارع من تكثير النسل. رابعاً: ألا يكون الحامل على ذلك سوء ظن بالله، وذلك خوفاً من العالة والفقر. ثم اطلعت على مراحل تكوين الجنين من جهة الطب، فرأيت أن تحريم إلقاء النطفة أقرب من الإباحة، وأن النطفة لا تستوي هي والعزل من كل وجه. يذكر الأطباء أن ماء الرجل يحتوي على عدة مئات من الملايين من الحيوانات المنوية (¬1)، ويجب عليهم أن يعبروا المهبل، ومختنق عنق الرحم، وبعد ذلك يتوجهوا إلى قناة فالوب، وهي مسافة تبلغ (15 - 18) سم، ثم يستعدوا لاقتحام غشاء البويضة، ثم النزول إلى الرحم لتعلق في جداره، وتأخذ في النمو. وإليك رحلة الحيوان المنوي: ومن المعلوم أن كل الف حركة يبذلها ذيل الحيوان المنوي يقطع خلالها الحيوان المنوي مسافة قدرها سنتيمتراً واحداً، وفي حالة عدم وجود عوائق فإنه يستطيع قطع مسافة (10) سم في نصف ساعة، ومن يستهين بهذه المسافة فليعلم ¬
أنها تفوق طول الحيوان المنوي أربعة الأف ضعف (¬1). وتسير تلك الحيوانات المنوية باحثة عن البويضة (نطفة المرأة) لا تدري أين هي، عن يمين أو يسار، فتخترق مجموعة منها القناة الرحمية، وتسير مجموعة منها عبر القناة الرحمية اليسرى، تدعى أيضاً قناة فالوب، فيهلك من يهلك، ويشاء الله سبحانه وتعالى بقدرته أن يقترب من البويضة مئات الحيوانات المنوية، بينما تحتوي الدفقة الواحدة من المني مئات الملايين تهلك معظمها قبل الوصول إلى البويضة، ويختار الله سبحانه وتعالى بحكمته واحداً من مئات الحيوانات، فيصل سالماً إلى البويضة، فتفتح له البويضة كوة في جدارها، حتى يلج، فإذا ما دخل أغلق الثقب حالاً، ولن يسمح لحيوان منوي آخر بالدخول في البويضة، وإذا ما دخل الحيوان المنوي هشت له نواتها، كما أن نواة الحيوان المنوي المتجمعة في رأسه تفعل الشيء ذاته. ورأس الحيوان المنوي لا يزيد عن خمسة ميكرونات (والميكرون: واحد على المليون من الميتر، ويحتوي هذا الرأس على أسرار الوراثة كاملة ينقلها من الأب إلى الأبن أو البنت على هيئة 23 جسيماً ملوناً (كروموسوماً) وتحتوي البويضة على 23 جسيماً ملوناً مثلما يحتوي الحيوان المنوي على نفس العدد، فإذا اجتمعا معاً صارت البويضة الملقحة تحتوي على 46 جسيماً ملوناً، مثل بقية الخلايا.، فيعتبر كلا من الحيوان المنوي والبويضة نصف خلية ¬
فقط من ناحية العدد الكروموسومات، وعند تكون النطفة الأمشاج يكتمل عدد الكروموسومات الحاملة للصفات الوراثية من الأب والأم، وعبر هذه الكروموسومات تنتقل الصفات الوراثية، وحالما يتم التخصيب، وتتكون النطفة الأمشاج من الحيوان المنوي والبويضة يخلق الله سبحانه وتعالى جداراً سميكاً مصمتاً لا يمكن لأي حيوان منوي آخر اختراقه، ومنذ تلك اللحظة تبدأ العمل الجاد، وتبدأ بالانشطار: الخلية تصبح خليتان، الخليتان أربع، وهكذا دواليك حتى تتكون مئات الخلايا على هيئة ثمرة التوت، وعندئذ تسمى التوتة MORULLA كبرت الكرة قليلاً، صار ما بداخلها مجوفاً، وبه سائل رقيق .. وعندئذ تدعى بالتكور الجرثومي أو البلاستولا BLASTULA وفي هذه الأثناء لا تكف البويضة الملقحة أو النطفة الأمشاج عن الحركة بواسطة شعيرات قناة الرحم، وتقلصات جداره، وإن كانت حركة بطيئة فهي تنتقل من الثلث الوحشي لقناة الرحم (قناة فالوب) حيث يتم التلقيح وتتجه عبر القناة الرحمية حيث تقترب من الرحم، وفي خلال خمسة أيام أو أسبوع على الأكثر تكون قد وصلت إلى الرحم، وتنظر أين تتوسد وتنغرز وتوجهها عناية الله بها إلى أن خير مكان لها هو النصف العلوي من الرحم، وخاصة جداره الخلفي، وهناك تنشب، وتَعْلَق في جدار الرحم الذي قد أعد لاستقبالها بفرش الطنف والوسائد .. وجعل جداره مليئاً بالأوعية الدموية حتى يغذيها وينميها .. وعندما تنغرز الكرة الجرثومية تكون قد تحولت من نطفة الأمشاج إلى
علقة، وتبدأ عندئذ مرحلة جديدة في حياة الجنين .. وهي مرحلة العلقة (¬1). كل هذه الأمور تحدث للنطفة في العشرة الأيام الأولى على أكثر تقدير، فكيف يقال: إن هذا والعزل سواء. ¬
الفرع الثالث: في حكم الإسقاط للضرورة بعد نفخ الروح
الفرع الثالث: في حكم الإسقاط للضرورة بعد نفخ الروح إذا قرر طبيبان أو أكثر أن في بقاء الجنين خطراً على حياة أمه، ولا سبيل إلى انقاذهما معاً, فإما الجنين وموت أمه، وإما إنقاذ أمه بهلاكه، فما هو العمل حينئذٍ؟ فقيل: لا يجوز، ولو كان في ذلك خطر على حياة الأم (¬1). وقيل: يجوز ذلك بشرط أن يقرر جمع من الأطباء الثقات المختصين أن بقاء الجنين في بطن أمه فيه خطر مؤكد على حياة الأم (¬2). ¬
أدلة القائلين: لا يجوز إسقاط الجنين.
أدلة القائلين: لا يجوز إسقاط الجنين. عللوا ذلك: بأنه لا يجوز إحياء نفس بقتل أخرى، حيث لم يرد في الشرع (¬1). ولأننا إذا أسقطناه فقد تعمدنا قتل نفس مؤمنة، وإذا تركناه وماتت الأم لم يكن هذا من فعلنا، بل هو من تقدير الله سبحانه وتعالى. وقد يقدر الأطباء شيئاً، ويجزموا به، ولا يقع، وإذا كان كذلك، فلا يجوز دفع مفسدة متوقعة بارتكاب مفسدة محققة. وقد نسقط الجنين ولا تسلم الأم، فقد تعطب في نفاسها. قال ابن عابدين في حاشيته: لو كان الجنين حياً ويخشى على حياة الأم من بقائه؛ فإنه لا يجوز تقطيعه؛ لأن موت الأم به موهوم، فلا يجوز قتل الآدمي لأمر موهوم (¬2). دليل القائلين بجواز إسقاط الجنين إنقاذاً لأمه. إن هذه المسألة قد تعارض فيها واجب ومحرم، كل واحد منهما على درجة واحدة من الأهمية، بحيث لو أننا قمنا بالواجب، وقعنا في المحرم، ولو اتقينا المحرم أهدرنا الواجب، ولا سبيل للقيام بالواجب، وفي نفس الوقت اتقاء المحرم. وإنما رخصنا الأقدام على إسقاط الجنين دفعاً لأعظم الضررين، وجلباً ¬
لعظمى المصلحتين. يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره تعليقاً على آية قتل الخضر للغلام من أجل سلامة والديه: "ومنها القاعدة الكبيرة الجليلة، وهو أنه يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير, ويراعى أكبر المصلحتين، بتفويت أدناهما، فإن قتل الغلام شر، ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما أعظم شراً منه" (¬1). ويقول ابن القيم: "إذا تترس الكفار بأسرى من المسلمين بعدد المقاتلة، فإنه لا يجوز رميهم إلا أن يخشى على جيش المسلمين، وتكون مصلحة حفظ الجيش أعظم من مصلحة حفظ الأسرى، فحينئذٍ يكون رمي الأسرى، ويكون من باب دفع المفسدتين باحتمال أدناهما، فلو أنعكس الأمر، وكانت مصلحة الأسرى أعظم من رميهم لم يجز رميهم. فهذا الباب مبني على دفع أعظم المفسدتين بأدناهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، فإن فرض الشك، وتساوى الأمران لم يجز رمي الأسرى" (¬2). ويقول العز بن عبد السلام: "وإذا تساوت المصالح مع تعذر الجمع تخيرنا في التقديم والتأخير، للتنازع بين المتساويين، ولذلك أمثلة: أحدهما: إذا رأينا صائلاً يصول على نفسين من المسلمين متساويين، وعجز عن دفعه عنهما، فإنا نتخير. ¬
والمثال الثاني: لو رأينا من يصول على بضعين متساويين، وعجزنا عن الدفع عنهما، فإنا نتخير. (¬1) فإذا كان لنا شرعاً أن نرتكب أدنى المفسدتين دفعاً لأعظمهما، ونحصل أعظم المصلحتين، بتفويت أدناهما، فإن انقاذ الأم أعظم مصلحة من إنقاذ الجنين للأسباب التالية: الأول: الأم هي أصل الجنين، متكون منها، فإنقاذها أولى. الثاني: أن الأم غالباً ما يكون لها أطفال، ومن الممكن أن يتعرضوا لمتاعب كثيرة بعد وفاة أمهم، والأسرة كثيراً ما تتمزق إذا فقدت أحد أعضائها البارزين، فكم من طفل تشرد، وساءت تربيته بسبب فقدانه لأمه، وأهمية الأم في الأسرة عظيمة؛ إذ إنها أصل المجتمع، بخلاف الجنين فلا تعلق به لأحد. ثالثاً: حياة الأم قطعية، وحياة الجنين محتملة، والظني أو الاحتمالي لا يعارض القطعي المعلوم، فإنقاذ الأم أولى. رابعاً: الأم أقل خطراً، وتعرضاً للهلاك من الجنين في مثل هذه الظروف، مما يجعل إنقاذها أكثر نجاحاً من إنقاذ جنينها, لذا تعطى الأولوية في الإنقاذ ففي إحصائية لمستشفى الولادة والاطفال بالرياض في عام 1400 هـ، بلغ عدد الوفيات للنساء سبع وفيات، بينما بلغت وفيات الأطفال 865 حالة. (¬2) كل ذلك يؤكد أهمية إنقاذ الأم دون الجنين عند تساوي الأمر في إنقاذهما (¬3). ¬
المبحث الثالث: متى يبدأ الجنين بالتخلق
المبحث الثالث: متى يبدأ الجنين بالتخلق متى يبدأ الجنين بالتخلق. ورد في كتاب الله وفي سنة رسول الله المراحل التي يمر بها الجنين. أما الكتاب، فقوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (¬1). وقال سبحانه {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (¬2). وقال سبحانه: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (¬3). ¬
فقوله سبحانه: خلقاً من بعد خلق إشارة إلى الأطوار التي يمر بها الجنين. وقال سبحانه {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (¬1). وقال سبحانه وتعالى {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} (¬2). وقال {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (¬3). {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} (¬4). (505) وأما السنة، فقد روى البخاري، حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش عن زيد بن وهب: قال عبد الله: حدثنا رسول الله - وهو الصادق المصدوق - قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع، فيسبق عليه كتابه، فيعمل بعمل أهل النار ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة (¬5). ¬
(506) وروى مسلم، حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير المكي أن عامر بن واثلة حدثه، أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره، فأتى رجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري، فحدثه بذلك من قول ابن مسعود، فقال: وكيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضى ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضى ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص (¬1). ¬
وسوف يكون كلامنا في تناول هذه الآيات، والحديثين. فقد ذكر الله سبحانه وتعالى أطوار خلق الإنسان، فبين أن ابتداء خلقه من تراب، فالتراب هو الطور الأول. والطور الثاني: هو النطفة. والنطفة في اللغة: هو الماء القليل. ومنه قول الشاعر وما عليك إذا أخبرتني دنفاً ... وغاب بعلك يوماً أن تعوديني وتجعلي نطفة في القعب باردة ... وتغمسي فاك فيها ثم تسقيني فقوله: وتجعلي نطفة: أي ماء قليلاً في القعب، والمراد بالنطفة في هذه الآية الكريمة: نطفة المني المختلطة من ماء الرجل، وماء المرأة خلافاً لمن زعم أنها من ماء الرجل وحده. قال الزبيدي في تاج العروس: في التنزيل {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} قال الفراء: الأمشاج: هي الأخلاط: ماء الرجل، وماء المرأة، والدم والعلقة (¬1). ¬
وقال ابن السكيت: الأمشاج: الأخلاط. يريد النطفة؛ لأنها ممتزجة من أنواع، ولذلك يولد الإنسان ذا طبائع مختلفة (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وقال الشنقيطي: قوله تعالى {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} (¬1). ذكر جلا وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه خلق الإنسان من نطفة، وهي مني الرجل ومني المرأة؛ بدليل قوله تعالى {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} (¬2) أي أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة (¬3). ¬
وقال صاحب الدر المنثور بعد ذكر بعض الروايات في تفسير الأمشاج بالأخلاط من ماء الرجل وماء المرأة. وأخرج الطستي عن ابن عباس: أن نافع ابن الأزرق (¬1).، قال: أخبرني عن قوله: {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} قال: أخلاط ماء الرجل وماء المرأة إذا وقع في الرحم. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت أبا ذؤيب وهو يقول: كأن الريش والفوقين منه ... خلال النصل خالطه مشيج ونسب في اللسان هذا البيت لزهير بن حرام الهذلي، وأنشده هكذا: كأن النصل والفوقين منها ... خلال الريش سيط به مشيج ¬
حتى قال: إذا عرفت معنى ذلك، فاعلم أنه تعالى بين أن ذلك الماء هو النطفة، منه ما هو خارج من الصلب: وهو ماء الرجل. ومنه ما هو خارج من الترائب، وهو ماء المرأة (¬1) , وذلك في قوله جل وعلا: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (¬2). لأن المراد بالصلب: صلب الرجل، وهو ظهره. والمراد: ¬
بالترائب: ترائب المرأة، وهي موضع القلادة منها (¬1). ومنه قول امرئ القيس: ¬
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل واستشهد ابن عباس لنافع الأزرق على أن الترئب موضع القلادة يقول المخبل أو ابن أبي ربيعة والزعفران على ترائبها ... شرقاً به اللبات والبحر فقوله هنا من بين الصلب والترائب يدل على أن الأمشاج هي الأخلاط المذكورة (¬1). أما رأي الطب: في النطفة الأمشاج: يذكر الأطباء أنه فور دخول الحيوان المنوي البويضة، يأخذ الحيوان المنوي طريقه إلى الطبقة الشفافة، فيفرز إنزيم الأكروزين (ACROSIN) الذي يساعد على اختراق هذه الطبقة (15 - 25) دقيقة، بعدها يخترق الغشاء البلازيمي للبويضة في دقيقة واحدة، وينطلق رأس الحيوان المنوي صوب نواة البويضة، وينتفخ رأس الحيوان المنوي، وتصبح المادة الوراثية لكل من الأب والأم واضحة في النواة بعد (2 - 4) ساعات من الاقتحام، ولا يمكن التمييز بينهما حينئذ. وتسمى هذه النطفة التي تنشأ عن اختلاط نواتي البويضة والحيوان المنوي بالأمشاج، وذلك لأن الأمشاج يعني: الاختلاط (¬2). ¬
الطور الثالث: العلقة. وهي القطعة من العلق، وهو الدم الجامد. فقوله سبحانه {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} أي قطعة دم جامدة (¬1). وقال الزبيدي: العلق: الدم عامة ما كان. أو هو الشديد الحمرة، أو الغليظ. أو الجامد قبل أن ييبس. قال تعالى {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (¬2). وفي حديث سرية بني سليم: فإذا الطير ترميهم بالعلق. أي بقطع الدم. وفي التنزيل {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} (¬3) وفي حديث ابن أبي أوفى: "أنه بزق علقة، ثم مضى في صلاته" (¬4). (507) وروى مسلم، قال: حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل - صلى الله عليه وسلم - وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في ¬
رأي الطب في العلقة
مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني ظئره، فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره (¬1). قال القرطبي: "فاستخرج منه علقة" أي قطعة دم. والعلقة: الدم. رأي الطب في العلقة: " اتفق الأطباء على أن العلقة هي المرحلة التي تعلق فيها النطفة الأمشاج (التوتة) بجدار الرحم، وتنشب فيه" (¬2). فيكون على هذا تسميتها علقة لكونها عالقة بجدار الرحم، وهذا التفسير له وجه في اللغة، جاء في تاج العروس: العلوق: ما يعلق بالإنسان. العَلَق: كل ما عُلَّق. وأيضاً الطين الذي يعلق باليد. والعلق: دويبة: وهي دويدة حمراء تكون في الماء تعلق في البدن فقوله: تعلق في البدن إشارة إلى المناسبة من تسميتها علقة. وعلقت الدابة: شربت الماء فعلقت بها العلقة. كما في الصحاح: أي لزمتها، وقيل: تعلقت بها. وعُلِقَ: نشب العلق في حلقه عند الشراب. ¬
العلائق من الصيد: ما علق الحبل برجلها (¬1). يقول الدكتور محمَّد البار: فلفظ العلقة يطلق على كل ما ينشب ويعلق .. وكذلك تفعل العلقة إذ تنشب في جدار الرحم، وتنغرز فيه .. وتكون العلقة محاطة بالدم من كل جهاتها، وإذا عرفنا أن حجم العلقة عند انغرازها لا يزيد على مليمتر أدركنا على الفور لماذا أصر المفسرون القدامى على أن العلقة هي الدم الغليظ ... فالعلقة لا تكاد ترى بالعين المجردة، وهي مع ذلك محاطة بالدم من كل جهاتها، فتفسير العلقة بالدم الغليظ ناتج عن الملاحظة بالعين المجردة (¬2)، ولم يبعد بذلك المفسرون القدامى عن الحقيقة كثيراً، فالعالقة بجدار الرحم، والتي لا تكاد ترى بالعين المجردة محاطة بدم غليظ يراه كل ذي عينين. وينتهي الدكتور إلى أن العلقة تنشب في الرحم وتعلق فيه في اليوم السابع من التلقيح بعد أن تكون أن تكون انقسمت الخلايا فيها، وصارت مثل الكرة تماماً أو مثل ثمرة التوتة، وقد فصلت القول فيها فيما سبق (¬3). الطور الرابع: المضغة. اختلفوا في معنى المضغة: ¬
فقيل: هي القطعة الصغيرة من اللحم، على قدر ما يمضغه الآكل، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله. الحديث (¬1). وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} (¬2). قال ابن كثير: "إذا استقرت النطفة في رحم المرأة، مكثت أربعين يوماً كذلك، يضاف إليها ما يجتمع إليها، ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله، فتمكث كذلك أربعين يوماً، ثم تستحيل فتصير مضغة قطعة من لحم لا شكل فيها ولا تخطيط، ثم يشرع في التشكيل والتخطيط، فيصور منها رأس، ويدان، وصدر وبطن، وفخذان، ورجلان، وسائر الأعضاء. فتارة تسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط، وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط، ولهذا قال تعالى {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} (¬3) أي كما تشاهدونها. {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (¬4). أي وتارة تستقر في الرحم لا ¬
تلقيها المرأة، ولا تسقطها، كما قال مجاهد في قوله تعالى: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} قال: هو السقط مخلوق، وغير مخلوق، فإذا مضى عليها أربعون يوماً وهي مضغة أرسل الله تعالى ملكاً فنفخ فيها الروح، وسواها كما يشاء الله عز وجل من حسن وقبيح، وذكر وأنثى، وكتب رزقها وأجلها، وشقي أو سعيد كما ثبت في الصحيحين. وذكر حديث ابن مسعود السابق (¬1). فنأخذ من هذا ما يلي أولاً: أن النطفة حتى تكون مضغة تحتاج إلى ثمانين يوماً. وثانياً: أن المضغة منها ما هو مخلق أي قد ظهر فيه تخطيط، وتصوير، ومنها ما هو غير مخلق. أي ليس فيه تصوير. فمعنى ذلك أن الأربعين الأولى وهي مرحلة النطفة، والأربعين الثانية، وهي مرحلة العلقة لا تخطيط فيها، إنما التخطيط في مرحلة المضغة، وهي من بعد الثمانين. ولذلك قال سبحانه وتعالى {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} (¬2). فجعل خلق العظام وكسوها باللحم يعقب المضغة، وعبر بالفاء الدالة على الترتيب والتعقيب، أي ليس هناك تراخ طويل. وهو مقتضى حديث ابن مسعود في الصحيحين، حيث قال: "ثم يكون مضغة مثل ذلك: أربعين يوماً، ثم قال: "ثم ينفخ فيه الروح" وواضح أنه لا ينفخ فيه الروح إلا وقد أصبح بشراً سوياً، كما قال تعالى {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} إذاً في الأربعين الثالثة هي مرحلة التخليق والتصوير الذي يسبق نفخ ¬
الروح. والله أعلم (¬1) القول الثاني: في معنى المخلقة. ذهب بعض العلماء إلى أن قوله: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} هي من صفة النطفة، قال: ومعنى ذلك: فإنا خلقناكم من تراب، ثم من نطفة مخلقة وغير مخلقة، فقالوا: فأما المخلقة فما كان من خلق سويٍ، وأما غير المخلقة فما دفعته الأرحام من النطف، وألقته قبل أن يكون خلقاً. (508) روى ابن جرير الطبري في تفسيره، قال: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عامر، عن علقمة، عن عبد الله، قال: إذا وقعت النطفة في الرحم، بعث الله ملكاً، فقال: يا رب مخلقة، أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة مجتها الأرحام دماً، وإن قال: مخلقة، قال: يا رب فما صفة هذه النطفة؟، أذكر أم أنثى؟، ما رزقها؟ ما أجلها؟ أشقي أم سعيد؟، قال: فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب، فاستنسخ منه صفة هذه النطفة، قال: فينطلق الملك، فينسخها، فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها. [رجاله كلهم ثقات، ومثله لا يقال بالرأي، إلا أنه مخالف لما في الصحيحين من حديث ابن مسعود المرفوع] (¬2). ¬
القول الثالث: ومنها أن المخلقة: هي ما ولد حياً. وغير المخلقة: هي ما كان من سقط: يعني سواء كان مخلقاً أو غير مخلق .. وممن روي عنه هذا القول ابن عباس رضي الله عنهما، وقال صاحب الدر المنثور: أخرجه عنه ابن أبي حاتم، وصححه ونقله عنه القرطبي. وأنشد لذلك قول الشاعر. أفي غير المخلقة البكاء ... فأين الحزم ويحك والحياء (¬1). القول الرابع: معنى مخلقة: أي تامة، وغير مخلقة غير تامة. حكاه ابن جرير الطبري بإسناده من طريقين عن قتادة. قال الشنقيطي في تفسير معنى: تامة وغير تامة، قال والمراد بهذا القول عند قائله أن الله جل وعلا يخلق المضغ متفاوتة، منها ما هو كامل الخلقة سالم من العيوب، ومنها ما هو على عكس ذلك. فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم، وطولهم، وقصرهم، وتمامهم ونقصانهم. اهـ فيكون معنى غير مخلقة: ليس السقط، ولكن معناه: أي غير سالم من العيوب: الخَلْقِية وغير الخلقية. وممن روي عنه هذا القول قتادة كما نقله عنه ابن جرير وغيره، وعزاه الرازي لقتادة والضحاك (¬2). ¬
القول الخامس: في معنى مخلقة وغير مخلقة. معنى ذلك المضغة مصورة إنساناً، وغير مصورة، فإذا صورت فهي مخلقة، وإذا لم تصور فهي غير مخلقة: وهو السقط. ذكر ذلك ابن جرير الطبري في تفسيره من ثلاثة طرق، عن مجاهد، وحكاه عن عامر الشعبي، وعن أبي العالية (¬1). والفرق بينه وبين القول الأول: يتفقان أن كلا منهما كان سقطاً، إلا أن القول الأول حده بالنطفة إذا سقطت، وهذا لم يقيده، فهذا القول أعم منه. والله أعلم. روجح ابن جرير هذا القول، فقال: وأولى الأقول بالصواب قول من قال: المخلقة: المصورة خلقاً تاماً، وغير المخلقة: السقط قبل تمام خلقه؛ لأن المخلقة وغير المخلقة من نعت المضغة، والنطفة بعد مصيرها مضغة لم يبق لها حتى تصير خلقاً سوياً إلا التصوير، وذلك هو المراد من قوله {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} (¬2). خلقاً سوياً، وغير مخلقة بأن تلقيه الأم مضغة، ولا تصوير، ولا ينفخ فيها الروح (¬3). ورد هذا الشنقيطي رحمه الله، فقال: هذا القول الذي اختاره الإِمام ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، لا يظهر صوابه، وفي نفس الآية الكريمة قرينة تدل على ذلك، وهي قوله جل وعلا في أول الآية ¬
{فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} ولأنه على القول المذكور الذي اختاره الطبري يصير المعنى: ثم خلقناكم من مضغة مخلقة وخلقناكم من مضغة غير مخلقة، وخطاب الناس بأن الله خلق بعضهم من مضغة غير مصورة فيه من التناقض كما ترى فافهم. فإن قيل: في نفس الآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بغير المخلقة: السقط؛ لأن قوله {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (¬1) يفهم منه أن هناك قسماً آخر لا يقره الله في الأرحام إلى ذلك الأجل المسمى، وهو السقط. فالجواب: أنه لا يتعين فهم السقط من الآية؛ لأن الله يقر في الأرحام ما يشاء أن يقره إلى أجل مسمى، فقد يقره ستة أشهر، وقد يقره تسعة، وقد يقره أكثر من ذلك كيف يشاء. أما السقط فقد دلت الآية على أنه غير مراد بدليل قوله {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ} الآية لأن السقط الذي تلقيه أمه ميتاً ولو بعد التشكيل والتخطيط لم يخلق الله منه إنساناً واحداً من المخاطبين بقوله {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} الآية. فظاهر القرآن يقتضي أن كلاً من المخلقة وغير المخلقة يخلق منه بعض المخاطبين، بقوله {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} الآية (¬2). وبذلك تعلم أن أولى الأقوال بالآية هو القول الذي لا تناقض فيه؛ لأن القرآن أنزل ليصدق بعضه بعضاً، لا ليتناقض بعضه مع بعض، وذلك هو القول الذي قدمنا عن قتادة والضحاك، وقد اقتصر عليه الزمخشري في ¬
رأي الطب في معنى مخلقة وغير مخلقة.
الكشاف ولم يحك غيره، وهو أن المخلقة هي التامة وغير المخلقة هي غير التامة. اهـ (¬1). ولا يترجح لي ما رجحه الشيخ رحمه الله، فالذي يظهر لي أن المخلقة هي المصورة، التي ظهر فيها التخطيط، وغير المخلقة التي لا تخطيط فيها، وهي مرحلة يمر بها الجنين، ولا يلزم منه أن يكون سقطاً حتى نعترض على هذا التفسير بما ذكره الشنقيطي. فقد لا يسقط ويكون الله سبحانه وتعالى خلقنا من المضغة قبل تخليقها، كما خلقنا من النطفة والعلقة التي لا تخليق فيها. والله أعلم. رأي الطب في معنى مخلقة وغير مخلقة. مر معنا مرحلة النطفة الأمشاج، ثم العلقة: والتي فسرناها طبياً: بما يعلق في جدار الرحم فيما بين اليوم السادس والسابع منذ التلقيح. وفي اليوم العشرين أو الحادي والعشرين تبدأ بالظهور كتلة بدنية على جانبي المحور، ثم يتولى ظهورها تباعاً فيما يعرف بالكتل البدنية وتتولى هذه الكتل بالظهور حتى ليبلغ عددها عند اكتمالها 42 إلى 45 كتلة على كل جانب من القمة إلى المؤخرة، ولا يكاد ظهورها يكتمل حتى تبدأ الكتل التي في القمة تتمايز بحيث لا تكون جميع الكتل في مستوى واحد. ويتضح أمامنا أن المضغة somites أو الجنين ذو الكتل البدنية من اليوم العشرين أو الحادي والعشرين، وتستمر في الظهور إلى اليوم الثلاثين حيث يكون هناك 28 كتلة بدنية على كل جانب، ولا تكاد تظهر كتل جديدة حتى ¬
تكون الكتل القديمة قد تمايزت إلى قطاع عظمي، وقطاع عضلي، وقطاع جلدي وهكذا نرى الأسبوع الرابع (21 - 30) مخصص لظهور الكتل البدنية، والأسبوع الخامس والسادس، لتحول الكتل البدنية إلى قطاع عظمي وعضلي، والأسبوع السادس والسابع: لتكسي العظام بالعضلات. فتكون مرحلة التخلق قد ظهرت عند تمام أربعين أو أثنين وأربعين يوماً، وهذا التقدير يتفق مع حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في مسلم، وسوف نذكره إن شاء الله تعالى. يقول الدكتور البار: وقد كان المفسرون القدامى يصفون المضغة بأنها مقدار ما يمضغ من اللحم، وقد ذهبت إلى ذلك في الطبعة الأولى .. ولكني بعد إعادة النظر والمناقشة أرى الآن أن وصف المضغة ينطبق تمام الإنطباق على مرحلة الكتل البدنية، إذ يبدو الجنين فيها وكأن أسناناً انغرزت فيه ولاكته، ثم قذفته (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
هذا فيما يتعلق بالآيات، بقي أن نستعرض الأحاديث التي ذكرناها. (509) منها حديث ابن مسعود رواه البخاري، قال: حدثنا الحسن بن الربيع، حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش عن زيد بن وهب: قال عبد الله: حدثنا رسول الله - وهو الصادق المصدوق - قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة (¬1). قال الحافظ في الفتح: "حديث ابن مسعود بجميع طرقه يدل على أن الجنين يتقلب في مائة وعشرين يوماً في ثلاثة أطوار، كل طور منها في أربعين، ثم بعد تكملتها ينفخ فيه الروح" (¬2). ¬
بينما حديث حذيفة في مسلم ظاهره يعارض حديث ابن مسعود. فبداية التخلق كما أرشد إليها حديث حذيفة الغفاري يكون بعد اثنتين وأربعين ليلة، (510) فقد روى مسلم، حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير المكي أن عامر بن واثلة حدثه أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. فأتى رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري، فحدثه بذلك من قول ابن مسعود، فقال: وكيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا، فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضى ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص (¬1). ومر معنا رأي الأطباء بما يوافق حديث حذيفة. فقد ذكرنا عن الأطباء أن النطفة الأمشاج تبقى إلى اليوم السادس، ففي اليوم السادس أو السابع تتحول ¬
إلى علقة، بحيث تعلق في جدار الرحم. وفي الاسبوع الرابع (21 - 30) مخصص لظهور الكتل البدنية، والأسبوع الخامس والسادس، لتحول الكتل البدنية إلى قطاع عظمي وعضلي، والأسبوع السادس والسابع: لتكسى العظام بالعضلات. وهكذا يبقى في الرحم جنيناً مخلقاً في الأسبوع السابع (¬1). يقول الدكتور محمد البار: في نهاية الأسبوع السادس (42) يوماً تكون ¬
النطفة قد بلغت أوج نشاطها في تكوين الأعضاء، وهي قمة المرحلة الحرجة الممتدة من الأسبوع الرابع حتى الثامن، فيكون دخول الملك في هذه الفترة تنويهاً بأهميتها، وإلا فللملك ملازمة ومراعاة بالنطفة الإنسانية في كافة مراحلها ... نطفة وعلقة ومضغة، ودخوله هنا لتصويرها وشق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم بعد ذلك يحدد جنس الجنين ذكراً أم أنثى حسب ما يؤمر به، فيحول الغدة إلى خصية أو إلى مبيض ... والدليل على ذلك ما يشاهد في السقط حيث لا يمكن تمييز الغدة التناسلية قبل انتهاء الأسبوع السابع، وبداية الثامن: أي أنه لا يمكن تمييزها قبل دخول الملك لتحديد جنس الجنين ذكراً أم أنثى كما يؤمر به من خالقها (¬1). ¬
موقف العلماء من حديث حذيفة وحديث ابن مسعود
موقف العلماء من حديث حذيفة وحديث ابن مسعود: إما الترجيح وإما الجمع: قال القاضي عياض وغيره: ليس هو على ظاهره، يعني حديث حذيفة، ولا يصح حمله على ظاهره، بل المراد بتصويرها. إلخ أنه يكتب ذلك ثم يفعله في وقت آخر؛ لأن التصوير عقب الأربعين الأولى غير موجود في العادة وإنما يقع في الأربعين الثالثة، وهي مدة المضغة اهـ (¬1). قال ابن الصلاح: "أعرض البخاري عن حديث حذيفة بن أسيد، إما لكونه من رواية أبي الطفيل عنه، وإما لكونه لم يره ملتئماً مع حديث ابن مسعود، وحديث ابن مسعود لا شك في صحته، وأما مسلم فأخرجهما معاً، فاحتجنا إلى وجه الجمع بينهما بأن يحمل إرسال الملك على التعدد، فمرة في ابتداء الأربعين الثانية، وأخرى في انتهاء الأربعين الثالثة لنفخ الروح، وأما قوله في حديث حذيفة في ابتداء الأربعين الثانية، فصورها، فإن ظاهر حديث ابن مسعود أن التصوير إنما يقع بعد أن تصير مضغة، فيحمل الأول على أن المراد أنه يصورها لفظاً وكتابة، لا فعلاً، أي يذكر كيفية تصويرها، ويكتبها، بدليل أن جعلها ذكراً ¬
أو أنثى إنما يكون عند المضغة. وقال ابن حجر متعقباً: "وقد نوزع في أن التصوير حقيقة إنما يقع في الأربعين الثالثة بأنه شوهد في كثير من الأجنة التصوير في الأربعين الثانية، وتمييز الذكر من الأنثى، فعلى هذا فيحتمل أن يقال: أول ما يبتديء به الملك تصوير ذلك لفظاً وكتباً، ثم يشرع فيه فعلاً عند استكمال العلقة، ففي بعض الأجنة يتقدم ذلك، وفي بعضها يتأخر، ويكون بقي في حديث حذيفة أنه ذكر العظم واللحم، وذلك لا يكون إلا بعد أربعين العلقة (¬1) , فيقوي ما قاله عياض ومن تبعه" (¬2). قال ابن القيم في التبيان: فإن قيل: قد ذكرتم أن تعلق الروح بالجنين إنما يكون بعد الأربعين الثالثة، وإن خلق الجنين يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، وبينتم أن كلام الأطباء لا يناقض ما أخبر به الوحي من ذلك. فما تصنعون بحديث حذيفة بن أسيد الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: يدخل الملك في النطفة بعد أن تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة، فيقول: أي رب أشقي أم سعيد؟ فيكتبان، أي رب، ذكر أم أنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله، وأثره، وأجله، ورزقه، ثم يطوى الصحيفة، فلا يزاد فيها، ولا ينقص. ¬
قيل: نتلقاه بالقبول والتصديق، وترك التحريف، ولا ينافي ما ذكرناه إذ غاية ما فيه أن التقدير وقع بعد الأربعين الثالثة، وكلاهما حق، قاله الصادق - صلى الله عليه وسلم -، وهذا تقدير بعد تقدير. فالأول: تقدير عند انتقال النطفة إلى أول أطوار التخليق، التي هي أول مراتب الإنسان. وأما قبل ذلك فلم يتعلق بها التخليق. والتقدير الثاني: تقدير عند كمال خلقه ونفخ الروح، فذلك تقدير عند أول خلقه وتصويره، وهذا تقدير عند تمام خلقه وتصويره، وهذا أحسن من جواب من قال: إن المراد بهذه الأربعين التي في حديث حذيفة الأربعين الثالثة، وهذا بعيد جداً من لفظ الحديث، ولفظه يأباه كل الإباء، فتأمله. فإن قيل فما تصنعون بحديثه الآخر الذي في صحيح مسلم، (511) فقد روى مسلم، حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح، أخبرنا ابن وهب، أخبر في عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير المكي أن عامر بن واثلة حدثه أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. فأتى رجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري، فحدثه بذلك من قول ابن مسعود، فقال: وكيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً، فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك ثم يقول: يا رب
أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضى ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص (¬1). وفي لفظ آخر في الصحيح أيضاً: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأذني هاتين، يقول: إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة، ثم يتسور عليها الملك الذي يخلقها، فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ أسوي أم غير سوي؟ ثم يقول: يا رب ما رزقه؟ وما أجله؟ وما خلقه؟ ثم يجعله الله عز وجل شقياً أم سعيداً. وفي لفظ آخر في الصحيح أيضاً: "أن ملكاً موكلاً بالرحم إذا أراد الله أن يخلق شيئاً بإذن الله لبضع وأربعين ليلة" ثم ذكر نحوه. قيل: نتلقاه أيضاً بالتصديق والقبول، وترك التحريف وهذا يوافق ما أجمع عليه الأطباء من أن مبدأ التخليق والتصوير بعد الأربعين (¬2). فإن قيل: فكيف توفقون بين هذا، وبين حديث ابن مسعود، وهو صريح في أن النطفة: أربعين يوماً نطفة، ثم أربعين يوماً علقة، ثم أربعين يوماً مضغة .. ومعلوم أن العلقة والمضغة لا صورة فيها، ولا جلد، ولا لحم، ولا عظم ... وليس بنا حاجة إلى التوفيق بين حديثه هذا وبين قول الأطباء؛ فإن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم، وقولهم عرضة للخطأ، ولكن الحاجة إلى التوفيق بين حديثه ¬
وحديث حذيفة المتقدم .. قيل: لا تنافي بين الحديثين بحمد الله، وكلاهما خارج من مشكاة صادقة معصومة، وقد ظن طائفة أن التصوير في حديث حذيفة إنما هو بعد الأربعين الثالثة. وخطأ هذا ابن القيم، ثم قال: وظنت طائفة أن التصوير والتخليق في حديث حذيفة في التقدير والعلم، والذي في حديث ابن مسعود في الوجود الخارجي. والصواب يدل على أن الحد ما دل عليه الحديث من أن ذلك في الأربعين الثانية، ولكن هناك تصويران: أحدهما: تصوير خفي، لا يظهر، وهو تصوير تقديري، كما تصور حين تفصل الثوب أو تنجر الباب: مواضع القطع، والفصل، فيعلم عليها، ويضع مواضع الفصل والوصل، وكذلك كل من يضع صورة في مادة لا سيما مثل هذه الصورة .. ينشئ فيها التصوير والتخليق على التدريج شيئاً بعد شيء، لا وهلة واحدة كما يشاهد بالعيان في التخليق الظاهر في البيضة. أحدهما تصوير وتخليق علمي، لم يخرج إلى الخارج. الثانية: مبدأ تصوير خفي، يعجز الحس عن إدراكه. الثالثة: تصوير يناله الحس، ولكنه لم يتم بعد. الرابعة: تمام التصوير الذي ليس بعده إلا نفخ الروح. فالمرتبة الألى علمية .. والثلاث الآخر عينية. وهذا التصوير بعد التصوير، نظير التقدير بعد التقدير .. فالرب تعالى قدر مقادير الخلائق تقديراً عاماً قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف
سنة. وهنا كتب الشقاوة والسعادة والأعمال والأرزاق والآجال. والثاني تقدير بعد هذا، وهو أخص منه. وهو التقدير الواقع عند القبضتين حين قبض تبارك وتعالى أهل السعادة بيمينه، وقال: هؤلاء إلى الجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، وقبض أهل الشقاوة باليد الأخرى، وقال: هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون. والثالث: تقدير بعد هذا، وهو أخص منه عندما يمنى به، كما في حديث حذيفة بن أسيد المذكور. والرابع: تقدير آخر بعد هذا .. وهو عندما يتم خلقه وينفخ فيه الروح، كما صرح به الحديث الذي قبله يعني: حديث ابن مسعود - (¬1). وفي الفتح: "وقال بعضهم يحتمل أن يكون الملك عند انتهاء الأربعين الأولى يقسم النطفة إذا صارت علقة إلى أجزاء بحسب الأعضاء، أو يقسم بعضها إلى جلد، وبعضها إلى لحم، وبعضها إلى عظم، فيقدر ذلك كله قبل وجوده، ثم يتهيأ ذلك في آخر الأربعين الثانية، ويتكامل في الأربعين الثالثة. وقال بعضهم: معنى حديث ابن مسعود أن النطفة يغلب عليها وصف المني في الأربعين الأولى، ووصف العلقة في الأربعين الثانية، ووصف المضغة في الأربعين الثالثة، ولا ينافي ذلك أن يتقدم تصويره. (¬2) ¬
وذهب بعضهم إلى أن قوله: مخلقة وغير مخلقة صفة للنطفة، وليست للمضغة، روي ذلك عن ابن مسعود بسند صحيح، رواه ابن جرير الطبري عنه. (512) فقد روى ابن جرير الطبري في تفسيره، قال: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عامر، عن علقمة، عن عبد الله، قال: إذا وقعت النطفة في الرحم، بعث الله ملكاً، فقال: يا رب مخلقة، أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة مجتها الأرحام دماً، وإن قال: مخلقة، قال: يا رب فما صفتها ما رزقها؟ ما أجلها؟ أشقي أم سعيد؟، قال: فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب، فاستنسخ منه صفة هذه النطفة، قال: فينطلق الملك، فينسخها، فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها (¬1). هذا ما تيسر لي جمعه من أقوال أهل العلم في الجمع بين حديث ابن مسعود، وحديث حذيفة. والله أعلم. ¬
الفصل الثالث: في خلاف العلماء في الدم مع الولادة
الفصل الثالث: في خلاف العلماء في الدم مع الولادة اختلف العلماء في الدم الخارج مع الولادة. فقيل: لا يعتبر نفاساً مطلقاً. وهو قول محمد وزفر من الحنفية (¬1)، والمشهور من مذهب الشافعية (¬2). وقيل: يعتبر نفاساً مطلقاً. وهو مذهب المالكية (¬3)، والحنابلة (¬4)، ووجه في مذهب الشافعية (¬5). وقيل: إن خرج أكثر الولد اعتبر نفاساً، وإلا فلا، وهذا القول هو المشهور من مذهب الحنفية (¬6). ¬
دليل من لم يعتبره نفاسا.
دليل من لم يعتبره نفاساً. الدليل الأول: قالوا: لم نجعله نفاساً؛ لأنه ما لم ينفصل جميع الولد فهي في حكم الحامل، ولهذا يجوز للزوج رجعتها، فصار كالدم الذي تراه في حال الحمل (¬1). الدليل الثاني: قالوا: بأن دم النفاس دم رحم، ودم الرحم لا يوجد من الحامل؛ لأن الحبل يسد فم الرحم؛ لأن الله تعالى أجرى عادته بذلك لئلا ينزل ما فيه، لكون الثقب من أسفل (¬2). دليل من قال بأنه دم نفاس. التعليل الأول: قالوا: بأنه دم خرج بسبب الولادة فكان نفاساً كالخارج بعده، وإنما يعلم خروجه إذا كان قريباً منها، ويعلم ذلك برؤية أماراتها من المخاض ونحوه في وقته (¬3). التعليل الثاني: قالوا: إن النفاس مأخوذ من تنفس الرحم بخروج النفس الذي هو الدم، وفي المصباح المنير، قال عن النفاس: "مأخوذ من النَّفس، وهو الدم، ومنه قولهم: "لا نفس له سائلة: أي: لا دم له يجري، وسمي الدم نفساً؛ لأن النفس ¬
دليل من اشترط خروج أكثر الولد.
التي هي اسم لجملة الحيوان، قوامها بالدم. والنفساء من هذا" اهـ (¬1). ومنه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنفست لدم الحيض. وسبق الكلام على ذلك. واعترض على ذلك بأن النفاس مأخوذ من خروج النَّفْس، الذي هو الولد (513) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثني جرير، عن منصور، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، عن علي رضي الله تعالى عنه، قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار وإلا قد كتب شقية أو سعيدة. فقال رجل: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا، وندع العمل، فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما من كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة. قال: أما أهل السعادة فييسرون لعمل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل الشقاوة ثم قرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآية. وأخرجه مسلم (¬2). وعندي لا مانع أن يكون النفاس مأخوذاً من الاثنين معاً. دليل من اشترط خروج أكثر الولد. استدلوا بقولهم: أولاً: أن خروج الأكثر له حكم الكل. ¬
ثانياً: أن بقاء الأقل لا يمنع خروج الدم من الرحم (¬1). القول الراجح: الذي يظهر لي والله أعلم أن الدم يعتبر نفاساً إذا خرج مع الولد بسبب الولادة، فإذا نزل المخاض بالمرأة فإن الرحم ينفتح شيئاً فشيئاً، فيخرج الدم من المرأة ويستمر، ويتصل بالدم الخارج بعد الولادة، فهما دم واحد، وكلاهما خرج من الرحم، إلا أن الذي يعكر على هذا الترجيح ما قرره الطب، فإن كان ما قرره الطب حقيقة مسلمة بينهم سلمنا لهم، وإن كان بينهم خلاف في هذا فإني على ما ترجح لدي والله أعلم جاء في وقائع الندوة الثالثة للفقه الطبي، المنعقدة في الكويت" وقد عرف الأطباء النفاس: بأنه الفترة التي تعقب الولادة، وتحدث أثناءها بعض التغييرات لعودة الجهاز التناسلي إلى وضعه الطبيعي قبل الحمل. وسائل النفاس: هو عبارة عن الإفرازات التي تخرج من الرحم بعد الولادة، ويكون عبارة عن دم في أول أربعة أيام، ثم يفتح لونه، وتقل كمية الدم حتى يصبح عبارة عن مخاط، لا لون له بعد عشرة أيام" (¬2). والأصل في النفاس تمزق جدار الرحم الوظيفي، ونزول الدم منه بعد أن ¬
تحول أثناء قرة الحمل إلى ما يسمى Decidua، وهو مماثل تماماً لجدار الرحم في النصف الثاني من الحمل، ولكن بكثافة أكثر، وكذلك خروج أنسجة أخرى خصوصاً من مكان المشيمة - التي تقع أعلى الرحم أثناء التئام ذلك المكان. وفي نفس الوقت يتكون جدار وظيفي جديد من جدار الرحم الأساسي ليحل مكان جداره السابق ذكره. ومكونات دم النفاس هي خلايا جدار الرحم، وكرويات دم بيضاء، ومكونات الدم الأخرى، ويكون أحمر في الأيام الأولى من النفاس، ثم يبهت لونه تدريجياً حتى يصبح سائلاً أبيض مائلاً للاصفرار في الإسبوع الثالث أو الرابع، ومكوناته كرويات الدم البيضاء على الأكثر. بعد هذا التمزق لجدار الرحم الوظيفي، ونزول الدم منه يستبدل جدار جديد به بعد أربعة أسابيع من الولادة غير أنه لا يكتمل رجوع جميع الأعضاء التناسلية إلى حجمها الطبيعي، ونزول العادة الشهرية - لدى المرأة غير المرضعة ورجوع الجسم إلى حالته - إلا بعد ستة أسابيع من نزول الولد في الغالب (¬1). ويقول بعض الأطباء: "يعرف دم النفاس وما يتبعه من إفرازات في الطب: بأنه الدم والافرازات التي تخرج من الرحم بعد الولادة، وتستمر لمدة ثلاثة أو أربعة أسابيع. وقد تطول إلى ستة أسابيع (أربعين يوماً). ¬
وفي الأيام الثلاثة أو الأربعة يكون الدم قانياً، وغليظاً ومحتوياً على جلطات (دم متجمد) ثم يخف تدريجياً بعد ذلك، ثم يصير بني اللون، مختلطاً بمادة مخاطية .. وأخيراً تظهر القصة البيضاء (¬1). فبناء على هذا التقرير الطبي يكون النفاس هو الدم النازل بعد فراغ الرحم من الولد، فعند فراغ الرحم ينهدم الجدار الوظيفي للرحم، فينزل على شكل دم في الأيام الأولى من النفاس، ثم يبهت لونه تدريجياً حتى ينقطع. والله أعلم. ¬
الفصل الرابع: في خلاف العلماء في الدم الذي تراه الحامل قبل الولادة
الفصل الرابع: في خلاف العلماء في الدم الذي تراه الحامل قبل الولادة اختلف العلماء في الدم الخارج قبل الولد: فقيل: لا يعتبر نفاساً. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3). وقيل: إن خرج الدم قبل الولادة بيوم أو يومين ومعه طلق (¬4)، كان نفاساً، وإلا فلا. وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5). ¬
أدلة الجمهور على أن الدم قبل الولادة لا يعتبر نفاسا.
أدلة الجمهور على أن الدم قبل الولادة لا يعتبر نفاساً. أدلتهم في هذه المسألة هي أدلتهم في استدلالهم في أن الدم الذي يخرج مع الولادة لا يعتبر نفاساً، وقد سقت أدلتهم في المسألة التي قبل هذه. فإذا كان الدم الذي مع الولادة لا يعتبر نفاساً، فما بالك بالدم الذي قبل الولادة. دليل الحنابلة على أن الدم قبل الولادة بيوم أو يومين نفاس. استدلوا بقولهم: إنه دم خرج بسبب الولادة فكان نفاساً كالخارج بعده، وإنما يعلم خروجه بسبب الولادة إذا كان قريباً منها، ويعلم ذلك برؤية أماراتها من المخاض ونحوه في وقته، وأما إن رأت الدم من غير علامة على قرب الوضع لم تترك له العبادة؛ لأن الظاهر أنه دم فساد. فإن تبين كونه قريباً من الوضع كوضعها بعده بيوم أو يومين أعادت الصوم المفروض إن صامته فيه (¬1). ¬
الفصل الخامس: في النقاء المتخلل بين الدمين في مدة النفاس
الفصل الخامس: في النقاء المتخلل بين الدمين في مدة النفاس اختلف العلماء في النفساء تطهر، ثم يعود الدم قبل انتهاء مدة النفاس. فقيل: الطهر والدم نفاس؛ لأن الطهر المتخلل في الأربعين لا يفصل، فلو رأت ساعة دماً، وأربعين إلا ساعتين طهراً، ثم ساعة دماً كان الأربعون كله نفاساً. وهذا مذهب أبي حنيفة (¬1). وقيل: إن كان الطهر أقل من خمسة عشر يوماً كان الجميع نفاساً وإن كان الطهر خمسة عشر يوماً فصاعداً، يكون الأول نفاساً، والثاني حيضاً إن أمكن وإلا كان استحاضة. وهو رواية ابن المبارك عن أبي حنيفة (¬2)، واختيار أبي يوسف ومحمد من الحنفية (¬3). القول الثاني: المذهب المالكي. مذهب المالكية في النفاس المتقطع، نحو مذهبهم في الحيضة المتقطعة (¬4). ¬
القول الثالث
قالوا: المرأة إذا أتاها دم، ثم انقطع، ثم نزل دم آخر، فإن كان بين الدمين طهر صحيح خمسة عشر يوماً فالدم الثاني حيض مستأنف، والأول نفاس. وإن كان الطهر لا يبلغ نصف شهر كأن يأتيها الدم يوماً ثم تطهر يومين ثم يأتيها يوماً آخر وهكذا، فإنها تلفق من أيام الدم ستين يوماً، وتلغي أيام الانقطاع، وتغتسل كما انقطع، وتصوم وتصلي وتوطأ. (¬1) القول الثالث: مذهب الشافعية. المرأة إذا رأت يوماً دماً ويوماً نقاء فلها حالان: الأولى: أن ينقطع دمها، ولا يتجاوز ستين يوماً: الثاني: أن يجاوز التقطع ستين يوماً. الحال الأولى: إذا لم يجاوز ستين يوماً (¬2)، نظر: فإن لم يبلغ مدة النقاء بين الدمين أقل الطهر: وهو خمسة عشر يوماً: ففيه قولان مشهوران. أحدها: أن أيام الدم نفاس، وأيام النقاء طهر. التعليل: لأن الدم إذا دل على الحيض، وجب أن يدل النقاء على الطهر. وهذا يسمى قول اللفظ أو التلفيق. الثاني: أن أيام الدم وأيام النقاء كلها نفاس. ويسمى قول السحب ¬
واختلف الشافعية في الأصح منهما. قال النووي: "صحح الأكثرون قول السحب" (¬1). وقال المرداوي: "الذي صرح به الشافعي في سائر كتبه أن كل ذلك حيض أيام الدم وأيام النقاء" (¬2). قلت: وحكم النفاس عندهم حكم الحيض في هذه المسألة. ووجهه: أن عادة النساء في الحيض مستمرة بأن يجري الدم زماناً، ويرقأ زماناً، وليس من عادته أن يستديم جريانه إلى انقضاء مدته، فلما كان زمان إمساكه نفاساً، لكونه بين دمين، كان زمان النقاء نفاساً لحصوله بين دمين. فعلى هذا تكون المدة كلها نفاساً، يحرم عليها في أيام النقاء ما يحرم عليها في أيام الدم. أما إذا بلغت مدة النقاء أقل الطهر خمسة عشر يوماً فصاعداً، ثم عاد الدم. فالأصح أن العائد دم حيض، والأول نفاس، وما بينهما طهر؛ لأنهما دمان تخللهما طهر كامل، فلا يضم أحدهما إلى الآخر كدمي الحيض. والوجه الثاني: أنه نفاس، لوقوعه في زمن الإمكان، كما لو تخللهما دون خمسة عشر يوماً، وأما النقاء المتخلل ففيه قولان: أحدهما أنه طهر. والثاني: أنه نفاس. الحال الثاني: أن ترى يوماً دماً ويوماً نقاء ويتجاوز ستين يوماً، فهذه مستحاضة اختلط حيضها باستحاضتها. قال النووي: "هذا هو الصحيح ¬
القول الرابع
المشهور الذي نص عليه الشافعي في كتاب الحيض، وقطع به جماهير الأصحاب المتقدمين والمتأخرين" (¬1). وقد تكلمنا عن أحكام المستحاضة في باب مستقل، فارجع إليه إن شئت (¬2). القول الرابع: المذهب الحنبلي في المذهب الحنبلي روايتان: الأولى: وهي المشهورة من المذهب الحنبلي أنه مشكوك فيه، تصوم وتصلي، وتقضي الواجب، (¬3) وجه كونه مشكوكاً فيه، أي أنه تعارض فيه أمارتان، في كونه دم نفاس أو فساد. الرواية الثانية: أنه دم نفاس (¬4). القول الخامس: قال أبو ثور: إذا رأت النفساء الطهر والنقاء، فهو طهرها، فإن عاودها الدم بعد أيام، فهو دم فساد، ليس بحيض ولا نفاس، فإن رأت بعد خمسة عشر ¬
يوماً دماً يوماً وليلة، فهو حيض (¬1). الراجح من هذه الأقوال: ما رجحناه في باب الحيض نرجحه هنا، وأن الانقطاع اليسير لا يلتفت إليه؛ لأن عادة النساء في الحيض مستمرة بأن يجري الدم زماناً، ويرقأ زماناً، وليس من عادته أن يستديم جريانه إلى انقضاء مدته، أما إذا كان انقطاع الدم طويلاً كاليوم واليومين والثلاثة فإننا نحكم بطهارتها، فإذا عاد الدم في زمن الأربعين فإن وافق زمن عادتها فهو حيض، وإن لم يوافق فإنه نفاس. والله أعلم. ¬
الفصل السادس: إذا ولدت المرأة ولم تر دما
الفصل السادس: إذا ولدت المرأة ولم تر دماً اختلف العلماء فيما يجب على المرأة إذا ولدت ولم تر دماً. فقيل: يجب عليها الغسل، ويبطل صومها إن كانت صائمة. وهو قول أبي حنفية، وزفر (¬1)، والراجح في مذهب مالك (¬2) وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬3) ووجه في مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: لا يجب عليها غسل. وهو اختيار أبي يوسف رحمه الله (¬5)، وقول ¬
دليل من قال: يجب عليها الغسل.
للمالكية (¬1)، ووجه في مذهب الشافعية (¬2)، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: يستحب لها الغسل. اختاره اللخمي من المالكية (¬4). دليل من قال: يجب عليها الغسل. التعليل الأول: قالوا: إن الولادة بلا دم مظنة خروج الدم الموجب، فتعلق الحكم بها، كما جعل النوم ناقضاً للوضوء لأنه مظنة خروج الحدث، وكالتقاء الختانين. التعليل الثاني: إذا وجب الغسل بخروج المني، الذي هو أصل الولد، فوجوبه بنفس الولد أولى (¬5). التعليل الثالث: يجب الغسل بناء على إعطاء الصورة النادرة حكم غالبها (¬6) ¬
دليل من قال: لا يجب الغسل.
التعليل الرابع: أن النفاس، هو تنفس الرحم، وقد وجد (¬1) التعليل الخامس: لا تخلو الولادة من رطوبة، ودم قليل، وإن خفي (¬2). التعليل السادس: قال ابن قدامة: ولأن الولادة يستبرأ بها الرحم، أشبهت الحيض، يعني فيجب الغسل (¬3). دليل من قال: لا يجب الغسل. الدليل الأول: أن الوجوب بالشرع، ولم يرد الغسل هنا، ولا هو في معنى المنصوص عليه، فإنه ليس بدم، ولا مني، وإنما ورد الشرع بالإيجاب بهذين الشيئين (¬4). الدليل الثاني: أن الغسل في النفاس إنما هو للدم لا لخروج الولد (¬5)، ولا يحكم بطهارتها ¬
ما زال الدم باقياً، فإذا انقطع وجب الغسل، وهنا لم يوجد دم، فلم يوجد الموجب. قال ابن قدامة: وقولهم: إنه مظنة. قلنا: المظان إنما يعلم جعلها مظنة بنص أو إجماع، ولا نص في هذا ولا إجماع (¬1). الراجح القول الثاني، لأن الأصل في العبادات الحضر، حتى يرد دليل صريح على المشروعية. والله أعلم. ¬
الفصل السابع: في جماع المرأة النفساء إذا طهرت قبل الأربعين
الفصل السابع: في جماع المرأة النفساء إذا طهرت قبل الأربعين إذا طهرت المرأة قبل تمام الأربعين: فقيل: يباح وطؤها. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: يكره وطؤها. وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5). ¬
دليل الجمهور على إباحة الوطء.
وقيل: يحرم، وهي رواية عن أحمد (¬1). دليل الجمهور على إباحة الوطء. الدليل الأول: حرم الوطء لوجود الأذى، فإذا ارتفع الأذى ارتفع حكمه. الدليل الثاني: إذا أوجبنا عليها الصلاة والصوم جاز الجماع، لأن إيجاب الصلاة دليل على الطهارة، إذ لو كانت نفساء لم تجب عليها الصلاة، فإذا حكم بطهارتها جاز وطؤها. الدليل الثالث: لا يجوز تحريم الجماع إلا بدليل من الكتاب أو السنة، ولا دليل على التحريم، واحتمال عود الدم وحده لا يكفي للتحريم، وإذا عاد الدم رجع تحريم الجماع، كما أن المرأة الطاهرة لا يحرم نكاحها، ولو كانت تنتظر نزول عادتها حتى تنزل. الدليل الرابع: إذا انقطع عنها الأذى، فقد رأت النقاء الخالص، فأشبه ما إذا رأته بعد الأربعين. ¬
دليل الحنابلة على كراهة الوطء.
دليل الحنابلة على كراهة الوطء. الدليل الأول: (514) ما رواه الدارمي: قال: أخبرنا سعيد بن عامر، عن هشام، عن جلد، عن معاوية بن قرة، عن امرأة لعائذ بن عمرو نفست، فجاءت بعدما مضت عشرون ليلة، فدخلت في لحافه، فقال: من هذه؟ قالت: أنا فلانة، إني قد طهرت. فركضها برجله، فقال: لا تغريني عن ديني حتى تمضي أربعون ليلة (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (515) ما رواه ابن عدي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن زنجويه، ثنا محمد ابن إبراهيم أبو أمية، ثنا حفص بن عمر بن ميمون، ثنا محمد ابن سعيد الشامي، حدثني عبد الرحمن بن غنم، قال: سمعت معاذ بن جبل يقول: إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا حيض دون ثلاثة أيام، ولا حيض فوق عشرة أيام، فما زاد على ذلك فهي مستحاضة فما زاد تتوضأ لكل صلاة إلى أيام أقرائها، ولا نفاس دون أسبوعين، ولا نفاس فوق أربعين فإن رأت النفساء الطهر دون الأربعين صامت وصلت ولا يأتيها زوجها إلا بعد الأربعين [موضوع] (¬1). الدليل الثالث: قالوا: لأن زمان النفاس باق، فلا تأمن من معاوية الدم في حال وطئها، فيكون قد صادف وطؤها نفاساً، فكره له ذلك (¬2). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: قالوا: لأن هذا الطهر مشكوك فيه، لأنها إن رأت الدم فقد يكون نفاساً، وقد يكون دم فساد، وإذا كان معرضاً لذلك كره الوطء فيه (¬1). وهذه التعليلات واهية، فلا تكفي لتحريم الوطء. والله أعلم دليل من قال: يحرم الوطء. لا أعلم لهم دليلاً إلا إن كانوا يرون أنه برجوع الدم أثناء الأربعين يكون الجفاف له حكم النفاس، فتكون أيام الدم وأيام النقاء كلها نفاس. ويسمى قول السحب، وإذا كان يمكن أن يكون جفافها لا يدل على طهارتها حرم جماعها فيه. وهذا قول شاذ. ¬
الفصل الثامن: خلاف العلماء في أقل النفاس
الفصل الثامن: خلاف العلماء في أقل النفاس اختلف العلماء في أقل النفاس: فقال بعضهم: لا حد لأقله، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، ¬
والشافعية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2)، واختاره ابن حزم (¬3)، وابن تيمية (¬4)، وهو الراجح (¬5). وقيل: أقله يوم. وهو رواية عن أحمد (¬6). وقيل: أقله ثلاثة أيام، وهو قول الثوري (¬7)، ورواية عن ¬
أدلة الجمهور على أن النفاس لا حد لأقله.
أحمد (¬1). وقيل: أقله أربعة أيام. وهو قول المزني (¬2). أدلة الجمهور على أن النفاس لا حد لأقله. الدليل الأول: دم النفاس دم أذى كالحيض، قال تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (¬3). فإذا وجد الأذى وجد حكمه. وإذا ارتفع الأذى ارتفع حكمه. الدليل الثاني: تحديد أقل النفاس لا يصح إلا بتوقيف. ولم يأت دليل على التحديد. وإذا لم يرد دليل تحديده من الشرع فالمرجع فيه إلى الوجود، وقد وجد قليلاً وكثيراً (¬4). الدليل الثالث: وجود دم النفاس هو الموجب لترك الصلاة، فإذا انقطع الدم عاد الفرض بحاله كما كان قبل وجود دم النفاس. وهذا يشبه الدليل الأول (¬5). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (516) روى البخاري في التاريخ الكبير (¬1) قال لنا موسى بن إسماعيل، عن سهم مولى بني سليم، أن مولاته أم يوسف ولدت بمكة فلم تر دماً فلقيت عائشة فقالت أنت امرأة طهرك الله فلما نفرت رأت. [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الخامس: (517) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا محمد بن مخلد، ثنا محمد بن إسماعيل الحساني، ثنا وكيع، ثنا إسرائيل، عن عمر بن يعلى الثقفي، عن عرفجة السلمي، عن علي رضي الله تعالى عنه، قال: لا يحل للنفساء إذا رأت الطهر إلا أن تصلي. [ضعيف جداً] (¬3). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: ما يحكى من دعوى الإجماع من أن النفساء إذا رأت الطهر وجب عليها أن تغتسل وتصلي. قال الترمذي في سننه: "أجمع أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك فإنها تغتسل وتصلي .... " إلخ كلامه رحمه الله (¬1). أدلة القائلين بأن أقل النفاس ثلاثة أيام. لا أعلم للثوري رحمه الله دليلاً على كون النفاس ثلاثة أيام إلا أن يكون ¬
أدلة القائلين بأن أقله يوم.
قاسه على الحيض، فإنه يرى أن الحيض أقله ثلاثة أيام كمذهب الحنفية، ويستدلون بأدلة كثيرة مرفوعة وموقوفة، سقتها في الخلاف في أقل الحيض فارجع إليها إن شئت. وهذا القياس باطل. أولاً: لأننا لا نسلم الحكم في الأصل حتى نسلم الحكم في الفرع. فلا يثبت أن الحيض أقله ثلاثة أيام. وثانياً: وعلى فرض ثبوت أن الحيض أقله ثلاثة أيام، لا يصح القياس، فإن النفاس أكثره عند الجمهور أربعون يوماً، وقيل: أكثر من ذلك كما سيأتي. فإذا اختلف أكثر النفاس عن أكثر الحيض اختلف أقل النفاس عن أقل الحيض. أدلة القائلين بأن أقله يوم. هذا القول مروي عن أحمد كما سبق، ولا أعلم له دليلاً إلا أن يكون قاسه على أقل الحيض؛ لأن الجمهور على أن أقل الحيض يوم - يعني بليلته - وما قيل في الجواب عن القائلين بأن أقل النفاس ثلاثة أيام يقال هنا. فالقياس ضعيف من وجهين بينتهما في القول السابق. أدلة القائلين بأن أقله أربعة أيام. ذكر الغزالي في الوسيط تعليلاً لحكم المزني بأن أقله أربعة أيام، فقال: "لأن أكثره مثل أكثر الحيض أربع مرات" اهـ (¬1). ويقصد رحمه الله أن أكثر النفاس عنده ستون يوماً، وأكثر الحيض عندهم ¬
خمسة عشر يوماً، فكان أكثر النفاس حاصل ضرب أكثر الحيض في أربعة، فجعل الأربعة هي أقل النفاس. وهذا القول ضعيف جداً، والاستدلال له أضعف منه. وقد نقل صاحب المهذب عن المزني أنه قال: أكثر النفاس أربعون يوماً، وإذا ثبت هذا عنه لم يصح تخريج قوله على ما ذكرنا. والله أعلم. والقول الراجح أنه لا حد لأقل النفاس. لقوة أدلتهم، وضعف أدلة القائلين بالتحديد. والله أعلم.
الفصل التاسع: في خلاف العلماء في أكثر النفاس
الفصل التاسع: في خلاف العلماء في أكثر النفاس اختلف العلماء في أكثر النفاس إلى أقوال. فقيل: أكثر النفاس أربعون يوماً. وهو مذهب الحنفية (¬1) , والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: أكثره ستون يوماً، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬3)، ¬
والشافعية (¬1)، وهو رواية عن أحمد (¬2). وقيل: أكثره سبعون يوماً (¬3). وقيل: أكثره خمسون يوماً، وهو قول الحسن البصري (¬4). وقيل: تسأل النساء وأهل المعرفة، فتجلس أبعد ذلك. قيل إن مالكاً رجع إليه (¬5). وقيل: أكثره في الغلام خمسة وثلاثون، وفي الجارية أربعون. وهو قول ¬
أدلة من قال: أكثر النفاس أربعون.
الأوزاعي (¬1). أدلة من قال: أكثر النفاس أربعون. الدليل الأول: (518) ما رواه أحمد (¬2) , ثنا أبو النضر، قال: ثنا أبو خثيمة - يعني زهير بن معاوية - عن علي بن عبد الأعلى، عن أبي سهل من أهل البصرة، عن مسة، عن أم سلمة، قالت: كانت النفساء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقعد بعد نفاسها أربعين يوماً، أو أربعين ليلة - شك أبو خثيمة - وكنا نطلي على وجوهنا الورس من الكلف. [إسناد ضعيف، وهو صالح في الشواهد] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (519) ما رواه الدارمي، قال: أخبرنا أبو نعيم، ثنا أبو عوانة، عن أبي ¬
الدليل الثالث
بشر، عن يوسف بن ماهك، عن ابن عباس قال: النفساء تنتظر نحواً من أربعين يوماً. [إسناده صحيح والموقوف شاهد للمرفوع، ولو لم يوجد إلا هذا الأثر لكفى] (¬1). الدليل الثالث: (520) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن يونس، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص، أنه كان لا يقرب نساءه إذا تنفست إحداهن أربعين ليلة. [رجاله ثقات، إلا أن الحسن لم يسمع من عثمان بن أبي العاص، وروي مرفوعاً، ولا يصح، ومع ذلك يبقى صالحاً للاعتبار] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (521) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا محمد بن مخلد، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا وكيع نا إسرائيل، عن جابر، عن عبد الله بن يسار، عن سعيد بن المسيب، ¬
عن عمر قال: تجلس النفساء أربعين يوما. [إسناده ضعيف، أو ضعيف جداً فيه جابر الجعفي وهو متروك] (¬1). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (522) ما رواه البيهقي في الخلافيات، قال: أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، أنبأ أبو محمد بن حيان، ثنا محمد بن نصر، ثنا إسماعيل ابن عمرو، ثنا الحسن بن صالح، عن عاصم الأحول، عن أنس بن مالك، قال: وقت للنفساء أربعين يوماً. [إسناده ضعيف، وهذا أمثل طريق روي به الحديث عن أنس] (¬1). وقد روي الحديث عن أنس من طريق سلام بن سلم، عن حميد، عن أنس. وهو ضعيف جداً (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وروي من طريق زيد العمي، عن أبي إياس جلد بن أيوب، عن أنس. وهو أيضاً ضعيف جدا (¬1). وروي من طريق جابر، عن خيثمة، عن أنس. وهو ضعيف جداً (¬2). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (523) ما رواه ابن عدي، قال: حدثنا محمد بن منير، قال: ثنا إبراهيم الجشاش، قال: ثنا غسان بن مالك، قال: ثنا عنبسة بن عبد الرحمن القرشي، ثنا العلاء بن كثير الدمشقي، عن مكحول، عن أبي الدرداء وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تنتظر النفساء أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك، فإن بلغت أربعين يوما ولم تر الطهر فلتغتسل وهي بمنزلة المستحاضة. [وسنده ضعيف جداً] (¬1). الدليل السابع: (524) ما رواه ابن عدي، قال: حدثنا عمر بن سنان، ثنا موسى ابن سليمان، ثنا بقية عن إسماعيل بن عياش، عن عطاء، عن ابن أبي مليكة، ¬
عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن النفساء فوقت لها أربعين يوما. [ضعيف جداً] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثامن
الدليل الثامن: (525) ما رواه الحاكم، قال: أخبرناه أبو بكر محمد بن عبد الله بن الجنيد، ثنا موسى بن زكريا التستري. وثنا عمرو بن الحصين، ثنا محمد بن عبد الله بن علاثة، عن عبدة بن أبي لبابة، عن عبد الله بن باباه، عن عبد الله بن عمرو، قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تنتظر النفساء أربعين ليلة، فإن رأت الطهر قبل ذلك فهي طاهر، وإن جاوزت الأربعين فهي بمنزلة المستحاضة تغتسل وتصلي، فإن غلبها الدم توضأت لكل صلاة. قال الحاكم: عمرو بن الحصين ومحمد بن علاثة ليسا من شرط الشيخين وإنما ذكرت هذا الحديث شاهداً متعجباً. [الحديث ضعيف جداً] (¬1). ¬
الدليل التاسع
الدليل التاسع: (526) ما رواه ابن عدي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن زنجويه، ثنا محمد بن إبراهيم أبو أمية، ثنا حفص بن عمر بن ميمون، ثنا محمد ابن سعيد الشامي، حدثني عبد الرحمن بن غنم، قال: سمعت معاذ بن جبل يقول: إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا حيض دون ثلاثة أيام، ولا حيض فوق عشرة أيام، فما زاد على ذلك فهي مستحاضة فما زاد ¬
تتوضأ لكل صلاة إلى أيام إقرائها، ولا نفاس دون أسبوعين، ولا نفاس فوق أربعين فإن رأت النفساء الطهر دون الأربعين صامت وصلت ولا يأتيها زوجها إلا بعد الأربعين. [موضوع] (¬1). هذه الأحاديث التي وقفت عليها، وفيها التحديد، والصالح للاستدلال منها حديث أم سلمة، وأثر ابن عباس، وعثمان بن أبي العاص، فأثر ابن عباس صحيح الإسناد، ووحده كاف في الاحتجاج، لأن قول الصحابي أراه حجة فيما لم يخالف فيه، وأثر أم سلمة قد حسنه بعضهم كالخطابي، وابن الملقن، والنووي، ويبقى حتى على القول بضعفه يتقوى بأثر ابن عباس، وحديث عثمان بن أبي العاص، فيه انقطاع لا يخرجه عن الاعتبار. والله أعلم. ولقد أحسن ابن عبد البر رحمه الله حين قال: "وليس في مسألة أكثر النفاس موضع للاتباع والتقليد إلا من قال: بالأربعين؛ فإنهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا مخالف لهم منهم، وسائر الأقوال جاءت عن غيرهم، ولا يجوز عندنا الخلاف عليهم بغيرهم؛ لأن إجماع الصحابة حجة على من بعدهم، والنفس تسكن إليهم. فأين المهرب عنهم دون سنة ولا أصل؟ وبالله التوفيق" (¬2). وقال الترمذي في السنن: أجمع أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ¬
ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك، فإنها تغتسل وتصلي. فإذا رأت الدم بعد الأربعين فإن أكثر أهل العلم قالوا: لا تدع الصلاة بعد الأربعين، وهو قول أكثر الفقهاء، وبه يقول سفيان الثوري، وابن المبارك والشافعي (¬1) وأحمد وإسحاق. اهـ الدليل الثاني: أن القول بالتحديد لا بد منه، لأنه لا يمكن أن يقال إنه دم نفاس، ولو مكث ما مكث، فلا بد من القول إذا أطبق الدم صارت مستحاضة، فمتى تحكمون له بأنه استحاضة؟ فإن قيل: بعد السبعين أو الثمانين قيل: هذا رجوع إلى القول بالتحديد، وإذا كان لا بد من القول بالتحديد فالأخذ بقول ابن عباس أولى من الأخذ بقول غيره. وإن قلتم: فما الفرق بين دم الحيض حيث رجحت بأنه لا حد لأكثر الحيض، ورجحت هنا بأن النفاس لأكثره حد. فالجواب: أولاً: الحيض عندنا أجل معلوم إذا بلغته المرأة أصبحت مستحاضة، وهو في حالة ما إذا أطبق الدم عليها شهراً كاملاً، أما النفاس فليس عندنا أجل معين ¬
أدلة القائلين بأن أكثر النفاس ستون.
من الشرع إذا بلغته النفساء أصبحت مستحاضة. وثانياً: أنه قد صح عن ابن عباس القول بالتحديد، وهو مذهب كثير من الصحابة، ولا يعلم لهم مخالف. ذكر ابن المنذر في الأوسط بأنه مذهب لعمر، وابن عباس، وعثمان بن أبي العاص، وعائذ بن عمرو، وأنس بن مالك، وأم سلمة (¬1). ونقلت عن الترمذي قريباً أنه قال: إنه مذهب أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. أدلة القائلين بأن أكثر النفاس ستون. قال النووي: الاعتماد في هذا الباب على الوجود في الستين بما ذكره المصنف - يعني صاحب المهذب - حيث قال: والدليل على ما قلناه ما روى عن الأوزاعي أنه قال: عندنا امرأة ترى النفاس شهرين. وعن عطاء والشعبي وعبيد الله بن الحسن العنبري والحجاج بن أرطاة: أن النفاس ستون يوماً" (¬2). وقال المرداوي: "حد الحيض والنفاس مأخوذ من وجود العادة المستمرة فيه. وقد وجد الشافعي الستين في عادة مستمرة، وتحرر هذا قياساً، فيقال: لأنه دم أرخاه الرحم جرت به عادة مستقرة، فجاز أن يكون نفاساً كالأربعين، ولأن أكثر الدم يزيد على عادته في الغالب كالحيض غالبه السبع، وأكثره يزيد على السبع، فلما كان غالب النفاس أربعين، وجب أن يزيد أكثره على الأربعين ولأن ¬
الأول
النفاس هو ما كان محتبساً من الحيض في مدة الحمل، فلما كان غالب الحمل تسعة أشهر، وغالب الحيض ست أو سبع، فإن اعتبرنا السبع كان النفاس ثلاثة وستين يوماً، وإن اعتبرنا الست كان النفاس أربعة وخمسين يوماً، وإن اعتبرناهما معاً كان النفاس ستين يوماً، (¬1) وهو أن يجعل حيضها في ستة أشهر سبعاً، وفي ثلاثة أشهر ستاً. فصح أن ما ذهبنا إليه أصح" (¬2). والنقاش من وجهين: الأول: أين الدليل على أنه لا يوجد نفاس أكثر من ستين، ما دمتم تحكمون لكل دم جاوز الستين بأنه ليس دم نفاس، وإنما هو استحاضة. فقد يلزمكم خصمكم بأنه وجد أكثر من الستين، ما دام أن التعويل على الوجود. ويعسر دعوى الاستقراء والأمر يتعلق بالنساء. الثاني: نحن لا نناقش وجود دم أكثر من أربعين، بل قد يوجد أكثر من ستين، وسبعين، وربما أكثر من ذلك. ولكن النقاش هل هذا يعتبر دم نفاس أو استحاضة. فالحيض عندنا لا يمكن أن يستمر شهراً كاملاً، لأن الشهر يتخلله حيض وطهر كما دللنا على ذلك في باب الحيض وكما هو مقرر طبياً. وأما النفاس فإن لم نأخذ بقول ابن عباس، فلا بد أن نحدد أجلاً إذا جاوزه الدم أصبح دم فساد ¬
الثالث
واستحاضة. فيرجع القول إلى التحديد، وقول ابن عباس أحب إلى، خاصة أنه مذهب جملة من الصحابة. وأكثر التابعين. كما حكاه الترمذي. الله أعلم الدليل الثالث: قالوا: كيف نحكم للدم في الساعة الأخيرة قبل تمام الأربعين بأنه نفاس، وبعده بلحظة نحكم له بأنه استحاضة، والدم هو الدم، والرائحة هي الرائحة، فكيف يفرق الشارع بين متماثلين. والجواب على هذا أن يقال: هذا يرد أيضاً على الستين، فكيف يكون قبل تمام الستين بساعة واحدة نفاساً، وبعد تمام الستين دم استحاضة، مع أن الدم هو الدم، والرائحة هي الرائحة. فإن قالوا: هذا أكثر ما قيل في المسألة. فالجواب، قد وجدنا من يقول بأكثر من الستين. قال ابن تيمية: "ولا حد لأقل النفاس، ولا لأكثره، ولو زاد على الأربعين، أو الستين أو السبعين وانقطع، فهو نفاس" (¬1). ولا أعلم أن القول بأكثر ما قيل يكون من أدلة الشرع المتفق عليها أو المختلف فيها، فهذه كتب الأصول تذكر الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع، والقياس وغيرها من الأدلة المتفق عليها أو المختلف فيها، ولم نجد من بين أدلتهم: القول بأكثر ما قيل. والله المستعان. ¬
دليل من قال لا حد لأكثر النفاس.
دليل من قال لا حد لأكثر النفاس. الدليل الأول: القول بالتحديد يحتاج إلى دليل، وما ورد فيه لا يصح. قال ابن رشد: "ليس هناك سنة يعمل عليها، كالحال في اختلافهم في أيام الحيض، والطهر" (¬1). والجواب قد بينت في الأدلة السابقة أنه قد صح عن ابن عباس رضي الله عنه، وعن أم سلمة وله حكم الرفع وقد حسنه الخطابي، والنووي وابن الملقن. وعن عثمان بن أبي العاص بسند منقطع، وعن عمر بسند ضعيف. الدليل الثاني: (527) سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحيض نفاساً، بما رواه البخاري، قال: حدثنا المكي بن إبراهيم، قال حدثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة أن زينب بنت أم سلمة حدثته، أن أم سلمة حدثتها، قالت: بينا أنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مضطجعة في خميصة إذ حضت فانسللت فأخذت ثياب حيضتي، قال أنفست؟ قلت: نعم فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة (¬2). وإذا كان الحيض نفاساً فقد أمر الله سبحانه وتعالى باعتزال الحيض، وأخبر أنه أذى، فما دام الأذى موجوداً، فحكمه موجود من وجوب اعتزال الصلاة ¬
رأي الطب في أكثر النفاس.
والوطء ونحوهما، ولذلك تجد أحكام الحيض والنفاس متشابهة. وهذا من أقوى أدلة القائلين بعدم التحديد. إلا أننا نسألهم، إذا استمر الدم واتصل مع المرأة هل تقولون بأنه دم نفاس. الجواب: لا يمكن أن يقولوا بأنه دم نفاس حتى ولو مكث ما مكث. فإذا لا بد أن يقولوا في يوم من الأيام إن الدم دم فساد، وحينئذ نسألهم. متى تقطعون بأنه دم فساد، فإن قالوا بعد السبعين أو الثمانين. قلنا: هذا هو القول بالتحديد. وإن قالوا: ممكن أن نحكم بأنه دم فساد مع امرأة بعد السبعين، وأخرى بعد الثمانين، متى ما تيقنا أن الدم يعتبر متصلاً، فالجواب أن هذا تناقض واضطراب، إذ كيف تجعلونه مع امرأة إلى السبعين ومع أخرى إلى الثمانين. والله أعلم. رأي الطب في أكثر النفاس. يقول بعض الأطباء: يعرف الفقهاء النفاس تعريفاً يختلف إلى حد ما عن تعريف الأطباء .. فالأطباء يركزون على حالة الرحم وعودته إلى حالته الطبيعية بينما يحرص الفقهاء على ربط النفاس بدم النفاس وإفرازاته .. وكلاهما مرتبط بالآخر إلى حد ما، ولكنهما ليسا شيئاً واحداً. وسبب الخلاف أن الطب ينظر إلى الناحية الصحية والفسيولوجية لجهاز المرأة التناسلي، وللرحم على وجه الخصوص؛ إذ أن ذلك متعلق بصحة المرأة وجهازها التناسلي بصورة خاصة .. وعودة الرحم إلى حالته الطبيعية هي العلامة الهامة والمؤشر الوحيد على عودة النفساء إلى حالتها المعتادة .. وأنها قد تجاوزت تماماً مرحلة الخطر، ومرحلة إصابتها بحمى النفاس أو النزيف الذي
يعقب الولادة أحياناً .. أو سقوط الرحم، أو غيرها من الأمراض التي تعتري النفساء .. بينما اهتمام الفقيه بالدم والافرازات التي تمنع الصلاة والصيام ومس المصحف، والمباشرة، فلا بد إذن من نوع اختلاف بين الطب والفقه في هذه النقطة. ويقول أيضاً: ويتفق قول القائلين بأن أكثر الدم أربعون يوماً مع رأي الأطباء .. ويتفق قول القائلين بأن أكثر النفاس ستون يوماً مع التعريف الطبي للنفاس، وهو عودة الرحم إلى حالته الطبيعية. إذ إن أكثر ذلك في رأي الأطباء هو ثمانية أسابيع أو ستون يوماً. ولكن الاختلاف بينهم في التعريف، فالأطباء حين يتحدثون عن النفاس يريدون به حالة الرحم حتى يعود إلى وضعه الطبيعي، ويسمى PEURPURIM أما الدم والإفرازات التي تصحبه فتسمى LOCHIA أي دم النفاس، ومدته عند الأطباء لا تزيد على ستة أسابيع. اهـ (¬1) فإذا كان دم النفاس لا يزيد عند الأطباء على ستة أسابيع (42)، فهو النفاس الذي يتعلق به حكم شرعي، أما عودة الرحم إلى وضعه الطبيعي فلا يتعلق به حكم أرأيت لو أنها ولدت بدون أن ترى دماً أليس يحكم لها بالطهارة، ولو كانت أرحامها تشكو من آلام ونحوها، فالأمر يتعلق بالدم، وهو لا يزيد عند الأطباء على ستة أسابيع، واليومان الزائدان إنما هو منهم لجبر الكسر، وإلا فهو لا يزيد على أربعين يوماً. والله أعلم. ¬
"وانتهت المقولات الطبية في الندوة الثالثة للفقه الطبي المنعقدة في الكويت إلى الاتفاق مع بعض الآراء الفقهية القائلة بأن النفاس: هو ما ينزل من المرأة بعد الولادة أو الإسقاط ريثما يندمل موقع المشيمة المنفصلة من تجويف الرحم، ويبدأ دماً، ثم سائلاً مصفراً حتى يتوقف، ولا حد لأقله. وأقصاه السوي ستة أسابيع (40 يوماً) فإن زاد عليها اعتبر غير سوى، ويلحق بالاستحاضة، وقد يكون من جراء بقايا المشيمة داخل الرحم، أو نتيجة وهن الرحم عن الانقباض الكافي لحبس الدم أو غير ذلك مما يلتمس له التشخيص والعلاج. والنفاس إذا انتهى قد يفضي إلى حيض، وقد يفضي إلى طهر تمتد فترة تطول أو تقصر" (¬1). ¬
الفصل العاشر: إذا وضعت المرأة توأمين فالنفاس من أيهما
الفصل العاشر: إذا وضعت المرأة توأمين فالنفاس من أيهما اختلف العلماء في المرأة تلد توأمين بينهما فاصل، من أين تحسب مدة النفاس على القول بأن النفاس لأكثره حد. فقيل: ابتداء النفاس من الأول. وهذا مذهب أبي حنيفة، واختيار أبي يوسف (¬1)، والمعتمد عند المالكية (¬2)، ووجه في مذهب الشافعية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: ابتداء النفاس من الثاني. وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬5) ¬
دليل من قال: ابتداء النفاس من الأول.
وقول زفر ومحمد من الحنفية (¬1). وقيل: ابتداءه من الأول، ثم تستأنف المدة من الثاني. وهو وجه في مذهب الشافعية (¬2) , ورواية عن أحمد (¬3). وعلى القول بأن الدم بين التوأمين ليس بنفاس: فقيل: إنه دم حيض، بناء على أن الحامل تحيض. وقيل: يعتبر دم فساد. وهما وجهان في مذهب الشافعية (¬4). دليل من قال: ابتداء النفاس من الأول. قالوا: لأنه دم خرج عقيب الولادة، فكان نفاساً، كالخارج عقيب الولد الواحد (¬5). تعليل آخر: قالوا: إن الولد الثاني تبع للأول، فلم يعتبر في آخر النفاس كأوله (¬6). دليل من قال: ابتداء النفاس من الولد الثاني قالوا: لأن الدم قبل وضع الثاني لو اعتبرناه نفاساً يلزم منه أن تكون المرأة نفساء، وهي ما زالت حاملاً. ¬
وتعليل آخر: قالوا: إن النفاس يتعلق بوضع ما في البطن، كانقضاء العدة، فإذا كان انقضاء العدة بالولد الثاني بالإجماع، كان النفاس من وضع الولد الثاني، فكما لا يتصور انقضاء عدة الحامل بدون وضع الولد الثاني، لا يتصور وجود النفاس من الحبلى. (¬1) تعليل آخر: قالوا: إن النفاس مأخوذ من تنفس الرحم، ولا يتحقق ذلك على الكمال إلا بوضع الولد الثاني. تعليل آخر: إذا ولدت ولداً واحداً، وخرج بعضه دون البعض، لا يعتبر نفاساً، حتى تضعه، فكذلك إذا خرج ولد، وبقي آخر، فكان الدم الموجود قبل وضع الولد الثاني نفاساً من وجه دون وجه، فلا تسقط الصلاة عنها بالشك (¬2). تعليل آخر: قالوا: إن النفاس بمنزلة الحيض، فكما أن الحامل لا تحيض، فكذلك لا يتصور وجود النفاس من الحامل (¬3). وتعقب هذا: بأن النفاس إن كان دماً يخرج عقب النفس، فقد وجد بولادة الأول، وإن كان دماً يخرج بعد تنفس الرحم، فقد وجد أيضاً، بخلاف انقضاء العدة؛ لأن ذلك يتعلق بفراغ الرحم، ولم يوجد، والنفاس يتعلق بتنفس الرحم أو بخروج النفس، وقد وجد (¬4). ¬
دليل من قال: ابتداؤه من الأول وتستأنف المدة من الثاني.
دليل من قال: ابتداؤه من الأول وتستأنف المدة من الثاني. قالوا: قلنا تجلس ما تراه من الأول، ما لم تجاوز أكثر النفاس، فإذا وضعت الثاني استأنفت له مدة أخرى، ودخلت بقية مدة الأولى في مدته إن كانت باقية؛ لأنه ولد فاعتبرت له المدة كالأول، وكالمنفرد؛ ولأن الرحم تنفس به كما تنفس بالأول، فكثر الدم بسبب ذلك، فيجب اعتبار المدة له (¬1). الراجح من هذه الأقوال: سبق أن عرضنا رأي الطب في مدة النفاس، وهل تعتبر من الطلق، أو حين خروج الولد، أو بعد الوضع، وذكرنا أن الأطباء يرون أن دم النفاس يبدأ من وضع الولد، فإن كان المقصود من وضع الولد فراغ الرحم من الولد، فالمعتبر من وضع الولد الثاني، وإن كان المقصود من وضع الولد، ولو كان الرحم مشغولا، فاعتبار المدة من الأول. فإن كان للطب رأي فذاك، وإلا اعتبرنا نفاسها من الأول، لأنها بوضعها الولد أصبحت والداً لغة. ¬
الفصل الحادي عشر: في الأحكام المترتبة على النفاس
الفصل الحادي عشر: في الأحكام المترتبة على النفاس قال ابن قدامة: وحكم النفساء حكم الحائض في جميع ما يحرم عليها، ويسقط عنها، لا نعلم في هذا خلافاً، وكذلك تحريم وطئها، وحل مباشرتها، والاستمتاع بما دون الفرج منها، والخلاف في الكفارة بوطئها (¬1). وقال في المهذب: "ودم النفاس يحرم ما يحرمه الحيض، ويسقط ما يسقطه الحيض؛ لأنه حيض مجتمع احتبس لأجل الحمل، فكان حكمه حكم الحيض (¬2). وقال في المعونة: وجميع ما ذكرناه من الظواهر - يعني من أحكام الحيض - وإن كان النص فيها متناولاً للحيض وحده، فإن النفاس ملحق به بالإجماع؛ لأن أحداً لم يفرق بينهما في هذه الأحكام، أو بالقياس، وهو أنه دم خارج من الفرج، لا يكون إلا مع البلوغ (¬3). وقال ابن رجب: ودم النفاس حكمه حكم دم الحيض، فيما يحرمه ويسقطه، وقد حكى الإجماع غير واحد من العلماء، منهم ابن جرير وغيره (¬4). وقال صاحب المجموع، وصاحب نيل المآرب يزيد بعضهم على بعض، قالا: والنفاس كحيض، فيما يحرم: كصلاة وصوم ووطء في فرج، وطلاق. ¬
وفيما يجب: كغسل،، وقضاء صوم، وكفارة بوطء فيه. وفيما يسقط: كقضاء الصلاة، وطواف الوداع. وفيما يحل: كاستمتاع بما دون فرج. وفيما يمنع: صحة الصلاة، والصوم، والطواف، والاعتكاف، والغسل (¬1). وقال ابن حزم: "ودم النفاس يمنع ما يمنع منه دم الحيض، هذا لا خلاف فيه من أحد، حاشا الطواف بالبيت، فإن النفساء تطوف به؛ لأن النهي ورد في الحائض، ولم يرد في النفساء، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (¬2)، ثم استدركنا فرأينا أن النفاس حيض صحيح، وحكمه حكم الحيض في كل شيء لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: أنفست؟ قالت: نعم. فسمى الحيض نفاساً، وكذلك الغسل منه واجب بإجماع" (¬3). فيجب على النفساء الاغتسال إذا طهرت. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم لا اختلاف بينهم أن على النفاس الاغتسال عند خروجها من النفاس. اهـ (¬4). ومنها سقوط الصلاة عن النفساء. لا تجب الصلاة على النفساء، ولا قضاء عليها، قال ابن حزم: "وأما ¬
الحائض والنفساء وإسقاط القضاء عنهما، فإجماع متيقن" (¬1) وقال النووي: حكى البغوي والمتولي وجهاً أنها لو شربت دواء ليسقط الجنين ميتاً، فأسقطته ميتاً وجب عليها قضاء صلوات أيام النفاس؛ لأنها عاصية. والأصح الأشهر أنه لا يجب (¬2). ومنه سقوط الصيام عن النفساء، ووجوب القضاء عليها. ومنها صحة إحرام النفساء. (528) فقد روى مسلم رحمه الله، في صحيحه، فقال: حدثنا أبو غسان محمد بن عمرو، حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن يحيى بن سعيد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في حديث أسماء بنت عميس حين نفست بذي الحليفة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر رضي الله عنه فامرها أن تغتسل، وتهل (¬3). قال ابن رجب: فيه دليل أن حكم النفاس حكم الحيض في الإهلال بالحج. ويرى ابن حزم: وجوب الغسل للإحرام على النفساء. قال رحمه الله: "والنفساء والحائض شيء واحد، فأيتهما أرادت الحج أو ¬
العمرة ففرض عليها أن تغتسل، ثم تهل" (¬1). وقال أيضاً: "الغسل عند الإحرام نستحبه للرجال والنساء، وليس فرضاً إلا على النفساء" (¬2). والصحيح أنه مستحب منها كغيرها. ومنها صحة دخول النفساء المسجد قال ابن حزم: جائز للحائض والنفساء أن يدخلا المسجد، وكذلك الجنب، لأنه لم يأت نهي عن شيء من ذلك، وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: المؤمن لا ينجس. وقد كان أهل الصفة يبيتون في المسجد بحضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهم جماعة كثيرة، ولا شك في أن فيهم من يحتلم، فما نهوا قط عن ذلك (¬3). قلت: حكم النفساء حكم الحائض، وقد فصلت الخلاف في الحائض في باب عبادات الحائض، فارجع إليه إن شئت. ومنه طهارة بدن النفساء قال النووي بعد أن دلل على طهارة الآدمي، قال: "فإذا ثبتت طهارة الآدمي مسلما كان أو كافرا فعرقه ولعابه ودمعه طاهران، سواء كان محدثا أو جنبا أو حائضا أو نفساء وهذا كله بإجماع المسلمين" (¬4). ¬
صحة عقد النكاح على النفساء كالحائض قال ابن حزم: جائز للحائض والنفساء أن يتزوجا (¬1). القول في كفارة وطء النفساء، كالحائض قال ابن قدامة: النفساء كالحائض في كفارة الوطء في الحيض؛ لأنها تساويها في سائر أحكامها (¬2). ومنها تحريم طلاق النفساء، قال النووي في المجموع: يحرم على الزوج طلاقها - يعني النفساء (¬3). وقال ابن حزم: "الطلاق في النفساء كالطلاق في الحيض" (¬4). وخالف في ذلك الحنفية. قال ابن عابدين في حاشيته في الفروق بين الحيض والاستحاضة، فذكر منها: "وأنه لا يحصل به الفصل بين طلاق السنة والبدعة" (¬5). والراجح أن الطلاق حال النفاس لا يجوز، لأنه لا فرق بينهما وقد سمى الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحيض نفاساً كما مر معنا. ومنها حكم الصفرة والكدرة في النفاس حكمه في الحيض ¬
قال النووي: والصفرة والكدرة في النفاس كهي في الحيض، وفاقا وخلافاً، ثم قال: وقطع الماوردي: بأنها نفاس قطعاً؛ لأن الولادة شاهد للنفاس، بخلاف الحيض. (¬1) وتفترق النفساء عن الحائض في الأحكام الآتية: الأول: الحيض دليل على بلوغ المرأة، والنفاس لا يكون دليلاً عليه؛ لأن المرأة لا تحمل إلا وقد حاضت. الثاني: الاعتداد، وذلك أن انقضاء العدة بالقروء، والنفاس ليس بقرء. فإن كان الطلاق قبل وضع الحمل انقضت العدة بوضعه، لا بالنفاس، وإن كان الطلاق بعد الوضع فإنها تحتاج إلى ثلاث حيض ما خلا النفاس (¬2). الثالث: لا يحتسب النفاس في مدة الإيلاء. وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬3) والمشهور عند الحنابلة (¬4). والإيلاء: أن يحلف الرجل على ترك جماع امرأته مدة تزيد على أربعة أشهر، فإذا حلف وطالبت الزوجة بحقها في الجماع ضرب له مدة أربعة أشهر، فإذا ¬
أنتهت خير بين الجماع أو الفراق بطلب الزوجة، فإذا مر بالمرأة نفاس لم يحسب على الزوج من الأربعة أشهر. وعللوا ذلك بأنه ليس بمعتاد، بخلاف الحيض فإنه يحسب من المدة باعتباره معتاداً، ولأن الحيض في الغالب لا يخلو منه شهر، فيؤدي عدم احتسابه إلى إسقاط حكم الإيلاء (¬1). وقيل: يحتسب النفاس في مدة الإيلاء كالحيض، وعللوا ذلك بأن النفاس مثل الحيض في سائر الأحكام فكذلك في هذه المسألة. وهو وجه في مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). الرابع: قيل: النفاس يقطع التتابع في صوم الكفارة، بخلاف الحيض فإنه لا يقطعها. وهو مذهب الحنفية (¬4)، ووجه في مذهب الشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6). ووجهه: قالوا: إنه فطرٌ أمكن التحرز منه، ولا يتكرر في العام، أشبه الفطر لغير عذر، ولا يصح قياسه على الحيض؛ لأنه أندر منه. وقيل: النفاس كالحيض لا يقطع التتابع. وهو أصح الوجهين عند ¬
الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2). قال ابن مفلح الصغير: "أجمع أهل العلم، ونص عليه أحمد على أن الصائمة متتابعاً إذا حاضت قبل إتمامه، تقضي إذا طهرت وتبني؛ لأن الحيض لا يمكن التحرز منه في الشهرين إلا بتأخيره إلى الإياس، والنفاس كالحيض لأن أحكامهما واحدة (¬3). الخامس: أن أقل الحيض محدود عند الجمهور. ولا حد لأقل النفاس عندهم. والراجح أنه لا فرق بين الحيض والنفاس في هذه المسألة، كما بيناها في ثنايا البحث. السادس: في المشهور عند الحنابلة إذا طهرت قبل تمام عادتها جاز لزوجها جماعها من غير كراهة، وأما في النفاس إذا طهرت قبل أربعين يوماً فإنه يكره لزوجها جماعها، وهو من مفردات مذهب أحمد، والجمهور على جوازه بلا كراهة، وهو الراجح، وقد فصلت القول في أدلة هذه المسألة فيما سبق. وذكر ابن عابدين فى حاشيته سبعة فروق بعضها قد ذكرناه، وبعضها مرجوح. فقال: وحكمه - يعني النفاس - إلا في سبعة: البلوغ، والاستبراء والعدة، وأنه لا حد لأقله، وأن أكثره أربعون يوماً، وأنه يقطع التتابع في صوم الكفارة، ¬
وأنه لا يحصل به الفصل بين طلاق السنة والبدعة. اهـ ويقصد في الاستبراء ما قاله ابن عابدين: وصورته في الاستبراء إذا اشترى جارية حاملاً، فقبضها، ووضعت عنده ولداً، وبقي ولد آخر في بطنها، فالدم الذي بين الولدين نفاس، ولا يحصل الاستبراء إلا بوضع الولد الثاني. اهـ.
فصل: في سجود التلاوة والشكر للحائض
استدراك (¬1) فصل: في سجود التلاوة والشكر للحائض اختلف الفقهاء هل تشترط الطهارة لسجود التلاوة أم لا؟ فقيل: إن سجود الصلاة يشترط له ما يتشرط للصلاة، من طهارة الحدث والخبث، وستر العورة، واستقبال القبلة. وهو مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3) والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). ¬
دليل الجمهور على اشتراط الطهارة
وقيل: لا تشترط الطهارة لسجود التلاوة وهو مذهب ابن عمر (¬1)، وابن المسيب، والشعبي (¬2)، واختيار ابن حزم (¬3)، وابن تيمية (¬4)، وابن القيم (¬5) دليل الجمهور على اشتراط الطهارة [الدليل الأول] (*) قالوا: إن السجود صلاة، وقد جاء في الشرع إطلاق السجود على الصلاة، فهذا دليل على أن له حكم الصلاة، فقد روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
سجدتين قبل الظهر، وسجدتين بعد الظهر، وسجدتين بعد المغرب، وسجدتين بعد العشاء وسجدتين بعد الجمعة، فأما المغرب والعشاء - زاد مسلم والجمعة - ففي بيته (¬1). وروى البخاري من حديث حفصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي سجدتين خفيفتين بعد ما يطلع الفجر (¬2). فلو لم يكن السجود صلاة ما أطلق السجود على الصلاة، وإذا كان السجود صلاة فقد روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا سعيد بن منصور، وقتيبة بن سعيد وأبو كامل الجحدري - واللفظ لسعيد - قالوا: حدثنا أبو عوانة، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، قال: دخل عبد الله بن عمر على ابن عامر يعوده، وهو مريض، فقال: ألا تدعو الله لي يا بن عمر، قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول وكنت على البصرة (¬3). وأجيب عن ذلك: قال ابن حزم في المحلى: "لا يكون بعض الصلاة صلاة إلا إذا تمت كما أمر بها المصلي، ولو أن أمرأً كبر وركع، ثم قطع عمداً لما قال أحد من أهل الإسلام ¬
الدليل الثاني
إنه صلى شيئاً، بل يقولون كلهم إنه لم يصل، فلو أتمها ركعة في الوتر، أو ركعتين في الجمعة والصبح والسفر والتطوع لكان قد صلى بلا خلاف، ثم نقول لهم: إن القيام بعض الصلاة، والتكبير بعض الصلاة وقراءة أم القرآن بعض الصلاة فيلزمكم على هذا أن لا تجيزوا لأحد أن يقوم ولا أن يكبر، ولا أن يقرأ أم القرآن، ولا يجلس، ولا يسلم إلا على وضوء، فهذا ما لا يقولونه، فبطل احتجاجهم. وبالله تعالى التوفيق" (¬1). وقال ابن القيم: "قياسه على الصلاة ممتنع لوجهين: أحدهما: أن الفارق بينه وبين الصلاة أظهر وأكثر من الجامع؛ إذ لا قرآءة فيه، ولا ركوع، ولا فرضاً ولا سنة ثابتة بالتسليم، ويجوز أن يكون القارئ خلف الإمام فيه، ولا مصافة فيه، وليس إلحاق محل النزاع بصورة الاتفاق أولى من إلحاقه بصورة الافتراق. الثاني: أن هذا القياس إنما يمتنع لو كان صحيحاً إذا لم يكن المقيس قد فعل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم تقع الحادثة، فيحتاج المجتهد أن يلحقها بما وقع على عهده - صلى الله عليه وسلم - من الحوادث أو شملها نصه، وأما مع سجوده وسجود أصحابه، وإطلاق الإذن في ذلك من غير تقييد بوضوء، فيمتنع التقييد به (¬2). الدليل الثاني: قال القرطبي: "لا خلاف في أن سجود القرآن يحتاج إلى ما تحتاج إليه ¬
دليل من قال: لا تشترط الطهارة
الصلاة من طهارة حدث ونجس إلا ما ذكره البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يسجد على غير طهارة، وذكره ابن المنذر عن الشعبي" (¬1). ويجاب عن ذلك: أولاً: أن الصواب لا يعرف بالكثرة، ومع ذلك فهو معارض بما قاله ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن بأن القول بعدم اشتراط الطهارة هو قول كثير من السلف حكاه عنهم ابن بطال في شرح البخاري (¬2). دليل من قال: لا تشترط الطهارة الدليل الأول: عدم الدليل الموجب للطهارة. والأصل براءة الذمة حتى يرد دليل عليها. الدليل الثاني: ما رواه البخاري، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس (¬3). ¬
الدليل الثالث
وجه الاستدلال: قال الحافظ ابن حجر: بأنه يبعد في العادة أن يكون جميع من حضر من المسلمين كانوا عند قراءة الآية على وضوء؛ لأنهم لم يتأهبوا لذلك، وإذا كان كذلك فمن بادر منهم إلى السجود خوف الفوت بلا وضوء، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك استدل بذلك على جواز السجود بلا وضوء عند وجود المشقة بالوضوء، ويؤيده أن لفظ المتن: "وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس" فسوى ابن عباس في نسبة السجود بين الجميع، وفيهم من لا يصح منه الوضوء، فيلزم أن يصح السجود ممن كان بوضوء وممن لم يكن بوضوء. والله أعلم (¬1). الدليل الثالث: ما رواه البخاري، قال: حدثنا بشر بن آدم، قال: حدثنا علي ابن مسهر، قال: أخبرنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ السجدة، ونحن عنده، فيسجد، ونسجد معه، فنزدحم حتى ما يجد أحدنا لجبهته موضعاً يسجد عليه. ورواه مسلم (¬2). قال ابن القيم: المسلمون الذين سجدوا معه - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالطهارة، ولا سألهم هل كنتم متطهرين أم لا؟ ولو كانت الطهارة شرطاً فيه للزم أحد الأمرين: ¬
الدليل الرابع
إما أن يتقدم أمره لهم بالطهارة. وإما أن يسألهم بعد السجود؛ ليبين لهم الاشتراط، ولم ينقل مسلم واحداً منهما "ثم قال بعد:" ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ عليهم القرآن في المجامع كلها، ومن البعيد جداً أن يكون كلهم إذ ذاك على وضوء، وكانوا يسجدون حتى لا يجد بعضهم مكاناً لجبهته، ومعلوم أن مجامع الناس تجمع المتوضئ وغيره. فإن قيل: لعل الوضوء تاخرت مشروعيته عن ذلك، وهذا جواب بعض الموجبين. قيل: الطهارة شرعت للصلاة من حين البعث، ولم يصل قط إلا بطهارة، أتاه جبريل فعلمه الطهارة والصلاة" (¬1). الدليل الرابع: ما رواه الترمذي، قال: حدثنا قتيبة وهناد ومحمود بن غيلان، قالوا: حدثنا وكيع، عن سفيان (ح) وحدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن الحنفية، عن علي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليها التسليم (¬2). [الحديث حسن، وسبق بحثه] (¬3). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: قال البخاري رحمه الله في صحيحه: وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يسجد على غير وضوء (¬1). قال ابن تيمية: "كان ابن عمر يسجد على غير وضوء، ومن المعلوم أنه لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بين لأصحابه أن السجود لا يكون إلا على وضوء لكان هذا مما يعلمه عامتهم؛ لأنهم كانوا يسجدون معه، وكان هذا شائعاً في الصحابة، فإذاً لم يعرف عن أحد منهم أنه أوجب الطهارة لسجود التلاوة، وكان ابن عمر من أعلمهم وأفقههم وأتبعهم للسنة، وقد بقي إلى آخر الأمر، ويسجد للتلاوة على غير طهارة، كان هذا مما يبين أنه لم يكن معروفاً بينهم أن الطهارة واجبة لها، ولو كان هذا مما أوجبه النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان ذلك شائعاً بينهم كشياع وجوب الطهارة للصلاة وصلاة الجنازة. وابن عمر لم يعرف أن غيره من الصحابة أوجب الطهارة فيها، ولكن سجودها على طهارة أفضل باتفاق المسلمين". الخ كلامه رحمه الله (¬2). هذا فيما يتعلق الكلام بسجود التلاوة، والراجح فيه أن الطهارة ليست بشرط كما تبين لنا من خلال الأدلة. أما سجود الشكر: وهو السجود الذي سببه شكر الله سبحانه وتعالى عند ¬
أدلة من قال بوجوب الطهارة
تجدد النعم أو اندفاع النقم، فالخلاف في اشتراط الطهارة له كالخلاف في سجود التلاوة، بل هو أضعف؛ لأن سجود الشكر مختلف في مشروعيته بين الفقهاء كما سيأتي تحريره إن شاء الله تعالى في بحث صلاة التطوع، بخلاف سجود التلاوة فإنه مشروع بالإجماع. فالمشهور من مذهب الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) أن سجود الشكر يشترط له ما يشترط للصلاة من الطهارة واستقبال القبلة، وستر العورة، واجتناب النجاسة. واختار بعض المالكية بأنه لا تشترط له الطهارة، مع أن المالكية مختلفون في حكمه، فأكثرهم على أن سجود الشكر مكروه. واختار بعضهم أنه جائز (مباح) (¬3). وكونه لا تشترط له الطهارة هو اختيار ابن تيمية (¬4). أدلة من قال بوجوب الطهارة أدلتهم في اشتراط الطهارة لسجود الشكر هو عين أدلتهم في سجود التلاوة من كونه يطلق السجود ويراد به الصلاة؛ ولأنه ركن في الصلاة، وبعض ¬
دليل من لم يشترط الطهارة.
الصلاة صلاة، وقياساً على سجود السهو .. الخ أدلتهم التي ذكرنها هناك. دليل من لم يشترط الطهارة. عللوا ذلك مع كونه لم يرد الأمر بالطهارة له، ولم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالطهارة له فإن الأخبار السارة قد تأتي بغتة للعبد وهو على غير طهارة فلو تراخى حتى يتطهر لفاتت المناسبة.
الخاتمة
الخاتمة الحمد لله وحده الذي وفقني إلى إتمام هذا البحث، والذي أرجو أن يكون لبنة في بناء، حيث سبقني من كتب عن هذا الباب المهم من أمور الفقه، من العلماء والأساتذة في رسائل قد لا تكون كبيرة، ولكنها مهمة في تغطية هذا الجانب، والذي أرجو أن أكون قد استفدت منهم، وأضفت ما يمكن إضافته، وقد يختلف معي القارئ، وقد يوافقني في ترجيح بعض المسائل؛ إلا أني في ترجيحي أرجو أن أكون طالب حق، وقد رجحت بعض المسائل في بداية بحثي، ثم أعلنت رجوعي عنها بعد المذاكرة مع بعض طلبة العلم دون أن أكتب البحث من جديد، ليتبين للقارئ عجز الإنسان، وقصوره، وأنه في بحث مستمر طلباً للحق، ولا يضير طالب العلم أن يقول: كنت أرجح كذا، وقد تبين لي خطأ ذلك، ويعلن رجوعه عنه، نصحاً للأمة، وبراءة للذمة وتعويداً للنفس في قبولها للحق، وأن يكون الإنسان مع الدليل، كالأعمى مع دليله، قد سلم له زمام نفسه يقوده حيث يشاء، وأن يكون عند بحثه خالي الذهن من اعتقاد سابق، حتى يكون متحرراً من الهوى، ومن تأويل النصوص لتوافق ما استقر عنده. والله الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد. ومن خلال البحث قد تبين لي ما يلي: أولاً: المرأة لا تحيض إلا في الشهر مرة واحدة، حيث تقرر طبياً أن الحيض يعقب بإذن الله إفراز البويضة فإذا لم تتم عملية إخصاب البويضة أعقب ذلك
نزول الدم من رحم المرأة، والمرأة لا تفرز بويضة إلا في الشهر مرة واحدة وبالتالي لا يمكن أن تحيض إلا في الشهر مرة واحدة. يقول الدكتور دوجالد بيرد في كتابه (المرجع في أمراض النساء والولادة): "إن مدة الحيض ودورته لا تختلف من امرأة إلى أخرى فحسب، وإنما قد يختلف ذلك في المرأة ذاتها من حين لآخر في حياتها التناسلية .. إذ تختلف كمية الدم ومدته عند بداية البلوغ عما هو عليه عند تمام البلوغ، كما يقل دم الحيض ومدته عند سن اليأس .... وما بين البلوغ وسن اليأس تكون العادة في أغلب النساء منتظمة، وهن يعرفن موعد حيضهن ومدته ومقداره ... فإذا اختلف ذلك عرفته بسرعة .. وتستطيع معرفة ذلك أغلب النساء دون صعوبة، ومدة الحيض في الغالب ستة أيام، وتحتسب الدورة من بداية الحيض إلى بداية الحيضة التي تليها، ومدتها في أغلب النساء 28 يوماً، وقد تزيد أو تنقص يوماً أو يومين" (¬1). وجاء في توصيات الندوة الثالثة للفقه الطبي المنعقدة في الكويت: "مدة الدورة الحيضية فيما إذا كانت الدورة سوية في غالب النساء ثمانية وعشرين يوماً، وأدناها ثلاثة أسابيع" (¬2). ولا يمكن أن تحيض المرأة في الشهر أكثر من مرة، لأنها لا يمكن أن تفرز أكثر من بويضة في الشهر الواحد. الثاني: أن الحامل لا يمكن أن تحيض، لأن الحيض هو انهدام جدار الرحم ¬
بعد موت البويضة، وحبس الغذاء عن الغشاء المبطن للرحم، وانهدام جدار الرحم لا يمكن أن يتم مع الحمل. وهذا ما قررته طبياً من كلام أهل الاختصاص. وقد كنت فيما مضى أرجح إمكان حيض الحامل، وقد تراجعت عن ذلك بعد ما تبين لي الحق. والحمد لله على توفيقه. الثالث: لا حد لأكثر الطهر، وهذا لا خلاف فيه بين الأطباء والفقهاء، فقد اتفق الأطباء والفقهاء على أنه لا حد لأكثر الطهر (¬1). الرابع: رجحت أن عادة المرأة ممكن أن تنقص وتزيد، وممكن أن تنتقل، ولا يشترط تكراره، بل إذا رأته المرأة كان حيضاً. الخامس: كما رجحت أن للحائض أن تقرأ القرآن، ولا حرج في ذلك، ولكن لا تمسه إلا وهي على طهارة، أو بحائل، وقد كنت أميل إلى جواز مس الحائض المصحف، ومع المذاكرة مع بعض مشايخي، ذكر لي طريقاً آخر لمرسل عمرو بن حزم، وهو ما رواه عبد الرزاق من طريق ابن المسيب عن عمر، وقد رجعت عن رأيي، وبينت ذلك من خلال البحث. فالحمد لله على توفيقه. السادس: كما رجحت بأن المرأة إذا حاضت أثناء وقت الصلاة لم يجب عليها قضاء تلك الصلاة إلا إذا حاضت ولم يبق من الوقت إلا وقت لا يتسع لتلك الصلاة فيجب عليها القضاء. والله أعلم. السابع: إذا طهرت المرأة من الحيض في شهر رمضان في أثناء اليوم لم يجب عليها الإمساك بقية اليوم. ¬
الثامن: رجحت أن طلاق الحائض يقع، ولم ينشرح صدري لقول ابن تيمية، مع أني تذاكرت في هذه المسألة مع بعض طلبة العلم، ولم نتفق على شيء. التاسع: لا تجب الكفارة على من جامع امرأته، وهي حائض، ولو قيل بالاستحباب بناء على أنه ثابت هذا من قول ابن عباس فهو قول جيد. العاشر: لا أرى وجوب الوضوء على المرأة المستحاضة؛ لأن الأمر بالوضوء لم يتبين لي أنه مرفوع، والمرأة لا تكلف بشيء ليس من فعلها، ولم تقصده. الحادي عشر: النفاس أكثره أربعون يوماً، فإذا زاد عن الأربعين فإن كان وقت عادة المرأة فهو حيض، وإلا استحاضة، ولا حد لأقله. الثاني عشر: إذا أسقطت المرأة جنينها، وقد تبين فيه خلق إنسان فهي نفساء، ولو لم تنفخ فيه الروح. الثالث عشر: لا يجوز إلقاء النطفة أو العلقة أو المضغة من غير ضرورة، ويجوز إسقاط الجنين ولو نفخت فيه الروح إذا قرر اثنان من الأطباء أنه لا سبيل إلى إنقاذ الأم مع جنينها، ولا بد من التضحية بأحدهما. وهذا من باب ارتكاب أخف الضررين. والله أعلم. الرابع عشر: حكم النفاس حكم الحيض فيما يجب ويمنع، ويسقط. إلا في مسائل معدودة ذكرتها في فصل خاص. هذه من أهم النتائج التي توصلت إليها خلال البحث، وأرجو من إخواني طلبة العلم أن يتواصلوا معي في كتابة ملاحظاتهم واستدراكاتهم، فإن الدين
النصيحة، والإنسان يرجو أن يكون طالب حق متى ما تبين له الحق، ومن شاء مراسلتي فالعنوان كالتالي: دبيان بن محمد الدبيان العنوان: مكتب الدعوة والإرشاد ببريدة تلفون العمل: 063820082
فهرس المصادر والمراجع
فهرس المصادر والمراجع الآيات العجاب في رحلة الإنجاب د. حامد أحمد حامد، دار القلم، الأولى 1417 هـ. أبحاث فقهية. محمّد نعيم ياسين. دار النفائس. ط - الأولى: 1416 هـ الإجهاض بين الفقه والطب والقانون. للطبيب سيف الدين السباعي. دار الكتب العربية. ط 1397 هـ. الإجهاض من منظور إسلامي. للدكتور عبد الفتاح محمّد إدريس، مجلة الحكمة، بريطانيا، العدد 9 - 13. أحكام القرآن. للجصاص أحمد بن علي الرازي، دار إحياء التراث، ط - 1405. أحكام النساء. عبد الرحمن بن الجوزي، المكتبة العصرية، ط 1408 هـ. أحكام مباشرة النساء في أثناء فترة الدماء. د. عبد الله بن عبد المحسن الطريقي، بدون، ط الأولى 1418 هـ. أحكام المرأة الحامل في الشريعة الإسلامية. يحيى بن عبد الرحمن الخطيب. دار النفائس. الأولى 1418 هـ إحياء علوم الدين محمّد بن محمّد الغزالي. المكتبة التجارية الكبرى. بدون أخبار ذكر أصبهان لأبي نعيم الأصبهاني طبع إيران. الإختيار لتعليل المختار. عبد الله بن محمود الحنفي. دار الفكر العربي. بدون الإختيارات العلمية من الإختيارات الفقهية. للبعلي: علي بن محمّد بن عباس. دار العاصمة. الأولى 1418 هـ. الإختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية. اختيار علي بن محمّد البعلي. تحقيق الفقي. دار المعرفة. بدون. الأدب المفرد. للإمام محمّد بن إسماعيل البخاري. دار البشائر الإسلامية. ط 1409 هـ
إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن. محمّد بن محمّد العمادي. دار إحياء التراث. بدون الإرشاد في معرفة علماء الحديث. الخليل بن عبد الله بن أحمد. مكتبة الرشد. ط 1 - 1409 هـ إرواء الغليل تخريج منار السبيل. للعلامة محمّد ناصر الدين الألباني. المكتب الإسلامي. ط 1 - 1399 هـ. أسهل المدارك. أبو بكر بن حسن الكشناوي. دار الكتب العلمية. ط. الأولى. الإستذكار. للإمام ابن عبد البر. دار قتيبة. ط 1 - 1413 هـ. الأصل (المعروف محمّد بن الحسن الشيباني بالمبسوط). عالم الكتب. ط 1 - 1410 هـ. إعلام الموقعين. للعلامة ابن القيم. الإقناع في فقه الإمام أحمد. شرف الدين موسى الحجاوي. دار المعرفة. بدون. الإقناع. محمّد بن إبراهيم بن المنذر. بدون. الأولى 1408 هـ. الإكمال في معرفة الرجال. محمّد بن علي بن الحسن الحسيني. دار اللواء. بدون. الأم. للإمام محمّد بن إدريس الشافعي. دار المعرفة. بدون. الإنتصار في المسائل الكبار. محفوظ بن أحمد الكلوذاني. مكتبى العبيكان. الأولى. 1413 هـ. الأنساب. للإمام عبد الكريم بن محمّد السمعاني. مؤسسة الكتب الثقافية. ط - 1، 1408 هـ. الإنسان هذا الكائن العجيب. د. تاج الدين محمود العاجي. دار عمار. الأولى 1413 هـ. الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف. علي بن سليمان المرداوي. دار إحياء التراث. الطبعة الثانية 1400 هـ. أوجز المسالك شرح موطأ مالك. محمّد بن زكريا الكاندهلوي. الطبعة الباكستانية. بدون. الأوسط في الإجماع والإختلاف. محمّد بن إبراهيم بن المنذر. دار طيبة. الأولى 1405 هـ. البحر الرائق. زين الدين ابن نجيم الحنفي. دار الكتاب الاسلامي. ط 2 بدون.
البحر الزخار (مسند البزار). للإمام البزار. ط مؤسسة علوم القرآن. ط 1. تحقيق محفوظ الرحمن. بدائع الصنائع. أبو بكر بن مسعود الكاساني. دار الكتاب العربي. ط 2 - 1402 هـ. بدائع الفوائد. للإمام محمّد بن أبي بكر، المعروف بابن القيم. دار الكتاب العربي. بدون. بداية المجتهد مع الهداية. أبو الوليد محمّد بن أحمد بن رشد القرطبي. عالم الكتب. الأولى 1407 هـ. البناية شرح الهداية. محمّد بن محمّد العيني. دار الفكر. ط 2 - 1411 هـ. البيان والتحصيل. محمّد بن أحمد بن رشد (الجد). دار الغرب. الأولى 1406 هـ. التاريخ الكبير. للإمام محمّد بن إسماعيل البخاري. دار الفكر. ط 1986 م. التاج الإكليل لمختصر خليل. محمّد بن يوسف العبدري المشهور بالمواق. دار الفكر. مطبوع بهامش مواهب الجليل. تاج العروس من جواهر القاموس. محمّد مرتضي الحسيني الزبيدي. دار الفكر (ومصطفى الباز) ط 1414 هـ. تاريخ ابن معين يحيى بن معين. رواية الدوري إحياء التراث الإسلامي. ط - 1399 هـ. تاريخ يحيى بن معين. رواية الدارمي. دار المأمون للتراث. ط - 1400 هـ تاريخ بغداد. أحمد بن علي الخطيب. دار الكتب العلمية. ط 1374 هـ. التبيين لأسماء المدلسين. إبراهيم بن محمّد بن سبط العجمي. مؤسسة الريان. ط 1414 هـ. تبين الحقائق. للإمام عثمان بن علي الزيلعي. دار الكتاب العربي. ط 2. بدون تاريخ. تحديد النسل. الدكتور محمّد سعيد البوطي. تحفة الأحوذي. محمّد بن عبد الكريم المباركفوري. مكتب المطبوعات الإسلامية .. دار الفكر. ط - 3 سنة 1399 هـ. تحفة المحتاج. عمر بن علي بن الملقن. دار حراء. ط 1 - 1406 هـ.
التحقيق في مسائل الخلاف. عبد الرحمن بن علي بن الجوزي. دار الكتب العلمية. الثانية 1415 هـ. تذكرة الحفاظ. للإمام الذهبي. دار الكتب العلمية. ط 1374 هـ. تعجيل المنفعة. أحمد بن علي بن حجر. دار الكتاب العربي. بدون. التفريع. عبد الله بن الحسين بن الجلاب. دار الغرب الإسلامي. الأولى. 1408 هـ تفسير الطبري. محمّد بن جرير الطبري. دار الكتب العلمية. ط الأولى 1412 هـ. تفسير القرآن العظيم. للحافظ ابن كثير. دار طيبة. ط 1 - 1418 هـ. تقريب التهذيب. للحافظ ابن حجر العسقلاني. دار العاصمة. تحقيق أبي الأشبال. ط 1 - 1416 هـ. تلخيص الحبير. للحافظ ابن حجر. مؤسسة قرطبة. ط 1416 هـ. تلخيص المستدرك. للحافظ الذهبي مطبوع مع المستدرك فانظر المستدرك. التمهيد. لابن عبد البر مع فتح البر لابن عبد البر. مؤسسة قرطبة. ط 1 - 1400 هـ تنظيم الأسرة في الإسلام. محمّد أبو زهرة. دار الفكر العربي. بدون. تنظيم النسل وموقف الشريعة الإسلامية منه. مكتبة الحرمين. ومكتبة الرشد. الثانية 1410 هـ. تنقيح التحقيق. محمّد بن أحمد بن عبد الهادي. المكتبة الحدثة. الأولى. 1409 هـ تنوير المقالة حل ألفاظ الرسالة. محمّد بن إبراهيم التنائي. بدون الأولى. 1409 هـ. تهذيب التهذيب. للحافظ ابن حجر العسقلاني. دار الفكر. ط 1404 هـ تهذيب السنن. محمّد بن أبي بكر (ابن القيم الجوزية). دار المعرفة. بدون. تهذيب الكمال في أسماء الرجال. أبو الحجاج يوسف المزي. مؤسسة الرسالة. ط 1 - 1406 هـ.
الثقات. محمّد بن حبان بن أحمد البستي. دار الفكر. ط 1395 هـ. الجامع لأحكام القرآن. للإمام القرطبي. تحقيق أحمد البردوني. الجامع الكبير. لأبي الفضل جلال الدين السيوطي. الجامع للإختيارات الفقهية. د. أحمد موافي. دار ابن الجوزي. الأولى. 1413. الجرح والتعديل عبد الرحمن بن أبي حاتم. دار إحياء التراث. ط 1371 هـ. الجنين المشوه والأمراض الوراثية. د. محمّد علي البار. دار القلم - دار المنار الأولى 1411 هـ. حاشية البيجوري على متن أبي شجاع. للعلامة ابن القاسم الغزي. دار الكتب العلمية. الأولى 1415 هـ. حاشية الجمل على شرح المنهاج. سليمان الجمل. دار الفكر. بدون. حاشية السندي على النسائي. نور الدين بن عبد الهادي السندي. مكتب المطبوعات الإسلامية. ط - 1406 هـ. حاشية العدوي. علي العدوي. دار صادر. بدون. حاشية ابن قاسم على الروض المربع. للعلامة ابن قاسم النجدي. حاشية قليوبي وعميرة. قليوبي وعميرة. دار الفكر. بدون. حاشية رد المحتار على الدر المختار. محمّد أمين المشهور بابن عابدين. دار الكتاب الاسلامي. ط 2. بدون تاريخ. الحاوي الكبير. علي بن محمّد الماوردي. دار الكتب العلمية. الأولى 1414 هـ. حاشية الروض المربع. عبد الرحمن بن محمّد بن قاسم. بدون. الثالثة 1403 هـ حلية الأولياء. لأبي نُعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني. دار الكتاب العربي ط 1405 هـ. حواشي تحفة المحتاج. عبد الحميد الشرواني. وأحمد القاسم. دار صادر. ط 1315 هـ الحيض والنفاس بين الفقه والطب. للدكتور عمر الأشقر. دار النفائس. الأولى. 1413 هـ.
الحيض. لإبراهيم الجمل. الخرشي على مختصر خليل. محمّد بن عبد الله الخرشي. دار صادر. بدون. خلق الإنسان بين الطب والقرآن. للدكتور محمّد بن علي البار. الدار السعودية. الطبعة العاشرة 1415 هـ. الخلاصة. للإمام النووي. مؤسسة الرسالة. ط 1 - 1418 هـ. الخلافيات. للإمام البيهقي. دار الصميعي. الأولى. 1414 هـ. الدراري المضية. محمّد بن علي الشوكاني. دار المعرفة. ط 1398 هـ. الدر المنثور بالتفسير بالمأثور. للحافظ جلال الدين السيوطي. دار الفكر. ط 1414 هـ الديباج على صحيح مسلم. دار ابن عفان. ط 1 - 1416 هـ. روضة الطالبين. للإمام يحيى بن شرف الدين النووي. المكتب الإسلامي. الثالثة 1412 هـ. الروض المربع شرح زاد المستقنع. منصور بن يونس البهوتي. تحقيق الشيخ خالد المشيقح ومجموعة معه. دار الوطن. الأولى 1416 هـ. روعة الخلق. ترجمة ماجد طيفور. الدار العربية للعلوم الأولى 1412 هـ. رؤوس المسائل محمود بن عمر الزمخشري. دار البشائر. ط 1 - 1407 هـ. زاد المستقنع مطبوع مع الروض المربع. زاد المسير في علم التفسير. لابن الجوزي. المكتب الإسلامي. ط 3 - 1404 هـ زاد المعاد. لابن القيم. المكتبة العلمية (ودار الباز) ط بدون، والنسخة غير محققة. سبل السلام. أحمد بن إسماعيل الصنعاني. الجامعة. ط - 2 - 1400 هـ السنن (المجتبى) والكبرى. للإمام النسائي. دار الكتب العلمية. ط 1411 هـ. السنن. للإمام أبي داود. دار الفكر. بدون. الجامع الصحيح (السنن). لأبي عيسى الترمذي. دار إحياء التراث العربي. ط الحلبي السنن. لابن ماجة القزويني. دار الفكر. بدون.
السنن. للإمام الدارقطني. دار المعرفة. بدون. السنن الكبرى. للإمام أبي بكر البيهقي. دار المعرفة. بدون. سؤالات الآجري. سليمان بن الأشعث أبو داود. الجامعة الإسلامية. ط - 1399 هـ. سؤالات البرقاني. علي بن عمر الدارقطني. كتب خانه جميلي. ط - 1404 هـ. سؤالات الحاكم. علي بن عمر الدارقطني. مكتبة المعارف. ط 1404 هـ سؤالات حمزة السهمي. علي بن عمر الدارقطني. مكتبة المعارف. ط 1404 هـ. السيل الجرار. محمّد بن علي الشوكاني. دار الكتب العلمية. دار المعرفة. 1405 هـ. شرح الزرقاني على مختصر خليل. دار الفكر. بدون. شرح الزركشي على مختصر الخرقي. مكتبة العبيكان. الأولى. 1412 هـ. شرح سنن ابن ماجة. قديمي كتب خانة. بدون. شرح السنة. للإمام البغوي. المكتب الإسلامي. الأول. 1400 هـ. الشرح الصغير. أحمد بن محمّد الدردير. دار المعارف. بدون. شرح الطيبي على مشكاة المصابيح. مكتبة نزار مصطفى الباز. ط - 1 - 1417 هـ. شرح العمدة (الطهارة). لابن تيمية. مكتبة العبيكان. الأولى 1409 هـ. شرح العناية على الهداية. محمّد بن محمود البابرتي. دار الفكر. مطبوع مع شرح فتح القدير بدون تاريخ. شرح فتح القدير. محمّد بن عبد الواحد المعروف بابن الهمام. دار الفكر. ط 2. الشرح الكبير. دار الفكر. مطبوع مع حاشية الدسوقي. بدون. شرح معاني الآثار. للإمام الطحاوي. دار الكتب العلمية. ط 399 هـ. شرح منتهى الإرادات. منصور بن محمّد بن مفلح. المكتب الإسلامي. بدون. الشرح الكبير. مطبوع بحاشية الدسوقي. انظر حاشية الدسوقي. الصحيح. للإمام أبي عبد الله البخاري. بيت الأفكار. ط 1419 هـ.
الصحيح. للإمام مسلم ابن الحجاج. دار إحياء التراث العربي. بدون. الصحيح. للإمام ابن خزيمة. المكتب الإسلامي. ط 1399 هـ. الصحيح. لابن حبان البستي. مؤسسة الرسالة. تحقيق الأرنؤوط. ط 414 هـ. الضعفاء. محمّد بن عمرو العقيلي. تحقيق قلعجي. دار الكتب العلمية. ط 1 - 1404 هـ الضعفاء الصغير. للإمام محمّد بن إسماعيل البخاري. دار الوعي. ط - 1396 هـ الضعفاء والمتروكون. أحمد بن شعيب النسائيُّ. مؤسسة الكتب الثقافية ط - 1405 هـ. الطبقات الكبرى لابن سعد دار صادر. بدون، طبقات المدلسين. أحمد بن علي بن حجر. مكتبة المنار. ط - 1403 هـ. الطهارة عند المرأة لجاسم المهلهل. الطهور. لأبي عبيد القاسم بن سلاَّم مكتبة الصحابة بجدة ط. الأولى. عارضة الأحوذي شرح جامع الترمذي. لأبي بكر ابن العربي. دار الكتب العلمية. بدون. العلل المتناهية. لابن الجوزي. دار الكتب العلمية. العلل. لابن أبي حاتم. دار السلام. بدون. العلل. لأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني. دار طيبة. ط 1 - 1405 هـ العلل للترمذي. بشرح الحافظ ابن رجب. تحقيق السامرائي. فتح الباري. للحافظ ابن حجر العسقلاني. دار الكتب العلمية. ط 2 - 1418 هـ. فتح الباري شرح صحيح البخاري. للحافظ ابن رجب. مكتبة الغرباء. ط 1 - 1417 هـ. فتح البر بترتيب التمهيد. لابن عبد البر للمغراوي. ط 1 - 1416 - مجموعة التحف والنفائس الفتح الرباني بمفردات ابن حنبل الشيباني. تحقيق د. عبد الله الطيار ط الأولى فتح القدير للشوكاني. دار الفكر. بدون. الفروع محمّد بن مفلح. عالم الكتب. الثالثة. 1402 هـ.
فقه الشيخ السعدي. تحقيق د. عبد الله الطيار - أبا الخيل. ط الأولى. فقه الأوزاعي فيض القدير شرح الجامع الصغير. محمّد المدعو عبد الرؤوف المناوي. دار المعرفة. بدون. الفقه الإسلامي وأدلته. وهبة الزحيلي. دار الفكر. الثالثة. 1409 هـ. القوانين الفقهية. محمّد بن أحمد بن جزيء. دار الكتب العلمية. بدون. الكاشف لمعرفة من له رواية في الكتب الستة. للإمام الذهبي. دار القبلة. ط 1 - 1413 هـ. الكافي في فقه أهل المدينة. لابن عبد البر. دار الكتب العلمية. الثانية. 1413 هـ. الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل. عبد الله بن قدامة المقدسي. المكتب الإسلامي. الثانية 1399 هـ. الكامل في تاريخ الرجال. للحافظ ابن عدي. دار الفكر. ط - 1409 هـ. كشاف القناع عن متن أبي شجاع. عالم الكتب. بدون. الكشف الحثيث فيمن رمي بوضع الحديث. لسبط ابن العجمي. عالم الكتب. ط 1407 هـ. الكواكب النيرات. محمّد بن أحمد الكيال. دار المأمون للتراث. ط 1 - 1401 هـ لسان العرب. للعلامة ابن منظور. لسان الميزان. للحافظ ابن حجر العسقلاني. مؤسسة الأعلمي. ط - 1406 هـ. مائة سؤال وجواب في النساء والولادة. للدكتورة سلوى بنت محمّد بهلكي. دار الميمان. الأولى 1418 هـ المبدع شرح المقنع. إبراهيم بن محمّد بن مفلح. المكتب الإسلامي. ط بدون. المبسوط. للإمام السرخسي. دار المعرفة. بدون. المبسوط. لابن المنذر. دار طيبة. ط الأولى 1409 هـ متن أبي شجاع. المسمى الغاية والتقريب. أحمد بن الحسين الأصفهاني. دار ابن حزم ط الأولى. 1413 هـ.
المجروحين من الحدثين والضعفاء والمتروكين. لابن حبان البستي. دار المعرفة. ط - 1412 هـ مجمع البحرين في زوائد المعجمين. للحافظ نور الدين الهيثمي. ط الرشد. الأولى 1413 مجموع الفتاوى. لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. جمع عبد الرحمن بن محمّد بن قاسم بدون طـ - 1398 هـ. المجموع. للإمام النووي. مكتبة الإرشاد. بدون. المحرر. مجد الدين أبو البركات. مكتبة المعارف. ط الثانية 1404 هـ المحلى. للإمام ابن حزم الظاهري. تحقيق العلامة أحمد شاكر. دار الآفاق الجديدة. بدون. مختصر المزني. للإمام المزني. ملحق بالأم انظر الأم. المدونة الكبرى. مالك بن أنس. دار صادر. بدون. مراتب الإجماع. علي بن أحمد بن حزم. دار الكتب العلمية. بدون. مراتب المدسلين. للحافظ ابن حجر. مراقي الفلاح. حسن بن عمار الحنفي. دار الكتب العلمية الأولى 1415 هـ. مسائل الإمام أحمد. سليمان بن الأشعث أبو داود. دار المعرفة. بدون. المستوعب. محمّد بن عبد الله السامري. مكتبة المعارف. الأولى. 1413 هـ. المسند. للإمام أحمد رحمه الله. المكتب الإسلامي. ط 5، 1405 هـ المسند. للإمام أحمد رحمه الله. مؤسسة الرسالة. بتحقيق شعيب الأرنؤوط. 1416 هـ. المسند الجامع (المعروف بسنن الدارمي). للإمام أبي محمّد الدارمي. مسند الحميدي. للإمام أبي عبد الله الحميدي. دار الكتب العلمية. بدون. مسند الشاميين. للإمام الطبراني. مؤسسة الرسالة. ط 1، 1405 هـ مسند الطيالسي. لأبي داود الطيالسي. دار المعرفة. بدون. مسند أبي يعلى الموصلي. لأبي يعلي الموصلي. دار المأمون. ط 1404 هـ
مسند أبي عوانة. لأبي عوانة الإسفرائيني. ط. 1 دار الكتبي. مشاهير علماء الأمصار. محمّد بن حبان البستي. دار الكتب العلمية. ط 1959 م. مشكل الآثار. للإمام الطحاوي. مؤسسة الرسالة. تحقيق الأرنؤط. ط الأولى 1415 هـ. المصنف. للإمام عبد الرزاق الصنعاني. المكتب الإسلامي. ط 2، 14034 المصنف. لأبي بكر ابن أبي شيبة. دار الكتب العلمية. المكتب الإسلامي. ط 2، 1416 هـ. المطالب العالية (النسخة المسندة). للحافظ ابن حجر العسقلاني. معالم السنن. للإمام الخطابي. دار الحديث بدون. المعجم الكبير. للإمام الطبراني ز مكتبة العلوم والحكم. ط 1404 هـ المعجم الصغير. للإمام الطبراني. المكتبة السلفية. ط 1388 هـ. المعجم الأوسط. تحقيق أيمن شعبان. ط 1 - 1417 هـ معرفة السنن والآثار. للإمام البيهقي. دار الوعي. 1411 هـ. معرفة الثقات. أحمد بن علي العجلي. مكتبة الدار. ط - 1405 هـ. المعونة. القاضي عبد الوهاب البغدادي. مكتبة نزار الباز. ط. 1415 هـ. معونة أولي النهى شرح المنتهى. محمّد بن أحمد التنوخي. دار خضر. الأول. 1416 هـ. المغني. لابن قدامة والمقدسي. هجر. د. الدكتور التركي، والحلو. هجر ط الأولى 1408 هـ. مغني المحتاج إلى معرفة معاني الألفاظ. محمد الشربيني الخطيب. مطبعة مصطفي البابي الحلبي. ط 1377 هـ. المفهم شرح صحيح مسلم للإمام القرطبي. دار ابن كثير. ط 1 - 1417 هـ. المقدمات الممهدات. محمّد بن أحمد بن رشد القرطبي. دار الغرب. الأولى 1408 هـ. الممتع شرح المقنع. للتنوخي. ط الأولى. منار السبيل. إبراهيم بن محمّد بن ضويان. المكتب الإسلامي. الخامسة. 1402 هـ. المنتخب من مسند عبد بن حميد. لعبد ابن حميد.
المنتقى لابن الجارود مع غوث المكدود. دار الكتاب العربي. ط. 1408 هـ المنتقى. لأبي الوليد الباجي. دار الكتاب العربي. الأولى 1332 هـ. منح الجليل. محمّد بن عليش. دار الفكر. ط. 1409 هـ. مواهب الجليل. محمّد بن إبراهيم المنذر. بدون. الأولى. 1408 هـ. موسوعة الإجماع. سعيد أبو حبيب. دار العربية. بدون. الموسوعة الفقهية الكوينية. وزارة الأوقاف. ذات السلاسل. ط - 1404 هـ. الموطأ. للإمام مالك. رواية يحيى بن يحيى ومحمد بن الحسن وأبي مصعب. دار إحياء التراث. بدون. المهذب في فقه الإمام الشافعي. إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي. ميزان الاعتدال. لأبي عبد الله الذهبي. دار المعرفة. بدون نصب الراية. للإمام الزيلعي. دار الحديث. ط - 1357 هـ نهاية المحتاج. دار الفكر. ط - 1404 هـ. نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار. للإمام محمّد بن علي الشوكاني. دار زمزم. ط - 1 - 1413 هـ. نيل المآرب على دليل الطالب. عبد القادر بن عمر الشيباني. مكتبة الفلاح. الأولى. 1403 هـ. الهداية في تخريج أحاديث البداية. أحمد الغماري. الأولى 1407 هـ. الوجيز محمّد بن محمّد الغزالي. دار المعرفة. ط 1399 هـ. الوسيط في المذهب. لأبي حامد الغزالي. دار السلام. ط الأولى 1417 هـ الوهم والإيهام. لابن القطان. دار طيبة الأولى.
[الوضوء]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتدى بهديه. أما بعد، فهذه هي الدفعة الأخيرة من كتاب أحكام الطهارة، وقد صدر منها سابقاً ثمانية مجلدات ولله الحمد: كتاب الحيض والنفاس في ثلاثة مجلدات، وصفحاته (1360) صفحة. وكتاب أحكام المياه في مجلد واحد، وعدد صفحاته (589) صفحة. وكتاب سنن الفطرة في مجلدين. وعدد صفحاته (979) صفحة. وكتاب آداب الخلاء في مجلد واحد، وعدد صفحاته (636) صفحة. وكتاب أحكام المسح على الحائل في مجلد واحد، وصفحاته (676) صفحة. وها أنا بتوفيق من الله سبحانه وتعالى وبفضله أتبعها في بقية أحكام الطهارة، منها: الوضوء شروطه وسننه وآدابه ونواقضه. في مجلدين كبيرين. والغسل في مجلد واحد كبير. والتيمم في مجلد واحد، والنجاسة في مجلد كبير جداً ليكون الجميع ثلاثة عشر مجلداً، فلله سبحانه وتعالى وحده الفضل والمنة والثناء الذي يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، {وما بكم من نعمة فمن الله} (¬1)، {وإن تعدوا نعمة الله لا ¬
تحصوها} (¬1)، {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم} (¬2). وأشكر جميع من تواصل معي في هذه البحوث، سواء من كتب لي شاكراً أو ناصحاً، وملحوظاتهم محل تقديري واحترامي، وأخص بالذكر الشيخ الفاضل عبد الله بن جابر الحمادي- جزاه الله خيراً، وكنت قد حكمت على زيادة غسل الأنثيين في طهارة المذي بالشذوذ وفق القواعد الحديثية، فأخبرني الشيخ بأنه وقف على تضعيف هذه الزيادة للإمام أحمد في مسائل أبي داود، وقد وجدتها فيه فعلاً، ففرحت لهذه الموافقة، خاصة أن الإمام أحمد هو الوحيد بين الأئمة الذي يرى وجوب غسل الأنثيين في رواية عنه، كما وقفت بعد طبع كتاب الأحكام الوسطى للإشبيلي بأنه يذهب فيه إلى تضعيف زيادة غسل الأنثيين، فزادني هذا طمأنينة خاصة أن زيادة غسل الأنثيين قد صححها جمع من المتأخرين. كما رجحت في حديث عائشة في البخاري في قصة استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش، وفيه الوضوء لكل صلاة، على أن الصحيح أنه موقوف على عروة، وليس مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على خلاف ما فهمه ابن حجر رحمه الله في فتح الباري، ورأيت أن حدث المستحاضة لا يجب عليها منه وضوء إلا أن تحدث حدثاً بإرداتها، ليست مغلوبة عليه، فليس خروج دم المستحاضة موجباً للحدث، كما أن خروج الوقت ليس موجباً للحدث كذلك، كما هو مذهب مالك رحمه الله تعالى، ويقاس على المستحاضة من به سلس بول، فلا يكلف الوضوء لخروج بوله إلا أن يتبول بإرادته. ¬
وقد ذكر لي الشيخ عبد الله بن علي الجعيثن أنه وقف على كلام للحافظ ابن رجب في شرحه للبخاري يفيد أن جميع الأحاديث التي فيها الأمر للمستحاضة بالوضوء لكل صلاة لا تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد نقلت هذا الكلام من الحافظ ابن رجب في بحث نواقض الوضوء، فلله الحمد والمنة. مثال ثالث: حديث سفيان، عن إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط ابن صبرة عن أبيه مرفوعاً. رواه وكيع، ويحيى بن آدم، ومحمد بن كثير عن سفيان به، ولم يذكر المبالغة بالمضمضة، وإنما اقتصروا على المبالغة بالاستنشاق إلا من الصائم. ورواه أبو بشر الدولابي، عن ابن مهدي، عن سفيان به بلفظ: «إذا توضأت فأبلغ المضمضة والاستنشاق ما لم تكن صائماً» فزاد الأمر بالمبالغة بالمضمضة. وصحح ابن القطان في كتابه الوهم والإيهام (¬1)، رواية أبي بشر الدولابي، وقال: ابن مهدي أحفظ من وكيع وأجل قدراً. وقد ضعفت هذه الزيادة، وجعلت الخطأ ليس من ابن مهدي حتى تكون المقارنة بينه وبين غيره، وإنما المخالفة من أبي بشر الدولابي، فقد قال الدارقطني: تكلموا فيه. وقال أبو سعيد بن يونس: إنه من أهل الصنعة وكان يضعف. وقال ابن عدي: متهم (¬2). ¬
فأخبرني الشيخ الفاضل علي الدخيل بأنه وقف على رواية للإمام أحمد عن ابن مهدي توافق رواية وكيع، ليس فيها ذكر المبالغة في المضمضة، وقد ألحقت هذا الطريق بالتخريج عند إعادة الحديث في هذا الكتاب، فثبت الخطأ على أبي بشر الدولابي، وخرج ابن مهدي من العهدة، وتبين خطأ ابن القطان رحمه الله حين جعل الترجيح بين وكيع وبين ابن مهدي. هذه بعض الأمثلة لتواصل بعض أهل الفضل ذكرتها ليذكروا بالدعاء من إخوانهم، وليطمئن بعض الطلبة إلى سلامة المنهج الحديثي المتبع في الحكم على ما يرد من زيادات في بعض ألفاظ الحديث، وفي ذلك أيضاً جواب على ما يستشكله بعض إخواننا من مخالفتي لبعض أهل العلم في الحكم على بعض ألفاظ الحديث، أن ذلك كان وفق القواعد الحديثية، كما فيه تدليل على أن منهج الأئمة المتقدمين لا يشترطون في رد زيادة الثقة أن تكون منافية على خلاف ما ذكر في نخبة الفكر، بل يدرس الأئمة كل زيادة ترد في الحديث على انفراد، ولا يعطون حكماً عاماً على كل زيادة، ويتبعون في الحكم على الزيادة بالحفظ أو الشذوذ حسب ما يتوفر من قرائن في قبولها أو وردها، ومقارنة من زاد على من لم يذكر الزيادة، سواء كانت الزيادة في المتن أو في الإسناد، ويقدم العدد الكثير على القليل في الجملة، ويقدم الأوثق على الثقة، وهكذا، وكل زيادة لها ما يخصها من القرائن التي تجعل الباحث يقبل أو يرد تلك الزيادة. بقي أن أنوه على مقالة تتردد بين طلبة العلم أسمعها كثيراً، وهو أن العبادات مخدومة لا تحتاج إلى عناية بحث، وقد تأكد لي أن هذه المقالة ليست دقيقة، فإني عندما شرعت في أحكام المياه بحثت في المكتبات عن الكتب الفقهية المقارنة التي صدرت في هذا الباب فلم أجد فيها كتاباً واحداً مختصاً
يجمع أطراف مسائله، ويغني القارئ عن الرجوع إلى كتب المذاهب، فطلبت كتاباً في الوضوء وفي الحيض والنفاس فلم أجد بغيتي، فإذا كان هذا الكلام في أحكام الطهارة، فما بالك في أحكام الحج والنوازل فيه، وفي أحكام الصيام، بل وفي أحكام الصلاة، فتبين لي أن الكلام بأن العبادات مخدومة عبارة تحتاج إلى تدقيق، إلا إن كانت الخدمة المعنية هي غير الخدمة التي أبحث عنها، وإنما تقتصر على كتاب المجموع والمغني والسيل الجرار وفتح البارئ، فهذه الكتب قد بحث فيها أيضاً غير العبادات من أحكام الفقه الأخرى كالمعاملات والنكاح والنفقات والجنايات وغيرها، فيكون الفقه الإسلامي كله مخدوماً، ولا معنى لتخصيص العبادات، والله الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد. هذا ما أردت ذكره بين يدي هذه المجموعة من كتاب أحكام الطهارة، والله أعلم. كتبه أبو عمر دبيان بن محمد الدبيان السعودية - القصيم - بريدة
خطة البحث
خطة البحث كتاب الوضوء يشتمل على مقدمة، ومجموعة من الأبواب، والمباحث، والفصول، والفروع، والمسائل بشكل هرمي على النحو التالي. المقدمة: وتشتمل على خمسة مباحث: المبحث الأول: في تعريف الوضوء. المبحث الثاني: في فضل الوضوء. المبحث الثالث: في حكم الوضوء. المبحث الرابع: متى شرع الوضوء. المبحث الخامس: هل كان الوضوء في شريعة من قبلنا؟. الباب الأول: في شروط الوضوء. الشرط الأول: الإسلام. الشرط الثاني: التكليف. الشرط الثالث: ارتفاع دم الحيض والنفاس. الشرط الرابع: طهورية الماء. الشرط الخامس: إزالة ما يمنع وصول الماء إلى أعضاء الوضوء. الشرط السادس: دخول الوقت على من به حدث دائم. الشرط السابع: هل يشترط أن يكون ماء الوضوء مباحاً؟ الشرط الثامن: القدرة على استعمال الماء. الشرط التاسع: قيام الحدث. الشرط العاشر: النية، وفيها مباحث:
المبحث الأول: تعريف النية. المبحث الثاني: في حكم النية. المبحث الثالث: في محل النية. المبحث الرابع: في أقسام النية. المبحث الخامس: في الجهر بالنية. المبحث السادس: الحكمة من مشروعية النية. المبحث السابع: في شروط النية. الشرط الأول: الإسلام. الشرط الثاني: التمييز. الشرط الثالث: عدم الإتيان بما ينافي النية حتى يفرغ من وضوئه. الشرط الرابع: أن تكون النية مقارنة للمنوي أو متقدمة عليه بشيء يسير. الشرط الخامس: أن يكون جازماً بالنية. المبحث السابع: في صفة النية. الفرع الأول: إذا نوى طهارة مطلقة. الفرع الثاني: إذا نوى ما تسن له الطهارة. الفرع الثالث: إذا نوى ما لا تشرع له الطهارة. الفرع الرابع: إذا نوى رفع الحدث ونية التبرد مقرونين. الفرع الخامس: إذا نوى رفع حدث واحد، وعليه مجموعة أحداث، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: أن ينوي رفع أحدها ناسياً بقيتها، أو ذاكراً ولم يخرجها. المسألة الثانية: أن ينوي رفع أحد الأحداث وينوي بقاء غيره. الباب الثاني: في سنن الوضوء وآدابه. الفصل الأول: كون التسمية من سنن الوضوء. الفصل الثاني: من سنن الوضوء السواك. مبحث: في محل السواك من الوضوء. الفصل الثالث: من سنن الوضوء غسل الكفين ثلاثاً. المبحث الأول: السنة أن يغسل كفيه قبل أن يدخلهما الإناء. المبحث الثاني: من توضأ ثم أحدث في أثناء وضوئه، فهل يعيد غسل يديه إذا أعاد الوضوء. المبحث الثالث: هل يحتاج غسل الكفين إلى نية؟ الفصل الرابع: من سنن الوضوء المضمضة والاستنشاق. المبحث الأول: حكم المضمضة والاستنشاق. المبحث الثاني: يستحب تقديم المضمضة والاستنشاق. المبحث الثالث: في حكم المبالغة في المضمضة والاستنشاق. المبحث الرابع: في حكم المبالغة في المضمضة والاستنشاق للصائم. المبحث الخامس: في حكم استنثار الماء بعد الاستنشاق. المبحث السادس: حكم كون المضمضة والاستنشاق باليمين والاستنثار بالشمال.
المبحث السابع: في الجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة. فرع: في صفة الجمع والفصل بين المضمضة والاستنشاق. الفصل الخامس: من سنن الوضوء تخليل اللحية والأصابع في الوضوء. المبحث الأول: في حكم تخليل اللحية. المبحث الثاني: في صفة تخليل اللحية. المبحث الثالث: في تخليل الأصابع. المبحث الرابع: في صفة تخليل الأصابع. الفصل السادس: في استحباب تحريك الخاتم الواسع. الفصل السابع: من سنن الوضوء التيامن. الفصل الثامن: من سنن الوضوء استحباب الغسلة الثانية والثالثة. الفصل التاسع: استحباب الاقتصاد في الماء وعدم الإسراف فيه. الفصل العاشر: في مسح العنق. مبحث: في كيفية مسح العنق. الفصل الحادي عشر: من سنن الوضوء دلك أعضاء الوضوء. الفصل الثاني عشر: في إطالة الغرة والتحجيل. المبحث الأول: في تعريف الغرة والتحجيل. المبحث الثاني: خلاف العلماء في استحباب إطالة الغرة والتحجيل. الفصل الثالث عشر: في تنشيف أعضاء الوضوء بمنديل ونحوه. الفصل الرابع عشر: يستحب تجديد الوضوء.
الفصل الخامس عشر: في استقبال القبلة حال الوضوء. الفصل السادس عشر: من سنن الوضوء أن يقول الذكر الوارد بعده. الفصل السابع عشر: في الاستعانة في الوضوء. الفصل الثامن عشر: في الكلام أثناء الوضوء. المبحث الأول: في الوضوء قبل الوقت. الباب الثالث: في فروض الوضوء. الفصل الأول: من فروض الوضوء غسل الوجه. المبحث الأول: حد الوجه. الفرع الأول: حد الوجه طولاً وعرضاً. الفرع الثاني: في حكم البياض الواقع بين العذار وبين الأذن. الفرع الثالث: في غسل شعر الوجه. المسألة الأولى: في شعر اللحية. المسألة الثانية: شعر اللحية هل يغسل أم يمسح. المسألة الثالثة: شعر الوجه فيما عدا اللحية. المسألة الرابعة: في غسل المسترسل من اللحية. الفرع الرابع: إذا غسل وجهه غسل جزءاً من الجوانب. الفرع الخامس: في الكلام على الأنف والفم. الفرع السادس: في غسل ما تحت الذقن.
الفصل الثاني: من فروض الوضوء غسل اليدين إلى المرافقين. المبحث الأول: في غسل المرفقين مع اليدين. المبحث الثاني: في غسل اليد الزائدة ونحوها من أعضاء الوضوء. المبحث الثالث: في الجلد المنكشط. المبحث الرابع: في أقطع اليد أو بعضها. المبحث الخامس: في الوسخ يكون تحت الظفر. الفصل الثالث: من فروض الوضوء مسح الرأس. المبحث الأول: خلاف العلماء في القدر الواجب مسحه من الرأس. المبحث الثاني: في تكرار مسح الرأس. المبحث الثالث: حكم مسح الأذنين. الفرع الأول: في صفة مسح الأذنين. الفرع الثاني: تمسح الأذنان معاً. المبحث الرابع: خلاف العلماء في المسح على العمامة. المبحث الخامس: خلاف العلماء في المسح على الخمار. المبحث السادس: خلاف العلماء في المسح على القلانس. الفصل الرابع: من فروض الوضوء غسل الرجلين. الفصل الخامس: من فروض الوضوء الترتيب بين الأعضاء. الفصل السادس: من فروض الوضوء الموالاة. مبحث: في حد الموالاة.
كتاب نواقض الوضوء. الباب الأول: في مسببات الحدث. الفصل الأول: في الخارج من السبيلين. المبحث الأول: في البول والغائط. المبحث الثاني: في خروج الريح. المبحث الثالث: في خروج المذي. المبحث الرابع: في خروج الودي. المبحث الخامس: في خروج دم الاستحاضة. المبحث السادس: في الخارج النادر من السبيلين. الفصل الثاني: خروج النجس من البدن من غير السبيلين. المبحث الأول: خروج البول والغائط من غير السبيلين. المبحث الثاني: في خروج النجس عدا البول والغائط من غير السبيلين. الفصل الثالث: من نواقض الوضوء زوال العقل. المبحث الأول: انتقاض الوضوء بزوال العقل بالجنون والإغماء ونحوهما. المبحث الثاني: انتقاض الوضوء بزوال العقل بالنوم. الفصل الرابع: في نقض الوضوء بمس الفرج. المبحث الأول: الخلاف في نقض الوضوء من مس الذكر. المبحث الثاني: في مس المرأة فرجها.
المبحث الثالث: في مس المرأة ذكر الرجل أو العكس، ومس فرج الصغير. الفرع الأول: في مس فرج الميت. الفرع الثاني: في مس الذكر المنفصل. المبحث الرابع: في الملموس ذكره. فرع: في مس المرأة شفري فرجها. المبحث الخامس: في مس فرج البهيمة. المبحث السادس: في مس الأنثيين والأليتين والرفغين. المبحث السابع: في مس الخنثى المشكل. الفرع الأول: في مس الخنثى المشكل فرجه. الفرع الثاني: في مس الأجنبي فرج الخنثى المشكل. الفصل الخامس: في مس المرأة والأمرد. المبحث الأول: في مس بدن المرأة من غير حائل. المبحث الثاني: في مس شعر وظفر المرأة. المبحث الثالث: في مس المرأة مع حائل. المبحث الرابع: في مس المحارم. المبحث الخامس: في مس الطفلة الصغيرة بشهوة. المبحث السادس: في لمس الأمرد. الفصل السادس: من نواقض الوضوء أكل لحم الجزور. المبحث الأول: خلاف أهل العلم في الوضوء من لحم الإبل. المبحث الثاني: في العلة من الوضوء من لحم الإبل.
المبحث الثالث: في الوضوء من شحم الإبل وكبده وطحاله. المبحث الرابع: في الوضوء من لبن الإبل. المبحث الخامس: في الوضوء من مرق لحم الإبل. المبحث السادس: في الوضوء من أكل اللحوم الخبيثة كالسباع. الفصل السابع: في نقض الوضوء من القهقهة في الصلاة. الفصل الثامن: في نقض الوضوء بالردة. الفصل التاسع: في الوضوء من تغسيل الميت. الفصل العاشر: في نقض الوضوء بالشك. الفصل الحادي عشر: كل ما يوجب الحدث الأكبر فإنه يوجب الوضوء. الباب الثاني: فيما يحرم على المحدث. الفصل الأول: يحرم على المحدث فعل الصلاة. الفصل الثاني: في تحريم الطواف على المحدث. الفصل الثالث: في وجوب الوضوء من مس المصحف.
مقدمة الكتاب
مقدمة الكتاب المبحث الأول: في تعريف الوضوء تعريف الوضوء. الوضوء: من الوضاءة: وهو الحسن والنظافة والبهجة، كما يقال: رجل وضيء: أي حسن الهيئة. قال أبو حاتم: توضأت للصلاة وُضُوءاً، وتطهرت طُهُوراً، أتوضأ، توضؤاً، وهي الحسن. اهـ والوُضُوءُ بالضم: الفعل، وبالفتح: الوَضُوء: هو الماء المعد له، كما حكاه أبو الحسن الأخفش في قوله تعالى: {وَقُودها الناس والحجارة} (¬1)، فقال: الوَقود: بالفتح: الحطب، والوُقُود بالضم: الاتقاد، وهو الفعل، ومثل ذلك الوَضُوء: هو الماء، والوُضُوء: هو الفعل. وقيل: الوُضُوء بالضم: هو المصدر. وقيل: هما لغتان بمعنى واحد: يعني الفتح والضم. ولا تقل: توضيت بالياء بدل الهمز، قاله غير واحد. قال الجوهري: وبعضهم يقوله، وهي لغية أو لثغة. وذكر قاسم عن الحسن أنه قال يوماً: توضيت بالياء، فقيل له: أتلحن يا أبا سعيد؟ فقال: إنها لغة هذيل، وفيهم نشأت. والميضأة بالكسر والقصر: الموضع الذي يتوضأ فيه (¬2). ¬
الوضوء في اصطلاح الفقهاء
الوضوء في اصطلاح الفقهاء: تعريف الحنفية: جاء في البحر الرائق: الوضوء في الاصطلاح الشرعي: غسل الأعضاء الثلاثة ومسح ربع الرأس (¬1). وقال الكاساني: الوضوء: اسم للغسل والمسح، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} فأمر بغسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس (¬2). تعريف المالكية: الوضوء: هو غسل ومسح في أعضاء مخصوصة لرفع حدث (¬3). تعريف الشافعية: الوضوء: استعمال الماء في أعضاء مخصوصة مفتتحاً بنية (¬4). تعريف الحنابلة: قال البهوتي: استعمال ماء طهور في الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة (¬5). ¬
وهذه التعريفات متقاربة، وتتفق على تعريف الوضوء بأنه غسل ومسح لأعضاء مخصوصة، وبعضهم يذكر النية أو قصد رفع الحدث في التعريف؛ لأن النية عنده شرط، وهو مذهب الجمهور كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وبعضهم لا يذكرها كالحنفية؛ لأن النية عندهم سنة، وليست فرضاً، وبعضهم ينص بأن غسل الأعضاء يجب أن يكون على صفة مخصوصة؛ لأن الترتيب عنده والموالاة فرض، وبعضهم لا يذكرها؛ لأنه يخالف في كونها فرضاً في الوضوء، وسيأتي إن شاء الله بيان الراجح من هذه الأمور في مكانها.
المبحث الثاني: في فضل الوضوء
المبحث الثاني: في فضل الوضوء ورد في فضل الوضوء أحاديث كثيرة، نذكر منها: الحديث الأول: (772 - 1) روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا إسحق بن منصور، حدثنا حبان بن هلال، حدثنا أبان، حدثنا يحيى، أن زيداً حدثه، أن أبا سلام حدثه، عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها (¬1). الحديث الثاني: (773 - 2) ما رواه مسلم، قال: حدثني أحمد بن جعفر المعقري، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا شداد بن عبد الله أبو عمار ويحيى بن أبي كثير، عن أبي أمامة - قال عكرمة: لقي شداد أبا أمامة وواثلة وصحب أنساً إلى الشام وأثنى عليه فضلا وخيرا - قال: قال عمرو بن عبسة السلمي: ما منكم رجل يقرب وضوءه، فيتمضمض، ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله، إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين، إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم ¬
الحديث الثالث
يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام، فصلى، فحمد الله، وأثنى عليه، ومجده بالذي هو له أهل، وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه، فحدث عمرو بن عبسة بهذا الحديث أبا أمامة صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له أبو أمامة: يا عمرو بن عبسة انظر ما تقول، في مقام واحد يعطي هذا الرجل، فقال عمرو: يا أبا أمامة لقد كبرت سني، ورق عظمي، واقترب أجلي، وما بي حاجة أن أكذب على الله، ولا على رسول الله، لو لم أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا حتى عد سبع مرات ما حدثت به أبداً، ولكني سمعته أكثر من ذلك (¬1). الحديث الثالث: (774 - 3) ما رواه أحمد، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ابن ثوبان، حدثني حسان بن عطية، أن أبا كبشة السلولي حدثه، أنه سمع ثوبان يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سددوا وقاربوا واعملوا وخيروا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن (¬2). [إسناد حسن إن شاء الله، والحديث صحيح] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع: (775 - 4) ما رواه مسلم، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا خلف -يعني ابن خليفة- عن أبي مالك الأشجعي، عن أبي حازم قال: ¬
الحديث الخامس
كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمد يده حتى تبلغ إبطه، فقلت له: يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فروخ أنتم هاهنا لو علمت أنكم هاهنا ما توضأت هذا الوضوء، سمعت خليلي - صلى الله عليه وسلم - يقول: تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء (¬1). الحديث الخامس: (776 - 5) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن خالد عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم المجمر، قال: رقيت مع أبي هريرة على ظهر المسجد فتوضأ فقال: إني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل (¬2). الحديث السادس: (777 - 6) ما رواه مسلم، قال: حدثني محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا عبد الرحمن ابن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة يعني ابن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن عقبة بن عامر ح وحدثني أبو عثمان عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر، عن عمر، مرفوعاً، وفيه: ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبد الله ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء (¬3). ¬
المبحث الثالث: في حكم الوضوء
المبحث الثالث: في حكم الوضوء يختلف حكم الوضوء من عبادة لأخرى، فقد يكون واجباً، وقد يكون مندوباً، وقد يكون مكروهاً، وقد يكون محرماً. مثال الوضوء الواجب: أما الوضوء الواجب (أي الفرض) (¬1)، فإنه يجب على المحدث إذا أراد الصلاة، فرضاً كانت أو نفلاً، والدليل على ذلك من الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} (¬2) الآية. (778 - 7) وأما السنة، فقد روى البخاري في صحيحه، قال: حدثني إسحاق بن نصر، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ (¬3). ¬
الدليل على مشروعية الوضوء للذكر
وأما الإجماع، فقد قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الصلاة لا تجزئ إلا بطهارة إذا وجد المرء إليها السبيل (¬1). وسئل ابن تيمية: عما تجب له الطهارتان الغسل والوضوء؟. فأجاب: ذلك واجب للصلاة بالكتاب والسنة والإجماع فرضها ونفلها، واختلف في الطواف ومس المصحف، واختلف أيضاً في سجود التلاوة، وصلاة الجنازة هل تدخل في مسمى الصلاة التي تجب لها الطهارة؟ وأما الاعتكاف فما علمت أحداً قال: إنه يجب له الوضوء (¬2). [مثال الوضوء المندوب] وأما الوضوء المندوب فأمثلته كثيرة جداً، أذكر منها على سبيل المثال الوضوء للذكر، والوضوء للنوم، والبقاء على طهارة. فالدليل على مشروعية الوضوء للذكر (779 - 8) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال: سمعت عميراً مولى ابن عباس قال: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو الجهيم الأنصاري: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم (¬3). ¬
الدليل على مشروعية الوضوء للنوم
(780 - 9) وروى أبو داود، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن حضين بن المنذر أبي ساسان، عن المهاجر بن قنفذ أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه، فقال: إني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر، أو قال: على طهارة (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). والدليل على مشروعية الوضوء للنوم (781 - 10) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن مقاتل، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا سفيان، عن منصور، عن سعد بن عبيدة، عن البراء بن عازب قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا أتيت مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به، الحديث (¬3). وأما الدليل على مشروعية البقاء على طهارة. (782 - 11) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: حدثني حسين بن واقد، قال: حدثني عبد الله بن بريدة، ¬
عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سمعت في الجنة خشخشة أمامي، فقلت: من هذا؟ قالوا: بلال، فأخبره، قال: بما سبقتني إلى الجنة؟ قال: يا رسول الله ما أحدثت إلا توضأت، ولا توضأت إلا رأيت أن لله علي ركعتين أصليهما. قال: بها (¬1). [إسناده حسن والحديث صحيح] (¬2) قال الحافظ: وفي الحديث استحباب إدامة الطهارة، ومناسبة المجازاة على ذلك بدخول الجنة (¬3). ¬
(783 - 12) وروى البخاري، قال: حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا أبو أسامة، عن أبي حيان، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال: يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام؛ فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة. قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهوراً في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي. وترجم له البخاري: باب فضل الطهور بالليل والنهار، وفضل الصلاة بعد الوضوء بالليل والنهار (¬1). [مثال الوضوء المكروه] يمثل بعض الفقهاء للوضوء المكروه ما إذا جدد الوضوء بعد فراغه منه، وقبل استعماله بعبادة مشروعة. فقيل: إن الوضوء على الوضوء لا يكون قربة إلا إذا اختلف المجلس، وأما إذا اتحد المجلس فلا يكون قربة، وهو قول في مذهب الحنفية (¬2). وقيل: إن يفعل فيه عبادة يستحب لها الوضوء، لأنه إذا لم يفعل به ذلك كان إسرافاً محضاً، ذكره ابن عابدين من الحنفية (¬3)، وهو مذهب الحنابلة (¬4). وقد ذكر ابن تيمية أن من توضأ قبل الوقت لا يعيد الوضوء بعد دخول الوقت، ولا يستحب لمثل هذا تجديد الوضوء (¬5). ¬
وقيل: إن صلى بالوضوء فرضاً استحب له الوضوء، وإلا فلا، وهو مذهب المالكية (¬1)، ووجه في مذهب الشافعية كما سيأتي بيانه. وقال النووي من الشافعية: اتفق أصحابنا على استحباب تجديد الوضوء، وهو أن يكون على وضوء، ثم يتوضأ من غير أن يحدث. ومتى يستحب؟ فيه خمسة أوجه: أصحها: إن صلى بالوضوء الأول فرضاً أو نفلاً، وبه قطع البغوي. والثاني: إن صلى فرضاً استحب، وإلا فلا، وبه قطع الفوراني. والثالث: يستحب إن كان فعل بالوضوء الأول ما يقصد له الوضوء وإلا فلا، ذكره الشاشي في كتابيه المعتمد والمستظهري، في باب الماء المستعمل، واختاره. ¬
دليل من قال: لا يشرع التجديد قبل استعماله بعبادة مشروعة
والرابع: إن صلى بالأول، أو سجد لتلاوة أو شكر، أو قرأ القرآن في المصحف استحب وإلا فلا، وبه قطع الشيخ أبو محمد الجويني في أول كتابه الفروق. والخامس: يستحب التجديد، ولو لم يفعل بالوضوء الأول شيئاً أصلاً، حكاه إمام الحرمين، قال: وهذا إنما يصح إذا تخلل بين الوضوء والتجديد زمن يقع بمثله تفريق، فأما إذا وصله بالوضوء فهو في حكم غسلة رابعة. قال النووي: وهذا الوجه غريب جداً، وقد قطع القاضي أبو الطيب في كتابه شرح الفروع والبغوي والمتولي والروياني وآخرون بأنه يكره التجديد إذا لم يؤد بالأول شيئاً. قال المتولي والروياني: وكذا لو توضأ وقرأ القرآن في المصحف يكره التجديد. قالا: ولو سجد لتلاوة أو شكر لم يستحب التجديد ولا يكره، والله أعلم اهـ كلام النووي (¬1). دليل من قال: لا يشرع التجديد قبل استعماله بعبادة مشروعة. الدليل الأول: النهي عن الزيادة على الثلاث. (784 - 13) فقد روى أحمد، قال: ثنا يعلي، ثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: ¬
الدليل الثاني
جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثاً ثلاثاً، قال: هذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم (¬1). [رجاله ثقات إلى عمرو بن شعيب، فهو حسن عند من يحسن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده] (¬2). الدليل الثاني: أنه لم ينقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه جدد الوضوء بعد فراغه مباشرة من الوضوء الأول. دليل من قال بالتجديد بعد الفاصل الطويل. (785 - 14) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن موسى بن عقبة، عن كريب مولى بن عباس، عن أسامة بن زيد أنه سمعه يقول: دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل، فبال، ثم توضأ، ولم يسبغ الوضوء. فقلت له: الصلاة؟ قال: الصلاة أمامك، فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ، فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة، فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئاً (¬3). فالظاهر أنه نقض الوضوء قبل وصوله مزدلفة بقليل، ثم توضأ، فيبعد أن يكون أحدث حدثاً آخر حين وصل مزدلفة، إلا أن يقال: فيه دليل لمن قال: يشرع التجديد إذا فعل به عبادة يشرع لها الوضوء كالذكر، والتلبية من الذكر، فالله أعلم. ¬
[الوضوء المحرم] مثل له الفقهاء بالماء المغصوب، فإذا تعدى الإنسان على مال غيره، وكان غيره بحاجة إليه، كالماء مثلاً فإنه يأثم بذلك، ولكن هل يرتفع الحدث، ويزول الخبث، أم لا؟. اختلف العلماء في ذلك: فقيل: يأثم، ويرتفع حدثه وخبثه، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3). وقيل: لا تصح الطهارة به، ويرتفع به الخبث، اختاره بعض الحنابلة (¬4). وقيل: لا يرتفع به حدث، ولا خبث، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5)، وهو اختيار ابن حزم (¬6). وقد ذُكِرَت أدلة كل قول في كتاب المياه (¬7). ¬
[الوضوء المباح] مثل له المالكية بالوضوء للتبرد، والوضوء للدخول على السلطان (¬1). والذي يظهر لي: أن الوضوء لا يكون مباحاً، وذلك أنه عبادة مطلوب فعلها، فإن فعلها امتثالاً كان مأجوراً عليها، وهذا يخرجها عن حد المباح؛ لأن المباح يستوي فيه الفعل والترك، والله أعلم. فهذه أحكام التكاليف الخمسة، الواجب والمحرم والمستحب والمكروه والمباح، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع: متى شرع الوضوء
المبحث الرابع: متى شرع الوضوء من المعلوم أن الصلاة فرضت بمكة، فهل شرع الوضوء معها بمكة، أو أن الوضوء شرع بالمدينة حين نزلت آية المائدة، وهي مدنية: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ...} (¬1). فقيل: إن الوضوء فرض بمكة، ونزوله في آية المائدة تثبيت لهذا الحكم، لا أكثر، وهذا اختيار ابن عابدين من الحنفية (¬2). وقيل: إن فرض الوضوء إنما شرع بالمدينة، وكان الوضوء بمكة سُنَّة (¬3). وقيل: إن الوضوء لم يشرع إلا بالمدينة، وهو اختيار ابن حزم (¬4). قال ابن حجر: وتمسك بهذه الآية من قال: إن الوضوء أول ما فرض ... بالمدينة، فأما ما قبل ذلك فنقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أن غسل الجنابة إنما فرض على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو بمكة، كما فرضت الصلاة، وأنه لم يصل قط إلا بوضوء، قال: وهذا مما لا يجهله عالم. وقال الحاكم في المستدرك: وأهل السنة بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة، ثم ساق حديث ابن عباس دخلت فاطمة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي تبكي فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك، فقال: ائتوني بوضوء، فتوضأ. الحديث. ¬
قال الحافظ: وهذا يصلح ردا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ، وقد جزم ابن الجهم المالكي بأنه كان قبل الهجرة مندوباً، وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة، ورد عليهما بما أخرجه ابن لهيعة في المغازي التي يرويها عن أبي الأسود يتيم عروة، عنه، أن جبريل علم النبي - صلى الله عليه وسلم - الوضوء عند نزوله عليه بالوحي، وهو مرسل، ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة أيضاً، لكن قال: عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه، وأخرجه ابن ماجه من رواية رشد بن سعد عن عقيل، عن الزهري نحوه، لكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند، وأخرجه الطبراني في الأوسط من طريق الليث عن عقيل موصولاً، ولو ثبت لكان على شرط الصحيح، لكن المعروف رواية ابن لهيعة (¬1). ¬
المبحث الخامس: هل الوضوء في شريعة من قبلنا؟
المبحث الخامس: هل الوضوء في شريعة من قبلنا؟ ذهب الجمهور إلى أن الوضوء كان في شريعة من قبلنا، وإنما الغرة والتحجيل فقط مما خص الله به هذه الأمة (¬1). وقيل: إن الوضوء من خصائص هذه الأمة، اختاره بعض الفقهاء (¬2). وقيل: إن الوضوء من خصائص هذه الأمة بالنسبة لبقية الأمم لا لأنبيائهم (¬3). دليل من قال بعدم الخصوصية. الدليل الأول: (786 - 15) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هاجر إبراهيم بسارة، دخل بها قرية فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة، فأرسل إليه أن أرسل إلي بها، فأرسل بها، فقام إليها فقامت توضأ وتصلي، فقالت: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك فلا تسلط علي الكافر فغط حتى ركض برجله (¬4). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (787 - 16) ما رواه البخاري، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان رجل في بني إسرائيل يقال له جريج يصلي، فجاءته أمه فدعته فأبى أن يجيبها، فقال: أجيبها أو أصلي، ثم أتته فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعته، فقالت امرأة: لأفتنن جريجاً، فتعرضت له، فكلمته، فأبى، فأتت راعياً فأمكنته من نفسها، فولدت غلاماً، فقالت: هو من جريج، فأتوه وكسروا صومعته، فأنزلوه وسبوه، فتوضأ، وصلى، ثم أتى الغلام، فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: الراعي، قالوا: نبني صومعتك من ذهب قال: لا إلا من طين (¬1). دليل من قال: الوضوء من خصائص هذه الأمة. (788 - 17) ما رواه البخاري، حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن خالد، عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم المجمر قال: رقيت مع أبي هريرة على ظهر المسجد فتوضأ فقال: إني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل (¬2). (789 - 18) ورواه مسلم من طريق أبي حازم، عن أبي هريرة مرفوعاً، ¬
دليل من قال: الوضوء من خصائص هذه الأمة إلا الأنبياء
وفيه: لكم سيما ليست لأحد من الأمم تردون علي غراً محجلين من أثر الوضوء (¬1). وأجيب: بأن الذي اختصت به هذه الأمة هو الغر والتحجيل، لا أصل الوضوء؛ ولذلك قال: سيما ليست لأحد غيركم دليل أن هذا ما اختصت به الأمة، وليس الوضوء، والله أعلم. دليل من قال: الوضوء من خصائص هذه الأمة إلا الأنبياء (790 - 19) روى أبو داود الطيالسي قال: حدثنا سلام الطويل، عن زيد العمي، عن معاوية بن قرة، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة، وقال: هذا وظيفة الوضوء الذي لا تحل الصلاة إلا به، ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: هذا وضوء من أراد أن يضاعف له الأجر مرتين، ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي (¬2). [إسناده ضعيف جداً] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الراجح من الخلاف
الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأدلة نجد أن القائلين بأن هذا الوضوء كان في شريعة ¬
من قبلنا أقوى دليلاً من غيره، وأن الغرة والتحجيل جاء ما يدل على أنهما من خصائص هذه الأمة، ولا يلزم من هذا أن يكون الوضوء كله من خصائص هذه الأمة، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن التيمم من خصائص هذه الأمة، فهذا يدل على أن الوضوء ليس من خصائصها، والله أعلم.
الباب الأول: في شروط الوضوء
الباب الأول: في شروط الوضوء للوضوء شروط كثيرة، وبعضهم يقسمها إلى أقسام: شروط وجوب وصحة معاً، وشروط وجوب فقط، وشروط صحة فقط، وشروط الوجوب: هي ما إذا اجتمعت وجبت الطهارة، فإذا عدمت لم تجب الطهارة. وشروط الصحة: وهي ما لا تصح الطهارة إلا بها، فإذا عدمت لم تصح الطهارة. وسوف نذكرها شرطاً شرطاً ونبين ما ذكر فيها من خلاف إن شاء الله تعالى. الشرط الأول: الإسلام اختلف الفقهاء هل الإسلام شرط في وجوب الوضوء وصحته أو ليس بشرط؟. فقيل: يجوز الوضوء من الكافر، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: لا يصح الوضوء من كافر، وهذا الشرط لا يختص بالوضوء، بل هو شرط في جميع العبادات، من طهارة وصلاة وزكاة وصوم وحج (¬2). ¬
قال تعالى: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله} (¬1). وهل يجب على كافر وضوء، فيه خلاف، وهذه المسألة ترجع إلى مسألة أصولية، وهي هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟ وللجواب على هذا أن نقول: أما مخاطبة الكفار بأصول الدين من التوحيد والإقرار بالنبوات ونحوها فهذا إجماع لا نزاع فيه، قال تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} (¬2). واختلفوا هل يخاطبون بالفروع أم لا؟ فذهب بعض الحنفية (¬3) واختاره أبو حامد الاسفراييني من الشافعية (¬4)، إلى أن الكافر غير مخاطب بفروع الشريعة، فيكون الإسلام عندهم شرط وجوب للوضوء. وذهب الجمهور إلى أن الكافر مخاطب بفروع الشريعة، فهو عندهم شرط للصحة لا للوجوب (¬5). ¬
دليل من قال: إن الكافر لا يخاطب بفروع الشريعة
دليل من قال: إن الكافر لا يخاطب بفروع الشريعة. الدليل الأول: (791 - 20) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن مقاتل، أخبرنا عبد الله، أخبرنا زكرياء بن إسحاق، عن يحيى بن عبد الله بن صيفي، عن أبي معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، ¬
الدليل الثاني
فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن هذه الواجبات لا تلزم إلا بعد الإيمان، ولو لزمت بعد لزوم الإيمان لم يكن لتأخير ذكر الإيجاب معنى. الدليل الثاني: قالوا: إن الكافر ليس أهلاً لأداء العبادات؛ لأن أداء العبادة لاستحقاق الثواب في الآخرة بحكم الله تعالى، والكافر ليس بأهل لثواب الآخرة؛ لأن ثواب الآخرة هي الجنة، وهو ليس من أهل الجنة، فتبين أنه ليس بأهل للعبادة، وإذا لم يكن من أهل هذا العمل لم يكن من أهل الخطاب بالعمل؛ لأن الخطاب بالعمل للعمل، وهذا كالعبد لا يخاطب بالعبادات المالية من الكفارات والزكوات وغيرها؛ لأنه ليس من أهل ملك المال، فلا يخاطب بواجب المال (¬2). دليل من قال: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. الدليل الأول: قوله تعالى: {ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين} (¬3). ¬
الدليل الثاني
فقد بين أن دخولهم النار على تركهم الصلاة والزكاة. وقال تعالى: {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة} (¬1). فأوجب لهم الويل بكفرهم وإخلالهم بالزكاة. وقال تعالى: {ولله على الناس حج من استطاع إليه سبيلا} (¬2). وهذا يتناول المسلم والكافر. الدليل الثاني: قالوا: لما لزمت الكافر النواهي، لزمه الأوامر؛ لأن الأوامر أحد قسمي الشرع، فصار كالقسم الآخر، والدليل على لزومهم النواهي إجماع الأمة في أن الكافر يحد إذا زنا، ويقطع إذا سرق، ولو لم يكن مكلفاً بترك الزنا والسرقة لم يكن الزنا والسرقة منه معصية، ولو لم تكن معصية لم يعاقب على فعله. فإن قالوا: إنما وجب ذلك عليهم بالتزامهم أحكام الإسلام. قيل: لزوم الأحكام بإلزام الله تعالى، لا بالتزام العبيد ذلك، ألا ترى أن الخطاب متوجه على جميع الكفار بالإيمان بالله عز وجل، وإن كانوا لم يلتزموا شيئاً من ذلك، ثم من أحكامنا أن لا يحد الإنسان على مباح، فلو كان الزنا غير محظور عليه، كان مباحاً، والحد لا يجب بارتكاب المباح. وبقي قولان آخران: أحدهما: أن الكفار مخاطبون بالنواهي دون الأوامر، لأن النواهي يمكنهم تركها، وليس كذلك الصلاة والصيام؛ لأنه مع كفره لا يمكنه فعلها، فلم يخاطب بفعلها. وهذا القول رواية عن الإمام أحمد. ¬
وقيل: لا يخاطب من الكفار إلا المرتد، فإنه مخاطب بالأوامر والنواهي. والراجح أن الكافر مخاطب بالأوامر والنواهي، وإيجاب الشي عليه لا يلزم منه صحته لو فعله، لأن المانع من قبله هو، وليس من قبل الشرع، فإذا أمر الإنسان بأن يفعل فعلاً، وكان هناك مانع يمنع من صحة الفعل، فإن كان المانع من قبل الشرع، كالعجز عن الفعل سقط الفعل، وإن كان المانع من قبل المكلف أثم ولم يرتفع عنه الخطاب، وذلك مثل شارب الخمر، فإنه لا يصلي حتى يعلم ما يقول، وإذا خرج وقت الصلاة وهو لم يصل أثم بذلك، وإن كان منهياً عن الصلاة حال السكر، وذلك لأن المانع قام من قبله هو، لا بإذن الشارع، والله أعلم. وهذه المسألة مبسوطة في كتب الأصول، وليس محلها كتب الفروع، وإنما اكتفينا بإشارة عجلة، والله الموفق.
الشرط الثاني: التكليف
الشرط الثاني: التكليف والمكلف: هو البالغ العاقل، فلا يجب ولا يصح وضوء مجنون، وأما المميز: فيصح منه الوضوء، ولا يجب عليه (¬1). وتعريف التمييز: هو الذي يفهم الخطاب ويرد الجواب، ولا ينضبط بسن، بل يختلف باختلاف الناس (¬2). وقيل: هو من يصل إلى حالة بحيث يأكل وحده، ويشرب وحده، ويستنجي وحده، ولا يتقيد بسبع سنين (¬3). وهذا التعريف هو ما يدل عليه اشتقاق كلمة مميز. وقيل: هو من استكمل سبع سنين (¬4). الأدلة على اشتراط التكليف. الدليل الأول: أما كون الوضوء لا يصح من مجنون وغير مميز فلأن من شرط الوضوء النية على الصحيح كما سيأتي، وهما ليس لهما نية صحيحة. ¬
وأما كونه لا يجب عليهما؛ فلأن من شرط الوجوب التكليف، وهما غير مكلفين. (792 - 21) فقد روى أحمد، قال: حدثنا هشيم، أخبرنا يونس، عن الحسن، عن علي، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: رفع القلم عن ثلاثة: عن الصغير حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المصاب حتى يكشف عنه (¬1). [إسناده منقطع ورجح الترمذي والنسائي والدارقطني وقفه] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: الإجماع على أن الكافر والطفل غير المميز لا يصح منه الوضوء، قال ابن تيمية: الأقوال في الشرع لا تعتبر إلا من عاقل يعلم ما يقول، ويقصده، فأما المجنون والطفل الذي لا يميز فأقواله كلها لغو في الشرع، لا يصح منه إيمان ولا كفر، ولا عقد من العقود، ولا شيء من الأقوال باتفاق المسلمين (¬1). ¬
الشرط الثالث: ارتفاع دم الحيض والنفاس
الشرط الثالث: ارتفاع دم الحيض والنفاس من شروط الوضوء ارتفاع دم الحيض والنفاس، فلو توضأت المرأة، وهي حائض أو نفساء لم يرتفع حدثها، فارتفاعه شرط للوجوب، فلا يجب الوضوء على حائض ونفساء، وشرط للصحة أيضاً، وهذا مذهب الجمهور (¬1). وقيل: ارتفاع الحيض والنفاس شرط وجوب فقط، فيصح الوضوء من الحائض والنفساء، ولا يجب عليها (¬2). قال ابن نجيم من الحنفية: وأما أئمتنا فقالوا: إنه يستحب لها - يعني الحائض- أن تتوضأ لوقت كل صلاة، وتقعد على مصلاها تسبح، وتهلل وتكبر (¬3). وقد ذهب جمع من السلف إلى تصحيح وضوء الحائض والنفساء، وكأنهم رأوا أن في ذلك تخفيفاً للحدث، كما يتوضأ الجنب للنوم، وإن كان حدثه باقياً. قال ابن رجب: وقد استحب طائفة من السلف أن تتوضأ - يعني الحائض- في وقت كل صلاة مفروضة، وتستقبل القبلة، وتذكر الله عز وجل ¬
بمقدار تلك الصلاة، منهم الحسن وعطاء وأبو جعفر محمد بن علي، وهو قول إسحاق، وروي عن عقبة بن عامر أنه كان يأمر الحائض بذلك، وتجلس بفناء مسجدها، خرجه الجوزجاني. وقال مكحول: كان ذلك من هدي نساء المسلمين في أيام حيضهن (¬1). (793 - 22) أما قول عطاء: فأخرجه ابن أبي شيبة، قال رحمه الله: حدثنا حفص بن غياث، عن عبد الملك، عن عطاء أنه كان يقول في الحائض: تتنظف، وتتخذ مكاناً في مواقيت الصلاة تذكر الله فيه (¬2). وسنده صحيح. وأما قول الحسن فقد ثبت عنه بسند صحيح (794 - 23) فقد روى ابن أبي شيبة: حدثنا يزيد بن هارون، عن يزيد ابن إبراهيم، عن الحسن قال: سمعته يقول في الحائض: تتوضأ عند كل صلاة وتذكر الله. [إسناده صحيح] (¬3). وأما قول أبي جعفر: (795 - 24) فرواه ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر قال: إنا لنأمر نساءنا في الحيض أن يتوضأن في وقت كل صلاة، ثم ¬
يجلسن ويسبحن ويذكرن الله (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). وأما قول عقبة بن عامر (796 - 25) فرواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن المقري، عن سعيد ابن أبي أيوب، قال: حدثني خالد بن يزيد الصدفي، عن أبيه عن عقبة بن عامر أنه كان يأمر المرأة الحائض في وقت الصلاة أن تتوضأ وتجلس بفناء المسجد، وتذكر الله وتهلل وتسبح (¬3). ولم أقف على ترجمة خالد بن يزيد الصدفي، ولا ترجمة أبيه، وباقي رجاله ثقات (¬4). والله أعلم. والحق أن استحباب ذلك بدعة. قال ابن رجب: «وأنكر ذلك أكثر العلماء، وقال أبو قلابة: قد سألنا عن هذا فما وجدنا له أصلاً». وقال سعيد بن عبد العزيز: ما نعرف هذا ولكننا نكرهه. ¬
وقال ابن عبد البر: على هذا القول جماعة من الفقهاء، وعامة العلماء في الأمصار (¬1). (797 - 26) وقول أبي قلابة الذي أشار إليه الحافظ ابن رجب. قد رواه ابن أبي شيبة، قال رحمه الله: حدثنا معتمر، عن أبيه، قال: قيل لأبي قلابة: الحائض تسمع الأذان فتوضأ، وتكبر، وتسبح، قال: قد سألنا عن ذلك فما وجدنا له أصلاً. [وسنده صحيح] (¬2). روى ابن أبي شيبة قال: حدثنا ابن مهدي، عن شعبة، قال: سألت الحكم وحماداً فكرهاه (¬3). فأين الدليل على مشروعية الوضوء للحائض؟ قال النووي: إذا قصدت الطهارة تعبداً مع علمها بأن لا تصح فتأثم بهذا؛ لأنها متلاعبة بالعبادة، فأما إمرار الماء عليها بغير قصد العبادة فلا تأثم به بلا خلاف، وهذا كما أن الحائض إذا أمسكت عن الطعام بقصد الصوم أثمت، وإن أمسكت بلا قصد لم تأثم اهـ (¬4). ¬
الشرط الرابع: طهورية الماء
الشرط الرابع: طهورية الماء اشترط الجمهور أن يكون الماء طهوراً مطلقاً، فإن كان الماء نجساً فلا يصح الوضوء منه قولاً واحداً، وإن كان الماء طاهراً - كالماء المستعمل في رفع حدث- فإن الحدث لا يرتفع عند جماهير أهل العلم (¬1). وقيل: يصح الوضوء بالماء المستعمل، ولا يوجد قسم من الماء اسمه طاهر، فليس هناك إلا ماء طهور ونجس، ولا وجود لقسم ثالث طاهر غير مطهر. وقد قدمت أدلة كل فريق في كتاب المياه، وترجح أن الماء قسمان فقط، فأغنى عن إعادته هنا، والله الموفق. ¬
الشرط الخامس: إزالة ما يمنع وصول الماء إلى أعضاء الوضوء
الشرط الخامس: إزالة ما يمنع وصول الماء إلى أعضاء الوضوء من شروط الوضوء: إزالة ما يمنع وصول الماء على أعضاء الوضوء، من دهن جامد أو شمع ونحوهما، وهذا محل اتفاق بين المذاهب الأربعة. لأن الله سبحانه وتعالى أمر بغسل أعضاء الوضوء: الوجه واليدين والرجلين إذا كانتا مكشوفتين، فإذا كان على العضو المغسول ما يمنع من وصول الماء لم يتحقق امتثال الأمر، فيكون الغسل ناقصاً، وإذا كان ناقصاً لم يتم وضوءه. وإنما اختلفوا في الوسخ يكون على الظفر، ويمنع من وصول الماء هل يصح وضوءه أم لا؟ فقيل: تجب إزالته مطلقاً، ولا يصح الوضوء مع وجوده، اختاره المتولي من الشافعية (¬1)، وابن عقيل من الحنابلة (¬2). وقيل: لا تجب إزالته مطلقاً، ويعفى عنه، اختاره الغزالي من الشافعية (¬3)، ومال إليه ابن قدامة من الحنابلة (¬4). ¬
وقيل: إن كان ما تحت الظفر يسيراً عفي عنه، وإن فحش وجبت إزالته، وهو مذهب المالكية (¬1)، وأومأ إليه ابن دقيق العيد (¬2)، ورجحه ابن تيمية (¬3). وقد ذكرت أدلة كل قول، وما هو الراجح فيه في كتابي سنن الفطرة، فأغنى عن إعادته هنا، فارجع إليه غير مأمور. ¬
الشرط السادس: دخول الوقت على من به حدث دائم
الشرط السادس: دخول الوقت على من به حدث دائم ذهب الجمهور إلى اشتراط دخول الوقت في صحة طهارة من به حدث دائم كالمستحاضة ومن به سلس بول ونحوهما، فلو تطهر قبل دخول الوقت لم تصح طهارته (¬1). وقيل: لا يشترط دخول الوقت، بل لا يعتبر خروج دم الاستحاضة وكذا من به سلس بول، لا يعتبر حدثاً ناقضاً للوضوء، وإنما يستحب منه الوضوء ولايجب، وهذا مذهب المالكية (¬2). وقد بحثت هذه المسألة بشيء من الاستفاضة في كتابي الحيض والنفاس فأغنى عن إعادته هنا (¬3). ¬
الشرط السابع: هل يشترط أن يكون ماء الوضوء مباحا؟
الشرط السابع: هل يشترط أن يكون ماء الوضوء مباحاً؟ اختلف الفقهاء هل يشترط في الوضوء أن يكون الماء مباحاً؟ فقيل: لا يشترط، فلو توضأ بماء محرَّم كالمغصوب أثم، وارتفع حدثه وخبثه، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3). وقيل: لا تصح الطهارة به، ويرتفع به الخبث، اختاره بعض الحنابلة (¬4). وقيل: لا يرتفع به حدث، ولا خبث، وهو من مفردات مذهب الحنابلة (¬5)، وهو اختيار ابن حزم (¬6). وسبب اختلافهم في هذه المسألة: أنه ورد على هذا الوضوء أمران: واجب ومحرم، فالوضوء للصلاة واجب، وأخذ مال الغير بدون وجه حق ¬
محرم، فلا يمكن أن يكون الشيء واجباً ومحرماً في الوقت نفسه، كما أن الوضوء قربة لله سبحانه وتعالى، ووضوءه بماء مغصوب محرم، والمحرم لا يكون قربة يتقرب بها العبد إلى الله. والذين ذهبوا إلى صحة الوضوء رأوا أن التحريم راجع إلى أمر خارج عن الوضوء، وهو الغصب، وقد غسل الإنسان أعضاءه فارتفع حدثه مع الإثم، فالتحريم والصحة غير متلازمين، وهناك أدلة أثرية ونظرية لكل فريق ذُكِرَتْ بشيء من التفصيل في كتابي أحكام الطهارة (المياه والآنية) (¬1) فارجع إليها غير مأمور، فقد أغنى ذكرها هناك عن إعادتها هنا. ¬
الشرط الثامن: القدرة على استعمال الماء
الشرط الثامن: القدرة على استعمال الماء نص الحنفية والمالكية على هذا الشرط (¬1)، وأن من شروط الوضوء القدرة على استعمال الماء، والحقيقة أن القدرة على الفعل ليست شرطاً خاصاً بالوضوء، بل إن جميع التكاليف لا تجب إلا بالقدرة على فعلها، فمن عجز عن أداء شيء فإن كان له بدل، وجب البدل، وإن لم يكن له بدل سقط عنه حتى يقدر على فعله {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} (¬2)، {فاتقوا الله ما استطعتم} (¬3). (798 - 27) وروى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا عبدان، عن عبد الله، عن إبراهيم بن طهمان قال: حدثني الحسين المكتب، عن ابن بريدة، عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فقال: صل قائماً؛ فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب (¬4). وما دام أن هذا الشرط لا يختص بالوضوء فكان الأفضل عدم ذكره من شروط الوضوء، والله أعلم. ¬
الشرط التاسع: قيام الحدث
الشرط التاسع: قيام الحدث وهذا شرط وجوب، فمن لم يكن محدثاً لم يجب عليه الوضوء. الدليل على هذا من السنة والإجماع. (799 - 28) أما السنة فقد روى البخاري، قال: حدثنا محمد بن يوسف، قال حدثنا سفيان، عن عمرو بن عامر قال: سمعت أنس بن مالك قال ح وحدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى، عن سفيان قال: حدثني عمرو بن عامر، عن أنس بن مالك قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ عند كل صلاة، قلت: كيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث (¬1). الدليل الثاني: (800 - 29) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي، حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد ح وحدثني محمد بن حاتم واللفظ له، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان قال: حدثني علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه. قال: عمداً صنعته يا عمر (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (801 - 30) ما رواه البخاي، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار مولى بني حارثة، أن سويد بن النعمان أخبره، أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر، حتى إذا كانوا بالصهباء، وهي أدنى خيبر، فصلى العصر، ثم دعا بالأزواد، فلم يؤت إلا بالسويق، فأمر به، فثري، فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكلنا، ثم قام إلى المغرب فمضمض ومضمضنا، ثم صلى ولم يتوضأ (¬1). الدليل الرابع: أن المسألة شبه إجماع، قال ابن تيمية: «من توضأ لصلاة صلى بذلك الوضوء صلاة أخرى - فهذا قول عامة السلف والخلف، والخلاف في ذلك شاذ. وقد علم بالنقل المتواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يكن يوجب الوضوء على من صلى ثم قام إلى صلاة أخرى؛ فإنه قد ثبت بالتواتر، أنه صلى بالمسلمين يوم عرفة الظهر والعصر جميعاً، جمع بهم بين الصلاتين، وصلى خلفه ألوف مؤلفة لا يحصيهم إلا الله، ولما سلم من الظهر صلى بهم العصر، ولم يحدث وضوءاً لا هو ولا أحد، ولا أمر الناس بإحداث وضوء، ولا نقل ذلك أحد، وهذا يدل على أن التجديد لا يستحب مطلقاً» (¬2). وقال أيضاً: ((لما قدم مزدلفة: صلى بهم المغرب والعشاء جمعاً من غير تجديد وضوء للعشاء، وهو في الموضعين قد قام هو وهم إلى صلاة بعد صلاة. وأقام لكل صلاة إقامة، وكذلك سائر أحاديث الجمع الثابتة في الصحيحين من ¬
حديث ابن عمر وابن عباس وأنس رضي الله عنهم كلها تقتضي: أنه هو - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون خلفه - صلوا الثانية من المجموعتين بطهارة الأولى، لم يحدثوا لها وضوءاً. وكذلك قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين من حديث ابن عباس وعائشة وغيرهم أنه كان يتوضأ لصلاة الليل، فيصلي به الفجر، مع أنه كان ينام حتى يغط، ويقول: تنام عيناي ولا ينام قلبي، فهذا أمر من أصح ما يكون أنه: كان ينام ثم يصلي بذلك الوضوء الذي توضأ للنافلة يصلي به الفريضة، فكيف يقال: إنه كان يتوضأ لكل صلاة؟ وقد ثبت عنه في الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر، ثم قدم عليه وفد عبد القيس، فاشتغل بهم عن الركعتين بعد الظهر حتى صلى العصر، ولم يحدث وضوءاً، وكان يصلي تارة الفريضة ثم النافلة، وتارة النافلة ثم الفريضة، وتارة فريضة ثم فريضة، كل ذلك بوضوء واحد، وكذلك المسلمون صلوا خلفه في رمضان بالليل بوضوء واحد مرات متعددة، وكان المسلمون على عهده يتوضئون، ثم يصلون ما لم يحدثوا، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة، ولم ينقل عنه - لا بإسناد صحيح ولا ضعيف -: أنه أمرهم بالوضوء لكل صلاة، فالقول باستحباب هذا يحتاج إلى دليل. وأما القول بوجوبه: فمخالف للسنة المتواترة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولإجماع الصحابة. والنقل عن علي رضي الله عنه بخلاف ذلك لا يثبت؛ بل الثابت عنه خلافه، وعلي رضي الله عنه أجل من أن يخفى عليه مثل هذا، والكذب على علي كثير مشهور أكثر منه على غيره، وقد أنكر الإمام أحمد رحمه الله أن يكون في هذه المسألة نزاع، مع جلالة قدره وسعة معرفته بآثار الصحابة والتابعين، قال أحمد بن القاسم: سألت أحمد عمن صلى أكثر من خمس صلوات بوضوء واحد؟ فقال: لا بأس بذلك إذا لم ينتقض وضوءه، ما ظننت أن أحداً أنكر هذا)) (¬1). ¬
(802 - 31) وأما ما رواه أحمد، قال: ثنا يعقوب، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري ثم المازني مازن بني النجار، عن عبيد الله ابن عبد الله بن عمر، قال: قلت له: أرأيت وضوء عبد الله بن عمر لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر عمَّ هو؟ فقال: حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن أبى عامر ابن الغسيل حدثها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلا من حدث. قال: فكان عبد الله يرى أن به قوة على ذلك فكان يفعله حتى مات (¬1). [في إسناده اختلاف، وحسن إسناده الحافظ] (¬2). ¬
الشرط العاشر: النية
الشرط العاشر: النية والكلام في النية طويل ومتشعب، لذا سوف يحصر الكلام على النية في المباحث التالية: في تعريفها، وبيان حكمها، وذكر محلها، وشروطها، وفي وقتها، وفي كيفيتها. المبحث الأول: تعريف النية تعريف النية لغة: النيات جمع نية، نوى الشيء ينويه نواة، ونية: قصد وعزم عليه. يقال: نوى القوم منزلاً: أي قصدوه، ونوى الأمر ينويه: إذا قصد إليه. ويقال: نواك الله بالخير: أي أوصله إليك. ويقال: نوى الشيء ينويه: أي عزم عليه. وقيل: النوى التحول من دار إلى دار، قال ابن فارس: هو الأصل في المعنى، ثم حملوا عليه الباب كله، فقالوا: نوى الأمر ينويه إذا قصده، والنية: الوجه الذي تنويه (¬1). وقيل: النية: هي الإرادة (¬2). وعلى هذا فالنية تدور على القصد والعزم والإرادة والجهة والتحول. ¬
النية في اصطلاح الفقهاء
النية في اصطلاح الفقهاء. تعريف الحنفية: قال ابن عابدين: النية: قصد الطاعة والتقرب إلى الله تعالى في إيجاد الفعل (¬1). تعريف المالكية: النية: قصد المكلف الشيء المأمور به (¬2). تعريف الشافعية: قال الماوردي: هي قصد الشيء مقترناً بفعله، فإن قصده وتراخى عنه فهو عزم (¬3). وقال النووي: النية عزم القلب على عمل فرض أو غيره (¬4). تعريف الحنابلة: قال البهوتي: النية شرعاً: هي عزم القلب على فعل العبادة تقرباً إلى الله تعالى. وهذا التعريف جيد، وذلك أنه أشار في التعريف إلى ذكر التقرب إلى الله بالامتثال، وهو ما يخرج العادة إلى العبادة، والنية إنما يحتاج إليها في العبادات؛ وأما في المباحات فليست محل ثواب ولا عقاب لذاتها. ¬
المبحث الثاني: في حكم النية
المبحث الثاني: في حكم النية اختلف الفقهاء في النية، هل هي شرط من شروط الوضوء، أو لا؟. فقيل: النية سنة في طهارة الوضوء والغسل، شرط في طهارة التيمم، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: النية شرط لطهارة الحدث مطلقاً: الأصغر والأكبر، بالماء أو التيمم، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، وهو الراجح. وقيل: يجزئ الوضوء والغسل والتيمم بلا نية، وهو قول الأوزاعي (¬5). ¬
وسبب الاختلاف في اشتراط النية للطهارة ما قاله ابن رشد: اختلف العلماء هل النية شرط في صحة الوضوء أم لا؟ بعد اتفاقهم على اشتراط النية في العبادات لقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (¬1) ثم قال: وسبب اختلافهم: تردد الوضوء بين أن يكون عبادة محضة أعني غير معقولة المعنى، وإنما يقصد بها القربة فقط كالصلاة وغيرها، وبين أن يكون عبادة معقولة المعنى، كغسل النجاسة، فإنهم لا يختلفون أن العبادة المحضة مفتقرة إلى نية، والعبادة المفهومة المعنى غير مفتقرة إلى النية، والوضوء فيه شبه من العبادتين (¬2). وقد ذكرت أدلة الأقوال وناقشتها نقاشاً مستفيضاً في كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية فارجع إليه غير مأمور. ¬
المبحث الثالث: في محل النية
المبحث الثالث: في محل النية أكثر الفقهاء على أن النية محلها القلب (¬1). وقيل: محلها الدماغ، وهو رواية عن أحمد (¬2)، ونسب هذا القول لأبي حنيفة (¬3). ¬
دليل القول الأول
وقيل: محلها مشترك بين الرأس والقلب (¬1). دليل القول الأول: قال تعالى: {لهم قلوب لا يفقهون بها} (¬2). وقال تعالى: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه} (¬3). وقال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها} (¬4). وقال تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (¬5). (803 - 32) ومن السنة ما رواه البخاري من حديث النعمان بن بشير مرفوعاً، قال: ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب، ورواه مسلم أيضاً (¬6). دليل من قال: العقل في الدماغ. لم أقف على شيء من الآيات والأحاديث تدل على أن العقل في الدماغ، ولكن يذكر الأطباء المعاصرون والفلاسفة المتقدمون: أن القلب إنما هو عبارة عن مضخة للدم، تدفعه إلى جميع أجزاء الجسم، وأن العقل محله ¬
الدماغ، وأن الدماغ هو مصدر الذاكرة والتذكر، وأن الدماغ إذا أصيب بشيء عرض له ما يسمى بفقدان الذاكرة، فلا يتذكر الإنسان من ماضيه شيئاً، وأن هناك عمليات أجريت في نقل القلب من إنسان كافر إلى إنسان مسلم، وأن المسلم بمجرد أن أفاق نطق الشهادة، وأقام الصلاة، مع أن قلبه قد نقل من بدن كافر لا يعرف الله سبحانه وتعالى. وهذا الكلام لا يمكن أن يعارض به النصوص الشرعية، فإننا نتهم الطب، إذا كان فهم النص قاطعاً، فإن لم يكن الفهم قاطعاً بأن كان ظنياً فإن العلماء مطالبون بفهم النصوص بما يتفق مع الحقائق العلمية، بشرط أن تكون هذه حقائق، وليست نظريات قابلة للتغير؛ لأن الطب ما زال ينقصه الشيء الكثير، ولن يزال كذلك ما دام من نتاج العقل البشري، فإن العقل آفته النقص وهو مهما أوتي يبقى كما قال تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} (¬1). {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} (¬2). {قل أأنتم أعلم أم الله} (¬3). وقد سمعت بعض مشايخي يقول: إن العقل يصور الشيء، والقلب يقبله أو يرده، فيكون القلب محل الرغبة والرهبة والقبول والرفض، والعقل محل إدراك الشيء وتصوره، وهذا جمع حسن، وقد رأينا أن عاطفة الإنسان من حبه للشيء وميله إليه يجده في قبله، كما أن كراهية الشيء ومقته يجدها في ¬
قلبة، فمحل الفرح والحزن والحسرة هي في القلب، وقد يكون القلب وهو يتحكم في الدم، وقد سمي الدم نفساً كما في قول الفقهاء: ما لا نفس له سائلة، فإذا كان يتحكم في هذا الدم (النفس) الذي بواسطته بعد الله سبحانه وتعالى تكون حياة جميع الأعضاء بما في ذلك الدماغ يكون هو مصدر إمداد مادة الحياة لها كلها، فيكون هو محل ذلك كله، والله أعلم (¬1). ¬
المبحث الرابع: في أقسام النية
المبحث الرابع: في أقسام النية تنقسم النية إلى أقسام، نتعرض فيها إلى ما يخصنا في باب الفقه، فقد قسمها الفقهاء إلى قسمين: نية فعلية موجودة: وهي النية التي يأتي بها الإنسان في أول العبادة، كنية الوضوء والصلاة والصيام ونحوها. ثم إذا ذهل عنها فهي تسمى نية حكمية، بمعنى أن الشرع حكم باستصحابها، وكذلك الإخلاص والإيمان والنفاق والرياء وجميع هذا النوع من أحوال القلوب إذا شرع فيها واتصف القلب بها كانت نية فعلية, ثم إذا ذهل عنها حكم صاحب الشرع ببقاء أحكامها لمن اتصف بها، وتسمى نية حكمية. وهو ما يطلق عليه الفقهاء بقولهم: يجب استصحاب حكم النية، ولا يجب استصحاب ذكرها. والدليل على ذلك قوله تعالى {إنه من يأت ربه مجرما} (¬1)، مع أنه يوم القيامة لا يكون أحد مجرماً، ولا كافراً؛ لظهور الحقائق (¬2). ¬
المبحث الخامس: في الجهر بالنية
المبحث الخامس: في الجهر بالنية ومع أن محل النية عند الفقهاء هو القلب، فقد اختلف الفقهاء في الجهر بالنية باللسان، فقيل: لا يشرع، وحكي إجماعاً (¬1)، واستثنى بعضهم الحج (¬2). وقيل: يستحب التلفظ بالنية، وهو قول في مذهب الحنفية (¬3)، ¬
دليل من قال: يشرع التلفظ بها
ومذهب الشافعية (¬1). واختلفوا في النطق بها سراً، فقيل: لا يشرع، وهو المنصوص عن أحمد (¬2). وقيل: يستحب النطق بها سراً، قال به المتأخر ون من الحنابلة (¬3). دليل من قال: يشرع التلفظ بها. قالوا: يستحب التلفظ بها ليوافق اللسان القلب. وربما قاسه بعضهم على التلبية عند الإحرام، وليست التلبية جهراً بالنية، وإنما كما قلنا: هي بمثابة تكبيرة الإحرام، ولا يشرع أن يقول عند التلبية: اللهم إني أريد نسك كذا وكذا فيسره لي. ¬
دليل من قال: لا يشرع الجهر بالنية
دليل من قال: لا يشرع الجهر بالنية. الدليل الأول: أن الله سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى، قال تعالى: {قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الأرض} (¬1). الدليل الثاني: لا يوجد دليل يدل على مشروعية الجهر بالنية، وعليه يكون الجهر بها بدعة. قال ابن القيم: ولم يكن يقول - صلى الله عليه وسلم - في أوله: نويت رفع الحدث، ولا إستباحة الصلاة، لا هو ولا أحد من الصحابة البتة، ولم يرو عنه في ذلك حرف واحد لا بإسناد صحيح ولا ضعيف (¬2). وقال ابن تيمية: اتفق الأئمة أنه لا يشرع الجهر بها، ولا تكريرها، بل من اعتاده ينبغي تأديبه، وكذا بقية العبادات، وقال: الجاهر بها مستحق للتعزير بعد تعريفه، لا سيما إذا آذى به، أو كرره، وقال: الجهر بها بلفظ النية منهي عنه عند الشافعي وسائر أئمة الإسلام، وفاعله مسيء، وإن اعتقده ديناً خرج من إجماع المسلمين، ويجب نهيه، ويعزل عن الإمامة إن لم ينته (¬3). واستحب في المشهور من مذهب الإمام أحمد النطق بها سراً كما في الشرح الكبير، لكن قال في الإقناع: ((والتلفظ بها وبما نواه هنا وفي سائر ¬
العبادات بدعة، واستحبه سراً مع القلب كثير من المتأخرين، ومنصوص أحمد وجميع المحققين خلافه إلا في الإحرام)). اهـ قلت: لا يستثنى شيء، لا في الإحرام ولا في غيره على الصحيح، فلا يشرع لمن أراد الإحرام أن يقول: اللهم إني نويت نسك كذا، ولم يرد ذلك في حديث صحيح، ولا ضعيف، والتلبية ليست جهراً بالنية، وإنما هي بمثابة تكبيرة الإحرام للصلاة، لا تعتبر جهراً بالنية.
المبحث السادس: الحكمة من مشروعية النية
المبحث السادس: الحكمة من مشروعية النية الحكمة من مشروعيتها تمييز العبادات عن العادات، وتمييز ما كان لله سبحانه وتعالى عما كان لغيره، وكذلك تمييز العبادات بعضها عن بعض، فهذه فريضة، وهذه نافلة. فالصيام مثلاً قد يكون حمية، وقد يكون قربة، والغسل قد يكون تبرداً ونظافة، وقد يكون عبادة، ولا يميز هذا عن ذاك إلا النية. قال في مواهب الجليل، في بيان حكمة مشروعيتها: وحكمة ذلك والله تعالى أعلم تمييز العبادات عن العادات، ليتميز ما هو لله تعالى عما ليس له، أو تتميز مراتب العبادات في أنفسها لتمييز مكافأة العبد على فعله، ويظهر قدر تعظيمه لربه، فمثال الأولى: الغسل، يكون عبادة وتبرداً، وحضور المساجد يكون للصلاة وفرجة، والسجود لله أو للصنم. ومثال الثاني الصلاة: لانقسامها إلى فرض ونفل، والفرض إلى فرض على الأعيان، وفرض على الكفاية، وفرض منذور وفرض غير منذور، ومن هنا يظهر كيفية تعلقها بالفعل فإنها للتمييز، وتمييز الشيء قد يكون بإضافته إلى سببه كصلاة الكسوف والاستسقاء والعيدين، وقد يكون بوقته كصلاة الظهر أو بحكمه الخاص به كالفريضة، أو بوجود سببه كرفع الحدث، فإن الوضوء سبب في رفع الحدث، فإذا نوى رفع الحدث ارتفع وصح الوضوء، ولما كانت حكمة مشروعيتها ما ذكر كانت القرب التي لا لبس فيها لا تحتاج إلى نية، كالإيمان بالله وتعظيمه وجلاله والخوف من عذابه والرجاء لثوابه والتوكل عليه والمحبة لجماله وكالتسبيح والتهليل وقراءة القرآن وسائر
الأذكار، فإنها متميزة لجنابه سبحانه وتعالى، وكذلك النية منصرفة إلى الله سبحانه وتعالى بصورتها فلا جرم، ولم تفتقر النية إلى نية أخرى، ولا حاجة للتعليل بأنها لو افتقرت إلى نية أخرى لزم التسلسل، وكذلك يثاب الإنسان على نية مفردة ولا يثاب على الفعل مفرداً، لانصرافها بصورتها لله تعالى، والفعل متردد بين ما هو لله تعالى وما هو لغيره، وأما كون الإنسان يثاب على نيته حسنة واحدة وعلى فعله عشر حسنات إذا نوى فلأن الأفعال هي المقاصد والنيات وسائل، والوسائل أنقص رتبة من المقاصد، وعلم من الحكمة المذكورة: أن الألفاظ إذا كانت نصوصا في شيء لا يحتاج إلى نية وكذلك الأعيان المستأجرة إذا كانت المنافع المقصودة فيها متعينة لم تحتج إلى تعيين كمن استأجر قميصا أو عمامة أو خباء أو نحو ذلك، وكذلك النقود إذا كان بعضها غالبا لم يحتج إلى تعيينه في العقد وكذلك الحقوق إذا تعينت لربها كالدين الوديعة ونحوها. ولملاحظة هذه الحكمة اختلف العلماء في النية في صوم رمضان وفي الوضوء ونحوهما، فمن رأى أنهما متعينان لله تعالى بصورتهما قال: لا حاجة إلى النية فيهما، ومن رأى أن الإمساك في رمضان قد يكون لعدم الغذاء ونحوه وقلما يكون لله تعالى، وأن الوضوء قد يكون لرفع الحدث أو للتجديد أو للتبرد، أوجب النية.
المبحث السابع: في شروط النية
المبحث السابع: في شروط النية للنية شروط عامة في جميع العبادات، وشروط خاصة في كل عبادة، وسوف أعرض للشروط العامة للنية، مبيناً ما ورد فيها من خلاف.
الشرط الأول: الإسلام
الشرط الأول: الإسلام فلا تصح النية من كافر، لأنه ليس أهلاً للنية، وليس من أهل العبادة، قال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً} (¬1). فلو توضأ الكافر أو اغتسل لم يصحا منه عند الجمهور. وصحح الحنفية وضوءه وغسله، فلو أسلم بعدهما صلى بوضوئه وغسله؛ لأن النية عندهم ليست شرطاً في الوضوء والغسل، وقد ذكرت في مسألة مستقلة حكم النية في الوضوء، ورجحت أنها شرط في صحة الوضوء، والله أعلم. إلا أنه يستثنى من ذلك الكتابية تكون تحت المسلم، فإذا طهرت من المحيض أو النفاس فإنها تغتسل للزوج حتى يتمكن من جماعها، وهل تشترط النية لغسلها؟ على قولين: فقيل: يصح غسلها بلا نية، لأنها ليست أهلاً للنية، فغسلها إنما هو لحق الآدمي وليس حقاً لله، وإذا لم يكن عبادة لم تشترط له النية، وهو ظاهر مذهب المالكية (¬2)، ووجه في مذهب الحنابلة، وهو المشهور عند المتأخرين (¬3). ¬
وقيل: لا بد لها من نية، إلا إذا امتنعت فتسقط للضرورة، كما لو امتنع الرجل عن أداء زكاته، فإنها تؤخذ منه قهراً، وتجزئ عنه في الدنيا، وهو مذهب الشافعية (¬1)، ووجه آخر في مذهب الحنابلة (¬2). ¬
والأول أقوى؛ بل إن إيجاب غسل البدن كله عليها إن قال أحد بعدم وجوبه، فله وجه؛ لأن طهارة الحائض مركبة من طهارتين: عن حدث وعن خبث، وإذا كان يتوجه وجوب الطهارة عليها من الخبث لحق الزوج، فإن الطهارة من الحدث غير معقولة المعنى، وإنما هي طهارة تعبدية محضة، فإن قال أحد: يكفي أن تغسل فرجها، وتنظفه من الأذى، فهذا كاف في حل وطء زوجها فهو قول قوي جداً، ولا يستبعد القول به، خاصة أن الحنفية يقولون بجوازه في حق المسلمة إذا طهرت لتمام المدة، فإنهم لا يوجبون الغسل لحل الوطء، فهذه من باب أولى، والله أعلم.
الشرط الثاني: التمييز
الشرط الثاني: التمييز فلا تصح النية من صغير غير مميز، لعدم صحة القصد منه. ولا تصح النية من مجنون، للعلة نفسها، وأما غسل المرأة المجنونة من المحيض لتحل لزوجها، فيرى الشافعية والحنابلة أن زوجها يغسلها، وينوي عنها لتعذر النية منها: قال النووي: وأما المجنونة إذا انقطع حيضها فلا يحل لزوجها وطؤها حتى يغسلها، فإذا غسلها حل الوطء؛ لتعذر النية في حقها، وإذا غسلها الزوج هل يشترط لحل الوطء أن ينوي بغسله استباحة الوطء؟ فيه وجهان حكاهما الروياني، وقطع المتولي باشتراط النية، وقطع الماوردي بعدم الاشتراط، قال: بخلاف غسل الميت، فإنه يشترط فيه نية الغسل على أحد الوجهين؛ لأن غسله تعبد , وغسل المجنونة لحق الزوج، فإذا أفاقت لزمها إعادة الغسل على المذهب الصحيح المشهور، وذكر المتولي فيه وجهين، كالذمية إذا أسلمت، قال: وكذا الوجهان في حل وطئها للزوج بعد الإفاقة والله أعلم (¬1). وقال البهوتي في كشاف القناع: وغسل مجنونة من حيض ونفاس، مسلمة كانت أو كتابية، حرة أو أمة، فلا تعتبر النية منها لتعذرها، ولكن ينويه عنها من يغسلها كالميتة. وقال أبو المعالي: لا نية كالكافرة، لعدم تعذرها مآلا بخلاف الميت، ¬
ولأنها تعيده إذا أفاقت وأسلمت. اهـ قلت: ومقتضاه أنها لا تعيده على الأول، لقيام نية الغاسل مقام نيتها. اهـ (¬1). وما ترجح في غسل الكافرة فهو الراجح هنا، بجامع أن كلاً منهما ليس من أهل العبادة، والله أعلم. ¬
الشرط الثالث: عدم الإتيان بما ينافيها حتى يفرغ من وضوئه
الشرط الثالث: عدم الإتيان بما ينافيها حتى يفرغ من وضوئه والمنافي للنية بأن يأتي بما يقطعها أو يبطلها، أو يصرف النية لغير الوضوء في أثنائه كما لو نوى في أثناء الوضوء التبرد فقط، ويعبر عنه الفقهاء بوجوب استصحاب حكمها: بأن لا ينوي قطعها حتى يفرغ من وضوئه، ولا يجب عليه أن يستصحب ذكر النية بعد أن نواها، وإنما الواجب استصحاب حكمها، فلا يأتي ما يقطعها من رفض الوضوء قبل فراغه، أو يبطلها، كما لو تخلل وضوءه ردة والعياذ بالله، أو ينقل نية الوضوء في أثنائه من نية القربة إلى التبرد فقط، وهذا رأي الأئمة الثلاثة (¬1). وأما الحنفية فهم كما سبق يرون النية سنة في الطهارة، وبالتالي لا يؤثر مثل ذلك في صحة الوضوء. ¬
الشرط الرابع: أن تكون النية مقارنة للمنوي أو متقدمة عليه بشيء يسير
الشرط الرابع: أن تكون النية مقارنة للمنوي أو متقدمة عليه بشيء يسير النية تارة تكون متقدمة على المنوي، وتارة تكون مقارنة له، وتارة تكون متأخرة عن أول العمل، وإليك بيان حكم كل حال من هذه الأحوال. حكم تقدم النية على العمل. أجاز العلماء تقدم النية على المنوي في الصوم للمشقة فجوزوا عدم مقارنة النية لأول المنوي لإتيان أول الصوم حالة النوم غالبا, والزكاة في الوكالة على إخراجها (¬1). واختلفوا في غير الصوم من العبادات: فقيل: يجوز تقدم النية على المنوي بشرطه، وهو مذهب الحنفية والحنابلة. قال أبو حنيفة وصاحباه: من نوى عند الوضوء أنه يصلي به الظهر أو العصر مع الإمام ولم يشتغل بعد النية بما ليس من جنس الصلاة إلا أنه لما انتهى إلى مكان الصلاة لم تحضره النية جازت صلاته بتلك النية (¬2). ¬
ولا يضر اشتغاله بالمشي إليها وإن لم يكن من جنسها، فالمهم ألا يوجد فاصل أجنبي بين النية وبين العمل، وهذا ما يسميه بعض الفقهاء النية الحكمية، أي استصحاب حكم النية. قال ابن نجيم: والمراد بقوله «بلا فاصل أي بين النية والتكبير، والفاصل الأجنبي: هو العمل الذي لا يليق في الصلاة كالأكل والشرب; لأن هذه الأفعال تبطل الصلاة، فتبطل النية، وشراء الحطب والكلام, وأما المشي والوضوء فليس بأجنبي» (¬1). اهـ وقال ابن قدامة: قال أصحابنا: يجوز تقديم النية على التكبير بالزمن اليسير, وإن طال الفصل، أو فسخ نيته بذلك لم يجزئه (¬2). وعلى هذا فالحنفية والحنابلة أجازوا تقدم النية على المنوي، والحنفية أوسع من الحنابلة في هذا، حيث لم يقيدوه بالزمن اليسير بخلاف الحنابلة. وقيل: يجب أن تكون النية مقارنة للتكبير، لا قبله ولا بعده، وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬3). وذهب أبو منصور بن مهران من الشافعية إلى وجوب تقدم النية على أول التكبير بشيء يسير، وعلل ذلك بأن لا يتأخر أولها عن أول التكبير (¬4). وقيل: يجوز تقدم النية على العبادة بشرط أن يكون وقت العبادة قد ¬
دليل من قال بجواز تقدم النية على العبادة
دخل، فإن تقدمت النية قبل وقت العبادة ولو بزمن يسير لم تصح النية، اختاره كثير من الحنابلة (¬1). دليل من قال بجواز تقدم النية على العبادة. الدليل الأول: قالوا: تقدم النية على التكبير بالزمن اليسير لا يخرج الصلاة عن كونها منوية، ولا يخرج الفاعل عن كونه ناوياً مخلصاً. الدليل الثاني: القياس على الصوم، فإذا صح أن تتقدم النية على الصوم، جاز أن تتقدم النية على سائر العبادات. الدليل الثالث: النية شرط من شروط الصلاة فجاز تقدمها كبقية الشروط. الدليل الرابع: إيجاب مقارنة النية للمنوي فيه حرج ومشقة، وهو مدفوع بقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (¬2). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: الزمن اليسير لا يؤثر في العبادة كما أن الكلام اليسير في الزمن اليسير لا يبطل الصلاة إذا حصل في أثنائها لمصلحة متحققة كما هو معلوم، (804 - 33) فقد روى البخاري في صحيحه، من طريق محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي - قال محمد: وأكثر ظني العصر - ركعتين، ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد، فوضع يده عليها، وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس، فقالوا: أقصرت الصلاة، ورجل يدعوه النبي - صلى الله عليه وسلم - ذا اليدين، فقال: أنسيت أم قصرت؟ فقال: لم أنس، ولم تقصر. قال: بلى قد نسيت، فصلى ركعتين. الحديث، والحديث رواه مسلم (¬1). فهذا الرسول تكلم مع الصحابة، والكلام في الأصل مبطل للصلاة، ولكن حين كان لمصلحة الصلاة، وكان يسيراً، ولم يطل الفصل، بنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صلاته، ولم يستأنف، فكذلك النية إذا تقدمت على العمل بزمن يسير عرفاً، لم يؤثر ذلك في الصلاة، والله أعلم. دليل من قال يجب أن تكون النية مقارنة للمنوي. استدلوا بقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (¬2). ¬
دليل من اشترط دخول وقت العبادة
فقوله «مخلصين» حال لهم في وقت العبادة، فإن الحال: هي وصف هيئة الفاعل وقت الفعل، والإخلاص هو النية. وقال - صلى الله عليه وسلم - «إنما الأعمال بالنيات». وأجيب: بأن حديث «إنما الأعمال بالنيات» مطلق، وليس فيه ما يفيد أن النية إن تقدمت فليس له ما نوى، بل يحصل له ما نوى مطلقاً تقدمت النية أو صاحبت العمل، وهو لم يرفض النية، وإنما استصحب حكمها، وكما أنه يجوز استصحاب حكمها أثناء العمل، فيجوز استصحاب حكمها قبله بيسير. دليل من اشترط دخول وقت العبادة. لعل الحنابلة يرون أن دخول وقت العبادة هو سبب الوجوب، والنية عبادة وتقديمها على سبب وجوبها لا يجوز، ويجوز تقديمها قبل شرط الوجوب. مثال ذلك: الزكاة سبب وجوبها بلوغ النصاب، وشرط الوجوب تمام الحول لما يشترط له الحول، فتقديم الزكاة قبل بلوغ النصاب لا يجوز؛ لأنه قدم العبادة قبل سبب وجوبها، فإذا بلغ المال النصاب جاز تقديمها قبل تمام الحول: أي قبل شرط وجوبها. مثال آخر: لو أن رجلاً أراد أن يقدم كفارة يمين قبل أن يعقدها لم تصح كفارة، لأن عقد اليمين هو سبب وجوب الكفارة، ولو أنه عقد اليمين ثم أخرج الكفارة قبل أن يحنث جاز؛ لأن الحنث هو شرط الوجوب، وتقديم العبادة على شرط وجوبها جائز، وعلى سبب الوجوب لا يجوز، والله أعلم (¬1). ¬
الحال الثانية: أن تكون النية مقارنة للمنوي ذهب عامة أهل العلم إلى استحباب أن تكون النية مقارنة للمنوي (¬1)، وقيل: يجب أن تكون النية مقارنة للمنوي، وهو مذهب الشافعية (¬2)، واختاره الآجري (¬3)، واختلفوا في الصيام الواجب. فقال الشيرازي من الشافعية: وهل تجوز نيته مع طلوع الفجر؟ فيه وجهان: من أصحابنا من قال: يجوز؛ لأنه عبادة، فجاز بنية تقارن ابتداءها، كسائر العبادات. قلت: وهذا مذهب الحنفية (¬4)، والمالكية (¬5). ثم قال الشيرازي: وأكثر أصحابنا يقولون: لا يجوز إلا بنية من الليل، لحديث حفصة رضي الله عنها، ولأن أول وقت الصوم يخفى، فوجب تقديم النية عليه (¬6). ¬
دليل من جوز أن تكون النية في الصيام مقارنة لأول الصوم
دليل من جوز أن تكون النية في الصيام مقارنة لأول الصوم. استدل بأن هذا هو الأصل في النية، وهو أن تكون النية مقارنة للمنوي، وإنما جاز تقدمها تخفيفاً ودفعاً للحرج. دليل من أوجب تقدم النية في الصيام على المنوي. (805 - 34) ما رواه مالك في الموطأ، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يقول: لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر (¬1). [إسناده من أصح الأسانيد، وروي عن ابن عمر عن حفصة مرفوعاً، ولا يثبت] (¬2). والراجح بين القولين: قبل ترجيح أحد القولين لا بد أن نعرف تفسير المقارنة، فإن كان المقصود بالمقارنة ألا يوجد فاصل بين النية وبين المنوي، بحيث ينوي العبد الطاعة، ثم يدخل فيها مباشرة فلا حرج في مقارنة النية للمنوي في هذه الحال، لأن النية قد وجدت قبل العمل ولو ببرهة. ¬
وإن كان المقصود من المقارنة أن تنوي حال التلبس بالعبادة فهذا لا يجوز، لأنه في هذه الحال سوف يكون هناك جزء من العبادة ولو يسيراً عارياً من النية. وقد سئل ابن تيمية عن هذه المسألة، فقال: ((أما مقارنتها التكبير فللعلماء فيه قولان مشهوران: أحدهما: لا يجب، والمقارنة المشروطة قد تفسر بوقوع التكبير عقيب النية, وهذا ممكن لا صعوبة فيه, بل عامة الناس إنما يصلون هكذا, وهذا أمر ضروري, لو كلفوا تركه لعجزوا عنه، وقد تفسر بانبساط آخر النية على آخر التكبير, بحيث يكون أولها مع أوله, وآخرها مع آخره، وهذا لا يصح; لأنه يقتضي عزوب كمال النية في أول الصلاة, وخلو أول الصلاة عن النية الواجبة. وقد تفسر بحضور جميع النية مع جميع آخر التكبير, وهذا تنازعوا في إمكانه، فمن العلماء من قال: إن هذا غير ممكن, ولا مقدور للبشر عليه, فضلا عن وجوبه, ولو قيل بإمكانه, فهو متعسر, فيسقط بالحرج. وأيضا فمما يبطل هذا والذي قبله, أن المكبر ينبغي له أن يتدبر التكبير ويتصوره, فيكون قلبه مشغولا بمعنى التكبير, لا بما يشغله عن ذلك من استحضار النية; ولأن النية من الشروط, والشروط تتقدم العبادات, ويستمر حكمها إلى آخرها, كالطهارة)) , والله أعلم (¬1). الحالة الثالثة: أن تكون النية متأخرة عن بعض المنوي. ذهب عامة أهل العلم إلى أنه لا يجوز أن تتأخر النية عن أول العبادة، خاصة إذا كان أول العبادة واجباً فيها، فلا تتأخر النية في الوضوء عن غسل ¬
الوجه، ولو تأخرت عن غسل اليدين فلا يؤثر ذلك في صحة الوضوء؛ لأن غسل الكفين سنة، ولا تتأخر النية في الصلاة عن تكبيرة الإحرام وهكذا؛ لأن أول العبادة لو عرا عن النية لكان أولها متردداً بين القربة وبين غيرها, وآخر الصلاة مبني على أولها، فإذا كان أولها متردداً، كان آخرها كذلك. وخالف في ذلك الكرخي من الحنفية، فقال: يجوز تأخير النية عن تكبيرة الإحرام، وهذا بناء على قول في مذهب الحنفية: أن تكبيرة الإحرام ليست من الصلاة (¬1). ولعل هذا القول لا يخرج عن القول السابق، وإنما الخلاف في تحقيق المناط، فتكبيرة الإحرام عند من يراها ركناً في الصلاة - وهو الصحيح - لايجوز أن تتأخر النية عن تكبيرة الإحرام، وأما عند من يرى تكبيرة الإحرام ليست من الأركان ولا الواجبات لا يمنع من تأخير النية عنها، كما أجاز الحنابلة تأخر نية الوضوء عن أول مسنونات الطهارة، وهي غسل الكفين، وتجب عندهم عند أول واجبات الطهارة. واختلفوا في صيام النفل، هل يجوز أن تتأخر النية عن أول العبادة؟ على قولين: فذهب الجمهور من الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، إلى أن تبييت ¬
النية من الليل في صيام النفل ليس بواجب، فلو نوى في أثناء اليوم في صيام النفل صح صومه بشرطه: وهو ألا يتناول مفطراً من طلوع الفجر. وخالف في ذلك مالك رحمه الله (¬1)، فقال: يجب تبييت النية من الليل، وهو مذهب الظاهرية (¬2)، ورجحه المزني من الشافعية (¬3). وسوف يأتي بسط أدلة هذه المسألة في كتاب الصيام أبلغنا الله إياه بمنه وكرمه. ¬
الشرط الخامس: أن يكون جازما بالنية
الشرط الخامس: أن يكون جازماً بالنية فلا يصح تعليق النية إلا إن قصد بكلمة «إن شاء الله تعالى» التبرك، وهذا مذهب الجمهور من المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وأما الحنفية فقد سبق أنهم يرون النية سنة، فلا يضر تعليقها (¬4). فلو توضأ بنية إن كان محدثاً فهذا الوضوء لرفع الحدث، وإلا فهو تجديد، فقد اختلف الفقهاء في هذه الصورة، فذهب المالكية إلى أنه لا يصح وضوءه، لعدم الجزم بالنية. جاء في حاشية الدسوقي: «فالواجب عليه إذا توضأ أن يتوضأ بنية جازمة، فإن توضأ بنية غير جازمة - بأن علقها بالحدث المحتمل - كان هذا الوضوء باطلاً» (¬5). ووجهه: أن هذا الإنسان إما أن يكون متطهراً أو محدثاً, فإن كان متطهراً فلا اعتبار به، إذ لم ينو التجديد, بل نوى رفع الحدث وليس عليه, وإن كان محدثاً فلا يصح, لعدم جزم نيته. وذهب الشافعية إلى صحة الوضوء في هذه الصورة. ¬
جاء في المجموع: قال البغوي: لو توضأ ونوى إن كان محدثا فهو عن فرض طهارته، وإلا فهو تجديد, صح وضوءه عن الفرض, حتى لو زال شكه وتيقن الحدث لا يجب إعادة الوضوء (¬1). وقالوا: يغتفر التعليق هنا, كالمسافر إذا نوى خلف من شك في نية القصر, فقال , إن قصر قصرت. اهـ قلت: ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فهذا غاية ما يمكن أن يفعله، وهو أن يقول: إن كنت محدثاً فهذا الوضوء عنه، فإن كان على طهارة لم يضره هذا الوضوء، وإن كان محدثاً فقد نواه معلقاً، والتعليق يغتفر، وقد رجح المحققون من العلماء صحة التعليق في مسألة مشابهة، كما لو قال رجل: إن كان غداً من رمضان فأنا صائم، فتصح نيته على الصحيح (¬2)؛ لأن هذا غاية ما يمكن أن يفعله، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وقال بعضهم: يرتفع حدثه، إلا إن انكشف الحال وتبين أنه محدث فيلزمه استئناف الوضوء. وإنما صح الوضوء للضرورة، لأن هذا غاية ما يسعه، وإذا زالت الضرورة، وانكشف الحال، وتبين أنه محدث فقد زالت الضرورة، فيلزمه أن يعيد الوضوء؛ لأن النية لم تكن جازمة. قال أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: لا نقول بأنه لا يرتفع حدثه على تقدير تحقق الحدث, وإنما نقول: لا يرتفع على تقدير انكشاف الحال، ويكون ¬
وضوءه هذا رافعاً للحدث إن كان موجودا في نفس الأمر، ولم يظهر لنا للضرورة, فإذا انكشف الحال زالت الضرورة، فوجبت الإعادة بنية جازمة (¬1). ولا يشرع للإنسان أن يحدث لكي يجزم بالنية، فلم يرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحالة إلى هذا الفعل، وإنما أرشد بالأخذ باليقين وطرح الشك، كما قال - صلى الله عليه وسلم - إذا شك أحدكم في الصلاة فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً. ومثل تعليق النية التردد بالنية، وعدم الجزم بها، وله حالتان: الأولى: أن يحصل التردد منه بعد فراغه من الوضوء، أو ينوي رفض الوضوء بعد الفراغ منه. فالصحيح عند الجمهور أن ذلك لا يؤثر في وضوئه (¬2). ودليلهم: القياس على الصلاة والصوم والحج، فكما أنه لو رفض الصوم أو الصلاة أو الحج بعد فراغه منه لم يبطل صومه ولا صلاته ولا حجه، فكذلك لا يبطل وضوءه. وقيل: إن وضوءه يبطل، وهو وجه ثان في مذهب الأئمة الثلاثة (¬3). وتعليهم: أن حكم الوضوء - وهو رفع الحدث - ما زال باقياً، بدليل ¬
أنه يصح له أن يصلي به، بخلاف الصلاة والصوم والحج فإنها تنقضي حساً بعد أدائها وخروج وقتها، والصحيح الأول. الحالة الثانية: أن يتردد في الوضوء هل يتمه أو يقطعه، وهذا فيه تفصيل: الأول: أن يحصل له التردد من أول الوضوء إلى آخره، فهذا وضوءه باطل على الصحيح؛ لأن التردد ينافي النية؛ لأن النية هي القصد إلى الشيء قصداً جازماً. الثاني: أن يكون التردد حصل له أثناء الوضوء، فهو قد شرع في الوضوء، وهو جازم على رفع الحدث، وفي أثنائه حصل له التردد، ففي هذا خلاف بين أهل العلم: فقيل: وضوءه باطل، وهو الصحيح من مذهب أحمد (¬1)، ووجه في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: لا يبطل الوضوء فيما مضى، وإذا أراد إتمام الطهارة قبل تطاول الفصل فلا بد من تجديد النية لما بقي، وهو مذهب المالكية (¬3)، والصحيح في مذهب الشافعية (¬4)، واختاره بعض الحنابلة (¬5)، وهذا أصح من القول الأول. ¬
وهذا التفصيل بالنسبة للوضوء، وأما غيره من العبادات فإن الحكم يختلف إذا خرج من النية قبل تمام العبادة، فهناك من العبادات ما يخرج منها قولاً واحداً، فإذا نوى قطع الإيمان صار مرتداً، والعياذ بالله. وإذا نوى الخروج من الحج أو العمرة بعد دخوله في النسك لم يخرج منهما بهذه النية، لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} (¬1)، وسوف يأتي إن شاء الله تعالى بسط هذه المسألة في كتاب المناسك، بلغنا الله إياه بمنه وكرمه. ¬
المبحث الثامن: في صفة النية
المبحث الثامن: في صفة النية كيفية النية في الوضوء أن ينوي رفع الحدث، أو أداء الفرض، أو استباحة ممنوع مما لا يستباح إلا بالطهارة، كاستباحة الصلاة. قال الخرشي: وفي كيفية النية ثلاثة أوجه: أحدهما: أن ينوي رفع الحدث. الثاني: أن ينوي أداء الفرض، أي امتثال أمر الله، وتدخل السنن والنوافل بالتبعية. زاد الصاوي: والمقصود بأداء الفرض ما تتوقف صحة العبادة عليه ليشمل وضوء الصبي (¬1). ¬
ثالثها: أن ينوي استباحة ممنوع مما لا يستباح إلا بالطهارة. ومتى خطر ذكر جميع الثلاثة تلازمت، وإن خطر بباله بعضها أجزأ عن جميعها، ما لم يقصد عدم حصول الآخر، كأن يقول: أرفع الحدث ولا أستبيح الصلاة أو العكس، فتبطل النية، وتكون عدما للتنافي (¬1). فإذا نوى رفع الحدث فقد ارتفع حدثه، وهذا هو المقصود من الطهارة، ولأن معنى رفع الحدث: استباحة كل فعل كان الحدث مانعاً من فعله. أو بمعنى آخر: أنه إذا نوى رفع الحدث يكون بذلك قد نوى إزالة الوصف القائم بالأعضاء المانع من الصلاة ونحوها (¬2) والمقصود من رفع الحدث رفع حكمه؛ لأن الحدث قد وقع، فلا يمكن رفعه. ¬
الفرع الأول: إذا نوى طهارة مطلقة
الفرع الأول: إذا نوى طهارة مطلقة إذا نوى طهارة وأطلق، فهل يرتفع حدثه؟. فقيل: يرتفع حدثه، وهو أحد القولين في مذهب المالكية (¬1)، ووجه في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: لا يرتفع، وهو قول ثان في مذهب المالكية (¬3)، والمشهور من مذهب الشافعية (¬4)، والصحيح في مذهب الحنابلة (¬5). وجه قول من قال: يرتفع حدثه: قالوا: إن نية الطهارة أو الوضوء المطلق تنصرف إلى الوضوء الشرعي المعهود. وجه من قال: لا يرتفع حدثه. قالوا: إن نيته متناولة لما تشرع له النية، ولما لا تشرع له النية كإزالة ¬
النجاسة؛ لأن كلايهما يسمى طهارة شرعية، فلم تصح طهارته. والراجح: القول بالصحة؛ لأن نية الطهارة في أعضاء الوضوء على الترتيب المخصوص لا تكون عن نجاسة، فتعين أن تكون عن حدث، والله أعلم.
الفرع الثاني: إذا نوى ما تسن له الطهارة
الفرع الثاني: إذا نوى ما تسن له الطهارة إذا نوى ما تسن له الطهارة فهل يرتفع حدثه؟ فقيل: يرتفع، وهو أحد القولين في مذهب المالكية (¬1)، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3)، وهو الراجح. وقيل: لا يرتفع، وهو المشهور في مذهب المالكية (¬4)، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬5)، ووجه في مذهب الحنابلة (¬6). وجه قول من قال: لا يرتفع. قالوا: لأن الفعل الذي قصد إليه يصح فعله مع بقاء الحدث، فلم يتضمن القصد إليه القصد برفع الحدث جملة. وجه قول من قال يرتفع حدثه. قالوا: لأنه بهذه النية نوى أن يكون على أكمل الحالات، فنيته مستلزمة لرفع الحدث كله. ولأن هذه طهارة شرعية مأمور بها، مثاب عليها، ولا يوجد دليل على اشتراط كون الطهارة لا بد أن تكون شرطاً في العبادة، وليست مسنونة. ¬
الفرع الثالث: إذا نوى ما لا تشرع له الطهارة
الفرع الثالث: إذا نوى ما لا تشرع له الطهارة إذا نوى التبرد والنظافة من وضوئه، فهل يرتفع حدثه أم لا؟ فقيل: يرتفع، وهو مذهب الحنفية. وقيل: لا يرتفع، وهو مذهب الجمهور. وهذا المسألة ترجع إلى مسألة سابقة ذكرت أدلتها ونوقشت بشيء من التفصيل، وهي هل تشترط النية في رفع الحدث؟ فمن قال: لا تشترط كالحنفية قالوا: يرتفع حدثه، لأن الوضوء حقيقته جريان الماء على الأعضاء، وقد وجد. ومن قال: تشترط النية في رفع الحدث، قال: لا يرتفع حدثه هنا؛ لأن الوضوء عبادة من شرطها النية ولم توجد، وقد مضى بحث هذه المسألة فأغنى عن إعادته هنا، فيمكن أن ترجع إليها إذا أردت الوقوف على أدلة كل فريق، والله أعلم.
الفرع الرابع: إذا نوى رفع الحدث ونية التبرد مقرونين
الفرع الرابع: إذا نوى رفع الحدث ونية التبرد مقرونين إذا نوى بطهارته أمرين معاً أحدهما مشروع والآخر غير مشروع، كما لو نوى رفع الحدث وما لا تشرع له النية كالتبرد والتنظف، فهل يرتفع حدثه؟. فقيل: يرتفع حدثه، وهو مذهب المالكية (¬1)، والوجه الصحيح في مذهبي الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: لا يرتفع، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬4)، واختيار ابن حزم (¬5). وجه من قال: يرتفع حدثه. قالوا: حين نوى هذا الرجل رفع الحدث فقد أتى بما هو واجب عليه، وكونه ينضم إلى هذه النية نية التبرد لا تنافي رفع الحدث، فلا تضر هذه النية؛ ولأن غسل أعضاء الوضوء يتضمن التبرد فهو حاصل له نواه أو لم ينوه، ولا تقدح في الإخلاص حتى يقال: إن النية ليست خالصة، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب» (¬6) فلو قصد المسلم الأمرين ¬
دليل من قال: لا يرتفع حدثه
(نظافة الفم ومرضاة الرب) في التسوك لم يكن ذلك قادحاً في نيته، فكذلك الوضوء طهارة حسية للأعضاء، وطهارة معنوية من الذنوب، فلو نوى الطهارتين لم يكن ذلك قادحاً في النية، والله أعلم. دليل من قال: لا يرتفع حدثه. قال ابن حزم في ذكر دليله: إن خلط بنية الطهارة للصلاة نية لتبرد أو لغير ذلك لم تجزه الصلاة بذلك الوضوء. برهان ذلك قول الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} (¬1)، فمن مزج بالنية التي أمر بها نية لم يؤمر بها , فلم يخلص لله تعالى العبادة بدينه ذلك, وإذا لم يخلص فلم يأت بالوضوء الذي أمره الله تعالى به, فلو نوى مع وضوئه للصلاة أن يعلم الوضوء من بحضرته أجزأته الصلاة به؛ لأن تعليم الناس الدين مأمور به وبالله تعالى التوفيق (¬2). والراجح القول الأول، وهو أن نية التبرد تدخل تبعاً، ولا تؤثر في النية، وقد قام بما هو واجب عليه من نية رفع الحدث، والله أعلم. ¬
الفرع الخامس: إذا نوى رفع حدث واحد وعليه مجموعة أحداث
الفرع الخامس: إذا نوى رفع حدث واحد وعليه مجموعة أحداث إذا تعددت الأحداث وكان سببها واحداً كمن نام عدة مرات، أو جامع عدة مرات، ولم يرفع حدثه الأول، فإن هذه الأحداث كلها ترتفع بنية واحدة حتى ولو لم يقصد ذلك، ولو نسي عددها. الدليل على هذا من السنة: (806 - 35) ما رواه مسلم من طريق هشام بن زيد، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطوف على نسائه بغسل واحد (¬1). وأما إذا كان عليه نوع واحد من الأحداث، ولكن تعددت أسبابه كمن بال وتغوط ونام، فنوى رفع أحدها، فهل يرتفع حدثه؟ هذا فيه تفصيل، وهو ما سوف يتناوله الحديث - إن شاء الله - في هذا التقسيم، ويمكن تقسيمه إلى مسألتين: ¬
المسألة الأولى: أن ينوي رفع أحدها ناسيا بقيتها أو ذاكرا ولم يخرجها
المسألة الأولى: أن ينوي رفع أحدها ناسياً بقيتها أو ذاكراً ولم يخرجها فإذا نوى أن يرفع الحدث عن النوم، وكان عليه مجموعة أحداث ولم ينوها بالرفع ولم يخرجها من نيته، فإن حدثه يرتفع، سواء كان الحدث المنوي هو الذي حدث أولاً أو آخراً، وهذا مذهب المالكية (¬1)، ووجه في مذهب الشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3)، وهو الصحيح. وقيل: لا يرتفع إلا ما نواه، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬4). وجه من قال: يرتفع جميع حدثه. قالوا: لأن هذه الأحداث كان موجبها واحداً، واجتمعت، فيتداخل حكمها، وينوب موجب أحدها عن الآخر. ولأن الحدث شيء واحد وإن تعددت أسبابه، فلا يقال: لو بال وتغوط ونام يقال: عليه ثلاثة أحداث، بل يقال: عليه حدث واحد من أسباب متعددة. ولأنه لم يكن معروفاً عند السلف أمر المتطهر باستحضار نية رفع الأحداث عند الطهارة، فلم يكن الواحد منهم يحصي كم عليه من الأحداث. ولأن اشتراط النية لكل حدث واستحضار جميعها أمر فيه حرج ومشقة. ولأنه حين نوى رفع الحدث عن النوم ارتفع، فلا يبقى الحدث الآخر مع ارتفاع الأول. ¬
وجه من قال: لا يرتفع إلا ما نواه
وجه من قال: لا يرتفع إلا ما نواه. هذا القول مبني على أن الأحداث لا تتداخل، وأن ليس للإنسان إلا ما نوى بمقتضى الحديث (وإنما لكل امرئ ما نوى) فهذا لم ينو رفع حدث النوم أو البول أو نحوهما. والقول الأول هو الصواب لقوة أدلته الأثرية والنظرية.
المسألة الثانية: أن ينوي رفع أحد الأحداث وينوي بقاء غيره
المسألة الثانية: أن ينوي رفع أحد الأحداث وينوي بقاء غيره مثاله: لو كان عليه حدثان: حدث من بول وحدث من نوم، فنوى رفع أحدهما على ألا يرتفع الأخر، ففيه أربعة أقوال: قيل: إن وضوءه باطل، وهو مذهب المالكية (¬1)، ووجه في مذهب الشافعية (¬2)، والصحيح في مذهب الحنابلة (¬3). وجه كون الوضوء باطلاً: أن هذا المتوضئ جاء بنية متضادة، فتتنافى النية، وتكون كالعدم، فكونه يقول: هذا الوضوء أرفع به الحدث، ولا أستبيح به الصلاة، هذا نوع من التناقض والتضاد. وقيل: يصح وضوءه؛ لأن الأحداث تتداخل، فإذا نوى واحداً منها ارتفع الجميع؛ ولأنه لما نوى رفع أحد الحدثين كان ذلك أقوى حكماً فبطل الشرط، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬4). ولأن الحدث وصف واحد، وإن تعددت أسبابه، فإذا نوى رفعه من البول ارتفع كله. وقيل: إن نوى رفع الحدث الأول ارتفع الجميع، وإن نوى غيره لم يصح وضوءه؛ لأن الذي أوجب الطهارة هو الأول، فإذا نواه ارتفع الجميع، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬5). ¬
وقيل: إن نوى رفع الحدث الأخير ارتفع الجميع، وإن نوى غيره لم يصح؛ لأنها تتداخل في الآخر منها، وهذا الوجه حكاه ابن الصباغ من الشافعية (¬1). والراجح والله أعلم: أن حدثه يرتفع، ويكون قوله الآخر باطلاً لا عبرة به، وقد ارتفع الحدث، خاصة أن هذا الفعل قد يقع من الإنسان لا على وجه التلاعب، ولكن قد يتذكر، وهو ينوي رفع الحدث أن يفعل عبادة معينة بهذا الوضوء، وينوي معه عدم استباحة الصلاة بهذا الوضوء، لا على وجه التلاعب، ولكن قد يكون نوى ذلك في تلك الساعة لغرض صحيح لشغل أو غيره، وإن كان حصل منه ذلك على وجه التلاعب فإنه لا يسلم من الإثم مع رفع الحدث، وقد يقال: إن كان متلاعباً فإنه قد يعاقب بحرمان رفع الحدث، والله أعلم. ¬
الباب الثاني: سنن الوضوء
الباب الثاني: سنن الوضوء الفصل الأول: كون التسمية من سنن الوضوء اختلف العلماء في حكم التسمية في الوضوء: فقيل: سنة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3). ¬
وقيل: تعتبر من فضائل الوضوء، وهو المشهور عند المالكية (¬1). وقيل: مباحة، وهو قول في مذهب المالكية (¬2). وقيل: تكره التسمية في الوضوء، وهو قول في مذهب مالك، وهو الراجح (¬3). وتأول ربيعة الأحاديث الواردة بالتسمية، فقال: إن تفسير حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، أنه الذي يتوضأ ويغتسل، ولا يذكر وضوءاً للصلاة، ولا غسلاً للجنابة (¬4). وقيل: واجبة، وتسقط مع النسيان، وهو المشهور عند متأخري الحنابلة (¬5). ¬
دليل من قال: إن التسمية في الوضوء سنة
وقيل: التسمية شرط لصحة الوضوء، قال صاحب عون المعبود، وهو مذهب أهل الظاهر (¬1). دليل من قال: إن التسمية في الوضوء سنة. الدليل الأول: (807 - 36) ما رواه البخاري، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضي بينهما ولد لم يضره. ورواه مسلم (¬2). وجه الاستدلال: قال العيني: لما كان حال الوقوع أبعد حال من ذكر الله تعالى، ومع ذلك تسن التسمية فيه، ففي سائر الأحوال بطريق الأولى، فلذلك أورده البخاري في كتاب الوضوء للتنبيه على مشروعية التسمية عند الوضوء (¬3). ¬
الدليل الثاني
وأجيب: بأن التسمية ليست مشروعة عند كل حال، بل لا تشرع التسمية للأذان والإقامة، وكذلك لا تشرع عند تكبيرة الإحرام، فلا بد من دليل صحيح صريح في مشروعية التسمية، وإلا فالأصل عدم المشروعية. الدليل الثاني: أحاديث لا صلاة لمن لا وضوء له (¬1)، وإن كانت ضعيفة في آحادها، لكنها بالمجموع صالحة للاحتجاج، والنفي فيها للكمال، أي: لا وضوء كامل؛ لأن صفة الوضوء الصحيح قد ثبتت في أحاديث صحيحة بدون التسمية كحديث عبد الله بن زيد، وعثمان وابن عباس، وسيأتي ذكرها قريباً إن شاء الله تعالى، فيبقى النفي للكمال، كما جاء في الحديث: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (¬2)،: أي لا يؤمن الإيمان الكامل، فالنفي دال على استحباب التسمية في الوضوء، لا على وجوبها. الدليل الثالث: (808 - 37) حمد، قال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن ثابت وقتادة، عن أنس قال: نظر بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءا فلم يجدوا، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هاهنا ماء؟ قال: فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع يده في الإناء الذي فيه الماء، ثم قال: توضؤوا بسم الله، فرأيت الماء يفور: يعني بين أصابعه، والقوم يتوضؤون حتى توضؤوا عن آخرهم. ¬
قال ثابت: قلت لأنس: كم تراهم كانوا؟ قال: نحواً من سبعين (¬1). [تفرد بزيادة التسمية معمر، عن قتادة وثابت، وروايته عنهما فيها كلام] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل من قال بوجوب التسمية
قال البيهقي: هذا أصح ما في التسمية (¬1). وقال الحافظ: أصله في الصحيحين بدون هذه اللفظة، ولا دلالة فيها صريحة لمقصودهم (¬2). دليل من قال بوجوب التسمية الدليل الأول: (809 - 38) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا زيد بن الحباب ومحمد بن عبد الله بن الزبير، عن كثير بن زيد، قال: حدثني ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن جده أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (810 - 39) ما رواه أحمد، قال: ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا محمد بن موسى يعني المخزومي، عن يعقوب بن سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه (¬1). [ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (811 - 40) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، ثنا ابن أبي فديك، عن عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد الساعدي، عن أبيه، عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا صلاة من لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه. ولا صلاة لمن لا يصلي علي النبي، ولا صلاة لمن لا يحب الأنصار. قال أبو الحسن بن سلمة: حدثنا أبو حاتم، ثنا عيسى عبيس بن مرحوم العطار، ثنا عبد المهيمن بن عباس، فذكر نحوه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (812 - 41) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبدة، عن حارثة، عن عمرة قالت: سألت عائشة كيف كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
الدليل الخامس
قالت: كان إذا توضأ، فوضع يده في الماء، سمى فتوضأ، ويسبغ الوضوء. [إسناده ضعيف] (¬1). الدليل الخامس: (813 - 42) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو جعفر، قال: حدثنا يحيى بن يزيد بن عبد الله بن أنيس، قال: حدثني عيسى بن سبرة، عن أبيه، ¬
الدليل السادس
عن جده قال: صعد رسول الله ذات يوم المنبر فحمد، وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولم يؤمن بالله من لم يؤمن بي، ولم يؤمن بي من لم يعرف حق الأنصار. قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن ابن سبرة إلا بهذا الإسناد (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل السادس: (814 - 43) ما رواه ابن عدي في الكامل، قال: حدثنا محمد بن علي ابن مهدي العطار، ثنا الحسن بن محمد بن أبي عاصم، ثنا عيسى بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه (¬3). [إسناده ضعيف جداً] (¬4). ¬
الدليل السابع
الدليل السابع: (815 - 44) ما رواه أحمد في المسند، قال: ثنا هيثم - يعنى: ابن خارجة- ثنا حفص بن ميسرة، عن ابن حرملة، عن أبي ثفال المزني أنه قال: سمعت رباح بن عبد الرحمن بن حويطب يقول: حدثتني جدتي أنها سمعت أباها يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولا يؤمن بالله من لا يؤمن بي، ولا يؤمن بي من لا يحب الأنصار (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الثامن
الدليل الثامن: (816 - 45) ما ذكره عبد الحق في أحكامه كما في البدر المنير (¬1) من طريق عبد الملك بن حبيب الأندلسي، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، ¬
عن أنس رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: لا إيمان لمن لم يؤمن بي، ولا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يسم الله. [الحديث ضعيف جداً] (¬1). قالوا: فهذه أحاديث ثمانية منها الضعيف جداً الذي لا ينجبر، ومنها الضعيف المنجبر بالمتابعات. قال أبو بكر بن أبي شيبة: «ثبت لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله». وقال المنذري: «ولا شك أن الأحاديث التي وردت فيها على الوضوء، وإن كان لا يسلم شيء منها عن مقال، فإنها تتعاضد بكثرة طرقها، وتكتسب قوة، والله أعلم» (¬2). وقال ابن الملقن في البدر المنير (¬3): وذكرنا من الأحاديث ما يستدل الفقهاء بمثله، ويستند العلماء في الأحكام إليه، فليس من شأنهم أن لا يحتجوا إلا بالصحيح، بل أكثر احتجاجهم بالحسن، ولا يخلو هذا الباب في ذلك عن حسن صريح. وقال ابن الصلاح في مشكل الوسيط: روي هذا الحديث من وجوه في كل منها نظر، لكنها غير مطرحة، وهي من قبيل ما يثبت باجتماعه الحديث ثبوت الحديث الموسوم بالحسن. وحسنه العراقي كما في نتائج الأفكار. ¬
دليل من قال: لا تشرع التسمية
وقال الحافظ: «والظاهر أن مجموع الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلاً» (¬1). دليل من قال: لا تشرع التسمية: الدليل الأول: قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} الآية (¬2). وجه الاستدلال: أن الآية لم تذكر التسمية، ولو كانت مشروعة لذكرت فيها. وممكن أن يجاب عن ذلك: أن الآية غاية ما فيها أنها لم تذكر التسمية، وهذا لا يمنع أن الزيادة على ما في الآية من دليل آخر، فلا يشترط في الدليل الواحد أن يكون مشتملاً على جميع الشروط والواجبات، ولا تحرم الزيادة على ما في الآية من دليل آخر كما زيد في تحريم أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير على ما ورد في آية المائدة. الدليل الثاني: الأصل في العبادات المنع حتى يقوم دليل صحيح على المشروعية، ولم يثبت في الباب حديث صحيح. ¬
جاء في مسائل الكوسج لأحمد «قال: قلت: إذا توضأ، ولم يسم؟ قال: لا أعلم فيه حديثاً له إسناد جيد» (¬1). وفي مسائل أحمد رواية أبي داود: «قلت: لأحمد: التسمية في الوضوء؟ قال: أرجو أن لا يكون عليه شيء، ولا يعجبني أن يتركه خطأ ولا عمداً، وليس فيه إسناد، قال أبو داود: يعني: لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لا وضوء لمن لم يسم» (¬2). وقال أحمد بن حفص السعدي: «سئل أحمد بن حنبل - يعني: وهو حاضر - عن التسمية في الوضوء؟ فقال: لا أعلم حديثاً يثبت، أقوى شيء فيه حديث كثير بن زيد، عن ربيح، وربيح رجل ليس بمعروف» (¬3). فلو كانت التسمية واجبة في الوضوء، ومنزلتها من الوضوء كمنزلة الوضوء من الصلاة لجاءت الأحاديث الصحيحة التي تقوم بها الحجة على الخلق، ولم ينفرد بهذه الأحاديث الرواة المتكلم فيهم، وفيهم المجروح جرحاً شديداً، {وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} (¬4). ¬
الدليل الثالث
وأجيب: قال ابن حجر تعليقاً على مقالة الإمام أحمد: «لا يلزم من نفي العلم نفي الثبوت، وعلى التنزل لا يلزم من نفي الثبوت ثبوت الضعف؛ لاحتمال أن يراد بالثبوت الصحة، فلا ينتفي الحكم بالحسن، ولا على التنزل لا يلزم من نفي الثبوت عن كل فرد نفيه عن المجموع» (¬1). وسوف يأتي الجواب عن تعقيب ابن حجر ضمن الكلام على الدليل التالي: الدليل الثالث: قالوا: لم يرد ذكر التسمية في الأحاديث الصحيحة التي سيقت في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يليق بصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم ينقلون لنا صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهملوا التسمية، وهي واجبة كوجوب الوضوء للصلاة، وإليك بعضاً منها. (817 - 46) منها ما رواه البخاري، من طريق عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أن رجلا قال لعبد الله بن زيد وهو جد عمرو بن يحيى أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ فقال عبد الله بن زيد نعم فدعا بماء فأفرغ على يديه فغسل مرتين ثم مضمض واستنثر ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه ثم غسل رجليه. ورواه مسلم (¬2). ¬
فهذا الحديث سيق جواباً على سؤال: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ والسؤال إنما هو عن الوضوء الشرعي الصحيح، فلو كان الوضوء لا يصح إلا بالتسمية لوجب بيانها؛ لأن تركها حينئذ سوف يخل بصحة الوضوء، فلا يصدق عليه أن هذا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكيف تكون التسمية واجبة كوجوب الوضوء للصلاة؟! ولا يصح مخرجاً من هذا أن يقال: إن قوله: لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه إنما هو نفي للكمال؛ وذلك لأن الأحاديث التي فيها ذكر التسمية، جعلت منزلة التسمية من الوضوء، كمنزلة الوضوء من الصلاة، فسقط حمل النفي فيها على الكمال، فيلزم من يصحح أحاديث التسمية أن يقول: بأن التسمية شرط لصحة الوضوء، لا يصح الوضوء مطلقاً إلا بها، فإذا تركها لم يصح وضوؤه، سواء كان تركه لها ناسياً أو ذاكراً، كالصلاة بلا وضوء، وقد جمع بينهما الحديث، لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، فكما أن الصلاة لا تصح مطلقاً إلا بالطهارة، ولو ترك الطهارة ناسياً لم تصح صلاته، فكذلك الوضوء، ولو قالوا بهذا لزمهم القدح بالأحاديث الصحيحة التي ذكرت صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس فيها ذكر التسمية، وكان لزاماً إما القول بأن الصحابي قصر في هذا النقل، أو عدم الأخذ بظاهر أحاديث التسمية. ولذلك فالحنابلة القائلون بوجوب التسمية في الوضوء يصححون الوضوء إذا نسي التسمية، ولا يجعلون التسمية بمثابة الوضوء للصلاة، وهذا دليل على ضعف هذا القول؛ لأنهم لم يأخذوا بظاهر أحاديث التسمية، ولم يدعوها بالكلية.
ومن الأحاديث التي سيقت في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تذكر التسمية: (818 - 47) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، أن عطاء بن يزيد أخبره، أن حمران مولى عثمان أخبره، أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار ثم مسح برأسه ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين ثم قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: وجه الاستدلال من الحديث كوجه الاستدلال من الذي قبله، حيث لم يشتمل هذا الوضوء على التسمية، ثم قال: «من توضأ نحو وضوئي هذا» أي نحو فعلي هذا، فصحح الوضوء مع خلوه من التسمية. والجواب عن أحاديث التسمية أن يقال: إذا كانت الأحاديث ضعيفة، لم تكن صالحة للاحتجاج، وليس كل ضعيف ينجبر إذا جاء من طريق آخر، خاصة إذا كانت الأحاديث تخالف أصلاً شرعياً، أو تخالف أحاديث صحيحة، فآية الوضوء من سورة المائدة ليس فيها ذكر التسمية، والأحاديث الصحيحة التي سيقت لنا في وصف وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث عثمان رضي الله عنه في الصحيحين، وحديث عبد الله ابن زيد فيهما، وحديث ابن عباس في البخاري، وغيرهم كثير لم تذكر لنا التسمية، وهي إنما سيقت في بيان صفة الوضوء الشرعي الصحيح. ¬
وهناك قاعدة: إذا كان الحكم يحتاج إليه حاجة عامة متكررة، لا بد أن يأتي فيه البلاغ بأدلة صحيحة تقوم بها الحجة، فانظر إلى الوضوء ومنزلته في الشرع، إنه شرط لأعظم أركان الإسلام العملية: وهي الصلاة، وبدون هذا الوضوء تكون الصلاة باطلة، وعبادة الوضوء تتكرر في اليوم عدة مرات، فالحاجة إلى معرفة الوضوء الصحيح حاجة ملحة عامة، فكيف تأتي سنن الوضوء بأحاديث صحيحة قاطعة للنزاع، ثم تعرض جميع الأحاديث الصحيحة عن ذكر التسمية، ويكون مدارها على أحاديث ضعيفة مع أن منزلة التسمية من الوضوء بمنزلة الوضوء من الصلاة؟. فهذا القول هو أقوى الأدلة بحسب فهمي القاصر، وأن التسمية غير مشروعة في الوضوء، كما هي غير مشروعة في الغسل من الجنابة وفي طهارة التيمم، والتسمية لا تشرع لكل عبادة حتى يقال بمشروعيتها في الوضوء، فهناك عبادات لا تشرع فيها التسمية جزماً، كالدخول في الصلاة، والشروع في الأذان، ومثلهما على الصحيح رمي الجمارات، وابتداء الطواف، والله أعلم. ويأتي بعد هذا القول من حيث القوة القول بأنها مستحبة، وأما القول بالوجوب فهو قول ضعيف، وأضعف منه القول بأن التسمية شرط لصحة الوضوء، وكنت فيما كتبت في كتاب الحيض والنفاس قد ذهبت إلى استحباب التسمية في الوضوء، ثم رجعت عن ذلك في هذا البحث حين تأملت الأدلة، ورأيت أن القول المنسوب إلى مالك من كراهة التسمية في الوضوء يتمشى مع القواعد الفقهية، وهذا شأن الأمور الفقهية، بل الأمور الاجتهادية، فربما يرى الإنسان رأياً، ويخلص في بحثه أنه الصواب ثم يقف على ما يدعوه إلى تركه، وهذا طريق من يبحث عن الحق بتجرد، ودون تعصب لقول من الأقوال، ولم يبتل بإتباع الجمهور، والله أعلم.
الفصل الثاني: من سنن الوضوء السواك
الفصل الثاني: من سنن الوضوء السواك وقد أفردت أحكام السواك بكتاب مستقل نظراً لكثرة أحكامه، وبينت فيه مكانته في الشريعة، وفضله، والأوقات التي يتأكد فيها، وغيرها من الأحكام، فجاء في أكثر من خمسين وثلاثمائة صفحة، طبع مع كتاب سنن الفطرة، فالحمد لله على توفيقه، وسوف أشير هنا فقط لما له تعلق في الوضوء، في كون السواك من سنن الوضوء، فأقول: في هذه المسألة خلاف بين العلماء: فقيل: السواك مستحب في الوضوء، وهو أحد القولين في مذهب الحنفية (¬1)، والمشهور من مذهب المالكية (¬2)، وقيل: سنة، وهو قول في مذهب الحنفية أيضاً (¬3)، ومذهب ¬
دليل من قال: السواك مستحب وليس بسنة
الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، واختاره ابن عرفة (¬3)، وابن العربي من المالكية (¬4). دليل من قال: السواك مستحب وليس بسنة. فرق بعض الفقهاء بين المستحب والسنة فقالوا: السنة: ما واظب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. والمستحب: مافعله مرة أو مرتين. وألحق بعضهم به ما أمر به، ولم ينقل أنه فعله (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وهذا التفريق بين السنة والمستحب لا دليل عليه،، والصحيح: أن لفظ السنة والمندوب والمستحب ألفاظ مترادفة، في مقابل الواجب، ولو سلم هذا التفريق فإن السواك سنة أيضاً، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتعاهده ليلاً ونهاراً، حتى استاك - صلى الله عليه وسلم -، وهو في سكرات الموت. قال ابن العربي: «لا زم النبي - صلى الله عليه وسلم - السواك فعلاً، وندب إليه أمراً، حتى قال في الحديث الصحيح: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء» وما غفل عنه قط، بل كان يتعاهده ليلاً ونهاراً، فهو مندوب إليه، ومن سنن الوضوء، لا من فضائله)). اهـ كلام ابن العربي (¬1). ¬
دليل من قال: السواك سنة عند الوضوء
وقد جاءت أحاديث كثيرة تدل على مواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على السواك منها، ما يلي: (819 - 48) ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك. ورواه مسلم أيضاً. فقوله: «إذا قام من الليل» دليل على تكرار ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - كلما قام من الليل. (820 - 49) ومنها حديث عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل بيته بدأ بالسواك، وهو حديث صحيح (¬1). ولفظ: «كان» يدل على فعله دائماً أو غالباً. فكيف يقال بعد هذه الأحاديث الصحيحة: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يواظب عليه. دليل من قال: السواك سنة عند الوضوء. (821 - 50) ما رواه أحمد، قال: قرأت على عبد الرحمن: مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء (¬2). ¬
واختلف القائلون بأنه سنة: هل هو من سنن الوضوء، أو هو سنة مستقلة عند الوضوء على قولين: فقيل: إنه سنة مستقلة، يسن عند الوضوء تعليلهم: أن السواك أولاً، ليس مختصاً بالوضوء. وثانياً: أنه ليس من جنس أفعال الوضوء؛ لأن الوضوء هو استعمال الماء بنية مخصوصة، والسواك ليس فيه استعمال ماء (¬1). وقيل: بل هو من سنن الوضوء، قال إمام الحرمين: ليس شرط كون الشيء من الشيء أن يكون من خصائصه، فإن السجود ركن في الصلاة، ومشروع في غيرها لتلاوة، وشكر (¬2). وأرى أن الخلاف لفظي. ¬
مبحث: في محل السواك من الوضوء فقيل: عند المضمضة. وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: قبل الوضوء، وهو قول في مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعية (¬4). ¬
دليل من قال السواك قبل الوضوء
دليل من قال السواك قبل الوضوء. (822 - 51) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة وابن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء (¬1). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «عند كل وضوء» فالعندية لا تقتضي المصاحبة، كما في السواك عند كل صلاة، فمعلوم قطعاً أنه لم يرد المصاحبة، بل قبل الصلاة، فالوضوء كذلك، والله أعلم. دليل من قال السواك عند المضمضة. (823 - 52) ما رواه أحمد، قال: قرأت على عبد الرحمن: مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء (¬2). ¬
فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مع كل وضوء» المعية هنا تقتضي المصاحبة، لأن من تسوك بعد غسل الكفين، وقبل المضمضة يصدق عليه أنه تسوك مع الوضوء، وليس قبله. والذي يظهر والله أعلم أن الحديثين حديث واحد، إحدى الروايتين تفسر الأخرى، فالعندية لا تعارض المعية هنا، والله أعلم. والتسوك والمضمضة كلاهما متعلق بالفم دون سائر أعضاء الوضوء. والأفضل والله أعلم أن يكون تسوكه قبل المضمضة، سواء كان بعد غسل الكفين أو قبل الشروع في الوضوء؛ وذلك لأن السواك إذا نظف الأسنان، ثم جاءت بعده المضمضة، ومج الماء يكون قد سقط كل أذى اقتلعه السواك من الأسنان أو اللثة، والله أعلم. وهناك تفسير آخر فيه بُعْدٌ، ذكره بعض الفقهاء. قال الزرقاني: «قوله: ((مع كل وضوء» أي مصاحباً له، كقوله في رواية: «عند كل وضوء». ويحتمل أن معناه لأمرتهم به كما أمرتهم بالوضوء)) (¬1). ¬
الفصل الثالث: من سنن الوضوء غسل الكفين ثلاثا
الفصل الثالث: من سنن الوضوء غسل الكفين ثلاثا هذه سنتان من سنن الوضوء، فغسل الكفين في ابتداء الوضوء سنة، وكون الغسل ثلاثاً سنة أخرى. فأما غسل الكفين فإن فيه تفصيلاً: فإن كان بعد القيام من نوم الليل الناقض للوضوء، ففيه خلاف على النحو التالي: فقيل: غسل اليد سنة، وليس بواجب، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: غسل اليد ثلاثاً واجب، وإليه ذهب أحمد في الرواية المشهورة عنه (¬5)، وإسحاق، وداود الظاهري، وابن حزم (¬6)، والحسن البصري (¬7). ¬
الدليل على أن غسل الكفين سنة من الكتاب والسنة والإجماع
وقد ذكرت أدلة كل قول مع مناقشتها في بحث موسع في كتاب المياه، فأغنى عن إعادته هنا (¬1). وإن كان غسل اليدين لم يكن على إثر نوم، فإن غسلهما سنة من سنن الوضوء (¬2)، وقيل: سنة مستقلة عند الوضوء، لا من الوضوء كالسواك، اختاره الخرسانيون من الشافعية (¬3). والدليل على أن غسل الكفين سنة من الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا أقمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} (¬4). ¬
الدليل على أن غسلهما ثلاثا سنة أيضا من سنن الوضوء
فلم يذكر غسل اليدين، ولو كان غسلهما فرضاً لذكره فيما ذكر. وأما السنة فأحاديث كثيرة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، منها: حديث عثمان في الصحيحين، وحديث عبد الله بن زيد فيهما، وحديث ابن عباس في البخاري، وحديث علي بن أبي طالب وسوف يأتي ذكر متونها وتخريجها - إن شاء الله تعالى عند الكلام على صفة الوضوء - كلها تذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل كفيه في وضوئه، وفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - دال على السنية إن كان على وجه التعبد كما هو الحال هنا. وأما الإجماع فقد نقله طائفة من أهل العلم. قال ابن المنذر: «أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن غسل اليدين في ابتداء الوضوء سنة، يستحب استعمالها، وهو بالخيار إن شاء غسلها مرة، وإن شاء غسلها مرتين، وإن شاء ثلاثاً، أي ذلك شاء فعل، وغسلهما ثلاثاً أحب إلي، وإن لم يفعل ذلك فأدخل يده الإناء قبل أن يغسلها فلا شيء عليه، ساهياً ترك ذلك أم عمداً إذا كانتا نظيفتين» (¬1). وقال ابن قدامة: «وليس ذلك - يعني غسل الكفين في الوضوء - بواجب عند غير القيام من النوم بغير خلاف نعلمه». وأما الدليل على أن غسلهما ثلاثاً سنة أيضاً من سنن الوضوء، فالإجماع: قال ابن رشد في بداية المجتهد: «اتفق العلماء على أن الواجب من طهارة الأعضاء المغسولة هو مرة مرة إذا أسبغ، وأن الاثنين والثلاث مندوب إليهما». ¬
وقال النووي في شرح مسلم: «وقد أجمع المسلمون على أن الواجب في غسل الأعضاء مرة مرة، وعلى أن الثلاث سنة» (¬1). وسوف يأتي إن شاء الله تعالى أن السنة في الوضوء أن يتوضأ الإنسان مرة مرة، وأحياناً مرتين مرتين، وأحياناً ثلاثاً ثلاثاً، وذلك لأن العبادة إذا جاءت على وجوه مختلفة فالسنة أن تفعل كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى يصيب السنة من جميع وجوهها، وفيها يتحقق الموافقة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في فعله وتركه. ¬
المبحث الأول: السنة أن يغسل كفيه قبل أن يدخلهما الإناء
المبحث الأول: السنة أن يغسل كفيه قبل أن يدخلهما الإناء. نص الفقهاء على أن السنة لا تثبت إلا بغسل الكفين قبل إدخالهما في الإناء أو في الماء إذا كان الماء قليلاً (¬1). وقيل: لا تتحقق السنة إلا إذا غسل يديه خارج الماء مطلقاً سواء توضأ من نهر أو حوض أو إناء، وسواء كان الماء قليلاً أو كثيراً، وهو قول في مذهب المالكية (¬2). ¬
الدليل على أن غسل الكفين قبل إدخالهما في الإناء سنة. (824 - 53) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي قال حدثني إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، أن عطاء بن يزيد أخبره، أن حمران مولى عثمان أخبره أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق. الحديث. وأخرجه مسلم (¬1). فلم يدخل يمينه في الإناء حتى غسلها ثلاثاً. ¬
ومن أدخل يديه في الإناء قبل غسلهما لم يضر ذلك وضوءه، فإن كانت يده نظيفة فالأمر ظاهر، يد طاهرة لا قت ماء طهوراً فلم تؤثر فيه. وإن كان في يده نجاسة، وتغير الماء بالنجاسة نجس إجماعاً، وإن لم يتغير الماء رجعت هذه المسألة إلى مسألة أخرى سبق أن حُرِّرت الأقوال فيها، وهي في حكم الماء إذا لا قته نجاسة فلم تغيره، وقد فصلت القول فيها في كتاب المياه.
المبحث الثاني: من توضأ ثم أحدث في أثناء وضوئه فهل يعيد غسل يديه إذا أعاد الوضوء
المبحث الثاني: من توضأ ثم أحدث في أثناء وضوئه فهل يعيد غسل يديه إذا أعاد الوضوء فمن نظر إلى أن غسل الكفين من باب النظافة لأنهما آلة الوضوء لم ير حاجة إلى إعادة غسلهما. ومن نظر إلى كون الغسل ثلاثاً، ولم يكن غسلة واحدة نظر إلى معنى العبادة، فقد أُعْطِيت الكفان حكم أعضاء الوضوء من التثليث في الغسل، ولو كان غسلهما من باب النظافة لكفى في ذلك غسلة واحدة؛ لأن اليد لو كان فيها نجاسة متحققة كفى غسلها مرة واحدة تذهب بعين النجاسة، ومثل هذه المسألة المسألة التالية (¬1). ¬
المبحث الثالث: هل يحتاج غسل الكفين إلى نية
المبحث الثالث: هل يحتاج غسل الكفين إلى نية في هذه المسألة قولان لأهل العلم: من اعتبر غسل الكفين من سنن الوضوء اعتبر فيهما النية. ومن رأى أن غسلهما للنظافة لم يعتبر النية في غسلهما، وعن الإمام مالك ما يقتضي الوجهين (¬1). ولهذا السبب أيضاً اعتبر الخرسانيون من الشافعية أن غسل الكفين سنة مستقلة، وليست من سنن الوضوء كالتسمية والسواك عندهم. واعتبار النية أرجح حتى على القول بأنها شرعت للنظافة، لأن الطهارة إذا دخلتها أحكام العبادة المحضة غلبت عليها، فلم يراع فيها السبب، فغسل اليدين حين دخله العدد غلبت عليه أحكام العبادة المحضة، ومثله غسل الجمعة أصله إزالة الرائحة، فلما دخلت عليه أحكام العبادة لزمه الاتيان بها، وإن لم يوجد سببها، والله أعلم (¬2). ¬
الفصل الرابع: من سنن الوضوء المضمضة والاستنشاق فيه
الفصل الرابع: من سنن الوضوء المضمضة والاستنشاق فيه يدخل في المضمضة والاستنشاق سنن كثيرة من سنن الوضوء، وقبل أن نأتي على أكثرها، نذكر أولاً خلاف العلماء في حكم المضمضة والاستنشاق في الوضوء. المبحث الأول: حكم المضمضة والاستنشاق اختلف العلماء في حكم المضمضة والاستنشاق في الوضوء والغسل إلى أقوال: فقيل: المضمضة والاستنشاق سنة في الوضوء وفي الغسل، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2). وقيل: واجبان في الوضوء والغسل، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬3). ¬
هذان قولان متقابلان. وفيه قولان آخران متقابلان أيضاً: فقيل: المضمضة والاستنشاق سنة في الوضوء، واجبان في الغسل، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: واجبان في الوضوء دون الغسل (¬2). وقيل: المضمضة سنة، والاستنشاق واجب فيهما (¬3). والراجح: أن المضمضة سنة في الوضوء وفي الغسل، وأما الاستنشاق فواجب في الوضوء سنة في الغسل، والله أعلم. وسبب اختلاف العلماء اختلافهم في الأدلة الواردة في الباب، فآية المائدة في الوضوء ليس فيها ذكر للمضمضة والاستنشاق، قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} (¬4). (825 - 54) وروى مسلم أن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله ? من أتم الوضوء كما أمره الله تعالى فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن (¬5). ¬
وليس في كتاب الله ذكر المضمضمة والاستنشاق، فدل على أنهما غير واجبين. هذا في الحدث الأصغر، وأما في الأكبر فقد روى البخاري من حديث طويل، في قصة الرجل الذي أصابته جنابة ولا ماء، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: خذ هذا فأفرغه عليك (¬1). (826 - 55) وروى مسلم عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬2). فعبر بـ «إنما» الدالة على الحصر، واكتفى بالإفاضة ولم يذكر المضمضة والاستنشاق. فأخذ بعض أهل العلم من هذه الأدلة أن المضمضة والاستنشاق ليسا واجبين لا في حدث أصغر ولا في حدث أكبر. وذهب آخرون إلى أن الاستنشاق قد جاء الأمر به في السنة الصحيحة (827 - 56) فقد روى البخاري، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر. ولفظ مسلم: «إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء ثم لينتثر» (¬3). ¬
وأحاديث الأمر بالاستنشاق، هي دليل على وجوب الاستنشاق صراحة والمضمضة ضمناً، لأنهما كالعضو الواحد، فإيجاب أحدهما إيجاب للآخر، ألا ترى أنه لا يفصل بين المضمضة والاستنشاق، ومن عادة الأعضاء المستقلة في الوضوء ألا ينتقل إلى عضو حتى يفرغ من العضو الذي قبله، بخلاف المضمضة والاستنشاق فإنه يمضمض ثم يستنشق ثم يرجع إلى المضمضة فالاستنشاق وهكذا، فهذا يدل على أنهما في حكم العضو الواحد، فالأمر بأحدهما أمر بالآخر. (828 - 57) كما استدلوا بحديث رواه أبو داود (¬1)، عن لقيط بن صبرة قال: كنت وافد بني المنتفق ـ أو في وفد بني المنتفق ـ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكر حديثاً طويلاً، وفيه: قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء. قال: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما. الشاهد من هذا الحديث قوله «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً». وفي رواية لأبي داود، وزاد فيه: «إذا توضأت فمضمض» (¬2). وذهب بعض اهل العلم إلى أن الاستنشاق واجب دون المضمضة، قال ابن المنذر: «والذي به نقول: إيجاب الاستنشاق خاصة دون المضمضة، لثبوت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالاستنشاق، ولا نعلم في شيء من الأخبار أنه أمر بالمضمضة» (¬3). ¬
وقال ابن عبد البر: «وحجة من فرق بين المضمضة والاستنشاق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل المضمضة ولم يأمر بها، وأفعاله مندوب إليها، ليست بواجبة إلا بدليل، وفعل الاستنثار وأمر به، وأمره على الوجوب أبداً، إلا أن يتبين غير ذلك من مراده» ا. هـ (¬1) وقد بسط الكلام في المسألة، وجمعت الأدلة الواردة في الباب وتم تخريجها، والكلام عليها من حيث الصحة والضعف، في كتابي أحكام الحيض والنفاس، وقد وترجح هناك قول ابن عبد البر وابن المنذر، وأن الواجب هو الاستنشاق خاصة، فأغنى عن إعادته هنا، فارجع إليه غير مأمور. ¬
المبحث الثاني: يستحب تقديم المضمضة على الاستنشاق
المبحث الثاني: يستحب تقديم المضمضة على الاستنشاق اختلف العلماء في حكم تقديم المضمضة على الاستنشاق، فقيل: سنة، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: تقديم المضمضة على الاستنشاق شرط، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). دليل القائلين بأنه سنة: الدليل الأول: الإجماع على مشروعية تقديم المضمضة على الاستنشاق. ¬
الدليل الثاني
قال ابن نجيم: المضمضة والاستنشاق سنتان مشتملتان على سنن منها تقديم المضمضة على الاستنشاق بالإجماع (¬1). اهـ الدليل الثاني: القياس على تقديم اليمين على الشمال في الوضوء، فإذا كان تقديم اليمين سنة، فكذلك هنا. دليل من قال: التقديم شرط: قالوا: لأن الفم والأنف عضوان مختلفان، فيشترط الترتيب بينهما قياساً على الترتيب بين الوجه واليد. وأجيب: بأن الفم والأنف من الوجه، فهما في حكم العضو الواحد، ثم إن تقديم المضمضة على الاستنشاق جاء من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب. الراجح بين القولين: الراجح هو القول الأول، لقوة دليله، والشرطية تحتاج إلى دليل صحيح صريح، ولم يقم دليل يكفي على ذلك، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث: في حكم المبالغة في المضمضة والاستنشاق
المبحث الثالث: في حكم المبالغة في المضمضة والاستنشاق تعريف المبالغة في المضمضة: قال ابن الهمام: والسنة المبالغة فيهما -يعني: المضمضة والاستنشاق- وهو في المضمضة إلى الغرغرة، وفي الاستنشاق إلى ما اشتد من الأنف (¬1). وقال الخرشي: ويستحب المبالغة: وهي إدارة الماء في أقاصي الحلق في المضمضة، وفي الاستنشاق: جذبه لأقصى الأنف (¬2). وقال النووي: قال أصحابنا: المبالغة في المضمضة أن يبلغ الماء أقصى الحلق ويديره فيه (¬3). وقال في مطالب أولي النهيى: أن يبلغ بالماء أقصى الحنك، ووجهي الأسنان واللثة (¬4). وقيل: المبالغة: إدارة الماء في الفم كله أو أكثره. والمبالغة في الاستنشاق: جذب الماء بالنفس إلى أقصى الأنف كله أو أكثره. وكل هذه التعريفات قريبة من بعض، فالمضمضة مكانها الفم، فيحرص الإنسان على إدارة الماء في جميع الفم من مقدم أسنانه واللثة إلى أقصى حلقه، وحكم الأكثر حكم الكل، فإذا أدار الماء في أكثر فمه، واستنشق الماء إلى أكثر أنفه فقد حصلت له سنة المبالغة، والله أعلم. ¬
الدليل على مشروعية المبالغة في الاستنشاق
وإذا عرفنا معنى المبالغة في المضمضة والاستنشاق، فما حكمهما؟. فقيل: المبالغة في المضمضة والاستنشاق سنة، وهو قول الأئمة الأربعة (¬1). وقيل: المبالغة فيهما واجبة، ذكرها من الحنابلة ابن عقيل في فنونه (¬2). وقيل: المبالغة في الاستنشاق وحده سنة دون المضمضة، وهو ظاهر كلام الخرقي من الحنابلة (¬3). وقيل: المبالغة واجبة في الاستنشاق وحده، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬4). الدليل على مشروعية المبالغة في الاستنشاق. (829 - 58) ما رواه أبو داود (¬5)، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد في آخرين، قالوا: ثنا يحيى بن سليم عن إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط ابن صبرة، عن أبيه لقيط بن صبرة قال: كنت وافد بني المنتفق ـ أو في وفد بني المنتفق ـ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث طويل، وفيه: ¬
الدليل على مشروعية المبالغة في المضمضة
فقلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء؟ قال: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً. الشاهد من هذا الحديث الطويل، قوله «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً» (¬1). [الحديث صحيح] (¬2). والدليل على مشروعية المبالغة في المضمضة ما يلي: الدليل الأول: الإجماع على مشروعية المبالغة في المضمضة لغير صائم. قال النووي: «المبالغة في المضمضة والاستنشاق سنة بلا خلاف» (¬3). وقد نقلنا في الأقوال أن هناك قولاً يرى أن المبالغة في الاستنشاق وحده دون المضمضة، وهو قول غير مشهور، ولذلك لم يره النووي خارقاً للإجماع، أو كان نقله ذلك بحسب علمه، ولم يطلع عليه. الدليل الثاني: القياس على المبالغة في الاستنشاق، فإذا كانت المبالغة في الاستنشاق مشروعة، فكذلك المبالغة في المضمضة، بجامع أن كلاً من الفم والأنف له تجويف يتفاوت مرور الماء في داخله، فالمبالغة فيهما يحصل منها كمال الطهارة في جميع باطنهما. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: أن المبالغة في المضمضة والاستنشاق من إسباغ الوضوء المأمور به شرعاً. الدليل الرابع: (830 - 59) ما رواه أبو بشر الدولابي، قال: ثنا محمد بن بشار، ثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط بن صبرة، عن أبيه لقيط بن صبرة بلفظ: إذا توضأت فأبلغ المضمضة والاستنشاق ما لم تكن صائماً (¬1). فزاد الأمر بالمبالغة بالمضمضة. وذكره الزيلعي في نصب الراية (¬2). [وزيادة المضمضة غير محفوظة] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل من قال: لا تشرع المبالغة في المضمضة
دليل من قال: لا تشرع المبالغة في المضمضة. لعله يرى أن الأمر بالمبالغة ورد في الاستنشاق خاصة، ولم يصح دليل في الأمر بالمبالغة في المضمضة، والأصل عدم المشروعية حتى يثبت دليل خاص، ولم يثبت. دليل من قال بوجوب المبالغة فيهما. الدليل الأول: ثبت الأمر بالمبالغة في الاستنشاق، والأصل في الأمر الوجوب. الدليل الثاني: (831 - 60) الأمر بالمبالغة في الاستنشاق من إسباغ الوضوء، وقد روى مسلم في صحيحه من طريق عبد الله بن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن سالم مولى شداد قال: دخلت على عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم توفي سعد بن أبي وقاص، فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر، فتوضأ عندها فقالت: يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ويل للأعقاب من النار. الراجح: لم أقف على حديث في الأمر بالمبالغة في المضمضة إلا إلحاقها بالاستنشاق، مع أن الأنف أحوج إلى التنظيف والمبالغة فيه من الفم، لأن ¬
الأنف أكثر عرضة للأتربة والغبار، وقد يعلق بشعيراته أجزاء من الأتربة والغبار، فتتأكد المبالغة في حقه؛ لكمال النظافة، بخلاف الفم والذي يكون اللعاب فيه أكثر، فهو يتنظف باستمرار، وأما القول بأن المبالغة في المضمضة من إسباغ الوضوء فهذا لا يصح لأن الحديث فرق بينهما، فقال: أسبغ الوضوء، وبالغ في الاستنشاق، فلو كانت المبالغة من إسباغ الوضوء لكان في ذلك تكرار إلا أن يقال: إن هذا مثل قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة والوسطى} (¬1)، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع: في حكم المبالغة بالمضمضة والاستنشاق للصائم
المبحث الرابع: في حكم المبالغة بالمضمضة والاستنشاق للصائم اختلف العلماء في حكم المبالغة في المضمضة والاستنشاق للصائم، فقيل: تكره المبالغة فيهما، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: تحرم المبالغة فيهما، وهو قول في مذهب الحنابلة، واختاره القاضي أبو الطيب من الشافعية (¬2). وقيل: تكره المبالغة في الاستنشاق دون المضمضة، اختاره الماوردي والصيرمي من الشافعية (¬3). دليل من قال بكراهية المبالغة في المضمضة. قالوا: قياساً على النهي عن المبالغة في الاستنشاق للصائم، وقد مر معنا حديث لقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً». ولأن كلا منهما منفذ للطعام، يخشى منه إفساد الصوم. ¬
دليل من قال: تحرم المبالغة في المضمضة والاستنشاق
دليل من قال: تحرم المبالغة في المضمضة والاستنشاق. قال: كما أن القبلة تحرم على الصائم إذا خشي على نفسه الإنزال، فكذلك تحرم المبالغة في المضمضة والاستنشاق، بجامع أن كلاً منهما يخشى منه إفساد الصيام. وأجيب: بأن القبلة غير مطلوبة، بل داعية لما يضاد الصوم من الإنزال بخلاف المبالغة، وبأنه في المبالغة في المضمضة يمكنه إطباق الحلق، ومج الماء، ولا يمكنه رد المني إذا خرج ... وهذا على القول بأن الإنزال بدون إيلاج مفطر، وهي مسألة خلافية بابها باب الصوم، بلغنا الله إياه بمنه وكرمه. دليل من قال لا تكره المبالغة في المضمضة للصائم. الدليل الأول: النص ورد في النهي عن المبالغة في الاستنشاق، ولم يرد نهي عن المبالغة في المضمضة، وما كان ربك نسياً. التعليل الثاني: أن هناك فرقاً بين المبالغة في المضمضة والمبالغة في الاستنشاق، فيمكنه رد الماء في المضمضة بإطباق حلقه، ولا يمكنه هذا في الاستنشاق، ولهذا قال الشافعي في الأم: وإن كان صائما رفق بالاستنشاق؛ لئلا يدخل رأسه (¬1). ¬
المبحث الخامس: حكم استنثار الماء بعد الاستنشاق
المبحث الخامس: حكم استنثار الماء بعد الاستنشاق تعريف الاستنثار: الاستنثار: مأخوذ من النثرة: وهي طرف الأنف. وقال الخطابي وغيره: هي الأنف. وقال الأزهري: روى سلمة، عن الفراء: نثر الرجل واستنثر: إذا حرك النثرة في الطهارة، والله أعلم. وأما اصطلاحاً: فالاستنثار: هو استفعال: من النثرة بالنون المثلثة، وهو طرح الماء الذي يستنشقه المتوضئ بريح أنفه، سواء كان بإعانة يده أم لا (¬1). وكره مالك فعل الاستنثار بغير اليد، لكونه يشبه فعل الحمار (¬2). والراجح عدم الكراهة؛ لأن الكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل شرعي، والعلة التي ذكر الإمام مالك ليست كافية في الكراهة. وقال ابن الأعرابي ابن قتيبة: الاستنثار: هو الاستنشاق (¬3). والصواب الأول، وأن الاستنشاق غير الاستنثار. (832 - 61) فقد روى البخاري ومسلم من طريق عمرو بن يحيى بن عمارة، عن أبيه، قال: ¬
دليل من قال: إن الاستنثار سنة
شهدت عمرو بن أبي حسن، سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأكفأ على يديه من التور، فغسل يديه ثلاثاً، ثم أدخل يده في التور، فمضمض واستنشق واستنثر ثلاث غرفات، ثم أدخل يده، فغسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين، ثم أدخل يده فمسح رأسه، فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة، ثم غسل رجليه إلى الكعبين. هذا لفظ البخاري، وأورده مسلم مختصراً (¬1). فجمع في الحديث بين الاستنشاق والاستنثار، ولو كانا واحداً لم يجمع بينهما. وقد اختلف الفقهاء في حكم الاستنثار فقيل: سنة، وهو مذهب الجمهور (¬2). وقيل: هو فرض، وهو اختيار ابن حزم (¬3). دليل من قال: إن الاستنثار سنة. انظر أدلته في حكم المضمضة والاستنشاق. دليل من قال: الاستنثار واجب. (833 - 62) استدلوا بما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬
إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء، ثم لينثر. ورواه مسلم (¬1). والأصل في الأمر الوجوب. ولا شك أن الاستنشاق يراد منه نظافة الأنف، فكمال النظافة أن يغسل داخل الأنف بالاستنشاق، ويطرد الوسخ منه بالاستنثار. وإذا كان قد ترجح أن الاستنشاق واجب في الوضوء، فلا يبعد أن يكون الاستنثار منه، خاصة وأن الأمر فيه محفوظ، والله أعلم. ¬
المبحث السادس: حكم كون المضمضة والاستنشاق باليمين والاستنثار بالشمال
المبحث السادس: حكم كون المضمضة والاستنشاق باليمين والاستنثار بالشمال اختلف الفقهاء في الاستنشاق هل يكون في اليد اليمنى أو في اليسرى، فقيل: يتمضمض ويستنشق باليد اليمنى، ويستنثر باليد اليسرى، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: المضمضة في اليد اليمنى، والاستنشاق باليد اليسرى (¬5). دليل من قال المضمضة والاستنشاق باليمين والاستنثار بالشمال. أما الدليل على كون المضمضة والاستنشاق باليمين، (834 - 63) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، قال: حدثني إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، أن عطاء بن يزيد أخبره، أن حمران مولى عثمان أخبره أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء، فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء، فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار، ثم مسح ¬
الدليل على كون الاستنثار بالشمال
برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه (¬1). (835 - 64) وروى مسلم في صحيحه، من طريق خالد بن عبد الله، عن عمرو بن يحيى بن عمارة عن أبيه، عن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري وكانت له صحبة قال: قيل له توضأ لنا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فدعا بإناء فأكفأ منها على يديه، فغسلهما ثلاثاً، ثم أدخل يده فاستخرجها، فمضمض واستنشق من كف واحدة، ففعل ذلك ثلاثاً. الحديث، وهو في البخاري بنحوه (¬2). فقوله رضي الله عنه: فمضمض واستنشق من كف واحدة، دليل أن كف المضمضة هي كف الاستنشاق، وإذا كانت المضمضة في اليمين فكذلك الاستنشاق، والله أعلم. وأما الدليل على كون الاستنثار بالشمال، (836 - 65) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا زائدة بن قدامة، عن خالد بن علقمة، حدثنا عبد خير قال: جلس علي بعد ما صلى الفجر في الرحبة، ثم قال لغلامه: ائتني بطهور فأتاه الغلام بإناء فيه ماء وطست. قال عبد خير: ونحن جلوس ننظر إليه، فأخذ بيمينه الإناء فأكفأه على يده اليسرى، ثم غسل كفيه، ثم أخذ بيده اليمنى الإناء فأفرغ على يده اليسرى، ثم غسل كفيه، فعله ثلاث مرار قال ¬
عبد خير: كل ذلك لا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات، ثم أدخل يده اليمنى في الإناء، فمضمض، واستنشق ونثر بيده اليسرى فعل ذلك ثلاث مرات. الحديث وفي آخره قال: هذا طهور نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن أحب أن ينظر إلى طهور نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا طهوره (¬1). [رجاله ثقات، وقد تفرد خالد بن علقمة بذكر الاستنثار بالشمال، على اختلاف عليه في ذكرها، وقد رواه جماعة عن عبد خير ولم يذكروا الاستنثار بالشمال، كما رواه غير عبد الخير ولم يذكر الاستنثار] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني: قالوا: يستحب الاستنثار بالشمال لما فيه من إزالة الوسخ الذي في الأنف، ¬
(837 - 66) فقد روى أحمد، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، عن الأسود، عن عائشة أنها قالت: كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمنى لطهوره ولطعامه، وكانت اليسرى لخلائه، وما كان من أذى. قال أحمد: وحدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن رجل عن أبي معشر عن إبراهيم عن عائشة نحوه [الراجح في الحديث أن إسناده منقطع] (¬1). ¬
المبحث السابع: في الجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة
المبحث السابع: في الجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة اختلف العلماء هل السنة في المضمضة والاستنشاق الجمع أم الفصل؟ على قولين: فقيل: يفصل بين المضمضة والاستنشاق، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب المالكية (¬2)، وعليه أكثر أصحاب الشافعية (¬3). وقيل: السنة أن يجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة. اختاره ابن رشد من المالكية (¬4)، وهو المنصوص عن الشافعي (¬5)، ¬
دليل من قال بالفصل بين المضمضة والاستنشاق
ورجحه النووي (¬1)، والعراقي (¬2)، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬3). دليل من قال بالفصل بين المضمضة والاستنشاق. الدليل الأول: (838 - 67) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا حميد بن مسعدة، حدثنا معتمر، قال: سمعت ليثاً يذكر عن طلحة، عن أبيه، عن جده قال: دخلت يعني على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتوضأ والماء يسيل من وجهه ولحيته على صدره، فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق (¬4). [إسناده ضعيف] (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
وأجيب عنه بثلاثة أجوبة: الأول: أنه ضعيف. الثاني: أن المراد: تمضمض، ثم مج، ثم استنشق، أي ولم يخلطهما. الثالث: أنه محمول على بيان الجواز، وكان هذا منه - صلى الله عليه وسلم - مرة واحدة؛ لأن لفظه عند أبي داود: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتوضأ، فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق. وهذا لا يقتضي أكثر من مرة (¬1). الدليل الثاني: قال ابن الملقن في البدر المنير (¬2): رأيت في سنن ابن السكن المسماة بـ (الصحاح المأثورة) ما نصه: روى شقيق بن سلمة، قال: شهدت علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان توضأا ثلاثاً ثلاثاً، وأفردوا المضمضة من الاستنشاق، ثم قال: هكذا توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الإسناد معلق كما ترى، وصحته تتوقف على معرفة الساقط من إسناده، ولم أقف عليه، فيبقى عندي ضعيفاً، وقد ذكر بعض العلماء أن أحاديث الفصل لا تثبت، وهذا منها. ¬
الدليل الثالث
قال النووي: وأما الفصل فلم يثبت فيه حديث أصلاً، وإنما جاء فيه حديث طلحة بن مصرف، وهو ضعيف. وقال أيضاً: فلا يحتج به لو لم يعارضه شيء, فكيف إذا عارضه أحاديث كثيرة صحاح؟ (¬1). الدليل الثالث: (839 - 68) ما رواه أحمد، قال: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا مختار، عن أبي مطر قال: بينا نحن جلوس مع أمير المؤمنين علي في المسجد على باب الرحبة جاء رجل فقال: أرني وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وهو عند الزوال فدعا قنبراً فقال: ائتني بكوز من ماء، فغسل كفيه ووجهه ثلاثاً، وتمضمض ثلاثاً، فأدخل بعض أصابعه في فيه، واستنشق ثلاثاً. الحديث (¬2). وجه الاستدلال: أنه لما أدخل بعض أصابعه فيه حال المضمضة دل على أن الاستنشاق مفصول عن المضمضة. وأجيب: أولاً: الحديث ضعيف جداً (¬3). ¬
الدليل الرابع
ثانياً: الحديث ليس صريحاً في المسألة، فإدخال بعض الأصابع في الفم حال المضمضة لا يلزم منه فصل المضمضة عن الاستنشاق، فقد تكون الأصابع المدخلة هي أصابع اليد اليسرى، ومعلوم أن المضمضة والاستنشاق في اليد اليمنى كما قدمنا. الدليل الرابع: من النظر، أن الفم والأنف عضوان مستقلان، فكان القياس أن المتوضئ لا ينتقل إلى عضو آخر حتى يفرغ من العضو الذي قبله، فلا ينتقل إلى الأنف إلا بعد الفراغ من الفم، كسائر أعضاء الوضوء. ¬
الدليل الخامس
وأجيب: بأنهما وإن كانا في الحس عضوين إلا أنهما عضوان في عضو واحد، وهو الوجه، وحتى مع التسليم أنهما عضوان مستقلان حساً، فالشرع حكم لهما بأنهما عضو واحد حكماً، وإنما تلقينا صفة المضمضة والاستنشاق من السنة الصحيحة، فلا دخل للنظر فيهما وقد ورد النص، والله أعلم. الدليل الخامس: استدل بعضهم ببعض الأحاديث المجملة، كقوله: «فمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً» من أن ظاهرها الفصل بين المضمضة والاستنشاق. وأجيب: بأن هذه الأحاديث مجملة، تحتمل الفصل وتحتمل الجمع، والمجمل يحمل على المبين والمفصل كما في حديث عبد الله بن زيد، وحديث ابن عباس وحديث علي رضي الله عنهم أجمعين، وسوف يأتي ذكرها في أدلة القول الثاني إن شاء الله تعالى. دليل من قال: يجمع بين المضمضة والاستنشاق الدليل الأول: (840 - 69) ما رواه البخاري، من طريق وهيب قال: حدثنا عمرو بن يحيى، عن أبيه قال: شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بتور من ماء فتوضأ لهم، فكفأ على يديه فغسلهما ثلاثاً، ثم أدخل يده في الإناء فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث
الدليل الثاني
غرفات من ماء. الحديث. وقد رواه مسلم من هذا الطريق إلا أنه قال: فمضمض واستنشق واستنثر من ثلاث غرفات (¬1). وفي رواية للبخاري ومسلم من طريق خالد بن عبد الله، عن عمرو بن يحيى به، بلفظ: فمضمض واستنشق من كف واحدة (¬2). قال الحافظ: واستدل به على استحباب الجمع بين المضمضة والاستنشاق من كل غرفة. وقال النووي: في هذا الحديث دلالة ظاهرة للمذهب الصحيح المختار، أن السنة في المضمضة والاستنشاق أن يكون بثلاث غرفات، يتمضمض ويستنشق من كل واحدة منهما (¬3). وقال ابن القيم: لم يجئ الفصل بين المضمضة والاستنشاق في حديث صحيح البتة (¬4). اهـ الدليل الثاني: (841 - 70) ما رواه البخاري من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس أنه توضأ فغسل وجهه، أخذ غرفة من ماء فمضمض بها واستنشق، ثم أخذ غرفة من ماء فجعل بها هكذا أضافها إلى يده الأخرى فغسل بهما وجهه، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غرفة ¬
الدليل الثالث
من ماء فغسل بها يده اليسرى، ثم مسح برأسه، ثم أخذ غرفة من ماء فرش على رجله اليمنى حتى غسلها ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله يعني اليسرى، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ (¬1). وجه الاستدلال: إذا كان - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ غرفة من ماء للمضمضة والاستنشاق، فلا يمكن أن تكون هناك صفة إلا صفة واحدة هي الوصل بين المضمضة والاستنشاق، ولا يمكن الفصل في هذه الحالة والغرفة واحدة. وقد روى الحديث الدارمي (¬2)، من طريق عبد العزيز بن محمد، عن زيد بن أسلم به، بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة، وجمع بين المضمضة والاستنشاق. وهذه رواية للحديث بالمعنى. الدليل الثالث: (842 - 71) ما رواه أحمد من طريق خالد بن علقمة، حدثنا عبد خير قال: جلس علي بعد ما صلى الفجر في الرحبة، ثم قال لغلامه: ائتني بطهور فأتاه الغلام بإناء فيه ماء وطست. قال عبد خير: ونحن جلوس ننظر إليه، فأخذ بيمينه الإناء، فأكفأه على يده اليسرى، ثم غسل كفيه، ثم أخذ بيده اليمنى الإناء فأفرغ على يده اليسرى، ثم غسل كفيه، فعله ثلاث مرار، قال ¬
الراجح
عبد خير: كل ذلك لا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات، ثم أدخل يده اليمنى في الإناء، فمضمض، واستنشق ونثر بيده اليسرى فعل ذلك ثلاث مرات. الحديث. [رجاله ثقات وسبق الكلام عليه] (¬1). وقد أجاب أصحاب القول الأول عن هذه الأدلة بأجوبة فيها نظر، منها: أنه ربما فعل ذلك لبيان الجواز. ورد هذا: بأن روايات الجمع كثيرة من جهات عديدة وعن جماعة من الصحابة, ورواية الفصل واحدة وهي ضعيفة, وهذا لا يناسب بيان الجواز في الجمع , فإن بيان الجواز يكون في مرة ونحوها ويداوم على الأفضل , والأمر هنا بالعكس. الثاني: قالوا: إن معنى تمضمض واستنشق من كف واحد: أي لم يستعن باليدين مثل ما يفعل في غسل الوجه، أو معناه فعلهما باليد اليمنى، فيكون ردا على من يقول: الاستنشاق باليسرى ; لأن الأنف موضع الأذى، كموضع الاستنجاء (¬2). الراجح: بعد استعراض أدلة كل قول، تبين أن الفصل بين المضمضة والاستنشاق مجزئ، إلا أن الجمع بين المضمضة والاستنشاق من غرفة واحدة هو السنة، والله أعلم. ¬
دليل من قال: يأخذ ثلاث غرفات
فرع: في صفة الجمع والفصل بين المضمضة والاستنشاق اختلف العلماء في صفة الجمع بين المضمضة والاستنشاق على ثلاثة أقوال: فقيل: أن يأخذ غرفة يتمضمض منها، ثم يستنشق، ثم يأخذ غرفة ثانية يفعل بها كذلك، ثم ثالثة كذلك، وهذا أصحها، ورجحها النووي. وقيل: صفة الجمع أن يأخذ غرفة واحدة، فيمضمض منها ثم يستنشق، ثم يمضمض منها ثم يستنشق، ثم يفعل ذلك مرة ثالثة، كل هذه الثلاث من غرفة واحدة. وقيل: أن يأخذ غرفة واحدة، فيتمضمض منها ثلاثاً، ثم يستنشق منها ثلاثاً بلا خلط، وهذه لا فرق بينها وبين الأولى إلا أنه لا يستنشق حتى يفرغ من المضمضة. فصارت الصفات ترجع إلى صفتين: أخذ ثلاث غرفات، في كل غرفة يتمضمض ويستنشق منها. أو يأخذ غرفة واحدة يتمضمض ويستنشق منها ثلاث مرات. دليل من قال: يأخذ ثلاث غرفات. (843 - 72) ما رواه البخاري من طريق وهيب، قال: حدثنا عمرو بن يحيى، عن أبيه قال: شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بتور من ماء فتوضأ لهم، فكفأ على يديه فغسلهما ثلاثاً، ثم أدخل يده في الإناء فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات من ماء. الحديث
دليل من قال غرفة واحدة يتمضمض ويستنشق منها ثلاث مرات
فهذا الحديث صريح أن الغرفات ثلاث، وأن المضمضة والاستنشاق ثلاث، فتكون غرفة مستقلة لكل مضمضة واستنشاق. دليل من قال غرفة واحدة يتمضمض ويستنشق منها ثلاث مرات. (844 - 73) ما رواه البخاري من طريق سليمان بن بلال قال: حدثني عمرو بن يحيى، عن أبيه قال: كان عمي يكثر من الوضوء قال لعبد الله بن زيد أخبرني كيف رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ فدعا بتور من ماء، فكفأ على يديه، فغسلهما ثلاث مرار، ثم أدخل يده في التور فمضمض واستنثر ثلاث مرات من غرفة واحدة (¬1). فقوله رضي الله عنه: ثلاث مرات من غرفة واحدة ظاهر أن تكرار الاستنشاق والمضمضة من غرفة وحدة. وأجيب: بأن قوله: «فمضمض واستنثر ثلاث مرات من غرفة واحدة» المقصود: تمضمض واستنثر كل مرة من غرفة واحدة، فالراوي والله أعلم أراد أن يشير إلى جمع المضمضة والاستنشاق من غرفة واحدة، ولم يرد أن المضمضة والاستنشاق يكرران من نفس الغرفة الواحدة، لاسيما والحديث واحد، ومخرجه واحد، وقد جاء فيه في الرواية الأخرى: فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات. ¬
الفصل الخامس: من سنن الوضوء تخليل اللحية والأصابع في الوضوء
الفصل الخامس: من سنن الوضوء تخليل اللحية والأصابع في الوضوء (معنى التخليل) جاء في اللسان (¬1): الخَلل: مُنْفَرَج ما بين كل شيئين. وخَلَّل بينهما: فَرَّج، والجمع الخِلال مثل جَبَل وجبال، وقرىء بهما قوله عز وجل: {فترى الوَدْق يخرج من خِلاله} (¬2)، وخَلَلَه. وخَلَلُ السحاب وخِلالُه: مخارج الماء منه. والخَلَل: الفُرْجة بين الشيئين. والخَلَّة: الثُّقْبة الصغيرة، وقيل: هي الثُّقْبة ما كانت. وخِلالُ الدار: ما حوالَى جُدُرها وما بين بيوتها. وتَخَلَّلْتُ ديارهم: مَشَيت خِلالها. وتَخَلَّلتُ الرملَ أَي مَضَيت فيه. وفي التنزيل العزيز: {فجاسُوا خِلالَ الدِّيار} (¬3)، وتَخَلَّل القومَ: دخل بين خَلَلهم وخِلالهم، ومنه تَخَلُّل الأَسنان. هذا معنى التخليل في لسان العرب. وأما التخليل في الاصطلاح: فلا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي، فإذا كان معنى التخليل في الأصل: هو إدخال الشيء في خلال الشيء: وهو وسطه، فيكون معنى تخليل اللحية: هو إدخال الماء بين شعرها، حتى يوصل الماء إلى بشرته بأَصابعه. ¬
المبحث الأول: في حكم تخليل اللحية
المبحث الأول: في حكم تخليل اللحية اختلف العلماء في حكم تخليل اللحية في الطهارة الصغرى (¬1). فقيل: يستحب تخليل اللحية الكثيفة (¬2)، وهو مذهب ¬
الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)،وقول في مذهب المالكية (¬4). ¬
أدلة القائلين باستحباب تخليل اللحية
وقيل: يكره تخليل اللحية، وهو قول في مذهب المالكية (¬1). وقيل: يجب تخليل اللحية مطلقاً كثيفة أو خفيفة، وهو قول ثالث في مذهب المالكية (¬2). وعلى القول بالوجوب فهل ذلك حتى يصل الماء إلى داخل الشعر فقط، أو لا بد من وصول الماء إلى البشرة؟ في ذلك قولان حكاهما المازري (¬3). أدلة القائلين باستحباب تخليل اللحية: الدليل الأول: (845 - 74) ما رواه عبد الرزاق، عن إسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن شقيق بن سلمة قال: رأيت عثمان بن عفان توضأ، فغسل كفيه ثلاثاً ثلاثاً، ومضمض واستنشق واستنثر، وغسل وجهه ثلاثاً، وفي آخره قال: «وخلل لحيته حين غسل وجهه قبل أن يغسل قدميه، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل كالذي رأيتموني أفعل» (¬4). [ذكر التخليل منكر في هذا الحديث، وحديث عثمان في الصحيحين وفي غيرهما ليس فيه ذكر التخليل] (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (846 - 75) ما رواه أحمد، قال: حدثنا علي بن موسى، قال: أخبرنا عبد الله يعني ابن مبارك، قال: أخبرنا عمر بن أبي وهب الخزاعي، قال: حدثني موسى بن ثروان، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي عن عائشة قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ خلل لحيته بالماء. [رجاله موثوقون] (¬1). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (847 - 76) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الكريم، عن حسان بن بلال، قال: ¬
رأيت عمار بن ياسر توضأ، فخلل لحيته، فقلت له، فقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعله (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (848 - 77) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا زيد بن الحباب، عن عمر بن سليم الباهلي، قال: حدثني أبو غالب، قال: قلت لأبي إمامة: أخبرنا عن وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فتوضأ ثلاثاً، وخلل لحيته، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل (¬1). [اختلف في رفعه ووقفه، ووقفه أرجح] (¬2). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (849 - 78) رواه أحمد، قال: ثنا محمد بن عبيد، ثنا واصل، عن أبي سورة، عن أبي أيوب الأنصاري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ تمضمض، ومسح لحيته من تحتها بالماء (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (850 - 79) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عبد الحميد بن حبيب، حدثنا الأوزاعي، حدثنا عبد الواحد بن قيس، حدثني نافع، عن ابن عمر قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك ثم شبك لحيته بأصابعه من تحتها (¬1). [إسناده ضعيف وصوب الدارقطني وقفه] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل السابع
الدليل السابع: (851 - 80) ما رواه أبو عبيد، في الطهور، ثنا مروان بن معاوية الفزاري، عن أبي ورقاء العبدي، عن عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي، قال: قال له رجل: يا أبا معاوية كيف رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ قال: فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، وخلل لحيته في غسل وجهه، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬
الدليل الثامن
الدليل الثامن: (852 - 81) ما رواه البزار كما في مختصر مسند البزار، قال: حدثنا محمد بن صالح ابن العوام، ثنا عبد الرحمن بن بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، حدثني أبي بكار، قال: سمعت أبي عبد العزيز بن أبي بكرة يحدث عن أبيه، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، فغسل يديه ثلاثاً، ومضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وغسل ذراعيه إلى المرفقين، ومسح برأسه، يقبل بيديه من مقدمه إلى مؤخره، ومن مؤخره إلى مقدمه، ثم غسله رجليه ثلاثاً، وخلل أصابع رجليه، وخلل لحيته. ¬
قال البزار: لا نعلمه عن أبي بكرة إلا بهذا الإسناد، وبكار ليس به بأس، وعبد الرحمن بن بكار صالح الحديث (¬1). [ضعيف] (¬2). ¬
الدليل التاسع
الدليل التاسع: (853 - 82) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا أحمد بن مصرف بن عمرو اليامي، حدثني أبي مصرف بن عمرو بن السرى بن مصرف بن كعب بن عمرو، عن أبيه، عن جده يبلغ به كعب بن عمرو قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فمسح باطن لحيته وقفاه (¬1). [ضعيف] (¬2). الدليل العاشر: (854 - 83) ما رواه ابن عدي، من طريق أصرم بن غياث الخرساني، حدثنا مقاتل بن حيان، عن الحسن، عن جابر، قال: وضأت النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع، فرأيته يخلل لحيته بأصابعه كأنه أنياب مشط (¬3). [ضعيف جداً] (¬4). ¬
الدليل الحادي عشر
الدليل الحادي عشر: (855 - 84) ما رواه الطبراني في الأوسط كما في مجمع البحرين، من طريق نافع بن هرمز، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتطهر، وبين يديه قدر المد، وإن زاد فقلَّ أن يزيد، وإن نقص فقل ما ينقص، فغسل يديه، وتمضمض واستنشق ثلاثاً ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وخلل لحيته، وغسل ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه وأذنيه مرتين مرتين، وغسل رجليه حتى أنقاهما، فقلت: يا رسول الله هكذا التطهر؟ قال: هكذا أمرني ربي عز وجل (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬
الدليل الثاني عشر
الدليل الثاني عشر: (856 - 85) ما رواه الطبراني في الكبير (¬1)، والعقيلي (¬2)، في الضعفاء من طريق خالد ابن إلياس، عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، ويخلل لحيته. [ضعيف جداً] (¬3). الدليل الثالث عشر: (857 - 86) ما رواه ابن عدي، قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم الغزي، ثنا محمد بن أبي السري، ثنا مبشر بن إسماعيل، عن تمام بن نجيح، عن الحسن، عن أبي الدرداء قال رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فخلل لحيته مرتين وقال: هكذا أمرني ربي عز وجل (¬4). ¬
الدليل الرابع عشر
قال ابن عدي: وهذا الحديث إنما يعرف بتمام عن الحسن، وعامة ما يرويه لا يتابعه الثقات عليه (¬1). الدليل الرابع عشر: (858 - 87) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا محمد بن سعدان، ثنا زيد بن أخزم، ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا حنظلة بن عبد الحميد، عن عبد الكريم، عن مجاهد، ¬
الدليل الخامس عشر
عن عبد الله بن عكبرة قال: التخلل سنة (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). الدليل الخامس عشر: (859 - 88) ما رواه ابن جرير الطبري في تفسيره، من طريق سعيد بن سنان، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). [إسناده ضعيف جداً] (¬4). الدليل السادس عشر: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (860 - 89) أخرجه الحاكم، قال: حدثنا علي بن خمشاذ العدل، ثنا ¬
عبيد بن عبد الواحد، ثنا محمد بن وهب بن أبي كريمة، ثنا محمد بن حرب، عن الزبيدي، عن الزهري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: رأيت رسول الله و - صلى الله عليه وسلم - توضأ وخلل لحيته بأصابعها من تحتها، وقال: بهذا أمرني ربي (¬1). [رجاله ثقات، إلا ابن أبي كريمة فإنه صدوق، إلا أن الحديث معلول] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل من قال: يكره تخليل اللحية
دليل من قال: يكره تخليل اللحية. قالوا: لم يثبت في تخليل اللحية حديث صحيح، والأحاديث الصحيحة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تذكر تخليل اللحية، كحديث عثمان في الصحيحين، وحديث عبد الله بن زيد فيهما، وحديث ابن عباس في البخاري، ¬
دليل من قال: يجب التخليل
وحديث علي رضي الله عنه وغيرها من الأحاديث الصحيحة، وكون التخليل لا يأتي إلا في حديث ضعيف دليل على عدم ثبوت الحكم إذ لو كان التخليل مشروعاً لجاءت الأحاديث الصحيحة به، كما جاءت في تخليل الأصابع. قال مالك رحمه الله: «تخليلها في الوضوء ليس من أمر الناس، وعاب ذلك على من فعله» (¬1). وقال أبو داود كما في مسائل الإمام أحمد: قلت لأحمد بن حنبل: تخليل اللحية؟ قال: يخللها، قد روي فيه أحاديث، ليس يثبت فيه حديث - يعني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وقال عبد الله بن أحمد: قال أبي ليس يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التخليل شيء (¬3). وقال مثله ابن أبي حاتم، عن أبيه (¬4). دليل من قال: يجب التخليل. لعلهم قاسوا ذلك على غسل الجنابة، بجامع أن كلاً منهما طهارة من حدث. والدليل على وجوب التخليل في غسل الجنابة (861 - 90) ما رواه البخاري في صحيحه، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، ¬
عن عائشة قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه وتوضأ وضوءه للصلاة ثم اغتسل ثم يخلل بيده شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات ثم غسل سائر جسده. ولعلهم رأوا أن الواجب هو غسل البدن، وإذا طرأ على البدن شعر لم يمنع ذلك من وجوب غسل البدن، حتى يتعذر غسله، والشعر لا يمنع من وصول الماء إلى البدن. ويجاب على ذلك: بأن الطهارة الصغرى مبنية على التخفيف، ولذلك جاز فيها المسح على الرأس وعلى الخفين، وكانت على أعضاء مخصوصة بخلاف الطهارة الكبرى فإن طهارتها ليس فيها مسح، وتعم جميع البدن، والله أعلم. والراجح والله أعلم أن من خلل لحيته لا يقال عنه مبتدع، وليس التخليل بمثابة الغسلة الثانية والثالثة في الوضوء، ولا بمثابة تخليل الأصابع الذي صح فيه سنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحب إلي أن يترك التخليل، فإن كان لا بد فاعلاً فليكن نادراً ولا يداوم عليه لعدم ثبوت ما يدل على سنيته، والله أعلم.
المبحث الثاني: في صفة تخليل اللحية
المبحث الثاني: في صفة تخليل اللحية لم يرد في صفة تخليل اللحية حديث صحيح، والأحاديث الواردة في صفة التخليل ضعيفة، وقد تبين معنى التخليل لغة، وأن أصله: إدخال الشيء في خلال الشيء، وخلل لحيته: أدخل الماء بين شعرها، وأوصل الماء إلى بشرته بأصابعه (¬1). وأما الأحاديث التي جاء فيها صفة التخليل فقد سبق تخريجها وبيان ضعفها، منها: حديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء، فادخله تحت حنكه، فخلل بها لحيته. وحديث ابن عمر كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ عرك بعض العراك، ثم شبك بأصابعه من تحتها. وحديث جابر يخلل لحيته بأصابعه كأنها أنياب مشط، وهو ضعيف جداً. وحديث أبي أيوب: مسح لحيته من تحتها بالماء. ومثله حديث كعب بن عمرو: مسح باطن لحيته. وكلها سبق تخريجها. هذا في ما يتعلق بصفة التخليل من خلال الآثار. وأما صفة التخليل عند الفقهاء فهي كالتالي: فقيل: كيفية التخلل تفريق شعرها من أسفل إلى فوق (¬2). ¬
وفي المنح: أن يدخل أصابع اليد في فروجها التي بين شعراتها من أسفل إلى فوق بحيث يكون كف اليد الخارج، وظهرها إلى المتوضئ (¬1). وقيل: صفة التخليل أن يأخذ كفا من ماء فيضعه من تحتها , أو من جانبيها بأصابعه مشبكة فيها، زاد بعضهم: ويعركها. وعليه أكثر الحنابلة (¬2). ¬
وقيل: يخللها من ماء الوجه , ولا يفرد لذلك ماء، ويكون ذلك عند غسلهما. وإن شاء إذا مسح رأسه، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬1). وهل يخللها باليد اليمنى أو بكلا يديه؟ قولان للفقهاء (¬2). ¬
المبحث الثالث: في تخليل الأصابع
المبحث الثالث: في تخليل الأصابع سبق لنا معنى التخليل في الفصل الذي قبل هذا، ومحل استحباب تخليل الأصابع إذا وصل الماء إلى ما بين الأصابع بدون تخليل، وإلا فيجب إيصال الماء إلى ما بين الأصابع وإن لم يتعين التخليل. قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: قال أصحابنا: من سنن الوضوء تخليل أصابع الرجلين في غسلهما. قال: وهذا إذا كان الماء يصل إليهما من غير تخليل، فلو كانت الأصابع ملتفة لا يصل إليها الماء إلا بتخليل فحينئذ يجب التخليل لا لذاته، لكن لأداء فرض الغسل (¬1). وقد اختلف العلماء في حكم تخليل الأصابع: فقيل: إن تخليل الأصابع مشروع، وهو في الرجلين آكد من اليدين، وهذا مذهب الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، واختاره ابن رشد من المالكية (¬5). ¬
دليل الجمهور
وقيل: تخليل الأصابع واجب في اليدين، سنة في الرجلين، وهو مذهب المالكية (¬1). وقيل: التخليل واجب مطلقاً في اليدين والرجلين. وهو قول في مذهب المالكية (¬2). وقيل: التخليل سنة أحياناً، ولا يداوم عليه، وهو اختيار ابن القيم (¬3). دليل الجمهور. (862 - 91) ما رواه أبو داود (¬4)، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد في آخرين، قالوا: ثنا يحيى بن سليم عن إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط ابن صبرة، عن أبيه لقيط بن صبرة قال: قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء. قال: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً. [والحديث صحيح] (¬5). ¬
فقوله: «وخلل بين الأصابع» الأمر مطلق، فيشمل أصابع اليدين والرجلين. الدليل الثاني: حديث ابن عباس (863 - 92) رواه أحمد، قال: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن صالح مولى التوأمة، قال: سمعت ابن عباس يقول: سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء من أمر الصلاة؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خلل أصابع يديك ورجليك يعني: إسباغ الوضوء (¬1). [أرجو أن يكون حسناً] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث: حديث المستورد بن شداد. (864 - 93) رواه أحمد، قال: ثنا موسى بن داود قال: أنا بن لهيعة، عن يزيد بن عمرو، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن المستورد بن شداد صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ خلل أصابع رجليه بخنصره (¬1). [إسناده ضعيف تفرد به ابن لهيعة] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الرابع: (865 - 94) ما رواه الدارقطني من طريق مصعب بن المقدام وعبد الله ابن نمير، عن إسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل قال: رأيت عثمان بن عفان يتوضأ فغسل يديه ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، ومضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل ذراعيه ثلاثاً، ومسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، ثم غسل قدميه ثلاثاً، ثم خلل أصابعه وخلل لحيته ثلاثاً حين غسل وجهه، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل كالذي رأيتموني فعلت (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
أدلة القائلين بوجوب التخليل
أدلة القائلين بوجوب التخليل: الدليل الأول: (866 - 95) قال الحافظ في التلخيص (¬1): روى زيد بن أبي الزرقاء، عن الثوري، عن أبي مسكين، واسمه: حر بن مسكين، عن هزيل بن شرحبيل، عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً: لينهكن أحدكم أصابعه قبل أن تنهكه النار. [المحفوظ وقفه] (¬2). ويجاب عنه: بأن الأثر محمول على وجوب غسل ما بين الأصابع حتى لا يكون هناك موضع لم يصبه الماء جمعاً بين الأدلة، والله أعلم. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (867 - 96) ما رواه الدارقطني من طريق عمر بن قيس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، ويخلل بين أصابعه، ويدلك عقبيه، ويقول: خللوا بين أصابعكم لا يخلل الله تعالى بينها بالنار (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). الدليل الثالث: (868 - 97) استدلوا بما تقدم من حديث لقيط بن صبرة قال: قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء؟ قال: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً. [والحديث صحيح] (¬3). فقوله: «خلل» أمر، والأصل في الأمر الوجوب. قال الشوكاني في النيل: والأحاديث قد صرحت بوجوب التخليل، وثبتت من قوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله، ولا فرق بين إمكان وصول الماء بدون تخليل، وعدمه، ولا بين أصابع اليدين والرجلين، فالتقيد بأصابع الرجلين، أو بعدم إمكان وصول الماء لا دليل عليه. اهـ والقول بالوجوب فيه نظر؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما ذكر في القرآن الغسل، وحقيقته: جريان الماء على العضو، والتخليل زيادة عليه، فهو داخل في ¬
دليل التفريق بين أصابع اليدين والرجلين
الكمال، والأحاديث التي وصفت وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين وغيرهما كما في حديث عثمان وعبد الله بن زيد وابن عباس وغيرها لم يرد فيها ذكر التخليل، مع أن الصحابة في مقام البيان والتعليم، فلو كان واجباً لما أهملوا ذكره، والله أعلم. دليل التفريق بين أصابع اليدين والرجلين. قال الخرشي: وإنما وجب تخليل أصابع اليدين دون أصابع الرجلين لعدم شدة اتصال ما بينهما، بخلاف أصابع الرجلين، فأشبه ما بينهما الباطن لشدة اتصال ما بينهما. اهـ وذكر ابن العربي تعليلاً آخر، فقال: والحق أنه واجب في اليدين على القول بالدلك , غير واجب في الرجلين , لأن تخليلها بالماء يقرح باطنها , وقد شاهدنا ذلك , وما علينا في الدين من حرج في أقل من ذلك , فكيف في تخليل تتقرح به الأقدام؟ (¬1). قلت: لا فرق بينهما في وجوب جريان الماء بين الأصابع، فالتخليل زائد على الغسل، فيكون التخليل سنة فيهما، وأما كون بعض الأدلة قد تذكر أصابع الرجلين فقط كما في حديث المستورد بن شداد، فهو إن صح ذكر لفرد من أفراد العام أو المطلق، لا يقتضي تخصيص العام أو تقييد المطلق، وقد جاء في حديث ابن عباس النص على تخليل أصابع اليدين والرجلين، وهو حديث حسن إن شاء الله تعالى، وحديث لقيط بن صبرة: خلل بين الأصابع، وهو مطلق يشمل أصابع اليدين والرجلين، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع: في صفة تخليل الأصابع
المبحث الرابع: في صفة تخليل الأصابع اختلفوا في صفة التخليل للأصابع، فقيل: في اليدين بالتشبيك، وفي الرجلين يخلل بخنصر يده اليسرى بادئاً بخنصر رجله اليمنى من أسفل حتى يصل إلى إبهامها، ثم يبدأ بإبهام الرجل اليسرى خاتماً بخنصرها. هذه صفة التخليل عند الجمهور (¬1). وقيل: بل يخلل بخنصر يده اليمنى، اختاره القاضي أبو الطيب من الشافعية (¬2). وقيل: يخلل بكل أصابعه إلا الإبهامين؛ لما فيهما من العسر (¬3). وقيل: لا دليل على تعيين اليد اليمنى أو اليسرى للتخليل، فلا حجر على المتوضئ في استعمال اليمنى أو اليسرى. وهو اختيار إمام الحرمين (¬4). وهذه الأقوال قد يوجد لبعضها أدلة من عمومات ونحوها، فالبداءة باليمنى قد يستدل له بحديث عائشة رضي الله عنها، قال: ¬
كان يعجبه التيامن ما استطاع في تنعله وترجله وطهوره، في شأنه كله. وكون التخليل بالخنصر قد يستدل له بحديث المستورد بن شداد: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ دلك أصابع رجليه بخنصره. وهو حديث ضعيف، وسبق تخريجه (¬1). وأما كونه بخنصر اليد اليسرى فلم يثبت فيه عندي سنة، وكلام إمام الحرمين قوي، والله أعلم. ¬
الفصل السادس: في استحباب تحريك الخاتم الواسع
الفصل السادس: في استحباب تحريك الخاتم الواسع إذا كان على المتوضئ خاتم، فهل يجب تحريكه أو يعفى عنه؟. فقيل: إن تحقق وصول الماء إلى ما تحته استحب تحريكه، وصار ذلك بمنزلة التخليل، وإن لم يصل الماء إلى ما تحته إلا بخلعه أو تحريكه وجب ذلك. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: لا يجب عليه تحريك خاتمه. وهو منسوب إلى مالك رحمه الله (¬4). ¬
دليل الجمهور على وجوب نزع الخاتم الضيق
وقيل: يجب عليه تحريك الخاتم مطلقاً، ضيقاً كان واسعاً، اختاره بعض المالكية (¬1). دليل الجمهور على وجوب نزع الخاتم الضيق. الدليل الأول: فرض اليد غسلها من رؤوس الأصابع حتى نهاية المرفقين، وإذا بقي جزء من الأصبع لم يغسل، لم يقم بفرض الوضوء في اليد، وإذا كان الشارع توعد على ترك شيء من العقب لم يمسه الماء، فقال في الحديث المتفق على صحته: ويل للأعقاب من النار، فهذا مثله. الدليل الثاني: (869 - 98) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا عبد الملك بن محمد الرقاشي، حدثنا معمر بن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، حدثني أبي، عن عبيد الله بن أبي رافع، ¬
عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ حرك خاتمه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: قالوا: غسل الأصابع في الوضوء ثابت بالإجماع فلا يسقط غسلها إلا بمثله من نص أو إجماع، ولا يوجد نص ولا إجماع على سقوط غسل ما تحت الخاتم. دليل من قال: لا يجب عليه تحريكه ضيقاً كان أو واسعاً: قالوا: الخاتم يستدام لبسه، ويشق نزعه، ومقدر ما تحته يسير، فيعفى عنه كما عفي عن خلع العمامة، وشرع المسح عليها، وكما عفي عن نزع الخفين، وشرع المسح عليهما بشروطه، وكما عفي عن غسل ما تحت الشعر الكثيف. وأجيب: بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نزع يده من كمه حين ضاق كمه، فغسل يده ولم يمسح عليها، فلا يمسح إلا ما دل الدليل على مسحه، فهو غير مقيس، ثم إن القدم سقط غسله إلى بدل، وهو مسح الخف، والخاتم أسقطتم غسله إلى غير بدل، فأين الدليل على إسقاط غسله، ولم يقل أحد بمسح ظاهر الخاتم. ¬
الراجح من هذه الأقوال
الراجح من هذه الأقوال: القول بسقوط غسل ما تحت الخاتم فيه قوة، إلا أن القول بوجوب غسل ما تحته أقوى وأظهر من حيث الأدلة، وإذا كان الخاتم ضيقاً فيمكن للإنسان أن يقوم بتوسيع الخاتم حتى يسري الماء من تحته بلا كلفة، ولا يخاطر الإنسان في شرط الصلاة التي هي من أعظم أركان الإسلام العملية على الإطلاق.
مبحث: في ماء الأذنين
مبحث: في ماء الأذنين اختلف العلماء في ماء الأذنين، فقيل: السنة أن تمسح الأذنان بماء الرأس. وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: بل يستحب أخذ ماء جديد لهما، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ولو مسحهما بماء الرأس أجزأ عندهم، لكن الخلاف في تحصيل السنة. وقيل: الأذنان من الوجه، فيغسلان معه (¬5). وقيل: ما أقبل منهما من الوجه، وظاهرهما من الرأس (¬6). دليل من قال: إن الأذنين من الرأس فيمسحان بماء الرأس. الدليل الأول: (870 - 99) ما رواه النسائي من طريق ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، ¬
عن ابن عباس قال توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغرف غرفة فمضمض واستنشق ثم غرف غرفة فغسل وجهه ثم غرف غرفة فغسل يده اليمنى ثم غرف غرفة فغسل يده اليسرى ثم مسح برأسه وأذنيه باطنهما بالسباحتين وظاهرهما بإبهاميه ثم غرف غرفة فغسل رجله اليمنى ثم غرف غرفة فغسل رجله اليسرى (¬1). [رجاله ثقات إلا ابن عجلان فإنه صدوق، وأكثر الرواة على عدم ذكر مسح الأذنين] (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (871 - 100) ما رواه أحمد من طريق عباد بن منصور، عن عكرمة بن خالد المخزومي عن سعيد بن جبير، ¬
عن ابن عباس مرفوعاً في حديث طويل في مبيته عند خالته ميمونة وصلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: «ومسح برأسه وأذنيه مرة واحدة» (¬1). [إسناده ضعيف، والحديث في الصحيحين، وفيه ذكر الوضوء، إلا أنه لم يُفَصَّل وضوؤه] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (872 - 101) ما رواه عبد الرزاق، عن إسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن شقيق بن سلمة، قال: رأيت عثمان بن عفان توضأ، فغسل كفيه ثلاثاً ثلاثاً، ومضمض واستنشق واستنثر، وغسل وجهه ثلاثاً، قال: وحسبته قال: وذراعيه ثلاثاً، ثم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وغسل قدميه ثلاثاً ثلاثاً، وخلل أصابعه، وخلل لحيته حين غسل وجهه قبل أن يغسل قدميه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (873 - 102) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الربيع بنت معوذ ابن عفراء، قالت: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعنا له الميضأة، فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه مرتين بدأ بمؤخره وأدخل أصبعيه في أذنيه (¬1). [انفرد ابن عقيل بهذا الحديث عن الربيع، وعبد الله بن عقيل مختلف فيه، والأكثر على ضعفه، وأميل إلى تحسين حديثه بثلاثة شروط: ألا يخالف أو يأتي بما ينكر عليه، أو يكون حديثه أصلاً في الباب ولم يتابع] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: حديث عبد الله بن زيد. (874 - 103) رواه أحمد، قال: قال حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا عبد العزيز يعني ابن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال جاءنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجت إليه ماء فتوضأ فغسل وجهه ثلاثا ويديه مرتين مرتين ومسح ¬
برأسه أقبل به وأدبر ومسح بأذنيه وغسل قدميه (¬1). [رجاله ثقات، إلا أن ذكر مسح الأذنين في حديث عبد الله بن زيد شاذ] (¬2). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: حديث عبد الله بن عمرو. (875 - 104) أخرجه أبو داود، قال: حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله كيف الطهور فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم مسح برأسه فأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه وبالسباحتين باطن أذنيه ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا ثم قال هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم أو ظلم وأساء (¬1). [إسناده حسن، وزيادة (أو نقص) وهم من الراوي] (¬2). ¬
الدليل السابع
الدليل السابع: ما جاء صريحاً في أن الأذنين من الرأس، وهي أحاديث كثيرة: ولا يخلو كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - إما أن يكون المراد به تعريفنا بمواضع الأذنين، فهذا لا يجوز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعلمنا المشاهدات، وإنما يعلمنا الأحكام. أو يريد: أنهما يمسحان كالمسح بالرأس، وهذا أيضاً لا يجوز كما لا يجوز أن يقال: الخفان من الرأس على معنى أنهما يمسحان كما يمسح الرأس، والرجلان من الوجه على معنى يغسلان كالوجه. فثبت أن المراد من الأحاديث أنهما تابعان للرأس في باب المسح، وأنهما يمسحان بالماء الذي يمسح به الرأس (¬1)، ومن هذه الأحاديث: (876 - 105) ما رواه البزار في مسنده، قال: ثنا أبو كامل الجحدري، ثنا غندر، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الأذنان من الرأس (¬2). [الحديث معلول، ولا يصح حديث مرفوع في الباب، وإنما هو موقوف على بعض صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثامن
الدليل الثامن على أن الأذنين يمسحان مع الرأس: (877 - 106) ما رواه مالك في الموطأ، عن زيد بن أسلم، عن عطاء ابن يسار، عن عبد الله الصنابحي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ العبد المؤمن، فتمضمض خرجت الخطايا من فيه، وإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه، فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفار رجليه، قال: ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة (¬1). [رجاله ثقات إلا أنه مرسل، الصنابحي لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل من قال: يسن أخذ ماء جديد للأذنين
وجه الاستدلال: أن خروج الخطايا من الأذنين إنما كان ذلك بمسح الرأس، وهذا دليل على أنهما يمسحان معه بمائه، ولو كانا عضوين مستقلين يمسحان بماء جديد لما رتب على مسح الرأس خروج خطايا الأذنين. دليل من قال: يسن أخذ ماء جديد للأذنين. الدليل الأول: (878 - 107) ما رواه الحاكم من طريق الحسن بن سفيان، حدثنا حرملة بن يحيى، ثنا ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن حبان بن واسع، أن أباه حدثه أنه سمع عبد الله بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح أذنيه بغير الماء ¬
الذي مسح به رأسه (¬1). [المحفوظ في لفظ هذا الحديث: أنه مسح رأسه بماء غير فضل يديه] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (879 - 108) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني نافع، أن ابن عمر كان يغسل ظهور أذنيه وبطونهما إلا الصماخ مع الوجه مرة أو مرتين، ويدخل أصبعيه بعد ما يمسح برأسه في الماء، ثم يدخلهما في الصماخ مرة، وقال: فرأيته وهو يموت توضأ، ثم أدخل إصبعيه في الماء، فجعل يريد أن يدخلهما في صماخه فلا يهتديان ولا ينتهي حتى أدخلت أنا أصبعي في الماء، فأدخلتهما في صماخه (¬1). [وسنده صحيح] ويجاب عنه: بما قاله ابن المنذر: وقد كان ابن عمر يشدد على نفسه في أشياء من أمر وضوئه، من ذلك أخذه لأذنيه ماء جديداً، ونضحه الماء في عينيه، وغسل قدميه سبعاً سبعاً، وليس على الناس ذلك. ثم قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، ثنا سفيان، عن عمر بن محمد، عن نافع، قال: كان ابن عمر ¬
الدليل الثالث
يغسل قدميه سبعاً سبعاً (¬1). قال الحافظ: رواه ابن المنذر بإسناد صحيح (¬2). الدليل الثالث: قال الأصمعي والمفضل بن سلمة: الأذنان ليستا من الرأس، وهما إمامان من أئمة اللغة، والمرجع في اللغة إلى نقل أهلها (¬3). الدليل الرابع: قال النووي: الإجماع منعقد على أنه لا يجزئ مسحهما عن الرأس، يعني: فهذا دليل على أنهما ليسا من الرأس (¬4). الدليل الخامس: قال النووي: لو قصر المحرم من شعرهما لم يجزئه عن تقصير الرأس بالإجماع، يعني: ولو كانا من الرأس لأجزأ (¬5). الدليل السادس: قال النووي: ولأن الإجماع منعقد على أن البياض الدائر حول الأذن ليس من الرأس مع قربه فالأذن أولى , ولأنه لا يتعلق بالأذن شيء من أحكام الرأس سوى المسح , فمن ادعى أن حكمها في المسح حكم الرأس فعليه البيان (¬6). ¬
دليل من قال: الأذنان من الوجه
ويجاب عن ذلك كله: القول بأنهما عضوان مستقلان نظر عقلي في مقابل النص، فيكون نظراً فاسداً، وكون الأذنين لا يوخذ لهما ماء جديد، هذا حكم تلقيناه من الشارع في الوضوء، ولا يطرد هذا الحكم في كل العبادات كالإحرام وغيره إلا بنص، وكونهما عضوان مستقلان لا يمنع هذا من مسحهما من ماء واحد، يقابل ذلك أن الأنف والفم عضوان مستقلان ومع ذلك يتمضمض ويستنشق من كف واحدة، والله أعلم. دليل من قال: الأذنان من الوجه. لعله نظر إلى أن الأذنين تحصل بهما المواجهة، فأدخلهما في مسمى الوجه، وفي هذا نظر كبير. وكذلك من قال: إن باطنهما من الوجه وظاهرهما من الرأس أيضاً ليس له دليل أعلمه، والله أعلم.
الفصل السابع: من سنن الوضوء التيامن
الفصل السابع: من سنن الوضوء التيامن ذهب الفقهاء إلى أن التيامن في الوضوء سنة من سننه. وقيل: يكره البداءة باليسار، وهو مذهب الشافعي (¬1). وقيل: إن الترتيب بين اليمنى واليسرى واجب، نُسِب هذا القول للإمام الشافعي وأحمد، ولا يثبت عنهما (¬2). أدلة الاستحباب: الدليل الأول: الإجماع. قال ابن المنذر: «أجمعوا على أن لا إعادة على من بدأ بيساره قبل يمينه» (¬3). وقال ابن قدامة مثله (¬4). وقال النووي: «وأجمع العلماء على أن تقديم اليمين على اليسار من اليدين والرجلين في الوضوء سنة، لو خالفهما فاته الفضل، وصح وضوؤه» (¬5). اهـ ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (880 - 109) ما رواه البخاري، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني أشعث بن سليم، قال: سمعت أبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، في شأنه كله. ورواه مسلم بنحوه (¬1). ¬
الدليل الثالث
فقولها: «يعجبه» ظاهر في الاستحباب في ما ذكر من التنعل والترجل والطهور. الدليل الثالث: (881 - 110) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حسن وأحمد بن عبد الملك، قالا: حدثنا زهير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا لبستم وإذا توضأتم فابدءوا ¬
الدليل الرابع
بأيامنكم. وقال: أحمد بميامنكم (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الرابع: أحاديث الصحابة رضي الله عنهم التي وصفت وضوءه في الصحيحين وفي غيرهما كلها اتفقت على تقديم اليد اليمنى على اليد اليسرى، والرجل ¬
الدليل الخامس
اليمنى على الرجل اليسرى كحديث عثمان وعبد الله بن زيد، رضي الله عنهما، وهما في الصحيحين، وحديث ابن عباس وهو في البخاري وحديث علي رضي الله عنه وسبق تخريجه. الدليل الخامس: (882 - 111) من الآثار: ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، عن عوف، عن عبد الله بن عمرو بن هند، قال: قال علي: ما أبالي إذا أتممت وضوئي بأي أعضائي بدأت (¬1). [إسناده منقطع] (¬2). ¬
الدليل السادس
(883 - 112) ومنها ما رواه أبو عبيد، ثنا هشيم: قال: أخبرنا المسعودي، عن سلمة بن كهيل، عن أبي العبيدين، أن ناساً سألوا ابن مسعود عن الرجل يبدأ بمياسره قبل ميامنه في الوضوء، فقال: لا بأس به (¬1). [إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬2). الدليل السادس: قال تعالى: {وأيديكم إلى المرافق} وقال: {وأرجلكم إلى الكعبين} فجمع هذه الأعضاء، فتقديم الأيسر على الأيمن أو العكس لا يؤثر. قال أبو عبيد: حديث علي وعبد الله إنما هو في الأعضاء خاصة، وهذا جائز حسن؛ لأن التنزيل لم يأمر بيمين قبل يسار، ونما نزل بالجملة في ذكر الأيدي وذكر الأرجل، فهذا الذي أباح العلماء تقديم المياسر على الميامن (¬3). ¬
دليل من قال: بالوجوب
دليل من قال: بالوجوب. (884 - 113) استدل بما رواه أحمد، قال: حدثنا حسن وأحمد بن عبد الملك، قالا: حدثنا زهير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا لبستم وإذا توضأتم فابدءوا بأيامنكم. وقال أحمد: بميامنكم (¬1). [إسناده صحيح وسبق تخريجه] (¬2). وجه الاستدلال: إن الرسول أمر بالبداءة باليمين، والأصل في الأمر الوجوب حتى يأتي صارف يصرفه عن أصله، ولا صارف هنا. وسبق لنا أن القول بالوجوب لم يثبت عن أحمد والشافعي، وأن الصارف ما نقل من الإجماع على استحباب تقديم اليمين على اليسار، وأن من قدم يساره على يمينه في الوضوء فليس عليه إعادة. دليل من قال: بالكراهة. لم أعرف وجه الكراهة، ولا يلزم من ترك السنة الوقوع بالمكروه، ولعل وجه الكراهة عند الشافعي أنه خلاف الصفة التي داوم عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في وضوئه، والله أعلم. ¬
الفصل الثامن: من سنن الوضوء الغسلة الثانية والثالثة
الفصل الثامن: من سنن الوضوء الغسلة الثانية والثالثة استحب الجمهور الغسلة الثانية والثالثة لجميع أعضاء الوضوء ما عدا الرأس والأذنين فلا يكرر مسحهما، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والحنابلة (¬3). واستحب الشافعية الثلاث حتى في الرأس (¬4). وقيل: الوضوء ما أسبغ، وليس فيه توقيت مرة أو ثلاث، وهو نص المدونة عن مالك (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل من استحب الغسلة الثانية والثالثة فيما عدا الرأس
وهل الغسلة الثالثة أفضل من الثانية، والثانية أفضل من الواحدة مطلقاً؟ قيل: نعم (¬1). وقيل: من اعتاد الاقتصار على غسلة واحدة فإنه يأثم بذلك، اختاره بعض الحنفية (¬2). والصحيح أن الاقتصار على غسلة واحدة لا يكره، فضلاً عن كونه يأثم. والأفضل أن يتوضأ أحياناً مرة مرة، وأحياناً مرتين مرتين وأحياناً ثلاثاً ثلاثاً، وأحياناً يخالف بين الأعضاء فيغسل بعضها ثلاثاً وبعضها مرتين وبعضها مرة ليفعل السنة على جميع وجوهها (¬3). دليل من استحب الغسلة الثانية والثالثة فيما عدا الرأس. الدليل الأول: (885 - 114) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، أن عطاء بن يزيد أخبره، أن حمران مولى عثمان أخبره، أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار ثم مسح برأسه ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين ثم قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه. ورواه مسلم (¬4). ¬
الدليل الثاني
وجه الاستدلال: الحديث دليل على استحباب الثلاث غسلات، وأن السنة في الرأس مسحة مرة واحدة. الدليل الثاني: (886 - 115) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا زائدة ابن قدامة، عن خالد بن علقمة، حدثنا عبد خير قال: جلس علي بعد ما صلى الفجر في الرحبة، ثم قال لغلامه: ائتني بطهور فأتاه الغلام بإناء فيه ماء وطست. قال عبد خير: ونحن جلوس ننظر إليه، فأخذ بيمينه الإناء فأكفأه على يده اليسرى، ثم غسل كفيه، ثم أخذ بيده اليمنى الإناء فأفرغ على يده اليسرى، ثم غسل كفيه فعله ثلاث مرار قال عبد خير: كل ذلك لا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات ثم أدخل يده اليمنى في الإناء، فمضمض، واستنشق ونثر بيده اليسرى فعل ذلك ثلاث مرات. الحديث وفي آخره قال: هذا طهور نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن أحب أن ينظر إلى طهور نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا طهوره (¬1). [رجاله ثقات وسبق تخريجه والكلام على متنه] (¬2). وجه الدلالة من هذا الحديث كالحديث السابق على استحباب الثلاث فيما عدا الرأس. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (887 - 116) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الربيع بنت معوذ ابن عفراء قالت أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعنا له الميضأة فتوضأ ثلاثا ثلاثا ومسح برأسه مرتين بدأ بمؤخره وأدخل أصبعيه في أذنيه (¬1). [سبق تخريجه] (¬2). الدليل الرابع: (888 - 117) أخرجه أبو داود، قال: حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله كيف الطهور فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم مسح برأسه فأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه وبالسباحتين باطن أذنيه ثم غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً ثم قال: هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم أو ظلم وأساء. [إسناده حسن، وسبق الكلام عليه، والإشارة إلى أن لفظ: (أو نقص) وهم من الراوي] (¬3). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: من النظر قالوا: الدليل على أن الرأس لا يشرع له التثليث أن الأصل في المسح التخفيف، ولذلك لا يمسح الوجه في التيمم ولا يمسح الخف في الوضوء، ولأن تكراره يؤدي إلى أن يصير المسح غسلاً فينافي مقصود الشارع من التخفيف في طهارته. دليل من قال: يستحب التثليث في الرأس. (889 - 118) ما رواه مسلم، من طريق أبي أنس (مالك بن عامر الأصبحي) أن عثمان توضأ بالمقاعد، فقال: ألا أريكم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً .... فقوله: «توضأ ثلاثاً ثلاثاً» يشمل ما يغسل وما يمسح. وأجيب: بأن الأحاديث التي ذكروا فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثاً ثلاثاً أرادوا فيها ما سوى المسح، فإن رواتها حين فصلوا قالو: ومسح برأسه مرة واحدة، والتفصيل يحكم به على الإجمال، ويكون تفسيراً له، ولا يعارض به، كالخاص مع العام (¬1). وقال البيهقي تعليقاً على رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثاً ثلاثاً، قال: وعلى هذا اعتمد الشافعي في تكرار المسح، وهذه روايات مطلقة، والروايات الثابتة المفسرة تدل على أن التكرار وقع فيما عدا الرأس من الأعضاء، وأنه مسح برأسه مرة واحدة (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (890 - 119) ما رواه أبو داود، من طريق يحيى بن آدم، قال: حدثنا إسرائيل، عن عامر بن شقيق بن حمزة، عن شقيق بن سلمة، قال: رأيت عثمان بن عفان غسل ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ومسح رأسه ثلاثاً، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل هذا. [إسناد ضعيف وذكر التثليث في مسح الرأس منكر] (¬1). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (891 - 120) ما رواه الدارقطني من طريق صالح بن عبد الجبار، ثنا البيلماني، عن أبيه، عن عثمان بن عفان أنه توضأ بالمقاعد، والمقاعد بالمدينة حيث يصلى على الجنائز عند المسجد، فغسل كفيه ثلاثاً ثلاثاً، واستنثر ثلاثاً ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاثاً، ومسح برأسه ثلاثاً، وغسل قدميه ثلاثاً، وسلم عليه رجل، وهو يتوضأ، فلم يرد عليه حتى فرغ، فلما فرغ كلمه معتذراً إليه، وقال: لم يمنعني أن أرد عليك إلا أنني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من توضأ هكذا، ولم يتكلم، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله غفر له ما بين الوضوئين (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (892 - 121) ما رواه الدارقطني من طريق أبي كريب، نا مسهر بن عبد الملك بن سلع، عن أبيه، عن عبد خير، عن علي رضي الله عنه أنه توضأ ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه وأذنيه ثلاثاً، وقال: هكذا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحببت أن أريكموه (¬1). [إسناده ضعيف، والمعروف من هذا الحديث أن المسح مرة] (¬2). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (893 - 122) ما رواه البيهقي، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا عباس بن الفضل، ثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا ابن وهب، عن ابن جريج، عن محمد بن علي بن حسين، عن أبيه، عن جده، ¬
عن علي أنه توضأ، فغسل وجهه ثلاثاً، وغسل يديه ثلاثاً، ومسح برأسه ثلاثاً، وغسل رجليه ثلاثاً، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ (¬1). [رجاله ثقات إلا أن رواية ابن وهب عن ابن جريج متكلم فيها وقد خولف ابن وهب في هذا الحديث] (¬2). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (894 - 123) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمود بن علي، ثنا أحمد بن محمد بن أبي بكر السالمي، ثنا إسحاق بن محمد الفروي، عن يزيد بن عبد الملك، عن أبي موسى الحناط، عن محمد بن المنكدر، عن أنس بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ أحدكم فليمضمض ثلاثاً، فإن الخطايا تخرج من وجهه، ويغسل وجهه ويديه ثلاثاً، ويمسح برأسه ثلاثاً، ثم يدخل يديه في أذنيه، ثم يفرغ على رجليه ثلاثاً. قال الطبراني: لم يروه عن ابن المنكدر إلا أبو موسى، واسمه عيسى بن أبي عيسى، تفرد به يزيد (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل من قال: يمسح رأسه مرتين
قال الشوكاني رحمه الله: والإنصاف أن أحاديث الثلاث لم تبلغ درجة الاعتبار حتى يلزم التمسك بها لما فيها من الزيادة، فالوقوف على ما صح من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما من حديث عثمان وعبد الله بن زيد وغيرهما هو المتعين لا سيما بعد تقييده في تلك الروايات السابقةبالمرة الواحدة (¬1). اهـ دليل من قال: يمسح رأسه مرتين. (895 - 124) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الربيع بنت معوذ، قال: قالت: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوضعنا له الميضأة، فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه مرتين، بدأ بمؤخره، وأدخل أصبعيه في أذنيه. [سبق تخريجه في أدلة القول الأول] (¬2). الدليل الثاني: (896 - 125) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو ابن يحيى، عن أبيه، ¬
عن عبد الله بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فغسل وجهه ثلاثاً، ويديه مرتين، ومسح برأسه ورجليه مرتين (¬1). [الحديث رجاله ثقات إلا أن ابن عيينة أخطأ في هذا الحديث من وجهين] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الراجح: أن الرأس لا يمسح إلا مرة واحدة، وأما ما يتعلق بسائر الأعضاء فالراجح فيه أنه يتوضأ أحياناً مرة مرة، وأحياناً مرتين مرتين، وأحياناً ثلاثاً ثلاثاً، وأحياناً يخالف بين أعضائه، فيغسل بعضها مرتين وبعضها مرة في فعل واحد، هكذا جاءت السنة: أما الوضوء ثلاثاً ثلاثاً فقد ذكرنا أدلته من حديث عثمان في الصحيحين وغيرهما. (897 - 126) وأما الوضوء مرة مرة، فقد أخرجه البخاري وغيره من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وهو ظاهر القرآن فإن آية المائدة أمرت بغسل الأعضاء الأربعة، ولم تذكر عدداً، فمن غسل أعضاء الوضوء مرة واحدة فقد أدى ما افترض الله عليه، قال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ¬
الدليل على استحباب مرتين مرتين
فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (¬1). وأما الدليل على استحباب مرتين مرتين. (898 - 127) ما رواه البخاري، من طريق فليح بن سليمان، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين مرتين (¬2). وهذا الحديث غير حديث عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد فإن مخرج الحديث مختلف. وله شاهد من حديث أبي هريرة، (899 - 128) رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا زيد بن الحباب، عن عبد الرحمن بن ثوبان، عن عبد الله بن الفضل، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين مرتين (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬
وأما الدليل على استحباب غسل بعض الأعضاء مرة وبعضها مرتين وبعضها ثلاثاً، (900 - 129) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أن رجلا قال لعبد الله بن زيد وهو جد عمرو بن يحيى أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا بماء فأفرغ على يديه فغسل مرتين ثم مضمض واستنثر ثلاثاً ثم ¬
غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه ثم غسل رجليه. ورواه مسلم (¬1). فهل كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين وثلاثاً ثلاثاً هل يفهم من ذلك أنه فعله لبيان الجواز، وأن الثلاث أفضل مطلقاً لكونها أكثر من غيرها؟ أو يكون ذلك من باب تنوع العبادة، ويكون الاستحباب أن يفعل هذا مرة وهذا مرة وهذا مرة؟ قولان لأهل العلم. فقيل: إن الثلاث أكمل من الثنتين، والثنتان أكمل من الواحدة والاقتصار على الواحدة دليل على الإجزاء. قال النووي: قد أجمع المسلمون على أن الواجب في غسل الأعضاء مرة مرة، وأن الثلاث سنة، وقد جاءت الأحاديث بالغسل مرة مرة، ومرتين مرتين وثلاثاً ثلاثاً، وبعض الأعضاء ثلاثاً وبعضها مرتين والاختلاف دليل على جواز ذلك كله، وأن الثلاث هي الكمال، والواحدة تجزئ. والصحيح: أن ذلك من باب تنوع العبادة، وأن السنة أن يفعل كل هذه الأفعال؛ لإصابة السنة من جميع وجوهها الواردة، فإن الكمال أن يفعل المسلم ما يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (¬2)، وتمام المتابعة أن يفعل هذا مرة، وهذا مرة، وهذا مرة كما فعل المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحتى لا تكون العبادة من قبيل العادة، شأنها شأن العبادات التي وردت من وجوه مختلفة كدعاء الاستفتاح وأنواع التشهد ونحوهما. ¬
وهل تكرار هذه الأعضاء في بعضها مرة، وفي بعضها مرتين، وفي بعضها ثلاث، هل هو على سبيل التشهي؟ أو السنة أن يكون التكرار موافقاً للتكرار الوارد في السنة؟ فما ورد أنه غسل مرة يغسل مرة، وما ورد أنه غسل مرتين يغسله مرتين وهكذا، لا شك أن الأولى الثاني، وإن فعل الأول فلا بأس حيث قد ورد غسل هذه الأعضاء من حيث الجملة مرة ومرتين وثلاثاً، والله أعلم.
الفصل التاسع: استحباب الاقتصاد في الماء وعدم الإسراف فيه
الفصل التاسع: استحباب الاقتصاد في الماء وعدم الإسراف فيه اعتبر الحنفية الاقتصاد في ماء الوضوء من آداب الوضوء (¬1). وقيل: إن كان الماء موقوفاً على من يتطهر أو يتوضأ فإن الإسرف حرام، وكذلك الزيادة على الثلاث، قال ابن نجيم من الحنفية: بلا خلاف (¬2). وقيل: الاسراف في ماء الوضوء مكروه، وعليه أكثر أهل العلم (¬3). ¬
دليل من قال بالتحريم
وقيل: يحرم، اختاره البغوي والمتولي من الشافعية (¬1) وأومأ إليه ابن تيمية (¬2). دليل من قال بالتحريم: الدليل الأول: (901 - 130) ما أخرجه أبو داود، قال: حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله كيف الطهور؟ فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم مسح برأسه فأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه وبالسباحتين باطن أذنيه ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا ثم قال هكذا ¬
الدليل الثاني
الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم أو ظلم وأساء. [إسناده حسن، وزيادة (أو نقص) وهم من الراوي، وسبق تخريجه] (¬1). الدليل الثاني: (902 - 131) ما رواه أحمد، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن سعيد الجريري، عن أبي نعامة، أن عبد الله بن مغفل سمع ابناً له يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض من الجنة إذا دخلتها عن يميني، قال فقال له: يا بني سل الله الجنة، وتعوذه من النار؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: سيكون من بعدي قوم من هذه الأمة يعتدون في الدعاء والطهور (¬2). [رجاله ثقات، إلا أن فيه انقطاعاً] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ولذلك قال ابن المبارك: لا آمن إذا زاد في الوضوء على الثلاث أن يأثم. ¬
دليل من قال: بالكراهة
وقال أحمد وإسحاق: لا يزيد على الثلاث إلا رجل مبتلى. اهـ يعني: مبتلى بمرض الوسوسة، أعاذنا الله وإياكم منها. دليل من قال: بالكراهة. قال الشوكاني: لا خلاف في كراهة الزيادة على الثلاث. والحق أن في ذلك خلافاً على ما تبين، فمنهم من اعتبر الاقتصاد من الآداب التي يؤجر على فعلها، ولا يلزم من الإخلال بها الوقوع في المكروه كما يراه بعض الحنفية. ولقد قال الشافعي في الأم: لا أحب للمتوضئ أن يزيد على الثلاث، وإن زاد لم أكرهه إن شاء الله تعالى. ومنهم من رأى تحريم الزيادة كما حررت ذلك عند ذكر الأقوال. دليل من اعتبر الاقتصاد من الآداب. لعله رأى أن ترك السنة لا يلزم منه الوقوع في المكروه، وهذا حق لولا أنه جاء من الأحاديث ما يدل على ذم الزيادة على الثلاث، والله أعلم. الراجح: أما بالنسبة للعدد، فالزيادة على الثلاث إن لم تكن محرمة فهي مكروهة كراهة شديدة؛ لأنه قد ورد النهي عن الزيادة على الثلاث، وهو أكثر ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما بالنسبة لمقدار الماء المستعمل في الوضوء فلم يأت له حد من الشرع، بحيث لا يتجاوزه الإنسان، والناس يختلفون في هذا بدانة ونحافة، والمياه في عصرنا تأتي عن طريق الصنابير التي تدفع الماء دفعاً، لا يمكن معه
التقيد بالمقدار الوارد إلا أن يأخذ الإنسان الماء في إناء، ويغلق الصنبور، وقد لا يتوفر الإناء في كل مكان، والأحاديث الواردة في مقدار وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها تدل على أن كمية الماء ليس فيها حد بمقدار معين، وإنما الأمر تقريبي. أما قول الشيخ عز الدين بن عبد السلام: للمتوضئ والمغتسل ثلاث أحوال: الأول: أن يكون معتدل الخلق كاعتدال خلقه - صلى الله عليه وسلم -، فيقتدي به في اجتناب النقص عن المد والصاع. الثاني: أن يكون ضئيلاً نحيف الخلق، بحيث لا يعادل جسده جسد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيستحب له أن يستعمل ما تكون نسبته إلى جسده كنسبة المد والصاع إلى جسده - صلى الله عليه وسلم -. الثالث: أن يكون متفاحش الخلق طولاً وعرضاً، وعظم البطن وثخانة الأعضاء، فيستحب أن لا ينقص عن مقدار تكون النسبة إلى بدنه كنسبة المد والصاع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فاحتساب هذه النسبة التي ذكرها عز الدين بن عبد السلام من المشقة التي لم نؤمر بها، ومن يعرف دقة هذه النسبة، بل إن الآثار تدل على أن لا تقدير في الباب. (903 - 132) فمنها حديث أنس رضي الله عنه، عند البخاري (¬1)، ومسلم (¬2)، «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد». (904 - 133) ومنها حديث عائشة في مسلم، عن حفصة بنت عبد ¬
الرحمن بن أبي بكر «أن عائشة أخبرتها أنها كانت تغتسل هي والنبي - صلى الله عليه وسلم - في إناء واحد يسع ثلاثة أمداد، أو قريباً من ذلك» (¬1). (905 - 134) ومنها حديث عبد الله بن زيد: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بثلثي مد، فتوضأ، فجعل يدلك ذراعيه (¬2). ¬
فتبين من هذه الأحاديث أن لا تقدير للوضوء بحد لا يجوز النقص عنه أو الزيادة عليه. قال الحافظ في شرحه لحديث أنس المتقدم: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، قال: فيه رد على من قدر الوضوء والغسل بما ذكر في حديث الباب - يعني الصاع والمد - كابن شعبان من المالكية وكذا من قال به من الحنفية مع مخالفتهم لهم في مقدار المد والصاع، وحمله الجمهور على الاستحباب؛ لأن أكثر من قدر وضوءه وغسله - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة قدرهما بذلك، الخ كلامه رحمه الله (¬1). ¬
الفصل العاشر: في مسح العنق
الفصل العاشر: في مسح العنق قيل: يستحب في الوضوء مسح العنق، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب الشافعية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3). وقيل: لا يستحب، وهذا مذهب الجمهور، وهو الصحيح (¬4). دليل الحنفية على استحباب مسح العنق: (906 - 135) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال حدثني أبي قال: حدثنا ليث، عن طلحة، عن أبيه، عن جده، أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح رأسه حتى بلغ القذال وما يليه من مقدم العنق بمرة (¬5). ¬
قال: القذال السالفة العنق. [إسناده ضعيف] (¬1). ¬
الدليل الثاني: (907 - 136) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه، أن رجلا قال لعبد الله بن زيد، وهو جد عمرو بن يحيى، أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟. فقال عبد الله بن زيد: نعم، وفيه: ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: قد ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح قفاه عند مسح رأسه، والعنق يدخل في القفا. ولا يصح هذا الاستدلال: لأن قوله: بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، فالضمير في قفاه يعود إلى أقرب مذكور، وهو الرأس، والعنق ليس من الرأس. الدليل الثالث: (908 - 137) قال أبو نعيم في تاريخ أصبهان: ثنا محمد بن أحمد، ثنا عبد الرحمن بن داود، ثنا عثمان بن خرزاد، ثنا عمر بن محمد بن الحسن، ثنا محمد بن عمرو الأنصاري، عن أنس بن سيرين، عن ابن عمر أنه كان إذا توضأ مسح عنقه، ويقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:من توضأ، ومسح عنقه لم يغل بالأغلال يوم القيامة (¬2). [لا يثبت في مسح العنق حديث مرفوع] (¬3). ¬
دليل الجمهور على عدم استحباب مسح العنق
دليل الجمهور على عدم استحباب مسح العنق. قالوا: لم يثبت في مسح العنق شيء، والأصل عدم المشروعية، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يرد فيه مسح العنق، وإذا لم يثبت فيه شيء كان التقرب به بدعة للحديث من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد، وهذا القول هو الصحيح. ¬
مبحث: في كيفية مسح العنق عند القائلين به
مبحث: في كيفية مسح العنق عند القائلين به اختلف القائلون باستحباب مسح الرقبة، هل تمسح ببقية ماء الرأس أو بماء جديد؟ على قولين. فمنهم من رأى أنها تمسح بماء الرأس، باعتبار أن الرقبة تابعة للرأس حكماً فهي عضو طهارته مسحه، ومتصلة بالرأس كاتصال الأذنين به. ومنهم من رأى أنها تمسح بماء جديد، فالخلاف فيها كالخلاف في الأذنين (¬1). وقد ترجح أن الرقبة لا يشرع في حقها المسح، ولو كان مشروعاً لمسحت بماء الرأس كما هو الراجح في الأذنين والله أعلم. ¬
الفصل الحادي عشر: من سنن الوضوء دلك أعضاء الوضوء
الفصل الحادي عشر: من سنن الوضوء دلك أعضاء الوضوء اختلف العلماء في حكم دلك أعضاء الوضوء: فذهب الجمهور إلى أن الدلك مستحب في طهارة الحدث، وليس بواجب (¬1). وقيل: الدلك شرط، وإلى هذا ذهب مالك (¬2)، والمزني (¬3)، ¬
دليل الجمهور
وهو مذهب عطاء رحمه الله (¬1). دليل الجمهور: الدليل الأول: (909 - 138) ما رواه البخاري بإسناده عن عمران بن حصين من حديث طويل، وفيه: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالناس فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم، قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء. قال عليك بالصعيد فإنه يكفيك، ثم قال له بعد أن حضر الماء: اذهب فأفرغه عليك. الحديث (¬2). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يطلب منه إلا إفراغ الماء على جسده، ولو كان الدلك شرطاً في الطهارة لأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم -، خاصة أنه كان يجهل أن التيمم رافع للحدث، وتأخير البيان عن وقته لا يجوز. الدليل الثاني: (910 - 139) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر كلهم، عن ابن عيينة. قال إسحاق: أخبرنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، ¬
الدليل الثالث
عن أم سلمة، قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬1). فقوله: «إنما كان يكفيك» ساقه مساق الحصر، وقوله: «ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين» دليل أن الدلك ليس شرطاً في الطهارة وإلا لما طهرت بمجرد إفاضة الماء، وإذا لم يكن الدلك شرطاً في الطهارة الكبرى لم يكن شرطاً في الطهارة الصغرى من باب أولى. الدليل الثالث: من النظر، قال ابن قدامة: «ولأنه غسل واجب، فلم يجب فيه إمرار اليد كغسل النجاسة» اهـ. ولأنه لا يقصد من غسل الجنابة النظافة، بدليل أنه لو اغتسل وتنظف بالمنظفات، ثم جامع وجب عليه الغسل، فالمراد به التعبد، فلا يكون الدلك شرطاً فيه. دليل المالكية على وجوب الدلك. قالوا: إن الله سبحانه وتعالى أمر بغسل أعضاء الوضوء، والدلك شرط في حصول مسمى الغسل، فلا يكون هناك غسل إلا إذا كان معه دلك، فليس المطلوب هو وصول الماء إلى هذه الأعضاء، بل المطلوب إيصال الماء إلى الجسد على وجه يسمى غسلاً، ولا يتحقق هذا إلا بالدلك (¬2). ¬
قال عطاء في الجنب يفيض عليه الماء؟ قال: لا، بل يغتسل غسلاً؛ لأن الله تعالى قال: {حتى تغتسلوا} ولا يقال: اغتسل إلا لمن دلك نفسه (¬1). وهذا القول ليس عليه دليل، والصحيح أن الغسل هو جريان الماء على العضو وقد شهد لذلك حديث عمران بن الحصين وحديث أم سلمة المتقدمان. قال ابن حزم: من غمس أعضاء الوضوء في الماء ونوى به الوضوء للصلاة , أو وقف تحت ميزاب حتى عمها الماء ونوى بذلك الوضوء للصلاة, أو صب الماء على أعضاء الوضوء للصلاة, أو صب الماء على أعضاء الوضوء غيره ونوى هو بذلك الوضوء للصلاة أجزأه. برهان ذلك أن اسم «غسل» يقع على ذلك كله في اللغة التي بها نزل القرآن, ومن ادعى أن اسم الغسل لا يقع إلا على التدلك باليد فقد ادعى ما لا برهان له به (¬2). الدليل الثاني: القياس على طهارة التيمم، قال المزني: ولأن التيمم يشترط فيه إمرار اليد فكذلك هنا. وأجيب: قال ابن قدامة: وأما قياسه على التيمم فبعيد؛ لأن التيمم أمرنا فيه بالمسح، والمسح لا يكون إلا باليد، ويتعذر في الغالب إمرار التراب إلا باليد. ¬
الفصل الثاني عشر: في إطالة الغرة والتحجيل
الفصل الثاني عشر: في إطالة الغرة والتحجيل المبحث الأول: في تعريف الغرة والتحجيل الغُرة: بالضم بياض في الجبهة. وفي الصحاح في جبهة الفرس. وقال ابن سيده: وعندي: أن الغرة نفس القدر الذي يشغله البياض من الوجه، لا أنه البياض. وقيل: الأغر: الأبيض من كل شيء. ثم استعيرت , فقيل في أكْرَم كلّ شيء: غُرّته وفلان غرة قومه: أي سيدهم. ورجل أغر: أي شريف. وغُرَّةُ كل شيء أوله وأكرمه. والغُرَّةُ: العبد والأمة وفي الحديث قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنين بغُرّة. وكأنه عبَّر عن الجسم كله بالغُرَّة. ورجل غِرٌّ بالكسر وغَرِيرٌ أي غير مُجرب وجارية غِرَّةٌ وغَرِيرَةٌ وغِرٌّ أيضا بيِّنة الغَرَارَةُ بالفتح وقد غَرَّ يغِر بالكسر غَرَارَةً بالفتح. والاسم: الغِرَّةُ بالكسر والغِرّة أيضا الغفلة (¬1). والتحجيل: المحجل: هو: هو الذي يَرْتَفع البياض في قَوائمه إلى مَوْضِع القَيْد, ويُجَاوِز الأرْسَاغ ولا يُجِاوِز الركْبَتَيْن , لأنَّهُما مواضِع الأحْجَال وهي الخَلاخِيل والقُيُود, ولا يكون التَّحْجيل باليد واليدين ما لم يكُنْ معَها رِجْل أو رِجْلاَن. ¬
ومنه الحديث أمَّتي الغُرُّ المُحَجَّلُون أي بيضُ مَواضع الوُضوء من الأيْدي والوجْه والأقْدام, اسْتَعار أثرَ الوضوء في الوجْه واليَدَين والرّجْلين للإنسان من البَياضِ الذي يكون في وجْه الفَرس ويَدَيْه ورجْلَيْه. وفي حديث علي رضي الله عنه أنه قال له رجُل: إنّ اللُّصُوص أخَذُوا حِجْلَي امْرَأتي أي خَلْخَالَيه (¬1). قال العلماء: سمي النور الذي يكون على مواضع الوضوء يوم القيامة غرة وتحجيلاً تشبيهاً بغرة الفرس. وتطويل الغرة: قيل: هو غسل شيء من مقدم الرأس وما يجاوز الوجه زائد على الجزء الذي يجب غسله؛ لاستيقان كمال الوجه، وأما تطويل التحجيل: فهو غسل ما فوق المرفقين والكعبين. ¬
المبحث الثاني: خلاف العلماء في استحباب إطالة الغرة والتحجيل
المبحث الثاني: خلاف العلماء في استحباب إطالة الغرة والتحجيل. اختلف أهل العلم في إطالة الغرة والتحجيل، فقيل: تشرع إطالة الغرة والتحجيل، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: لا يشرع إطالتهما، وهو مذهب المالكية (¬4)، واختاره ابن القيم (¬5). وقيل: تشرع إطالة التحجيل دون الغرة (¬6). دليل من قال: تشرع إطالة الغرة والتحجيل. (911 - 140) ما رواه مسلم من طريق نعيم بن عبد الله المجمر، قال: رأيت أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم ¬
دليل من قال: لا تشرع إطالتهما
مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله (¬1). دليل من قال: لا تشرع إطالتهما. من ذهب إلى أن الغرة والتحجيل لا يشرعان في الوضوء رأى أن لفظ: فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله مدرجة في الحديث، وأن هذا اللفظ من قول أبي هريرة. قال الحافظ رحمه الله: «لم أر هذه الجملة في رواية أحد ممن روى هذا الحديث من الصحابة وهم عشرة، ولا ممن رواه عن أبي هريرة غير رواية نعيم هذه - يعني: نعيم بن عبد الله المجمر، عن أبي هريرة» (¬2). اهـ وقال ابن القيم: «لم يثبت عنه - أي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تجاوز المرفقين والكعبين، ولكن أبو هريرة كان يفعل ذلك، ويتأول حديث إطالة الغرة، وأما حديث أبي هريرة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه غسل يديه حتى أشرع في العضدين، ورجليه حتى أشرع في الساقين فهو إنما يدل على إدخال المرفقين والكعبين في الوضوء، ولا يدل على مسألة الإطالة» اهـ (¬3). ¬
دليل من قال: تشرع إطالة التحجيل دون الغرة
والذي يدل على أنه فهمٌ من أبي هريرة، (912 - 141) ما رواه مسلم، من طريق أبي حازم، قال: كنت خلف أبي هريرة، وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمد يده حتى تبلغ إبطه، فقلت: يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فروخ!! أنتم ها هنا؟ لو علمت أنكم ها هنا ما توضأت هذا الوضوء، سمعت خليلي يقول: تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء (¬1). وفي البخاري عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، «ثم دعا بتور من ماء، فغسل يديه حتى بلغ إبطه، فقلت: أشيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: منتهى الحلية» (¬2). ففهم أبو هريرة أن الحلية ممكن زيادتها إذا زيد في غسل اليدين والرجلين، مع أن لفظ الحديث تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء: المقصود به الوضوء الشرعي المحدود في كتاب الله سبحانه، بدليل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يجاوز الحد الذي حده الله له في قوله: {وأيديكم إلى المرافق} {وأرجلكم إلى الكعبين}، والله أعلم. دليل من قال: تشرع إطالة التحجيل دون الغرة. قالوا: أولاً: أن إطالة الغرة جاء بلفظ قال فيه المحققون: بأنه مدرج من كلام أبي هريرة، لكن إطالة التحجيل جاء بلفظ مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، (913 - 142) ففي مسلم من طريق نعيم بن عبد الله المجمر، قال: ¬
الراجح
رأيت أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ ..... الحديث (¬1). فقوله: «هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ» دليل على أن هذا الوضوء بهذه الصفة مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس مدرجاً من كلام أبي هريرة. ولكن سبق جواب ابن القيم عليه، فهو إنما يدل على إدخال المرفقين والكعبين في الوضوء، ولا يدل على مسألة الإطالة، والله أعلم. ثانياً: لا يمكن الإطالة إلا في اليد والساق، بخلاف الوجه؛ فإن الوجه يجب استيعابه (¬2). الراجح: بعد استعراض الأقوال نجد أن القول بعدم المشروعية أقوى وأرجح من حيث الدليل، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث عشر: في تنشيف أعضاء الوضوء بمنديل ونحوه
الفصل الثالث عشر: في تنشيف أعضاء الوضوء بمنديل ونحوه ذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والحنابلة (¬3)، إلى أنه لا بأس بالتمسح بالمنديل بعد الوضوء والغسل، وهو قول في مذهب الشافعية (¬4). وقيل: يكره في الوضوء والغسل، وهو رواية في مذهب الحنابلة (¬5). وقيل: يكره في الوضوء دون الغسل، وهو قول ابن عباس (¬6). وفي مذهب الشافعية خمسة أوجه، ذكرها النووي، وهي: أشهرها: أن المستحب تركه، ولا يقال فعله مكروه. والثاني: أنه مكروه. والثالث: أنه مباح يستوي فعله وتركه. والرابع: أنه مستحب لما فيه من الاحتراز من الأوساخ. والخامس: يكره في الصيف دون الشتاء (¬7). ¬
دليل من قال: بكراهة التنشيف
وقبل ذكر الآثار في المسألة ينبغي أن يعلم ما يأتي: أولاً: أن الإجماع منقول على أن التنشيف لا يحرم، نقل الإجماع المحاملي. ثانياً: إذا كان هناك حاجة إلى التنشيف فلا كراهة قطعاً، كما لو كان هناك برد شديد. دليل من قال: بكراهة التنشيف. (914 - 143) ما رواه البخاري، حدثنا يوسف بن عيسى، قال: أخبرنا الفضل بن موسى، قال: أخبرنا الأعمش، عن سالم، عن كريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس، عن ميمونة قالت: وَضَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءاً لجنابة، فأكفأ بيمينه على شماله مرتين أو ثلاثاً، ثم غسل فرجه، ثم ضرب يده بالأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثاً، ثم مضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه، ثم أفاض على رأسه الماء، ثم غسل جسده، ثم تنحى فغسل رجليه، قالت: فأتيته بخرقة فلم يردها، فجعل ينفض بيده (¬1). وفي رواية ثم أتي بمنديل فلم ينفض بها (¬2). ولفظ مسلم: ثم أتيته بالمنديل فرده (¬3). ¬
وأجيب بما يلي: قال ابن رجب: استدل بعضهم برد النبي - صلى الله عليه وسلم - الثوب على كراهة التنشيف، ولا دلالة فيه على الكراهة، بل على أن التنشيف ليس مستحباً، ولا أن فعله هو أولى، ولا دلالة للحديث على أكثر من ذلك، كذا قال الإمام أحمد وغيره من العلماء. اهـ وقال ابن حجر: استدل بعضهم بقوله: «فناولته ثوباً فلم يأخذه» على كراهة التنشيف بعد الغسل، ولا حجة فيه؛ لأنها واقعة حال يتطرق إليها الاحتمال، فيجوز أن يكون عد الأخذ لأمر أخر لا يتعلق بكراهة التنشيف، بل لأمر يتعلق بالخرقة، أو لكونه كان مستعجلاً، أو غير ذلك. قال المهلب: يحتمل تركه الثوب لإبقاء بركة الماء، أو للتواضع أو لشيء رآه في الثوب من حرير أو وسخ، وقال أيضاً عن ابن دقيق العيد بأن نفضه الماء بيديه يدل على أن لا كراهة للتنشيف؛ لأن كلاً منهما إزالة. وقال إبراهيم النخعي: إنما رده لئلا تصير عادة)). اهـ قلت: كل هذه الاحتمالات واردة وإن كان الأصل عدمها، وأجود ما يقال: بأن رده للتنشيف يدل على عدم استحبابه، لكن لا يصيره مكروهاً، فلو تنشف الإنسان لم نجزم بالكراهة، ولم نقف على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تركه تعبداً، والله أعلم. وقد ذكر لي بعض الإخوة أنه وقف على كلام لبعض الأطباء بأن خلايا الجلد تنتفع ببقاء الماء عليها بعد الوضوء والغسل، وأن إزالة الماء بخرقة ونحوها يفقد خلايا الجلد انتفاعه بالماء، فإن صح هذا الكلام فلا يبعد أن يستحب بقاء الماء بعد الوضوء، وإذا رغب الإنسان بإزالته ألا يزيله بخرقة وإنما يسلته سلتاً وهذا لا يفقد الجلد انتفاعه بالرطوبة الحاصلة بالماء، والله أعلم.
دليل من قال: يشرع التنشيف
دليل من قال: يشرع التنشيف. (915 - 144) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا رشدين بن سعد، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عتبة بن حميد، عن عبادة بن نسي، عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، وإسناده ضعيف، ورشدين بن سعد وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي يضعفان في الحديث (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني: (916 - 145) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا سفيان بن وكيع بن الجراح حدثنا عبد الله بن وهب عن زيد بن حباب عن أبي معاذ عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرقة ينشف بها بعد الوضوء. قال أبو عيسى: حديث عائشة ليس بالقائم، ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيء، وأبو معاذ يقولون: هو سليمان بن أرقم، وهو ضعيف عند أهل الحديث (¬1). ¬
الدليل الثالث: (917 - 146) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا العباس بن الوليد وأحمد بن الأزهر قالا: حدثنا مروان بن محمد، حدثنا يزيد بن السمط، حدثنا الوضين بن عطاء، عن محفوظ بن علقمة، عن سلمان الفارسي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فقلب جبة صوف كانت عليه، فمسح بها وجهه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الرابع: (918 - 147) ما رواه البيهقي من طريق أبي زيد النحوي، ثنا أبو عمرو بن العلاء، عن أنس بن مالك، عن أبي بكر الصديق، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت له خرقة يتنشف بها بعد الوضوء. [إسناده شاذ] (¬1). وكل هذه الأحاديث لا يثبت منها شيء، والحال كما قال الإمام أبو عيسى الترمذي رحمه الله: لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيء (¬2). ¬
الفصل الرابع عشر: يستحب تجديد الوضوء
الفصل الرابع عشر: يستحب تجديد الوضوء يستحب تجديد الوضوء، وهو أن يكون على وضوء ثم يتوضأ من غير أن يحدث ومتى يستحب؟. فيه أقوال: الأول: يستحب له التجديد مطلقاً، حتى ولو لم يمضي زمن يحصل به التفريق بين الوضوء الأول والوضوء الثاني، وهو قول في مذهب الحنفية (¬1). ¬
وقال النووي: فيه خمسة أوجه: أصحها إن صلى بالوضوء الأول فرضا أو نفلا وبه قطع البغوي. والثاني: إن صلى فرضاً استحب وإلا فلا، وبه قطع الفوراني. - قلت: وهذان القولان قولان أيضاً في مذهب المالكية - (¬1). ¬
والثالث: يستحب إن كان فعل بالوضوء الأول ما يقصد له الوضوء وإلا فلا , ذكره الشاشي في كتابيه المعتمد والمستظهري في باب الماء المستعمل واختاره. والرابع: إن صلى بالأول أو سجد لتلاوة أو شكر أو قرأ القرآن في المصحف استحب وإلا فلا , وبه قطع الشيخ أبو محمد الجويني في أول كتابه الفروق. والخامس: يستحب التجديد ولو لم يفعل بالوضوء الأول شيئاً أصلاً حكاه إمام الحرمين، قال: وهذا إنما يصح إذا تخلل بين الوضوء والتجديد زمن يقع بمثله تفريق , فأما إذا وصله بالوضوء فهو في حكم غسلة رابعة, وهذا الوجه غريب جداً , وقد قطع القاضي أبو الطيب في كتابه شرح الفروع ¬
الدليل الأول
والبغوي والمتولي والروياني وآخرون بأنه يكره التجديد إذا لم يؤد بالأول شيئاً قال المتولي والروياني: وكذا لو توضأ وقرأ القرآن في المصحف يكره التجديد. قالا: ولو سجد لتلاوة أو شكر لم يستحب التجديد ولا يكره والله أعلم. وأما الغسل فلا يستحب تجديده على المذهب الصحيح المشهور، وبه قطع الجمهور, وفيه وجه أنه يستحب حكاه إمام الحرمين وغيره. وأما التيمم فالمشهور أنه لا يستحب تجديده وفي وجه ضعيف يستحب (¬1). اهـ الدليل على استحباب تجديد الوضوء الدليل الأول: (919 - 148) ما رواه البخاري من طريق سفيان، قال: حدثني عمرو ابن عامر، عن أنس بن مالك قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ عند كل صلاة، قلت: كيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث (¬2). الدليل الثاني: (920 - 149) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبي حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد ح وحدثني محمد بن حاتم واللفظ له حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان قال حدثني علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة، ¬
الدليل الثالث
عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، ومسح على خفيه فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه؟ قال: عمداً صنعته يا عمر (¬1). فكان الغالب على فعله - صلى الله عليه وسلم - الوضوء لكل صلاة، سواء كان طاهراً أو غير طاهر، ولذلك استغرب عمر صنيعه - صلى الله عليه وسلم - حين صلى الصلوات بوضوء واحد. الدليل الثالث: (921 - 150) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن الإفريقي، عن أبي غطيف، عن ابن عمر يقول: من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات (¬2). [إسناده ضعيف، وإن كان من حيث المعنى صحيحاً؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها] (¬3). ¬
وهذه الأحاديث تدل على استحباب الوضوء على الوضوء، وقد علمت الأقوال في وقت استحبابه، ولو قيل: إن الوضوء يستحب كلما تجددت أسبابه المختلفة لكان له وجه، فإذا توضأ للصلاة، ثم أراد أن يقرأ القرآن استحب له التجديد، لتجدد سبب آخر يقتضي الطهارة، ومثله لو توضأ للصلاة، ثم أرد أن يطوف بالكعبة استحب له التجديد، إلا الصلاتين المجموعتين فلا يستحب تجديده لهما، وكذلك إذا كانت الصلاة صلاة تراويح أو وتر، فلا يستحب أن يتخللها تجديد؛ لعدم النقل. (922 - 151) وقد روى البخاري ومسلم من حديث إسامة بن زيد أنه قال: دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل، فبال، ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء، فقلت له: الصلاة يا رسول الله. فقال: الصلاة أمامك، فركب فلما جاء المزدلفة نزل، فتوضأ، فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت لصلاة، فصلى المغرب. الحديث. فظاهر فعله - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يتخلل الوضوءين حدث أو صلاة، أما الحدث فيبعد وقوعه بعد ما قضى حاجته في الشعب، فكان الوضوء الأول بعد قضاء الحاجة، والوضوء الثاني لم يبعد وقوعه، فالظاهر أن الوضوء الثاني كان بمثابة التجديد، والله أعلم. ¬
الفصل الخامس عشر: في استقبال القبلة حال الوضوء
الفصل الخامس عشر: في استقبال القبلة حال الوضوء استحب الجمهور استقبال القبلة حال الوضوء (¬1). والصحيح عدم الاستحباب إلا أن تكون المسألة إجماعاً، ولم أجد أحداً حكى الإجماع على استحباب استقبال القبلة إلا أن ابن مفلح قال: ولا ¬
تصريح بخلافه، وهو متجه في كل طاعة إلا لدليل. اهـ وهذه العبارة ليست حكاية للإجماع والله أعلم، خاصة إذا علمنا أنه لم ينقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يتحرى القبلة عند فعل الوضوء، ولا أمر به من قوله - صلى الله عليه وسلم -، والاستحباب لا يثبت إلا بدليل فعلي أو قولي، ولا دليل. والقياس في العبادات من أضعف القياسات.
الفصل السادس عشر: من سنن الوضوء أن يقول الذكر الوارد بعده
الفصل السادس عشر: من سنن الوضوء أن يقول الذكر الوارد بعده يستحب أن يقول بعد فراغه من الوضوء أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله (¬1). (923 - 152) لما رواه مسلم، قال: حدثني محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة، - قال: يعني ابن يزيد - عن أبي إدريس الخولاني عن عقبة بن عامر ح وحدثني أبو عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر قال: كانت علينا رعاية الإبل، فجاءت نوبتي فروحتها بعشي، فأدركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً يحدث الناس، فأدركت من قوله: ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة. قال: فقلت ما أجود هذه! فإذا قائل بين يدي يقول: التي قبلها أجود، فنظرت فإذا عمر قال: إني قد رأيتك جئت آنفاً قال: ما منكم من أحد يتوضأ، فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبد الله ورسوله إلا فتحت له أبواب ¬
الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء (¬1). ولا أعلم أحداً خالف في استحباب هذا الذكر بعد الوضوء، لهذه السنة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وما يفعله العامة عندنا من رفع السبابة حال الذكر لا أعلم له أصلاً في الشرع، والأصل عدم المشروعية. كما أن استقبال القبلة حال الذكر لم يقم عليه دليل، وما قيل في استقبال القبلة حال الوضوء يقال هنا، من أن الاستقبال لو كان مشروعاً لأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولفعله عليه الصلاة والسلام، فلما لم ينقل أمره ولا فعله كان الأصل عدم التقرب إلى الله به. ¬
المبحث الأول
المبحث الأول: استحب بعض الفقهاء أن يقول بعد الوضوء: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين (¬1). (924 - 153) لما رواه الترمذي رحمه الله، قال: حدثنا جعفر بن محمد ابن عمران الثعلبي الكوفي، حدثنا زيد بن حباب، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد الدمشقي، عن أبي إدريس الخولاني وأبي عثمان، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ، فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء (¬2). [زيادة اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين زيادة شاذة في هذا الحديث] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وقد استحب بعض الحنابلة رفع البصر إلى السماء عند ذكر هذا الدعاء (¬1). (925 - 154) لما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا حيوة، أخبرنا أبو عقيل، عن ابن عم له، عن عقبة بن عامر، وفيه: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ فأحسن الوضوء، ثم رفع نظره إلى السماء، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء (¬2). [زيادة رفع البصر إلى السماء زيادة منكرة] (¬3). ¬
الدليل الثاني: قالوا: إن رفع الطرف إلى السماء من آداب الدعاء، والذكر مشتمل على الدعاء السابق: «اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين». والدليل على أن رفع البصر إلى السماء من آداب الدعاء أدلة منها: (926 - 155) ما رواه مسلم من طريق سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن المقداد من حديث طويل، وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع رأسه إلى السماء، فقال: اللهم أطعم من أطعمني وأسق من أسقاني. (927 - 156) ومنها ما رواه البخاري من طريق كريب، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بت في بيت ميمونة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - عندها فلما كان ثلث الليل الآخر أو بعضه، قعد فنظر إلى السماء، فقرأ {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} (¬1) (928 - 157) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا أبو سلمة يحيى بن المغيرة المخزومي المديني وغير واحد قالوا: حدثنا ابن أبي فديك، عن إبراهيم بن الفضل، عن المقبري، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أهمه الأمر رفع رأسه إلى السماء فقال سبحان الله العظيم وإذا اجتهد في الدعاء قال يا حي يا قيوم. قال أبو عيسى هذا حديث غريب (¬2). [إسناده ضعيف، وليس صريحاً في الباب] (¬3). ¬
(929 - 158) ومن الأذكار التي تقال بعد الوضوء ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ ثم قال: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك كتب في رق، ثم طبع في طابع فلم يكسر إلى يوم القيامة. [الصحيح أنه موقوف ولم يثبت مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المبحث الثاني: في الأذكار التي تقال عند غسل الأعضاء
المبحث الثاني: في الأذكار التي تقال عند غسل الأعضاء استحب الحنفية أن يدعو بالدعوات المأثورة عند كل فعل من أفعال الوضوء (¬1). ومن هذه الأدعية ما ذكره الرافعي نقلاً من تلخيص الحبير (¬2)، قال: «ومن السنن المحافظة على الدعوات الواردة في الوضوء، فيقول في غسل الوجه: اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وعند غسل اليد اليمنى: اللهم أعطني كتابي بيميني وحاسبني حساباً يسيراً، وعند غسل اليد اليسرى اللهم لا تعطني كتابي بشمالي، ولا من رواء ظهري، وعند مسح الرأس: اللهم حرم شعري وبشري على النار، وروي: اللهم احفظ رأسي وما حوى، وبطني وما وعى ((وروي ((اللهم أغنني برحمتك، وأنزل علي من بركتك، وأظلني تحت عرشك يوم لا ظل إلا ظلك، وعند مسح الأذنين: اللهم اجعلني ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وعند غسل الرجلين: اللهم ثبت قدمي على الصراط يوم تزل الأقدام» [هذا الدعاء لا أصل له] (¬3). ¬
قال ابن القيم: كل حديث في أذكار الوضوء الذي يقال عليه فكذب مختلق، لم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً منه، ولا علمه لأمته، ولا ثبت عنه غير التسمية في أوله، وقوله: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين في آخره. وفي سنن النسائي مما يقال بعد الوضوء أيضاً: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. اهـ وكل هذه الأذكار سبق الكلام عليها وتخريجها. وقال الخرشي المالكي: وما يقال عند فعل كل عضو فحديث ضعيف جداً، ولا يعمل به، وقول الأقفهسي: إنه يستحب فيه نظر (¬1). ¬
المبحث الثالث: في حكم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند غسل الأعضاء
المبحث الثالث: في حكم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند غسل الأعضاء استحب بعض الحنفية الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل عضو من أعضاء الوضوء (¬1). واستحبه بعضهم وبعض الشافعية بعد الفراغ من الوضوء (¬2). ولا أعلم لهم سنة صحيحة في هذا. كما استحب بعض الحنفية التسمية على كل عضو (¬3). وهذا لا أعلم له أصلاً من أثر أو نظر، وقد علمت الخلاف في التسمية في أول الوضوء، ولو قيل بمشروعيتها لكانت التسمية في أوله كافية، لأنه فعل واحد كما يسمي الإنسان حين يأكل في أول الأكل، ولا يشرع له أن يسمي على كل لقمة يرفعها إلى فيه. ¬
المبحث الرابع: في حكم قراءة سورة القدر بعد الوضوء
المبحث الرابع: في حكم قراءة سورة القدر بعد الوضوء سئل ابن حجر الهيتمي عن حديث «من قرأ في أثر وضوئه إنا أنزلناه في ليلة القدر مرة واحدة كان من الصديقين ومن قرأها مرتين كتب في ديوان الشهداء ومن قرأها ثلاثا حشره الله محشر الأنبياء» من رواه؟ (فأجاب) بقوله: رواه الديلمي , وفي سنده مجهول والله أعلم (¬1). ¬
الفصل السابع عشر: في الاستعانة في الوضوء
الفصل السابع عشر: في الاستعانة في الوضوء الاستعانة على الوضوء لها حالات عدة: الحالة الأولى: إذا لم يمكنه التطهر إلا بالاستعانة، فإنه يجب عليه قبولها إذا لم يكن في ذلك منة وإذلال له، حتى لو اقتضى الأمر ببذل أجرة لمن يعينه وجب عليه ذلك؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فواجب (¬1). وقال ابن عقيل الحنبلي: يحتمل أن لا يلزمه , كما لو عجز عن القيام في الصلاة لم يلزمه استئجار من يقيمه ويعتمد عليه (¬2). الحالة الثانية: أن تكون الاستعانة بتقريب الماء، وهذا لا بأس به. قال النووي: ولا يقال خلاف الأولى؛ لأنه ثبت ذلك في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحالة الثالثة: أن تكون الاستعانة بمن يصب عليه الماء، فالمشهور من مذهب الحنفية أن ذلك مكروه (¬3)، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬4). واعتبر بعض الحنفية أن من آداب الوضوء ألا يستعين المتوضئ على وضوئه بأحد (¬5). ¬
الأحاديث الواردة في المنع من الاستعانة
وقيل: تباح معونته بصب الماء عليه، وهو مذهب المالكية (¬1) والحنابلة (¬2). وقيل: لا يكره لكنه خلاف الأولى وهذا أصح الوجهين عند الشافعية, وبه قطع البغوي وغيره، قال النووي في المجموع: وهو مقتضى كلام المصنف والأكثرين (¬3) الحالة الرابعة: أن تكون الاستعانة بمن يغسل له أعضاءه من غير حاجة. فهذا مكروه في مذهب الحنفية من باب أولى، وهو مكروه في مذهب الشافعية قولاً واحداً. وقيل: لا يجوز، وهو مذهب المالكية (¬4). وقيل: يجوز من غير كراهة، اختاره ابن بطال. الأحاديث الواردة في المنع من الاستعانة. أما الأحاديث الصريحة في الباب فليس فيها شيء يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬
ومن ذلك: (930 - 159) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا أبو بدر عباد بن الوليد، حدثنا مطهر بن الهيثم، حدثنا علقمة بن أبي جمرة الضبعي، عن أبيه أبي جمرة الضبعي، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكل طهوره إلى أحد، ولا صدقته التي يتصدق بها يكون هو الذي يتولاها بنفسه (¬1). [حديث ضعيف] (¬2). (931 - 160) ومنها ما رواه أبو يعلى في مسنده، قال: حدثنا أبو هشام، حدثنا النظر -يعني: ابن منصور- حدثنا أبو الجنوب، قال: رأيت علياً يستقي ماء لوضوئه، فبادرته استقي له، فقال: مه يا أبا الجنوب، فإني رأيت عمراً يستقي لوضوئه، فبادرته استقي له، فقال: مه يا أبا الحسن، فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستقي ماء لوضوئه، فبادرته استقي له، فقال: مه يا عمر، فإني أكره أن يشركني في طهوري أحد. [حديث ضعيف] (¬3). ¬
(932 - 161) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن العباس بن عبد الرحمن المدني قال: خصلتان لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكلهما إلى أحد من أهله كان يناول المسكين بيده ويضع الطهور من الليل ويخمره (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
(933 - 162) وروى ابن أبي شيبة أيضاً، قال: حدثنا أبو أسامة عن علي بن مسعدة قال أنا عبد الله الرومي، قال: كان عثمان يقوم من الليل فيلي طهوره بنفسه فيقال له: لو أمرت بعض الخدم فقال: إني أحب أن أليه بنفسي. [إسناده ضعيف] (¬1). وقد ورد أحاديث ليست صريحة في الباب تدل على أن الكمال ترك سؤال الناس شيئاً. (934 - 163) منها ما رواه مسلم، من طريق سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي مسلم الخولاني: قال حدثني الحبيب الأمين، أما هو فحبيب إلي، وأما هو عندي فأمين عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: ألا تبايعون رسول الله؟ وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: ألا تبايعون رسول الله؟ فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: ألا ¬
الأحاديث الواردة في الاستعانة
تبايعون رسول الله؟ قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وتطيعوا - وأسر كلمة خفية - ولا تسألوا الناس شيئاً، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحداً يناوله إياه. وجه الاستدلال: قوله: «لا تسألوا الناس شيئاً» نكرة في سياق النفي، فيشمل كل شيء، وهذا هو الذي فهمه الصحابة، حتى كان لا يسأل أن يناول سوطه الذي سقط. وهذا الحديث دليل على النهي عن سؤال الناس، ومنه الاستعانة، ولا يدل على كراهة الاستعانة بدون طلب من الشخص، فهناك فرق أن تأتي الإعانة على الوضوء بالتبرع المحض، أو تأتي عن مسألة، مع أنه قد يقال أيضاً: إذا كان يعلم الإنسان أن المطلوب منه ذلك يفرح به ويتشوف إليه ويعتز به، كما لو كان هذا طالباً مع معلمه، وبين غيره، ولذلك فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يستنكف أن يطلب بعض الأمور من بعض أصحابه، لمعرفته أن ذلك محبوب لهم، ليس فيه إذلال للسائل ولا إحراج للمسؤل، والله أعلم. الأحاديث الواردة في الاستعانة. الحديث الأول: (935 - 164) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن مغيرة بن شعبة قال كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فقال: يا مغيرة خذ الإداوة، فأخذتها، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توارى عني فقضى حاجته،
الحديث الثاني
وعليه جبة شأمية، فذهب ليخرج يده من كمها فضاقت، فأخرج يده من أسفلها، فصببت عليه فتوضأ وضوءه للصلاة، ومسح على خفيه ثم صلى. ورواه مسلم (¬1). الحديث الثاني: (936 - 165) ما رواه البخاري، قال: حدثني محمد بن سلام، قال: أخبرنا يزيد بن هارون، عن يحيى، عن موسى بن عقبة، عن كريب مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أفاض من عرفة عدل إلى الشعب فقضى حاجته قال أسامة بن زيد فجعلت أصب عليه ويتوضأ، فقلت: يا رسول الله أتصلي؟ فقال: المصلى أمامك. ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬2). الحديث الثالث: قال الحافظ في الفتح: روى الحاكم في المستدرك، من حديث الربيع بنت معوذ أنها قالت: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بوضوء فقال: اسكبي، فسكبت عليه. قال الحافظ: وهذا أصرح في عدم الكراهة من الحديثين المذكورين لكونه في الحضر، ولكونه بصيغة الطلب. قلت: وقفت عليه في مستدرك الحاكم بغير هذا اللفظ الذي أشار إليه الحافظ (¬3)، فلعل نسخة الحافظ تختلف عن المطبوع، وهو في سنن أبي داود ¬
بلفظ: اسكبي لي وضوءاً، فذكرت وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت فيه: فغسل كفيه ثلاثاً وذكر الحديث، وسبق لي تخريج الحديث، والكلام عن طرقه. وهذه الأحاديث تدل على إباحة الاستعانة بصب الماء على المتوضئ، وكذا إحضار الماء من باب أولى. وأما المباشرة بغسل أعضاء الغير فلا دلالة فيهما عليها، وحجة من استدل بإباحة غسل أعضاء الغير ما ذكره الحافظ في الفتح، قال: ((لما لزم المتوضئ الاغتراف من الماء لأعضائه، وجاز له أن يكفيه ذلك غيره بالصب، والاغتراف بعض عمل الوضوء، كذلك يجوز في بقية أعماله. وتعقبه ابن المنير بأن الاغتراف من الوسائل لا من المقاصد؛ لأنه لو اغترف ثم نوى أن يتوضأ جاز، ولو كان الاغتراف عملاً مستقلاً لكان قدمه على النية)). (¬1) اهـ ¬
(فرع) قد ذكرنا أنه إذا وضأه غيره صح , وسواء كان الموضئ ممن يصح وضوءه أم لا , كمجنون وحائض وكافر وغيرهم؛ لأن الاعتماد على نية المتوضئ لا على فعل الموضئ، كمسألة الميزاب , ولا نعلم في هذه المسألة خلافا لأحد من العلماء إلا ما حكاه صاحب الشامل عن داود الظاهري أنه قال: لا يصح وضوءه إذا وضأه غيره, ورد عليه بأن الإجماع منعقد على أن من وقع في ماء أو وقف تحت ميزاب، ونوى، صح وضوءه وغسله.
الفصل الثامن عشر: في الكلام أثناء الوضوء
الفصل الثامن عشر: في الكلام أثناء الوضوء قيل: ترك التكلم بكلام الناس أثناء الوضوء من آداب الوضوء، وهو مذهب الحنفية (¬1)، المالكية (¬2). وقيل: يكره الكلام أثناء الوضوء، وهو قول في مذهب المالكية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وعد النووي من سنن الوضوء ترك الكلام من غير حاجة (¬5). دليل من كره الكلام أثناء الوضوء. الدليل الأول: (937 - 166) ما رواه الدارقطني من طريق صالح بن عبد الجبار، ثنا البيلماني، عن أبيه، ¬
الدليل الثاني
عن عثمان بن عفان أنه توضأ بالمقاعد، والمقاعد بالمدينة حيث يصلى على الجنائز عند المسجد، فغسل كفيه ثلاثاً ثلاثاً، واستنثر ثلاثاً ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاثاً، ومسح برأسه ثلاثاً، وغسل قدميه ثلاثاً، وسلم عليه رجل، وهو يتوضأ، فلم يرد عليه حتى فرغ، فلما فرغ كلمه معتذراً إليه، وقال: لم يمنعني أن أرد عليك إلا أنني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من توضأ هكذا، ولم يتكلم، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله غفر له ما بين الوضوئين (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). الدليل الثاني: (938 - 167) ما رواه أحمد، قال: حدثنا روح حدثنا سعيد عن قتادة، عن الحسن عن حضين أبي ساسان الرقاشي، عن المهاجر بن قنفذ بن عمير بن جدعان، قال: سلمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتوضأ، فلم يرد علي، فلما فرغ من وضوئه قال: لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت على غير وضوء. [إسناده صحيح إلا أن المحفوظ من الحديث أن المهاجر سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، كما أن التعليل في الحديث يؤكد أن المانع من رد السلام ليس كراهة الرد أثناء الوضوء، وإنما كونه على غير طهارة، فلا يكون فيه دليل على مسألتنا والله أعلم] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: قال في مراقي الفلاح: ولا يتكلم بكلام الناس؛ لأنه يشغله عن الدعاء المأثور. قلت: الدعاء المأثور في أثناء الوضوء لا أصل له، وقد بينت ذلك في مسألة مستقلة. الدليل الرابع: حكاية الإجماع على كراهة الكلام أثناء الوضوء. قال النووي: قد نقل القاضي عياض في شرح صحيح مسلم أن العلماء كرهوا الكلام في الوضوء والغسل. وهذا المنقول يجاب عنه بما عقب عليه النووي، فقال: وهذا الذي نقله من الكراهة محمول على ترك الأولى , وإلا فلم يثبت فيه نهي فلا يسمى مكروها إلا بمعنى ترك الأولى (¬1). ¬
دليل من قال: لا يكره الكلام أثناء الوضوء
وقال ابن مفلح: قال جماعة: يكره الكلام أثناء الوضوء، والمراد بغير ذكر الله تعالى، كما صرح به جماعة، والمراد بالكراهة ترك الأولى وفاقاً للحنفية والشافعية. وقال أيضاً: وظاهر الأكثر لا يكره السلام ولا الرد، وإن كان الرد على طهر أكمل لفعله عليه السلام (¬1). دليل من قال: لا يكره الكلام أثناء الوضوء. الدليل الأول: لا يوجد نهي من الشارع عن الكلام أثناء الوضوء، والأصل في الأفعال الإباحة، فمن ادعى النقل عن الإباحة بحكم آخر سواء الكراهة أو الحكم بأن ذلك من آداب الوضوء وسننه فعليه الدليل من كتاب الله ومن سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثاني: (939 - 168) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثني مالك بن أنس، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، أن أبا مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب أخبره، أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب تقول: ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره قالت: فسلمت عليه فقال: من هذه؟ فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال: مرحبا بأم هانئ، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد. الحديث. ورواه مسلم (¬2). فهذا في الكلام أثناء الغسل، والوضوء مثله. ¬
الراجح من الخلاف. إن صح نقل الإجماع على كراهة الكلام أثناء الوضوء فالدليل الإجماع، وإلا فالأصل الإباحة وقد يقال: إن كان سكوت الإنسان أثناء الوضوء من أجل تصور أمتثال أوامر الشرع، فإذا غسل وجهه تذكر أنه عبد لله يمتثل أمر الله سبحانه وتعالى بقوله {فاغسلوا وجوهكم} كما يحاول أن يكون هذا الفعل مطابقاً لما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يفعل ما فعله، وفي غسل اليدين يتصور امتثاله لأمر الله سبحانه وتعالى بقوله: {وأيديكم إلى المرافق} وهكذا في كل أفعال الوضوء، إذا كان هذا لذلك فقد يكون السكوت مطلوباً، وإن كان السكوت من أجل استصحاب النية في الوضوء فهذا له بحث آخر سوف يذكر إن شاء الله تعالى في فروض الوضوء، وما عداه فيكون الكلام وعدمه على الإباحة، والاستحباب والكراهة لا بد فيهما من دليل شرعي، وقد سبق كلام النووي بأنه لم يرد نهي من الشارع عن الكلام، والله أعلم.
المبحث الأول: في الوضوء قبل الوقت قال النووي: أجمع العلماء على جواز الوضوء قبل دخول وقت الصلاة، نقل فيه الإجماع ابن المنذر في كتابه الإجماع وآخرون، هذا في غير المستحاضة ومن في معناها فإنه لا يصح وضوءها إلا بعد دخول الوقت (¬1). قلت: أما المستحاضة فقد اختلف العلماء في وضوءها هل يصح منها الوضوء قبل دخول الوقت أم لا وذلك نظراً إلى أن بعضهم يرى طهارتها طهارة ضرورة. فقيل: لا تتوضأ قبل دخول الوقت، كما أن خروج الوقت مبطل لطهارتها السابقة، وهذا مذهب الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4) إلا أن الشافعية يرون الوضوء يجب عليها لكل فريضة مؤداة أو مقضية بخلاف النافلة، ومذهب الحنفية والحنابلة يجب عليها الوضوء لوقت كل صلاة، فتصلي بطهارتها الفرائض والنوافل ما دام الوقت، فإذا خرج بطلت طهارتها. ¬
وقيل: يجب عليها الوضوء لكل صلاة مطلقاً فرضاً كانت أو نفلاً، خرج الوقت أو لم يخرج، وهو اختيار ابن حزم (¬1). وقيل: لا يعتبر خروج دم الاستحاضة حدثاً ناقضاً للوضوء، بل يستحب منه الوضوء ولا يجب، وبالتالي هي كغيرها تتوضأ متى شاءت. وهو مذهب المالكية، وهو الراجح (¬2). وقد ذكرت أدلة كل فريق، وبيان الراجح منه في كتابي الحيض والنفاس، وكتاب الاستنجاء، باب الاستنجاء من الحدث الدائم، فارجع إليه غير مأمور. ¬
واستحباب الوضوء قبل دخول وقت الصلاة يرجع إلى أن الوضوء على الصحيح عبادة مستقلة مطلوبة بذاتها، وإن كان شرطاً في صحة الصلاة فلا يمنع ذلك أن يكون عبادة مستقلة رتب الله على فعلها أجراً عظيماً من كفارة الذنوب، (940 - 169) لما روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا إسحق بن منصور، حدثنا حبان بن هلال، حدثنا أبان، حدثنا يحيى، أن زيداً حدثه، أن أبا سلام حدثه، عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها (¬1). الحديث الثاني: (941 - 170) ما رواه مسلم، قال: حدثني أحمد بن جعفر المعقري، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا شداد بن عبد الله أبو عمار ويحيى بن أبي كثير، عن أبي أمامة - قال عكرمة: لقي شداد أبا أمامة وواثلة وصحب أنساً إلى الشام وأثنى عليه فضلا وخيرا - قال: قال عمرو بن عبسة السلمي: ما منكم رجل يقرب وضوءه، فيتمضمض، ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا ¬
غسل وجهه كما أمره الله، إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين، إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام، فصلى، فحمد الله، وأثنى عليه، ومجده بالذي هو له أهل، وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه، فحدث عمرو بن عبسة بهذا الحديث أبا أمامة صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له أبو أمامة: يا عمرو بن عبسة انظر ما تقول، في مقام واحد يعطي هذا الرجل، فقال عمرو: يا أبا أمامة لقد كبرت سني، ورق عظمي، واقترب أجلي، وما بي حاجة أن أكذب على الله، ولا على رسول الله لو لم أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا حتى عد سبع مرات ما حدثت به أبداً، ولكني سمعته أكثر من ذلك (¬1). الحديث الثالث: (942 - 171) ما رواه أحمد، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ابن ثوبان، حدثني حسان بن عطية، أن أبا كبشة السلولي حدثه، أنه سمع ثوبان يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سددوا وقاربوا واعملوا وخيروا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن (¬2). [إسناد حسن إن شاء الله، والحديث صحيح] (¬3). ¬
الحديث الرابع: (943 - 172) ما رواه مسلم، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا خلف -يعني ابن خليفة- عن أبي مالك الأشجعي، عن أبي حازم قال: كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمد يده حتى تبلغ إبطه، فقلت له: يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فروخ أنتم هاهنا لو علمت أنكم هاهنا ما توضأت هذا الوضوء، سمعت خليلي - صلى الله عليه وسلم - يقول: تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء (¬1). الحديث الخامس: (944 - 173) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن خالد عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم المجمر، قال: رقيت مع أبي هريرة على ظهر المسجد فتوضأ فقال: إني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل (¬2). الحديث السادس: (945 - 174) ما رواه مسلم، قال: حدثني محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة يعني ابن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن عقبة بن عامر ح وحدثني أبو عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر عن عمر، ¬
مرفوعاً، وفيه: ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبد الله ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء (¬1). (946 - 175) ومنها ما رواه أحمد، قال: حدثنا زيد بن الحباب، حدثني حسين بن واقد، أخبرني عبد الله بن بريدة، قال: سمعت أبي بريدة يقول: أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بلالاً، فقال: يا بلال بم سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي، إني دخلت البارحة الجنة، فسمعت خشخشتك، فأتيت على قصر من ذهب مرتفع مشرف، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من العرب؟ قلت: أنا عربي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من المسلمين من أمة محمد، قلت: فأنا محمد، لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر بن الخطاب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لولا غيرتك يا عمر لدخلت القصر، فقال: يا رسول الله ما كنت لأغار عليك، قال: وقال لبلال، بم سبقتني إلى الجنة؟ قال: ما أحدثت إلا توضأت، وصليت ركعتين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بهذا. إلى غير ذلك من الأحاديث التي تدل على فضل الوضوء، ومع كون الوضوء عبادة مطلوبة لذاتها وأن يكون الإنسان دائماً على طهارة شرع الوضوء أيضاً لأسباب مختلفة، منها ذكر الله تعالى، وأشرفه قراءة القرآن، ومنها المبيت على طهارة، ومنها الوضوء للجنب عند النوم والأكل والشرب، وغيرها من الأسباب المتفق عليها أو المختلف فيها بين الفقهاء، والله أعلم. ¬
فرع: في تساوي الذكر والأنثى في أحكام الوضوء
فرع: في تساوي الذكر والأنثى في أحكام الوضوء المرأة كالرجل في الوضوء بل في كل العبادات إلا ما دل الدليل على التفريق بينهما. قال النووي: والمرأة كالرجل في الوضوء إلا في اللحية الكثة (¬1). قلت: حتى في اللحية، فلو نبتت للمرأة لحية كان حكمها في الوضوء حكم لحية الرجل من التفصيل بين اللحية الكثيفة والخفيفة. قال الصاوي: والحاصل أن اللحية حيث كانت خفيفة وكل شعر في الوجه خفيف يجب إيصال الماء للبشرة، لا فرق بين ذكر وأنثى، وإن كان الشعر كثيفاً يكره تخليله في الوضوء، سواء كان لحية أو غيرها، لذكر أو أنثى، ولا يطالب بكل حال بغسل أسفل اللحية الذي يلي العنق، كانت كثيفة أو خفيفة (¬2). اهـ وقال المرداوي الحنبلي في الإنصاف: شعر غير اللحية كالحاجبين والشارب والعنفقة ولحية المرأة وغير ذلك مثل اللحية في الحكم على الصحيح من المذهب، وعليه الجمهور. وجزم به في الرعاية في لحية المرأة (¬3). ¬
فرع: في تخفيف الوضوء المستحب
فرع: في تخفيف الوضوء المستحب الوضوء إذا كان مستحباً له أن يمسح ما يجب غسله، وله أن يقتصر على بعض أعضاء الوضوء. قال ابن مفلح: توضأ عليه فمسح وجهه ويديه ورأسه ورجليه، وقال: هذا وضوء من لم يحدث، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صنع مثله. قال شيخنا -يعني ابن تيمية- إذا كان مستحباً له أن يقتصر على بعض الأعضاء كوضوء ابن عمر لنومه جنباً إلا رجليه، وفي الصحيحين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام من الليل فأتى حاجته - يعني الحدث - ثم غسل وجهه ويديه ثم نام. وذكر بعض العلماء أن هذا الغسل للتنظيف والتنشيط للذكر وغيره. اهـ (¬1). (947 - 176) وحديث علي الذي أشار إليه ابن مفلح فقد أخرجه، أحمد، قال: ثنا بهز، ثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، قال: سمعت النزال ابن سبرة، قال: رأيت علياً رضي الله تعالى عنه صلى الظهر، ثم قعد لحوائج الناس، فلما حضرت العصر أتى بتور من ماء، فأخذ منه كفا، فمسح وجهه وذراعيه، ورأسه ورجليه، ثم أخذ فضله، فشرب قائماً، وقال: إن ناساً يكرهون هذا، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله، وهذا وضوء من لم يحدث (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
(948 - 177) وأما فعل ابن عمر، فأخرجه مالك في الموطأ، عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان إذا أراد أن ينام أو يطعم وهو جنب، غسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ومسح برأسه، ثم طعم أو نام (¬1). [إسناده في غاية الصحة] (¬2). ¬
واختلف العلماء في تفسير فعل ابن عمر، وكونه توضأ إلا رجليه، فقال ابن تيمية كما سبق: إن الوضوء إذا كان مستحباً وليس بواجب فله أن يقتصر على بعض أعضائه، وهذا قد يصح إذا سلم بأن الوضوء للجنب عند إرادة النوم مستحب، وليس بواجب، وفيه خلاف قوي جداً سوف أتعرض له في حينه إن شاء الله تعالى. وقال ابن حجر: يحمل ترك ابن عمر لغسل رجليه، على أن ذلك كان لعذر. قلت: الأصل عدم العذر، ثم قوله: «وكان ابن عمر إذا أراد أن ينام، وهو جنب» ثم ذكر فعله، يدل على أن ذلك كان منه على الاستمرار، وليس لعارض أو عذر. وقال ابن عبد البر في الاستذكار: لم يعجب مالكاً فعل ابن عمر، وأظنه أدخله - يعني في الموطأ - إعلاماً أن ذلك الوضوء ليس بلازم. قلت: إذا كان ليس بلازم فلماذا يغسل معظم أعضاء الوضوء، ولو كان ابن عمر تركه بالكلية لكان ذلك مشعراً بذلك، على أنه لا يتعدى أن يكون ¬
الراجح
رأياً لابن عمر، وفعل الصحابي ليس بحجة إلا إذا لم يخالف، والحجة فيما روى لا فيما رأى. وقال الطحاوي: هذا وضوء غير تام، وقد علم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضوء تام، فلا يفعل هذا إلا وقد ثبت النسخ لذلك عنه. اهـ والطحاوي رحمه الله يتساهل في دعوى النسخ، حتى يرى فهم الصحابي للحديث نسخاً، والنسخ لا ينبغي أن يصار إليه إلا عند التعارض التام لدليلين شرعيين لم يمكن الجمع بينهما، وعلم المتأخر، وأما فهم الصحابي ورأيه لا ينسخ ما ثبت شرعاً. والراجح والله أعلم فيما ظهر لي أن ابن عمر فهم أن هذا الوضوء هو الذي يتقدم غسل الجنابة، وقد ورد في صفة الوضوء عند الغسل للجنابة صفتان: الأولى: أن يتوضأ وضوءاً كاملاً، ثم يغتسل. الصفة الثانية: أن يتوضأ إلا موضع قدميه، ثم يغتسل، وكلا الصفتين ثبتت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غسله للجنابة: فأخذ ابن عمر بإحدى الصفتين، وهذا فيه مجال للاجتهاد، وهل إذا توضأ للنوم، وأراد الاغتسال للجنابة يعيد الوضوء أم لا؟ هذه مسألة تحتاج إلى تأمل، والله أعلم.
الباب الثالث: في فروض الوضوء
الباب الثالث: في فروض الوضوء توطئة: تعريف الفرض لغة واصطلاحاً. الفَرْضُ الحز والقطع، ومنه أخذ فرض النفقات: وهو بيان مقدارها، وكذلك فرض المهر قال الله تعالى: {أو تفرضوا لهن فريضة} (¬1)، ومثله فرض الجند: فهو ما يقطع لهم من العطاء. وقوله تعالى: {لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضاً} (¬2)، أي: مقتطعا محدوداً. والفرض أيضاً: ما أوجبه الله تعالى، سمي بذلك؛ لأن له معالم وحدوداً. وفَرَض الله علينا كذا وافْتَرَضَ، أي: أوجب. والاسم الفَريضةُ. (949 - 178) وقد روى البخاري في صحيحه، عن أنس أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله. الحديث (¬3). ¬
فرائض الوضوء اصطلاحا
فرائض الوضوء اصطلاحاً: هناك علاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي. فإذا كان الفرض يأتي بمعنى الواجب، فمعنى فروض الوضوء: أي واجباته وأركانه. قال في حاشية الصاوي: المراد بالفرض هنا: ما تتوقف صحة العبادة عليه.
الفصل الأول: من فروض الوضوء غسل الوجه
الفصل الأول: من فروض الوضوء غسل الوجه من فروض الوضوء غسل الوجه، وهو واجب بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} (¬1). ومن السنة أحاديث كثيرة، منها: حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، في الصحيحين، ومنها: حديث عبد الله بن زيد فيهما، وحديث ابن عباس في البخاري، وحديث علي بن أبي طالب وغيرها من الأحاديث الصحيحة والحسنة. وأما الإجماع: فقد نقل الإجماع جماعة من أهل العلم. قال الطحاوي الحنفي: نظرنا في ذلك فرأينا الأعضاء التي قد اتفقوا على فرضيتها في الوضوء: الوجه واليدان والرجلان والرأس (¬2). ومراده بالاتفاق هنا: الإجماع. وقال العيني: الوجه الثالث في غسل الوجه، وهو فرض بالنص بلا خلاف (¬3). وقال ابن عبد البر: ((العلماء أجمعوا على أن غسل الوجه واليدين إلى ¬
المرفقين والرجلين إلى الكعبين ومسح الرأس فرضٌ ذلك كله، لأمر الله في كتابه المسلم عند قيامه إلى الصلاة إذا لم يكن متوضئاً، لا خلاف علمته في شيء من ذلك إلا في مسح الرجلين وغسلهما على ما نبينه في بلاغات مالك إن شاء الله)) (¬1). وقال ابن رشد المالكي: اتفق العلماء على أن غسل الوجه بالجملة من فرائض الوضوء (¬2). وقال الخرشي المالكي: ومحصل ذلك، أن منها فرضاً بإجماع، وهي الأعضاء الأربعة (¬3). وقال الماوردي الشافعي: أجمع المسلمون على وجوب غسله- يقصد الوجه (¬4). وقال النووي: وأجمع العلماء على وجوب غسل الوجه (¬5). ونقله في كتابه المجموع (¬6). ونقله من الحنابلة ابن قدامة في المغني (¬7)، والكافي (¬8)، وعبد الرحمن بن ¬
قدامة (¬1)، والزركشي (¬2)، وابن عبد الهادي (¬3)، وغيرهم. وانظر كتاب إجماعات ابن عبد البر في العبادات فقد نقل الإجماع عن خلق كثير، وقد استفدت منه في نقل ما سبق (¬4). فإذا ثبت عندنا غسل الوجه، من كتاب الله سبحانه وتعالى، ومن سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ومن إجماع الأمة، فإن حقيقة الغسل: هو مرور الماء على العضو. قال ابن عابدين: غسل الوجه: هو إسالة الماء مع التقاطر ولو قطرة. وقال أبو يوسف: هو مجرد بل المحل بالماء، سال أو لم يسل (¬5). قلت: يلزم من كلام أبي يوسف ألا يكون هناك فرق بين الغسل والمسح، ولكن عبارة صاحب فتح القدير أدق من هذا، فقد قال: يجزئ إذا سال بعض الماء على العضو وإن لم يتقاطر (¬6). فخرج عن صورة المسح، فتقاطر الماء ليس شرطاً، وسيلانه على العضو شرط، وإلا كان مسحاً. هل يجب عليه إمرار اليد على الوجه؟. ¬
قال في فتح القدير: والغسل: الإسالة، يفيد أن الدلك ليس من صفته (¬1). اهـ. قلت: إمرار اليد على الوجه غاية ما فيها أنها مستحبة عند الجمهور، وعند المالكية لا يسمى غاسلاً إلا بإمرار اليد على الوجه مع الماء، وسبق أدلة القوم في مناقشة استحباب الدلك، في باب سنن الوضوء، والله أعلم. ¬
الفرع الأول: حد الوجه طولا وعرضا
المبحث الأول: حد الوجه الفرع الأول: حد الوجه طولاً وعرضاً اتفق الفقهاء بأن غسل الوجه من فروض الوضوء، ولكن ما حد هذا الوجه الواجب غسله طولاً وعرضاً؟ أما حد الوجه طولاً فإن الفقهاء متفقون بأن حده من منابت شعر الرأس المعتاد إلى الذقن طولاً في الأمرد، وسيأتي الكلام على حده في الملتحي (¬1). وأما حد الوجه عرضاً: فقال الجمهور: عرضه من الأذن إلى الأذن مطلقاً (¬2)، واختارها متأخروا المالكية (¬3). وقيل: حد الوجه في الملتحي: من الصدغ إلى الصدغ، وهي رواية عن مالك. وسوف يأتي الكلام في الصدغ في مسألة مستقلة. وقولنا: منابت الشعر المعتاد: خرج به غير المعتاد، وهو أقسام: ¬
الأول: الأجلح: وهو من كان ينحسر شعره عن مقدم رأسه (¬1) , فإذا تصلع الشعر عن ناصيته لا يجب عليه غسل ذلك الموضع. قال النووي: بلا خلاف؛ لأنه من الرأس (¬2). الثاني: الأفرع: هو الذي ينزل شعره إلى الوجه, ويقال له الأغم (¬3). فقيل: يجب عليه غسله، ولو كان عليه شعر؛ لأنه من الوجه حقيقة، وعليه الجمهور (¬4). وقيل: لا يجب غسله إلا أن يعم الجبهة كلها، وهو وجه ضعيف عند الشافعية؛ ووجهه: قالوا: لأنه في صورة الرأس. ولا تغني الصورة عن الحقيقة شيئاً. قال النووي: ولو نزل الشعر عن المنابت المعتادة إلى الجبهة نظر إن عمها وجب غسلها كلها بلا خلاف , وإن ستر بعضها فطريقان الصحيح منهما ¬
وبه قطع العراقيون وجوب غسل ذلك المستور , ونقل القاضي حسين أن الشافعي نص عليه في الجامع الكبير. (والثاني) وبه قال الخراسانيون: فيه وجهان أصحهما هذا, والثاني: لا يجب لأنه في صورة الرأس. الثالث: الأنزع. النزعتان: هما البياض الذي انحسر عنه شعر الرأس من جانبي مقدم الرأس، يقال نزع الرجل فهو أنزع (¬1). فلا يجب غسلهما؛ لأنهما من الرأس، وهو قول الجمهور (¬2). وقيل: النزعتان من الوجه، وهو وجه في مذهب الحنابلة: قال المرداوي: اختاره القاضي , وابن عقيل , والشيرازي, وقطع به القاضي في الجامع (¬3). والأول أصح؛ فكما أن ناصية الأصلع لا تدخل في الوجه، قال النووي بلا خلاف، فكذلك لا يدخل البياضان للأنزع. والله أعلم. ¬
الفرع الثاني: حكم البياض الواقع بين العذار وبين الأذن
الفرع الثاني: حكم البياض الواقع بين العذار وبين الأذن تعريف العذار: قال في المغرب: عذارا اللحية: جانباها، استعير من عذاري الدابة، وهما ما على خديه من اللجام، وعلى ذلك قولهم: أما البياض الذي بين العذار وشحمة الأذن صحيح. وأما من فسره بالبياض نفسه فقد أخطأ (¬1). وقال ابن الأثير في غريب الحديث: العِذَاران من الفرس كالعارضين من وجه الإنسان (¬2). وجاء في المصباح المنير: عذار اللحية: الشعر النازل على اللحيين (¬3). وقال ابن قدامة: العذار: هو الشعر الذي على العظم الناتئ، الذي هو سمت صماخ الأذن , وما انحط عنه إلى وتد الأذن (¬4). فتبين من هذا أن العذار عند أهل اللغة والفقه: هو الشعر النابت المحاذي للأذنين بين الصدغ والعارض وهو أول ما ينبت للأمرد غالباً. فإذا عرفنا العذار فما حكم البياض الواقع بين العذار والأذن، هل هو من الوجه فيجب غسله أم لا؟. اختلف الفقهاء في ذلك: ¬
فقيل: البياض من الوجه، وهو مذهب الجمهور، وعليه يجب غسله (¬1). وقيل: الوجه من العذار إلى العذار، وبناء عليه لا يجب غسل البياض الذي بين الأذن والعذار، وهذا القول رواه ابن وهب عن مالك (¬2). قال ابن رشد: وهو المشهور من مذهب مالك (¬3). وقيل: الفرق بين الأمرد والملتحي، فيجب غسلهما من الأمرد دون الملتحي، روي هذا القول عن أبي يوسف من الحنفية (¬4)، وحكاه بعضهم قولاً في مذهب مالك (¬5). وقيل: يسن غسله، وهو قول في مذهب المالكية (¬6). وقيل: الأذنان من الوجه، وهو قول الزهري، وسبق ذكره ودليله والجواب عليه (¬7). ¬
دليل الجمهور
وقيل: ما أقبل من الأذنين من الوجه، وظاهرهما من الرأس، وهو قول الشعبي، وسبق ذكر دليله والجواب عليه (¬1). دليل الجمهور: أن هذا البياض من الوجه؛ لأنه تحصل به المواجهة كالخد. ولأنه من الوجه في حق المرأة وفي حق الرجل الأمرد، فكذلك من له لحية. دليل من قال: ليس من الوجه. لا أعلم له دليلاً حتى قال ابن عبد البر في التمهيد: لا أعلم أحداً من فقهاء الأمصار قال بما رواه ابن وهب عن مالك (¬2). دليل من قال: سنة. ذكر هذا القول جماعة من المالكية كما سبق عزوه عند ذكر الأقوال، ولم يذكروا دليل السنية، ولعل من قال به نظر إلى ختلاف أصحاب مالك في وجوب غسله، فتوسط بين قولين: بين القول بوجوب غسله، وبين القول القائل: لا يغسل. والله أعلم. ¬
الفرع الثالث: في غسل شعر الوجه
الفرع الثالث: في غسل شعر الوجه وفيه مسائل: المسألة الأولى: في شعر اللحية اتفق الجمهور على تقسيم شعر اللحية إلى قسمين: خفيف، وكثيف: فالكثيف: لا يجب إيصال الماء إلى البشرة. والشعر الخفيف: يجب إيصال الماء إلى ما تحته من البشرة (¬1)، واختلف في حد الشعر الكثيف، فقيل: ما ستر البشرة عن الناظر في مجلس التخاطب، وعليه الأكثر. وقيل: ما عده الناس خفيفاً فهو خفيف، وما عدوه كثيفاً فهو كثيف. وقيل: ما وصل الماء إلى تحته بلا مشقة فهو خفيف، وإلا فهو كثيف. والثاني والثالث غير منضبط، والأول حد فاصل فهو معتبر (¬2). وقيل: يسقط غسل البشرة مطلقاً إذا نبت عليه شعر، سواء كان الشعر خفيفاً أو كثيفاً، وهو ظاهر كلام الكاساني في بدائع الصنائع، ولم يرتضيه ابن نجيم وابن عابدين (¬3). ¬
دليل من فرق بين الشعر الخفيف والكثيف
وقيل: يجب غسل البشرة مطلقاً حتى في اللحية الكثيفة، حكي عن بعض المالكية (¬1)، واختاره المزني وأبو ثور (¬2)، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬3). دليل من فرق بين الشعر الخفيف والكثيف. الأصل: وجوب غسل البشرة لقوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم} انتقل الفرض إلى الشعر في الطهارة الصغرى؛ إذا كان كثيفاً؛ لأنها طهارة مبنية على التخفيف، ولأن إيصال الماء إلى الحوائل في الوضوء كاف وإن لم تكن متصلة بالبدن اتصال خلقة كالخف والعمامة والجبيرة فالمتصل خلقة أولى. ¬
الدليل على أن ما تحت الشعر الكثيف لا يجب غسله
والدليل على أن ما تحت الشعر الكثيف لا يجب غسله. (950 - 179) حديث ابن عباس في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فغرف غرفة فغسل بها وجهه. الحديث. وبغرفة واحدة لا يصل الماء إلى ما تحت الشعر الكثيف مع كثافة اللحية، خاصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كثير شعر اللحية كما في مسلم، وفي رواية: كان كث اللحية: أي الشعر الكثير ليس بالطويل ولا بالقصير. ولو كان غسل ما تحت الشعر واجباً لنقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخلل لحيته، ولم يذكر التخليل في أحاديث الصحيحين كحديث عبد الله ابن زيد، وعثمان بن عفان، وغيرهما، والله أعلم. دليل من أوجب غسل البشرة مطلقاً لعلهم قاسوا ذلك على غسل الجنابة، بجامع أن كلاً منهما طهارة من حدث. والدليل على وجوب إيصال الماء إلى البشرة في غسل الجنابة. (951 - 180) ما رواه البخاري في صحيحه من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده. ولعلهم رأوا أن الواجب هو غسل البدن، وإذا طرأ على البدن شعر لم يمنع ذلك من وجوب غسل البدن، حتى يتعذر غسله، والشعر لا
يمنع من وصول الماء إلى البدن. ويجاب على ذلك: بأن الطهارة الصغرى مبنية على التخفيف، ولذلك جاز فيها المسح على الرأس وعلى الخفين، وكانت على أعضاء مخصوصة، بخلاف الطهارة الكبرى فإن طهارتها ليس فيها مسح، وتعم جميع البدن، والله أعلم. كما يمكن أن يستدل ببعض الأدلة التي سقناها في تخليل اللحية، وفيها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلل لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي. ومنها حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء، فأدخله تحت حنكه، فخلل لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي. والأصل في الأمر الوجوب. انظر هذه الأدلة في مسألة تخليل اللحية. وهي أحاديث كلها ضعيفة، لا تقوم بها حجة. وقالوا: إن ما تحت الشعر الكثيف بقي داخلاً في حد الوجه بعد نبات الشعر، فيجب غسله. وجاء عن سعيد بن جبير: ما بال الرجل يغسل لحيته قبل أن تنبت فإذا نبتت لم يغسلها، وما بال الأمرد يغسل ذقنه ولا يغسله ذو اللحية. ولعل كلام سعيد بن جبير يكون متوجهاً لمن قال: يسقط الغسل إلى غير بدل، أما من غسل لحيته فلا يقال له: فإذا أنبت لما لم يغسلها، والله أعلم. والراجح من خلاف أهل العلم التفريق بين الشعر الخفيف والشعر الكثيف، فيجب إيصال الماء إلى ما تحت الشعر الخفيف، نظراً لأن البشرة ما زالت ظاهرة غير مستترة، والأصل وجوب غسل البشرة، فإن حجبت بالشعر كان الغسل للشعر فقط، وناب مناب البشرة.
المسألة الثانية: شعر اللحية هل يغسل أم يمسح
المسألة الثانية: شعر اللحية هل يغسل أم يمسح اختلف العلماء في شعر اللحية هل يغسل أم يمسح كما في شعر الرأس ونحوه، فقيل: يمسح منها مقدار الربع، وهو قول أبي حنفية (¬1)، واختار أبو يوسف صحة الوضوء ولو لم يمس لحيته بالماء (¬2). قال الكاساني: وهذه الرويات - يعني رواية أبي حنيفة وأبي يوسف مرجوع عنها (¬3). وقيل: ليس غسل اللحية من السنة، وهو رواية عن الإمام أحمد (¬4). وقيل: يجب غسله، وهو المشهور من مذهب الحنفية (¬5)، والشافعية (¬6)، والحنابلة (¬7). دليل من قال: يمسح اللحية بدون غسل. رأى أن الشعر على الوجه حكمه حكم الحائل من خف ونحوه، فينتقل الفرض من الغسل إلى المسح، ولذلك قالوا: لا يشرع أن يأخذ للحية ماء ¬
دليل من قال: يجب غسل اللحية
جديداً، بل بفضل ماء الوجه. ومن قال: يمسح مقدار الربع من اللحية، رأى أن كل ممسوح طهارته مبنية على التخفيف، فالخف لا يجب استيعابه، وكذلك مسح الرأس عنده، فإذا مسح من اللحية ومن الرأس مقدار الربع فقد قام بما هو واجب عليه. دليل من قال: يجب غسل اللحية. قال: إن الواجب غسل البشرة، وحين استترت بالشعر انتقل الواجب إلى الشعر حيث كان كثيفاً، أما لو كان خفيفاً لوجب غسل البشرة، فالغسل لا يسقط. وقد جاء في حديث ظاهره غسل اللحية (952 - 181) فقد روى مسلم، قال: حدثني أحمد بن جعفر المعقري، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا شداد بن عبد الله أبو عمار، ويحيى بن أبي كثير، عن أبي أمامة - قال عكرمة: لقي شداد أبا أمامة وواثلة وصحب أنساً إلى الشام وأثنى عليه فضلا وخيرا - عن أبي أمامة، قال: قال عمرو بن عبسة السلمي ما منكم رجل يقرب وضوءه، فيتمضمض، ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله، إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء. الحديث. فإذا كان الماء يقطر من أطراف اللحية كان هذا دليلاً على غسلها، وليس على مسحها فقط، والله أعلم.
المسألة الثالثة: شعر الوجه فيما عدا اللحية
المسألة الثالثة: شعر الوجه فيما عدا اللحية شعر الوجه سوى اللحية كالعذار وشعر الحاجبين والشارب وأهداب العينين والعنفقة ونحوها. فالجمهور لا يفرقون بين شعر اللحية وبين غيرها مما ينبت في الوجه كالشارب والعنفقة وشعر الحاجبين، فما كان كثيفاً غسل ظاهره، وما كان خفيفاً وجب غسل البشرة تحته (¬1). وذهب الشافعية إلى التفريق بين شعر اللحية وبين غيرها، فقالوا في اللحية كقول الجمهور، فرقاً بين الكثيفة والخفيفة، وأما شعر غير اللحية فأوجبوا وصول الماء إلى تحت البشرة مطلقاً، كثيفاً كان أو خفيفاً. قال النووي: «قال أصحابنا ثمانية من شعر الوجه يجب غسلها وغسل البشرة تحتها، سواء خفت أو كثفت، وهي: الحاجبان، والشارب، والعنفقة، والعذار، واللحية من المرأة والخنثى، وأهداب العينين، وشعر الخد» (¬2). وعللوا ذلك: بأن الشعر كونه كثيفاً في هذه المواضع نادر، والنادر لا حكم له. وقول الجمهور أرجح؛ لأن شعر اللحية كغيره، فالأصل غسل البشرة، فلما حجبها الشعر انتقل الحكم إلى الشعر، لأن الحكم في اللحية إن كان ¬
معللاً بكونه تحصل به المواجهة، فقد انتقلت هذه العلة إلى الشعر، ولم تبق البشرة تحصل بها المواجهة بعد سترها، وإن كان الحكم في اللحية معللاً بالمشقة في إيصال الماء إلى ما تحت الشعر الكثيف، فالمشقة موجودة في شعر الشارب الكثيف والحاجب الكثيف ونحوهما، والله أعلم.
المسألة الرابعة: في غسل المسترسل من اللحية
المسألة الرابعة: في غسل المسترسل من اللحية اختلف العلماء في حكم ما استرسل من اللحية، فقيل: يجب غسل ظاهره، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬1)، والحنابلة (¬2)، وعليه أكثر الشافعية (¬3). وقيل: لا يجب بل يسن، وهو مذهب الحنفية (¬4) وأحد قولي الشافعية (¬5). ¬
دليل من قال: يجب غسل المسترسل من اللحية
وقيل: لا يشرع غسله، وهو اختيار ابن حزم رحمه الله (¬1). دليل من قال: يجب غسل المسترسل من اللحية. استدل بقوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم} (¬2)، فالله أمر بغسل الوجه أمراً مطلقاً، ولم يخص صاحب لحية من أمرد، فكل ما أطلق عليه اسم وجه فواجب غسله؛ لأن الوجه مأخوذ من المواجهة، فوجب غسلها بدلاً من البشرة. ولأن اللحية النازلة من الذقن تشبه اللحية النابتة على الخد، فإذا وجب غسل النابت على الخد وجب غسل النابت على الذقن مطلقاً سواء نزل على الصدر أم لم ينزل. دليل من قال: لا يشرع غسل المسترسل. أولاً: الأصل المأمور بغسله: هو بشرة الوجه، وإنما وجب غسل اللحية بدلاً من البشرة حين نبتت فوق الوجه، وما انسدل من اللحية على الصدر ليس تحته ما يلزم غسله فيكون غسل اللحية بدلاً منه. ثانياً: القياس على الرأس، فكما أن جلد الرأس مأمور بمسحه، فلما نبت عليه الشعر ناب مسح الشعر عن مسح الرأس، وما انسدل من الرأس سقط، فليس تحته بشرة يلزم مسحها، ومعلوم أن الرأس سمي رأساً لعلوه ونبات الشعر فيه، وما سقط من الشعر وانسدل فليس برأس، فكذلك ما انسدل من اللحية فليس بوجه (¬3). ¬
دليل من قال: يسن ولا يجب
دليل من قال: يسن ولا يجب. لعله قال ذلك احتياطاً، وخروجاً من الخلاف، فلم يبلغ الدليل عنده من القوة ما يجعله يجزم بالوجوب، ورأى أن الاحتياط في الترغيب في مسحه فاستحبه، خاصة أن فيه من الأدلة ما يدل على غسل ظاهر اللحية، (953 - 182) كما في الحديث الذي رواه مسلم، قال: حدثني أحمد بن جعفر المعقري، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا شداد بن عبد الله أبو عمار ويحيى بن أبي كثير، عن أبي أمامة - قال عكرمة: لقي شداد أبا أمامة وواثلة وصحب أنساً إلى الشام وأثنى عليه فضلا وخيرا - عن أبي أمامة، قال: قال عمرو بن عبسة السلمي ما منكم رجل يقرب وضوءه، فيتمضمض، ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء. الحديث. فقوله: من أطراف لحيته مطلق، يشمل اللحية المسترسلة وغيرها. والله أعلم. الراجح: أن اللحية المسترسلة لا يجب غسلها، لقوة أدلة القائلين بعدم الوجوب، وأما قولهم: إنها تحصل بها المواجهة لا يكفي في الوجوب، فالرقبة متصلة بالوجه، وتحصل بها المواجهة ولا يجب غسلها، فكيف بالشعر النازل عن حد الرقبة، وأما حديث «مع أطراف لحيته» فلا يشعر بالوجوب، قد يشعر بالاستحباب، مع أن الحديث ليس نصاً في اللحية المسترسلة، والله أعلم.
الفرع الرابع: إذا غسل وجهه غسل جزء من الجوانب المحيطة به
الفرع الرابع: إذا غسل وجهه غسل جزء من الجوانب المحيطة به ذكر كثير من الفقهاء أن على المتوضئ إذا غسل وجهه أن يغسل جزءاً من رأسه، وسائر الجوانب المجاورة للوجه، احتياطاً، وليس هذا الغسل وجباً لنفسه وجوب المقاصد، وإنما وجب لغيره من باب الوسائل، لأن استيعاب الوجه واجب، ولا يمكنه الاستيعاب إلا بذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما يجب إمساك جزء من الليل في الصيام ليستوعب النهار (¬1). ¬
الفرع الخامس: في الكلام على الأنف والفم
الفرع الخامس: في الكلام على الأنف والفم أما ظاهر الأنف وحمرة الشفتين الظاهرة فهما من الوجه، فيجب غسلهما لدخولهما في حد الوجه طولاً وعرضاً، وأما باطن الأنف وداخل الفم فهل يدخلان في الوجه، فتكون المضمضة والاستنشاق واجبين في الوضوء؟ أو لا يدخلان في حد الوجه، كما لا يدخل باطن العينين فيه؟ فتكون المضمضة والاستنشاق سنة، وقبل نقل خلاف العلماء في المضمضة والاستنشاق يبنغي أن أبين أن المضمضة والاستنشاق مجمع على مشروعيتهما في الوضوء، وإنما الخلاف في وجوبهما. قال أبو عبيد القاسم بن سلام: والذي عليه المسلمون أن الاستنشاق والمضمضة من سنة الوضوء التي لا يجوز تركها (¬1). وقال ابن عبد البر: أجمع المسلمون طراً: أن الاستنشاق والاستنثار من الوضوء، وكذلك المضمضة ومسح الأذنين (¬2). وقال ابن حزم: واتفقوا على أن من غسل يديه ثلاثاً ثم مضمض ثلاثاً ثم استنشق ثلاثاً .... أنه قد أدى ما عليه في الأعضاء المذكورة (¬3). وأما الخلاف في وجوبهما فقد اختلف أهل العلم فيهما على أقوال: فقيل: المضمضة والاستنشاق سنة في الوضوء وفي الغسل، وهو مذهب المالكية والشافعية. ¬
وقيل: واجبان في الوضوء والغسل، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة. هذان قولان متقابلان. وفيه قولان آخران متقابلان أيضاً: فقيل: المضمضة والاستنشاق سنة في الوضوء، واجبان في الغسل، وهذا مذهب الحنفية. وقيل: واجبان في الوضوء دون الغسل. وقيل: المضمضة سنة، والاستنشاق واجب فيهما. والراجح: أن المضمضة سنة في الوضوء وفي الغسل، وأما الاستنشاق فواجب في الوضوء سنة في الغسل، والله أعلم. وانظر أدلة الأقوال في سنن الوضوء، فقد ذكرتها هناك.
الفرع السادس: في غسل ما تحت الذقن
الفرع السادس: في غسل ما تحت الذقن قال في مواهب الجليل: وليس عليه أن يغسل ما تحت الذقن، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً (¬1). قلت: يقصد والله أعلم استيعاب ما تحت الذقن بالغسل، وإلا فقد تقدم أنه يجب عليه إذا غسل رأسه أن يغسل ما يجاوره من جوانب الوجه، فلا بد أن يغسل جزءاً ولو يسيراً من تحت ذقنه، ليمكنه استيعاب وجهه. ولذلك قال النووي: يجب على المتوضئ غسل جزء من رأسه ورقبته وما تحت ذقنه مع الوجه؛ لأنه لا يمكنه استيعاب الوجه إلا بذلك، كما يجب إمساك جزء من الليل من الصيام ليستوعب النهار (¬2). اهـ ¬
الفصل الثاني: من فروض الوضوء غسل اليدين إلى المرفقين
الفصل الثاني: من فروض الوضوء غسل اليدين إلى المرفقين من فروض الوضوء غسل اليدين إلى المرفقين، وهو فرض بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعال: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} (¬1). وأما السنة فالأحاديث الكثيرة الواردة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث عثمان وحديث عبد الله بن زيد وغيرهما وسبق تخريجهما. وأما الإجماع فقد نقله جماعة كثيرة من أهل العلم، أقتصر على بعضهم: قال الطحاوي الحنفي: نظرنا في ذلك، فرأينا الأعضاء التي قد اتفقوا على فرضيتها في الوضوء: الوجه، واليدان، والرجلان، والرأس (¬2). وقال ابن عبد البر: «العلماء أجمعوا على أن غسل الوجه واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الكعبين ومسح الرأس فرضٌ ذلك كله، لأمر الله في كتابه المسلم عند قيامه إلى الصلاة إذا لم يكن متوضئاً، لا خلاف علمته في شيء من ذلك إلا في مسح الرجلين وغسلهما على ما نبينه في بلاغات مالك إن شاء الله» (¬3). وقال الخرشي المالكي: «ومحصل ذلك، أن منها فرضاً بإجماع، وهي الأعضاء الأربعة» (¬4). ¬
وقال القاضي أبو الوليد بن رشد: «فرائض الوضوء ثمانية: منها أربعة متفق عليها عند أهل العلم، وهي التي نص الله تبارك وتعالى عليها، غسل الوجه واليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين» (¬1). وقال الماوردي الشافعي: «غسل الذراعين واجب بالكتاب والسنة والإجماع» (¬2). وقد نقل الإجماع من الشافعية الخطيب الشربيني (¬3)، والبجيرمي (¬4)، والنووي (¬5)، وغيرهم. كما نقله من الحنابلة: ابن مفلح (¬6)، والزركشي (¬7)،وغيرهم. ¬
المبحث الأول: في غسل المرفقين مع اليدين
المبحث الأول: في غسل المرفقين مع اليدين ذهب الجمهور إلى وجوب إدخال المرفقين في غسل اليدين (¬1). وقال زفر وأبو بكر بن داود: لا يجب إدخال المرفقين (¬2)، وهو رواية عن مالك (¬3)، وأحمد (¬4)، وهو رأي ابن حزم (¬5). دليل الجمهور: الدليل الأول: (954 - 883) حديث أبي هريرة في مسلم، من طريق نعيم بن عبد الله المجمر قال: رأيت أبا هريرة يتوضأ، فغسل وجهه، فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع ¬
الدليل الثاني
في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله (¬1). وجه الاستدلال: كون أبي هريرة غسل يده حتى أشرع في العضد، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ صريحاً في الرفع. قال القرطبي في المفهم: (أشرع) رباعي أي: مد يده بالغسل إلى العضد، من قولهم: أشرعت الرمح قبله: أي مددته إليه، وسددته نحوه، وأشرع باباً إلى الطريق، أي: فتحه مسدداً إليه، وليس هذا من شرعت في هذا الأمر، ولا من شرعت الدواب في الماء بشيء؛ لأن هذا ثلاثي، وذاك رباعي، ثم قال: والإشراع المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة محمول على استيعاب المرفقين والكعبين بالغسل، وعبر عن ذلك بالإشراع في العضد والساق؛ لأنهما مباديهما (¬2). الدليل الثاني: (955 - 184) ما رواه الدارقطني من طريق عباد بن يعقوب، حدثنا القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أدار الماء ¬
الدليل الثالث
على مرفقيه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثالث: (956 - 185) ما رواه الدارقطني من طريق عبيد الله بن سعد بن إبراهيم، نا عمي (يعقوب بن إبراهيم بن سعد) أخبرنا أبي، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله بن معمر التيمي، عن حمران مولى عثمان بن عفان أنه حدثه، أنه سمع عثمان بن عفان، قال: هلموا أتوضأ لكم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين حتى مس أطراف العضدين (¬3). [قوله: «حتى مس أطراف العضدين» زيادة شاذة في الحديث] (¬4). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (957 - 186) ما رواه البزار، كما في مختصر زوائد البزار (¬1)، والطبراني في الكبير (¬2)، من طريق محمد بن حجر، ثنا سعيد بن عبد الجبار بن وائل بن حجر، عن أبيه، عن أمه، عن وائل بن حجر، قال: شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتي بإناء فيه ماء، فذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - توضأ، وفيه: ثم أدخل يمينه في الإناء، فغسل بها ذراعه اليمنى، حتى جاوز المرافق ثلاثاً، ثم غسل يساره بيمينه حتى جاوز المرفق، ثم مسح رأسه ثلاثاً، وظاهر أذنيه ثلاثاً، وظاهر رقبته، وأظنه قال: وظاهر لحيته ثلاثاً، ثم غسل بيمينه قدميه ثلاثاً، وفصل بين أصابعه، أو قال: ¬
الدليل الخامس
وخلل بين أصابعه، ورفع الماء حتى جاوز الكعب، ثم رفعه في الساق، ثم فعل باليسرى مثل ذلك. وهذا لفظ البزار. [إسناده ضعيف] (¬1). الدليل الخامس: (958 - 187) ما رواه الطحاوي من طريق الحماني وأبي الوليد الطيالسي، كلاهما عن قيس بن الربيع، عن الأسود بن قيس، عن ثعلبة بن عباد العبدي، عن أبيه: قال: ما أدراكم حدثنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزواجاً أو أفراداً: ما من عبد يتوضأ، فيحسن الوضوء، فيغسل وجهه حتى يسيل الماء على ذقنه، ثم يغسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه، ثم يغسل رجليه ¬
حتى يسيل الماء من قبل كعبيه، ثم يقوم فيصلي ركعتين إلا غفر له ما سلف من ذنبه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). فاعتبر الحافظ هذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً. قال في الفتح: ((ويمكن أن يستدل لدخولهما يعني - المرفقين - بفعله - صلى الله عليه وسلم -، ففي الدارقطني بإسناد حسن من حديث عثمان في صفة الوضوء: فغسل يديه إلى المرفقين حتى مس أطراف العضدين. وفيه عن جابر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه. وفي البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر في صفة الوضوء (فغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق). وفي الطحاوي والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد، عن أبيه مرفوعاً " ثم ¬
الدليل السادس
غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه " فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً)) (¬1). اهـ قلت: إن كان الاستدلال بالفعل المجرد على وجوب إدخال المرفقين فالاستدلال بحديث أبي هريرة في مسلم أولى، وقد تقدم ذكره في أدلتهم. الدليل السادس: لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أخل ولو مرة واحدة، فترك غسل المرفقين، فكل من نقل لنا صفة وضوئه - صلى الله عليه وسلم - نقل لنا أنه كان يغسل مرفقيه، فهذا بيان للمجمل في قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} (¬2). وإنما تلقينا صفة الوضوء من فعله - صلى الله عليه وسلم -، وهو المبين لما أنزل عليه. الدليل السابع: قال الماوردي: لا يعرف فيه خلاف - يعني: وجوب غسل المرفقين - قبل زفر، فكان زفر محجوجاً بإجماع من تقدمه. اهـ وقال الحافظ: «قال الشافعي في الأم: لا أعلم مخالفاً في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء، فعلى هذا يكون زفر محجوجاً بالإجماع قبله، وكذا من قال بذلك من أهل الظاهر بعده، ولم يثبت ذلك عن مالك صريحاً، وإنما حكى عن أشهب كلاماً محتملاً» (¬3). اهـ كلام الحافظ. ولا أدري هل يستقيم القول: بأنه محجوج بالإجماع قبله، مع مخالفة زفر ¬
والطبري وبعض أصحاب داود، ومالك وأحمد في رواية عنهما، وهل ثبت الإجماع فعلاً؟ أو تكون عبارة: لا أعلم مخالفاً ليست نقلاً للإجماع، بقدر ما هي نقل لعدم العلم بالخلاف، وبينهما فرق. دليل من قال: لا يجب غسل المرفقين. استدلوا بقوله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق} فكلمة (إلى) لانتهاء الغاية فما بعدها غير داخل فيما قبلها، كما لا يجب دخول الليل في الصيام لقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} (¬1). وأجيب عن الآية بجوابين: الأول: أن «إلى» في هذا الموضع بمعنى (مع) وليست غاية للمحدود، فيكون معنى الآية {وأيديكم إلى المرافق} أي مع المرافق، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، كما في قوله تعالى: {وإذا خلوا إلى شياطينهم} (¬2)، أي مع شياطينهم. وكما في قوله تعالى: {من أنصاري إلى الله} (¬3)، أي: مع الله. وكما في قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} (¬4)، أي: مع أموالكم. وقال ابن عبد البر: وقد تكون إلى بمعنى الواو، فيكون المعنى: وأيديكم والمرافق)). ¬
الجواب الثاني: أن إلى وإن كانت حداً وغاية فقد قال المبرد: إن الحد إذا كان من جنس المحدود دخل في جملته، وإن كان من غير جنسه لم يدخل، ألا تراهم يقولون: بعتك الثوب من الطرف إلى الطرف، فيدخل الطرفان في البيع؛ لأنهما من جنسه، وكذلك لم يدخل إمساك الليل في جملة الصيام؛ لأنه ليس من جنس النهار (¬1). وقال ابن عبد البر في التمهيد: وأنكر بعض أهل العلم أن تكون (إلى) بمعنى (مع) أو تكون بمعنى (الواو) قال: ولو كان كذلك لوجب غسل اليد كلها، واليد عند العرب: من أطراف الأصابع إلى الكتف، وقال: لا يجوز أن نخرج (إلى) عن بابها، ويذكر أنها بمعنى الغاية أبداً، وقال: وجائز أن تكون (إلى) بمعنى الغاية، وتدخل المرافق مع ذلك في الغسل؛ لأن الثاني إذا كان من الأول كان ما بعد (إلى) داخلاً فيما قبله، نحو قول الله عز وجل: {إلى المرافق} ثم ذكر نحو الكلام السابق المنقول عن المبرد. وقولهم: إن اليد عند الإطلاق من أطراف الأصابع إلى الكتف غير مسلم، وإن قال به أحد أئمة اللغة، فاليد عند الإطلاق لا تشمل إلا الكف، كما قال تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (¬2)، والقطع إنما هو للكف، وقوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (¬3)، والتيمم إنما يمسح الكفان فقط على الصحيح. ¬
وقال الزمخشري نقلاً من فتح الباري: ولفظ (إلى) يفيد معنى الغاية مطلقاً، فأما دخلوها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل، فقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} دليل عدم الدخول: النهي عن الوصال، وقول القائل: حفظت القرآن من أوله إلى آخره دليل الدخول كون الكلام مسوقاً لحفظ جميع القرآن، وقوله تعالى: {إلى المرافق} لا دليل فيه على أحد الأمرين، فأخذ العلماء بالاحتياط، ووقف زفر مع المتيقن (¬1). الراجح: دخول المرفقين في الغسل، نظراً لقوة أدلتهم، وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل عنه أنه أخل ولو مرة واحدة في ترك غسل المرفق في الوضوء، ولم يأت من يقول: لا يدخل المرفقان في غسل اليد إلا من حيث الاستدلال بـ (إلى) وهي محتملة، وطريقة الراسخين حمل المحتمل على الواضح، والمجمل على المبين، والله أعلم. ¬
تنبيه
تنبيه: إذا غسل يديه بعد غسل وجهه، كان عليه أن يغسلها من أطراف أصابعه إلى المرفقين، فيغسل الكفين مرة ثانية في غسل اليدين، ولا يكتفي في غسلهما في بداية الوضوء. وقيل: إن غسل كفيه في بداية الوضوء اكتفى بغسل الذراعين، وهذا قول في مذهب الحنفية، وقد ذكرناه في مباحث غسل الكفين، والأول أرجح وأحوط، أما كونه أرجح: فإن غسل الكفين في أول الوضوء سنة، ومحلهما قبل غسل الوجه، فإذا كان غسل الكفين اختلف حكم غسلهما واختلف محله كذلك فكيف يتداخلان؟ فلو كان الحكم والمحل واحداً لكان القول بالتداخل له وجه. وأما كونه أحوط فظاهر؛ لأن من ترك غسلهما فقد اختلف العلماء في صحة وضوئه، وأما من غسلهما فقد خرج من العهدة بيقين، والله أعلم.
المبحث الثاني: في غسل اليد الزائدة ونحوها من أعضاء الوضوء
المبحث الثاني: في غسل اليد الزائدة ونحوها من أعضاء الوضوء الأعضاء الزائدة يجب غسلها في طهارة الحدث الأكبر وكذا في الغسل المسنون, وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء. وأما في طهارة الحدث الأصغر: فقد ذهب الفقهاء إلى أن من خلق له عضوان متماثلان كاليدين على منكب واحد ولم يمكن تمييز الزائدة من الأصلية , وجب غسلهما جميعا للأمر به في قوله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق} (¬1). فإن أمكن تمييز الزائدة من الأصلية , وجب غسل الأصلية باتفاق، وكذا الزائدة إذا نبتت على محل الفرض (¬2). أما إذا نبتت في غير محل الفرض ولم تحاذ محل الفرض فالاتفاق واقع على عدم وجوب غسلها في الوضوء ولا مسحها في التيمم (¬3). ¬
أما إذا كانت الزائدة نابتة في غير محل الفرض وحاذت كلها أو بعضها محل الفرض فجمهور الفقهاء من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والقاضي أبو يعلى من الحنابلة (¬4)، يوجبون غسل ما حاذى محل الفرض منها , أو كلها عند المالكية إذا كان لها مرفق (¬5). أما الحنابلة فلهم فيها قولان: أحدهما، مع الجمهور، وهو قول أبي يعلى, والثاني: قول ابن حامد وابن عقيل: أن النابتة في غير محل الفرض لا يجب غسلها, قصيرة أو طويلة, لأنها أشبهت شعر الرأس إذا نزل عن حد الوجه, وهذا القول: هو الصحيح من مذهب الحنابلة (¬6)، ورجحه ابن قدامة (¬7). ¬
المبحث الثالث: في الجلد المنكشط
المبحث الثالث: في الجلد المنكشط اختار بعض الفقهاء: أن الاعتبار في الجلد المتقلع بالمحل الذي انتهى التقلع إليه وتدلى منه، فيعتبر المنتهى، ولا ينظر إلى الموضع الذي تقلع منه , فإذا تدلى الجلد المتقلع من محل الفرض في اليد وجب غسله مع اليد، سواء انكشط من محل الفرض وتدلى منه، أو انكشط من العضد وبلغت إلى المرفق أو الساعد فتدلى منه؛ لأنها صارت تابعة لما نزلت منه. وإن تدلى من العضد لم يجب غسله سواء انكشط من العضد وتدلى منه، أو انكشط من محل الفرض وبلغ إلى العضد؛ لأنه صار تابعاً للعضد. هذا ما اختاره العراقيون والبغوي من الشافعية، ورجحه النووي. واختار إمام الحرمين من الشافعية: أن الصواب أن يعتبر بأصله فيجب غسل جلدة الساعد المتدلية من العضد ولا يجب غسل جلدة العضد المتدلية من الساعد إذا لم تلتصق به , وبهذا قطع الماوردي، وصححه المتولي (¬1). والأول أقوى، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع: في أقطع اليد أو بعضها
المبحث الرابع: في أقطع اليد أو بعضها إذا كان الرجل أقطع اليد، فإن كان مقطوعاً من دون المرفق وجب عليه غسل ما بقي من الساعد مع المرفق (¬1). لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (¬2). (959 - 188) ولما رواه البخاري، من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (¬3). فقوله: «وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» فإذا استطاع أن يغسل بعض محل الفرض وجب عليه؛ لدخوله تحت قدرته، وسقط عنه ما عجز عنه. وحكي إجماعاً وجوب غسل ما بقي من محل الفرض، نقل الإجماع فيه النووي في المجموع (¬4)، والحطاب في مواهب الجليل (¬5). وإن كان مقطوعاً من المفصل ففيه قولان: ¬
فقيل: يجب عليه غسل رأس العضد، وهو قول في مذهب الشافعية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: لا يجب عليه غسل رأس العضد. وهو قول في مذهب الشافعية. وأصل القولين اختلافهما في المرفق ما هو؟ فقيل: إن المرفق عظم الساعد، فعلى هذا لا يجب غسل عظم العضد. وقيل: المرفق: هو مجتمع العظمين، عظم الساعد وعظم العضد، فعلى هذا يجب عليه غسل رأس العضد. ومنهم من قال: هو مجتمع العظمين، وإنما هل يغسل عظم العضد تبعاً، أو قصداً، فإن قلنا: يجب غسله قصداً وجب غسله هاهنا، وإن قلنا: يجب غسله تبعاً لم يجب غسله هاهنا. وإن قطع من فوق المرفق فلا فرض عليه، لفوات المحل. واستحب له الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4) أن يمس ما بقي من العضد بالماء، واختلفوا في علة الاستحباب: فقيل: حتى لا يخلو العضو من طهارة. وقيل: يستحب ذلك إطالة للتحجيل. والراجح أنه لا يشرع له أن يمسه بماء؛ لأن محل الفرض سقط بزوال العضو الواجب غسله، ولم يشرع بدل عنه، فالعضد ليس محلاً للفرض حتى يستحب له أن يمسه بماء، والله أعلم. ¬
المبحث الخامس: في الوسخ يكون تحت الظفر
المبحث الخامس: في الوسخ يكون تحت الظفر إذا كان تحت الظفر وسخ يمنع وصول الماء، فهل يصح وضوءه؟. فقيل: تجب إزلته مطلقاً، ولا يصح الوضوء مع وجوده، اختاره المتولي من الشافعية (¬1)، وابن عقيل من الحنابلة (¬2). وقيل: لا تجب إزلته مطلقاً، ويعفى عنه، اختاره الغزالي من الشافعية (¬3)، ومال إليه ابن قدامة من الحنابلة (¬4). وقيل: إن كان يسيراً عفي عنه، وإن فحش وجبت إزالته، وهو مذهب المالكية (¬5)، وأومأ إليه ابن دقيق العيد (¬6)، ورجحه ¬
ابن تيمية (¬1). وسبب الخلاف في هذه المسألة اختلافهم في العفو عن يسير ما يجب غسله من أعضاء الوضوء، فمن رأى أنه يجب غسل الأعضاء الأربعة في الوضوء، ولا يعفى عن شيء منها أوجب إزالة ما تحت الأظفار، ومن رأى أن هذا الشيء اليسير يعفى عنه كما يعفى عن يسير النجاسة ونحوها عفى عنه، ومن رأى أن الأعراب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا لا يتعاهدون نظافة مثل ذلك، ولم يأمرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغسله، رأى العفو عنه مطلقاً، ولم يقيده باليسير، وقد عرضنا أدلة الأقوال في كتابي سنن الفطرة من هذه السلسلة فارجع إليه غير مأمور. ¬
الفصل الثالث: من فروض الوضوء مسح الرأس
الفصل الثالث: من فروض الوضوء مسح الرأس الفرض الثالث من فروض الوضوء مسح الرأس. وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} (¬1). وأما السنة فالأحاديث الكثيرة المستفيضة والتي سقناها فيما سبق من فروض الوضوء. وأما الإجماع فنقله خلق كثير، نقله من الحنفية: الطحاوي (¬2). ومن المالكية: ابن عبد البر (¬3)، والحطاب (¬4)، وابن رشد (¬5)، والقرطبي (¬6)، والخرشي (¬7). ¬
ومن الشافعية: النووي (¬1)، والماوردي (¬2). ومن الحنابلة: ابن قدامة (¬3)، وابن مفلح (¬4)، والزركشي (¬5) وغيرهم. ¬
المبحث الأول: خلاف العلماء في القدر الواجب مسحه من الرأس
المبحث الأول: خلاف العلماء في القدر الواجب مسحه من الرأس اختلف العلماء في المقدار الواجب مسحه من الرأس، فقيل: يكفي في مسح الرأس مقدار الناصية، وهو ربع الرأس، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يجب مسح جميع الرأس، وهو مذهب المالكية (¬2)، والمشهور من ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل الحنفية على جواز الاقتصار على الناصية في المسح
مذهب الحنابلة (¬1)، واختاره المزني من الشافعية (¬2). وقيل: المفروض أقل ما يتناوله اسم المسح، ولو شعرة، وهو مذهب الشافعية (¬3). دليل الحنفية على جواز الاقتصار على الناصية في المسح. الدليل الأول: (960 - 189) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال حدثنا التيمي، عن بكر، عن الحسن، عن ابن المغيرة بن شعبة، ¬
عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ فمسح بناصيته ومسح على الخفين والعمامة. قال بكر: وقد سمعته من ابن المغيرة (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال: لما مسح النبي - صلى الله عليه وسلم - على الناصية، كان مسحه عليه الصلاة والسلام على العمامة من باب الفضل، لا من باب الوجوب؛ إذ لا يمكن أن يجب مسح البدل ومسح الأصل في وقت واحد. قال الطحاوي: في هذا الأثر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح على بعض الرأس، وهو الناصية، وظهور الناصية دليل أن بقية الرأس حكمه حكم ما ظهر منه؛ لأنه لو كان الحكم قد ثبت بالمسح على العمامة، لكان كالمسح على الخفين، فلم يكن إلا وقد غيبت الرجلان فيهما، ولو كان بعض الرجلين بادياً، لما أجزأه أن يغسل ما ظهر منهما، ويمسح على ما غاب منهما، فجعل حكم ما غاب منهما، مضمناً بحكم ما بدا منهما، فلما وجب غسل الظاهر وجب غسل الباطن، فكذلك الرأس لما وجب مسح ما ظهر منه ثبت أنه لا يجوز مسح ما بطن منه ليكون حكم كله حكماً واحداً، كما كان حكم الرجلين إذا غيبت بعضها في الخفين حكماً واحداً، فلما اكتفى النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأثر بمسح الناصية على مسح ما بقي من الرأس دل ذلك أن الفرض في مسح الرأس هو مقدار الناصية، وأن ما فعله فيما جاوز به الناصية فيما سوى ذلك من الآثار كان دليلاً على الفضل لا على الوجوب حتى تستوي هذه الآثار ولا تتضاد، فهذا حكم هذا الباب من طريق الآثار. وأجيب: بأنه لو جاز الاقتصار على مسح الناصية لما مسح على العمامة، وإذا مسح على ناصيته وكمل الباقي بعمامته أجزأه بلا ريب. قلت: وهناك تأمل آخر في الحديث، وهو: هل قوله: توضأ فمسح على
ناصيته، وعلى العمامة، وعلى الخفين نقل لفعل واحد، أو أنه نقل لأفعال مختلفة رصدها المغيرة، ونقلها مجتمعة في نص واحد؟ فإن كان الفعل واحداً فظاهر أن المسح لم يقتصر على الناصية، فلا يكون فيه دليل على جواز الاقتصار على الناصية، وإن كان النقل لأفعال مختلفة، وأن هذه مجموعة أحاديث، وليست حديثاً واحداً للمغيرة، جمعها في حديث واحد، فهو دليل قوي على جواز الاقتصار على المسح على الناصية، وهذا الاحتمال غير بعيد، فإن هناك أحاديث للمغيرة ينقل لنا فيها المسح على الخفين فقط، وهناك حديث ينقل لنا المسح على الجوربين والنعلين، وقد تُكِلم فيه، وخرجته في المسح على الحائل، فيحتاج الباحث إلى تأمل، هل هذه الأفعال كانت متفرقة جمعها المغيرة في حديث واحد، أو كانت فعلاً واحداً في وضوء واحد، نقله لنا المغيرة بن شعبة صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والحنفية والشافعية لا يمكن أن يقولوا لنا: إنها أفعال مختلفة؛ لأنه يلزمهم على هذا أن يقولوا بجواز المسح على العمامة، وهم لا يقولون به، ومحال أن يحتجوا علينا ببعض الحديث، ويتركوا بعضه، والله أعلم. قال ابن القيم في الزاد: ولم يصح عنه في حديث واحد، أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة، ولكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة، ثم قال: وأما اقتصاره على الناصية مجردة لم يحفظ عنه (¬1). اهـ وأما الجواب على ما ذكره الطحاوي، فيقال: لا نسلم أن ما ظهر من القدم فرضه الغسل، وأنه يجب أن يغيب القدم في الخف، فالمسح على الخف ورد مطلقاً، واشتراط كون الخف ساتراً للمفروض لم يأت في كتاب ولا سنة، ¬
الدليل الثاني
وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، والحنفية لا يمنعون المسح على الخف ولو ظهر أصبع أو أصبعين من القدم، ويجمعون في هذه الحالة بين المسح والغسل، مع أن نسبة الأصبعين إلى خمسة الأصابع كنسبة الناصية إلى العمامة، فانتقض كلام الطحاوي رحمه الله في عدم الجمع بين المسح والغسل، والله أعلم. الدليل الثاني على جواز الاقتصار على الناصية: (961 - 190) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، حدثني معاوية بن صالح، عن عبد العزيز بن مسلم، عن أبي معقل، عن أنس بن مالك قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة، فمسح مقدم رأسه، ولم ينقض العمامة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
قال ابن القيم: مقصود أنس به: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينقض عمامته حتى يستوعب مسح الشعر كله، ولم ينف التكميل على العمامة، وقد أثبته المغيرة بن شعبة وغيره، فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه (¬1). اهـ ولا نحتاج إلى هذا الجواب، والحديث ضعيف، ولو قبلوا منا هذا لقبلنا منهم دعوى أن الأحاديث الورادة في المسح على العمامة دون ذكر الناصية أن المقصود مع مسح الناصية، لأن هذه الأحاديث لم تنفيها، وقد أثبتها حديث المغيرة في المسح على العمامة والناصية، بل نقول: الحديث لا يثبت، ولا يستدل على دعوى الاقتصار على مقدم الرأس إلا بحديث صحيح، ولا يوجد. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (962 - 191) ما رواه عبد الرزاق، قال: عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، قال: بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ، وعليه العمامة يؤخرها عن رأسه، ولا يحلها، ثم مسح برأسه، فأشار الماء بكف واحد على اليافوخ قط، ثم يعيد العمامة (¬1). [هذا الأثر من عطاء مرسل، ومرسل عطاء من أضعف المراسيل] (¬2). الدليل الرابع: فعل ابن عمر مع ما عرف عنه من حرصه على متابعة السنة. (963 - 192) فقد روى عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب، عن نافع، أن ابن عمر كان يدخل يديه في الوضوء، فيمسح بها مسحة واحدة ¬
اليافوخ قط (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). فاجتمع لنا أثر صحيح موقوف، ومرسل عطاء، وحديث أنس الضعيف فهل يحصل بمجموعها ما يثبت به الاحتجاج، أو لا تقوى على معارضة الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هذا محل تأمل عندي. قال ابن حجر عن مرسل عطاء: وهو مرسل، لكنه اعتضد بمجئيه من وجه آخر موصولاً، أخرجه أبو داود من حديث أنس، وفي إسناده أبو معقل، لا يعرف حاله، فقد اعتضد كل من المرسل والموصول بالآخر، وحصلت القوة من الصورة المجموعة، وهذا مثال لما ذكره الشافعي من أن المرسل يعتضد بمرسل آخر، أو مسند، ثم قال: وفي الباب أيضاً عن عثمان في صفة الوضوء، قال: ومسح مقدم رأسه، أخرجه سعيد بن منصور، وفيه خالد بن يزيد بن أبي مالك، مختلف فيه، وصح عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الرأس، قال ابن المنذر وغيره، ولم يصح عن أحد من الصحابة إنكار ذلك، قاله ابن حزم، وهذا كله مما يقوى به المرسل المتقدم ذكره، والله أعلم (¬3). ¬
دليل من قال يجزئ أقل ما يتناوله المسح
دليل من قال يجزئ أقل ما يتناوله المسح. الدليل الأول: قال تعالى: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} (¬1)، فيتحقق مسح الرأس بمسح جزء من أجزائه، كما تقول: ضربت رأسه، وضربت برأسه، فمن قال: إنه لا يكون ضارباً لرأسه حقيقة إلا إذا وقع الضرب على جميع رأسه على جزء من أجزائه فقد جاء بما لا يفهمه أهل اللغة ولا يعرفونه، ومثل هذا إذا قال القائل: مسحت الحائط ومسحت بالحائط، فإن المعنى للمسح يوجد بمسح جزء من أجزاء الحائط، ولا ينكر هذا إلا مكابر (¬2). الدليل الثاني: ثبت في الدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح بناصيته، فهذا يمنع وجوب الاسيتعاب، ويمنع التقدير بالثلث أو الربع أو النصف فإن الناصية دون الربع، فيتعين أن الواجب ما يقع عليه اسم مسح. الدليل الثالث: الباء في قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} (¬3)، دالة على التبعيض، وجهه: إذا دخلت الباء على فعل يتعدى بنفسه كانت للتبعيض، كقوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} وإن لم يتعد فاللإصاق كقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} (¬4). ¬
دليل من قال: يجب استيعاب الرأس بالمسح
ورد عليهم: بأنه لم يثبت كونها للتبعيض، وقد رده سيبويه في خمسة عشر موضعاً في كتابه. فإن قيل: فما فائدة دخول الباء مع أن الفعل يتعدى بنفسه. قال ابن تيمية: إذا دخلت الباء على فعل يتعدى بنفسه أفادت قدراً زائداً، فلو قال: {وامسحوا رؤوسكم} أو وجوهكم لم تدل على ما يلتصق بالمسح، فإنك تقول: مسحت رأس فلان وإن لم يكن بيدك بلل، فإذا قيل: وامسحوا برؤوسكم وبوجوهكم ضمن المسح معنى الإلصاق، فأفاد أنكم تلصقون برؤوسكم وبوجوهكم شيئاً بهذا. دليل من قال: يجب استيعاب الرأس بالمسح. الدليل الأول: (964 - 193) ما رواه البخاري من طريق عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أن رجلا قال لعبد الله بن زيد وهو جد عمرو بن يحيى: أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، فقال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا بماء، فأفرغ على يديه، فغسل مرتين، ثم مضمض واستنثر ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه. ورواه مسلم بنحوه (¬1). ¬
الدليل الثاني
وجه الاستدلال: هذا بيان لما أجمل في آية المائدة من قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} وإذا كان فعله - صلى الله عليه وسلم - بياناً لمجمل واجب، كان مسحه كله واجباً، فالله سبحانه وتعالى أمر بمسح الرأس، وفعله - صلى الله عليه وسلم - خرج امتثالاً للأمر، وتفسيراً للمجمل. الدليل الثاني: احتج بعضهم لوجوب العموم في مسح الرأس بقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} (¬1)، وقد أجمعوا أنه لا يجوز الطواف ببعضه، فكذلك مسح الرأس لقوله تعالى: {امسحوا برؤوسكم} لا يجوز مسح بعضه (¬2). الدليل الثالث: الباء في قوله سبحانه وتعالى: {فامسحوا برؤوسكم} كالباء في قوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم} في التيمم، فكما أنهم أجمعوا على أنه لا يجوز مسح بعض الوجه في التيمم، فكذلك لا يجوز مسح بعض الرأس في الوضوء، فالعامل واحد في الموضعين، وهو قوله تعالى: {وامسحوا} (¬3). الدليل الرابع: قال ابن عبد البر: الفرائض لا تؤدى إلا بيقين، واليقين ما أجمعوا عليه من مسح جميع الرأس، فقد أجمعوا أن من مسح برأسه كله فقد أحسن، وفعل أكمل ما يلزمه (¬4). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: أن الله سبحانه وتعالى ذكر مسح الرأس، ومسمى الرأس حقيقة هو جميع الرأس، فيقتضي وجوب مسح جميع الرأس، وحرف الباء لا يقتضي التبعيض لغة، بل هو حرف إلصاق، فيقتضي إلصاق الفعل بالمفعول، وهو المسح بالرأس، والرأس اسم لكله، فيجب مسح كله. الراجح من هذه الأقوال: لا شك أن القول بوجوب مسح جميع الرأس له أدلة قوية من حيث الأثر ومن حيث النظر، وهو أحوط بكل حال، وقول من قال بجواز الاقتصار على الناصية له قوة أيضاً، خاصة أنه صح فعله عن ابن عمر، وقد عرف ابن عمر في حرصه على متابعة السنة، والله أعلم.
المبحث الثاني: تكرار مسح الرأس
المبحث الثاني: تكرار مسح الرأس ذهب الجمهور إلى أن الرأس والأذنين لا يشرع تكرار مسحهما، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والحنابلة (¬3). واستحب الشافعية تكرار المسح للرأس ثلاثاً (¬4). والراجح قول الجمهور، وقد استعرضنا أدلة الفريقين والجواب عن أدلة الشافعية في سنن الوضوء. ¬
المبحث الثالث: حكم مسح الأذنين
المبحث الثالث: حكم مسح الأذنين تكلمنا في سنن الوضوء في حكم أخذ ماء جديد للأذنين، ونتكلم في هذا الفصل في حكم مسحهما في الوضوء، هل هو واجب أم سنة، وقد اختلف العلماء في حكم مسح الأذنين: فقيل: مسح الأذنين سنة، فمن تركه فلا إعادة عليه، وهو مذهب الجمهور (¬1)، وراية عن أحمد (¬2)، واختيار ابن حزم (¬3). وقيل: يجب مسح الأذنين، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬4)، وقول إسحاق (¬5)، واختاره بعض المالكية (¬6). دليل الجمهور على أن مسحهما سنة: الدليل الأول: الإجماع، قال النووي: قال ابن جرير الطبري في كتاب اختلاف الفقهاء: ¬
الدليل الثاني
أجمعوا أن من ترك مسحهما فطهارته صحيحة، وكذا نقل الإجماع غيره (¬1). وقال ابن عبد البر: «وحجة الشافعي في قوله: إن مسح الأذنين سنة على حيالهما، وليستا من الوجه، ولا من الرأس: إجماع القائلين بإيجاب الاستيعاب في مسح الرأس أنه من ترك مسح أذنيه وصلى لم يعد» (¬2). والحق أن الخلاف محفوظ، ولذلك قال ابن هبيرة: «وأجمعوا على أن مسح باطن الأذنين وظاهرهما سنة من سنن الوضوء، إلا أحمد فإنه رأى مسحهما واجباً، وعنه أنه سنة» (¬3). وقال القرطبي: وأهل العلم يكرهون للمتوضئ ترك مسح أذنيه، ويجعلونه تارك سنة من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يوجبون عليه إعادة إلا إسحاق (¬4). وقال ابن بشير: وأما داخل الأذنين فلا خلاف أنهما سنة، فمن ترك مسحهما لم تبطل صلاته، وأما خارج الأذنين ففيه قولان، أحدهما: أنه فرض. والثاني: أنه سنة (¬5). فكل هذه النقول تثبت أن هناك قولاً في وجوب مسح الأذنين. الدليل الثاني: (965 - 194) ما رواه البخاري من طريق عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أن رجلا قال لعبد الله بن زيد، وهو جد عمرو بن يحيى: ¬
الدليل الثالث
أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا بماء، فأفرغ على يديه، فغسل مرتين، ثم مضمض واستنثر ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر بدأ، بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه. ورواه مسلم بنحوه (¬1). وجه الاستدلال: أن هذا الوضوء وقع جواباً كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، فذكر صفة الوضوء من المضمضة والاستنشاق والتثليث فيهما، وذكر مسح الرأس مبيناً من أين يبدأ، وأنه من مقدم الرأس، وذكر إقبال اليدين وإدبارهما، ثم انتقل إلى غسل الرجلين، ولم يذكر الأذنين، ولو أن الراوي قال: ومسح برأسه لقيل: ربما أنه أجمل، فلما ذكر صفة مسح الرأس بداية ونهاية، ولم يتعرض للأذنين علم أنه لم يمسحهما، وتركه لهما وهو في معرض بيانه لصفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على أن مسحهما ليس بواجب. الدليل الثالث: (966 - 195) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، أن عطاء بن يزيد أخبره، أن حمران مولى عثمان أخبره، أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء، فأفرغ على كفيه ثلاث مرار، فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء، فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث ¬
الدليل الرابع
مرار إلى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: الاستدلال بهذا الحديث كالاستدلال بالحديث السابق، ذكر مسح الرأس، ولم يذكر مسح الأذنين، والسياق في بيان صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين حصل له من الأجر كذا وكذا، وهذا الوضوء ليس فيه مسح الأذنين، فمن امتثل الحديث فقد صح وضوءه، وفعل ما أمر به. الدليل الرابع: لم يرد في السنة أمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - بمسح الأذنين، وما نقل عنه أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يمسح أذنيه هي مجرد أفعال، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب. دليل الحنابلة على وجوب مسح الأذنين. الدليل الأول: قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} وجاء في الأحاديث أن الأذنين من الرأس، وسبق تخريجها في سنن الوضوء، وإذا كانت الأذنان من الرأس فيكون الأمر بمسح الرأس أمراً بمسحهما، فيثبت وجوبه بالنص القرآني، وحديث الأذنان إما أن نقول: إنها حجة بمجموعها، أو نقول: إنها موقوفة، فإن رجحنا كونها مرفوعة فلا إشكال، وإن رجحنا كونها موقوفة على ¬
الدليل الثاني
الصحابة، فإن قول الصحابي حجة إذا لم نعلم له مخالفاً، وقد حكى النووي الإجماع على أن الأذنين تطهران، كما في المجموع وحكاه غيره. ويمكن أن يجاب عنه: لا إشكال في استحباب مسح الأذنين، وإنما الخلاف في وجوب مسحهما، وكون الأذنين من الرأس: أي يمسحان بماء الرأس، وليس فيه دليل على وجوب المسح من هذا الحديث على أن الحديث لا يثبت مرفوعاً. الدليل الثاني: (967 - 196) ما رواه مالك في الموطأ، عن زيد بن أسلم، عن عطاء ابن يسار، عن عبد الله الصنابحي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ العبد المؤمن، فتمضمض خرجت الخطايا من فيه، وإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه، فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفار رجليه، قال: ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة (¬1). وجه الاستدلال: قوله «فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من أذنيه»، دليل على أن الأذنين من الرأس، فيكون حكم مسحهما حكم مسح الرأس، فإذا كان مسح الرأس فرضاً كان مسحهما فرضاً. ¬
الدليل الثالث
وأجيب: أولاً: أن الحديث وإن كان رجاله ثقات إلا أنه مرسل، الصنابحي لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمرسل من قسم الضعيف (¬1). ثانياً: قد روى مسلم نحو هذا الحديث من مسند عمرو بن عبسة، إلا أنه جعل خروج الخطايا من الرأس مع أطراف الشعر، ولم يذكر الأذنين. فقد أخرجه مسلم من حديث طويل وفيه: «ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء» (¬2). الحديث. ثالثاً: هذا الحديث مجرد فعل، ونحن لا ننازع بمشروعية مسح الأذنين، ولكن النزاع في وجوب مسحهما، والله أعلم. الدليل الثالث: (968 - 197) ما رواه النسائي من طريق ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس قال توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغرف غرفة فمضمض واستنشق، ثم غرف غرفة فغسل وجهه، ثم غرف غرفة فغسل يده اليمنى، ثم غرف غرفة فغسل يده اليسرى، ثم مسح برأسه وأذنيه باطنهما بالسباحتين وظاهرهما بإبهاميه، ثم غرف غرفة فغسل رجله اليمنى، ثم غرف غرفة فغسل رجله اليسرى. [رجاله ثقات إلا ابن عجلان فإنه صدوق، وأكثر الرواة على عدم ذكر مسح الأذنين في الحديث] (¬3). ¬
وفي الباب حديث عثمان بن عفان وعبد الله بن عمرو، والربيع بنت معوذ وقد سبق تخريجها. وجه الاستدلال: هذه الأحاديث وإن كانت أفعالاً إلا أنها بيان لما أجمل في قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم}. وأجيب: بأننا لا نسلم بأنها بيان للمجمل، وغاية ما فيها أنها تدل على استحباب مسح الأذنين، وهذا لا نزاع فيها بيننا، وإنما الخلاف هل مسحهما فرض أم لا؟.
الفرع الأول: في صفة مسح الأذنين
الفرع الأول: في صفة مسح الأذنين صفة المسح من الآثار: أما صفة المسح من الآثار، ففي الباب أحاديث كثيرة، منها: الحديث الأول: حديث ابن عباس المتقدم في المسألة السابقة: وفيه: «ثم مسح برأسه وأذنيه، باطنهما بالسباحتين، وظاهرهما بإبهاميه». الحديث. الحديث الثاني: (969 - 198) حديث عثمان رضي الله عنه، وسبق تخريجه من طريق إسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل، عن عثمان، وفيه: «أنه توضأ، فمسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ». وهو حديث ضعيف (¬1). الحديث الثالث: (970 - 199) حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وفيه: ثم مسح برأسه، وأدخل أصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه، بالسباحتين باطن أذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثاً، ثم قال: هكذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم أو ظلم وأساء. وسبق تخريجه (¬2). ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع: حديث الربيع بنت معوذ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فأدخل إصبعيه في حجري أذنيه. وسبق تخريجه (¬1). الحديث الخامس: (971 - 200) ما رواه أحمد، حدثنا أبو المغيرة قال: حدثنا حريز قال: حدثنا عبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي قال: سمعت المقدام بن معدي كرب الكندي قال: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوضوء، فتوضأ، فغسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ثم مضمض واستنشق ثلاثاً، ومسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وغسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
فدلت هذه الأحاديث على أن صفة مسح الأذنين: مسح الباطنين بالسبابتين، وظاهر الأذنين بالإبهامين، وإدخال الأصبعين في صماخ الأذنين. هذا ما تدل عليه مجموع الأحاديث السابقة. وأما كلام الفقهاء في صفة مسح الأذنين كالتالي: قال البهوتي: وكيف مسح الأذنين أجزأ. قال ابن عابدين الحنفي: يمسح باطنهما بباطن السبابتين، وظاهرهما بباطن الإبهامين (¬1). وفي حاشية العدوي على الخرشي: ((وصفة مسح الأذنين، أن يجعل باطن الإبهامين على ظاهر الشحمتين، وآخر السبابتين في الصماخين، وهما ثقبا ¬
الأذن، ووسطهما ملاقياً للباطن، دائرين مع الإبهامين للآخر، وكره تتبع غضونهما)) (¬1). وفي الكافي لابن عبد البر: يأخذ المتوضئ ماءً جديداً، فيمسح باطنهما وظاهرهما، وإن ترك مسح داخل أذنيه فلا شيء عليه (¬2). وفي مذهب الشافعية استحبوا أن يأخذ لصماخيه ماءً غير الماء الذي مسح به أذنيه. قال في المهذب: ويأخذ لصماخيه ماء جديداً غير الماء الذي مسح به ظاهر الأذن وباطنه؛ لأن الصماخ من الأذن كالفم والأنف من الوجه، فكما أفرد الفم والأنف عن الوجه بالماء، فكذلك الصماخ في الأذن (¬3). وهذا القياس بعيد، فإذا كنا لا نستحب أن نأخذ ماء جديداً للأذن، فما بالكم لجزء منها. وفي كشاف القناع قال: أن يدخل سبابتيه في صماخيهما - يعني الأذنين - ويمسح بإبهاميه ظاهرهما (¬4). وهل يتتبع غضاريف الأذنين؟ قال العدوي في حاشيته على الخرشي: وكره تتبع غضونهما. وقال في كشاف القناع: ولا يجب مسح ما استتر من الأذنين بالغضاريف؛ لأن الرأس الذي هو الأصل لا يجب مسح ما استتر منه بالشعر، فالأذن أولى، فالغضروف داخل فوق الأذن: أي أعلاها ومستدار سمعها. ¬
وأما الشافعية فرأوا أن يمر برأس الأصبع على معاطف الأذن، والأمر عندي ليس بلازم، لأن باب المسح أخف من باب الغسل، واستيعاب الممسوح أمر شاق حتى من يقول: بمسح الرأس كله، لا يمسح كل شعرة فيه، فإذا مسح أكثره أجزأ، والأذن أخف من الرأس، لكون مسح الرأس فرضاً، ومسح الأذن سنة على الصحيح، ولأن الأذنين تبعاً للرأس، لا يجزئ مسحهما عن الرأس، ويجزئ مسح الرأس عنهما، فإذا مسح باطن الأذنين بالسبابة أجزأه ذلك إذا مر بإبهاميه على ظاهرهما، والله أعلم.
الفرع الثاني: تمسح الأذنان معا
الفرع الثاني: تمسح الأذنان معاً يمسح الأذنين معاً، ولا يقدم اليمنى على اليسرى، قاله النووي (¬1). وقال أيضاً: مسح الأذنين بعد مسح الرأس، فلو قدمه عليه فظاهر كلام الأصحاب لا يحصل له مسح الأذنين؛ لأنه فعله قبل وقته، وذكر الروياني في حصوله وجهين، والصحيح المنع (¬2). أهـ والصحيح جوازه لكنه خلاف السنة، فكما لو قدم اليد اليسرى على اليمنى أو الرجل اليسرى على اليمنى صح، وكان خلاف السنة، لأن الرأس والأذنين في حكم العضو الواحد، وماؤهما واحد، وطهارتهما المسح. ¬
المبحث الرابع: خلاف العلماء في المسح على العمامة
المبحث الرابع: خلاف العلماء في المسح على العمامة اختلف العلماء في المسح على العمامة، فقيل: لا يجوز، هو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3). وقيل: يجوز، اختاره الثوري (¬4)، والأوزاعي (¬5)، وهو المشهور من ¬
مذهب الحنابلة (¬1)، ومذهب الظاهرية (¬2)، وهو الصحيح. وقد تكلمت على أدلة الأقوال وتتبعت الآثار الموقوفة والمرفوعة في بحث مطول في كتابي أحكام المسح على الحائل، فأغنى عن إعادته هنا، والله الموفق. ¬
المبحث الخامس: خلاف العلماء في المسح على الخمار
المبحث الخامس: خلاف العلماء في المسح على الخمار اختلف العلماء في مسح المرأة على الخمار، فقيل: تمسح كما يمسح الرجل على العمامة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1)، ورجحه ابن حزم (¬2). وقيل: لا تمسح، وهو مذهب الجمهور (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: إن خافت من البرد ونحوه مسحت، مال إليه ابن تيمية (¬5). ¬
وقد ذكرنا أدلة الأقوال، ورجحنا جواز المسح على خمار المرأة في بحث موسع في كتابي المسح على الحائل، فأغنى عن إعادته هنا. ¬
المبحث السادس: خلاف العلماء في المسح على القلانس
المبحث السادس: خلاف العلماء في المسح على القلانس (¬1). اختلف العلماء في المسح على القلانس، فقيل: لا يمسح عليها، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3) والشافعية (¬4)،والحنابلة (¬5). وقيل: يمسح عليها، وهو رواية عن أحمد (¬6)، ومذهب ابن حزم (¬7). ¬
وقيل: يمسح إن كانت مشدودة تحت حلقه، وهو رواية عن أحمد (¬1). وقد سبق الكلام عن هذه المسألة في كتابي المسح على الحائل، وذكرت أدلة الأقوال، فأغنى عن إعادته هنا، والله الموفق. ¬
الفصل الرابع: من فروض الوضوء: غسل الرجلين
الفصل الرابع: من فروض الوضوء: غسل الرجلين اختلف العلماء في فرض القدمين: فقيل: فرضهما الغسل، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: فرضهما المسح، حكاه بعض أهل العلم مذهباً لعلي بن أبي طالب وابن عباس وأنس (¬2)، وهو مذهب الحسن البصري وعكرمة والشعبي (¬3). وقيل: طهارتهما على التخيير بالغسل أو بالمسح (¬4). أدلة الجمهور: الدليل الأول: قراءة نصب أرجلكم في قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلَكم إلى الكعبين} (¬5). ¬
الدليل الثاني
فـ (أرجلكم) معطفوفة على (وجوهكم) والعامل فيها الفعل في قوله تعالى: {فاغسلوا}، والعطف على نية تكرار العامل، فكأنه قال: واغسلوا أرجلكم. الدليل الثاني: الأحاديث الصحيحة المستفيضة في صفة وضوئه - صلى الله عليه وسلم -، وأنه غسل رجليه، منها: حديث عثمان بن عفان، وعبد الله بن زيد في الصحيحين، وحديث ابن عباس في البخاري، وحديث علي بن أبي طالب، والربيع بنت معوذ، وغيرها مما سبق تخريجه. الدليل الثالث: (972 - 201) ما رواه البخاري، حدثنا مسدد، قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو قال: تخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر سافرناه، فأدركنا وقد أرهقنا الصلاة، صلاة العصر، ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثاً (¬1). وجه الاستدلال: قال ابن العربي تعليقاً على قوله: (ونمسح على أرجلنا) ((قد يتمسك به من قال بجواز المسح على الرجلين، ولا حجة فيه لأربعة أوجه: الأول: أن المسح هنا يراد به الغسل، فمن الفاشي المستعمل في أرض الحجاز أن يقولوا: تمسحنا للصلاة: أي توضأنا. ¬
الدليل الرابع
والثاني: أن قوله: (وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء) يدل على أنهم كانوا يغسلون أرجلهم، إذ لو كانوا يمسحونها لكانت القدم كلها لا ئحة، فإن المسح لا يحصل منه بلل الممسوح. والثالث: أن هذا الحديث قد رواه أبو هريرة، فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً لم يغسل عقبه، فقال: ويل للأعقاب من النار. والرابع: أننا لو سلمنا أنهم مسحوا لم يضرنا ذلك، ولم تكن فيه حجة لهم؛ لأن ذلك المسح هو الذي توعد عليه بالعقاب، فلا يكون مشروعاً، والله أعلم (¬1). الدليل الرابع: (973 - 202) ما رواه البخاري، من طريق شعبة قال: حدثنا محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة وكان يمر بنا والناس يتوضئون من المطهرة قال: أسبغوا الوضوء فإن أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - قال: ويل للأعقاب من النار (¬2). وجه الاستدلال من هذا الحديث كالاستدلال بالحديث الذي قبله. الدليل الخامس: (974 - 203) ما رواه مسلم من طريق أبي الزبير، عن جابر، أخبرني عمر بن الخطاب أن رجلاً توضأ، فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ارجع فأحسن وضوءك، فرجع ثم صلى (¬3). ¬
الدليل السادس
قال القرطبي: «قوله: (فأحسن وضوءك) دليل على استيعاب الأعضاء، ووجوب غسل الرجلين». الدليل السادس: حديث عمرو بن عبسة، رواه مسلم، وسبق ذكر إسناده من قبل، وهو حديث طويل: وفيه: (ثم يغسل قدميه إلى الكعبين) إلا خرت خطايا رجليه من أنامله: مع الماء. الحديث وله شاهد من حديث أبي هريرة في مسلم. الدليل السابع: (975 - 204) أخرجه أبو داود، قال: حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله كيف الطهور فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم مسح برأسه فأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه وبالسباحتين باطن أذنيه ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا ثم قال هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم أو ظلم وأساء (¬1). [إسناده حسن، وسبق التنبيه على أن زيادة (أو نقص) وهم من الراوي] (¬2). ¬
الدليل الثامن
وجه الاستدلال: أنه غسل رجليه، ثم اعتبر النقص من هذا ظلماً وإساءة. الدليل الثامن: ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بتخليل الأصابع، ولو كان فرض الرجلين المسح لم يأمر به، فقد سبق أن ذكرت حديث لقيط بن صبرة، وهو حديث صحيح، قال - صلى الله عليه وسلم -: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً. الدليل التاسع: حكى بعض أهل العلم الإجماع على وجوب غسل القدمين، من ذلك: نقل ابن حجر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله قوله: «أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غسل القدمين» (¬1). وقال الطحاوي الحنفي: «رأينا الأعضاء التي قد اتفقوا على فرضيتها في الوضوء: الوجه واليدان والرجلان والرأس، فكان الوجه يغسل كله، وكذلك اليدان، وكذلك الرجلان» (¬2). وقال في مواهب الجليل: «قال ابن رشد: إن فرائض الوضوء على ثلاثة أقسام: قسم مجمع عليه: وهي الأعضاء الأربعة» (¬3). وقال ابن قدامة: ((والمفروض من ذلك بغير خلاف خمسة: النية، وغسل ¬
الوجه، وغسل اليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين)) (¬1). قلت: النية ليست محل اتفاق، فالحنفية لا يرونها واجبة، والخلاف محفوظ أيضاً في غسل الرجلين، ولعل ابن قدامة يقصد في المذهب، ولم يقصد في المذاهب. وقال ابن عبد الهادي: ومفروض إجماعاً غسل رجليه إلى الكعبين (¬2). وأجيب: مناقشة دعوى الإجماع، عندنا الإجماع المحكي عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والإجماع المحكي عن غيرهم. أما الإجماع المحكي عن الصحابة، فقد ذكر ابن حزم رحمه الله تعالى أن المسح مذهب لعلي وابن عباس وأنس (¬3). وقد ذكر ابن حجر في الفتح: أنهم رجعوا عن ذلك، قال: «ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك، إلا عن علي وابن عباس وأنس، وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك، قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غسل القدمين» (¬4). اهـ فحكاية رجوع الصحابة علي وابن عباس وأنس أخذه ابن حجر من حكاية ابن أبي ليلى: أن الصحابة مجمعون على غسل القدمين، وليست صريحة إذ يحتمل أنه إجماع على مشروعية الغسل، وهذا لا نزاع فيه، ولا يوجد إجماع على أنه لا يجزئ إلا هو، وبينهما فرق. ¬
ولو نقل ابن حجر عن علي وأنس وابن عباس القول بعدم جواز المسح لصح مأخذه. وأما الإجماع المنقول من غير الصحابة فأعتقد أنه غير دقيق، فقد نقل استثناء القدمين جماعة ممن رووا الإجماع، منهم: السمرقندي الحنفي قال: «والرابع: غسل الرجلين مرة واحدة ..... ثم قال: وهذا فرض عند عامة العلماء، وقال بعض الناس: الفرض هو المسح لا غير، وعن الحسن البصري أنه قال: يخير بين الغسل والمسح، وقال بعضهم: إنه يجمع بينهما» (¬1). الخ كلامه رحمه الله. قال ابن عبد البر: «وذلك أنهم أجمعوا على أن من غسل قدميه فقد أدى الواجب الذي عليه، واختلفوا فيمن مسح قدميه، فاليقين ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه، وإذا جاز عند من قال بالمسح على القدمين أن يكون من غسل قدميه قد أدى الفرض عنده، فالقول في هذه الحال بالاتفاق هو اليقين» (¬2). وقال أبو بكر بن العربي: «قال أبو عيسى: لا يجوز المسح على الأقدام المجردة، خلافاً لمحمد بن جرير الطبري، حيث قال: هو مخير بين المسح والغسل، ثم قال: وحكي عن بعض أهل الظاهر أنه يجب الجمع بينهما» (¬3). وقال القرطبي: «اتفقوا على أن من غسل قدميه فقد أدى الواجب عليه، واختلفوا فيمن مسح قدميه، فاليقين ما أجمعوا عليه، دون ما اختلفوا فيه» (¬4). ¬
وقد ثبت القول بالمسح عن جماعة من التابعين ممن يعتد بقولهم، ويعتبر خلافهم بالإجماع، كالحسن البصري، وعكرمة، والشعبي، وغيرهم. فقد روى ابن أبي شيبة، حدثنا ابن علية، عن أيوب، قال: رأيت عكرمة يمسح على رجليه، وكان يقول به. وهذا إسناد صحيح إلى عكرمة، وعكرمة من تلاميذ ابن عباس، وربما أخذ عنه فقه هذه المسألة، وابن عباس قد جاء عنه القول بالمسح، وهذا يدل على أن القول بأن ابن عباس قد رجع عنه يحتاج إلى تأمل. (976 - 205) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن، أنه كان يقول: إنما هو المسح على القدمين، وكان يقول: يمسح ظاهرهما وباطنهما. [وهذا إسناد صحيح عن الحسن] (977 - 206) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، قال: إنما هو المسح على القدمين، ألا ترى أن ما كان عليه الغسل جعل عليه التيمم، وما كان عليه المسح أهمل، فلم يجعل عليه التيمم. [وهذا إسناد صحيح إلى الشعبي]. (978 - 207) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن حميد، قال: كان أنس إذا مسح على قدميه بلهما. وسنده صحيح. وقد سبق أن هذا القول قاله ابن جرير الطبري، وبعض أهل الظاهر. فالقول بالمسح ثابت عن بعض السلف، لا إشكال في ثبوته من لدن
دليل من قال: إن فرض الرجلين المسح
الصحابة فمن بعدهم، وثبوت القول شيء والراجح شيء آخر، فلا يلزم من ثبوت القول ثبوت الصحة، فقد يكون القول ثابتاً، وهو قول ضعيف من حيث الدلالة. والله أعلم. وقد ذهب بعض أهل العلم أن القول بالمسح كان في أول الأمر ثم نسخ، وقد ذهب إلى هذا ابن حزم والطحاوي رحمهما الله تعالى، وهذا أيضاً ليس بصواب. قال ابن حزم: «القرآن نزل بالمسح ... ثم قال: وإنما قلنا بالغسل فيهما لما حدثناه، ثم ساق بإسناده حديث (ويل للأعقاب من النار) فكان هذا الخبر زائداً على ما في الآية، أو على الأخبار التي ذكرنا، وناسخاً لما فيها ولما في الآية، والأخذ بالزائد واجب ..» الخ كلامه رحمه الله تعالى (¬1). وقال الطحاوي بعد أن ساق حديث عبد الله بن عمر (تخلف عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا صلاة العصر، ونحن نتوضأ، ونمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار) قال الطحاوي رحمه الله: «فدل على أن حكم المسح الذي كانوا يفعلونه قد نسخه ما تأخر عنه مما ذكرناه» (¬2). دليل من قال: إن فرض الرجلين المسح. الدليل الأول: الاستدلال بقراءة جر (وأرجلكم) من قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلِكم}. ¬
قال ابن حزم: «القرآن نزل بالمسح، وسواء قرئ بخفض اللام أو بفتحها، هي على كل حال عطف على الرؤوس، إما على اللفظ، أو على الموضع، لا يجوز غير ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بقضية مبتدأة» (¬1). وأجيب عنه: فقيل: ((إن الجر على المجاورة، وهذا معروف في لغة العرب من ذلك كقوله: هذا جحر ضبٍ خربٍ، بجر (خرب) على جوار (ضب) وهو مرفوع صفة لجحر، ومنه في القرآن الكريم: {إني إخاف عليكم عذاب يوم أليم} (¬2)، فجر (الميم) على جواز كلمة (يوم) وهو منصوب صفة لعذاب، فإن قيل: إنما يصح الإتباع إذا لم يكن هناك واو، فإن كانت لم يصح، والآية فيها (واو). قلنا: هذا غلط، فإن الإتباع مع الواو مشهور، في أشعارهم، من ذلك ما أنشدوه: لم يبق إلا أسير غير منفلت ... وموثق في عقال الأسر مكبول)) اهـ كلام النووي (¬3). الوجه الثاني في الجواب عن قراءة الجر. ما قال ابن العربي: ((والذي ينبغي أن يقال: إن قراءة الخفض عطف على الرأس، فهما يمسحان بكف إذا كان عليهما خفاف، وتلقينا هذا القيد ¬
الدليل الثاني
من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ لم يصح عنه أنه مسح رجليه إلا وعليه خفاف، والمتواتر عنه غسلهما، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله الحال الذي تغسل فيه الرجل، والحال الذي تمسح فيه)) (¬1). الجواب الثالث: قال النووي: إن قراءتي الجر والنصب يتعادلان، والسنة بينت ورجحت الغسل، فتعين (¬2). الوجه الرابع: قال النووي: «لو ثبت أن المراد بالآية المسح لحمل المسح على الغسل، جمعاً بين الأدلة والقراءتين؛ لأن المسح يطلق على الغسل، كذا نقله جماعة من أئمة اللغة، منهم أبو زيد الأنصاري وابن قتيبة وآخرون، وروى البيهقي بإسناده عن الأعمش، قال: كانوا يقرؤنها، وكانوا يغسلون». اهـ كلام النووي (¬3). وقد سبق لنا قول ابن العربي: من المستعمل في أرض الحجاز: تمسحنا للصلاة: أي توضأنا. اهـ الدليل الثاني على جواز مسح القدمين. (979 - 208) ما رواه أبو داود من طريق همام، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن عمه رفاعة بن رافع، وفيه: ¬
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنها لم تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله عز وجل، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين. الحديث، والحديث قطعة من حديث طويل (¬1). [إسناده حسن إن شاء الله تعالى، إلا أن ذكر الوضوء على وجه التفصيل انفرد به همام عن إسحاق فيما وقفت عليه، وحديث المسيء في صلاته في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وفيه ذكر الوضوء بلفظ: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ولم يفصل تفصيل همام، والله أعلم] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (980 - 209) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبد خير، ¬
عن علي رضي الله عنه، قال: كنت أرى أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح ظاهرهما (¬1). [رجاله ثقات] (¬2). ¬
وجه الاستدلال: قوله في الحديث (يمسح على ظاهرهما) ظاهره أن يمسح على رجليه بدون خفين، وهذا دليل على أن فرض الرجل المسح. ويجاب عن هذا الدليل بما يلي: لقد تبين لك الاختلاف في متن هذا الحديث من خلال الكلام على تخريج الحديث، فإما أن يقال: إنه هذا الاختلاف يوجب الاضطراب في الحديث، والمضطرب ضعيف. أو يحمل قول من قال بالمسح على ظاهر القدمين بالمسح عليه، وفيه الخف، وهذا أرجح، ولذلك جاء في بعضها الجمع بين المسح على ظاهر القدم، مع ذكر الخف مما يوحي بأن المراد بظاهر القدم هو ظاهر الخف، ¬
الدليل الرابع
(981 - 210) فقد جاء في رواية إبراهيم بن طهمان عن أبي إسحاق: «كنت أرى أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على ظهر قدميه على خفيه» (¬1). فتبين أن مراده من قوله: (ظاهر القدمين) أنه يريد ظاهر الخفين كما صرح به في آخر الحديث. قال الدارقطني في العلل: «والصحيح في ذلك قول من قال: كنت أرى باطن الخفين أحق بالمسح من أعلاهما» (¬2)، وكذا رجح البيهقي في السنن (¬3). الدليل الرابع: من الآثار. (982 - 211) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن حميد، قال: كان أنس إذا مسح على قدميه بلهما. [وسنده صحيح]. وقد خرجت ذلك عن بعض التابعين فيما سبق من قول عكرمة والشعبي والحسن وغيرهم. دليل من قال: يجوز الغسل والمسح. لعل هذا القول أخذ من أدلة القولين بجواز الغسل والمسح أن الأمر على التخيير. ¬
الراجح
وقد يكون هذا القول يرجع إلى القول الثاني، وذلك لأن من قال: إن الفرض المسح لا يمنع من غسل القدم، ولكنه لا يوجبه، وإنما يرى أن المسح كاف في الواجب، فإن غسل قدمه فلا بأس، ولذلك قال ابن عبد البر في التمهيد: «وإذا جاز عند من قال بالمسح على القدمين أن يكون من غسل قدميه قد أدى الفرض عنده، فالقول في هذه الحال بالاتفاق هو اليقين» (¬1). فهذا نص من ابن عبد البر أن من قال بالمسح لا يمنع من غسل القدم، والله أعلم. الراجح: بعد ذكر الأقوال والأدلة فإن الراجح والله أعلم وجوب غسل القدمين، ولا يكفي في ذلك مسحهما، وحديث ويل للأعقاب من النار نص في محل النزاع، والله أعلم. ¬
الفصل الخامس: من فروض الوضوء الترتيب
الفصل الخامس: من فروض الوضوء الترتيب اختلف العلماء في حكم الترتيب بين أعضاء الوضوء، فقيل: سنة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وقول داود (¬3). وقيل: الترتيب فرض، وهو مذهب الشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5)، وهو قول إسحاق (¬6)، واختيار ابن حزم (¬7). ¬
دليل من قال: الترتيب سنة
دليل من قال: الترتيب سنة. الدليل الأول: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (¬1). قال ابن عبد البر: والحجة لمالك ومن ذكرنا من العلماء من العلماء، أن سيبويه وسائر البصريين من النحويين، قالوا في قول الرجل: أعط زيداً وعمراً ديناراً، أن ذلك يوجب الجمع بينهما في العطاء، ولا يوجب تقدمة زيد على عمرو، فكذلك قول الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (¬2) إنما يوجب ذلك الجمع بين الأعضاء المذكورة، ولا يوجب النسق، وقد قال الله عز وجل: {وأتموا الحج والعمرة لله} (¬3)، فبدأ بالحج، وجائز عند الجميع أن يعتمر الرجل قبل أن يحج. وكذلك قوله {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} (¬4)، جائز لمن وجب عليه إخراج زكاة ماله في حين وقت الصلاة أن يبدأ بإخراج الزكاة، ثم يصلي الصلاة في وقتها عند الجميع، وكذلك قوله تعالى {فتحرير رقبة مؤمنة ودية ¬
الدليل الثاني
مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا} (¬1)، لا يختلف العلماء أنه جائز لمن وجب عليه في قتل الخطأ إخراج الدية وتحرير الرقبة أن يسلم الدية قبل أن يحرر الرقبة، وهذا كله منسوق بالواو، ومثله كثير في القرآن، فدل على أن الواو لا توجب رتبة ... ثم قال: وقد قال الله تعالى {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} (¬2)، ومعلوم أن السجود بعد الركوع (¬3). الدليل الثاني: (983 - 212) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، عن عوف، عن عبد الله بن عمر بن هند، قال: قال علي: ما أبالي إذا أتممت وضوئي بأي أعضائي بدأت (¬4). [إسناده ضعيف] (¬5). ولو صح فهو محمول على تقديم الشمال على اليمين في اليدين والرجلين كما جاء ذلك عنه من طريق الحارث عن علي رضي الله عنه (¬6). وقد جاء في مسائل عبد الله بن أحمد لأبيه: قال أحمد: والذي روي عن علي وابن مسعود ما أبالي بأي أعضائي بدأت، قال: إنما يعني اليسرى قبل ¬
اليمنى، ولا بأس أن يبدأ بيسار قبل يمين؛ لأن مخرجها من الكتاب واحد، قال تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} (¬1)، فلا بأس أن يبدأ باليسار قبل اليمين (¬2). اهـ وذكر ابن عبد الهادي في التنقيح قوله: (984 - 213) روى الإمام أحمد، عن جرير، عن قابوس، عن أبيه، أن علياً سئل فقيل له: أحدنا يستعجل فيغسل شيئاً قبل شيء؟ قال: لا، حتى يكون كما أمره الله تعالى (¬3). [لم أقف عليه في كتب الحديث، والإسناد المذكور ضعيف] (¬4). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (985 - 214) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حفص، عن ابن جريج، عن سليمان ابن موسى، عن مجاهد، قال: قال عبد الله - يعني: ابن مسعود - لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك في الوضوء. [إسناده منقطع والمحفوظ عن ابن مسعود أن ذلك في تقديم اليد اليمنى على اليد اليسرى] (¬1). ¬
الدليل الرابع
قلت: الصحيح عن ابن مسعود أن ذلك في تقديم اليسرى على اليمنى، (986 - 215) فقد رواه الدارقطني من طريق هشيم، عن عبد الرحمن المسعودي، حدثني سلمة بن كهيل، عن أبي العبيدين، عن عبد الله بن مسعود، عن رجل توضأ فبدأ بمياسره، فقال: لا بأس (¬1). [وصحح الدارقطني إسناده] (¬2). الدليل الرابع: احتجوا بما رووا عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسل وجهه، ثم يديه، ثم رجليه، ثم مسح رأسه (¬3). [لم أقف على إسناده] (¬4). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: القياس على الطهارة الكبرى، فقد أجمعوا على أنه على أنه لا ترتيب في طهارة الجنابة، وهي طهارة من الحدث الأكبر، فكذلك الطهارة من الحدث الأصغر بج امع أن كلاً منهما طهارة من حدث (¬1). ورده النووي، فقال: وعن قياسهم على غسل الجنابة: أن جميع بدن الجنب شيء واحد، فلم يجب ترتيبه كالوجه، بخلاف أعضاء الوضوء فإنها متغايرة متفاصلة (¬2). أي فيجب الترتيب بينها. الدليل السادس: قالوا: المحدث لو انغمس في الماء ارتفع حدثه، وإذا كان الأمر كذلك فهذا دليل على أن الترتيب لا يجب؛ لأن طهارته كانت دفعة واحدة بلا ترتيب. وأجيب: بأنه لو انغمس دفعة واحدة لم يتفقوا على أنه يرتفع حدثه حتى يعارض به القول بوجوب الترتيب. قال في المغني: ولو غسل أعضاءه دفعة واحدة لم يصح له إلا غسل وجهه؛ لأنه لم يرتب، وإن انغمس في ماء جارٍ فلم يمر على أعضائه إلا جرية ¬
دليل من قال بوجوب الترتيب
واحدة فكذلك، وإن مر عليه أربع جريات، وقلنا الغسل يجزئ عن المسح أجزأه، كما لو توضأ أربع مرات، وإن كان الماء راكداً، فقال بعض أصحابنا: إذا أخرج وجهه، ثم يديه، ثم مسح برأسه، ثم خرج من الماء أجزأه؛ لأن الحدث إنما يرتفع بانفصال الماء عن العضو (¬1). دليل من قال بوجوب الترتيب. الدليل الأول: (987 - 216) ما رواه مسلم من حديث عمرو بن عبسة السلمي الطويل، وفيه مرفوعاً: «ما منكم رجل يقرب وضوءه، فيتمضمض ويستنشق، فيستنثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء ....» الحديث (¬2). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عبر في الانتقال من غسل عضو إلى عضو آخر بكلمة (ثم) وهي نص في الترتيب. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: قال تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (¬1). قال في المهذب: فأدخل المسح بين الغسلين، وقطع حكم النظير عن النظير، فدل على أنه قصد إيجاب الترتيب (¬2). وقال النووي: ((ذكر الله تعالى ممسوحاً بين مغسولات، وعادة العرب إذا ذكرت أشياء متجانسة وغير متجانسة جمعت المتجانس على نسق، ثم عطفت غيرها، لا يخالفون ذلك إلا لفائدة، فلو لم يكن الترتيب واجباً لما قطع النظير عن نظيره. فإن قيل: فائدته استحباب الترتيب. فالجواب من ثلاثة وجوه: أحدهما: أن الأمر للوجوب، وهو المختار، وهو مذهب جمهور الفقهاء. يعني: الأمر في قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} (¬3). الوجه الثاني: أن الآية ما سيقت إلا لبيان الواجب، ولهذا لم يذكر فيها شيء من السنن. الدلالة الثالثة: أن مذهب العرب إذا ذكرت أشياء وعطفت بعضها على بعض، تبتدئ الأقرب فالأقرب لا يخالف ذلك إلا لمقصود، فلما بدأ سبحانه وتعالى بالوجه، ¬
الدليل الثالث
ثم اليدين، ثم الرأس، ثم الرجلين دل على أن الأمر بالترتيب وإلا لقال: فاغسلوا وجوهكم وامسحوا برؤوسكم واغسلوا أيديكم وأرجلكم)) (¬1). الدليل الثالث: الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن جماعات من الصحابة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكلهم وصفوه مرتباً مع كثرتهم، وكثرة المواطن التي رأوه فيها، وكثرة اختلافهم في صفاته في مرة ومرتين وثلاثاً وغير ذلك، ولم يثبت فيه مع اختلاف أنواعه صفة غير مرتبة، وفعله - صلى الله عليه وسلم - بيان للوضوء المأمور به، ولو جاز ترك الترتيب لتركه في بعض الأحوال لبيان الجواز كما ترك التكرار في أوقات (¬2). اهـ وقال ابن القيم: وكذلك كان وضوءه مرتباً متوالياً، لم يخل به مرة واحدة (¬3). الدليل الرابع: ما ذكره ابن قدامة، قال: توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتباً، وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به (¬4). وقول ابن قدامة: توضأ مرتباً ليست من نص الحديث، وإنما وصْفٌ من ابن قدامة لما وقع منه - صلى الله عليه وسلم -، ولفظ الحديث: ¬
الدليل الخامس
توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة، وقال: هذا وضوء لا يقبل الله منه الصلاة إلا به، ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: وهذا وضوء من يضاعف الله له الأجر مرتين مرتين، ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال: هذا وضوئي ووضوء المرسلين من قبلي. وقد تفرد به المسيب بن واضح، وهو ضعيف (¬1). فأراد ابن قدامة رحمه الله أن يستنبط من قوله: «لا يقبل الله الصلاة إلا به» أي بهذا الوضوء على هذه الصفة، ولم يصح الحديث حتى يمكن أن يكون حجة، ولم يذكر لنا في هذا الحديث صفة الوضوء من كونه غسل وجهه، ثم يديه، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه، ولو صح لكان هناك جواب، وهو أن يقال: إن المراد به قوله: لا يقبل الله الصلاة إلا به أي في عدد الغسلات، فمن نقص عن الغسلة الواحدة فقد نقص عن المقدار الواجب، فالحكم إنما هو موجه إلى العدد، لأنه قال: وتوضأ مرتين مرتين وتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، فلم يقصد من النفي نفي صحة الوضوء مع فقد الترتيب، والله أعلم. الدليل الخامس: (988 - 217) ما رواه النسائي، قال: أخبرنا علي بن حجر، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف سبعاً، ورمل ثلاثاً، ومشى أربعاً، ثم قرأ: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} فصلى سجدتين، وجعل المقام ¬
بينه وبين الكعبة، ثم استلم الركن، ثم خرج، فقال: إن المروة من شعائر الله، فابدأوا بما بدأ الله به (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن نبدأ بما بدأ الله به، والأصل في الأمر الوجوب، وقد بدأ الله بذكر الوجه فاليدين فالرأس، فالرجلين، فيكون الترتيب امتثالاً للأمر النبوي بتقديم ما قدمه الله، وتأخير ما أخره الله. وأجيب: [بأن المحفوظ من لفظ الحديث أنه بلفظ الخبر: نبدأ بما بدأ الله به، فلا حجة فيه] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: قال في الحاوي الكبير: قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} (¬1)، فأمر بغسل الوجه بحرف الفاء الموجبة للتعقيب والترتيب إجماعاً، فإذا ثبت تقديم الوجه ثبت استحقاق الترتيب ... الخ (¬2). ورده النووي، فقال: وهذا استدلال باطل، وكأن قائله حصل له ذهول واشتباه فاخترعه، وتوبع عليه تقليداً، ووجه بطلانه أن الفاء وإن اقتضت الترتيب لكن المعطوف على ما دخلت عليه بالواو مع ما دخلت عليه كشيء واحد كما هو مقتضى الواو, فمعنى الآية: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا الأعضاء، فأفادت الفاء ترتيب غسل الأعضاء على القيام إلى الصلاة، لا ترتيب بعضها على بعض، وهذا مما يعلم بالبديهة، ولا شك أن السيد لو قال لعبده: إذا دخلت السوق، فاشتر خبزاً وتمراً لم يلزمه تقديم الخبز، بل كيف اشتراهما كان ممتثلاً بشرط كون الشراء بعد دخول السوق كما أنه هنا يغسل الأعضاء بعد القيام إلى الصلاة (¬3). الراجح بين القولين: بعد استعراض أدلة كل قول نجد أن كل قول من القولين فيه قوة، وله حظ من النظر، فالقول بعدم وجوب الترتيب يسنده أنه هو الأصل؛ لأن الأصل عدم الوجوب إلا بدليل صحيح صريح خال من النزاع، كما تسنده اللغة حيث إن آية المائدة عبرت بالواو، والواو لمطلق الجمع، ولا تقتضي ترتيباً. ¬
وأما حديث عمرو بن عبسة السلمي، فإنه وإن عبر بثم الدالة على الترتيب إلا أن الحديث لم يعلق صحة الوضوء على كلمة (ثم) ولم يُسَق الحديث أصلاً لبيان صفة الوضوء، وإنما سيق الحديث في بيان فضل الوضوء. وأما إدخال الممسوح بين مغسولات، وأنه لا فائدة منه إلا ذكر الترتيب، فلا يستطيع الباحث أن يجزم بوجوب الترتيب بناء على هذه النكتة، وقد يقال: ذكر الممسوح بين المغسولات لبيان أن الترتيب مشروع. وأقوى دليل للقائلين بوجوب الترتيب أن الترتيب هذا هو الوضوء المتلقى من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخل به مرة واحدة، فمن توضأ وضوءاً منكساً فقد أتى بوضوء لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو على خلاف سنته، ومن عمل عملاً ليس عليه أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو رد على صاحبة، وإن كان هذا الدليل قد يحاولون الخروج منه بأن أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا تدل على الوجوب، وإنما تدل على الاستحباب. وعلى كل فالأخذ بالترتيب فيه احتياط للدين وخروج من الخلاف، خاصة أن الأمر يتعلق بأعظم العبادات بعد الشهادتين: وهي الصلاة. ولو أن الإنسان ترك موضعاً يسيراً في ذراعه، ثم رآه بعد أن فرغ من وضوئه فلا بأس أن يغسل ذلك الموضع اليسير، ولا يعيد مسح رأسه وغسل رجليه؛ لأن المقدار يسير جداً، فهذا الإمام أحمد رحمه الله مع أنه يرى وجوب الترتيب ووجوب المضمضة والاستنشاق يسهل في ترك الترتبيب بين أعضاء الوضوء وبين المضمضة والاستنشاق، فقد جاء في مسائل عبد الله بن أحمد لأبيه، قال: سمعت أبي سئل عن رجل نسي المضمضة والاستنشاق، وصلى؟ قال: يعيد الصلاة.
قيل: ويعيد الوضوء؟ قال: لا، ولكنه يتمضمض ويستنشق، والله أعلم (¬1). بينما قال في الكتاب نفسه فيمن توضأ ونسي مسح رأسه، قال أحمد: إن كان جف وضوءه يعيد الوضوء كله، وإن كان لم يجف، فيمسح على رأسه، ويغسل رجليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} (¬2) (¬3). ¬
الفصل السادس: من فروض الوضوء المولاة
الفصل السادس: من فروض الوضوء المولاة اختلف العلماء في حكم الموالاة بين أفعال الوضوء بعد اتفاقهم على أن التفريق اليسير بين أعضاء الوضوء لا يضر (¬1). فقيل: الموالاة سنة، وهو مذهب الحنفية (¬2)، والجديد من قولي الشافعي (¬3)، والظاهرية (¬4). وقيل: تجب الموالاة مع الذكر، وتسقط مع النسيان والعذر، وهو مذهب المالكية (¬5). ¬
دليل الحنفية على استحباب الموالاة
وقيل: تجب الموالاة مطلقاً، وهو مذهب الحنابلة (¬1). دليل الحنفية على استحباب الموالاة: أما دليلهم على استحباب الموالاة فظاهر من مواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على الموالاة حيث لم يخل بذلك. وأما دليلهم على كونه ليس واجباً، فاستدلوا بأدلة منها: الدليل الأول: أن الله سبحانه وتعالى أمر بغسل هذه الأعضاء في الوضوء، ولم يوجب الموالاة، فيكف غسل هذه الأعضاء فقد امتثل الأمر. الدليل الثاني: القياس على غسل الجنابة، وذلك لأن الوضوء إحدى الطهارتين، فإذا كانت الموالاة لا تجب في غسل الجنابة لم تجب في الوضوء. الدليل الثالث: (989 - 218) ما رواه مالك، عن نافع، أن عبد الله بن عمر بال في السوق، ثم توضأ، فغسل وجهه ويديه، ومسح رأسه، ثم دعي لجنازة ليصلي عليها حين دخل المسجد، فمسح على خفيه، ثم صلى عليها. [إسناده في غاية الصحة] (¬2). ¬
دليل من قال بوجوب الموالاة مطلقا
وقد فعله ابن عمر في حضور من حضر من الصحابة للصلاة على الجنازة، ولم ينكروا عليه. دليل من قال بوجوب الموالاة مطلقاً. الدليل الأول: (990 - 219) ما رواه مسلم، قال: حدثني سلمة بن شبيب، حدثنا الحسن بن محمد بن أعين، حدثنا معقل، عن أبي الزبير، عن جابر، أخبرني عمر بن الخطاب أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ارجع فأحسن وضوءك فرجع ثم صلى (¬1). وجه الاستدلال: قال القاضي عياض: في هذا الحديث دليل على وجوب الموالاة في الوضوء، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أحسن وضوءك» ولم يقل: اغسل ذلك الموضع الذي تركته (¬2). وقال نحوه القرطبي في المفهم (¬3). ورده النووي، فقال: وهذا الاستدلال ضعيف أو باطل؛ فإن قوله: «أحسن وضوءك» محتمل للتيمم أو للاستئناف، وليس حمله على أحدهما أولى من الآخر (¬4). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (991 - 220) ما رواه أحمد، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا بقية، حدثنا بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يصلي، وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد الوضوء (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (992 - 221) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا حرملة بن يحيى، حدثنا ابن وهب ح وحدثنا ابن حميد، حدثنا زيد بن الحباب، قالا: حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، ¬
الدليل الرابع
عن عمر بن الخطاب قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً توضأ، فترك موضع الظفر على قدمه، فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة قال: فرجع (¬1). [إسناده ضعيف من أجل ابن لهيعة، وقد اختلف عليه في لفظه، والمحفوظ لفظ: أرجع فأحسن وضوءك] (¬2). الدليل الرابع: استدل ابن مفلح في المبدع بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} الآية. قال: لأن الأول شرط، والثاني جواب، وإذا وجد الشرط: وهو القيام إلى الصلاة وجب ألا يتأخر عن جوابه: وهو غسل الأعضاء. اهـ ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: أن صفة الوضوء تلقيناها من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن يفصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أعضاء وضوئه، ولو كان جائزاً لفعله ولو مرة واحدة لبيان الجواز، فمن فرق وضوءه فقد عمل عملاً مخالفاً لصفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد. الدليل السادس: أن الوضوء عبادة واحدة، فإذا فرق بين أجزائها لم تكن عبادة واحدة. الدليل السابع: قالوا: إن الوضوء عبادة يفسدها الحدث، فاشترط لها الموالاة كالصلاة. وهذا الدليل والذي قبله فيه ما فيه. دليل المالكية على أن الموالاة واجبة وتسقط مع العذر. أما أدلتهم على وجوب الموالاة فهي أدلة الحنابلة المتقدمة فإنها تدل على وجوب الموالاة. وأما دليلهم على سقوط الموالاة للعذر ومنه النسيان، فأدلة كثيرة منها: الدليل الأول: أن أصول الشريعة في جميع مواردها تفرق بين القادر والعاجز، والمفرط والمعتدي ومن ليس كذلك، فمن ترك الموالاة لعذر كما لو كان المكان الذي يأخذ منه الماء لا يحصل له إلا متفرقاً، أو انقطع الماء فطلب ماء آخر أو لغير ذلك من الأعذار فإن هذا لم يمكنه أن يفعل ما أمر به إلا هكذا، فإذا حصل له ماء آخر فأكمل وضوءه فقد اتقى الله ما استطاع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
الدليل الثاني
الدليل الثاني: القياس على قراءة الفاتحة، فكما أنها تجب الموالاة في قراءة الفاتحة، ولو سكت في أثناء الفاتحة سكوتاً طويلاً لغير عذر وجب عليه إعادة قراءتها، ولو كان السكوت من أجل قراءة الإمام أو فَصَلَ بذكر مشروع كالتأمين ونحوه لم تبطل الموالاة، فإذا كان ذلك كذلك مع أن الموالاة في الكلام أوكد من الموالاة في الأفعال، فإذا فرق بين أفعال الوضوء لعذر لم يكن ذلك قاطعاً للموالاة. الدليل الثالث: القياس على الطواف والسعي، ومعلوم أن الموالاة في الطواف والسعي أوكد منه في الوضوء، ومع هذا فتفريق الطواف لمكتوبة تقام، أو صلاة جنازة تحضر ثم يبني الطواف ولا يستأنف، فإذا كان مثل هذا التفريق جائزاً فالوضوء أولى بذلك. الدليل الرابع: (993 - 222) ما رواه البخاري، من طريق ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي - قال ابن سيرين: سماها أبو هريرة ولكن نسيت أنا - قال: فصلى بنا ركعتين، ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه، ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى، وخرجت السرعان من أبواب المسجد فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول يقال له: ذو اليدين قال: يا رسول الله أنسيت أم
قصرت الصلاة؟ قال: لم أنس ولم تقصر، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم فتقدم فصلى ما ترك. الحديث ورواه مسلم بنحوه (¬1). فإذا كانت الصلاة يجب فيها الترتيب والموالاة فلا يجوز تقديم السجود على الركوع، ولا يجوز أن يفرق بين أفعالهها بما ينافيها، ثم مع ذلك إذا فرق بينها لعذر، كما في هذا الحديث، فقد سلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ساهياً، وفصل بين أبعاض الصلاة بالقيام إلى الخشبة والاتكاء عليها، وتشبيك أصابعه، ووضع خده عليها، والكلام منه، ومن ذي اليدين، ومع ذلك أتم الصلاة، ولم يكن هذا التفريق والفصل مانعاً من الإتمام، ومعلوم أنه لو فعل ذلك عمداً لأبطل الصلاة بلا نزاع، فإذا كانت الصلاة التي لم تشرع إلا متصلة لا يستوي تفريقها في حال العذر وعدمه، فكيف يستوي تفريق الوضوء في حال العذر وعدمه؟ مع أن الوضوء أفعال منفصلة لا يجب اتصالها بالاتفاق (¬2). وهذا القول هو الراجح لقوة أدلته، وعدم المعارض لها، والله أعلم. ¬
مبحث: في حد الموالاة
مبحث: في حد الموالاة تعريف الموالاة لغة واصطلاحاً. الموالاة لغة: وأما الموالاة اصطلاحاً فقيل في تعريفها: هي ألا يشتغل المتوضئ بين أفعال الوضوء بعمل ليس منه (¬1). وقيل: أن يفعل الوضوء كله في فور واحد من غير تفريق (¬2). فالموالاة في اللغة هي التتابع، والمقصود هنا تتابع أفعال الوضوء من غير تفريق، إلا أن التفريق تارة يكون يسيراً، وتارة يكون كثيراً، وكل واحد له حكم. فالتفريق اليسير لا يضر على الصحيح، وحكي فيه الإجماع. قال النووي: في المجموع: التفريق اليسير بين أعضاء الوضوء لا يضر بإجماع الأمة، نقل الإجماع فيه الشيخ أبو حامد والمحاملي وغيرهما (¬3). وقال الحطاب من المالكية: التفريق اليسير لا يضر، ولو كان عمداً. قال القاضي عبد الوهاب: لا يختلف المذهب فيه، وحكى الاتفاق في ذلك ابن الفاكهاني عن عبد الحق. واختار بعض المالكية ومنهم ابن الجلاب المنع حتى في التفريق اليسير إذا لم يكن هناك عذر. ¬
وقال ابن ناجي في شرح المدونة: ولا خلاف في أن التفريق اليسير مكروه - يعني: من غير عذر -. قال الحطاب: وجه الكراهة ظاهر إذا كان التفريق لغير عذر وبذلك صرح الشبيبي في شرح الرسالة فقال: وأما التفرقة اليسيرة فغير مفسدة بغير خلاف إلا أنها تكره من غير ضرورة (¬1). والكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل شرعي، وإذا ضبطنا الحد الذي تفوت فيه الموالاة لم يدخل في ذلك التفريق اليسير، وبالتالي لم تفقد الموالاة أصلاً حتى يكون هناك منع أو حتى كراهة. وأما كلام أهل العلم في ضابط التفريق الكثير فهناك أقوال: فقيل: الموالاة: هي التتابع في الأفعال من غير أن يتخللها جفاف عضو مع اعتدال الهواء, قال ابن عابدين: وظاهره أنه لو جف العضو الأول بعد غسل الثاني لم يكن ولاء. وهذا قول في مذهب الحنفية (¬2). وهو يشترط أن يفرغ من وضوئه قبل أن يجف أي عضو من أعضائه، فإن جف عضو منها فهو تفريق كثير، وهذا أشد ما قيل في الولاء. وقيل: إذا مضى بين العضوين زمن يجف فيه العضو المغسول مع اعتدال الزمن وحال الشخص، فهو تفريق كثير، وإلا فقليل، ولا اعتبار بتأخر الجفاف بسبب شدة البرد، ولا بتسارعه بشدة الحر، ولا بحال المبرود والمحموم، ويعتبر بالعضو الذي قبله، فلو أنه مسح رأسه قبل أن تنشف يداه، وبعد أن نشف الوجه فلا يضر. ¬
وهذا قول في مذهب الحنفية (¬1)، وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). قال النووي: هذا القول هو الصحيح الذي قطع به الجمهور (¬4). وقيل: هو الطويل المتفاحش. وهو مذهب المالكية (¬5)،وقول في مذهب الشافعية (¬6)، واختاره ابن عقيل من الحنابلة. قال في مواهب الجليل: الموالاة: هي الإتيان بجميع الطهارة في زمن متصل من غير تفريق فاحش (¬7). وقال في المغني عن ابن عقيل الحنبلي: حد التفريق المبطل: ما يفحش في العادة؛ لأنه لم يحد في الشرع، فيرجع فيه إلى العادة كالإحراز والتفرق في البيع (¬8). ¬
وقيل: الكثير قدر يمكن فيه إتمام الطهارة، ذكره النووي في المجموع (¬1). وأجد أقوى الأقوال هو قول ابن عقيل الحنبلي، وذلك لأن كل شيء ليس له حد في الشرع ولا في اللغة مرده إلى العرف والعادة، فما عده الناس كثيراً فهو كثير، وما عدوه قليلاً فهو قليل، ولا عبرة بتقدير المصاب بالوساوس، لأن زمن الطهارة يأخذ منه وقتاً كثيراً، والله أعلم. وبهذا البحث نكون قد فرغنا من الكلام على شروط الوضوء وسننه وآدابه وفرائضه، وسوف نتكلم إن شاء الله تعالى بحوله وقوته على نواقض الوضوء لنكون بهذا قد أتممنا الكلام على مباحث الوضوء، والله الموفق. ¬
نواقض الوضوء
نواقض الوضوء الباب الأول: في مسببات الحدث الفصل الأول: في الخارج من السبيلين المبحث الأول: في البول والغائط تعريف الغائط: قال أبو عبيد: أصل الغائط المكان المطمئن من الأرض إلا أن العرب إذا طالت صحبة الشيء للشيء سمته باسمه، من ذلك تسميتهم مسح الوجه واليدين تيمماً، وإنما التيمم في لغة العرب التعمد للشيء. قال الله جل ذكره: {فتيمموا صعيداً طيباً} (¬1)، يعني: تعمدوا الصعيد، ألا تراه قال بعد ذلك: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} فكثر هذا الكلام حتى صار عند الناس التيمم هو التمسح نفسه. وكذلك الغائط لما ¬
الدليل على أن خروج البول والغائط حدث ينقض الوضوء
كثر قولهم: ذهبت إلى الغائط، وجاء من الغائط، سموا رجيع الإنسان الغائط (¬1). اهـ والغائط غير البول، وإن كان ذهاب الناس إلى تلك المذاهب كان واحداً، لكن اشتهر الغائط فيما يخرج من الدبر، والبول فيما يخرج من الذكر أو القبل، كما جاءت السنة في التفريق بينهما في حديث صفوان بن عسال: «ولكن من غائط وبول ونوم» والعطف يقتضي المغايرة (¬2). الدليل على أن خروج البول والغائط حدث ينقض الوضوء. الدليل الأول: من الكتاب، قال تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} (¬3). الدليل الثاني: (994 - 223) من السنة، فقد روى أحمد من طريق سفيان، عن عاصم، عن زر بن حبيش، قال: أتيت صفوان بن عسال، فسألته عن المسح على الخفين؟ فقال: كنا نكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم)) (¬4). [إسناده حسن، وسبق تخريجه] (¬5). ¬
الدليل الثالث
(995 - 224) ومن السنة أيضاً ما رواه أبو داود، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن حضين بن المنذر أبي ساسان، عن المهاجر بن قنفذ أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يبول، فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه، فقال: إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر أو قال: على طهارة (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الثالث من الإجماع، فقد نقل الإجماع طائفة من أهل العلم. قال أبو بكر العبادي الحنفي: الخارج من السبيلين متفق فيه على أنه ينقض الوضوء (¬3). وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن خروج الخارج حدث ينقض الوضوء (¬4). وقال النووي: وأما البول فبالسنة المستفيضة والإجماع والقياس على الغائط (¬5). ¬
وقال ابن قدامة في معرض ذكره لنواقض الوضوء: الخارج من السبيلين، وهو نوعان: معتاد، فينقض بلا خلاف، لقوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} (¬1). وقال ابن حزم: وأما البول والغائط فإجماع ميتقن (¬2). أي أنه موجب للوضوء. وقال الشوكاني تعليقاً على حديث صفوان بن عسال «ولكن من غائط وبول ونوم» فذكر الأحداث التي ينزع منها الخف, والأحداث التي لا ينزع منها, وعد من جملتها النوم, فأشعر ذلك بأنه من نواقض الوضوء لا سيما بعد جعله مقترنا بالبول والغائط اللذين هما ناقضان بالإجماع (¬3). اهـ ¬
المبحث الثاني: خروج الريح
المبحث الثاني: خروج الريح خروج الريح من الدبر حدث ناقض للوضوء. والدليل على ذلك، من السنة والإجماع. (996 - 225) أما السنة فقد روى البخاري، من طريق معمر، عن همام ابن منبه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ. قال رجل من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو ضراط. ورواه مسلم دون زيادة: قال رجل من حضرموت ..... الخ (¬1). الدليل الثاني من السنة: (997 - 226) ما رواه البخاري من طريق الزهري، عن سعيد وعباد ابن تميم، عن عبد الله بن زيد، أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً. ورواه مسلم (¬2). الدليل الثالث من السنة: (998 - 227) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، ¬
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا وضوء إلا من صوت أو ريح (¬1). [المحفوظ في لفظ الحديث فلا يخرج حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً] (¬2). ¬
قلت: مفهوم الحديث أن لا وضوء إلا من الصوت (الضرطة) والريح؛ لأن الحديث فيه سياق الحصر المعتمد على النفي والإثبات، لأن ظاهر الحديث لا وضوء من البول والمذي والنوم واختلف العلماء في الجواب عن ذلك: فقال أبو حاتم في العلل: هذا وهم، اختصر شعبة متن هذا الحديث، فقال: لا وضوء إلا من صوت أو ريح، ورواه أصحاب سهيل، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: إذا كان أحدكم في صلاة، فوجد ريحاً من نفسه، فلا يخرجن حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً. (¬1) اهـ وكذا قال ابن خزيمة في صحيحه (¬2). ¬
وقال البيهقي نحوه في السنن (¬1). وقال الشوكاني: شعبة إمام حافظ واسع الرواية، وقد روى هذا اللفظ بهذه الصيغة المشتملة على الحصر، ودينه وإمامته ومعرفته باللسان يرد ما ذكره أبو حاتم (¬2). اهـ قلت: الحديث بالحصر لا بد أن يقال: إنه غلط؛ لأن الحصر ينفي أن يكون هناك ناقض غيرهما، مع أن البول فيه الوضوء بالإجماع، وليس داخلا في الحديث، لكن لا يتعين أن يكون الخطأ من شعبة، فالراجح عندي أن الخطأ من سهيل بن أبي صالح، فتارة يرويه مستقيماً كما في رواية خالد بن عبد الله الواسطي وجرير، وحماد بن سلمة، والدراوردي. وتارة يرويه بالحصر كما في رواية شعبة، والذي يجعلني أبرئ شعبة من الخطأ، أولاً: أن شعبة قد توبع فيه بلغة الحصر، فقد رواه أبو عبيد في كتاب الطهور، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن سعيد، عن سهيل به بلفظ شعبة. ورواية يزيد بن هارون عن سعيد قبل اختلاطه، فخرج شعبة من عهدته. ثانياً: أن سهيل بن أبي صالح قد تكلم فيه بعضهم، وقد وثقه بعضهم، وبعضهم جعل حديثه من قبيل الحسن، وقد قال الذهبي: صدوق مشهور ساء حفظه. فالصحيح من حديث سهيل ما يوافق حديث عبد الله بن زيد في الصحيحين، وإذا كنا قد ضعفنا هذا الحصر مرفوعاً فهناك قول - وإن كان ¬
قد يختلف قليلاً عنه - يرى أن الحدث ما يخرج من القبل والدبر خاصة، وترجم له البخاري: باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القبل والدبر، وقول الله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} (¬1). وتقدم لنا قول أبي هريرة في البخاري: قال رجل من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو ضراط. قال الحافظ: والمراد به الخارج من السبيلين، وإنما فسره أبو هريرة بالأخف على الأغلظ؛ ولأنهما قد يقعان في أثناء الصلاة أكثر من غيرهما، أما باقي الأحداث المختلف فيها بين العلماء، كمس الذكر، ولمس المرأة، والقيء ملء الفم، والحجامة، فلعل أبا هريرة كان لا يرى النقض بشيء منها، وعليه مشى البخاري كما في باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين. وقيل: إن أبا هريرة اقتصر في الجواب على ما ذكر لعلمه أن السائل كان يعلم ذلك، وفيه بعد. اهـ كلام الحافظ (¬2). قلت: أبو هريرة يرى الوضوء مما مست النار، وقد صح ذلك عنه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في مسألة مستقلة، فلعله فسر الحدث بالمثال، ولم يقصد الحصر، والله أعلم. وقال العراقي: لما ذكر الحدث في المسجد ترك أبو هريرة منه ما لا يشكل أمره من البول والغائط في المسجد، فإنه لا يتعاطاه في المسجد ذو عقل ونبه أبو هريرة بالأدنى على الأعلى (¬3). ¬
الدليل الرابع من السنة: (999 - 228) ما رواه أحمد، قال: حدثنا إسماعيل، حدثنا الدستوائي، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثنا عياض، قال: قلت لأبي سعيد الخدري: أحدنا يصلي، فلا يدري كم صلى؟ فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا صلى أحدكم، فلم يدر كم صلى، فليسجد سجدتين، وهو جالس، وإذا جاء أحدكم الشيطان، فقال: إنك قد أحدثت، فليقل: كذبت إلا ما وجد ريحه بأنفه أو سمع صوته بأذنه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الخامس: من الإجماع، قال ابن المنذر في الأوسط: أجمع أهل العلم على أن خروج الريح من الدبر حدث ينقض الوضوء (¬1). وقال ابن حزم: والريح الخارجة من الدبر - خاصة لا من غيره - بصوت خرجت أم بغير صوت. وهذا أيضا إجماع متيقن , ولا خلاف في أن الوضوء من الفسو والضراط (¬2). وقال ابن قدامة: الخارج من السبيلين على ضربين: معتاد كالبول والغائط والمني والمذي والودي والريح , فهذا ينقض الوضوء إجماعاً (¬3). ¬
المبحث الثالث: خروج المذي
المبحث الثالث: خروج المذي لقد وقع خلاف بين أهل العلم في طهارة المذي، وسيأتي تحرير الخلاف فيه إن شاء الله تعالى في أحكام النجاسات، والكلام في هذا الباب يتناول اعتبار خروجه حدثاً ناقضاً للوضوء، وهي مسألة أخرى. وقد دل على اعتباره حدثاً ناقضاً للوضوء السنة والإجماع، (1000 - 229) أما السنة، ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع وأبو معاوية وهشيم، عن الأعمش، عن منذر بن يعلى -ويكنى أبا يعلى- عن ابن الحنفية، عن علي قال كنت رجلا مذاء، وكنت أستحيي أن أسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال: يغسل ذكره ويتوضأ، ورواه البخاري بنحوه (¬1). الدليل الثاني: (1001 - 230) ما رواه أحمد، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني سعيد بن عبيد بن السباق، عن أبيه، عن سهل بن حنيف قال: كنت ألقى من المذي شدة، فكنت أكثر الاغتسال منه، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك؟ فقال: إنما يجزئك منه الوضوء. فقلت: كيف بما يصيب ثوبي؟ فقال يكفيك أن تأخذ كفاً من ¬
ماء، فتمسح بها من ثوبك حيث ترى أنه أصاب (¬1). [إسناده حسن] (¬2). الدليل الثالث: (1002 - 231) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا إبراهيم بن موسى، قال: أخبرنا عبد الله بن وهب، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن حزام بن حكيم، عن عمه عبد الله بن سعد الأنصاري، قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عما يوجب الغسل، وعن الماء يكون بعد الماء؟ فقال: ذلك المذي، وكل فحل يمذي، فتغسل من ذلك فرجك وأنثييك، وتوضأ وضوءك للصلاة (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). الدليل الرابع: (1003 - 232) ما رواه ابن ماجه، من طريق مصعب بن شيبة، عن أبي حبيب بن يعلى ابن منية، عن ابن عباس أنه أتى أبي بن كعب ومعه عمر، فخرج عليهما، فقال: إني وجدت مذياً، فغسلت ذكري، وتوضأت، فقال عمر: أو يجزئ ذلك؟ ¬
قال: نعم قال: أسمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الخامس: (1004 - 233) روى عبد الرزاق، عن الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال في المذي والودي والمني: من المني الغسل، ومن المذي والودي الوضوء، يغسل حشفته ويتوضأ (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). الدليل السادس: حكى الإجماع على نجاسته، وعلى وجوب الوضوء. قال ابن عبد البر: وأما المذي المعهود المتعارف عليه، وهو الخارج عند ملاعبة الرجل أهله لما يجده من اللذة، أو لطول عزبة، فعلى هذا المعنى خرج السؤال في حديث علي هذا، وعليه وقع الجواب، وهو موضع إجماع لا خلاف بين المسلمين في إيجاب الوضوء منه، وإيجاب غسله لنجاسته (¬5). ¬
وقال ابن المنذر: لست أعلم في وجوب الوضوء منه اختلافاً بين أهل العلم (¬1). ونقل النووي الإجماع عن ابن المنذر في المجموع (¬2). وقال ابن قدامة: الخارج من السبيلين على ضربين: معتاد كالبول والغائط والمني والمذي والودي والريح , فهذا ينقض الوضوء إجماعاً (¬3). ¬
المبحث الرابع: خروج الودي
المبحث الرابع: خروج الودي لقد وقع خلاف بين أهل العلم في طهارة الودي، وسيأتي تحرير الخلاف فيه إن شاء الله تعالى في أحكام النجاسات، والكلام في هذا الباب يتناول اعتبار خروجه حدثاً ناقضاً للوضوء، وهي مسألة أخرى. فذهب الأئمة الأربعة إلى أن خروج الودي حدث ناقض للوضوء (¬1)، وقال ابن المنذر: الودي شيء يخرج من الذكر على إثر البول، والوضوء يجب بخروج البول، وليس يوجب بخروجه شيء إلا الوضوء الذي وجب بخروج البول (¬2). دليل من قال: إن الودي ينقض الوضوء. الدليل الأول: (1005 - 234) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن الركين، عن حصين بن قبيصة الفزاري، ¬
الدليل الثاني
عن علي قال: كنت رجلا مذاء، وكانت تحتي بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكنت أستحي أن أسأله، فأمرت رجلاً فسأله، فقال: إذا رأيت المذي فتوضأ، واغسل ذكرك، وإذا رأيت الودي فضخ الماء فاغتسل (¬1). [رجاله ثقات إلا أن ذكر الودي فيه غير محفوظ] (¬2). الدليل الثاني: (1006 - 235) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: المني والودي والمذي، فأما المني ففيه الغسل، وأما المذي والودي ففيهما الوضوء، ويغسل ذكره (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). الدليل الثالث: القياس على البول والمذي بجامع أن كلاً منهم خارج نجس من سبيل واحد. وقد حكي الإجماع على نجاسة الودي، قال النووي: أجمعت الأمة على نجاسة المذي والودي (¬5). اهـ ¬
وحكى الحطاب من المالكية في مواهب الجليل (¬1) أن شاس نقل الإجماع على نجاسة الودي. وأما قول من قال: إن الوضوء وجب بخروج البول لا بخروج الودي، فإنه يقال له: ما المانع أن يكون هناك أكثر من موجب، على أن بعضهم ذكر أن خروج الودي على إثر البول في الغالب، وليس دائماً، فقد يخرج بعد حمل شيء ثقيل، وقد يخرج وحده بلا سبب (¬2). وقال في البحر الرائق: إن قيل: ما فائدة إيجاب الوضوء بالودي، وقد وجب بالبول السابق عليه؟. قلنا: عن ذلك أجوبة، أحدها: فائدته فيمن به سلس البول, فإن الودي ينقض وضوءه دون البول. ثانيها: فيمن توضأ عقب البول، قبل خروج الودي، ثم خرج الودي، فيجب به الوضوء. . ¬
ثالثها: الودي ماء يخرج بعد الاغتسال من الجماع وبعد البول, وهو شيء لزج كذا فسره في الخزانة والتبيين، فالإشكال إنما يرد على من اقتصر في تفسيره على ما يخرج بعد البول. رابعها: أن وجوب الوضوء بالبول لا ينافي الوجوب بالودي بعده، ويقع الوضوء عنهما، حتى لو حلف لا يتوضأ من رعاف، فرعف، ثم بال أو عكسه، فتوضأ؛ فالوضوء منهما؛ فيحنث، وكذا لو حلفت لا تغتسل من جنابة أو حيض فجامعها زوجها، وحاضت فاغتسلت فهو منهما وتحنث (¬1). ¬
المبحث الخامس: في خروج دم الاستحاضة
المبحث الخامس: في خروج دم الاستحاضة يدخل دم الاستحاضة، ومن به حدث دائم في عموم الخارج من أحد السبيلين، فهل يعتبر خروجه حدثاً ناقضاً للوضوء؟ اختلف أهل العلم في ذلك: فقيل: يجب أن تتوضأ لوقت كل صلاة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: يجب أن تتوضأ لكل فريضة، مؤداة أو مقضية، وأما النوافل فتصلي بطهارتها ما شاءت. وهو مذهب الشافعية (¬3). وقيل: لا يعتبر خروج دم الاستحاضة حدثاً ناقضاً للوضوء، بل يستحب منه الوضوء ولا يجب. وهو مذهب المالكية (¬4). ¬
وقيل: الوضوء واجب لكل صلاة، فرضاً كانت أو نفلاً، خرج الوقت أو لم يخرج. وهذا اختيار ابن حزم (¬1). وقد رويت أحاديث في وضوء المستحاضة لكل صلاة، منها: (1007 - 236) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا محمد، قال: ثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا؛ إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. قال هشام: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (¬2). ¬
[زيادة قال هشام: قال أبي: الراجح أنها موقوفة على عروة، ورفعها غير محفوظ] (¬1). ¬
(1008 - 237) ومنها: ما رواه أحمد، قال: ثنا وكيع، ثنا الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة، جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: لا، اجتنبي الصلاة أيام محيضك، ثم اغتسلي، وتوضئي لكل صلاة، ثم صلي وإن قطر الدم على الحصير)) (¬1). [الحديث ضعيف، وفيه عنعنة حبيب بن أبي ثابت، وعروة مختلف فيه، قيل: عروة المزني، وهو مجهول، وقيل: عروة بن الزبير] (¬2). ¬
(1009 - 238) ومنها: ما رواه الدرامي، قال: أخبرنا محمد بن عيسى، ثنا شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها في كل شهر، فإذا كان عند انقضائها اغتسلت وصلت، وصامت، وتوضأت عند كل صلاة (¬1). [ضعيف جداً]. (1010 - 239) ومنها ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا أحمد بن القاسم الطائي، ثنا بشر بن الوليد الكندي، ثنا أبو يوسف القاضي، عن عبد الله بن علي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر: «عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة». قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن أبي أيوب الأفريقي، وهو عبد الله ابن علي، إلا أبو يوسف (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). (1011 - 240) ومنها: ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا مورع بن عبد الله، ثنا الحسن بن عيسى، ثنا حفص بن غياث، عن العلاء بن المسيب، عن الحكم بن عتيبة عن جعفر، عن سودة بنت زمعة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬
المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تجلس فيها، ثم تغتسل غسلاً واحداً ثم تتوضأ لكل صلاة)) (¬1). [إسناده ضعيف]. وقد اختلف العلماء في حكمهم على هذه الآثار الواردة في وضوء المستحاضة لكل صلاة، فمنهم من ضعف الأحاديث الواردة في الباب. قال ابن رجب: أحاديث الوضوء لكل صلاة قد رويت من وجوه متعددة وهي مضطربة ومعللة (¬2). ولهذا ذهب المالكية إلى عدم وجوب الوضوء على المستحاضة لكل صلاة. قال ابن عبد البر: والوضوء عليها عند مالك على الاستحباب دون الوجوب، قال: وقد احتج بعض أصحابنا على سقوط الوضوء بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا ذهب قدرها فاغتسلي وصلي» ولم يذكر وضوءاً، قال: وممن قال بأن الوضوء على المستحاضة غير واجب ربيعة وعكرمة ومالك وأيوب وطائفة (¬3). وإذا لم تصح الآثار عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في وضوء المستحاضة، فإن النظر أيضاً يؤيد القول بعدم اعتبار خروج دم الاستحاضة وسلس البول ونحوهما حدثاً يوجب الوضوء، وذلك من وجوه: ¬
الوجه الأول: أن من كان به حدث دائم لو تطهر فلن يرتفع حدثه، وإذا كان كذلك، كانت طهارته استحباباً لا وجوباً. الوجه الثاني: إذا كان دم الاستحاضة لايبطل الطهارة بعد الوضوء، وقبل الصلاة، لم يكن حدثاً يوجب الوضوء عند تجدد الصلاة أو خروج الوقت، ولذا حملنا الأمر على الاستحباب. الوجه الثالث: إذا كان دم العرق لاينقض الوضوء، فلو خرج دم من عرق اليد أو الرجل لم ينتقض وضوءه على الصحيح، فكذلك دم الاستحاضة، فإنه دم عرق كما في أحاديث الصحيحين، ولا يقال: إن خروجه من الفرج جعل حكمه مختلفاً؛ لأن المني يخرج من الفرج، ومع ذلك هو طاهر. الوجه الرابع: الشارع حكيم، فلا يؤاخذ الإنسان إلا بما فعل، فإذا كان خروج الدم ليس من فعل الإنسان ولا من قصده، لم تفسد عبادته، ولهذا لايؤاخذ الإنسان باللغو في اليمين لعدم توفر القصد. قال ابن المنذر في الأوسط: ((والنظر دال على ما قال ربيعة - يعني: في عدم وجوب الوضوء - إلا أنه قول لا أعلم أحداً سبقه إليه. وإنما قلت: النظر يدل عليه؛ لأنه لافرق بين الدم الذي يخرج من المستحاضة قبل الوضوء، والذي يخرج في أضعاف الوضوء، والدم الخارج بعد الوضوء؛ لأن دم
الاستحاضة إن كان يوجب الوضوء فقليل ذلك وكثيره في أي وقت كان يوجب الوضوء، فإذا كان هكذا، وابتدأت المستحاضة في الوضوء، فخرج منها دم بعد غسلها بعض أعضاء الوضوء، وجب أن ينتقض ما غسلت من أعضاء الوضوء، لأن الدم الذي يوجب الطهارة في قول من أوجب على المستحاضة الطهارة قائم. وإن كان ما يخرج منها بين أضعاف الوضوء، وما خرج منها قبل أن تدخل الصلاة، وما حدث في الصلاة منه لا ينقض طهارة، وجب كذلك أن ما خرج منها بعد فراغها من الصلاة لا تنقض طهارة إلا بحدث غير دم الاستحاضة هذا الذي يدل عليه النظر)). اهـ (¬1) هذه أدلة المالكية على عدم اعتبار خروج دم الاستحاضة حدثاً ناقضاً للوضوء، وهذا القول هو الراجح عندي، لأن الآثار في الباب لم تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة، ولأن هذا القول موافق لقواعد الشريعة من جهة أخرى كما سبق بيانه، وفيه تيسير على المبتلى من النساء ومن به سلس بول، وقد أفتى به جماعة من أهل العلم على رأسهم الإمام مالك وربيعة وعكرمة وأيوب وطائفة، كما سبق ذكره عنهم، وذكر ابن المنذر أن القياس يقتضيه، وهل الشرع كله إلا على وفق القياس، وصرح الحافظ ابن رجب بأنه لم يصح في أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة حديث، وقد بسطت الخلاف في هذه المسألة بأكثر من هذا الكلام في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، فارجع إليه إن أردت الاستزادة من هذه المسألة المهمة (¬2). ¬
المبحث السادس: في الخارج النادر من السبيلين
المبحث السادس: في الخارج النادر من السبيلين سبق لنا أن تكلمنا على الخارج من السبيلين إذا كان معتاداً، كالبول والغائط، والمذي، والودي ونحوها، وسوف نتكلم في هذا المبحث إذا كان الخارج غير معتاد، كالحصى، والدود، والريح من القبل، ونحوها، فهل يعتبر خروجها حدثاً ناقضاً للوضوء، أو لا يعتبر؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم، فقيل: خروج الشيء النادر من السبيلين يعتبر ناقضاً للوضوء، وهو المشهور من مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، إلا ريح القبل فلا تنقض الوضوء عند الحنفية؛ لأنها اختلاج لا ريح عندهم. وقيل: لا ينقض إذا لم يكن معتاداً، وهو مذهب المالكية (¬4). وسبب اختلافهم ما ذكره ابن رشد، وأسوقه مع تصرف يسير، حيث يقول: من الفقهاء من اعتبر في ذلك الخارج وحده من أي موضع خرج، وعلي أي جهة خرج، فقالوا: كل نجاسة تسيل من الجسد وتخرج منه يجب منها الوضوء كالدم والرعاف والقيء. ¬
واعتبر قوم المخرجين: الذكر والدبر، فقالوا: كل ما خرج من هذين السبيلين فهو ناقض للوضوء، من أي شيء خرج من دم، أو حصى أو بلغم، وعلي أي وجه خرج، سواء كان خروجه على وجه الصحة أو المرض. واعتبر آخرون الخارج والمخرج وصفة الخروج، فقالوا: كل ما خرج من السبيلين مما هو معتاد خروجه، وهو البول والغائط والمذي والودي والريح إذا كان خروجه على وجه الصحة فهو ينقض الوضوء، فلم يروا في الدم والحصاة والدود وضوء، ولا في السلس كذلك، والسبب في اختلافهم أنه لما أجمع المسلمون على انتقاض الوضوء مما يخرج من السبيلين من غائط وبول وريح ومذي، لظاهر الكتاب ولتظاهر الآثار بذلك، تطرق إلى ذلك ثلاث احتمالات: أحدها: أن يكون الحكم إنما علق بأعيان هذه الأشياء فقط المتفق عليها على ما رآه مالك رحمه الله. الاحتمال الثاني: أن يكون الحكم إنما علق بهذه من جهة أنها أنجاس خارجة من البدن، فيكون الوضوء طهارة، والطهارة إنما يؤثر فيها النجس. الاحتمال الثالث: أن يكون الحكم أيضاً إنما علق بها من جهة أنها خارجة من هذين السبيلين.
قلت: الذي يظهر أن الاعتبار بالمخرج لا بالنجاسة؛ لأن الريح طاهرة، وإذا خرجت من الدبر كانت حدثاً، وإذا خرجت من الفم لم تكن ناقضة، وليس الاعتبار بكونه معتاداً، فهذا الودي نادر غير معتاد، وقد يكون دالاً على اعتلال، ومع ذلك ينقض الوضوء حتى على مذهب مالك رحمه الله، والله أعلم.
الفصل الثاني: خروج النجس من البدن من غير السبيلين
الفصل الثاني: خروج النجس من البدن من غير السبيلين المبحث الأول: خروج البول والغائط من غير السبيلين اختلف العلماء في خروج البول والغائط من غير السبيلين، هل يعتبر حدثاً ناقضاً للوضوء؟ فقيل: يعتبر خروجهما حدثاً مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل بالتفصيل: وهو إما أن ينسد المخرج المعتاد أو لا ينسد، فإن كان المخرج المعتاد لم ينسد، فلا ينقض الخارج مطلقاً. وإن كان المخرج المعتاد قد انسد، نظر: فإن كان مخرج البول والغائط فوق المعدة، لم ينقض، وإن كان المخرج تحت المعدة نقض. وهذا التفصيل إذا كان انسداد المخرج عارضاً، أما لو كان أصلياً من أصل الخلقة فإن الخارج منه ناقض للوضوء مطلقاً، سواء كان خروجه فوق أو ¬
دليل الحنفية والحنابلة على النقض مطلقا
تحت المعدة، وهذا مذهب المالكية (¬1)، والصحيح من قولي الشافعية (¬2). دليل الحنفية والحنابلة على النقض مطلقاً. الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} (¬3). فجعل الاعتبار بالغائط: أي بالخارج لا بالمخرج، والبول مقيس عليه. الدليل الثاني: (1012 - 241) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عاصم، عن زر بن حبيش، قال: أتيت صفوان، فقلت له: حك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول، وكنت امرأ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيتك أسألك عن ذلك، هل سمعت منه في ذلك شيئاً؟ قال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفراً، أو كنا مسافرين لا ننزع أخفافنا ثلاثة أيام بلياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم .... الحديث (¬4). [وإسناده حسن وسبق تخريجه] (¬5). ¬
الدليل الثالث
وجه الاستدلال: قوله: «ولكن من غائط وبول ونوم» فاعتبر الخارج دون المخرج. الدليل الثالث: من النظر، قال: ابن تيمية رحمه الله: والسبيل إنما يغلظ حكمه؛ لكونه مخرجاً معتاداً للبول والغائط، فإذا تغلظ حكمه بسببهما فلأن يتغلظ حكم أنفسهما أولى وأحرى (¬1). الدليل الرابع: قال الزيلعي: خروج النجس مؤثر في زوال الطهارة: أما موضع الخروج فظاهر، وأما غيره فلأن بدن الإنسان باعتبار ما يخرج منه لا يتجزأ في الوصف، فإذا وصف موضع منه بالنجاسة وجب وصف كله بذلك، كالإيمان والكفر والكذب والصدق ونحو ذلك، فإنه يوصف به كله، وإن كان كل واحد من هذه الأشياء في محل مخصوص، فإذا صار كله نجساً وجب تطهيره كله، لكن ورد الشرع بالاقتصار على الأعضاء الأربعة في السبيلين، للحرج لتكرار ما يخرج منهما، فألحقنا به ما هو في معناه من كل وجه (¬2). وهذا الكلام فيه نظر كبير؛ لأن نجاسة عضو من الأعضاء لا يعني نجاسة كل الأعضاء، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول لعائشة: إن حيضتك ليست في يدك. وبدن الحائض طاهر، وإن كان موضع الأذى قد تنجس بخروج دم الحيض، ولو تنجس عضو من الأعضاء لم يجب غسل باقي الأعضاء بل يغسل ما تنجس منه ¬
دليل من اشترط انسداد المخرج وكونه تحت المعدة
فقط، والطهارة من الحدث ليس موجبها خروج النجاسة فقط، فهذا مس الذكر يوجب الوضوء على الصحيح، وكذلك أكل لحم الإبل كذلك، وليس ذلك عن نجاسة، والله أعلم. دليل من اشترط انسداد المخرج وكونه تحت المعدة. قالوا: إذا انسد المخرج، وكانت الفتحة تحت المعدة، فإن الطعام لما انحدر إلى الأمعاء أصبح فضلة قطعاً، وصارت الفتحة التي تحت المعدة قائمة مقام السبيلين عند انسدادهما. ولأن الإنسان لا بد له من مخرج، فأقيم هذا مقامه. ولأن المخرج إذا كان فوق المعدة أشبه القيء وأشبه التجشي: وهو خروج الريح من الفم فلم ينقض الخارج. والقول الأول أحوط، والثاني أقيس. واستثنى الحنابلة في أحد القولين خروج الريح فلا تعتبر حدثاً إذا خرجت من غير السبيل. ولا أعلم وجهاً في التفريق بين البول والريح في النقض إلا أن تكون الريح طاهرة، والبول نجس، لكن ينبغي إذا انسد المخرج المعتاد وكانت من تحت المعدة أن يكون خروجها ناقضاً؛ لأن مخرجها حينئذ قائم مقام المخرج الأصلي، والله أعلم.
فرع
فرع: إذا انسد المخرج المعتاد، وخرج البول والغائط من مخرج غير معتاد، فهل له حكم القبل والدبر في كل شيء، من جواز الاكتفاء بالاستجمار بالحجارة، ووجوب الوضوء بمسه، ووجوب الحد بالإيلاج فيه، ومن تحريم النظر إليه؟ في ذلك خلاف. والراجح أنه ليس له حكم الذكر من كل وجه (¬1). وإن كان لا مانع من إزالة النجاسة بالحجارة، وليس ذلك من باب القياس على المخرج المعتاد، وإنما لأن النجاسة تزال بأي مزيل، ولا يتعين الماء، فإذا زالت زال حكمها، وسوف يأتي إن شاء الله تعالى بسط هذه المسألة في كتاب أحكام النجاسة. ¬
المبحث الثاني: في خروج النجس غير البول والغائط من غير السبيلين
المبحث الثاني: في خروج النجس غير البول والغائط من غير السبيلين إذا خرج من البدن شيء نجس، ولم يكن بولاً ولا غائطاً، وكان خروجه من غير السبيلين، كما لو رعف، أو تقيأ، أو جرح بدنه، فهل يعتبر خروجه حدثاً ناقضاً للوضوء؟ اختلف العلماء في هذا، فقيل: يعتبر خروجه حدثاً ناقضاً للوضوء بشرطه، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2). ¬
دليل من قال: خروج النجس ينقض الوضوء
وقيل: لا يعتبر خروجه حدثاً، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2). دليل من قال: خروج النجس ينقض الوضوء. الدليل الأول: (1013 - 242) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: لا، إنما ذلك عرق، وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي. قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت. ورواه مسلم دون زيادة الوضوء لكل صلاة (¬3). ¬
الدليل الثاني
وجه الاستدلال: أمرها بالوضوء من دم الاستحاضة، وعلل ذلك بأنه دم عرق، فيؤخذ منه أن دماء العروق الخارجة من البدن توجب الوضوء من أي موضع خرجت؛ لأنه لم يعلل الوضوء بأنه دم خارج من سبيل، بل قال: إنما ذلك عرق. ويجاب عن ذلك: أولاً: أن الدم ليس بنجس على الصحيح، وأنتم تخصون النقض بما كان نجساً، وسيأتي تحرير ذلك بحول الله وقوته في كتاب أحكام النجاسة، وإذا كان الدم طاهراً لم يكن ناقضاً كالعَرَق والبصاق واللبن والدمع ونحوها. ثانياً: أن قوله: «إنما ذلك عرق» ليس تعليلاً لإيجاب الوضوء، وإنما هو تعليل لوجوب الصلاة؛ لأن السؤال كان عن الصلاة، حيث قالت: أفادع الصلاة؟ قال: لا؛ إنما ذلك عرق، ولذلك لما خالف دم الاستحاضة دم الحيض لم يمنع من الصلاة وإن كان دماً وخارجاً من سبيل. ثالثاً: قد بينا أن قوله: «توضئي لكل صلاة» إنما هو من كلام عروة، وليس مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما سبق أن نقلنا كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله بأن أحاديث الوضوء لكل صلاة في حق المستحاضة مضطربة ومعللة. الدليل الثاني: (1014 - 243) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر وهو أحمد بن عبد الله الهمداني الكوفي وإسحاق بن منصور، عن عبد الصمد ابن عبد الوارث، حدثني أبي، عن حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يعيش بن الوليد المخزومي، عن أبيه، عن معدان بن أبي طلحة،
عن أبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاء، فأفطر، فتوضأ، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت ذلك له، فقال: صدق أنا صببت له وضوءه (¬1). [إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال: قوله في الحديث: «قاء فتوضأ» يدل على أن الوضوء كان مرتباً على القيء وبسببه، وهو المطلوب، فتكون للسببية (¬1). ¬
وأجيب: أولاً: أن الوضوء مجرد فعل من النبي - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، أقصى ما يدل عليه الفعل إذا كان على وجه التعبد، ولم يكن بياناً لمجمل أن يدل على الاستحباب، ولذلك لما تيمم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لرد السلام، لم يقل أحد بوجوب التيمم لرد السلام. وقال ابن المنذر: ((وليس يخلو هذا الحديث من أمرين: إما أن يكون ثابتاً، أو غير ثابت. فإن كان ثابتاً فليس فيه دليل على وجوب الوضوء منه؛ لأن في الحديث أنه توضأ، ولم يذكر أنه أمر بالوضوء منه، كما أمر بالوضوء من سائر الأحداث. وإن كان غير ثابت، فهو أبعد من أن يجب فيه فرض)). (¬1) اهـ كلام ابن المنذر. ثانياً: أن الاستدلال بهذا الحديث مبني على أن القيء نجس، والقيء ليس بنجس على الصحيح، بل هو طاهر، وقد بينت طهارته ولله الحمد في كتاب أحكام النجاسات. الثالث: أن القيء لا يفطر إلا ما كان منه على وجه التعمد، والحديث المحفوظ فيه أنه قاء، وليس استقاء. الرابع: أن الوضوء قد يكون بعد القيء من أجل النظافة وإزالة القذر الذي يبقى في الفم، وربما في الأنف، وما يصيب البدن منه، لا من أجل كون القيء حدثاً ناقضاً للوضوء، فلا نستطيع أن نحكم على من تطهر بموجب الكتاب والسنة، أن نحكم عليه بفساد عبادته إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، والله أعلم. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1015 - 244) ما رواه ابن ماجه، من طريق إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف، فليتوضأ، ثم ليبن على صلاته، وهو في ذلك لا يتكلم (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ومع ضعف إسناده فإن في متنه نكارة؛ لأن القئ والقلس إن كانا حدثين فإن الحدث مبطل للطهارة، وإذا بطلت الطهارة أثناء الصلاة بطلت الصلاة، كما لو خرجت منه ريح أو بول أو غائط أثناء الصلاة فإن الصلاة كلها تبطل، وإذا تطهر وجب عليه استئناف الصلاة، فما بال الرعاف والقيء يخرج منه، ثم يذهب وينصرف عن القبلة، ويشتغل بالطهارة: وهي حركة كثيرة أجنبية عن الصلاة، وهو في ذلك كله لم يخرج من الصلاة؛ لأنه يحرم عليه الكلام حينئذ، ثم يرجع ويبني على صلاته، فإن كان الرعاف والقيء حدثاً فقد خرج من الصلاة، وإن لم يكن ذلك حدثاً فلماذا يشتغل بالطهارة. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (1016 - 245) ما رواه الدارقطني من طريق أبي بكر الداهري، عن حجاج، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من رعف في صلاته فليرجع فليتوضأ وليبن على صلاته (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (1017 - 246) ما ورواه الطبراني، قال: حدثنا يحيى بن محمد الحيالي (¬1)، ثنا أحمد بن عبدة، ثنا الحسين بن الحسن، ثنا جعفر بن زياد الأحمر، عن يزيد ابن أبي خالد (¬2)، عن أبي هاشم، عن زاذان، عن سلمان رضي الله عنه قال: رعفت عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمرني أن أحدث وضوءاً (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (1018 - 247) ما رواه الدارقطني من طريق عمران بن موسى، نا عمر ابن رياح، نا عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله إذا رعف في صلاته توضأ، ثم بنى على ما بقي من صلاته (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬
الدليل السابع
(1019 - 248) وروي عن ابن عباس من وجه آخر، أخرجه الدارقطني من طريق محمد بن سلمة عن ابن أرقم، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا رعف أحدكم في صلاته، فلينصرف، فليغسل عنه الدم، ثم ليعد وضوءه، ويستقبل صلاته (¬1). قال الدراقطني: سليمان بن أرقم متروك (¬2). الدليل السابع: (1020 - 249) ما رواه الدارقطني من طريق عيسى بن المنذر،، نا بقية، عن يزيد بن خالد، عن يزيد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، قال: قال تميم الداري، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الوضوء من كل دم سائل (¬3). [ضعيف جداً] (¬4). ¬
الدليل الثامن
الدليل الثامن: (1021 - 250) ما رواه الدارقطني، من طريق حفص الفراء، ثنا سوار ابن مصعب، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: القلس حدث (¬1). قال الدارقطني: سوار متروك، ولم يروه عن زيد غيره (¬2). الدليل التاسع: (1022 - 251) ما رواه الدارقطني من طريق محمد بن علي البزاز، نا محمد بن الفضل، عن أبيه، عن ميمون بن مهران، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس في القطرة والقطرتين وضوء إلا أن يكون دماً سائلاً (¬3). [ضعيف جداً] (¬4). ¬
الدليل العاشر
الدليل العاشر: (1023 - 252) ما رواه البيهقي في الخلافيات من طريق سهل بن عفان السجزي، ثنا الجارود بن يزيد، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يعاد الوضوء من سبع: من إقطار البول والدم السائل، والقيء، ومن دسعة يملأ بها الفم، والنوم المضطجع، وقهقهة الرجل في الصلاة، ومن خروج الدم (¬1). قال البيهقي: سهل بن عفان مجهول، والجارود بن يزيد ضعيف في الحديث (¬2). ¬
الدليل الحادي عشر
الدليل الحادي عشر: من الآثار عن مجموعة من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمنها: (1024 - 253) ما رواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، كان إذا رعف انصرف، فتوضأ، ثم رجع، فبنى، ولم يتكلم (¬1). [وهذا إسناد في غاية الصحة، وهو موقوف على ابن عمر] (¬2). (1025 - 254) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن علي بن صالح وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، قال: إذا وجد أحدكم في بطنه رزأً أو قيئاً أو رعافاً فلينصرف، فليتوضأ، ثم ليبن على صلاته ما لم يتكلم (¬3). [إسناده حسن] (¬4). ¬
(1026 - 255) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان، عن عمران بن ظبيان، عن حكيم بن سعد أبي يحيى، عن سلمان، قال: إذا أحدث أحدكم في صلاته، فلينصرف غير راع ¬
الدليل الثاني عشر
لصنعه، فليتوضأ، ثم ليعد في آيته التي كان يقرأ (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثاني عشر: من القياس، حيث وجدنا خروج النجس من السبيلين حدثاً ناقضاً للوضوء، فكذلك خروج النجس من سائر البدن؛ لأن المعتبر هو الخارج وليس المخرج، فإذا خرج النجس من سائر البدن أوجب الطهارة؛ إذ الطهارة والنجاسة لا يجتمعان. ¬
وأجيب عنه بما قاله ابن المنذر: لا يجوز أن يشبه سائر ما يخرج من سائر الجسد بما يخرج من القبل أو الدبر؛ لأنهم قد أجمعوا على الفرق بين ريح تخرج من الدبر وبين الجشاء المتغير يخرج من الفم، فأجمعوا على وجوب الطهارة في أحدهما: وهو الريح الخارج من الدبر، وأجمعوا على أن الجشاء لا وضوء فيه، ففي إجماعهم على الفرق بين ما يخرج من مخرج الحدث، وبين ما يخرج من غير مخرج الحدث أبين البيان على أن ما خرج من سائر الجسد غير جائز أن يقاس على ما خرج من مخرج الحدث. وقال أيضاً: ليس وجوب الطهارات من أبواب النجاسات بسبيل، ولكنها عبادات، وقد يجب على المرء الوضوء بخروج الريح من دبره، وقد يجب بخروج المني، وهو طاهر غسل جميع البدن، ويجب بخروج البول غسل أعضاء الوضوء، والبول نجس، ويجب بالتقاء الختانين الاغتسال، ولو لم يحصل إنزال. (¬1) اهـ قلت: ويجب الوضوء أيضاً بأكل الشيء الطاهر كلحم الإبل على الصحيح، ولو غمس يده في نجاسة لم يجب عليه إلا غسل يده، ولو مس ذكره بيده وجب عليه الوضوء على الصحيح مع أنه عضو طاهر كسائر أعضائه، فهذه عبادات لا يجري في مثلها القياس، ثم إن كان الخارج النجس من غير السبلين حدثاً فلا فرق بين قليله وكثيره كسائر الأحداث من البول والغائط والريح، وإن كان ليس حدثاً فلا معنى للتفريق بين القليل والكثير. ¬
دليل من قال: لا يعتبر خروج النجس حدثا
دليل من قال: لا يعتبر خروج النجس حدثاً. الدليل الأول: (1027 - 256) ما رواه أحمد، من طريق شعبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا وضوء إلا من صوت أو ريح (¬1). [المحفوظ من الحديث أن هذا فيمن شك في الحدث، وهو في الصلاة، فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً] (¬2). الدليل الثاني: (1028 - 257) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا سهل بن زياد، نا صالح ابن مقاتل بن صالح، نا أبي، نا سليمان بن داود أبو أيوب القرشي بالرقة، نا حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1029 - 258) ما رواه أحمد، من طريق محمد بن إسحاق، حدثني صدقة بن يسار، عن عقيل بن جابر، عن جابر بن عبد الله، قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة ذات الرقاع، فأصيبت امرأة من المشركين، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قافلاً، وجاء زوجها وكان غائبا، فحلف أن لا ينتهي حتى يهريق دماً في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فخرج يتبع أثر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - منزلاً، فقال: من رجل يكلؤنا ليلتنا هذه؟ فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فقالا: نحن يا رسول الله. قال: فكونوا بفم الشعب، قال: وكانوا نزلوا إلى شعب من الوادي، فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب، قال الأنصاري للمهاجري: أي الليل أحب إليك أن أكفيكه أوله أو آخره؟ قال: اكفني أوله، فاضطجع المهاجري فنام وقام الأنصاري يصلي، وأتى الرجل فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئة القوم، فرماه بسهم، فوضعه فيه فنزعه فوضعه، وثبت قائماً، ثم رماه بسهم آخر، فوضعه فيه، فنزعه فوضعه، وثبت قائماً، ثم عاد له بثالث فوضعه فيه فنزعه فوضعه، ثم ركع وسجد، ثم أهب صاحبه، فقال: اجلس فقد أوتيت، فوثب، فلما رآهما الرجل عرف أن قد نذروا به، فهرب فلما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء، قال: سبحان الله ألا أهببتني؟ قال: كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها ¬
الدليل الرابع
حتى أنفذها، فلما تابع الرمي ركعت، فأريتك، وايم الله لولا أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها (¬1). وجه الاستدلال: أن خروج الدم لو كان حدثاً لخرج من صلاته بمجرد خروجه، ولما أتم صلاته، وهو ينزف دماً. وأجيب: بأن الحديث ضعيف الإسناد منكر المتن (¬2). الدليل الرابع: (1030 - 259) ما رواه الدارقطني من طريق القاسم بن هاشم السمسان، نا عتبة بن السكن الحمصي، نا الأوزاعي، نا عبادة بن نسي وهبيرة ابن عبد الرحمن قالا: نا أبو أسماء الرحبي، أخبرنا ثوبان، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صائماً في غير رمضان، فأصابه غم آذاه، فتقيأ، فقاء، فدعاني بوضوء، فتوضأ، ثم أفطر، فقلت: يا رسول الله أفريضة الوضوء من القيء؟ قال: لو كان فريضة لوجدته في القرآن. قال: ثم صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغد، فسمعته يقول: هذا مكان إفطاري أمس (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬
الدليل الخامس
بله ومتنه منكر؛ لأن الفرائض ليست كلها في القرآن، فإن ما في السنة من الفرائض أكثر مما في القرآن. الدليل الخامس: قالوا: إن الفرائض إنما تجب بكتاب أو سنة أو إجماع، وليس مع من أوجب الوضوء حجة، وقد أجمع العلماء على أن من توضأ فهو طاهر، واختلفوا في نقض طهارته بعد حدوث الرعاف أو القيء أو الحجامة أو غيرها من سائر النجاسات من البدن، وغير جائز أن تنقض طهارة مجمع عليها إلا بإجماع مثله، أو خبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا معارض له (¬1). الدليل السادس: قال الشافعي: لم يختلف الناس في البصاق يخرج من الفم، والمخاط والنَّفس يأتي من الأنف، والجشاء المتغير وغير المتغير يأتي من الفم أن ذلك لا ¬
الدليل السابع
يوجب الوضوء، فدل ذلك على أن لا وضوء من قيء ولا رعاف ولا حجامة ولا شيء خرج من الجسد، ولا أخرج منه غير الفروج الثلاثة: القبل والدبر والذكر؛ لأن الوضوء ليس على نجاسة ما يخرج، ألا ترى أن الريح تخرج من الدبر ولا تنجس شيئاً، فيجب بها الوضوء، كما يجب بالغائط، وأن المني غير نجس والغسل يجب به، وإنما الوضوء والغسل تعبد (¬1). وقد نقلنا نحو هذا الكلام فيما تقدم عن ابن المنذر، والله أعلم. الدليل السابع: من الآثار. (1031 - 260) منها ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن التيمي، عن بكر - يعني: ابن عبد الله المزني - قال: رأيت ابن عمر عصر بثرة في وجهه، فخرج شيء من دم، فحكه بين إصبعيه، ثم صلى ولم يتوضأ (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). ¬
(1032 - 261) ومنها ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري وابن عيينة، عن عطاء بن السائب، قال: رأيت عبد الله بن أبي أوفى بصق دماً، ثم صلى، ولم يتوضأ (¬1). [إسناده حسن] (¬2). (1033 - 262) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا عبيد الله بن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الزبير، عن جابر أنه أدخل أصبعه في أنفه، فخرج عليها دم، فمسحه بالأرض أو التراب، ثم صلى (¬3). [إسناده حسن] (¬4). ¬
(1034 - 263) ومنها: ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن نمير، قال: أخبرنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان إذا احتجم غسل أثر محاجمه (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). (1035 - 264) ومنها ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن جعفر بن برقان، قال: أخبرني ميمون بن مهران، قال: ¬
رأيت أبا هريرة أدخل أصبعه في أنفه، فخرجت مخضبة دماً، ففته، ثم صلى، فلم يتوضأ (¬1). [المحفوظ عن ميمون بن مهران عن من رأى أبا هريرة] (¬2). وأجاب أصحاب القول الأول عن هذه الآثار. أجاب الحنابلة بأن النقض مقيد بشرطين: الأول: أن يكون الخارج نجساً. ¬
الثاني: أن يكون فاحشاً. وهذه الآثار دليل على أن الخارج النجس إذا كان يسيراً لا ينقض الوضوء، أرأيت ابن عمر، فإنه كما ثبت عنه أنه عصر بثرة، فصلى ولم يتوضأ، صح عنه أيضاً أنه كان إذا رعف انصرف فتوضأ، ثم رجع فبنى، ولم يتكلم. رواه مالك، عن نافع، عنه وسبق تخريجه. ورد عليهم: بأنه لو كان خروج النجس حدثاً لما كان هناك فرق بين القليل والكثير، قياساً على سائر الأحداث من البول والغائط والريح ونحوها. وأجاب العلماء القائلون بعدم النقض عن الآثار الواردة في الرعاف، بما قاله ابن عبد البر: قال: حمله أصحابنا على أنه غسل ولم يتكلم، وبنى على ما صلى، قالوا: وغسل الدم يسمى وضوءاً؛ لأنه مشتق من الوضاءة، وهي النظافة، قالوا: فإذا احتمل ذلك لم يكن لمن ادعى على ابن عمر أنه توضأ للصلاة في دعواه ذلك حجة لاحتماله الوجهين: قالوا: وكذلك تأولوا حديث سعيد بن المسيب؛ لأنه قد ذكر الشافعي وغيره عنه أنه رعف فمسحه بصوفة، ثم صلى ولم يتوضأ، قالوا: ويوضح ذلك فعل ابن عباس أنه غسل الدم عنه وصلى، وحمل أفعالهم على الاتفاق منهم أولى. وخالف في ذلك أهل العراق في هذا التأويل، فقالوا: إن الوضوء إذا أطلق ولم يقيد بغسل دم وغيره فهو الوضوء المعلوم للصلاة، وهو الظاهر من إطلاق اللفظ ... . الخ كلامه رحمه الله (¬1). ¬
الراجح من الخلاف
قلت: الأصل حمل الكلام على الحقيقة الشرعية، فإن تعذر أو ليس له حقيقة شرعية قدمت الحقيقة اللغوية، فإن تعذر حمل على الحقيقة العرفية، والله أعلم. الراجح من الخلاف: بعد استعراض أدلة الفريقين الذي يظهر والله أعلم أن القول بأن خروج النجس من غير السبيلين لا ينقض الوضوء إلا أن يكون بولاً أو غائطاً أو ريحاً وقد انسد المخرج المعتاد هو القول الراجح، وأما الآثار التي وردت عن ابن عمر وعن غيره بسند صحيح عن الوضوء من الرعاف، والبناء على الصلاة بعده، فمع أن الدم من الإنسان ليس نجساً - كما حررت ذلك والحمد لله في قسم النجاسات من هذه السلسلة- فهو على خلاف القياس؛ لأن إيجاب الوضوء من الرعاف يعني: بطلان الطهارة، وبطلان الطهارة يلزم منه بطلان الصلاة كخروج البول والريح إذا خرجا من المصلي أثناء الصلاة، فإنه يجب استئناف الصلاة بعد إعادة الطهارة، فصحة الآثار من الصحابة لا نقاش فيه عند اجتماعهم، فإن ثبت الخلاف عن الصحابة كان الأمر واسعاً، وتقديم قول الصحابي الذي يوافق القياس أولى من غيره، وإن لم يثبت الخلاف بينهم، بحيث لا يعلم مخالف لقول من قال بالبناء، فإنا نقول به، ولو خالف القياس، لكن لا نتعداه إلى غيره، ولا نقول بوجوبه من كل خارج نجس، وإنما يقتصر على ما ورد عن الصحابة، والله أعلم. قال ابن عبد البر: وأما بناء الراعف على ما قد صلى، ما لم يتكلم، فقد ثبت في ذلك عن عمر، وعلي وابن عمر، وروي عن أبي بكر أيضاً، ولا مخالف لهم في ذلك من الصحابة إلا المسور بن مخرمة وحده، وروي أيضاً البناء
للراعف على ما صلى ما لم يتكلم عن جماعة من التابعين بالحجاز والعراق والشام، ولا أعلم بينهم في ذلك اختلافاً إلا الحسن البصري فإنه ذهب في ذلك مذهب المسور بن مخرمة، إلى أنه لا يبني من استدبر القبلة في الرعاف ... الخ كلامه رحمه الله تعالى. ولم ير ابن عبد البر من الآثار السابقة من خروج الدم من أنف أبي هريرة، وابن عمر وجابر وعدم الوضوء من ذلك أن ذلك مخالف للآثار الواردة عن الصحابة في الانصراف من الصلاة للرعاف، وذلك ربما لأنه يرى أن خروج الدم من الأنف يسير لا ينقض الوضوء، والله أعلم. وقال ابن التركماني: ذكر الطحاوي في اختلاف العلماء البناء عن عليِّ وابن عمر وعلقمة، ثم قال: ولا نعلم لهؤلاء مخالفاً من الصحابة إلا شيئاً يروى عن المسور بن مخرمة، فإنه قال: يبتدئ صلاته، ثم ذكر كلام ابن عبد البر المتقدم قريباً (¬1). اهـ والعجب كيف يعتبر الكلام مبطلاً للصلاة، ولا يرون إبطال الطهارة بالرعاف مبطلاً للصلاة، مع العلم أن الطهارة شرط من شروط الصلاة، يلزم من عدمها عدم الصلاة، والكلام من محظورات الصلاة، ولكن ليس بمثابة الطهارة من الصلاة، وفعل المأمورات أشد من ترك المحظورات، فإن الإنسان لو تكلم ناسياً في صلاته أو جاهلاً صحت صلاته، ولو صلى بدون طهارة ناسياً أو جاهلاً لم تصح منه الصلاة، ولكن لا بد من التسليم للصحابة إن كان لم يحفظ خلاف في المسألة بينهم، فإن قول الصحابي حجة إذا لم يعلم له مخالف، وما ينسب للمسور بن مخرمة لم أقف على إسناده. ¬
وهذا مالك رحمه الله تعالى، وهو لا يرى خروج النجس من غير السبيلين ناقض للوضوء يقول بالرعاف خاصة. قال ابن رشد: واختار مالك رحمه الله تعالى بالبناء على الاتباع للسلف وإن خالف ذلك القياس والنظر، وهذا على أصله أن العمل أقوى من القياس؛ لأن العمل المتصل لا يكون أصله إلا عن توقيف، وقال أيضاً: ليس البناء في الرعاف بواجب، وإنما هو من قبيل إما الجائز أو المستحب (¬1). ¬
الفصل الثالث: من نواقض الوضوء زوال العقل
الفصل الثالث: من نواقض الوضوء زوال العقل المبحث الأول: انتقاض الوضوء بزوال العقل بالجنون والإغماء ونحوهما إذا زال العقل بجنون أو إغماء أو سكر فإن الوضوء ينتقض إجماعاً، إلا وجهاً مرجوحاً لبعض الشافعية في السكران (¬1). قال النووي: ولا خلاف في شيء من هذا إلا وجهاً للخرسانيين أنه لا ينتقض وضوء السكران إذا قلنا له حكم الصاحي في أقواله وأفعاله. قال النووي: وهذا غلط صريح، فإن انتقاض الوضوء منوط بزوال العقل، فلا فرق بين العاصي والمطيع (¬2). اهـ ¬
وزوال العقل ليس حدثاً في نفسه، وإنما هو مظنة الحدث كالنوم. والجنون والإغماء قليله وكثيره ناقض للوضوء، وسواء كان قاعداً أو مضطجعاً أو قائماً، وأما الجنون فالذي ينقض الوضوء هو الذي لا يبقى معه شعور. قال ابن المنذر: «وأجمعوا على إيجاب الطهارة على من زال عقله بجنون أو إغماء» (¬1). وقال النووي: أجمعت الأمة على انتقاض الوضوء بالجنون والإغماء (¬2). وفي المجنون خلاف هل يجب عليه الوضوء أو يجب عليه الاغتسال؟ فالمشهور أن الجنون لا يوجب إلا الوضوء. وقيل: يجب عليه الغسل (¬3). وليس مع من أوجب الغسل على المجنون دليل إلا قولهم: إن الجنون غالباً لا ينفك عن الإنزال، وما كان مظنة للحدث نزل منزلة الحدث كالنوم. ¬
وقد رد ذلك النووي، فقال: الصحيح أنه يستحب الغسل لا يجب حتى يتيقن خروج المني، فإن القواعد تقتضي أن لا تنتقض الطهارة إلا بيقين الحدث، خالفنا ذلك في النوم بالنصوص التي جاءت، وبقي ما عداه على مقتضاه. اهـ قلت: حتى استحباب الغسل يحتاج إلى بحث، وذلك أنه ثبت الغسل في حق المغمى عليه، كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته (¬1)، فهل كان غسله بسبب الإغماء، أو كان غسله بسبب حاجته إلى الخروج إلى الصلاة، فكان بحاجة إلى القوة والنشاط، ثم هل يقاس عليه الجنون بجامع أن كلاً منهما قد زال عقله، أو يقال: إن الغسل قد يحدث قوة ونشاطاً في حق المغمى عليه، ولا يوجد هذا المعنى في حق المجنون، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المجنون لو تحققنا من نزول المني منه فهل يكفي مثل هذا في إيجاب الغسل عليه، أو لا بد من خروج المني دفقاً بلذة، فالشافعية يوجبون الغسل بمجرد خروج المني بأي صورة خرج. وقيل: لا يجب الغسل إلا إذا خرج المني دفقاً بلذة إلا أن يكون خروج المني من النائم فإن خروجه مطلقاً يوجب الغسل، وسيأتي تحرير هذه المسألة إن شاء الله تعالى في كتاب الغسل، بلغنا الله ذلك بمنه وكرمه، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني: انتقاض الوضوء بزوال العقل بالنوم
المبحث الثاني: انتقاض الوضوء بزوال العقل بالنوم اختلف العلماء في نقض الوضوء بالنوم، فقيل: لا ينقض الوضوء بالنوم مطلقاً، وهو مذهب أبي موسى رضي الله عنه، وسعيد بن المسيب وأبي مجلز وحميد الأعرج (¬1). وقيل: النوم حدث ناقض للوضوء مطلقاً، وهو مذهب إسحاق، وأبي عبيد القاسم بن سلام والمزني (¬2). وقيل: إن نام مستلقياً أو مضطجعاً انتقض، وإلا فلا، وهذا مذهب أبي حنيفة (¬3). وقيل: النوم الثقيل ناقض مطلقاً، قصر أم طال، والنوم الخفيف لا ينقض مطلقاً قصر أم طال، لكن إن طال استحب منه الوضوء. وضابط الثقيل: ما لا يشعر صاحبه بالأصوات، أو بسقوط شيء من يده، أو سيلان ريقه ونحو ذلك، فإن شعر بذلك فهو نوم خفيف، وهذا مذهب المالكية (¬4). ¬
دليل من قال: النوم لا ينقض مطلقا
وقيل: إن نام ممكناً مقعده من الأرض أو نحوها لم ينتقض على أي هيئة كان في الصلاة أو في غيرها، وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬1). وقيل: لا ينقض النوم اليسير من قاعد أو قائم، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: لا ينقض النوم في الصلاة على أي هيئة كان، وهو قول للشافعي في القديم (¬3). وسبب اختلاف العلماء في النوم اختلافهم فيه هل هو حدث في نفسه فيجب الوضوء في قليله وكثيره، أو ليس بحدث فلا ينتقض منه الوضوء، أو أنه سبب في حصول الحدث ومظنة لحصوله، ففرقوا بين النوم الثقيل والخفيف، وبين هيئة القاعد والمضطجع. دليل من قال: النوم لا ينقض مطلقاً. الدليل الأول: قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنباً فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم ¬
من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} الآية (¬1). فذكر سبحانه نواقض الوضوء ولم يذكر النوم. ويجاب بما يلي: أولاً: أن الآية ما سيقت مساق الحصر للنواقض، بل ذكرت بعض النواقض، والسنة بينت الباقي، ولهذا لم تذكر الآية زوال العقل، وهو حدث بالإجماع. ثانياً: أن قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} (¬2)، ظاهر الآية أن من قام إلى الصلاة فعليه أن يتوضأ، لكن قال الشافعي: سمعت من أرضى علمه بالقرآن يزعم أنها نزلت في القائمين من النوم، قال الشافعي: وما قال كما قال؛ لأن في السنة دليلاً على أن يتوضأ من قام من نومه (¬3)، ثم ذكر بعض الأحاديث التي سوف يأتي ذكرها عند من يرى النوم حدثاً ناقضاً للوضوء، والله أعلم. وقال ابن عبد البر: قال زيد بن أسلم وغيره في تأويل قول الله عز وجل {إذا قمتم إلى الصلاة} قال: إذا قمتم من المضاجع، يعني: النوم، وكذلك قال السدي (¬4). قلت: وتحتمل الآية معنيين آخرين ذكرهما العلماء: ¬
الدليل الثاني
الأول: أن تكون الآية عني بها تجديد الوضوء في وقت كل صلاة إذا قام المرء إليها. المعنى الثاني: أن تكون الآية عني بها حال القيام إلى الصلاة من غير طهر. الدليل الثاني: (1036 - 265) ما رواه أحمد، قال: ثنا وكيع، عن شعبة، عن سهيل ابن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا وضوء إلا من صوت أو ريح (¬1). وجه الاستدلال: أن الحديث نفى أن يكون هناك ناقض إلا من المخرجين القبل والدبر، فدل على ن النوم ليس ناقضاً. وأجيب: بأن الحديث وإن كان رجاله كلهم ثقات إلا سهيل بن أبي صالح فإنه حسن الحديث إلا أن الحديث وقع فيه اختصار أفسد معناه، وقد بينت ذلك في الاستدلال على أن الريح من نواقض الوضوء، فانظره مشكوراً (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: إذا كان النوم ليس حدثاً في نفسه، وإنما أوجب الوضوء من أوجبه لاحتمال خروج الريح، فالأصل عدم الخروج، فلا يجب الوضوء بالشك ما دامت الطهارة متيقنة، فالشك لا يقضي على اليقين. فقد روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن زيد شكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ قال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً. وأجيب: بأن الشارع الذي قال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً هو الذي أوجب الوضوء من النوم، ثم إن الشك قد يقوى حتى يصل إلى درجة الظن، والظن قد تعبدنا به بالجملة عند تعذر اليقين، ولذلك إذا شك المصلي في صلاته تحرى، والتحري ظن، قد يطابق الواقع وقد يخالفه، وإذا أمكن التحري عمل به، ولو لم يرد في النوم دليل خاص لكان مقيساً على من زال عقله بإغماء أو جنون، فكيف وقد وردت أحاديث صحيحة في النوم بكونه ناقضاً للوضوء، والله أعلم. الدليل الرابع: (1037 - 266) حديث أنس، رواه مسلم، من طريق خالد هو ابن الحارث، حدثنا شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أنساً يقول: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون ثم يصلون ولا يتوضئون، قال: قلت: سمعته من أنس؟ قال: إي والله (¬1). ¬
[هذا اللفظ هو المحفوظ من حديث أنس وزاد بعضهم: «على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» كما زاد بعضهم: «حتى تخفق رؤوسهم» وزاد آخرون: «فيضعون جنوبهم» وكل ذلك ليس بمحفوظ، والله أعلم] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وأجيب عن هذا الحديث: بأن المراد منه نوم الجالس الممكن مقعدته، حمله على هذا ابن المبارك كما تقدم بيانه في الحاشية، وعبد الرحمن بن مهدي والشافعي كما في تلخيص الحبير (¬1). لكن يمنع منه زيادة «فيضعون جنوبهم» على القول بصحة هذه الزيادة. وحمله بعضهم على النوم الخفيف قال القرطبي في المفهم: «وهذا النوم في هذه الأحاديث هو الخفيف المعبر عنه بالسنة التي ذكرها الله تعالى في قوله تعالى: {لا تأخذه سنة ولا نوم}» ثم قال: «قال المفضل: السنة في الرأس والنعاس في العين والنوم في القلب». اهـ ولا بد من الجمع بين هذه الحديث وبين الأحاديث الموجبة للوضوء أو إثبات التعارض. فإن قلنا بالجمع بينهما ففيها ما تقدم ذكره من الجمع. وإن قلنا بالتعارض فإن الأحاديث الموجبة للوضوء ناقلة عن البراءة الأصلية فتكون مقدمة على غيرها، والأولى القول بالجمع؛ لأنه لا يصار إلى التعارض والجمع ممكن. ¬
الدليل الخامس
قال ابن حبان في صحيحه: الرقاد له بداية ونهاية، فبدايته النعاس الذي هو أوائل النوم، وصفته أن المرء إذا كلم فيه سمع، وإن أحدث علم، إلا أنه يتمايل تمايلاً، ونهايته زوال العقل، وصفته أن المرء إذا أحدث في تلك الحالة لم يعلم، وإن كلم لم يفهم، فالنعاس لا يوجب الوضوء على أحد قليله وكثيره على أي حالة كان الناعس، والنوم يوجب الوضوء على من وجد على أي حالة كان النائم على أن اسم النوم قد يقع على النعاس، والنعاس على النوم، ومعناهما مختلفان، والله عز وجل فرق بينهما بقوله: {لا تأخذه سنة ولا نوم} الخ كلامه رحمه الله تعالى (¬1). الدليل الخامس: (1038 - 267) ما رواه الشيخان من طريق عبد الوارث، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، قال: أقيمت الصلاة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يناجي رجلاً في جانب المسجد فما قال إلى الصلاة حتى نام القوم (¬2). زاد البخاري ومسلم من طريق شعبة، عن عبد العزيز به، ثم قام فصلى (¬3). قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (¬4): ((وقع عند إسحاق بن راهوية في مسنده، عن ابن علية، عن عبد العزيز في هذا الحديث: (حتى نعس بعض ¬
القوم) وكذا هو عند ابن حبان من وجه آخر، عن أنس، وهو يدل على أن النوم لم يكن مستغرقاً)) (¬1). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (1039 - 268) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، عن عروة، أن عائشة قالت أعتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعشاء حتى ناداه عمر: الصلاة، نام النساء والصبيان، فخرج، فقال: ما ينتظرها أحد من أهل الأرض ¬
غيركم، قال: ولا يصلى يومئذ إلا بالمدينة، وكانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول. ورواه مسلم (¬1). ورواه الشيخان من حديث ابن عمر (¬2)، ومن حديث ابن عباس (¬3). الجواب عن هذه الأحاديث: هذه الأحاديث تحتمل عدة احتمالات، منها: الاحتمال الأول: أن يكونوا قد توضؤوا؛ لأن الأحاديث لم تنص على أنهم صلوا بلا وضوء. الاحتمال الثاني: أن يكون النوم منهم بصورة النعاس، وهو مقدمة النوم، وليس نوماً مستغرقاً. الاحتمال الثالث: أن يكون النوم حصل منهم حال الجلوس، وقد كان من قاعد ممكن مقعدته. الاحتمال الرابع: أن يكون الأمر قبل إيجاب الوضوء من النوم، فإن الأحاديث الموجبة ¬
الدليل السابع
للوضوء شاغلة للذمة، وهذه الأحاديث على البراءة، وإذا ورد كل هذه الاحتمالات على الحديث بطل منه الاستدلال. الدليل السابع: (1040 - 269) ما رواه مسلم من طريق كريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: بت ليلة عند خالتي ميمونة بنت الحارث فقلت لها: إذا قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأيقظيني، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقمت إلى جنبه الأيسر، فأخذ بيدي فجعلني من شقه الأيمن، فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني، قال: فصلى إحدى عشرة ركعة ثم احتبى حتى إني لأسمع نفسه راقداً، فلما تبين له الفجر صلى ركعتين خفيفتين (¬1). وجه الاستدلال: قوله: «فجعلت إذا أغفيت أخذ بشحمة أذني». وأجيب عن هذا: بأن الحديث يصلح ردّاً لمن يرى النوم ناقضاً للوضوء مطلقاً على تقدير بأن قوله: إذا أغفيت: أي نمت، وليس معناه نعست، وأما من يرى أن النوم مظنة الحدث، وأنه لا ينقض الوضوء إذا أمن خروج الحدث سواء كان ذلك بقيام، أو بقعود على هيئة معينة، أو لكون النوم خفيفاً غير مستغرق فلا يعترض عليهم بهذا الحديث، والله أعلم. ¬
دليل من قال: إن النوم ناقض للوضوء مطلقا
دليل من قال: إن النوم ناقض للوضوء مطلقاً. الدليل الأول: (1041 - 270) ما رواه أحمد من طريق عاصم، عن زر بن حبيش، قال: أتيت صفوان بن عسال المرادي فسألته عن المسح على الخفين؟ فقال: كنا نكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم (¬1). [الحديث حسن وسبق تخريجه في كتاب المسح على الحائل] (¬2). وجه الاستدلال: قرن الحديث النوم بالبول والغائط في إيجاب الوضوء منه، ولم يفرق بين قليله وكثيره، ولا بين القاعد والمضطجع فدل على أن النوم حدث مطلقاً. الدليل الثاني: من القياس أن العلماء مجمعون على إيجاب الوضوء على من زال عقله بجنون أو إغماء إذا أفاق على أي حال كان ذلك منه، فكذلك النائم عليه ما على المغمى عليه على أي حال كان ذلك منه؛ لأنه زائل العقل. الدليل الثالث: (1042 - 271) ما رواه أحمد، قال: حدثنا علي بن بحر، حدثنا بقية بن الوليد الحمصي، حدثني الوضين بن عطاء، عن محفوظ بن علقمة، عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي، ¬
عن علي بن أبي طالب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن السه وكاء العين فمن نام فليتوضأ (¬1). [ضعيف الإسناد] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل من قال: لا ينقض إلا نوم المضطجع
دليل من قال: لا ينقض إلا نوم المضطجع. الدليل الأول: (1043 - 272) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الله بن محمد - وقال عبد الله بن أحمد: وسمعته أنا من عبد الله بن محمد - حدثنا عبد السلام بن حرب، عن يزيد بن عبد الرحمن، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ليس على من نام ساجدا وضوء حتى ¬
يضطجع فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1044 - 273) ما رواه البيهقي من طريق بحر بن كنيز السقاء، عن ميمون الخياط، عن أبي عياض، عن حذيفة بن اليمان، قال: كنت في مسجد المدينة جالساً أخفق حتى احتضنني رجل من خلفي، فالتفت فإذا أنا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله ¬
الدليل الثالث
هل وجب علي وضوء؟ قال: لا حتى تضع جنبك (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). الدليل الثالث: (1045 - 274) ما رواه الطبراني في الأوسط من طريق عبد القاهر بن شعيب، قال: ثنا الحسن بن أبي جعفر، عن ليث بن أبي سليم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من نام وهو جالس فلا وضوء عليه، فإذا وضع جنبه فعليه الوضوء. ¬
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن ليث إلا الحسن بن أبي جعفر، تفرد به عبد القاهر بن شعيب (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (1046 - 275) ما رواه الطبراني، من طريق جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام حتى نفخ، ثم قال: الوضوء على من اضطجع (¬1). [ضعيف جداً أو موضوع] (¬2). الدليل الخامس من الآثار: (1047 - 276) ما وراه عبد الرزاق في المصنف عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان ينام، وهو جالس، فلا يتوضأ، وإذا نام مضطجعاً أعاد الوضوء (¬3). [إسناده صحيح، وهو موقوف] (¬4). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس من الآثار: (1048 - 277) ما رواه البيهقي من طريق أبي صخر، أنه سمع يزيد بن قسيط يقول: إنه سمع أبا هريرة يقول: ليس على المحتبي النائم، ولا على القائم النائم، ولا على الساجد النائم وضوء حتى يضطجع، فإذا اضطجع توضأ (¬1). [إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬2). الدليل السابع من الآثار: (1049 - 278) ما رواه مالك، عن زيد بن أسلم، ¬
الدليل الثامن
أن عمر بن الخطاب قال: إذا نام أحدكم مضطجعاً فليتوضأ (¬1). [وهذا إسناد منقطع، زيد لم يسمع من عمر] (¬2). الدليل الثامن من الآثار: (1050 - 279) ما رواه الطحاوي من طريق خالد بن إلياس، عن محمد وأبي بكر ابني المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: من نام وهو قاعد فلا وضوء عليه، ومن نام مضطجعاً فعليه الوضوء (¬3). [إسناده ضعيف جداً] (¬4). دليل المالكية بأن النوم الثقيل ناقض للوضوء بخلاف الخفيف. الدليل الأول: (1051 - 280) ما رواه عبد الرزاق عن الثوري، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، ¬
الدليل الثاني
عن ابن عباس قال: وجب الوضوء على كل نائم إلا من خفق خفقة برأسه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثاني: (1052 - 281) ما رواه أبو يعلى من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس أو عن أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يضعون جنوبهم، فينامون، فمنهم من يتوضأ، ومنهم من لا يتوضأ (¬3). [سبق تخريجه فيما سبق] (¬4). ¬
الدليل الثالث
وجه الاستدلال: دل الحديث على أن النوم منه ما يوجب الوضوء ومنه ما لا يوجب الوضوء، فما كان ثقيلاً فإنه يوجب الوضوء، وما كان غير ذلك فإنه لا يوجب الوضوء ولو كان النائم مضطجعاً. قال ابن عبد البر: وروينا عن أبي عبيد أنه قال: كنت أفتي أن من نام جالساً لا وضوء عليه، حتى خرج إلى جنبي يوم الجمعة رجل، فنام، فخرجت منه ريح، فقلت له: قم فتوضأ، فقال: لم أنم. فقلت: بلى، وقد خرجت منك ريح تنقض الوضوء، فجعل يحلف أنه ما كان ذلك منه، وقال لي: بل منك خرجت، فتركت ما كنت أعتقد في نوم الجالس، وراعيت غلبة النوم (¬1). الدليل الثالث: (1053 - 282) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم وابن علية، عن الجريري، عن خالد بن علاق العبسي، عن أبي هريرة قال: من استحق نوماً، فقد وجب عليه الوضوء. زاد ابن علية: قال الجريري: فسألنا عن استحقاق النوم فقال: إذا وضع جنبه (¬2). [إسناده صالح إن شاء الله تعالى] (¬3). ¬
دليل الشافعية على أن نوم الجالس لا ينقض الوضوء
وجه الاستدلال: قوله: (من استحق نوماً): أي من غلبه النوم، فخالطه حتى كان مستحقاً له، ومنه: إذا وضع جنبه، فيكون تفسير الوارد في الأثر وإن لم يكن منسوباً إلى أبي هريرة يكون تفسيراً له بالمثال، ولذلك أوردت الأثر في أدلة المالكية. وبناء على هذا القول حمل المالكية الأحاديث التي أوردناها في القول الأول على النوم الخفيف: كحديث عائشة (أعتم النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد) ومثله حديث ابن عمر وابن عباس، وكذلك حديث أنس: (كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون، ثم يصلون ولا يتوضؤون) حملوا هذه الأحاديث على النوم الخفيف. دليل الشافعية على أن نوم الجالس لا ينقض الوضوء. الدليل الأول: (1054 - 283) ما رواه أبو داود من طريق هشام الدستوائي، عن قتادة، عن أنس، كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضؤون (¬1). [سبق تخريجه] (¬2). ¬
الدليل الثاني
وجه الاستدلال: أن خفقان الرأس لا يكون إلا من القاعد، وأما المضطجع فلا يحصل ذلك منه، وعليه حملوا أحاديث القول الأول كحديث ابن عمر وابن عباس وعائشة في نوم الصحابة وهم ينتظرون صلاة العشاء بكونهم جلوساً، وإنما كان النوم من الجالس لا ينقض الوضوء؛ لأن النوم ليس حدثاً، وإنما هو مظنة الحدث، فإذا وجد النوم على صفة لا يكون سبيلاً إليه انتفى الحكم عنه. الدليل الثاني: (1055 - 284) حديث علي بن أبي طالب ومعاوية رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: العين وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء. [سبق تخريجه والكلام عليه] (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل العينين وكاء في حفظ السبيل، فكذلك الأرض تخلف العينين في حفظ السبيل. الدليل الثالث والرابع: حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وحديث حذيفة، وسبق الكلام عليهما. ¬
دليل الحنابلة على أن النوم ناقض للوضوء إلا يسيره من قاعد أو قائم
دليل الحنابلة على أن النوم ناقض للوضوء إلا يسيره من قاعد أو قائم. أما الدليل على أن يسير النوم لا ينقض من القاعد فلحديث أنس المتقدم: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون، ثم يقومون، فيصلون، ولا يتوضؤون. وفي رواية: (حتى تخفق رؤوسهم) فالنائم يخفق رأسه من يسير النوم، فهو في اليسير متيقن، وفي الكثير محتمل، فلا نترك عموم الأحاديث الدالة على النقض مطلقاً إلا فيما كان متيقناً؛ ولأن نقض الوضوء بالنوم معلل بإفضائه إلى الحدث، ومع الكثير والغلبة يفضي إليه، ولا يحس بخروجه بخلاف اليسير، ولا يصح قياس الكثير على القليل لاختلافهما في الإفضاء إلى الحدث، والقائم كالقاعد في انضمام محل الحدث، فلا ينقض اليسير منه، وعليه حملوا جميع الأحاديث التي تدل على أن النوم ليس ناقضاً بأنه كان يسيراً من قاعد، والله أعلم. دليل من قال: لا ينقض النوم في الصلاة على أي هيئة كان. (1056 - 285) استدلوا بما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إذا نام العبد في صلاته باهى الله به ملائكته، يقول: انظروا لعبدي روحه عندي وجسده ساجد بين يدي) (¬1). [لا يثبت من وجه صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬2). ¬
ومع كون الحديث ضعيفاً فهو مخالف لحديث النهي عن الصلاة، وهو يغالبه النعاس، (1057 - 286) فقد روى البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم؛ فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه. ورواه مسلم أيضاً (¬1). هذه أهم الأقوال في المسألة، وهناك أقوال أخرى لم أتعرض لها لضعفها، والراجح في مسألة النوم أن مداره على الإحساس، فإن فقد الإحساس بحيث ¬
لو أحدث لم يشعر انتقض وضوءه، وإن كان إحساسه معه لكن معه مقدمات النوم، ويشعر بالأصوات من حوله، ولا يميزها من النعاس فإن طهارته باقية بذلك؛ لأن النوم ليس حدثاً في نفسه، قال ابن تيمية: ويدل على هذا ما في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينام حتى ينفخ، ثم يقوم، فيصلي، ولا يتوضأ (¬1)؛ لأنه كانت تنام عيناه، ولا ينام قلبه، فكان يقظان، فلو خرج منه شيء لشعر به، وهذا يبين أن النوم ليس حدثاً في نفسه؛ إذ لو كان حدثاً لم يكن فيه فرق بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين غيره كما في البول والغائط وغيرهما من الأحداث (¬2). وبهذا تجتمع الأدلة، فحديث صفوان بن عسال دل على أن النوم ناقض للوضوء، وحديث أنس دل على أن النوم ليس بناقض، فيحمل حديث أنس على أن الإحساس ليس مفقوداً، فلو أحدث الواحد منهم لأحس بنفسه، والله أعلم. ¬
الفصل الرابع: في نقض الوضوء بمس الفرج
الفصل الرابع: في نقض الوضوء بمس الفرج المبحث الأول: الخلاف في نقض الوضوء من مس الذكر اختلف العلماء في مس الذكر، فقيل: لا ينقض الوضوء مس الذكر مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (¬1)، واختيار سحنون من المالكية (¬2). وقيل: ينقض الوضوء من مسه مطلقاً، وهو اختيار أصبغ بن الفرج من المالكية (¬3)، ومذهب الشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5)، إلا أنهم اختلفوا فيما بينهم، فالشافعية يقيدون المس بباطن الكف، فإن مسه بغيره كما لو مسه بظاهر الكف لم ينقض، والحنابلة يعلقون النقض بمسه بالكف، ظاهره وباطنه. ¬
دليل من قال بوجوب الوضوء من مس الذكر مطلقا
وقيل: يستحب الوضوء من مس الذكر، وهو اختيار المغاربة من المالكية (¬1). وقيل: إن مسه بشهوة أعاد الوضوء، وهو اختيار جماعة من البغدادين من أصحاب مالك (¬2). وقيل: إن مسه بعمد نقض، وإن مسه بغير عمد لم ينقض، اختاره بعض المالكية (¬3). فهذه خمسة أقوال في نقض الوضوء من مس الذكر، وهاك بيان أدلة كل قول من هذه الأقوال: دليل من قال بوجوب الوضوء من مس الذكر مطلقاً. الدليل الأول: (1058 - 287) ما رواه مالك، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أنه سمع عروة بن الزبير يقول: دخلت على مروان بن الحكم، فتذاكرنا ما يكون منه الوضوء، فقال مروان: ومن مس الذكر الوضوء؟ فقال عروة: ما علمت هذا؟ فقال مروان بن الحكم: ¬
أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ (¬1). [إسناده حسن، والحديث صحيح لغيره] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1059 - 288) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا معلى بن منصور، قال: حدثنا الهيثم ابن حميد، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن عنبسة ابن أبي سفيان، ¬
عن أم حبيبة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مس فرجه فليتوضأ (¬1). [إسناده منقطع] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1060 - 289) ما وراه الطبراني في المعجم الصغير، قال: قال: حدثنا أحمد بن عبد الله ابن العباس الطائي البغدادي، حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني، حدثنا أصبغ بن الفرج، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم، عن نافع بن أبي نعيم ويزيد بن عبد الملك النوفلي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب، فقد وجب عليه الوضوء. قال الطبراني: لم يروه عن نافع إلا عبد الرحمن بن القاسم الفقيه المصري، ولا عن عبد الرحمن إلا أصبغ، تفرد به أحمد بن سعيد (¬1). [إسناده حسن] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (1061 - 290) ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الجبار بن محمد (يعني: الخطابي) حدثني بقية، عن محمد بن الوليد الزبيدي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من مس ذكره فليتوضأ، وأي امرأة مست فرجها فلتتوضأ (¬1). [إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (1062 - 291) ما رواه الشافعي في الأم، قال: أخبرنا عبد الله بن نافع، عن ابن أبي ذئب، عن عقبة بن عبد الرحمن، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره فليتوضأ (¬1). [رفعه منكر، والمعروف أنه مرسل] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (1063 - 292) ما رواه الدارقطني من طريق إسحاق بن محمد الفروي، نا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من مس ذكره فليتوضأ وضوءه للصلاة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل السابع
الدليل السابع: (1064 - 293) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا سفيان بن وكيع، ثنا عبد السلام بن حرب، عن إسحاق ابن أبي فروة، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد القاري، عن أبي أيوب، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من مس فرجه فليتوضأ (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثامن: (1065 - 294) ما رواه الخطيب في تاريخه من طريق ناجية بن حبان ابن بشر، حدثنا عمر بن سعيد بن سنان المنبجي بالمصيصة، قال: حدثنا الضحاك بن حجوة، قال: حدثنا هيثم بن جميل، قال: حدثنا أبو هلال الراسبي، عن ابن بريدة، عن يحيى بن يعمر، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: من مس ذكره فليتوضأ (¬3). [الحديث ضعيف جداً] (¬4). ¬
أدلة من قال: لا يجب الوضوء من مس الذكر مطلقا
أدلة من قال: لا يجب الوضوء من مس الذكر مطلقاً. الدليل الأول: (1066 - 295) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه طلق بن علي، قال: خرجنا وفداً حتى قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبايعناه، وصلينا معه، فجاء رجل، فقال: يا رسول الله ما ترى في مس الذكر في الصلاة؟ فقال: وهل هو إلا بضعة أو مضغة منك (¬1). [إسناده فيه ضعف تفرد به قيس بن طلق، ولم يتابعه عليه أحد] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني على ترك الوضوء من مس الذكر: من النظر. ¬
الدليل الثالث
قالوا: النظر دال على أنه لا يجب الوضوء من مسه، فقد قال ابن عبد البر: ذكر عبد الرزاق عن الثوري (¬1)، وأخرجه البيهقي (¬2) بسنده إلى علي ابن المديني، قال: اجتمع سفيان وابن جريج فتذاكرا مس الذكر، فقال ابن جريج: يتوضأ منه، وقال سفيان: لا يتوضأ منه، فقال سفيان: أرأيت لو أن رجلاً أمسك بيده منياً، ما كان عليه؟ فقال ابن جريج: يغسل يده. فقال أيهما أكبر المني أو مس الذكر؟ ولفظ عبد الرزاق: أيهما نجس المني أم الذكر؟ فقال ابن جريج: ما ألقاها عليك إلا الشيطان. قال البيهقي: وإنما أراد ابن جريج أن السنة لا تعارض بالقياس. اهـ قلت: إيجاب الوضوء ليس متلقى من العقل، وإذا كان الحكم الشرعي يخالف في بادي الرأي نظر الإنسان دل ذلك على أن المسألة فيها توقيف، وقد ذكرت هذا الدليل من وجوه ترجيح حديث بسرة على حديث طلق، وبسطت الكلام عليه. الدليل الثالث: قالوا: جوب الوضوء من مس الذكر مما تعم به البلوى، وما عمت به البلوى لا يقبل فيه أخبار الآحاد حتى يكون نقله متواتراً مستفيضاً (¬3). قلت: أين الدليل على هذا الشرط، وخبر الآحاد يجب العمل به كالخبر المتواتر، وحديث إنما الأعمال بالنيات من أعظم الأحاديث التي يعتمد عليها في ¬
الدليل الرابع
الأحكام، ومع ذلك هو فرد غريب، ولم يمنع ذلك من صحته مع عظم الحاجة إليه، وتبليغ الرسالة من أعظم الأمور، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرسل آحاد الصحابة لتبليغها عن طريق المكاتبة وغيرها، وكانت الحجة تقوم بذلك، وأكثر الأخبار التي تعم بها البلوى هي أخبار آحاد، والأخبار المتواترة قليلة، بل إن تقسيم الأحاديث إلى متواتر وآحاد هو تقسيم حادث، لا يعرف عند أئمة الحديث المتقدمين، والله أعلم. الدليل الرابع: قالوا: تحمل الأحاديث الآمرة بالوضوء على غسل اليد جمعاً بينها وبين حديث طلق. وأجيب: بأن حمله على غسل اليد لا يصح إلا بقرينة، ولا قرينة هنا؛ على أن الألفاظ يجب حملها على الحقيقة الشرعية، فإن تعذر حملت على الحقيقة العرفية، وحملها على الحقيقة الشرعية لا يمنع منه مانع، خاصة أن حديث قيس لا يصح، والله أعلم. دليل من قال: يستحب الوضوء من مس الذكر. وجه الاستحباب: قالوا: إن حديث طلق السؤال فيه عن وجوب الوضوء من مس الذكر، كما قال في الحديث (أعليه وضوء، فقال: لا) وحديث بسرة وغيرها مما فيه الأمر بالوضوء من مس الذكر يحمل على الاستحباب، جمعاً بين الأدلة. وأجيب: بأن الجمع إنما يكون بين دليل صحيح ودليل آخر مثله أو أعلى منه،
دليل من قال: يجب إن كان المس بشهوة ولا يجب بدونها
وأما أن يكون أحد الحديثين صحيحاً والآخر ضعيفاً فإن الواجب هو العمل بالحديث الصحيح وحده وطرح الضعيف؛ لأن الجمع وإن كان فيه إعمال لكلا الدليلين إلا أن إعمالهما معاً سيكون على حساب الحديث الصحيح إما تقييد لمطلقه أو تخصيص لعمومه، فيخرج أفراد من الحديث الصحيح كان الإطلاق والعموم شاملاً لها مراعاة لحديث غريب لا يصح، فيكون الحديث الضعيف قد جنى على الحديث الصحيح، فهنا الوضوء من مس الذكر مطلق، يشمل ما كان على وجه اللذة وما كان بدونها، ويشمل ما كان متعمداً وغير متعمد، وظاهر الأمر الوجوب، فإذا قمت بتقييد أحاديث الوضوء من مس الذكر بالشهوة، فمعنى هذا أنني أخرجت الوضوء من مسه بدونها، مع أن الأحاديث مطلقة فهذا إخراج لبعض أفراد العموم من أجل حديث ضعيف، والكلام نفسه يقال: فيمن حمل الأحاديث على الاستحباب، مع أن ظاهرها الوجوب، والله أعلم. دليل من قال: يجب إن كان المس بشهوة ولا يجب بدونها. قالوا: إن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: إنما هو بضعة منك إيماء لاعتبار الشهوة لأمرين: الأول: إنك إذا مسست ذكرك بدون شهوة منك لم يكن هناك فرق بينه وبين أي عضو من أعضائك، أما إذا مسسته بشهوة فإنه يفارق بقية الأعضاء حيث يجد اللذة بلمسه دون غيره، وقد يخرج منه شيء، وهو لا يشعر، فما كان مظنة للحدث علق الحكم به كالنوم. ثانياً: أن حديث طلق فيه سؤال عن الرجل يمس ذكره في الصلاة؟ فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما هو بضعة منك، ومس الذكر بالصلاة لا يكون بشهوة، لأن في الصلاة شغلاً عن مس ذكره بشهوة، بخلاف مسه خارج الصلاة فقد
دليل من قال: ينقض مس الذكر بباطن الكف دون ظاهره
يقع منه المس بشهوة، والله أعلم. وأجيب: أولاً: أن مظنة الخروج سببها الشهوة، وليس المس، ومع ذلك لو انتصب ذكره بشهوة لم يجب عليه الوضوء مع كونه مظنة لخروج الخارج، ولا ينتقض وضوءه حتى يتيقن الخارج، وهذا دليل على أن انتقاض الوضوء من مس الذكر ليس سببه الشهوة، فإن قيل: إن مس الذكر باليد مع انتشار الذكر قد يساعد في خروج الخارج، قيل: لو انتشر الذكر لشهوة ومسه فخذه أو أي عضو من أعضائه غير يده لم يجب عليه الوضوء، مع أن ذلك عامل مساعد لخروج الخارج، بل لو مسه بيده مع حائل لم ينتقض وضوءه فهذا دليل على أن إيحاب الوضوء لم يكن سببه الشهوة، ولا مظنة خروج الخارج من الذكر. ثانياً: أن الذكر بضعة منا سواء مسسناه بشهوة أو بغير شهوة، فهل إذا مس ذكره بشهوة لا يكون بضعة منه. ثالثاً: أن قيد الشهوة لم يرد في الدليلين الموجب للوضوء وغيره، فحديث بسرة: (من مس ذكره فليتوضأ) أين قيد الشهوة من الحديث، وكذا بقية الأحاديث الآمرة بالوضوء من مس الذكر. وحديث طلق (في الرجل يمس ذكره، قال: وهل هو إلا بضعة منك) فهو بضعة من الجسد سواء مس بشهوة أو بغير شهوة، فقيد الشهوة قيد لما أطلقه الشارع بغير دليل. دليل من قال: ينقض مس الذكر بباطن الكف دون ظاهره. استدل الشافعية بحديث أبي هريرة المتقدم: (إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب فقد وجب الوضوء). قال الشافعي: الإفضاء باليد إنما هو ببطنها كما تقول: أفضى بيده
مبايعاً، وأفضى بيده إلى الأرض ساجداً أو إلى ركبتيه راكعاً، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر بالوضوء إذا أفضى به إلى ذكره فمعلوم أن ذكره يماس فخذيه، وما قارب ذلك من جسده فلا يوجب ذلك عليه بدلالة السنة وضوءاً (¬1). وقال النووي: قال ابن فارس في الجمل: أفضى بيده إلى الأرض إذا مسها براحته في سجوده، ونحوه في صحاح الجوهري وغيره (¬2). ولأن ظهر الكف ليس بآلة لمسه، فالتلذذ لا يكون إلا بالباطن، فالباطن هو آلة مسه. قال الحافظ في التلخيص: «احتج أصحابنا بهذا الحديث في أن النقض إنما يكون إذا مس الذكر بباطن الكف لما يعطيه لفظ الإفضاء؛ لأن مفهوم الشرط يدل على أن غير الإفضاء لا ينقض فيكون تخصيصاً لعموم المنطوق، لكن نازع في دعوى أن الإفضاء لا يكون إلا ببطن الكف غير واحد، قال ابن سيدة في المحكم: أفضى فلان إلى فلان: وصل إليه، والوصول أعم من أن يكون بظاهر الكف أو باطنها. وقال ابن حزم: الإفضاء يكون بظهر اليد كما يكون ببطنها، وقال بعضهم: الإفضاء فرد من أفراد المس، فلا يقتضي التخصيص» (¬3). اهـ وهذا هو الحق؛ لأن اليد تطلق على الكف كلها، قال تعالى: {والسارق ¬
دليل من اشترط العمد في المس
والسارقة فاقطعوا أيديهما} (¬1)، والقطع إنما هو للكف. وقال تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (¬2)، وإنما يمسح الكف كما دل عليه حديث عمار في الصحيح، فإذا ذكر الإفضاء بباطن الكف، وهو فرد من أفراد المطلق لم يقتض تقييداً للمطلق. قال ابن حزم: وحتى لو كان الإفضاء بباطن اليد لما كان في ذلك ما يسقط الوضوء عن غير الإفضاء إذا جاء أثر بزيادة على لفظ الإفضاء، فكيف والإفضاء يكون بجميع الجسد، قال تعالى: {وقد أفضى بعضكم إلى بعض} (¬3) (¬4). دليل من اشترط العمد في المس. الدليل الأول: قوله تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} (¬5). فدلت الآية على عدم النقض بالنسيان والخطأ. وليس في الآية دليل على عدم النقض بالعمد؛ لأن الآية ليس فيها إلا نفي الجناح، والمقصود به الإثم، ونفي الإثم لا يدل على بقاء الطهارة. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: قالوا: إن الشرط في مس الذكر أن يمس بقصد وإرادة؛ لأن العرب لا تسمي الفاعل فاعلاً إلا بقصد منه إلى الفعل، وهذه الحقيقة في ذلك، ورجح ذلك ابن عبد البر (¬1)، واختاره ابن تيمية في الفتاوى، وقال: إذا لم يتعمد ذلك لم ينتقض وضوءه (¬2). الدليل الثالث: قالوا: الوضوء المجمع عليه لا ينتقض إلا بإجماع أو سنة ثابتة غير محتملة للتأويل، وعليه فلا يجب الوضوء إلا من مس ذكره قاصداً مفضياً (¬3). ويجاب: بأن اشتراط العمد فيه إشكال؛ لأن معناه أنه حكم تكليفي، فإذا مسه عن طريق الخطأ لم ينتقض الوضوء، ويلزم من ذلك ألا ينتقض وضوء الصي بمسه ذكره؛ لأن عمد الصبي بمنزلة الخطأ، ولعدم توفر القصد الصحيح، والراجح عندي أن المس حكم وضعي، فإذا كان مس الذكر مفسداً للطهارة استوى فيه العمد والخطأ كباقي الأحداث، فكما أنه إذا خرجت منه ريح أو بول لم يفرق بين العامد وغيره، فكذلك مس الذكر، والله أعلم. هذه خلاصة الأقوال في المسألة، وأدلة كل قول، وأجد القول الراجح في المسألة هو القول بوجوب الوضوء من مس الذكر، لضعف حديث طلق بن ¬
علي، وصحة الأحاديث الواردة في وجوب الوضوء من مس الذكر وكثرتها، والله أعلم. تنبيه: يشترط في النقض بمس الذكر شرطين: الأول: أن يكون مسه بالكف، وسبق ذكر دليله. الثاني: أن يكون مسه بلا حائل، ودليله حديث أبي هريرة المتقدم: (إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب فقد وجب الوضوء) وسبق تخريجه. وقال ابن حزم: والماس على الثوب ليس ماساً (¬1). ¬
المبحث الثاني: في مس المرأة فرجها
المبحث الثاني: في مس المرأة فرجها اختلف العلماء في مس المرأة فرجها، هل ينقض الوضوء أم لا؟ فقيل: لا ينقض مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: ينقض مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). واختلف النقل عن مالك، فقيل: عليها الوضوء كالرجل، قال ابن عبد البر في الكافي: وهو الأشهر (¬4). وقيل: لا يجب عنها إلا أن تلطف وتلتذ. وقيل: لا يجب مطلقاً، حكاه جماعة بأنه هو المشهور من المذهب (¬5). ¬
دليل من قال: يجب عليها الوضوء
دليل من قال: يجب عليها الوضوء. الدليل الأول: (1067 - 296) ما رواه أحمد من طريق بقية، عن محمد بن الوليد الزبيدي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من مس ذكره فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ. [إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬1). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1068 - 297) ما وراه ابن أبي شيبة من طريق مكحول، عن عنبسة ابن أبي سفيان، عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من مس فرجه فليتوضأ. [إسناده منقطع وسبق تخريجه] (¬1). وجه الاستدلال: قوله: (من مس فرجه) فكلمة (من) من ألفاظ العموم تشمل الرجل والمرأة، وسوأة المرأة يقال لها: فرج، كما قال تعالى: {والحافظين فروجهم والحافظات} (¬2)، والحديث وإن كان قد اختلف فيه: هل سمع مكحول من عنبسة أم لا؟ إلا أنه شاهد للحديث الأول من حديث عبد الله بن عمرو. الدليل الثالث: (1069 - 298) ما رواه الطبراني في الصغير من طريق أصبغ بن الفرج، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم، عن نافع بن أبي نعيم ويزيد بن عبد الملك النوفلي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب فقد وجب الوضوء (¬3). [سبق تخريجه] (¬4). ¬
الدليل الرابع
وجه الاستدلال: الحديث علق الوضوء بمس الفرج، ولو علقه بالذكر لقيل: إن الحكم خاص بهذا المسمى، والمرأة ليس لها ذكر، فحين علقه بمسمى الفرج فما ثبت لفرج الرجل ثبت لفرج المرأة إلا بدليل، ثم إن كلمة (فرجه) الفرج: اسم جنس مضاف فيعم كل فرج، وذكر الذكر في حديث بسرة لا يقتضي تخصيص الفرج؛ لأن الذَّكَر بعض أفراده، وذكر فرد من أفراد المطلق أو العام بحكم يوافق المطلق والعام لا يقتضي تخصيصاً. كما أن من نص على أن الفرج لا يدخل في مسمى الذَّكَر إنما أخذ بطريق المفهوم، والمفهوم لا عموم له. الدليل الرابع: (1070 - 299) ما رواه الطحاوي من طريق عبد الله بن المؤمل المخزومي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن بسرة سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: المرأة تضرب بيدها، فتصيب فرجها، قال: تتوضأ يا بسرة. [وهذا حديث منكر] (¬1). الدليل الخامس: (1071 - 300) ما رواه الداقطني من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن حفص العمري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، ¬
الدليل السادس
عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون، ولا يتوضئون. قالت عائشة: بأبي وأمي هذا للرجال، أفرأيت النساء؟ قال: إذا مست إحداكن فرجها، فلتتوضأ للصلاة. قال الدارقطني: عبد الرحمن العمري ضعيف (¬1). [قلت: بل الحديث ضعيف جداً] (¬2). الدليل السادس: (1072 - 301) ما أخرجه البيهقي من طريق أبي موسى الأنصاري، ثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن نمر، قال: سألت الزهري عن مس المرأة فرجها أتتوضأ؟ فقال: أخبرني عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان بن الحكم، عن بسرة بنت صفوان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه فليتوضأ، والمرأة كذلك (¬3). [قوله والمرأة كذلك من قول الزهري وليست من الحديث المرفوع] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل من قال: لا ينتقض وضوء المرأة إذا مست فرجها
دليل من قال: لا ينتقض وضوء المرأة إذا مست فرجها. الدليل الأول: الأصل بقاء الطهارة حتى يوجد دليل صحيح صريح في أن الطهارة قد انتقضت، ولا يوجد دليل هنا؛ لأن جميع الأحاديث التي وردت بمس الفرج لا تخلو من مقال، جاء في المغني لابن قدامة: قال المروذي: قيل لأبي عبد الله: الجارية إذا مست فرجها أعليها وضوء؟ قال: لم أسمع في هذا بشيء. قلت لأبي عبد الله: حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ؟ فتبسم، وقال: هذا حديث الزبيدي، ليس حديثه بذاك. وأجيب: بأن حديث عبد الله بن عمرو الذي أشار الإمام أحمد رحمه الله تعالى إلى ضعفه قد صححه البخاري فيما نقله عنه الترمذي، والإسناد إلى عمرو بن شعيب إسناد صحيح، ويبقى الحكم في عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وهو سند حسن عند أكثر المحققين، والله أعلم. الدليل الثاني: الحديث الوارد في وجوب الوضوء إنما ورد في مس الذكر، ومس المرأة فرجها ليس في معناه، لكونه لا يدعو إلى خروج خارج. ¬
الدليل الثالث
وأجيب: بأن العلة في وجوب الوضوء من مس الذكر ليس كونه مظنة خروج خارج؛ لأن العلة هذه لم ينص عليها الشارع، ولم يتفق في كونها هي العلة، ولو كانت هي العلة لكنا إذا تيقنا بأنه لم يخرج خارج بقيت الطهارة على حالها كما قيل في النوم، والرسول - صلى الله عليه وسلم - علق الحكم في المس، ومن مس ذكره بدون شهوة لم يكن مظنة لخروج شيء من ذكره، ومع ذلك ظاهر النصوص توجب الوضوء؛ لأن الحكم معلق على مطلق المس بدون قيد الشهوة. الدليل الثالث: قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث طلق بن علي حين سئل عن مس الذكر، هل ينقض الوضوء؟ فقال: إنما هو بضعة منك، فإذا كانت العلة في عدم النقض من مس الذكر كونه بضعة من جسم الرجل، فكذلك فرج المرأة بضعة من جسدها، لا يوجب وضوءاً. وأجيب: بأن حديث طلق بن علي حديث ضعيف كما بينته في الخلاف في مس الذكر، وقد بينت وجوهاً كثيرة في تقديم حديث بسرة على حديث طلق في المسألة التي قبل هذه. الراجح من أقوال أهل العلم. الذي أميل إليه أن مس المرأة فرجها ناقض للوضوء، إما بالنص على النقض من مس الفرج إن صحت الأحاديث بذلك، وإما بالقياس على الرجل لعدم الفارق، والله أعلم.
المبحث الثالث: في مس المرأة ذكر الرجل والعكس ومس فرج الصغير
المبحث الثالث: في مس المرأة ذكر الرجل والعكس ومس فرج الصغير اختلف العلماء في ذلك، فقيل: لا ينقض مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: ينقض مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: حكم مس الفرج من الغير حكم مس الأجنبي، فإن كان مسه بشهوة انتقض وإن مسه بغير شهوة لم ينتقض، وهو مذهب المالكية، إلا أنهم اختلفوا في مس فرج الصغير إذا التذ بلمسه على قولين (¬4). دليل من قال: لا ينقض مطلقاً. الدليل الأول: قالوا: الأصل بقاء الطهارة، فلا تنتقض طهارة مجمع عليها إلا بدليل صحيح صريح، ولا دليل هنا. الدليل الثاني: كل دليل استدل به الحنفية على عدم الوضوء من مس الفرج، يستدلون ¬
الدليل الثالث
به هنا، كحديث طلق بن علي وغيره من الأدلة، وقد سقناها في مسألة مستقلة فارجع إليها. الدليل الثالث: على التنزل والأخذ بحديث بسرة ونحوه مما يدل على وجوب الوضوء من مس الذكر، فإن لفظ الأحاديث الواردة (من مس ذكره فليتوضا) (أيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ) فالنصوص وردت في فرج نفسه، لا في فرج غيره، والعلة غير معقولة المعنى فلا يصح قياس غيره عليه. الدليل الرابع: (1073 - 302) ما رواه البيهقي من طريق يعقوب أبي العباس، حدثنا محمد بن إسحاق، ثنا محمد بن عمران، حدثني أبي، حدثني ابن أبي ليلى، عن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاء الحسن، فأقبل يتمرغ عليه، فرفع عن قميصه، وقبل زبيبته (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
دليل من قال بالنقض مطلقا
دليل من قال بالنقض مطلقاً. الدليل الأول: (1074 - 303) ما رواه عبد الرزاق ومن طريقه الطحاوي، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، قال: تذاكر هو ومروان الوضوء من مس الفرج، فقال مروان: حدثتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالوضوء من مس الفرج، فكأن عروة لم يقنع بالحديث، فأرسل مروان إليها شرطياً، فرجع فأخبرهم، أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالوضوء من مس الفرج. قال معمر: وأخبرني هشام بن عروة، عن أبيه مثله. وجه الاستدلال: قوله في الحديث: (يأمر بالوضوء من مس الفرج) وهذا مطلق، سواء كان فرجه أو فرج غيره، من ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، حي أو ميت. وأجيب: بأن هذا اللفظ شاذ، والرواية المحفوظ في الحديث (إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ) (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: قال ابن قدامة: إن مس ذكر غيره معصية، وأدعى إلى الشهوة وخروج الخارج، وحاجة الإنسان تدعو إلى مس ذكر نفسه، فإذا انتقض بمس ذكر نفسه، فبمس ذكر غيره أولى. قلت: أما كون مس ذكر الغير معصية فليست العلة في النقض كونه معصية، ولذلك لا يجب الوضوء من الكذب والغيبة والنميمة وهي من كبائر الذنوب، ولا يلزم أن يكون مس ذكر الغير معصية كما لو مست المرأة ذكر زوجها، أو طفلها. وأما كونه مدعاة للشهوة وخروج الخارج، فليست هذه هي العلة أيضاً ولذلك لو مسه بشهوة مع الحائل لم ينتقض وضوؤه مع كونه مدعاة للشهوة وخروج الخارج، وكما لو مسه بغير يده بدون حائل لم ينتقض وضوؤه، فالعلة في النقض من مس الذكر إنما هي تعبدية ليست معقولة المعنى، والله أعلم. دليل من قال: حكم مس الفرج من الغير حكم مس بدن الأجنبية. سوف يأتي إن شاء الله تعالى ذكر أدلة هذه المسألة في بحث مستقل في حكم مس المرأة بشهوة، ونبين فيها بحوله وقوته الراجح فيها. ¬
الراجح في هذه المسألة، والله أعلم القول بعدم النقض، واختاره ابن عبد البر، حيث يقول: والنظر عندي في هذا الباب أن الوضوء لا يجب إلا على من مس ذكره أو فرجه قاصداً مفضياً، وأما غير ذلك منه أو من غيره فلا يوجب الظاهر، والأصل أن الوضوء المجتمع عليه لا ينتقض إلا بإجماع أو سنة ثابتة غير محتملة للتأويل (¬1). وكلامه جيد إلا أن اشتراط القصد قول مرجوح، وقد ناقشنا وجه كونه مرجوحاً فيما تقدم، والله أعلم. ¬
الفرع الأول: في مس فرج الميت
الفرع الأول: في مس فرج الميت قال ابن قدامة: ((وفرج الميت كفرج الحي؛ لبقاء الاسم والحرمة؛ ولاتصاله بجملة الآدمي، وهو قول الشافعي. وقال إسحاق: لا وضوء عليه)) (¬1). اهـ قلت: قول إسحاق هو الراجح؛ لأن النصوص إنما وردت في فرج نفسه، لا في فرج غيره، وكما قلت: يخطئ من يعتقد أن العلة في النقض إذا مسه بشهوة كونه مظنة لخروج حدثٍ ناقضٍ للوضوء؛ لأن الأحاديث مطلقة، ولم تقيده بالشهوة، ولا يقيد النص الشرعي إلا نص مثله أو إجماع، ولو كانت العلة مظنة خروج الحدث لكان انتشار الذكر بشهوة موجباً للوضوء، ولكان مس الذكر بشهوة، ولو من وراء حائل موجباً له، لأنه مظنة لخروج شيء من الفرج، والوقوف عند النص ما دام أن العلة ليس معقولة هو الاحتياط، والجزم بفساد العبادة الثابتة بدليل لا يجوز إلا بدليل صريح في المسألة، وحين أقول بذلك ليس الحامل له رد القياس؛ فإن تركه جمود، لكني أقول به لعدم وضوح العلة في المسألة، ولا بد حتى يلحق الفرع بالأصل من كون العلة معقولة المعنى، وهذا الذي لم يتضح لي في مس ذكر الغير، كبيراً كان أو صغيراً حياً كان أو ميتاً، وحديث (يتوضأ من مس الذكر) لا يثبت هذا اللفظ كما بينت في المسألة التي قبل هذه، والمحفوظ من حديث بسرة لفظ: (من مس ذكره فليتوضأ) والاحتياط ليس في جانب إفساد العبادة، بل الاحتياط اعتبار صحة الوضوء حتى يتيقن الناقض أو يغلب على الظن وقوعه، والله أعلم بالصواب، وهو الهادي وحده إلى الحق. ¬
الفرع الثاني: في مس الذكر المنفصل
الفرع الثاني: في مس الذكر المنفصل اختلف القائلون بنقض الوضوء من مس الذكر المتصل إذا مَسَّ ذكراً منقطعاً، هل ينتقض وضوؤه أم لا؟ فقيل: لا ينقض، وهو مذهب المالكية (¬1)، واختاره بعض الشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: ينتقض، وعليه أكثر الشافعية (¬4)، ووجه في مذهب الحنابلة (¬5). دليل من قال: لا ينقض. قالوا: الدليل ورد في الذكر المتصل، فلا دليل على المنفصل؛ ولأنه لا لذة في لمسه، ولا يقصد لمسه، ولذهاب الحرمة، فلا يحرم النظر إليه. دليل من قال: بالنقض. قالوا: بأنه يقع عليه اسم الذكر، فيصدق عليه أنه مس ذكراً فعليه الوضوء. ¬
والراجح القول الأول، لأن النص إنما ورد في ذكر الشخص المتصل، فإذا كنا قد رجحنا أنه لا ينتقض وضوؤه إذا مس ذكر غيره مع اتصاله ببدن صاحبه، فهذا من باب أولى، ومن هذه المسألة مس القلفة التي تقطع للختان، فإن مسها قبل قطعها انتقض وضوؤه عند من يقول بنقض الوضوء بمس ذكر الغير، وتعليلهم: لأنها من جلدة الذكر، وإن مسها بعد القطع لم ينتقض؛ لأنه بائن من الذكر لا يقع عليه اسم الذكر.
المبحث الرابع: في الملموس ذكره
المبحث الرابع: في الملموس ذكره اختلف العلماء القائلون بنقض الوضوء من مس الذكر، هل ينتقض وضوء الملموس ذكره، أو أن الحكم يختص باللامس فقط؟ فقيل: إن كان الملموس بالغاً، ووجد لذة من ذلك، أو وجد منه قصد بأن مالت نفسه بأن يلمسه غيره، فلمسه انتقض وضوؤه، وهو مذهب المالكية. وقيل: لا ينتقض وضوءه، وهو مذهب الشافعية والمشهور من مذهب الحنابلة. دليل من قال بنقض الوضوء إن وجد منه قصد أو لذة. جعل المالكية هذه المسألة من باب لمس الأجنبي، فإذا لمس الرجل أجنبياً بلذة انتقض وضوؤه، ومثله الملموس إن وجد منه لذة، وسوف يأتي بحثها في مسألة مستقلة ونذكر أدلتهم التفصيلية إن شاء الله تعالى. دليل من قال لا ينتقض وضوء الملموس. الدليل الأول: الإجماع على عدم وجوب الوضوء على الملموس، قال المجد ابن تيمية نقلاً من الإنصاف: لا أعلم فيه خلافاً - يعني في عدم وجوب الوضوء على الملموس. ونقل الإجماع غير دقيق لما علمت من مذهب المالكية واختاره كثير من الخرسانيين من الشافعية من القول بالنقض، والله أعلم.
الدليل الثاني
الدليل الثاني: قالوا: إن الأحاديث الواردة جاءت في اللامس، لا في الملموس، فلا نتعدى النص، ولو كان النقض يسري إلى الملموس لأمر بالوضوء كما أمر اللامس، فلما لم يؤمر علمنا أنه لم ينتقض وضوؤه. وهذا القول مع كونه يتفق مع النص إلا أنه لا يتفق مع العلة التي ذكروها في نقض اللامس، فإنهم قد عللوا النقض بكونه مظنة لخروج الخارج خاصة إذا كان ذلك عن شهوة، فالعلة موجودة في الملموس إذا انتشر ذكره بسبب لمس غيره، ووجد لذة فإن المظنة موجودة، فكان لزاماً عليهم أن يطردوا العلة، وفي هذا بيان أن العلة التي استنبطوها لم تكن هي العلة الحقيقية في وجوب الوضوء من مس الذكر، وإذا رجحنا أن الأمر تعبدي وقفنا عند ظاهر النص، وأوجبنا الوضوء على من لمس ذكره فقط، سواء كان ذلك عن شهوة أم كان من غير شهوة، دون من لمس ذكر غيره ودون الملموس، والله أعلم.
فرع: في مس المرأة شفري فرجها
فرع: في مس المرأة شفري فرجها اختلف العلماء في مس المرأة شفري فرجها، هل ينتقض الوضوء أم لا. فقيل: لا ينتقض الوضوء بمس الشفرين، وهو قول في مذهب المالكية (¬1)، ومذهب الحنابلة (¬2)، وقال الشافعية: ينتقض إن مس ملتقى الشفرين على المنفذ (¬3). ¬
دليل من قال: لا ينقض: قالوا: إن النقض علق بمس الفرج، والفرج هو مخرج الحدث، لا ما قاربه. قلت: إن كانت اللغة تساعدهم قبل ذلك اعتماداً على الحقيقة اللغوية، وإلا فإن حافتي الفرج المتصلة به حكمها حكم الفرج، ومثلها حافة الدبر المستديرة، وكأنهم يشترطون إدخال اليد في الفرج حتى ينقض، وهذا ما صرح به المالكية، وقد جاء في اللسان: «الفرج: اسم لجميع سوآت الرجال والنساء والفتيان وما حواليها كله فرج» (¬1) اهـ فجعل ما حوالي الفرج منه، ولو اعتبرنا مخرج الحدث للزم أن نعتبر من الذكر مخرج البول فقط؛ لأنه هو الفرج، جاء في اللسان: الفرج: الثغر المخوف، وجمعه فروج، سمي فرجاً؛ لأنه غير مسدود: أي ينفرج على الجوف (¬2). والله أعلم. ¬
المبحث الخامس: في مس فرج البهيمة
المبحث الخامس: في مس فرج البهيمة اختلف العلماء في مس فرج البهيمة، فقيل: لا ينقض الوضوء مس فرج البهيمة مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، وإحدى القولين في مذهب المالكية (¬3). وقيل: ينقض مطلقاً، وهو قول الليث (¬4). وقيل: ينقض الوضوء إذا قصد اللذة أو وجدها، وهو إحد القولين في مذهب المالكية (¬5). وقيل: ينقض مس قبل البهيمة دون دبرها، وهو اختيار الرافعي من الشافعية (¬6). ¬
دليل من قال بالنقض من مس فرج البهيمة
وقيل: ينقض مس فرج الحيوان النجس الذي لا يؤكل لحمه، وأما الحيوان الطاهر المأكول اللحم فلا ينقض مس فرجه، وهو قول عطاء رحمه الله تعالى (¬1). وهذه المسألة وغيرها لا تتأتى على مذهب الحنفية الذين لا يقولون بالوضوء من مس الفرج مطلقاً. دليل من قال بالنقض من مس فرج البهيمة. (1075 - 304) استدل بما رواه عبد الرزاق، ومن طريقه الطحاوي عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، قال: تذاكرا هو ومروان الوضوء من مس الفرج، فقال مروان: حدثتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالوضوء من مس الفرج، فكأن عروة لم يقنع بحديثه، فأرسل مروان إليها شرطياً، فرجع فأخبرهم أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالوضوء من مس الفرج. فقوله: (يأمر بالوضوء من مس الفرج) لفظ الفرج لفظ مطلق، يشمل كل فرج حتى البهيمة. وقد بينت فيما سبق شذوذ هذه اللفظة في مسألة مس المرأة ذكر الرجل. دليل من قال بعدم النقض. قالوا: إن المراد بالفرج فرج نفسه، أو فرج الآدمي لا فرج البهيمة؛ لأنه هو المتبادر عند الاطلاق، والله أعلم. ¬
دليل من اشترط لوجوب الوضوء وجود اللذة
دليل من اشترط لوجوب الوضوء وجود اللذة. جعلوا حكم مس فرج البهيمة حكم مس بدن الأجنبي إذا مسه بشهوة، وهي مسألة مستقلة سيأتي بحثها إن شاء الله تعالى. دليل من فرق بين الحيوان الطاهر والحيوان النجس. هذا قول عطاء رحمه الله تعالى، ولا أعلم له وجهاً، وليس مناط الحكم هو طهارة الحيوان ونجاسته؛ لأن الإنسان لو مس بولاً أو غائطاً لم يجب عليه إلا غسل تلك النجاسة، ولم ينتقض وضوؤه، ولعل عطاء يقصد بالوضوء من مس فرج البهيمة: هو غسل يده، لأن الفرج قد يكون رطباً، فإذا كان نجساً تعدت النجاسة إلى اليد، فكان عليه وضوء يده، والله أعلم. والراجح أنه لا يجب وضوء من مس فرج البهيمة، وأن الوضوء فقط متعلق بمس الإنسان فرجه، لا فرج غيره، والله أعلم.
المبحث السادس: مس الأنثيين والأليتين والرفغين
المبحث السادس: مس الأنثيين والأليتين والرفغين مس الأنثيين والأليتين والرفغين (¬1) لا ينقض الوضوء، وهو مذهب الأئمة الأربعة. وقيل: ينقض، وهو قول منسوب إلى عروة بن الزبير. والراجح الأول، لأن من ثبتت طهارته بمقتضى الكتاب والسنة فالأصل أنه على طهارته، ولا يجوز الحكم بفسادها إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، ولا دليل على نقض الوضوء بمس الأنثيين والرفغين والأليتين، وليس الاحتياط أن نوجب الوضوء من ذلك، بل الاحتياط أن لا نشغل ذمة الناس ونفسد عباداتهم الصحيحة إلا بدليل. (1076 - 305) وأما ما رواه الدارقطني من طريق عبد الحميد بن جعفر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن بسرة بنت صفوان قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من مس ذكره أو أنثييه أو رفغيه فليتوضأ (¬2). [ذكر الأنثيين والرفغين مدرج من كلام عروة] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المبحث السابع: في مس الخنثى المشكل
المبحث السابع: في مس الخنثى المشكل الفرع الأول: في مس الخنثى المشكل فرجه الخنثى إما أن يكون مشكلاً أو غير مشكل، فإن كان غير مشكل فإن حكمه حكم المسائل السابقة في مس الرجل والمرأة، وقد فصلناها مع بيان الراجح. وإن كان الخنثى مشكلاً (¬1)، فالخلاف فيه على النحو التالي فقيل: لا ينقض مس الفرج مطلقاً، سواء كان مشكلاً أو غير مشكل، وهو مذهب الحنفية (¬2). ¬
دليل المالكية على النقض بمس فرج الخنثى المشكل
وقيل: يتوضأ مطلقاً، وهل هو للوجوب أو للاستحباب فيه قولان، وهو مذهب المالكية (¬1). وقيل: إن مسهما معاً انتقض وضوؤه مطلقاً، سواء كان لشهوة أو لغير شهوة، وهو مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). دليل من قال: لا ينقض مطلقاً. ذكرنا أدلة الحنفية في مسألة مس الإنسان ذكره، فهم لا يرون الوضوء من مس الذكر مطلقاً، وقد أجبنا عليها فأغنى عن إعادتها هنا. دليل المالكية على النقض بمس فرج الخنثى المشكل. خرَّج بعض المالكية كابن العربي والمازري الوضوء من مس الخنثى المشكل فرجه على الشك في الحدث، فالمالكية يرون الوضوء من الشك. قال ابن العربي: إذا مس خنثى ذكره، وقلنا بانتقاض الوضوء بالشك انتقض وضوؤه؛ لاحتمال أن يكون رجلاً، وكذلك إن مس فرجه في الفتوى والتوجيه. دليل الشافعية والحنابلة. قالوا: إذا مس الخنثى المشكل فرجيه معاً لا بد أن يكون أحدهما فرجاً ¬
أصلياً، وإذا لمس الفرج الأصلي انتقض وضوؤه لما تقدم من حديث بسرة وأم حبيبة وأبي هريرة وغيرها من الأحاديث الموجبة للوضوء من مس الفرج، وأما إذا لمس أحد فرجيه لم ينتقض وضوؤه لاحتمال أن يكون الملموس فرجاً زائداً، ومع الشك لا ينتقض الوضوء على قاعدة: الشك لا يقضي على اليقين، وهذه المسألة فيما إذا مس الخنثى المشكل فرج نفسه، وأما إذا مسه غيره فسوف يأتي بحثها إن شاء الله تعالى.
الفرع الثاني: في مس الأجنبي فرج الخنثى المشكل
الفرع الثاني: في مس الأجنبي فرج الخنثى المشكل اختلف العلماء في وجوب الوضوء فيما إذا مس أجنبي فرج خنثى مشكل، فقيل: لا ينقض مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (¬1). وأما المالكية فيجرون حكمه حكم الملامسة لبدن الأجنبي، إن وجد اللذة أو قصدها انتقض وإلا فلا (¬2). وأما الحنابلة والشافعية فيقسمون المسألة إلى حالات: الأولى: أن يمس أحد فرجي الخنثى المشكل بدون شهوة، فهذا لا ينقض عندهم؛ وعللوا ذلك بعدم علمهم هل هو فرج أصلي أو زائد، فإن كان زائداً فلا نقض؛ لأن مس بدن المرأة يشترط أن يكون بشهوة، وإن كان أصلياً نقض، ومع الشك فلا تنتقض الطهارة المتيقنة بالشك، لحديث عبد الله بن زيد في الصحيحين: (فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً). الثانية: مسهما جميعاً؛ وهذا ناقض للوضوء؛ لأن أحدهما فرج أصلي يقيناً، ومس فرج الغير ينقض الوضوء عندهم، وقد ذكرنا أدلته في مسألة مستقلة. ¬
الثالثة: أن يمس الذكر ذكر الخنثى المشكل بشهوة، فهذا ناقض للوضوء؛ لأنه إن كان الذكر أصلياً فقد انتقضت الطهارة للمسه الذكر، ومس ذكر الغير عندهم ناقض للوضوء، وإن كان الذكر زائداً فقد مس بدن المرأة بشهوة، ومسها بشهوة حدث ناقض للوضوء، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ذكر الخلاف في مس المرأة بشهوة. الرابعة: أن يمس الذكر قبل الخنثى المشكل بشهوة، فلا نقض عندهم؛ لأننا لا نعلم هل الخنثى المشكل رجل أو امرأة، فإن كان رجلاً فمس الرجل الرجل لا ينقض الوضوء عندهم ولو كان ذلك بشهوة، وإن كان امرأة فإن الوضوء ينتقض، ومع الشك في حقيقة الحال لم يكن ذلك ناقضاً للطهارة المتيقنة. الحالة الخامسة: أن تمس الأنثى فرج الخنثى المشكل بشهوة، فهنا ينتقض الوضوء؛ لأن الخنثى إن كان رجلاً فقد مست بدنه بشهوة، ومس المرأة بدن الرجل بشهوة حدث ناقض للوضوء، وإن كانت أنثى فقد مست فرجها، ومس فرج الغير عندهم ينقض الطهارة. الحالة السادسة: أن تمس الأنثى ذكر الخنثى المشكل بشهوة، فلا ينتقض الوضوء؛ لأننا لا نعلم هل هو أنثى أم رجل؟ فإن كان أنثى فلا نقض؛ لأن مس المرأة المرأة بشهوة لا ينقض الوضوء عندهم، وإن كان الخنثى رجلاً فإن الوضوء ينتقض، ومع الشك فلا تنتقض الطهارة المتيقنة (¬1)، فصارت الحالات باختصار كالآتي: ¬
الأول: مس الفرجين معاً من الخنثى المشكل ناقض للوضوء عندهم مطلقاً بشهوة أو بغير شهوة. الثاني: مس أحد الفرجين بدون شهوة لا ينقض مطلقاً. الحالة الثالثة: مس أحد فرجي الخنثى المشكل بشهوة له أربع حالات: حالتان ينتقض الوضوء منهما، وهما: الأولى: أن يمس الذكر ذكر الخنثى المشكل. الثانية: أن تمس الأنثى فرج الخنثى المشكل. وحالتان لا ينقض الوضوء، وهما: أن يمس الذكر قبل الخنثى المشكل. الثانية: أن تمس الأنثى ذكر الخنثى المشكل، وقد ذكرنا تعليلهم لكل حالة من هذه الحالات. والراجح في هذه المسألة: أن مس فرج الغير مطلقاً لا ينقض الوضوء، سواء كان أصلياً أم مشكلاً؛ لأن الأدلة الواردة إنما وردت في مس الإنسان ذكره، وفي مس المرأة فرجها، ولا يوجد دليل على النقض بمس فرج الغير، وما ورد في ذلك فهو ضعيف كما بينته في مسألة مستقلة، والقياس على مسه لفرجه لا يصح؛ لأن العلة غير معقولة المعنى، وقد بينت خطأ من تصور أن العلة مظنة خروج الخارج في مسألة متقدمة، وعلى التنزل أن العلة هي مظنة خروج الخارج فإنه ينبغي أن يقال بعدم النقض للامس؛ لأن ذكره في هذه الحالة لم يقع عليه مس حتى يكون المس سبباً في خروج حدث منه، وأن يقال بنقض الوضوء من الملموس لوجود المظنة المتوهمة، وهم لا يقولون بنقض الملموس، فتناقضوا في طرد العلة، وهكذا القول الضعيف يحمل تناقضه في ذاته، والله أعلم.
الفصل الخامس: في مس المرأة والأمرد
الفصل الخامس: في مس المرأة والأمرد المبحث الأول: في مس بدن المرأة من غير حائل اختلف العلماء في مس بدن المرأة، هل ينقض الوضوء أم لا؟ فقيل: لا ينقض مطلقاً، إلا أن يتجردا متعانقين متماسي الفرجين وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: ينقض مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (¬2). وقيل: ينقض إن كان ذلك بشهوة، ولا ينقض مع عدمها، وهو مذهب المالكية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: إن كان مسه عمداً انتقض، وإلا فلا، حكاه النووي عن داود (¬5). ¬
دليل من قال: مس المرأة لا ينقض الوضوء
دليل من قال: مس المرأة لا ينقض الوضوء. الدليل الأول: قالوا: لا يوجد دليل صحيح صريح في نقض الوضوء من مس المرأة، والأدلة الواردة إما أدلة غير صحيحة، أو ليست صريحة، ولا ينقض الوضوء إلا دليل صحيح صريح. الدليل الثاني: (1077 - 306) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله قبل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة، ولم يتوضأ. قال عروة: قلت لها: من هي إلا أنت؟ فضحكت (¬1). [حديث معلول] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1078 - 307) روى الطبري في تفسيره من طريق يزيد بن سنان، عن عبد الرحمن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، ¬
عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقبلها وهو صائم، ثم لا يفطر، ولا يحدث وضوءاً (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1079 - 308) ما رواه الطبراني، من طريق أبي علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، ثنا زفر بن الهذيل، عن ليث بن أبي سليم، عن ثابت بن عبيد، عن أبي مسعود الأنصاري أن رجلا أقبل إلى الصلاة، فاستقبلته امرأته فأكب عليها فتناولها، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له فلم ينهه. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن زفر إلا أبو علي الحنفي (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الرابع: (1080 - 309) ما رواه البخاري، من طريق مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. ورواه مسلم أيضاً (¬3). ¬
الدليل الخامس
وجه الاستدلال: لو كان مس المرأة ناقضاً للوضوء لما مس الرسول - صلى الله عليه وسلم - عائشة، وهو في الصلاة، فهذا دليل على أن مس المرأة ليس حدثاً. وأجاب عنه المخالفون بحسب أقوالهم، فمن يرى أن مس المرأة إنما ينقض إذا كان بشهوة، قال: إن هذا الغمز لا يمكن أن يكون بشهوة، خاصة وأن هذا كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة، ومن يرى أن مس المرأة ناقض مطلقاً يقول: ربما كان غمزه للمرأة بحائل، وإنما ينقض إذا مس المرأة بلا حائل، وليس في الحديث ما يشير إلى أن الغمز كان بحائل، والأصل عدمه. الدليل الخامس: (1081 - 310) ما رواه البخاري من طريق عمرو بن سليم الزرقي، عن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي، وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها. ورواه مسلم أيضاً (¬1). الدليل السادس: (1082 - 311) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة، حدثني عبيد الله بن عمر، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن عائشة قالت: فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الفراش، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه، وهو في المسجد، وهما منصوبتان وهو يقول: ¬
الدليل السابع
اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك (¬1). الدليل السابع: مس بدن المرأة لا يمكن أن يكون حدثاً، ولو تصور أن يكون حدثاً لرفع الحكم لعموم البلوى، ولرفع الحرج عن هذه الأمة، قال سبحانه: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (¬2). الدليل الثامن: الأصل بقاء الطهارة، وعدم وجود المفسد إلا بدليل صحيح صريح، ولا يوجد دليل على إبطال طهارة من مس بدن امرأته. الدليل التاسع: لو كان مس المرأة بمجرده حدثاً ناقضاً للوضوء، لكان مس الرجل من الرجل ومس المرأة من المرأة ناقضاً للوضوء كذلك، لأن بطلان الوضوء أو صحته من الأحكام الوضعية، وليست أحكاماً تكليفية، فيستوي فيها مس الرجل للرجل، ومس المرأة للمرأة، والمس من المحارم ومن غيرهم، ومس الصغيرة كمس الكبيرة، كما أن جماع الرجل الرجل كجماعه للمرأة، فلما ذهب القائلون بنقض الوضوء من مس المرأة إلى التفريق بين هذه المسائل علم أن القول بالنقض قول ضعيف، والله أعلم. ¬
دليل من قال: مس المرأة ينقض الوضوء مطلقا
وأما الدليل على التفريق بين المباشرة الفاحشة وبين غيرها، قالوا: إن المباشرة الفاحشة يندر معها عدم نزول مذي في هذه الحالة، والغالب كالمتحقق في مقام وجوب الاحتياط. دليل من قال: مس المرأة ينقض الوضوء مطلقاً. الدليل الأول: قوله تعالى: {أو لا مستم النساء} (¬1). وحقيفة اللمس: ملاقاة البشرتين، واللمس يطلق على الجس باليد، قال الله تعالى: {فلمسوه بأيديهم} (¬2). (1083 - 312) وروى البخاري من طريق ابن شهاب، قال: أخبرني عامر بن سعد، أن أبا سعيد الخدري قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبستين وعن بيعتين نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه إلا بذلك ... الحديث، والحديث رواه مسلم أيضاً. (1084 - 313) وقد روى أحمد، قال: حدثنا يزيد، أخبرنا جرير بن حازم، عن يعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لماعز بن مالك حين أتاه فأقر عنده بالزنا: لعلك قبلت، أو لمست. قال: لا قال: فنكتها. قال: نعم، ¬
فأمر به فرجم (¬1). [رجاله ثقات، وهو في الصحيح بلفظ: أو غمزت، وهي رواية الأكثر، والله أعلم] (¬2). ¬
فدل على أن اللمس يكون باليد وبغير اليد، والمطلق يجب أخذه على إطلاقه، فقوله تعالى: {أو لامستم النساء} (¬1)،يشمل لمس اليد وغيره بمقتضى اللغة، والسنة الصحيحة. وأجيب: على التسليم بأن اللمس يطلق على اللمس باليد ويطلق على الجماع، فإن في الآية قرينة تدل على أن المراد من الآية الجماع لا غير، ووجهه: أن الله سبحانه وتعالى ذكر طهارتين: الماء والتيمم، وذكر في وجوب طهارة الماء سببين: الحدث الأصغر والأكبر، فالأصغر بقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ...} الآية (¬2). والحدث الأكبر بقوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬3). ¬
وفي طهارة التيمم كذلك ذكر حدثين الأصغر والأكبر، فالأصغر بقوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} والأكبر بقوله: {أو لا مستم النساء} أي جامعتم النساء، ولو حمل على اللمس باليد لكان معنى هذا أن الآية كررت ذكر حدثين أصغرين، وأهملت الحدث الأكبر في طهارة التيمم، وهذا مناف للبلاغة المعهودة من كتاب الله سبحانه وتعالى، فكان مقتضى التقسيم في طهارة الماء من ذكر الحدث الأكبر والأصغر أن يعاد التقسيم نفسه في طهارة التيمم، لا أن يكرر الحدث الأصغر ويهمل الحدث الأكبر. وهذه القرينة كافية في حمل اللمس على الجماع في الآية الكريمة، وقد فسرها ابن عباس بالجماع، وهو ترجمان القرآن الكريم كما سيأتي الإسناد إليه قريباً إن شاء الله تعالى. وقد ناظر أبو موسى ابن مسعود في التيمم من الجنابة بهذه الآية مما يدل على أن المراد من المس الحدث الأكبر، (1085 - 314) فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه من طريق الأعمش، عن شقيق: قال: كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى الأشعري، فقال له أبو موسى: لو أن رجلا أجنب فلم يجد الماء شهراً، أما كان يتيمم ويصلي؟! فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيباً، فقال عبد الله: لو رخص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا الصعيد قلت: وإنما كرهتم هذا لذا قال نعم .. الحديث، والحديث رواه مسلم (¬1). ¬
الدليل الثاني
وفي رواية للبخاري: (فقال أبو موسى: فكيف تصنع بهذه الآية، فما درى عبد الله ما يقول) (¬1). الدليل الثاني من الآثار: (1086 - 315) ما رواه مالك، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله ابن عمر، أنه كان يقول: قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة، فمن قبل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء (¬2). [إسناده صحيح، وهو موقوف على ابن عمر]. (1087 - 316) وروى عبد الرزاق، عن معمر وابن عيينة فرقهما، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي عبيدة، أن ابن مسعود قال: يتوضأ الرجل من المباشرة، ومن اللمس بيده، ومن القبلة إذا قبل امرأته، وكان يقول في هذه الآية: {أو لا مستم النساء} (¬3)، قال: هو الغمز (¬4). ¬
[أبو عبيدة لم يسمع من أبيه، وقد قال الحافظ ابن رجب: إن ما يرويه أبو عبيدة عن أبيه قد سمعه من آل بيته عنه، فيكون على الاتصال] (¬1). وأجيب: أولاً: أن هذا القول من ابن عمر وابن مسعود معارض بقول ابن عباس (1088 - 317) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: هو الجماع (¬2). [صحيح عن ابن عباس] (¬3). (1089 - 318) وروى ابن أبي شيبة أيضاً من طريق عبد الملك بن ميسرة، ¬
عن سعيد بن جبير قال: اختلفت أنا وأناس من العرب في اللمس، فقلت: أنا وأناس من الموالي: اللمس ما دون الجماع، وقالت العرب: هو الجماع، فأتينا ابن عباس، فقال: غلبت العرب، هو الجماع (¬1). [وإسناده صحيح]. وإذا اختلف الصحابة لم يكن قول أحدهما حجة على الآخر، وينظر في أقربهما إلى الصواب، وقد قدمنا أن في الآية قرينة على أن المراد باللمس هنا الجماع. ثانياً: أن القرآن أطلق المس وأراد به الجماع في آيات من كتاب الله، قال تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن} (¬2)، وقال: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} (¬3)، {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} (¬4). قال ابن المنذر: وقد أجمع أهل العلم على أن رجلاً لو تزوج امرأة ثم مسها بيده أو قبلها بحضرة جماعة ولم يخل بها، فطلقها أن لها نصف الصداق، إن كان سمى لها صداقاً، والمتعة إن لم يكن سمى لها صداقاً، ولا عدة عليها، فدل إجماعهم على ذلك أن الله إنما أراد في هذه الآيات الجماع، فإذا كان كذلك حكمنا اللمس بحكم المس إذا كان في المعنى واحداً. ¬
ثالثاً: أن قول ابن عمر وابن مسعود يحمل على ما إذا كان بشهوة، فلا دليل فيه للشافعية على الوضوء من مجرد اللمس، لأن الرجل لا يقبل امرأته كما يقبل أمه أو ابنته، وإنما يقبلها بدافع الشهوة، وكذلك المراد من قوله: أو جسها بيده، ولهذا قال ابن تيمية: وأما وجوب الوضوء من مجرد مس المرأة لغير شهوة فهو أضعف الأقوال، ولا يعرف هذا القول عن أحد من الصحابة، ولا روى أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر المسلمين أن يتوضؤوا من ذلك، مع أن هذا الأمر غالب لا يكاد يسلم منه أحد في عموم الأحوال، فإن الرجل لا يزال يناول امرأته شيئاً، وتأخذه بيدها، وأمثال ذلك مما يكثر ابتلاء الناس به، فلو كان الوضوء من ذلك واجباً، لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بذلك مرة بعد مرة، ويشيع ذلك، ولو فعل لنقل ذلك عنه ولو بأخبار الآحاد، فلما لم ينقل عنه أحد من المسلمين أنه أمر أحداً من المسلمين بشيء من ذلك مع عموم البلوى به، علم أن ذلك غير واجب (¬1). وقال ابن تيمية أيضاً: ((اللمس العاري عن الشهوة لا يعلق به حكم من الأحكام أصلاً، وهذا كقوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} (¬2)، فنهى العاكف عن مباشرة النساء مع أن العلماء يعلمون أن المعتكف لو مس امرأته بغير شهوة لم يحرم ذلك عليه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يدني رأسه إلى عائشة رضي الله عنها فترجله، وهو معتكف، ومعلوم أن ذلك مظنة مسه لها، ومسها له، وأيضاً فالإحرام أشد من الاعتكاف، ولو مسته المرأة لغير شهوة لم يأثم بذلك، ولم يجب عليه دم، وهذا ¬
دليل من قال: مس المرأة ينقض الوضوء إن كان بشهوة
الوجه يستدل به من وجهين: من جهة ظاهر الخطاب، ومن جهة المعنى والاعتبار؛ فإن خطاب الله تعالى في القرآن بذكر اللمس والمس والمباشرة للنساء ونحو ذلك لا يتناول ما تجرد عن شهوة أصلاً، ولم يتنازع المسلمون في شيء من ذلك إلا في آية الوضوء، والنزاع فيها متأخر، فيكون ما أجمعوا عليه قاضياً على ما تنازع فيه متأخروهم. وأما طريق الاعتبار فإن اللمس المجرد لم يعلق الله به شيئاً من الأحكام، ولا جعله موجباً لأمر، ولا منهياً عنه في عبادة ولا اعتكاف، ولا إحرام ولا صلاة ولا صيام، ولا غير ذلك، ولا جعله ينشر حرمة المصاهرة، ولا يثبت شيئاً غير ذلك، بل هذا في الشرع كما لو مس المرأة من وراء ثوبها ونحو ذلك من المس الذي لم يجعله الله سبباً لإيجاب شيء ولا تحريم شيء. وإذا كان كذلك كان إيجاب الوضوء بهذا مخالفاً للأصول الشرعية المستقرة، مخالفاً للمنقول عن الصحابة، وكان قولاً لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، بل المعلوم من السنة مخالفته)) (¬1). دليل من قال: مس المرأة ينقض الوضوء إن كان بشهوة. هذا القول ذهب إلى الجمع بين الآية والأخبار، فالآية الكريمة بقوله سبحانه وتعالى {أو لا مستم النساء} يقتضي أن يكون مس المرأة ناقضاً للوضوء مطلقاً بشهوة أو بغير شهوة، وجاءت الأخبار دالة على أن المس بدون شهوة لا ينقض الوضوء، كحديث عائشة في مسلم: قالت: فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الفراش، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وتقدم تخريجه بتمامه. ¬
(1090 - 319) وحديث عائشة في الصحيحين: (كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما ..) الحديث، وسبق تخريجه بتمامه (¬1). وقال ابن المنذر: وما زال الناس في القديم والحديث يتعارفون أن يعانق الرجل أمه وجدته ويقبل ابنته في حال الصغر قبلة الرحمة، ولا يرون ذلك ينقض الطهارة ولا يوجب الوضوء عندهم، ولو كان ذلك حدثاً ينقض الطهارة ويوجب الوضوء لتكلم فيه أهل العلم، كما تكلموا في ملامسة الرجل امرأته وقبلته إياها (¬2). وقال أيضاً: وقد أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن لا وضوء على الرجل إذا قبل أمه أو ابنته أو أخته إكراماً لهن وبراً عند قدوم من سفر أو مس بعض بدنه بعض بدنها عند مناولة شيء إن ناولها إلا ما ذكر من أحد قولي الشافعي فإن بعض المصريين من أصحابه حكى عنه في المسألة قولين: أحدهما إيجاب الوضوء منه، والآخر كقول سائر أهل العلم، ولم أجد هذه المسألة في كتبه المصرية التي قرأناها على الربيع، ولست أدري أيثبت ذلك عن الشافعي أم لا؛ لأن الذي حكاه لم يذكر أنه سمعه منه، ولو ثبت ذلك عنه لكان قوله الذي يوافق فيه المدني والكوفي وسائر أهل العلم أولى به (¬3). الراجح: القول بأن اللمس في الآية الجماع، وأن مس بدن المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً، سواء مسه بشهوة أو بغير شهوة. ¬
المبحث الثاني: في مس شعر وظفر المرأة
المبحث الثاني: في مس شعر وظفر المرأة اختلف العلماء في مس شعر المرأة وظفرها وسنها أو مس بدن المرأة بشعره أو ظفره أو سنه هل ينتقض الوضوء بذلك أم لا؟ فقيل: لا ينقض الوضوء مطلقاً، وهو نص الشافعي في الأم (¬1)، وعليه جمهور أصحابه، وهو مذهب الحنابلة رحمهم الله (¬2). وقيل: ينقض الوضوء مطلقاً، وهو وجه عند الشافعية (¬3). وقيل: ينقض الوضوء إن كان بشهوة، وهو مذهب المالكية (¬4). دليل من قال: لا ينقض الوضوء مطلقاً. التعليل الأول: أن هذه الأشياء بحكم المنفصل. التعليل الثاني: أن هذه الأجزاء ليست محلاً للشهوة الأصلية. ¬
التعليل الثالث
التعليل الثالث: أنه لا يلحقه طلاق بطلاق هذه الأشياء. وهذا التعليل في نزاع كما سيتضح إن شاء الله من أدلة المالكية. دليل من قال: مس الشعر والظفر ينقض الوضوء مطلقاً. أدلتهم هي أدلتهم في وجوب الوضوء من مس بدن المرأة، وقد ذكرناها بالتفصيل في المسألة السابقة. كما عللوا ذلك بأن الشعر جزء من البدن متصل به اتصال خلقة فأشبه اللحم؛ ولأنه جزء من البدن يلحقه طلاقه فأشبه ما ذكرناه (¬1). دليل من قيد النقض بالشهوة. من اعتبر الشهوة هنا قد اعتبرها في مس بدن المرأة، وأدلتهم هنا هي أدلتهم هناك، وقد ذكرناها في المسألة السابقة، وأجبنا عليها. الراجح: لو قلنا بنقض الوضوء من مس بدن المرأة لقلنا به هنا، وقد بينا أن القول الراجح أن مس بدن المرأة لا ينقض الوضوء لعدم الدليل الصحيح الصريح في المسألة. ¬
المبحث الثالث: في مس المرأة مع حائل
المبحث الثالث: في مس المرأة مع حائل اختلفوا فيمن مس امرأته من وراء حائل، فقيل: لا وضوء عليه، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: إن كان الحائل رقيقاً، فعليه الوضوء، بشرط أن يقصد اللذة أو يجدها، وإن ضم بدن الملموس أو قبض على شيء من جسده نقض مطلقاً: أي سواء كان الحائل رقيقاً أو صفيقاً، وهو مذهب المالكية (¬3). وقيل: ينقض إذا وجد اللذة أو قصدها، ولو كان الحائل كثيفاً، وهو قول في مذهب المالكية، وهو ظاهر المدونة (¬4). دليل من قال: لا ينقض. قالوا: إن اللمس إذا أطلق إنما يراد به بدون حائل، وأما مع الحائل فكأنه لمس ثياب المرأة، ولمس ثياب المرأة لا يوجب وضوءاً. دليل من قال: ينقض إن كان الحائل رقيقاً. لعله رأى أن الحائل إذا كان رقيقاً فإنه لا يمنع من كمال اللذة، ويستشعر اللامس طراوة جسد الملموس فأوجب عليه الوضوء كما لو لم يكن هناك حائل. ¬
تعليل من قال: ينقض مطلقا ولو مع حائل
تعليل من قال: ينقض مطلقاً ولو مع حائل. إذا لمس بدن المرأة لشهوة ولو مع حائل فإنه يصدق عليه أنه لمس المرأة، واللذة بلمس بدن المرأة مع الحائل موجودة كما لو مسها بدون حائل، ومظنة خروج الحدث قائمة. والراجح: ما رجحت قبل، وهو أن مس المرأة مطلقاً لا ينقض الوضوء، بحائل أو بدونه، والله أعلم.
المبحث الرابع: في مس المحارم
المبحث الرابع: في مس المحارم إذا لمس الرجل ذات محرم، فهل ينتقض وضوؤه؟ اختلف العلماء في ذلك. فقيل: إن وجد اللذة انتقض، لا فرق بين ذوات المحارم والأجنبية، وهو مذهب المالكية (¬1)، ومذهب الحنابلة (¬2). وقيل: ينتقض وضوؤه مطلقاً، سواء كان بشهوة أو بغيرها، وهو قول في مذهب الشافعية (¬3). وقيل: لا ينقض، وهو مذهب الشافعية (¬4)، وظاهر عبارة ابن الجلاب من المالكية (¬5). دليل المالكية بالنقض: عموم قوله تعالى: {أو لا مستم النساء} (¬6). ¬
تعليل الشافعية على عدم النقض
وقياساً على الإيلاج، فكما أنه لا فرق بين المحارم وغيرهم في وجوب الغسل منه، فلا فرق في وجوب الحدث الأصغر. وتعليل الشافعية على عدم النقض: أن المحارم ليسوا محلاً للشهوة، فهي كالرجل في حقه، فكما أنه لو مس رجلاً لم ينتقض وضوؤه، فكذلك إذا مس أحداً من محارمه، حتى ولو وجد شهوة من ذلك لم ينتقض. الراجح من الخلاف: لو قلنا بنقض الوضوء من مس المرأة لكان الراجح عدم الفرق بين المحارم وغيرهم، ولكن لم يقم دليل صحيح على انتقاض الوضوء من مس المرأة مطلقاً، سواء كانت من الأجنبيات أو المحارم، وسواء كانت صغيرة أو كبيرة.
المبحث الخامس: في مس الطفلة الصغيرة بشهوة
المبحث الخامس: في مس الطفلة الصغيرة بشهوة اختلف العلماء في مس الرجل الطفلة أو المرأة الطفل، هل ينقض الوضوء، فقيل: لا ينقض الوضوء، وهو مذهب المالكية (¬1)، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: ينقض الوضوء، وهو قول في مذهب المالكية (¬3)، ووجه في مذهب الشافعية (¬4). وقيل: إن كانت بنت سبع سنين نقض وإن كانت أصغر لم ينقض، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5). وسبب الخلاف في هذه المسألة خلافهم في مس ذوات المحارم، فمن ذهب إلى عدم النقض، قال: إن الصغيرة ليست محلاً للشهوة، فيكون النظر إليها كالنظر إلى الرجل، ومن ذهب إلى النقض رأى أن السن ليس مناطاً للحكم، فلو أولج ذكره في فرج الصغيرة وجب لذلك الغسل، فكذلك يجب ¬
من مس بدنها الوضوء، ومن فرق بين بنت سبع سنين وبين غيرها رأى أن البنت في مثل هذا السن قد تشتهى، وينظر إلى محاسن جسمها كما ينظر إلى المرأة الكبيرة. وما رجحناه في مسألة مس ذوات المحارم نرجحه، هنا، والله أعلم.
المبحث السادس: في لمس الأمرد
المبحث السادس: في لَمس الأمرد اختلف العلماء في مس الأمرد، فقيل: ينقض الوضوء، وهو المشهور من مذهب مالك (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2)، واختاره أبو سعيد الإصطخري من الشافعية (¬3). واشترط الحنفية للقول بالنقض: أن تكون المباشرة فاحشة: بأن يتجردا متعانقين متماسي الفرجين (¬4). وقيل: لا ينتقض، وهو المشهور من مذهب الشافعية (¬5) والحنابلة (¬6). وسبب خلافهم اختلافهم في الأمرد هل مسه كمس المرأة، أو كمس الرجل البالغ ممن ليس محلاً للشهوة؟ فمن رأى أن مس الأمرد كمس الأنثى سواء، أوجب الوضوء من مسه، ومن رأى أن الأمرد ليس محلاً للشهوة جعل مسه كمس الرجل والمحارم لم يوجب الوضوء من مسه، ولو قلنا بنقض الوضوء من مس المرأة لقلنا بنقض الوضوء من مس الأمرد خاصة إذا كان الرجل يلتذ بالنظر إليه. ¬
وسئل ابن تيمية: إذا مس يد الصبي الأمرد, فهل هو من جنس النساء في نقض الوضوء, وما جاء في تحريم النظر إلى وجه الأمرد الحسن؟ وهل هذا الذي يقوله بعض المخالفين للشريعة إن النظر إلى وجه الصبي الأمرد عبادة, وإذا قال لهم أحد: هذا النظر حرام يقول: أنا إذا نظرت إلى هذا أقول: سبحان الذي خلقه, لا أزيد على ذلك؟ فأجاب رحمه الله: الحمد لله، إذا مس الأمرد لشهوة ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره: أحدهما: أنه كمس النساء لشهوة ينقض الوضوء, وهو المشهور من مذهب مالك , ذكره القاضي أبو يعلى في شرح المذهب. والثاني: أنه لا ينقض الوضوء وهو المشهور من مذهب الشافعي, والقول الأول أظهر؛ فإن الوطء في الدبر يفسد العبادات التي تفسد بالوطء في القبل: كالصيام والإحرام والاعتكاف, ويوجب الغسل كما يوجبه هذا, فتكون مقدمات هذا في باب العبادات كمقدمات هذا , فلو مس الأمرد لشهوة وهو محرم , فعليه دم كما لو مس أجنبية لشهوة, وكذلك إذا مسه لشهوة وجب أن يكون كما لو مس المرأة لشهوة في نقض الوضوء. والذي لم ينقض الوضوء بمسه يقول: إنه لم يخلق محلا لذلك, فيقال له: لا ريب أنه لم يخلق لذلك, وإن الفاحشة اللوطية من أعظم المحرمات, لكن هذا القدر لم يعتبر في باب الوطء، فإن وطئ في الدبر تعلق به ما ذكر من الأحكام, وإن كان الدبر لم يخلق محلا للوطء, مع أن نفرة الطباع عن الوطء في الدبر أعظم من نفرتها عن الملامسة, ونقض الوضوء بالمس يراعى فيه حقيقة الحكمة, وهو أن يكون المس لشهوة عند الأكثرين: كمالك , وأحمد , وغيرهما , كما يراعى مثل
ذلك في الإحرام والاعتكاف وغير ذلك. وعلى هذا القول: فحيث وجد اللمس لشهوة تعلق به الحكم , حتى لو مس أمه وأخته وبنته لشهوة انتقض وضوؤه, فكذلك الأمرد, وأما الشافعي وأحمد في رواية فتعتبر المظنة, وهو أن النساء مظنة الشهوة , فينقض الوضوء, سواء بشهوة أو بغير شهوة, ولهذا لا ينقض لمس المحارم, لكن لو لمس ذوات محارمه لشهوة فقد وجدت حقيقة الحكمة, وكذلك إذا مس الأمرد لشهوة. والتلذذ بمس الأمرد: كمصافحته ونحو ذلك: حرام بإجماع المسلمين, كما يحرم التلذذ بمس ذوات محارمه والمرأة الأجنبية, بل الذي عليه أكثر العلماء أن ذلك أعظم إثما من التلذذ بالمرأة الأجنبية, كما أن الجمهور على أن عقوبة اللوطي أعظم من عقوبة الزنا بالأجنبية , فيجب قتل الفاعل والمفعول به. سواء كان أحدهما محصنا أو لم يكن , وسواء كان أحدهما مملوكا للآخر أو لم يكن, كما جاء ذلك في السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمل به أصحابه من غير نزاع يعرف بينهم. ثم قال رحمه الله: والنظر إلى وجه الأمرد لشهوة كالنظر إلى وجه ذوات المحارم, والمرأة الأجنبية بالشهوة, سواء كانت الشهوة شهوة الوطء, أو شهوة التلذذ بالنظر, فلو نظر إلى أمه وأخته, وابنته يتلذذ بالنظر إليها كما يتلذذ بالنظر إلى وجه المرأة الأجنبية كان معلوماً لكل أحد أن هذا حرام, فكذلك النظر إلى وجه الأمرد باتفاق الأئمة (¬1). وقال أيضاً: النظر إلى الأمرد لشهوة حرام بإجماع المسلمين، وكذلك إلى ذوات المحارم ومصافحتهم والتلذذ بهم، ومن قال: إنه عبادة فهو كافر، وهو بمنزلة من جعل إعانة طلب الفواحش عبادة، بل النظر إلى الأشجار والخيل ¬
والبهائم إذا كان على وجه استحسان الدنيا والرياسة والمال فهو مذموم، لقول الله تعالى {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى} (¬1)، (¬2). ¬
الفصل السادس: من نواقض الوضوء أكل لحم الجزور
الفصل السادس: من نواقض الوضوء أكل لحم الجزور المبحث الأول: خلاف أهل العلم في الوضوء من لحم الإبل اختلف العلماء في الوضوء من لحم الجزور، فقيل: لا ينقض الوضوء، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: يجب منه الوضوء، وهو القول القديم في مذهب الشافعي (¬2)، والمشهور من مذهب أحمد (¬3)، وهو مذهب أهل الحديث (¬4). ¬
دليل الجمهور على ترك الوضوء من لحوم الإبل
دليل الجمهور على ترك الوضوء من لحوم الإبل. الدليل الأول: (1091 - 320) ما رواه أبو داود، من طريق علي بن عياش، قال: حدثنا شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما غيرت النار (¬1). [اختصر الحديث شعيب بن أبي حمزة، فأوقع الجمهور في وهم كبير، وهو أن الأمر بالوضوء مما مست النار منسوخ ومنه لحم الإبل وقد ذهب إلى القول بأن شعيباً اختصر الحديث: جماعة من أهل العلم منهم أبو داود وأبو حاتم الرازي وابن حبان وابن تيمية وابن القيم وغيرهم] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ورد ابن حزم وابن التركماني القول باختصار الحديث، وقالا: إنما هما حديثان، وأيدهما أحمد شاكر رحمه الله تعالى. قال ابن حزم: القطع بأن ذلك الحديث مختصر من هذا قول بالظن، وهو أكذب الحديث، بل هما حديثان كما ورد (¬1). وقال ابن التركماني: ودعوى الاختصار في غاية البعد (¬2). وقال أحمد شاكر: ومن الواضح أن هذا تأويل بعيد جداً، يخرج به الحديث عن ظاهره، بل يحيل معناه عما يدل عليه لفظه وسياقه، ورمي الرواة ¬
الثقات الحفاظ بالوهم بهذه الصفة ونسبة التصرف الباطل في ألفاظ الحديث إليهم حتى يحيلوها عن معناها قد يرفع من نفوس ضعفاء العلم الثقة بالرويات الصحيحة جملة ... الخ كلامه رحمه الله (¬1). وكلام أهل العلل كأبي داود وأبي حاتم الرازي وابن حبان ومعهم ابن تيمية وابن القيم لا يمكن أن يعارض بكلام ابن حزم وابن التركماني، وذلك أن ابن حزم رحمه الله لم يكن من أهل العلل أصلاً، وليست له عناية في هذا الفن، ومن قرأ كتابه المحلى قطع بذلك، وإن كان هذا لا يقدح في إمامته في الفقه، فالمرد عند الكلام على العلل إنما هو إلى أهله وصيارفته، وما ساقه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله إنما هو من قبيل حسن الظن بالراوي، وهذا لا يمنع من الوقوع بالخطأ، والثقة بل الأئمة قد يقع لهم بعض الأوهام، فهذا مالك وسفيان والزهري وشعبة قد يحصي أئمة الحديث أوهاماً لهم وقعوا فيها، إما في المتن وإما في الإسناد، وليس ذلك بقادح في الثقة حتى يكثر ذلك منه، فإذا كثرت مخالفته قدح ذلك في ضبطه، والله أعلم. وبناء عليه فالوضوء مما مست النار محفوظ غير منسوخ، وإن كان الأمر بالوضوء مما مست النار ليس للوجوب، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بالوضوء، ثم أكل لحماً وصلى ولم يتوضأ، فدل على أن الأمر بالوضوء منه ليس للوجوب. وأن لحوم الإبل ليست العلة في الأمر بالوضوء منه كونه مما مسته النار، وإلا لم يكن هناك فرق بين لحوم الغنم ولحوم الإبل، لأن الجميع قد مسته النار، ومع ذلك فرق بينهما في الحكم في الحديث، كما في حديث جابر والبراء بن عازب، وسوف نأتي على ذكرهما إن شاء الله تعالى. ¬
الدليل الثاني
وقد يقال أيضاً: إن ترك الوضوء مما مست النار عام، والأمر بالوضوء من لحوم الإبل خاص، والخاص مقدم على العام، خاصة إذا علمنا أن الحديث قد جمع بين نوعين من اللحوم وكلاهما قد مسته النار، فعلق الوضوء من لحوم الغنم بالمشيئة، وأمر بالوضوء من لحوم الإبل، ولم يعلقه على المشيئة، والله أعلم. الدليل الثاني على ترك الوضوء من لحوم الإبل: (1092 - 321) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الوضوء مما خرج، وليس مما دخل (¬1). [إسناده صحيح، وهو موقوف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1093 - 322) ما رواه ابن الجعد، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن يحيى بن وثاب، قال: سألت ابن عمر عن الوضوء مما غيرت النار، فقال: الوضوء مما خرج، وليس مما دخل؛ لأنه لا يدخل إلا طيباً، ولا يخرجه إلا خبيثاً (¬1). [رجاله ثقات] (¬2). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (1094 - 323) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن وائل بن داود، عن إبراهيم، عن عبد الله بن مسعود، قال: إنما الوضوء مما خرج، والفطر مما دخل، وليس مما خرج (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الخامس: (1095 - 324) روى البيهقي من طريق إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الرحمن، عن علي أنه أطعم خبزاً ولحماً، فقيل له: ألا تتوضأ؟ فقال: إن الوضوء مما خرج، وليس مما دخل (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬
الدليل السادس
وأجيب: قال البيهقي: وروينا عن علي بن أبي طالب وابن عباس: الوضوء مما خرج، وليس مما دخل، وإنما قالا ذلك في ترك الوضوء مما مست النار (¬1). قلت: والوضوء من الحوم الإبل ليست علة الوضوء منه كونه مما مسته النار، وإنما كونه من لحوم الإبل، ولذا يتوضأ منه سواء مسته النار أم لا، ولو كان الوضوء منه لكونه قد مس بالنار لم يكن هناك فرق بين لحم الغنم ولحم الإبل، وقد فرق بينهما الحديث كما سيأتي من حديث جابر والبراء رضي الله عنهما. الدليل السادس: (1096 - 325) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عائذ بن حبيب، عن يحيى بن قيس، قال: رأيت ابن عمر أكل لحم جزور، وشرب لبن الإبل، وصلى ولم يتوضأ (¬2). [إسناده فيه لين] (¬3). الدليل السابع: (1097 - 326) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن أبي سبرة النخعي، ¬
الدليل الثامن
أن عمر بن الخطاب أكل لحم جزور، ثم قام، فصلى، ولم يتوضأ (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثامن: (1098 - 327) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن شريك، عن جابر، عن عبد الله بن الحسن، أن علياً أكل لحم جزور، ثم صلى، ولم يتوضأ (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). الدليل على وجوب الوضوء من لحوم الإبل. الدليل الأول: 1099 - 328) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري، حدثنا أبو عوانة، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، عن جعفر بن أبي ثور، ¬
عن جابر بن سمرة أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا توضأ، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم، فتوضأ من لحوم الإبل. قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم. قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال لا (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1100 - 329) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء من لحوم الإبل؟ فقال: توضؤا منها. قال: وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل، فقال: لا تصلوا فيها؛ فإنها من الشياطين، وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: صلوا فيها؛ فإنها بركة (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1101 - 330) ما رواه ابن ماجه من طريق بقية، عن خالد بن يزيد ابن عمر بن هبيرة الفزاري، عن عطاء بن السائب، قال: سمعت محارب بن دثار يقول: سمعت عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: توضئوا من لحوم الإبل، ولا تتوضئوا من لحوم الغنم، وتوضئوا من ألبان الإبل، ولا توضئوا من ألبان الغنم، وصلوا في مراح الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل (¬1). [إسناده ضعيف، والصحيح وقفه] (¬2). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (1102 - 331) ما رواه أبو يعلى، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة، حدثنا معتمر بن سليمان، عن ليث، عن مولى لموسى بن طلحة - أو عن ابن لموسى بن طلحة - عن أبيه، عن جده قال: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ من ألبان الإبل ولحومها ولا يصلي في أعطانها ولا يتوضأ من لحوم الغنم وألبانها ويصلي في مرابضها (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الخامس: (1103 - 332) ما رواه الطبراني في المعجم الكبير من طريق سليمان بن داود الشاذكواني، ثنا إسماعيل بن عبد الله بن موهب، عن عثمان بن عبد الله ابن موهب، عن جابر بن سمرة، عن أبيه سمرة السوائي، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إنا أهل بادية وماشية، فهل نتوضأ من لحوم الإبل وألبانها؟ قال: نعم. قال: فهل نتوضأ من لحوم الغنم وألبانها؟ قال: لا (¬3). [إسناده منكر] (¬4). ويكفي في الباب حديث جابر بن سمرة وحديث البراء بن عازب رضي الله عنهما. ¬
وأجاب الجمهور عن هذه الأحاديث بأجوبة، منها
وأجاب الجمهور عن هذه الأحاديث بأجوبة، منها: أن المقصود بالوضوء ليس الوضوء الشرعي، وإنما المراد غسل الأيدي من لحوم الإبل. ويجاب عن هذا: أولاً: بأن الكلام إذا صدر من الشارع فالأصل حمله على الحقيقة الشرعية، فإن تعذر ذلك حمل على الحقيقة اللغوية، ولا يوجد هنا سبب يحملنا على صرف الكلام عن حقيقته الشرعية إلى حقيقته اللغوية. ثانياً: أن السؤال عن الوضوء من لحومها قرن بالسؤال عن الصلاة في أعطانها مما يدل على أن المراد بالوضوء الوضوء الشرعي المتعلق بالصلاة. ثالثاً: لو كان المقصود بالوضوء هو غسل الأيدي لكان غسل الأيدي من لحوم الغنم أولى من غسلها من لحوم الإبل، وذلك أن نسبة الدهون في لحوم الغنم أكثر منها في لحوم الإبل، وهذا أمر معروف عند كل من يتعاطى أكل لحوم الإبل. رابعاً: أن غسل الأيدي ليس واجباً لا في لحوم الإبل ولا في لحوم الغنم، فلماذا يترك الشارع غسل الأيدي من لحوم الغنم إلى مشيئة الفاعل، ولا يترك هذا الأمر في لحوم الإبل، مع أن غسل الأيدي من لحوم الإبل والغنم الحكم فيها سواء، إلا إن كنتم تذهبون إلى وجوب غسل الأيدي من لحوم الإبل، ولا قائل به. الجواب الثاني للجمهور: قالوا: إن هذه الأحاديث منسوخة بحديث (كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار) وقد أجبنا على ذلك، بأجوبة منها:
أولاً: أن الحديث اختصره شعيب بن حمزة فأخطأ فيه. ثانياً: أنه لا يذهب إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع، ولم يتعذر هنا؛ لأن الجمع فيه إعمال لكلا الدليلين، بينما النسخ فيه إبطال لأحدهما. ثالثاً: أن الأمر بالوضوء من لحوم الإبل خاص، وترك الوضوء مما مست النار عام، والخاص مقدم على العام. قال ابن القيم: ((ومن العجب معارضة هذه الأحاديث بحديث جابر: (كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار) ولا تعارض بينهما أصلاً؛ فإن حديث جابر هذا إنما يدل على أن كونه ممسوساً بالنار، ليس جهة من جهات نقض الوضوء، ومن نازعكم في هذا؟ نعم هذا يصلح أن يحتجوا به على من يوجب الوضوء مما مست النار على صعوبة تقرير دلالته، وأما من يجعل كون اللحم لحم إبل هو الموجب للوضوء، سواء مسته النار أم لم تمسه، فيوجب الوضوء من نيئه ومطبوخه وقديده، فكيف يحتج عليه بهذا الحديث؟ وحتى لو كان لحم الإبل فرداً من أفراده فإنما تكون دلالته بطريق العموم، فكيف يقدم على الخاص؟ هذا مع أن العموم لم يستفد ضمناً من كلام صاحب الشرع، وإنما هو من قول الراوي. وأيضاً فأبين من هذا كله أنه لم يحك لفظاً لا خاصاً ولا عاماً، وإنما حكى أمرين: هما فعلان: أحدهما متقدم، وهو فعل الوضوء، والآخر متأخر، وهو تركه الوضوء من ممسوس النار، فهاتان واقعتان، توضأ في إحداهما، وترك الوضوء في الأخرى من شيء معين مسته النار، لم يحك لفظاً عاماً ولا خاصاً ينسخ به اللفظ الصريح الصحيح ... الخ كلامه رحمه الله تعالى (¬1). ¬
الراجح من الخلاف
الراجح من الخلاف: بعد استعراض أدلة الفريقين نجد أن القائل بوجوب الوضوء من لحوم الإبل أسعد بالدليل، وليس مع القائلين بعدم الوجوب إلا حديث جابر (كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار) ومع أن هذا الحديث معلول، فإن حديث جابر بن سمرة وحديث البراء ابن عازب فرق بين نوعين من اللحوم، وكلاهما قد مسته النار، فإما أن يكون الوضوء من لحوم الإبل متقدماً على حديث ترك الوضوء مما مست النار أو متأخراً عنه، فإن كان متأخراً لم يصح نسخه بنص متقدم عليه، لأن الناسخ يجب أن يكون متأخراً. وإن فرضنا أن حديث الوضوء من لحوم الإبل كان متقدماً، قبل أن ينسخ الوضوء مما مست النار، فكيف يترك الوضوء من لحوم الغنم لمشيئة الفاعل، فكان يجب أن يكون الأمر بالوضوء منهما جميعاً، لكون اللحمين قد مستهما النار، فلا بد من القول: إن حديث ترك الوضوء من لحوم الغنم دليل على أنه متأخر عن الأحاديث التي تأمر بالوضوء مما مست النار، وإلا لأوجب الوضوء من لحوم الغنم، فلما ترك الوضوء من لحوم الغنم مع كونه قد مسته النار كان دليلاً على تأخر هذا الحديث عن أحاديث الوضوء مما مست النار، وتبين أن العلة في الأمر بالوضوء من لحوم الإبل ليست العلة كونه قد مسته النار، وإنما العلة فيه كونه من الإبل، سواء كان قد مسته النار أو لم تمسه النار، فيجب الوضوء منه مطلقاً، سواء كان مطبوخاً أو نيئاً، والله أعلم.
المبحث الثاني: العلة في الوضوء من لحوم الإبل مع كونها طيبة
المبحث الثاني: العلة في الوضوء من لحوم الإبل مع كونها طيبة اختلف العلماء في العلة من الوضوء من لحم الإبل، وعدم الأمر بالوضوء من سائر اللحوم الأخرى كالغنم والبقر والطيور ونحوها، فقيل: إن الأمر بالوضوء منها لكونه كان مشروعاً في أول الأمر الوضوء مما مست النار، ثم نسخ هذا الحكم، بحديث جابر، كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، وهذا مذهب الجمهور. ويشوش عليه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قرن معها لحم الغنم، فأمر بالوضوء من لحوم الإبل، ولم يأمر بالوضوء من لحم الغنم، ولو كانت العلة في الوضوء من لحوم الإبل كون النار قد مستها لم يختلف الحكم في لحم الغنم، لأن النار أيضاً قد مستها. وقيل: إن الحكم تعبدي، فتكون علته مخفية عنا، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة. وقيل: إنه ورد في الحديث أن الإبل خلقت من الشياطين. (1104 - 333) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، أخبرنا يونس، عن الحسن، عن عبد الله بن مغفل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل؛ فإنها خلقت من الشياطين (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬
وفسر الحديث ابن حبان بأن معنى خلقت من الشياطين بأن معها شياطين على سبيل المجاورة والقرب. ¬
قال ابن حبان في صحيحه: قوله - صلى الله عليه وسلم -: فإنها خلقت من الشياطين: أراد به أن معها الشياطين، وهكذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: فليدرأه ما استطاع فإن أبى فليقاتله؛ فإنه شيطان، ثم قال في خبر صدقة بن يسار، عن ابن عمر: فليقاتله؛ فإن معه القرين (¬1). وقال في موضع آخر في صحيحه: لو كان الزجر عن الصلاة في أعطان الإبل لأجل أنها خلقت من الشياطين لم يصل - صلى الله عليه وسلم - على البعير؛ إذ محال أن لا تجوز الصلاة في المواضع التي قد يكون فيها الشيطان ثم تجوز الصلاة على الشيطان نفسه، بل معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنها خلقت من الشياطين: أراد به أن معها الشياطين على سبيل المجاورة والقرب (¬2). وقيل: معناه أن من طبعها الشيطنة، وليس معناه أن مادة خلقها الشيطنة، فهو كقوله تعالى: {خلق الإنسان من عجل} (¬3)، يعني: طبيعته هكذا، فهي لا تكاد تهدأ، ولا تقر في العطن، بل تثور، فربما قطعت على المصلي صلاته، وشوشت عليه خشوعه، وهذه هي الشيطنة المذكورة في الحديث. ولذلك لما صلى عليها أمن من شرها، بخلاف الصلاة في مباركها، فقد تأتي إليه مجتمعة في حالة من النفار فتفسد عليه صلاته. وقال ابن القيم: ((وقد جاء أن على ذروة كل بعير شيطاناً، وجاء: أنها خلقت من جن، ففيها قوة شيطانية، والغاذي شبيه بالمغتذي، ولهذا حرم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير؛ لأنها دواب عادية فالاغتذاء بها تجعل ¬
في طبيعة المغتذي من العدوان ما يضره في دينه، فإذا اغتذى من لحوم الإبل، وفيها تلك القوة الشيطانية، والشيطان خلق من نار، والنار تطفأ بالماء، ونظير الحديث الآخر: إن الغضب من الشيطان، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)) (¬1). وكل هذه العلل إنما هي التماس، فلم ينص الشارع على العلة من الوضوء من لحمها، وسواء كانت هذه العلة أم غيرها فإن اليقين المقطوع به أن الشارع حكيم ولا يأمر إلا بما فيه حكمة، وأنه لا بد أن يكون هناك علة اقتضت التفريق بين لحم الإبل ولحم الغنم، فإن الشارع لا يمكن أن يفرق بين متماثلين، ولا يجمع بين متفرقين، فالحكمة، هو أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتماس العلة إنما هو من أجل القياس، وتعدية الحكم إلى حكم آخر لعلة جامعة بينهما، وليس لأمر آخر، ولذا قالت عائشة حين سئلت: ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟ قالت: كان يصيبنا ذلك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنؤمر بقضاء الصيام، ولا نؤمر بقضاء الصلاة، وهو حديث متفق عليه (¬2). ¬
المبحث الثالث: في الوضوء من شحم الإبل وكبده وطحاله ومصرانه
المبحث الثالث: في الوضوء من شحم الإبل وكبده وطحاله ومصرانه اختلف القائلون بوجوب الوضوء من لحم الإبل هل يشمل ذلك جميع أجزاء البعير من كبد وطحال وكرش ومصران ونحوها؟. فقيل: لا ينقض الوضوء إلا اللحم خاصة، وهو المشهور من مذهب أحمد (¬1). وقيل: ينقض جميع أجزاء البعير، وهي رواية في مذهب أحمد (¬2). دليل من قال بعدم النقض. الدليل الأول: قالوا: إن النص إنما ورد في اللحم خاصة، سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء من لحوم الإبل؟ فقال: توضؤا منها. والكبد والطحال ونحوهما لا يسمى لحماً، فلم يتناوله النص، فلو أنك أمرت أحداً أن يشتري لك لحماً فاشترى كرشاً أو كبداً لأنكرت عليه. ويجاب عن ذلك بأن عدم دخولها هل مرده إلى اللغة أو إلى العرف، فإن كان ذلك في العرف فلا تقدم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية، وأما اللغة فإن اللحم يشمل جميع أجزاء الحيوان، بما في ذلك شحمه وكبده كما سيأتي ذكر دليل ذلك في أدلة القول الثاني إن شاء الله تعالى. ¬
التعليل الثاني
التعليل الثاني: أن الأصل بقاء الطهارة، فالطهارة متيقنة، ودخول غير اللحم في حكم اللحم أمر غير متيقن، واليقين لا يزول بالاحتمال. التعليل الثالث: أن النقض باللحم أمر تعبدي، وإذا كان كذلك لم يمكن قياس غير اللحم على اللحم؛ لأن من شرط القياس العلم بالعلة، والأمور التعبدية غير معلومة العلة، والله أعلم. ويجاب: بأن إلحاق الكبد باللحم ليس من باب القياس، وإنما دخوله لاشتمال النص عليه، فاللحم ليس هو الهبر خاصة. دليل من قال بالنقض. أولاً: من القرآن قال تعالى: {حرمت علكيم الميتة والدم ولحم الخنزير} (¬1)، فنص على اللحم، ومع ذلك دخل جميع أجزاء الخنزير من شحم وكبد وطحال ونحوها، وهذا دليل على أن اللحم شامل لجميع أجزاء الحيوان. وأجاب بعضهم: بأن لحم الخنزير حرم لنجاسته وخبثه، وأجزاء الخنزير كلها نجسة، فلا طاهر فيها، وأما لحم الإبل فلا شيء فيها نجس، وإذا كانت العلة أنها خلقت من الشياطين فهذا لا يصير إلا فيما فيه القوة الزائدة، وهي في اللحوم، واللحم في اللغة اسم لهذا الأحمر من اللحم المسمى بالهبر. ¬
ثانيا
ثانياً: قد يطلق اللحم على الحيوان باعتبار أنه أكثر الحيوان وأغلبه، ولا يعني هذا اختصاصه بالحكم، إذ لا فرق بين الهبر وبين غيره، فالكل يتغذى بدم واحد وطعام وشراب واحد، وهذا على افتراض أن النص لا يتناول بقية أجزاء الحيوان بالعموم اللفظي، فيبقى تناوله بالعموم المعنوي لعدم الفارق. الراجح من هذا الخلاف: القول بأن النقض عام في كل أجزاء الإبل من هبر وشحم وكبد وطحال ونحوه أقوى من حيث النظر من القول باختصاص النقض بالهبر خاصة. نعم القول بعدم النقض من حليب الإبل ومرقه ظاهر؛ لأنه لا يدخل في مسمى اللحم لا في الشرع ولا في العرف، ولا يقال: إذا شرب حليب الإبل بأنه أكل من الحيوان، وسوف نناقش هذه المسألة ببحث مستقل إن شاء الله تعالى.
المبحث الرابع: في الوضوء من لبن الإبل
المبحث الرابع: في الوضوء من لبن الإبل اختلف أهل العلم القائلون بالوضوء من لحوم الإبل، هل يتوضأ من ألبانها؟. فقيل: لا يجب الوضوء منه، وهو مذهب الجمهور (¬1)، ورواية عن أحمد (¬2). وقيل: يستحب الوضوء منه، رجحه ابن تيمية (¬3). وقيل: يجب الوضوء منه، وهو قول في مذهب أحمد (¬4). دليل من قال: يتوضأ من ألبانها. الدليل الأول: (1105 - 334) ما رواه ابن ماجه من طريق بقية، عن خالد بن يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري، عن عطاء بن السائب، قال: سمعت محارب بن دثار يقول: سمعت عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: توضئوا من لحوم الإبل، ولا تتوضئوا من لحوم الغنم، وتوضئوا من ¬
الدليل الثاني
ألبان الإبل، ولا توضئوا من ألبان الغنم، وصلوا في مراح الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل (¬1). [إسناده ضعيف، وسبق تخريجه] (¬2). الدليل الثاني: (1106 - 335) ما رواه أحمد، من طريق عباد بن العوام، حدثنا الحجاج، عن عبد الله بن عبد الله مولى بني هاشم، قال: وكان ثقة، وكان الحكم يأخذ عنه، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أسيد بن حضير، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن ألبان الإبل، قال: توضئوا من ألبانها، وسئل عن ألبان الغنم؟، فقال: لا توضئوا من ألبانِها (¬3). [إسناده ضعيف، وسبق تخريجه] (¬4). الدليل الثالث: (1107 - 336) ما رواه أبو يعلى، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة، حدثنا معتمر بن سليمان، عن ليث، عن مولى لموسى بن طلحة - أو عن ابن لموسى بن طلحة - عن أبيه، عن جده، قال: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ من ألبان الإبل ولحومها ولا ¬
الدليل الرابع
يصلي في أعطانها ولا يتوضأ من لحوم الغنم وألبانها ويصلي في مرابضها (¬1). [إسناده ضعيف، وسبق تخريجه] (¬2). الدليل الرابع: (1108 - 337) ما رواه الطبراني في المعجم الكبير من طريق سليمان بن داود الشاذكواني، ثنا إسماعيل بن عبد الله بن موهب، عن عثمان بن عبد الله ابن موهب، عن جابر بن سمرة، عن أبيه سمرة السوائي، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إنا أهل بادية وماشية، فهل نتوضأ من لحوم الإبل وألبانها؟ قال: نعم. فهل نتوضأ من من لحوم الغنم وألبانها؟ قال: لا (¬3). [إسناده منكر، وسبق تخريجه] (¬4). دليل من قال: بعدم النقض. الدليل الأول: إذا توضأ الإنسان، فهو على طهارته حتى يأتي دليل صحيح على نقض الوضوء من ألبان الإبل، والأحاديث الورادة إنما في هي في لحوم الإبل، والحكم غير معقول المعنى، فوجب الاقتصار على ما ورد فيه النص. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين أمر العرنيين بأن يلحقوا إبل الصدقة، فيشربوا من أبوالها وألبانها (¬1)، لم يأمرهم بالوضوء من ألبانها، ولو كان ذلك واجباً لأمرهم. الراجح القول بعدم النقض، لعدم الدليل الصحيح في الباب، وما ورد من أحاديث فهي ضعيفة، والله أعلم، بل إن كلام أحمد وإسحاق حين قالا: صح في هذا الباب حديثان: حديث البراء وحديث جابر دليل على أنه لم يصح فيه غيرهما، وهذان الحديثان لم يذكرا ألبان الإبل، ولو كان الوضوء واجباً منه لنص عليه الحديثان، والله أعلم. ¬
المبحث الخامس: الوضوء من مرق لحم الإبل
المبحث الخامس: الوضوء من مرق لحم الإبل اختلف العلماء في الوضوء من مرق لحم الإبل، فقيل: الوضوء منه غير واجب حتى ولو ظهر طعمه في المرق، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: يجب الوضوء منه، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬2). دليل من قال: لا يجب الوضوء من مرق اللحم. دليلهم هو دليل من قال: لا يجب الوضوء من ألبان الإبل، فانظره في المسألة التي قبل هذه. دليل من قال: يتوضأ من المرق. قال: إذا ظهر طعم اللحم في المرق، فإنه قد تناوله، كما أن الماء إذا ظهر فيه أثر النجاسة، كان الماء نجساً، ومرق لحم الخنزير لا يجوز أكله تبعاً للحمه، فكذلك هنا، إذا ظهر طعم اللحم وجب الوضوء منه. الراجح من الخلاف. بعد استعراض الأقوال وأدلة كل قول نرى أن الصحيح أنه لا يجب الوضوء من مرق لحم الإبل، والقياس على مرق الخنزير قياس مع الفارق، وهناك فرق بين أثر النجاسة، وبين أثر لحم الإبل، فلو أقسم لا يأكل لحماً ثم ¬
شرب مرق لحم لم يحنث، ولا يعتبر قد أكل لحماً، حتى ولو ظهر طعم اللحم في المرق، وما كان ربك نسياً، فلو كان الوضوء واجباً من مرق اللحم لجاء النص في بيانه، وما سكت عنه فهو عفو، لكن لو قيل بالاستحباب قياساً على الجلالة، فإنه حين ظهر أثر النجاسة باللبن كره شربه (¬1)، حتى ولو تحولت النجاسة إلى مادة أخرى، فكذلك إذا ظهر أثر اللحم في المرق استحب الوضوء منه احتياطاً، لو قيل بهذا لم يكن بعيداً، والله أعلم. ¬
المبحث السادس: الوضوء من أكل اللحوم الخبيثة كالسباع
المبحث السادس: الوضوء من أكل اللحوم الخبيثة كالسباع اختلف أهل العلم في هذه المسألة، فقيل: لا ينقض الوضوء أكل الأطعمة المحرمة من لحم وغيره، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: ينقض الطعام المحرم، سواء كان لحماً أو غيره، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: ينقض اللحم المحرم فقط دون سائر الأطعمة، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: ينقض لحم الخنزير فقط، وهو قول في مذهب الحنابلة، خرج عليه بعضهم أكل جميع النجاسات (¬4). ¬
وسبب الخلاف ما أفصح عنه ابن تيمية رحمه الله حيث يقول: وأما اللحم الخبيث المباح للضروة كلحم السباع، ينبني الخلاف على النقض بلحم الإبل، هل هو تعبدي فلا يتعدى إلى غيره أو معقول المعنى؟ فيعطى حكمه، بل هو أبلغ منه (¬1). انتهى وقال ابن القيم: والوضوء منها أبلغ من الوضوء من لحوم الإبل, فإذا عقل المعنى لم يكن بد من تعديته, ما لم يمنع منه مانع (¬2). اهـ قال المردواي: الصحيح من المذهب , أن الوضوء من لحم الإبل تعبدي. وعليه الأصحاب. قال الزركشي: هو المشهور. وقيل: هو معلل. فقد قيل: إنها من الشياطين , كما جاء في الحديث الصحيح. رواه أحمد وأبو داود. وفي حديث آخر: (على ذروة كل بعير شيطان) فإن أكل منها أورث ذلك قوة شيطانية , فشرع وضوؤه منها ليذهب سورة الشيطان (¬3). اهـ قلت: سبق لنا الكلام في الحكمة من مشروعية الوضوء من لحوم الإبل، فأغنى عن إعادته هنا، والله أعلم. ¬
الفصل السابع: في نقض الوضوء من القهقهة في الصلاة
الفصل السابع: في نقض الوضوء من القهقهة في الصلاة القهقهة خارج الصلاة لا تنقض الوضوء اتفاقاً، وأما في الصلاة، فقد اختلف العلماء، فقيل: تنقض الوضوء في الصلاة إلا صلاة الجنازة وسجدة التلاوة، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: لا تنقض، وهو مذهب الجمهور (¬2)، وهو الصحيح. دليل الحنفية على القول بالنقض. الدليل الأول: (1109 - 338) ما رواه الدارقطني من طريق إبراهيم بن سعد، عن ابن ¬
إسحاق، حدثني الحسن بن دينار، عن الحسن بن أبي الحسن، عن أبي المليح بن أسامة، عن أبيه، قال: بينا نحن نصلي خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبل رجل ضرير البصر، فوقع في حفرة، فضحكنا منه، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإعادة الوضوء كاملاً وإعادة الصلاة من أولها (¬1). [اضطرب فيه ابن إسحاق، والمعروف كونه مرسلاً عن أبي العالية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1110 - 339) ما رواه الدارقطني من طريق محمد بن يزيد بن سنان، حدثنا أبي، نا سليمان الأعمش، عن أبي سفيان، ¬
عن جابر، قال: قال لنا رسول الله صلى الله عيه وسلم من ضحك منكم في صلاته فليتوضأ، ثم ليعد الصلاة (¬1). [منكر، والمعروف عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر خلافه] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1111 - 340) ما رواه الدارقطني من طريق الحسن بن قتيبة ومن طريق إسماعيل بن عياش، كلاهما عن عمر بن قيس، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن، عن عمران بن حصين، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من ضحك في الصلاة قرقرة، فليعد الوضوء والصلاة. وقال الحسن بن قتيبة: إذا قهقه الرجل أعاد الوضوء والصلاة (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). الدليل الرابع: (1112 - 341) ما رواه الدارقطني من طريق عبد العزيز بن الحصين، عن عبد الكريم، عن الحسن، ¬
دليل الجمهور على عدم النقض بالقهقهة
عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قهقه الرجل أعاد الوضوء والصلاة (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). وفي الباب أحاديث شديدة الضعف، تركتها اقتصاراً واختصاراً. دليل الجمهور على عدم النقض بالقهقهة. الدليل الأول: (1113 - 342) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: إذا ضحك الرجل في الصلاة أعاد الصلاة، ولم يعد الوضوء (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: من تطهر فالأصل بقاء الطهارة حتى يأتي دليل صحيح صريح على بطلان طهارته، ولم يوجد. الدليل الثالث: إذا كانت القهقة خارج الصلاة لا تنقض الطهارة، لم تنقض الطهارة داخل الصلاة. الدليل الرابع: الكلام ممنوع في الصلاة، ومع ذلك لا ينقض الطهارة ولو تعمده الإنسان بطلت صلاته دون طهارته، فكذلك القهقهة فهي من جنس الكلام، بل إذا كان القذف داخل الصلاة لا يبطل الطهارة، مع أنه من كبائر الذنوب فالقهقهة من باب أولى. الراجح من الخلاف: القول بالنقض من القهقة قول ضعيف جداً أثراً ونظراً، أما الأثر فإن مدارها على أحاديث إما مرسلة، وإما شديدة الضعف. وأما النظر، فإن القهقهة كما أنها لا تنقض الوضوء خارج الصلاة، فإنها لا تنقض الوضوء في الصلاة، والله أعلم.
الفصل الثامن: في نقض الوضوء بالردة
الفصل الثامن: في نقض الوضوء بالردة اختلف العلماء في الردة، هل تبطل الوضوء، فقيل: لا تبطل الوضوء، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وأحد القولين في مذهب المالكية (¬2)، ووجه في مذهب الشافعية (¬3)، واختيار ابن حزم (¬4). وقيل: تبطل الردة التيمم دون الوضوء، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬5). ¬
دليل من قال: لا تبطل الردة الوضوء
وقيل: تبطل الوضوء، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1)، واختاره بعض المالكية (¬2)، ووجه في مذهب الشافعية (¬3). دليل من قال: لا تبطل الردة الوضوء. التعليل الأول: قالوا: إن الردة ليست حدثاً، وإنما يبطل الوضوء بالحدث. قلت: سبق لنا أن الحنفية يصححون الوضوء من الكافر، ولا يشترطون الإسلام في صحة الوضوء، فضلاً أن يروا الردة مبطلة للوضوء. التعليل الثاني: بعد الفراغ من العبادة لا يمكن له رفضها ولا إبطالها، فكما أنه لو صام أو صلى لا يمكنه أن يرفض العبادة أو يغير نيتها حال إسلامه، فكذلك لا يمكن له إبطال العبادة بالردة بعد الفراغ منها. قال ابن حزم: وأما الردة فإن المسلم لو توضأ واغتسل للجنابة أو كانت امرأة فاغتسلت من الحيض ثم ارتدا ثم راجعا - الإسلام دون حدث يكون منهما, فإنه لم يأت قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ولا إجماع ولا قياس بأن الردة حدث ينقض الطهارة, وهم يجمعون معنا على أن الردة لا تنقض ¬
الدليل الثالث
غسل الجنابة ولا غسل الحيض ولا أحباسه السالفة ولا عتقه السالف ولا حرمة الرجل, فمن أين وقع لهم أنها تنقض الوضوء وهم أصحاب قياس, فهلا قاسوا الوضوء على الغسل في ذلك, فكان يكون أصح قياس لو كان شيء من القياس صحيحاً (¬1). اهـ قالوا: إن الردة إنما تبطل ثواب العمل، وليست تبطل العمل نفسه، وإبطال الثواب مشروط بالموت على الكفر كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه. الدليل الثالث: (1114 - 343) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا وضوء إلا من صوت أو ريح (¬2). [المحفوظ في لفظ الحديث فلا يخرج حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً] (¬3). ثم إن هذا العموم لا يدخل فيه مس الفرج كما لا يدخل فيه أكل لحم الإبل ومس بدن المرأة وغيرها من النواقض المختلف فيها، وقد يدخل في ذلك النوم باعتباره مظنة لخروج خارج، كما يدخل فيه البول والغائط، ووجهه: حيث نبه على الأخف، فيدخل الأغلظ من باب أولى. ¬
دليل من قال: الردة تبطل الوضوء
دليل من قال: الردة تبطل الوضوء. الدليل الأول: قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (¬1)، فكلمة (عملك) نكرة مضافة فتعم كل عمل، ومنه الوضوء. وأجيب: بأن إحباط العمل مشروط بالموت على الردة، كما قال تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم} (¬2)، الآية. قال ابن حزم: فإن ذكروا قول الله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} قلنا هذا على من مات كافراً، لا على من راجع الإسلام. يبين ذل ك قول الله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم} وقوله تعالى {ولتكونن من الخاسرين} شهادة صحيحة قاطعة لقولنا؛ لأنه لا خلاف بين أحد من الأمة في أن من ارتد ثم رجع إلى الإسلام ومات مسلما فإنه ليس من الخاسرين , بل من الرابحين المفلحين, وإنما الخاسر من مات كافراً (¬3). الدليل الثاني: (1115 - 344) ما رواه مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا حبان ابن هلال، حدثنا أبان، حدثنا يحيى أن زيداً حدثه، أن أبا سلام حدثه، عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬
دليل من فرق بين الوضوء والتيمم
الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك. كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها (¬1). وجه الاستدلال: فإذا كان الطهور شطر الإيمان، والردة تبطل الإيمان، فهي تبطل أيضاً الوضوء؛ لأنه من الإيمان، بل هو شطر الإيمان. دليل من فرق بين الوضوء والتيمم. قالوا: إن التيمم مبيح لفعل الصلاة وليس رافعاً للحدث، ولا إباحة مع قيام المانع، بخلاف الوضوء فإنه رافع للحدث، فهو أقوى من التيمم، فالردة تبطل التيمم لضعفه بخلاف الوضوء. هذه أدلة كل قول من الأقوال، وقد تجنب بعض المصنفين من الحنابلة ذكر الردة من نواقض الوضوء، وعلل ذلك المرداوي من الحنابلة بقوله: لم يذكر القاضي في الجامع , والمحرر , والخصال , وأبو الخطاب في الهداية , وابن البنا في العقود , وابن عقيل في التذكرة , والسامري في المستوعب , والفخر ابن تيمية في التلخيص , والبلغة , وغيرهم: الردة من نواقض الوضوء. فقيل: لأنها لا تنقض عندهم. وقيل: إنما تركوها لعدم فائدتها; لأنه إن لم يعد إلى الإسلام فظاهر, وإن ¬
عاد إلى الإسلام وجب عليه الغسل، ويدخل فيه الوضوء. وقد أشار إلى ذلك القاضي في الجامع الكبير. فقال: لا معنى لجعلها من النواقض مع وجوب الطهارة الكبرى. وقال الشيخ تقي الدين: له فائدة تظهر فيما إذا عاد إلى الإسلام , فإنا نوجب عليه الوضوء والغسل. فإن نواهما بالغسل أجزأه , وإن قلنا لم ينتقض وضوؤه: لم يجب عليه الغسل. انتهى. قال الزركشي: قلت: ومثل هذا لا يخفى على القاضي. وإنما أراد القاضي: أن وجوب الغسل ملازم لوجوب الطهارة الصغرى. وممن صرح بأن موجبات الغسل تنقض الوضوء: السامري. وحكى ابن حمدان وجها بأن الوضوء لا يجب بالالتقاء بحائل , ولا بالإسلام. وإذن ينتفي الخلاف بين الأصحاب في المسألة. انتهى (¬1). قلت: سيأتي إن شاء الله تعالى ذكر الخلاف في وجوب الغسل على من أسلم أو رجع إلى الإسلام بعد كفره في كتاب الغسل، وهو بعد كتابنا هذا، والذي أميل إليه في موضع الردة أنها ليست من نواقض الوضوء، ولم يقم دليل صحيح صريح في كون الردة حدثاً من الأحداث، والله أعلم. ¬
مبحث: في الوضوء مما مست النار
مبحث: في الوضوء مما مست النار اختلف الفقهاء في الوضوء مما مست النار، فقيل: يجب الوضوء مما مسته النار، اختاره بعض الصحابة رضي الله عنهم، منهم ابن عمر، وعائشة، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، وأبو طلحة، وزيد بن ثابت، وغيرهم (¬1). واختاره الزهري رحمه الله تعالى (¬2). وقيل: لا يجب فيه وضوء، وعليه عمل الخلفاء الراشدين (¬3)، وهو مذهب جماهير أهل العلم على خلاف بينهم: هل كان الوضوء منه واجباً فنسخ؟ اختاره بعض المالكية (¬4)، وهو ¬
مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، واختيار ابن حزم (¬3). أو كان معنى الوضوء مما مست النار، هو المضمضة وغسل الفم على وجه الاستحباب، وهو مذهب الحنفية (¬4)، واختاره بعض المالكية (¬5). وقيل: الوضوء مما مسته النار، مستحب، وليس بواجب، وأن ترك الوضوء مما مست النار لم يكن من قبيل النسخ، وإنما هو لبيان أنه ليس بواجب، وهو وجه في مذهب أحمد، رجحه ابن تيمية رحمه الله تعالى (¬6)، وابن القيم، وهو الراجح. ¬
وسبب الخلاف اختلافهم في الأحاديث الواردة: فثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: توضئوا مما مست النار، (1116 - 345) رواه مسلم من طريق عقيل بن خالد قال: قال ابن شهاب: أخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن خارجة بن زيد الأنصاري أخبره، أن أباه زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الوضوء مما مست النار (¬1). ورواه مسلم من مسند عائشة رضي الله عنها (¬2). وثبت عنه أنه أكل لحماً، ثم صلى ولم يتوضأ. (1117 - 346) وروى البخاري من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ. ورواه مسلم (¬3). وقد رواه الشيخان أيضاً من مسند عمرو بن أمية الضمري (¬4)، ومن مسند ميمونة (¬5)، كما رواه مسلم من مسند أبي رافع (¬6). ¬
فمن أهل العلم من أخذ بالأحاديث الآمرة بالوضوء مما مست النار، وأنها ناقلة عن البراءة الأصلية فهي مقدمة على غيرها من الأحاديث الموافقة للبراءة الأصلية، وهذا حجة من ذهب إلى القول بوجوب الوضوء مما مست النار. ومن أهل العلم من رأى أن القواعد تقتضي بأن الرسول إذا أمر بشيء ثم خالفه، ولم يأت دليل صريح بأن هذه المخالفة خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فإن ذلك يدل ذلك على أن الأمر ليس على الوجوب، وإنما هو على الاستحباب، وهذا حجة من ذهب إلى استحباب الوضوء مما مست النار، وأن الأمر بالوضوء مما مست النار ما زال محكماً، ولم ينسخ. (1118 - 347) وأخذ جماهير أهل العلم بما رواه شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما غيرت النار (¬1). فرأوا أن الحديث دليل على أن الوضوء مما مست النار كان مشروعاً فنسخ، إلا أن الحديث بهذا اللفظ، قد ذهب بعض أهل العلم منهم أبو داود وأبو حاتم الرازي وابن حبان وابن تيمية وابن القيم وغيرهم إلى أن شعيب اختصر الحديث، فأخطأ فيه (¬2)، فأوقع هذا الاختصار المخل للحديث في لبس، وأن الحديث عند من بسطه لا يدل على ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، وإنما ¬
فيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكل لحماً عند امرأة من الأنصار، ثم قام إلى صلاة الظهر، فتوضأ، وصلى، ثم عاد مرة أخرى، فقدمت له بقية اللحم، فأكل، ثم قام، وصلى العصر، ولم يتوضأ، فأراد شعيب أن يختصره، فقال: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، والمقصود بالأمرين أي في شأن هذه القصة، وليس في الأمر العام الشرعي على أن الحديث له علة أخرى، فقد قيل: إن محمد بن المنكدر لم يسمعه من جابر، وإنما سمعه من عبد الله بن محمد بن عقيل، وأكثر أهل العلم على ضعفه. وقد سبق بحث الحديث، فأغنى عن إعادته هنا. ورد ابن حزم (¬1)، وابن التركماني (¬2)، القول باختصار الحديث، وقالا: إنما هما حديثان، وأيدهما أحمد شاكر رحمه الله تعالى. وقال أحمد شاكر: ومن الواضح أن هذا تأويل بعيد جداً، يخرج به الحديث عن ظاهره، بل يحيل معناه عما يدل عليه لفظه وسياقه، ورمي الرواة الثقات الحفاظ بالوهم بهذه الصفة ونسبة التصرف الباطل في ألفاظ الحديث إليهم حتى يحيلوها عن معناها قد يرفع من نفوس ضعفاء العلم الثقة بالرويات الصحيحة جملة ... الخ كلامه رحمه الله (¬3). وكلام أهل العلل كأبي داود وأبي حاتم الرازي وابن حبان ومعهم ابن تيمية وابن القيم لا يمكن أن يعارض بكلام ابن حزم وابن التركماني، وذلك أن ابن حزم رحمه الله لم يكن من أهل العلل أصلاً، وليست له عناية في هذا ¬
الفن، ومن قرأ كتابه المحلى قطع بذلك، وإن كان هذا لا يقدح في إمامته في الفقه، فالمرد عند الكلام على العلل إنما هو إلى أهله وصيارفته، وما ساقه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله إنما هو حسن الظن بالراوي، وهذا لا يمنع من الوقوع بالخطأ، والثقة بل الأئمة يقع لهم بعض الأخطأ، فهذا مالك وسفيان والزهري وشعبة قد يحصي أئمة الحديث أوهاماً لهم وقعوا فيها، إما في المتن وإما في الإسناد، وليس ذلك بقادح في الثقة حتى يكثر ذلك منه، فإذا كثرت مخالفته قدح ذلك في ضبطه، والله أعلم. وبناء عليه فالوضوء مما مست النار محفوظ غير منسوخ، وإن كان الأمر بالوضوء مما مست النار ليس للوجوب، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بالوضوء، ثم أكل لحماً وصلى ولم يتوضأ، فدل على أن الأمر بالوضوء منه ليس للوجوب، وإنما هو على قبيل الاستحباب، والله أعلم.
الفصل التاسع: في الوضوء من غسل الميت
الفصل التاسع: في الوضوء من غسل الميت اختلف أهل العلم في غسل الميت، هل ينقض الوضوء، فقيل: لا ينقض الوضوء، وهو مذهب الجمهور (¬1)، ورواية عن أحمد (¬2). وقيل: ينقض، وهي مفردات مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى (¬3). وقيل: يسن، نص عليه الشافعي (¬4). دليل من قال بالنقض. الدليل الأول: (1119 - 348) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: سئل ابن عباس: أعلى من غسل ميتاً غسل؟ قال: لا، إذن ¬
نجسوا صاحبهم، ولكن وضوء (¬1). [رجاله ثقات] (¬2). ¬
الدليل الثاني
ويجاب: أولاً: هذا موقوف على ابن عباس رضي الله عنه، وقوله هذا خلاف القياس. ثانياً: لعله يحمل ذلك على المحدث، حتى إذا أراد الصلاة على الميت فإذا هو طاهر، أو يحمل على الوضوء اللغوي، وهو نظافة يديه؛ لأن الغاسل قد يمس فرجه بحائل، وقد تخرج من الميت نجاسة تلوث من باشر غسله، والله أعلم. الدليل الثاني: (1120 - 349) ما رواه عبد الرزاق، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: إذا غسلت الميت فأصابك منه أذى فاغتسل، وإلا إنما يكفيك الوضوء (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الثالث: ربما أخذوا نقض الوضوء من كون بعض أهل العلم يرى وجوب الغسل من تغسيل الميت، فإذا أوجب عنده ذلك الطهارة الكبرى، فقد أوجب الطهارة الصغرى؛ لأنها داخلة فيها وللقاعدة عندهم «كل ما أوجب غسلاً أوجب وضوءاً» وعمدتهم في إيجاب الغسل من تغسيل الميت: ¬
(1121 - 350) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، حدثني سهيل بن أبي صالح، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من غُسْلِها الغسلُ، ومن حَمْلِها الوضوء (¬1). يعني الميت. [اختلف في رفعه ووقفه، ورجح جمع من الأئمة المتقدمين وقفه] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وفي الباب من حديث عائشة وعلي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وحذيفة والمغيرة بن شعبة، وكلها أحاديث ضعيفة، وسنأتي على ذكرها إن شاء الله تعالى في كتاب الغسل، وهو بعد هذا الكتاب. الدليل الثاني: وقالوا: ولأن العادة أن الغاسل لا تسلم يده أن تقع على فرج الميت، كما لا يسلم النائم المضطجع من خروج الحدث، وأوجبنا الوضوء من النوم. وأجيب: أولاً: لا يحل له أن يمس فرج الميت بدون حائل. وثانياً: ليس مس الفرج متيقناً ولا غالباً، بل هو نادر، وبالتالي لا يكون غسل الميت مظنة للمس الفرج. ¬
دليل من قال: لا ينقض الوضوء
ثالثاً: أن غاسل الميت يكون معه عقله، ويعلم بما يقوم به، فإذا مس فرج الميت شعر بذلك، بخلاف النائم فإنه يحدث وهو لا يشعر، ولذلك لو كان نومه نعاساً لم يغلب على عقله لم يكن النوم ناقضاً للوضوء؛ لأنه لو أحدث لشعر بذلك. رابعاً: الوضوء من مس الذكر أمر تعبدي، وقد قدمنا الخلاف في مس ذكر الغير، ورجحنا أن الوضوء إنما يجب إذا مس ذكره بيده لحديث (من مس ذكره فليتوضأ) وأما إذا مس ذكر غيره فلم يصح فيه الحديث، وبالتالي لا يجب عليه الوضوء، ولا يقاس مس ذكر الغير على مس ذكره؛ لأن الأمر تعبدي لم تظهر لنا علته، والله أعلم. دليل من قال: لا ينقض الوضوء. الدليل الأول: قالوا: لم يصح في وجوب الوضوء ولا في وجوب الغسل من تغسيل الميت حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قاله جماعة من أهل العلم: قال أبو داود في مسائل الإمام أحمد: «سمعت أحمد ذكر في (من غسل ميتاً فليغتسل) فقال: ليس يثبت فيه حديث» (¬1). وكذا قال علي بن المديني والذهلي والبيهقي وابن المنذر وغيرهم، نقلنا ذلك عنهم في أدلة القول الأول. فإذا كان ذلك كذلك فالأصل عدم الوجوب حتى يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر منه بذلك، ولم يثبت. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: قالوا: بدن الميت طاهر، ومس الطاهر ليس بحدث، بل لو كان نجساً لم يكن حدثاً، وكل ما عليه أن يغسل النجاسة فقط، فإذا كان الإنسان لا يتوضأ من مس الميتة والنجاسات، فكذلك لا يتوضأ من باب أولى من غسل بدن المسلم. الراجح والله أعلم. بعد استعراض الأقوال في المسألة، وبعد أن نقلنا عن جمع من الأئمة بأنه لم يثبت حديث في الأمر بالغسل أو الوضوء من تغسيل الميت أرى والله أعلم أن القول بأن غسل الميت ناقض من نواقض الوضوء قول ضعيف، ولكن القول بالاستحباب من ذلك ليس ببعيد، وقد روى الخطيب في تاريخه في ترجمة محمد بن عبد الله المخزومي، من طريق عبد الله بن الإمام أحمد، قال: قال لي أبي: كتبت حديث عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل؟ قال: قلت: لا. قال: في ذلك الجانب شاب يقال له: محمد بن عبد الله يحدث به، عن أبي هشام المخزومي، عن وهيب، فاكتب عنه (¬1). وهذا إسناد صحيح، وصححه الحافظ ابن حجر في التلخيص، وقال: وهو أحسن ما جمع به بين مختلف هذه الأحاديث (¬2). اهـ ¬
الفصل العاشر: في نقض الوضوء بالشك
الفصل العاشر: في نقض الوضوء بالشك إذا توضأ، ثم شك هل أحدث، فهل ينتقض وضوؤه؟ فقيل: لا ينتقض، بل يبني على اليقين مطلقاً، سواء كان في صلاة أم في غيرها، وهو مذهب الجمهور، ورواية ابن نافع، عن مالك. وقيل: ينقض مطلقاً، وهو رواية ابن القاسم عن مالك. وقيل: الشك ينقض الوضوء خارج الصلاة، ولا ينقض داخلها، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬1)، ونسب هذا القول للحسن رحمه الله (¬2). دليل الجمهور على عدم النقض. الأصل العظيم، أن اليقين لا يزول بالشك، فمن تيقن الطهارة وشك ¬
دليل من قال بوجوب الوضوء بالشك بالحدث إلا أن يكون في صلاة
بالحدث، أو تيقن النجاسة وشك في الطهارة، بنى على اليقين، وهذا الأصل له أدلة شرعية صحيحة، منها. (1122 - 351) ما رواه البخاري، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب (ح) وعن عباد بن تميم، عن عمه، أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً، ورواه مسلم. دليل من قال بوجوب الوضوء بالشك بالحدث إلا أن يكون في صلاة. قالوا: إنما أوجب الوضوء بالشك؛ لأن الطهارة شرط، والشك في الشرط مؤثر، بخلاف الشك في طلاق زوجته، أو عتق أمته، أو شك في الطهارة أو الرضاع لا يؤثر؛ لأنه شك في المانع، وهو لا يؤثر، وإنما أثر في الشرط دون المانع، لأن العبادة محققة في الذمة فلا تبرأ منها إلا بطهارة محققة، والمانع يطرأ على أمر محقق وهو الإباحة أو الملك من الرقيق، فلا تنقطع بأمر مشكوك فيه (¬1). وأما وجه الفرق بين الحدث داخل الصلاة وخارج الصلاة. فقد أخذوا ذلك من ظاهر الحديث، (1123 - 352) فقد روى البخاري، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب (ح) وعن عباد بن تميم، عن عمه، أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد ¬
الراجح من القولين
الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً، ورواه مسلم (¬1). فأمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا شك في الصلاة أن يستمر فيها، ولا ينصرف عنها إلا بيقين، قالوا: وأما إذا شك خارج الصلاة، فالحكم مختلف، فيلزمه أن يأتي بالطهارة بيقين. قال الدسوقي في حاشيته: من شك، وهو في الصلاة طرأ عليه الشك فيها بعد دخوله، فوجب أن لا ينصرف عنها إلا بيقين، ومن شك خارجها طرأ عليه الشك في طهارته قبل الدخول في الصلاة، فوجب أن لا يدخلها إلا بطهارة متيقنة (¬2). وتعليل آخر: قالوا: قياساً على النوم، فإن وجوب الوضوء من النوم لوجود الشك في الحدث، فكذلك إذا شك في الحدث بدون نوم فإنه يوجب الوضوء. قال ابن حجر تعليقاً على ذلك: إن كان ناقضاً خارج الصلاة فينبغي أن يكون كذلك في الصلاة كبقية النواقض (¬3). الراجح من القولين: بعد استعراض الأدلة يتبين لنا والله أعلم أن قول الجمهور أقوى، لأن الشك لا يقضي على اليقين، وأن الأصل استصحاب المتيقن حتى ينتقل عنه إما بيقين أو بغلبة ظن، وأما الشك الذي هو استواء الطرفين، فإنه لا يقضي على اليقين، والله أعلم. ¬
الفصل الحادي عشر: كل ما يوجب الحدث الأكبر فإنه يوجب الوضوء
الفصل الحادي عشر: كل ما يوجب الحدث الأكبر فإنه يوجب الوضوء إذا اغتسل من وجب عليه حدث أكبر، دون أن يتوضأ أو ينوي رفع الحدث الأصغر، فهل يرتفع حدثه؟ فقيل: يرتفع حدثه، وهو مذهب الجمهور. وقيل: كل ما أوجب غسلاً أوجب وضوءاً إلا الموت فلا بد أن يتوضأ، أو ينوي رفع الحدث الأصغر، وهو المشهور من مذهب الحنابلة. وقيل: فعل الوضوء شرط في صحة الغسل من الجنابة، وهو رأي داود الظاهري. دليل الجمهور: لم يذكر الله سبحانه وتعالى الوضوء في القرآن، بل قال تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} (¬1)، ولو كان الوضوء واجباً لذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه. الدليل الثاني: (1124 - 353) ما رواه البخاري من حديث طويل، في قصة الرجل الذي أصابته جنابة ولا ماء، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: خذ هذا فأفرغه عليك (¬2). ¬
ولو كان الوضوء واجباً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - له، ولم يطلب منه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا مجرد إفراغه عليه. الدليل الثالث: (1125 - 354) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر كلهم، عن ابن عيينة. قال إسحاق: أخبرنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن، عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬1). وجه الدلالة: عبر بـ " إنما " الدالة على الحصر، واكتفى بالإفاضة ولم يذكر الوضوء. الدليل الرابع: حكى بعضهم الإجماع على عدم وجوب الوضوء. قال الحافظ في الفتح: " قام الإجماع على أن الوضوء في غسل الجنابة غير واجب " (¬2). ¬
دليل الحنابلة على وجوب الوضوء أو نيته
وقال ابن عبد البر: " الله عز وجل إنما فرض على الجنب الغسل دون الوضوء، بقوله عز وجل: {ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (¬1)، وقوله: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} (¬2) (¬3). ولا تصح دعوى الإجماع مع خلاف داود الظاهري ". دليل الحنابلة على وجوب الوضوء أو نيته. لعلهم يرون أنه إذا قام الحدث الأكبر في البدن، فقد قام الحدث الأصغر من باب أولى، فإذا لم يتوضأ، ولم ينو رفع الحدث الأصغر فإن الحدث الأصغر قائم في البدن، وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: إنما الأعمال بالنيات " وهذا لم ينو، فلم يحصل له هذا العمل، والله أعلم. دليل داود الظاهري بأن الوضوء شرط في صحة الغسل. لعل داود لظاهري رأى في قوله تعالى أن قوله سبحانه: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} ? (¬4). فقوله سبحانه: {فاطهروا} أمر، وهو مجمل، وبيانه يؤخذ من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد حافظ على الوضوء قبل الغسل، فإذا كان قوله: {فاطهروا} أمر، والأصل في الأمر الوجوب، كان ¬
الراجح من الخلاف
الفعل الذي وقع بياناً لهذا المجمل له حكم المجمل، فيكون واجباً مثله. وهذا الاستدلال ممكن أن يسلم لو أنه لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على صحة الغسل بلا وضوء، كحديث الأعرابي، وحديث أم سلمة، وقد سقناهما في أدلة الجمهور. الراجح من الخلاف. الذي يظهر والله أعلم أن موجبات الغسل لا توجب إلا الغسل، ولا توجب الوضوء، ولا نيته؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يطلب منا إلا التطهر في حال الجنابة: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬1)، ولم يوجب علينا وضوءاً، ومن غسل جميع جسمه ناوياً رفع الحدث الأكبر فقد ارتفع حدثه، وكان له أن يصلي بهذا الغسل حتى يحدث، والله أعلم. ¬
الباب الثاني: فيما يحرم على المحدث
الباب الثاني: فيما يحرم على المحدث الفصل الأول: يحرم على المحدث فعل الصلاة قال ابن حزم: الوضوء للصلاة فرض لا تجزئ الصلاة إلا به لمن وجد الماء. هذا إجماع لا خلاف فيه من أحد, وأصله قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (¬1). وقال النووي: الطهارة شرط في صحة الصلاة، هذا مجمع عليه، ولا تصح صلاة بغير طهور، إما بالماء أو بالتيمم بشرطه (¬2). وقال أيضاً: جمعت الأمة على أنه من صلى محدثا مع إمكان الوضوء فصلاته باطلة , وتجب إعادتها بالإجماع , سواء أتعمد ذلك أم نسيه أم جهله (¬3). ¬
وقال في مغني المحتاج: ويحرم بالحدث حيث لا عذر: الصلاة بأنواعها بالإجماع (¬1). وقال العراقي في شرحه لحديث: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، قال: «استدل به العلماء على اشتراط الطهارة في صحة الصلاة، وهو مجمع عليه، حكى الإجماع في ذلك جماعة من الأئمة» (¬2). مستند الإجماع: (1126 - 355) جاء في الصحيحين من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ (¬3). (1127 - 356) روى مسلم رحمه الله، قال: حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة ابن سعيد وأبو كامل الجحدري ـ واللفظ لسعيد ـ قالوا: حدثنا أبو عوانة، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، قال: دخل عبد الله بن عمر على ابن عامر يعوده، وهو مريض، فقال: ألا تدعو الله لي يا ابن عمر، قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول وكنت على البصرة (¬4). ¬
الفصل الثاني: في تحريم الطواف على المحدث
الفصل الثاني: في تحريم الطواف على المحدث اختلف الفقهاء في اشتراط الطهارة من الحدث للطواف، فقيل: الطهارة من الحدث شرط لصحة الطواف. وهو المشهور من مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: الطهارة واجبة، ويصح الطواف بدونها، وتجبر بدم. وهو الراجح عند الحنفية (¬4)، ورواية عن أحمد (¬5). وقيل: الطهارة من الحدث الأصغر سنة. وهو اختيار ابن تيمية (¬6). وقد حررنا أدلة كل قول، وبيان الراجح منها في كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية، فأغنى عن إعادته هنا. ¬
الفصل الثالث: في وجوب الوضوء من مس المصحف
الفصل الثالث: في وجوب الوضوء من مس المصحف اختلف العلماء في من يريد مس المصحف هل يشترط أن يكون على طهارة من الحدث أم لا. فقيل: يحرم على المحدث مس المصحف. وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). واختيار ابن تيمية (¬2). وقيل: تستحب له الطهارة، ولا تجب. قال البيهقي: اختارها العراقيون (¬3). ¬
وهو مذهب الظاهرية (¬1)، واختيار ابن المنذر (¬2). وقد ذكرنا أدلة كل قول، مع بيان الراجح في كتاب الحيض والنفاس، فأغنى عن إعادته هنا، والله أعلم. ¬
[الغسل]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن سار على دربهم واقتفى أثرهم، وبعد: فهذا كتاب أحكام الغسل الفقهية والحديثية، أقدمه لإخواني طلبة العلم الشرعي، ويأتي بعد أن انتهيت من أحكام الوضوء: سننه وفروضه ونواقضه وأحكام المسح على الحائل، في ثلاثة مجلدات، ولله الحمد، للنتقل من الطهارة الصغرى إلى الطهارة الكبرى بالماء، وقد اشتمل الكتاب على ما يزيد على مائة مسألة فقهية تقريباً، وبلغ عدد أحاديثه وآثاره بالمكرر: خمساً وأربعين ومائتي حديث (245)، وستكون مسائله على النحو التالي. خطة البحث: تشتمل الخطة على ستة أبواب، مقسمة إلى فصول ومباحث وفروع ومسائل على النحو التالي: الباب الأول: في موجبات الغسل. الفصل الأول: خروج المني. المبحث الأول: خروجه في اليقظة. فرع: هل يشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج. المبحث الثاني: خروج المني حال النوم. فرع: إذا التذ في نومه، ثم خرج منه المني في اليقظة من غير لذة. المبحث الثالث: في تكرار خروج المني. الفرع الأول: في الرجل يذكر احتلاماً ولم ير بللا.
الفرع الثاني: إذا رأى منياً في ثوب ينام فيه هو وغيره. الفرع الثالث: في الرجل يجامع دون الفرج، ثم يدب ماؤه، فيدخل في الفرج، ثم يخرج. الفصل الثاني: من موجبات الغسل التقاء الختانين، ولو لم يحصل إنزال. المبحث الأول: في الإيلاج في فرج امراة ميتة، أو إيلاج فرج رجل ميت في قبل امرأة. المبحث الثاني: في الإيلاج في فرج الصغيرة التي لا يوطأ مثلها. المبحث الثالث: إذا كان المجامِع أو المجامَع صغيراً فهل يجب عليه الغسل. فرع: إذا دخل ذكر النائم والمجنون ونحوهما في فرج المرأة أو العكس. المبحث الرابع: إذا أولج رجل ذكره في فرج البهيمة. المبحث الخامس: يشترط لوجوب الغسل بالإيلاج دخول كامل الحشفة. فرع: إذا قطعت الحشفة. المبحث السادس: في الإيلاج في الدبر. فرع: في إدخال الأصبع ونحوها في الفرج. المبحث السابع: إذا أولج ذكره في قبل أو دبر مع وجود حائل. الفرع الأول: إذا أولج في قبل أو دبر خنثى مشكل. الفرع الثاني: لو غيب الرجل ذكره في دبر نفسه. الفصل الثالث: في الشك في التقاء الختانين أو الشك في إنزال المني. الفصل الرابع: من موجبات الغسل إسلام الكافر.
الفصل الخامس: من موجبات الغسل موت الرجل أو تغسيله. المبحث الأول: في وجوب غسل الميت. المبحث الثاني: في الغسل من تغسيل الميت. الفصل السادس: في غسل الجمعة. المبحث الأول: خلاف أهل العلم في وجوب غسل الجمعة. المبحث الثاني: غسل الجمعة لليوم أو للصلاة. الفصل السابع: من موجبات الغسل حيض المرأة. مبحث: خلاف العلماء في الموجب للغسل. الفصل الثامن: من موجبات الغسل النفاس. الباب الثاني: في الأغسال المستحبة. الفصل الأول: الغسل للإحرام. الفصل الثاني: الغسل لدخول مكة. الفصل الثالث: الغسل من زوال العقل. الفصل الرابع: الغسل للعيدين. المبحث الأول: في وقت الغسل للعيد. المبحث الثاني: هل اغتسال العيد لليوم أو للصلاة. الفصل الخامس: الغسل يوم عرفة. الفصل السادس: في الاغتسال للوقوف بمزدلفة.
الفصل السابع: في الاغتسال لرمي الجمار. الفصل الثامن: الاغتسال لصلاة الكسوف والاستسقاء. الفصل التاسع: الغسل من الحجامة. الباب الثالث: أحكام الجنب. الفصل الأول: تحريم فعل الصلاة. الفصل الثاني: في طواف الجنب. الفصل الثالث: في مكث الجنب في المسجد. الفصل الرابع: في قراءة الجنب للقرآن. الفصل الخامس: في مس الجنب للمصحف. الفصل السادس: في صيام الجنب. مبحث: في الحائض والنفساء تطهر قبل الفجر، ولا تغتسل إلا بعد طلوع الصبح. الفصل السابع: في أذان وإقامة الجنب للصلاة. المبحث الأول: في أذان الجنب. المبحث الثاني: في إقامة الجنب للصلاة. الفصل الثامن: في نوم الجنب. الفصل التاسع: في أكل الجنب وشربه. الفصل العاشر: في استحباب الوضوء لمعاودة الوطء.
الفصل الحادي عشر: في طهارة جسد الجنب وعرقه. الفصل الثاني عشر: في انغماس الجنب في الماء الدائم. المبحث الأول: في حكم اغتسال الجنب في الماء الدائم. المبحث الثاني: أثر انغماس الجنب على الماء القليل. الفصل الثالث عشر: في ذبيحة الجنب. الباب الرابع: في آداب الغسل. الفصل الأول: عدم الإسراف في الماء مع إحكام الغسل. الفصل الثاني: من آداب الغسل: أن يستتر عن أعين الناس. المبحث الأول: في حكم ستر العورة. الفرع الأول: ستر العورة عن النظر إليها من الأجانب. الفرع الثاني: في كشف العورة بالخلوة من غير حاجة. الفرع الثالث: في كشف العورة للغسل ونحوه إذا كان خالياً. المبحث الثاني: في ساتر سائر البدن حال الغسل. المبحث الثالث: في دخول الحمام من أجل الاغتسال. المبحث الرابع: إذا دخل الحمام بنية الاغتسال، ثم شك هل اغتسل؟ الفصل الثالث: في اغتسال الرجل وزوجه من إناء واحد، وهما جنبان. الفصل الرابع: حكم التسمية في الغسل. الفصل الخامس: من آداب الغسل البداء بغسل فرجه وما أصابه من آذى قبل الاغتسال.
الفصل السادس: من آداب الغسل: غسل اليدين قبل الوضوء وقبل غسل الفرج. المبحث الأول: في محل غسل اليدين من غسل الجنابة. المبحث الثاني: هل يغسل يديه كليهما، أو اليمنى فقط لأنها آلة الغرف. المبحث الثالث: الموجب لغسل اليدين في غسل الجنابة. المبحث الرابع: في عدد غسل الكفين في ابتداء الغسل. الفصل السابع: من سنن الغسل الوضوء قبله. المبحث الأول: في حكم الوضوء في غسل الجنابة. المبحث الثاني: موضع الوضوء في غسل الجنابة. المبحث الثالث: إذا اغتسل بدون وضوء، فهل يرتفع حدثه الأصغر. المبحث الرابع: في نية الوضوء في غسل الجنابة. المبحث الخامس: في التثليث في وضوء الغسل. الفصل الثامن: في استحباب المضمضة والاستنشاق في الغسل. الفصل التاسع: في السنن الواردة في غسل الرأس. المبحث الأول: ما السنة في وضوء الغسل غسل الرأس أو مسحه. المبحث الثاني: في تخليل الشعر في غسل الجنابة، ومنه شعر الرأس. المبحث الثالث: في استحباب التثليث في غسل الرأس. المبحث الرابع: هل يوجد فرق بين الرجل والمرأة في عدد غسلات الرأس. المبحث الخامس: هل تنقض الضفائر في غسل الجنابة. المبحث السادس: في حكم المسترسل، هل يجب غسل ظاهره وباطنه.
الفصل العاشر: في استحباب التيامن في الاغتسال. الفصل الحادي عشر: في حكم تأخير غسل الرجلين. الفصل الثاني عشر: في الموالاة في غسل الجنابة. الفصل الثالث عشر: في تدليك البدن في الغسل. الباب الخامس: في فروض الغسل. الفرض الأول: الماء الطهور مع القدرة عليه. الفرض الثاني: النية. الفرض الثالث: تعميم جميع البدن بالغسل. الباب السادس: في ذكر صفة الغسل الكامل والمجزئ.
الباب الأول في موجبات الغسل
الباب الأول في موجبات الغسل الفصل الأول خروج المني المبحث الأول خروجه في اليقظة إذا خرج المني دفقاً بلذة فإنه يوجب الغسل بلا خلاف بين الفقهاء، قال الكاساني: الجنابة تثبت بأمور بعضها مجمع عليها، وبعضها مختلف فيه، أما المجمع عليها فنوعان: أحدهما: خروج المني عن شهوة دفقاً من غير إيلاج، بأي سبب حصل الخروج كاللمس والنظر والاحتلام حتى يجب الغسل بالإجماع (¬1). اهـ وقال ابن جزي: فإن خرج بلذة معتادة من الجماع فما دونه وجب الغسل إجماعاً. (¬2) وقال النووي: وقد أجمع المسلمون على وجوب الغسل على الرجل والمرأة بخروج المني (¬3). اهـ. ¬
وقال ابن قدامة: خروج المني الدافق بشهوة, يوجب الغسل من الرجل والمرأة في يقظة أو في نوم. وهو قول عامة الفقهاء. قاله الترمذي، ولا نعلم فيه خلافاً (¬1). اهـ. واختلفوا في خروج المني بدون لذة كما لو خرج لعلة من مرض أو برد ونحوهما؟. فقيل: لا يوجب الغسل إلا إذا خرج دفقاً بلذة، وهو مذهب الجمهور (¬2). وقيل: يوجب الغسل على أي صفة خرج، سواء كان بدفق أم بغيره، وسواء كان بلذة أم بغير لذة، وهو مذهب الشافعي (¬3). ¬
دليل الجمهور على اشتراط الدفق بلذة
دليل الجمهور على اشتراط الدفق بلذة. الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ} (¬1). وجه الاستدلال: أن الماء الذي يجب منه الغسل إنما هو الماء الذي يكون منه الولد، وقد ذكر الله لنا صفته، بقوله: {مِن مَّاء دَافِقٍ} فإذا خرج بدون دفق فلا يعتبر هو الماء الذي يكون منه الولد، والذي يجب به الغسل. الدليل الثاني: (1128 - 1) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبيدة بن حميد التيمي أبو عبد الرحمن، حدثني ركين، عن حصين بن قبيصة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت رجلا مذاء، فجعلت أغتسل في الشتاء حتى تشقق ظهري، قال: فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو ذكر له، قال: فقال: لا تفعل، إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك وتوضأ وضوءك للصلاة، فإذا فضخت الماء فاغتسل (¬2). ¬
وفي رواية لأحمد، عن علي قال: " كنت رجلا مذاء، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إذا حذفت فاغتسل من الجنابة، وإذا لم تكن حاذفاً فلا تغتسل " (¬1). [الحديث في الصحيحين دون ذكر هذه الزيادة، والقصة واحدة، وقد تفرد بزيادة الاغتسال بفضخ الماء أو بحذف الماء بعض الرواة، والأكثر على عدم ذكر هذه الزيادة، فهي زيادة شاذة] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل الشافعية على وجوب الغسل بخروج المني كيفما كان
قال ابن الأثير: قوله: وإذا رأيت فضخ الماء فاغتسل " أي دفقه، يريد المني (¬1). دليل الشافعية على وجوب الغسل بخروج المني كيفما كان. الدليل الأول: (1129 - 2) ما رواه مسلم، قال: حدثنا هارون بن سعيد الأيلي، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب حدثه، أن أبا سلمة بن عبد الرحمن حدثه، ¬
الدليل الثاني
عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إنما الماء من الماء (¬1). [الحديث له قصة، وهو في من جامع زوجته، ولم ينزل، وقد نسخ هذا الحكم كما سيأتي إن شاء الله تعالى] (¬2). الدليل الثاني: القياس على إيلاج الحشفة، فكما أن إيلاج الحشفة يجب به الغسل، سواء كان هذا بلذة أم بغير لذة، فكذلك نزول المني موجب للغسل، سواء كان ذلك بلذة أم بغيرها. الدليل الثالث: القياس على خروج المني حال النوم، فكما أنه يجب عليه الغسل إذا استيقظ ورأى ماء، ولو كان خروجه بدون لذة، فكذلك رؤيته حال اليقظة لا تشترط فيها اللذة. الراجح من الخلاف. الغسل بخروج المني إنما يجب بخروجه المعتاد المعروف، وهو خروجه بلذة وفي حالة الدفق، لأن خروجه على خلاف هذا لا يختلف المني فيه عن ¬
المذي، ثم إن الأصل عدم وجوب الغسل حتى نتيقن أو يغلب على ظننا وجوبه، فالأمر المتيقن هو خروجه في حالة اللذة، وذلك لأنه مجمع عليه، وما عداه فإن الأصل بقاء الطهارة، ولا ننتقل عنها إلا بيقين أو غلبة ظن راجح، والله أعلم.
فرع هل يشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج
فرع هل يشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج اختلف الفقهاء في هذه المسألة، فقيل: لا يشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج، فإذا انتقل المني من مكانه على وجه اللذة، ثم خرج بعد ذلك من غير لذة وجب عليه الغسل، وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد (¬1)، والمشهور من مذهب المالكية (¬2). وقيل: يشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج، وهو اختيار أبي يوسف رحمه الله (¬3)، وقول في مذهب المالكية (¬4). وقيل: يجب عليه الغسل إذا انتقل المني من مكانه على وجه اللذة، ولو لم يخرج، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5). ولا تأتي هذه المسألة على مذهب الشافعي رحمه الله تعالى؛ لأنه يوجب الغسل بخروج المني مطلقاً، سواء كان لشهوة أم لغير شهوة (¬6). ¬
دليل من قال يشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج
ويظهر الفرق بين هذه الأقوال فيمن احتلم، فأمسك ذكره حتى سكنت شهوته، ثم سال منه المني، وكذلك المجامع إذا اغتسل، ثم سال منه بقية المني، فمن قال: يشترط أن تكون اللذة مقارنة لظهوره من الجسد لم يشترط الغسل هنا، ومن قال: لا يشترط، أوجب الغسل، ومن لم يشترط خروج المني، واكتفى بانتقاله على وجه اللذة أوجب الغسل في المسألتين، والله أعلم. دليل من قال يشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج. قال: إذا اشترطنا وجود اللذة، فإن المعتبر بوجودها في الحال الذي يجب فيه الغسل، والغسل إنما يجب بخروج المني، لا في انتقاله من مكانه، فإذا كان حال خروجه غير مصحوب بلذة لم يجب الغسل، لأنه في هذه الحالة لا فرق بين خروج المني وخروج المذي، فإن خروج المذي يخرج بعد انكسار الشهوة، ومع ذلك لا يجب فيه غسل. دليل من اشترط أن تكون اللذة حال انتقال المني، ولو لم تكن مقارنة للخروج. قال: الوجوب مبني على أمرين: خروج المني، ووجود اللذة، فإذا وجدت اللذة حال انتقال المني من مكانه، ثم خرج المني بعد ذلك فقد وجد موجب الغسل، وهو خروج المني بسبب الشهوة، ولا فرق بين أن تكون اللذة مقارنة أو غير مقارنة. وصدق عليه حديث أم سلمة " هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال: نعم إذا هي رأت الماء ".
دليل من قال: يكفي وجود الشهوة حال انتقال المني ولو لم يخرج المني
دليل من قال: يكفي وجود الشهوة حال انتقال المني ولو لم يخرج المني. قالوا: الغسل يجب بوجود الجنابة، وحقيقة الجنابة: هي تباعد الماء عن مكانه مع وجود الشهوة، هذا أصلها في اللغة قال تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} (¬1)، أي البعيد، فإذا انتقل الماء ولو لم يخرج فقد باعد الماء محله، فصدق عليه اسم الجنب، وبالتالي وجب الغسل لوجود الجنابة. وهذا أضعف الأقوال؛ لأن المعتبر في الأحداث ليس انتقالها، وإنما ظهورها، فالريح والبول والغائط والمذي وسائر الأحداث لا عبرة بانتقالها من مكانها حتى تخرج من البدن، فإذا خرجت بطلت الطهارة، فكذلك المني. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علق وجوب الاغتسال بالرؤية. قال ابن قدامة: " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - علق الاغتسال على الرؤية، وفضخه، بقوله: " إذا رأت الماء " وقوله: " إذا فضخت الماء فاغتسل " فلا يثبت الحكم بدونه، وما ذكره من الاشتقاق لا يصح ; لأنه يجوز أن يسمى جنبا لمجانبته الماء , ولا يحصل إلا بخروجه منه أو لمجانبته الصلاة أو المسجد أو غيرهما مما منع منه, ولو سمي بذلك مع الخروج لم يلزمه وجود التسمية من غير خروج , فإن الاشتقاق لا يلزم منه الاطراد, ومراعاة الشهوة للحكم لا يلزم منه استقلالها به, فإن أحد وصفي العلة وشرط الحكم مراعى له, ولا يستقل بالحكم , ثم يبطل بلمس النساء , وبما إذا وجدت الشهوة هاهنا من غير انتقال; فإن الشهوة لا تستقل بالحكم في الموضعين مع مراعاتها فيه, وكلام أحمد هاهنا إنما يدل على أن الماء إذا انتقل, لزم منه الخروج. وإنما يتأخر, ¬
الراجح من الخلاف
ولذلك يتأخر الغسل إلى حين خروجه، الخ كلامه رحمه الله تعالى (¬1). الراجح من الخلاف: الراجح، والله أعلم أن الغسل يجب بخروج المني دفقاً بلذة، فإذا تخلف ذلك، فإن كان المانع من قبل الإنسان، بأن أمسك ذكره حتى لا يخرج المني على وجه الدفق، ثم خرج المني بعد ذلك، فإن الغسل يجب عليه، وإن كان المانع ليس من كسب الإنسان، فقد تخلف موجب الغسل، وهو خروجه دفقاً بلذة، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني خروج المني حال النوم
المبحث الثاني خروج المني حال النوم إذا استيقظ من النوم فرأى بللاً في ثوبه فله ثلاث حالات. الأولى: أن يتيقن أنه مني، فهنا يجب عليه الغسل ذكر احتلاماً أو لم يذكر، ولا يشترط أن يكون خروجه دفقاً أو بلذة (¬1)؛ لأن الإنسان في حالة النوم قد يخرج منه المني، وهو لا يشعر. ودليل هذا القول: (1130 - 3) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة أم المؤمنين أنها قالت: جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم إذا رأت الماء. ورواه مسلم (¬2). فلم يشترط لوجوب الغسل إلا رؤية الماء. ¬
الثانية
الحالة الثانية: إذا تيقن أنه مذي. فقيل: يجب عليه الغسل مطلقاً ذكر احتلاماً أو لم يذكر، وهو قول أبي حنيفة ومحمد (¬1). ووجهه، قالوا: إن المني يرق بإطالة المدة، فتصير صورته صورة المذي، لا حقيقة المذي. فإن قيل: كيف توجبون الغسل في خروج المذي؟ أجاب ابن الهمام: لو تيقن أنه مذي لا يجب الغسل اتفاقاً، لكن التيقن متعذر مع النوم (¬2). ونقل ابن نجيم عن الخلاصة قوله: " ولسنا نوجب الغسل بالمذي، لكن المني يرق بإطالة المدة فتصير صورته صورة المذي، لا حقيقة المذي " (¬3). وقيل: إذا لم يذكر احتلاماً لم يجب عليه الغسل، وهو قول أبي يوسف (¬4). ¬
الثالثة
وقيل: لا يجب عليه الغسل مطلقاً ذكر احتلاماً أو لم يذكر، وهو مذهب الجمهور (¬1). ودليله ظاهر، وذلك أن المذي لا يوجب الغسل، وقد أرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى غسل ذكره، والوضوء منه، فقط كما في قصة علي ابن أبي طالب رضي الله عنه. وقد تقدم ذكره وتخريجه. الحالة الثالثة: أن يشك هل هو مني أو مذي؟ فقيل: إذا شك هل هو مني أو مذي، وذكر احتلاماً فإنه يجب عليه الغسل قولاً واحداً في مذهب الحنفية (¬2). وإذا شك، ولم يذكر احتلاماً، فإنه يجب عليه الغسل عند أبي حنيفة ومحمد، ولا يجب عند أبي يوسف (¬3). وقيل: يجيب عليه الغسل مطلقاً مع الشك، وهو مذهب المالكية (¬4). ¬
الراجح
وقيل: لا يجب عليه الغسل مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (¬1). وقيل: إذا رأى بللاً وجهل كونه منياً، فإن لم يتقدم نومه سبب من نظر أو فكر أو ملاعبة أو انتشار وجب عليه الغسل، وإن تقدم نومه سبب مما سبق لم يجب عليه الغسل، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2). والراجح: أنه لا يجب عليه الغسل مع الشك حتى يتيقن موجب الغسل، أو يغلب على ظنه؛ لأن القاعدة: أن الشك لا يقضي على اليقين. ¬
فرع إذا التذ في نومه ثم خرج منه المني في اليقظة من غير لذة اختلف الفقهاء في هذه المسألة، هل يجب عليه الغسل؟ فقيل: يجب، وهو قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن (¬1)، وأشهر القولين في مذهب المالكية (¬2)، ومذهب الشافعية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: لا يجب، وهو قول أبي يوسف، وقول في مذهب المالكية (¬5). وأدلة هذه المسألة هي الأدلة نفسها والتي ذكرناها في مسألة سابقة: وهي هل يشترط أن تكون اللذة مقارنة للخروج، أو يكفي أن يجد اللذة حال انتقال المني، فإذا خرج بعد ذلك المني ولو بدون شهوة فقد وجب الغسل؟ وما دمنا قد ذكرنا الأدلة في تلك المسألة فلا حاجة إلى إعادتها هنا، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في تكرار خروج المني
المبحث الثالث في تكرار خروج المني إذا اغتسل ثم خرج المني منه مرة ثانية، فهل يعيد الاغتسال؟ فقيل: لا يجب الغسل، وهو مذهب المالكية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يجب الغسل، وهو مذهب الشافعية (¬3)، وقول في مذهب أحمد (¬4). وقيل: يجب إذا خرج قبل البول أو النوم أو المشي الكثير، فإن خرج بعد البول أو النوم أو المشي الكثير لم يجب، وهو مذهب الحنفية (¬5). وقيل: عكسه، أي يجب الغسل إن خرج بعد البول، فإن خرج قبل البول لم يجب به غسل، وهو مذهب الأوزاعي (¬6). دليل القائلين بعدم وجوب الغسل. ذكروا لحجتهم أكثر من تعليلك ¬
دليل من قال: يجب عليه الغسل مطلقا
منها: أن هذا مني واحد، يوجب غسلاً واحداً، كما لو خرج دفعة واحدة ومنها: أنه خارج لغير شهوة، وإنما يجب الغسل بخروج المني لشهوة، وبه علل أحمد: قال: لأن الشهوة ماضية، وإنما هو حدث أرجو أن يجزيه الوضوء (¬1). دليل من قال: يجب عليه الغسل مطلقاً. الدليل الأول: عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الماء من الماء " فلم يفرق بين ماء وآخر. وأجيب: بأن مطلق قوله - صلى الله عليه وسلم - الماء من الماء غير مراد، بدليل أن الرجل لو أولج ذكره في قبل امرأة حتى التقى الختانان وجب عليهما الغسل، وإن لم يكن هناك ماء منهما، فالمراد من قوله - صلى الله عليه وسلم -: الماء من الماء، هو جواب على سؤال، وهو إذا احتلمت المرأة في المنام، فهل يجب عليها الغسل بمجرد الاحتلام، فقال - صلى الله عليه وسلم -: الماء من الماء. وكذلك قاله - صلى الله عليه وسلم - في أول الإسلام لمن جامع امرأته، ثم نزع قبل أن ينزل، وقد نسخ هذا الأمر بعد، وصار الغسل واجباً بالتقاء الختانين، كما سيأتي بحثه إن شاء الله تعالى في مسألة مستقلة، والله أعلم. الدليل الثاني: ولأن هذا ماء آدمي خرج من محله، فأوجب الغسل، كما لو خرج ابتداء. ولأن ما أوجب الغسل في الأول أوجبه في الثانية بلا فرق. ¬
دليل من قال: يجب عليه الغسل إن خرج قبل البول
وقد أجيب: بأن الغسل إنما يجب بخروجه دفقاً بلذة، كما سبق التدليل على ذلك، وهذا ما لم يوجد مع الماء الثاني. دليل من قال: يجب عليه الغسل إن خرج قبل البول. قالوا: إن خرج بعد البول، فإن هذا ماء جديد لا علاقة له بالماء الأول، وقد خرج بدون شهوة، فلا يجب به غسل، وإن خرج قبل البول فهو جزء من الماء السابق، وقد خرج مع الشهوة فيوجب غسلاً جديداً. دليل من قال: يجب عليه الغسل إن خرج بعد البول. عكسوا التعليل السابق، فقالوا: إن ما قبل البول هو من المني الأول، وكفاه الغسل الأول، وما بعد البول هو مني ثان، فلزمه غسل ثان. الراجح من الخلاف: القول بعدم وجوب الغسل مرة أخرى، لأنه موجب واحد، لم يتعدد، وقد اغتسل له، فلا يوجب غسلين، ولأنه بقية الماء السابق، وقد خرج بدون شهوة، فيكتفى في الغسل الأول، والله أعلم.
الفرع الأول في الرجل يذكر احتلاما ولم ير بللا
الفرع الأول في الرجل يذكر احتلاماً ولم ير بللاً اختلف العلماء فيمن رأى احتلاماً ولم ير بللاً، فقيل: لا يجب عليه الغسل، وهو قول عامة أهل العلم (¬1). قال الترمذي: إذا رأى احتلاماً ولم يرى بلة، فلا غسل عليه عند عامة أهل العلم (¬2). وقيل: يجب عليه الغسل، وهو رواية عن أحمد (¬3). وقيل: يجب على المرأة دون الرجل، وهو قول في مذهب الحنفية (¬4). ¬
دليل القائلين بعدم وجوب الغسل
دليل القائلين بعدم وجوب الغسل. الدليل الأول: الإجماع، قال ابن المنذر: " أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا رأى في نومه أنه احتلم أو جامع، ولم يجد بللاً، أنه لا غسل عليه (¬1). وقال ابن الهمام: ولو تذكر الاحتلام والشهوة، ولم ير بللاً لا يجب اتفاقاً (¬2). وسبق أن نقلت لك خلافاً في المسألة في معرض ذكر الأقوال، فتكون حكاية الإجماع فيها نظر، والله أعلم. الدليل الثاني: (1131 - 4) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة أم المؤمنين، أنها قالت: جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم إذا رأت الماء، ورواه مسلم (¬3). وجه الاستدلال: لم يوجب عليه الصلاة والسلام الغسل بمجرد الاحتلام، وإنما شرط رؤية الماء. ¬
دليل من قال: يجب عليه الغسل
دليل من قال: يجب عليه الغسل. استدلوا بما استدلوا به في مسألة سابقة، من وجوب الغسل على الرجل في انتقال المني من محله، ولو لم يخرج، وقد أجيب على دليلهم هناك، وتبين ضعف هذا الدليل، وما بني على دليل ضعيف فهو ضعيف، ويضاف إليه أنه على التسليم بوجوب الغسل بمجرد انتقال المني، فإنه هنا قد لا يتحقق انتقال المني بمجرد ذكر الاحتلام، ووجود اللذة في النوم، فقد يجد النائم كل ذلك ولا ينتقل المني من مكانه، والله أعلم. دليل من فرق بين الرجل والمرأة. قالوا: إن ماء المرأة لا يكون دافقاً كالرجل، وبالتالي قد يوجد منها الماء، ولا يخرج، فإذا وجدت شهوة الإنزال كان عليها الغسل (¬1). وهذا التعليل ضعيف، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سئل: هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم إذا رأت الماء. وسبق تخريجه قبل قليل. فعلق الاغتسال على الرؤية، وهي لا تراه إلا إذا خرج منها، فإذا لم يخرج منها لم يجب عليها الغسل. وقال ابن الهمام: المراد بالرؤية العلم مطلقاً، بدليل أنها لو تيقنت الإنزال بأن استيقظت في فور الاحتلام، فأحست بيدها البلل، ثم نامت فما استيقظت حتى جف، فلم تر بعينها شيئاً لا يسع القول بأن لا غسل عليها، مع أنه لا رؤية بصر، بل رؤية علم، ورأى يستعمل حقيقة في معتى علم باتفاق اللغة (¬2). ¬
ويجاب عن هذا القول: بأن رأى البصرية غير رأى بمعنى علم، فالأولى تتعدى إلى مفعول واحد، والثانية تتعدى إلى مفعولين، وعليه فرأى في الحديث بصرية، وليست علمية، والاعتراض الذي ساقه ابن الهمام لا يعارض الحديث، فإن الإنسان إذا حس المني بيده صار كمن رأه في عينه، وليست المسألة ظاهرية بحته، المهم أن يتحقق من خروج المني بيده كالأعمى، أو بعينه، ولكن أين الدليل على وجوب الغسل على امرأة لم يخرج منها الماء يقيناً، ولم تحسه مطلقاً لا في يدها ولا في عينها، وإنما وجدت اللذة فقط، وإذا كان ابن الهمام ينقل الإجماع على أن الرجل لا بد أن يرى الماء، ولا يكفي الإحساس باللذة، فكذلك المرأة، بل المرأة ورد فيها نص نبوي بخلاف الرجل، والله أعلم.
الفرع الثاني إذا رأى منيا في ثوب ينام فيه هو وغيره
الفرع الثاني إذا رأى منياً في ثوب ينام فيه هو وغيره اختلف الفقهاء في هذه المسألة، فقيل: يجب الغسل عليهما، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يندب الغسل في حقهما، ولا يجب، وهو اختيار ابن العربي من المالكية (¬2). وقيل: يجب الغسل عليهما إن كانا غير زوجين، وإن كانا زوجين اغتسل الزوج فقط، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬3). وقيل: لا غسل على واحد منهما، وهذا مذهب الشافعية (¬4)، ¬
دليل من قال بوجوب الغسل عليهما
والحنابلة (¬1)، وقول في مذهب الحنفية (¬2). دليل من قال بوجوب الغسل عليهما. الطهارة شرط في صحة الصلاة، ولا بد من تيقن تحققها، فإذا رأى المني في ثوبهما لم يتحقق كل واحد منهما من تحقيق الطهارة، وأصبحت طهارة كل واحد منهما مشكوكاً فيها؛ لاحتمال أن يكون الماء منه، ولا بد من اليقين في قيام الطهارة، ولذا وجب الغسل عليهما. دليل من قال: لا يجب الغسل على واحد منهما. قدم تعليلاً عكس التعليل السابق، فقال: الطهارة متيقنة، والحدث مشكوك فيه، والشك لا يقضي على اليقين، فنستصحب اليقين حتى نتيقن زواله، ولهذه القاعدة دليل صحيح صريح من السنة، (1132 - 5) بما رواه البخاري، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب ح وعن عباد بن تميم، عن عمه أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً (¬3). ¬
دليل من قال: إن كانا زوجين وجب الغسل على الزوج
دليل من قال: إن كانا زوجين وجب الغسل على الزوج. قالوا: أوجبنا الغسل على الرجل دون المرأة؛ عملاً بالغالب، وهو أن الرجل هو الذي يخرج ماؤه غالباً إلى ثوبه مع الاحتلام دون المرأة. وهذا التعليل عليل، وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين سئل، هل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال: نعم، إذا رأت الماء، فالحديث له منطوق ومفهوم: منطوقه: أن الغسل واجب على المرأة إذا رأت الماء، ومفهومه: أن الغسل غير واجب عليها إذا لم تر الماء، فكيف نقول: إن المرأة ممكن أن تحتلم، ويجب عليها الغسل، ولا يظهر منها الماء الموجب لذلك. دليل من قال: يستحب الغسل منهما. أن وجود المني على الثوب دليل على أن أحدهما محدث لا بعينه، فلا يجب الغسل على واحد منهما، لعدم التعيين، ولكن قد تيقن موجب الطهارة من أحدهما لا بعينه، ولهذا يذهب بعضهم إلى أنه لا يأتم أحدهما بالآخر كما لو سمعا ريحاً من أحدهما ولا يعلم من أيهما، فيستحب الاغتسال منهما حتى نتيقن حصول الطهارة منهما، وحتى نخرج من خلاف العلماء، والله أعلم. الراجح: أن الطهارة ليست واجبة، والاستحباب دليل شرعي يفتقر إلى دليل شرعي، والأصل بقاء الطهارة، وعدم الحدث حتى نتيقن حصوله من أحدهما، والله أعلم.
الفرع الثالث في الرجل يجامع دون الفرج ثم يدب ماؤه فيدخل في الفرج ثم يخرج
الفرع الثالث في الرجل يجامع دون الفرج ثم يدب ماؤه فيدخل في الفرج ثم يخرج إذا جامع الزوج دون الفرج ثم دب ماءه فدخل في فرج المرأة، ثم خرج منها فهل يوجب ذلك غسلاً، اختلف العلماء في هذا، فقيل: لا غسل عليه إلا أن يظهر عليها الحبل من هذا الماء، وهو مذهب الحنفية (¬1)، واختاره بعض المالكية (¬2). وقيل: لا غسل عليها مطلقاً، اختاره بعض المالكية (¬3)، وهو مذهب الشافعية (¬4)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬5)، واختاره ابن حزم رحمه الله تعالى (¬6). وقيل: عليها الغسل بشرط أن يحصل منها لذة بذلك، وهو قول في مذهب المالكية (¬7). ¬
دليل من قال: لا غسل عليها
وقيل: عليها الغسل بشرط أن يخرج من الفرج بعد دخوله، وهو قول في مذهب الحنفية (¬1)، وهو وجه في مذهبي الشافعية (¬2)، والحنابلة، اختاره ابن عقيل (¬3)، وهو مروي عن عطاء والزهري وقتادة (¬4). تعليل الحنفية: أن الحبل منها دليل على أنها قد حصل منها إنزال؛ لأن الولد يخلق من مائهما. ويجاب عن هذا: بأن هذا الاعتقاد بأن الجنين يخلق من ماء المرأة والرجل رأيته في بعض كتب فقه الحنفية والمالكية، والطب قد حسم هذه المسألة، وثبت له أن الولد إنما يخلق من ماء الرجل وبويضة المرأة، وليس لماء المرأة أي دور في تخلق الجنين بإذن الله تعالى، فإذا صادف جماع الرجل نزول البويضة حبلت، سواء أنزلت أم لم تنزل، وإذا لم يصادف ذلك نزول البويضة لم تحبل، ولو أنزلت، وهذا الأمر أصبح من الحقائق الطبية. دليل من قال: لا غسل عليها: بأن الغسل إنما يجب بخروج مائها، أو بإيلاج الذكر، ولم يحصل منها ¬
دليل من قال: يجب عليها الغسل
إنزال ولم يحدث إيلاج، فلم يجب الغسل، وخروج هذا الماء الأجنبي منها شأنه شأن خروج ماء الاستنجاء ونحوه، وآخر ما يمكن أن يلحق به هو البول، لا غير، والله أعلم. دليل من قال: يجب عليها الغسل. لعله نظر إلى أن موجب الحدث هو خروج المني من فرج المرأة، والمقصود مطلق المني، سواء كان منها أو من غيرها. وهذا التعليل ضعيف جداً؛ لأن مرور الماء من المخرج ليس هو الموجب، للغسل، ولذلك لم يوجب الغسل خروج دم الاستحاضة، مع أنه دم خارج من المرأة نفسها، وإنما الموجب خروج الماء على صفة مخصوصة توجب فتور البدن وانكسار الشهوة، فلو خرج ماؤها على غير هذه الصفة لم يوجب الغسل كما بينا حتى يكون خروجه على وجه اللذة، فكيف بخروج ماء غيرها، والله أعلم. دليل من اشترط اللذة. قال: إن اللذة قد يحصل منها إنزال في الغالب، وهي لا تدري، فأقيمت اللذة مقام تحقق نزول المني، لكون اللذة هي سبب الإنزال. وهذا القول ضعيف أيضاً، ولا يوجد دليل من السنة أن اللذة من موجبات الغسل، وقد تحصل اللذة ولا يحصل الإنزال، وقد علق الرسول صلى الله عليه وسلم وجوب الغسل برؤية الماء، فقال لأم سليم حين سألته هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت، فقال: نعم، إذا رأت الماء، والله أعلم.
الفصل الثاني من موجبات الغسل التقاء الختانين ولو لم يحصل إنزال
الفصل الثاني من موجبات الغسل التقاء الختانين ولو لم يحصل إنزال إذا التقى الختانان، فهل يوجب هذا الغسل؟ اختلف العلماء في ذلك، فقيل: يوجب الغسل، وهو مذهب الأئمة (¬1). قال الترمذي: وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعائشة، والفقهاء من التابعين ومن بعدهم: مثل سفيان الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، قالوا: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل (¬2). اهـ وقيل: لا يوجب الغسل، اختاره جمع من الصحابة والتابعين (¬3)، وهو مذهب داود الظاهري (¬4)، وقال البخاري: الغسل أحوط، فلعله لا يرى الوجوب (¬5). ¬
*
وسبب الخلاف في ذلك: ما جاء من النصوص الصحيحة الصريحة في عدم إيجاب الغسل من مجرد الإيلاج حتى يحصل إنزال، وقد قيل: إن هذا الحكم كان في أول الإسلام، ثم نسخ هذا الحكم بالأمر بالغسل بالتقاء الختانين، ولو لم يكن إنزال، فمن بلغه النسخ أخذ به، ومن لم يبلغه النسخ، لم يوجب الغسل حتى يحصل الإنزال، وإليك أدلة كل قول. دليل من قال: لا يجب الغسل بالتقاء الختانين حتى ينْزل. الدليل الأول: (1133 - 6) ما رواه البخاري من طريق يحيى بن أبي كثير، قال: أخبرني أبو سلمة، أن عطاء بن يسار أخبره، أن زيد بن خالد الجهني أخبره، أنه سأل عثمان بن عفان فقال: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته فلم يمن؟ قال: عثمان يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره، قال عثمان: سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألت عن ذلك علي بن أبي طالب، ¬
والزبير ابن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وأبي بن كعب رضي الله عنهم، فأمروه بذلك. قال يحيى: وأخبرني أبو سلمة، أن عروة بن الزبير أخبره، أن أبا أيوب أخبره، أنه سمع ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه مسلم أيضاً (¬1). فهذان حديثان مسندان، عن عثمان وأبي أيوب، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صريحان في عدم إيجاب الغسل على من جامع، ولم ينزل. وأجيب عن هذا بجوابين: الأول: انفراد يحيى بن أبي كثير بهذا الحديث. قال ابن عبد البر: هو حديث انفرد به يحيى بن أبي كثير، وقد جاء عن عثمان وعلي وأبي بن كعب ما يدفعه من نقل الثقات الأثبات ويعارضه، وقد دفعه جماعة منهم: أحمد بن حنبل وغيره، وقال علي وأبي بخلافه قال يعقوب بن شيبة: سمعت علي بن المديني وذكر حديث يحيى بن أبي كثير هذا، فقال: إسناده جيد، ولكنه حديث شاذ، قال: وقد روي عن عثمان، وعلي، وأبي بن كعب، أنهم أفتوا بخلافه ثم قال: وقال الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل حديث حسين المعلم، عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن خالد، قال: سألت خمسة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وأبي بن كعب، فقالوا: الماء من الماء، فيه علة تدفعه بها؟ قال: نعم؛ بما يروى عنهم من خلافه، قلت: عن عثمان، وعلي، وأبي بن كعب؟ قال: نعم. ¬
والحق أن الأحاديث في هذا الباب كثيرة، قال الحافظ ابن حجر: وفي الباب عدة أحاديث في عدم الإيجاب (¬1). قلت: منها ما رواه البخاري ومسلم من طريق عروة، عن أبي أيوب، عن أبي بن كعب مرفوعاً. ومنها ما رواه البخاري ومسلم من طريق أبي صالح السمان، عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً. وكل هذه الأحاديث في الصحيحين، وسوف نأتي إن شاء الله تعالى على ذكر هذه المتون، ولو لم يرد في هذا الباب إلا حديث يحيى ابن أبي كثير لقيل ربما يكون معلولاً بالتفرد، وربما يحمل كلام الإمام أحمد على الترجيح بينها، وليس مراده الحكم بوهم الراوي فيما روى. قال الحافظ ابن حجر: وقد حكى الأثرم، عن أحمد أن حديث زيد بن خالد المذكور في هذا الباب معلول؛ لأنه ثبت عن هؤلاء الخمسة الفتوى بخلاف ما في هذا الحديث، وقد حكى يعقوب بن شيبة، عن علي بن المديني أنه شاذ، والجواب عن ذلك أن الحديث ثابت من جهة اتصال إسناده، وحفظ رواته، وقد روى ابن عيينة أيضا، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار نحو رواية أبي سلمة، عن عطاء، أخرجه ابن أبي شيبة وغيره، فليس هو فرداً، وأما كونهم أفتوا بخلافه فلا يقدح ذلك في صحته؛ لاحتمال أنه ثبت عندهم ناسخه فذهبوا إليه، وكم من حديث منسوخ، وهو صحيح من حيث الصناعة الحديثية. اهـ (¬2). ¬
الدليل الثاني
وقد ثبت الخلاف بين الصحابة في هذه المسألة بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما رواه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري، عن عائشة. كما ثبت الخلاف بعد الصحابة من التابعين، رحمهم الله تعالى، والله أعلم. الجواب الثاني: أن هذا الحديث كان في أول الإسلام، ثم نسخ في إيجاب الغسل بالتقاء الختانين وإن لم ينزل. وسوف أسوق إن شاء الله تعالى في أدلة القول الثاني ما ورد في هذا الباب. الدليل الثاني: (1134 - 7) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، قال: أخبرني أبي، قال: أخبرني أبو أيوب، قال: أخبرني أبي بن كعب أنه قال: يا رسول الله إذا جامع الرجل المرأة فلم ينْزل؟ قال: يغسل ما مس المرأة منه، ثم يتوضأ ويصلي (¬1). وأخرجه مسلم أيضاً. الدليل الثالث: (1135 - 8) ما رواه البخاري من طريق النضر، قال: أخبرنا شعبة، عن الحكم، عن ذكوان أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى رجل من الأنصار، فجاء، ورأسه يقطر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لعلنا أعجلناك؟ فقال: نعم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أعجلت أو قحطت فعليك الوضوء. ¬
قال البخاري: تابعه وهب، قال: حدثنا شعبة، قال أبو عبد الله: ولم يقل غندر ويحيى، عن شعبة الوضوء. ورواه مسلم أيضاً (¬1). (1136 - 9) وفي رواية لمسلم من طريق عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، قال: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين إلى قباء، حتى إذا كنا في بني سالم وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على باب عتبان، فصرخ به، فخرج يجر إزاره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعجلنا الرجل. فقال عتبان: يا رسول الله أرأيت الرجل يعجل عن امرأته، ولم يمن ماذا عليه؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما الماء من الماء (¬2). وأجيب عنه بجوابين: الأول: قال ابن عبد البر: هذا إسناد صحيح من جهة النقل ثابت، ولكنه يحتمل التأويل؛ لأن قوله (الماء من الماء) ليس فيه ما يدفع الماء من التقاء الختانين؛ لأن من أوجب الغسل من التقاء الختانين يقول: الماء من الماء ومن التقاء الختانين أيضا، فهي زيادة حكم (¬3). ويجاب عن هذا: بأن هناك فرقاً بين قولنا: الماء من الماء، وبين قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنما الماء من الماء. فاللفظ الثاني يدل على الحصر، بطريقة النفي والإثبات، لأن معناه: لا ماء واجب إلا من الماء النازل، بخلاف قولنا: الماء من الماء، فهو لا يمنع الزيادة. ¬
الجواب الثاني: قالوا: إن المراد " الماء من الماء " في الاحتلام لا في اليقظة، وهذا مجمع عليه، فيمن رأى أنه يجامع ولم ينزل أنه لا غسل عليه، وقد روي مثل ذلك عن ابن عباس. (1137 - 10) فقد روى الترمذي رحمه الله، من طريق شريك، عن أبي الجحاف، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: إنما الماء من الماء في الاحتلام. قال أبو عيسى: سمعت الجارود يقول: سمعت وكيعاً يقول: لم نجد هذا الحديث إلا عند شريك (¬1). [ضعيف الإسناد] (¬2). وأجيب: أولاً: ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما ضعيف، لا يثبت من جهة الإسناد. ثانياً: حديث أبي سعيد الخدري يأباه، فقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - جواباً على سؤال من عتبان، وقد اغتسل عتبان قبل أن ينزل، فقال عتبان: يا رسول الله أرأيت الرجل يعجل عن امرأته، ولم يمن، ماذا عليه؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما ¬
دليل من قال: يجب الغسل بالتقاء الختانين ولو لم ينزل
الماء من الماء. رواه مسلم، وسبق تخريجه. فهذا دليل على أن حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: إنما الماء من الماء ليس خاصاً في الاحتلام، بل هو محكم في النائم واليقظان. (1138 - 11) ثالثاً: أن ما وراه البخاري ومسلم وتقدم لفظه، عن زيد ابن خالد الجهني، أنه سأل عثمان بن عفان فقال: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته فلم يمن، قال: عثمان يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره، قال عثمان: سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألت عن ذلك علي بن أبي طالب والزبير ابن العوام وطلحة بن عبيد الله وأبي بن كعب رضي الله عنهم فأمروه بذلك. سبق تخريجه. فقوله: إذا جامع الرجل امرأته، ولم يمن صريح في إنه قد وقع الجماع، فليس الحديث عن الاحتلام، ولا عن المباشرة فيما دون الجماع. دليل من قال: يجب الغسل بالتقاء الختانين ولو لم ينْزل. لهم أدلة تنص على وجوب الغسل بالتقاء الختانين ولو لم يحصل إنزال، وأدلة تنص على نسخ الحكم الأول من كون الغسل لا يجب بالإكسال، أما الأدلة التي تذكر وجوب الغسل بالتقاء الختانين، فمنها: الدليل الأول: (1139 - 12) ما رواه البخاري من طريق قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها فقد وجب الغسل. وأخرجه مسلم أيضاً (¬1). ¬
وأجيب: بأن الحديث ليس صريحاً في وجوب الغسل بمجرد التقاء الختانين، لأن قوله " ثم جهدها " يحتمل أنه أراد بالجهد الإنزال، لأنه هو الغاية في الأمر، فلا يكون فيه دليل. وأجيب: بأنه قد رواه مسلم من طريق مطر، عن الحسن به، وزاد: وإن لم ينْزل (¬1). بل وقع التصريح حتى في بعض طرق قتادة (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1140 - 13) ما رواه مسلم من طريق هشام، عن حميد بن هلال، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق، أو من الماء. وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل. قال: قال أبو موسى: فأنا أشفيكم من ذلك، فقمت فاستأذنت على عائشة، فأذن لي، فقلت لها: يا أماه أو يا أم المؤمنين إني أريد أن أسألك عن شيء، وإني أستحييك، فقالت: لا تستحيي أن تسألني عما كنت سائلا عنه أمك التي ولدتك، ¬
فإنما أنا أمك. قلت فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان فقد وجب الغسل (¬1). ورواه مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أنا أبا موسى أتى عائشة فذكر نحوه موقوفاً على عائشة، وقال أبو موسى في آخره: لا أسأل عن هذا أحداً بعدك أبداً (¬2). [اختلف على عائشة في وقفه ورفعه، والطرق الموقوفة أقوى، إلا أن الموقوف له حكم الرفع] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
قال ابن عبد البر: وهذا الحديث يدخل في المسند بالمعنى والنظر؛ لأنه محال أن ترى عائشة نفسها في رأيها حجة على غيرها من الصحابة حين اختلافهم في هذه المسألة النازلة بينهم، ومحال أن يسلم أبو موسى لعائشة قولها من رأيها في مسألة قد خالفها فيها من الصحابة غيرها برأيه؛ لأن كل واحد ليس بحجة على صاحبه عند التنازع؛ لأنهم أمروا إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يدلك على أن تسليم أبي موسى لعائشة في هذه المسألة إنما كان من أجل أن علم ذلك كان عندها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلذلك سلم لها؛ إذ هي أولى بعلم مثل ذلك من غيرها (¬1). قلت: وقولها: على الخبير سقطت إشارة إلى أنها لا تتكلم إلا عن علم فإن معنى خبر الأمر أي علمه والخُبْرُ بالضم: هو العلم بالشيء، والخَبِيرُ العالم (¬2). ¬
الدليل الثالث
وأما الأدلة التي تصرح أن عدم الغسل كان في أول الأمر ثم نسخ، فمنها: الدليل الثالث: (1141 - 14) روى أبو داود، قال: حدثنا محمد بن مهران البزاز الرازي، حدثنا مبشر الحلبي، عن محمد أبي غسان، عن أبي حازم، عن سهل ابن سعد، حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يفتون أن الماء من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله في بدء الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعد (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (1142 - 15) ما رواه ابن حبان، من طريق الحسين بن عمران، عن الزهري، قال: سألت عروة عن الذي يجامع ولا ينزل، قال: على الناس أن يأخذوا بالآخر والآخر من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حدثتني عائشة ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك ولا يغتسل، وذلك قبل فتح مكة، ثم اغتسل بعد ذلك، وأمر الناس بالغسل (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (1143 - 16) ما رواه أحمد، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا رشدين بن سعد، عن موسى بن أيوب الغافقي، عن بعض ولد رافع بن خديج، عن رافع بن خديج قال: ناداني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا على بطن امرأتي، فقمت، ولم أنزل، فاغتسلت، وخرجت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته أنك دعوتني، وأنا على بطن امرأتي، فقمت ولم أنزل، فاغتسلت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا عليك، الماء من الماء. قال رافع: ثم أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك بالغسل (¬1). [إ سناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: أن بعض من كان يرى عدم وجوب الغسل إلا بالإنزال قد رجع إلى وجوب الغسل، وهذا يدل على أنه ثبت عنده ما يدل على نسخ حكم إنما الماء من الماء. (1144 - 17) فمنها ما رواه مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن كعب مولى عثمان بن عفان، أن محمود بن لبيد الأنصاري سأل زيد بن ثابت عن الرجل يصيب أهله ثم يكسل ولا ينزل؟ فقال زيد: يغتسل. فقال له محمود: إن أبي بن كعب كان لا يرى الغسل. فقال له زيد بن ثابت: إن أبي ابن كعب نزع عن ذلك قبل أن يموت (¬1). [إسناده صحيح، إن كان عبد الله بن كعب مولى عثمان سمعه من محمود بن لبيد الأنصاري] (¬2). ¬
الدليل السابع
قال الشافعي: لا أحسبه تركه إلا أنه ثبت له أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بعده ما نسخه (¬1). اهـ وقال البيهقي: قول أبي بن كعب الماء من الماء، ثم نزوعه عنه، يدل على أنه ثبت له أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال بعدُ ما نسخه، وكذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب (¬2). الدليل السابع: (1145 - 18) ومنها ما رواه مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل (¬3). [سعيد بن المسيب قد سمع من عثمان، ومات عمر وله ثمان سنوات، وهو من أعلم الناس بقضاء عمر، وعلى تقدير أنه عن عمر مرسل فإن مراسيله من أصح المراسيل] (¬4). ¬
فهذا دليل آخر على رجوع عثمان إلى القول بوجوب الغسل. وسبق لنا قول الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل: حديث حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن خالد قال: سألت خمسة من أصحاب رسول الله: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وأبي بن كعب، فقالوا: الماء من الماء، فيه علة تدفعه بها؟. قال: نعم بما يروى عنهم من خلافه. قلت: عن عثمان وعلي وأبي بن كعب؟ قال: نعم (¬1). ¬
الدليل الثامن
الدليل الثامن: ذكر ابن خواز منداد، أن إجماع الصحابة انعقد على إيجاب الغسل من التقاء الختانين (¬1). وقال القاضي ابن العربي: انعقد الإجماع أخيراً على إيجاب الغسل (¬2). وأجيب: بأن الخلاف محفوظ من الصحابة وممن دونهم، أما الصحابة فالخلاف بينهم مشهور. قال ابن عبد البر وهو ممن يرى وجوب الغسل: " كيف يجوز القول بإجماع الصحابة في شيء في هذه المسألة مع ما ذكرناه في هذا الباب، ومع ما ذكره عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن خالد، قال: سمعت خمسة من المهاجرين الأولين، منهم علي بن أبي طالب، فكلهم قال: الماء من الماء (¬3). وأما الخلاف فيمن بعدهم فقد قال الحافظ ابن حجر: ادعى ابن القصار أن الخلاف ارتفع بين التابعين، وهو معترض أيضاً، فقد قال الخطابي: إنه قال به من الصحابة جماعة، فسمى بعضهم، قال: ومن التابعين الأعمش، وتبعه عياض لكن قال: لم يقل به أحد بعد الصحابة غيره، وهو معترض أيضاً، فقد ثبت ذلك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وهو في سنن أبي داود بإسناد صحيح، وعن هشام بن عروة عند عبد الرزاق بإسناد صحيح. ¬
الراجح من الخلاف
وقال عبد الرزاق أيضا عن ابن جريج، عن عطاء أنه قال: لا تطيب نفسي إذا لم انزل حتى اغتسل؛ من أجل اختلاف الناس لأخذنا بالعروة الوثقى. وقال الشافعي في اختلاف الحديث: حديث الماء من الماء ثابت، لكنه منسوخ، إلى أن قال: فخالفنا بعض أهل ناحيتنا - يعني من الحجازيين - فقالوا: لا يجب الغسل حتى ينزل. اهـ قال الحافظ: فعرف بهذا أن الخلاف كان مشهوراً بين التابعين ومن بعدهم، لكن الجمهور على إيجاب الغسل، وهو الصواب والله أعلم. الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأدلة يظهر لي أن الخلاف في المسألة قوي، وأنه قد ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - القول بعدم وجوب الغسل، وربما كان هذا القول في أول الأمر، ثم نسخ هذا الحكم، فالأحاديث التي تدل على وجوب الغسل ناقلة عن البراءة الأصلية فهي مقدمة على غيرها، وكما قال البخاري: الغسل أحوط.
المبحث الأول في الإيلاج في فرج امرأة ميتة، أو إيلاج فرج رجل ميت في قبل امرأة
المبحث الأول في الإيلاج في فرج امرأة ميتة، أو إيلاج فرج رجل ميت في قبل امرأة إذا أولج رجل ذكره في فرج امرأة ميتة، ولم ينزل، فهل حكمهما حكم المرأة الحية؟ فيجب الغسل بمجرد الإيلاج، ولو لم ينزل، أو يشترط هنا لوجوب الغسل الإنزال؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة، فقيل: لا يجب الغسل بمجرد الإيلاج في فرج امرأة ميتة حتى ينزل، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يجب، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). دليل من قال: لا يجب الغسل في فرج الميتة. تعليل الحنفية في عدم وجوب الغسل: إن الموجب للغسل هو إنزال المني كما أفاده حديث (إنما الماء من الماء) لكن المني تارة يوجد حقيقة، وتارة يوجد حكماً عند كمال سببه، وهو غيبوبة الحشفة في محل يشتهى عادة مع ¬
دليل من قال بوجوب الغسل
خفاء خروجه، وفي الميتة ونحوها لم يكن الإيلاج سبباً كاملاً لإنزال المني؛ لعدم الداعية إليه، فلم يوجد إنزال المني حقيقة ولا تقديراً، فلو قلنا بالوجوب من غير إنزال لكان فيه ترك العمل بالحديث أصلا, وهو لا يجوز (¬1). فملخص الكلام هنا بأن الميتة لا تشتهى عادة، وأن الإيلاج في حشفة الميتة لا لذة فيها، أو أن اللذة فيها ناقصة غير كاملة. دليل من قال بوجوب الغسل. استدلوا بأن النصوص التي توجب الغسل بالتقاء الختانين مطلقة، ولم تقيد ذلك بكون المرأة حية أو ميتة، فالأخذ بالمطلق والعام أسعد من تقييد النص المطلق، أو تخصيص العام بعلة مستنبطة، لا ندري هل هي العلة أم غيرها؟ وكون المحل لا يشتهى عادة فهذا ليس كافياً في تقييد النص، فانظر إلى المرأة العجوز المتناهية في القبح العمياء البرصاء المقطعة الأطراف لو جومعت، وهي لا تشتهى عادة، وجب الغسل بالتقاء الختانين، فانتقضت العلة. الراجح: أن الغسل يجب بالتقاء الختانين، ونقصان اللذة لا يكفي للقول بتقييد النص النبوي المطلق، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في الإيلاج في فرج الصغيرة التي لا يوطأ مثلها
المبحث الثاني في الإيلاج في فرج الصغيرة التي لا يوطأ مثلها اختلف الفقهاء في الإيلاج في فرج الصغيرة التي لا يوطأ مثلها، هل يجب على من وطئها الغسل؟. فقيل: لا يجب، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: إن كانت تطيق الجماع وجب عليه الغسل، وإلا فلا، وهو مذهب المالكية (¬2). وقيل: يجب عليه الغسل مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). دليل القائلين بعدم وجوب الغسل. إن الموجب للغسل هو إنزال المني، كما أفاده حديث (إنما الماء من الماء) لكن المني تارة يوجد حقيقة، وتارة يوجد حكماً عند كمال سببه، وهو غيبوبة الحشفة في محل يشتهى عادة مع خفاء خروجه، فكان الإيلاج في مثل هذا سبباً لاستطلاق وكاء المني عادة، فقام مقام خروج المني احتياطاً؛ لأنه ¬
دليل القائلين بوجوب الغسل
مغيب عن بصره، فربما خرج ولم يقف عليه لقلته، وفي الصغيرة ونحوها لم يكن الإيلاج سببا كاملا لإنزال المني؛ لقصور اللذة، فلم يوجد إنزال المني حقيقة ولا تقديراً، فلو قلنا بالوجوب من غير إنزال لكان فيه ترك العمل بالحديث أصلا, وهو لا يجوز (¬1). ويشكل على هذا التنظير أن المرأة لو أدخلت ذكر زوجها العنين، فعلى مقتضى التعليل لا يجب عليه غسل؛ لأنه ليس هناك إنزال للماء لا حقيقة ولا تقديراً، وهو خلاف ظاهر النصوص من وجوب الغسل بالتقاء الختانين، وقد أوجب الحنفية الغسل من جماع الخصي على الفاعل والمفعول به، والله أعلم (¬2). دليل القائلين بوجوب الغسل: عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل» وحديث «إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل»، فهذه النصوص مطلقة، وهي توجب الغسل بالتقاء الختانين من غير قَيْدٍ، ومن قَيَّد ذلك بكونه من الكبيرة فقد قيد النصوص الشرعية بلا دليل. ¬
المبحث الثالث إذا كان المجامع أو المجامع صغيرا فهل يجب عليه غسل؟
المبحث الثالث إذا كان المجامِع أو المجامَع صغيراً فهل يجب عليه غسل؟ اختلف الفقهاء في ذلك، فقيل: لا يجب عليه غسل، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وتعليلهم ظاهر، وهو قائم على أن الصغير غير مكلف، ولا تجب عليها الصلاة التي تجب الطهارة لها، وأن الأصل في وجوب الغسل هو الإنزال، وليس من أهله، وإنما أقيم التقاء الختانين مقام الإنزال؛ لأنه سبب فيه، ولأنه لا ¬
يطلق عليه جنب ما دام لم يبلغ السن الذي يستطيع فيه الإنزال. وقيل: يجب عليه الغسل، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2) إلا أن الحنابلة اشترطوا أن يكون مثله يجامع وإن لم يبلغ، وبعضهم يشترط كون الذكر ابن عشر سنين والأنثى بنت تسع سنين، وهذا تفسير للشرط. قالوا: وإذا قلنا بوجوب الغسل، فلا يعني ذلك: أنه يأثم بتركه، وإنما هو شرط لصحة الصلاة ونحوها مما تشترط لفعله الطهارة. وللقياس على البول، فكما أن الصغير إذا بال لم تصح صلاته حتى يتوضأ، ولا يقال: يجب عليه الغسل، كما لا يقال: يجب عليه الوضوء، بل يقال: صار محدثاً، ويجب على الولي أن يأمره بالغسل إن كان مميزاً، كما يأمره بالوضوء. واستدل الإمام أحمد بفعل عائشة، وقد تزوجت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي بنت تسع سنين. قال ابن قدامة: سئل يعني أحمد عن الغلام يجامع مثله ولم يبلغ , فجامع المرأة , يكون عليهما جميعا الغسل؟ قال: نعم. قيل له: أنزل أو لم ينزل؟ قال: نعم. وقال: ترى عائشة حين كان يطؤها النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن تغتسل؟ ويروى عنها: «إذا التقى الختانان وجب الغسل» (¬3). ¬
إلا أن السؤال الذي يرد على الاستدلال بفعل عائشة، هل كانت عائشة صغيرة لم تبلغ الحنث حين كانت زوجة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ?؟ أو كانت قد بلغت، وإن كانت بنت تسع سنين؟ الظاهر الثاني، فإذا كانت قد بلغت لم يكن هناك دليل على مسألتنا، والله أعلم. ولذلك روى الترمذي (¬1)، والبيهقي (¬2)، كلاهما تعليقاً: قال البيهقي: وروينا عن عائشة رضي الله عنها قالت: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة. قال البيهقي: تعني - والله أعلم - فحاضت فهي امرأة. [ضعيف لتعليقه] (¬3). ¬
فرع إذا دخل ذكر النائم والمجنون في فرج المرأة أو العكس نص الجمهور من المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3).على أن المرأة إذا أدخلت ذكر رجل نائم، أو مجنون، أو مغمى عليه، أو مكره، فعليهما الغسل؟ وعللوا ذلك بأن موجب الطهارة لا يشترط فيه القصد، بدليل احتلام النائم وسبق الحدث، والله أعلم. ولعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ". سبق تخريجه. وقيل: لا يجب الغسل على النائم والمجنون ونحوهما، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬4)، واختيار ابن حزم رحمه الله تعالى (¬5). واستدل ابن حزم بأن الغسل لا يجب بمجرد مطلق الإيلاج، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل " فقوله - صلى الله عليه وسلم - " إذا جلس " وقوله " ثم جهدها " هذه الألفاظ لا تطلق إلا على المختار القاصد، ولا يسمى المغلوب أنه قعد، ولا النائم ولا المغمى عليه كذلك. ¬
فكان المراد معنى زائداً على مجرد الإيلاج، وهو انتشار الذكر ولذته بذلك، وأما إذا كان الذكر لم ينتشر، كما هو الحال في النائم فلا فرق بين دخوله ودخول الأصبع في الفرج، ومع ذلك لا يوجب الغسل إيلاجه في فرج المرأة، ولو وجدت اللذة بذلك.
المبحث الرابع إذا أولج رجل ذكره في فرج البهيمة
المبحث الرابع إذا أولج رجل ذكره في فرج البهيمة اختلف الفقهاء في الرجل يدخل ذكره في فرج بهيمة، هل يجب عليه الغسل بمجرد الإيلاج أو لا بد من الإنزال؟ فقيل: لا يجب عليه الغسل، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: بل يجب عليه، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). دليل من قال: لا يجب عليه الغسل. لا يجب الغسل إلا بدليل شرعي، ولا يوجد دليل يوجب الغسل من الإيلاج في فرج البهيمة، ولا يصح القياس على فرج المرأة لوجود الفارق؛ وذلك لأن الشهوة في فرج البهيمة ليست كالشهوة في فرج المرأة، وهو ما يعبر عنه بعض الفقهاء بقصور الشهوة في البهيمة. دليل من قال بوجوب الغسل: أن هذا الإيلاج إيلاج في فرج أصلي فأشبه الإيلاج في فرج المرأة. ¬
والقول الأول أقوى من حيث التعليل، ويظهر ذلك بأنه لو أولج أصبعه في فرج المرأة لم يجب عليها غسل، وإن كانت قد تتلذذ المرأة بهذا، وقد يتلذذ الرجل أيضاً، ومع ذلك لم يجب الغسل عليهما، فلا بد من أن يكون ذكر الرجل في قبل المرأة، هذا ما ورد فيه النص، وما عداه فالأصل عدم الوجوب، والله أعلم.
المبحث الخامس يشترط لوجوب الغسل بالإيلاج دخول كامل الحشفة
المبحث الخامس يشترط لوجوب الغسل بالإيلاج دخول كامل الحشفة ذهب الأئمة الأربعة إلى أنه يشترط إيلاج الحشفة كاملة لوجوب الغسل بالتقاء الختانين (¬1). وقيل: يجب الغسل بإيلاج بعض الحشفة، اختاره بعض الشافعية، وأبو يعلى الصغير من الحنابلة (¬2). دليل من قال: يجب إدخال الحشفة. (1146 - 19) ما رواه مسلم من طريق هشام بن حسان، حدثنا حميد ابن هلال، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق أو من الماء. وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل، قال: قال أبو موسى: فأنا أشفيكم من ذلك، فقمت، فاستأذنت على عائشة، فأذن لي، فقلت لها: يا أماه - أو يا أم المؤمنين- إني أريد أن أسألك عن شيء، وإني أستحييك؟ فقالت: لا تستحيي أن تسألني عما كنت سائلاً عنه أمك التي ولدتك، فإنما أنا أمك. قلت: فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان فقد وجب الغسل. ¬
[وقد رواه مالك في الموطأ (¬1) من طريق سعيد بن المسيب، عن أبي موسى الأشعري، عن عائشة من قولها بلفظ: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، وسبق الكلام على الحديث] (¬2). الدليل الثاني: (1147 - 20) ما رواه أحمد من طريق أبي معاوية، عن حجاج بن أرطأة، عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا التقت الختانان، وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). فهذه الأحاديث تشترط أن يجاوز الختان الختان، وبعضها يقول: وتوارت الحشفة، وهو تفسير لمجاوزة الختان الختان، لأن ختان الرجل لا يجاوز موضع الختان من المرأة إلا وقد توارت الحشفة. قال النووي: بين الشيخ أبو حامد فرج المرأة , والتقاء الختانين، بياناً شافياً، فقال هو وغيره: ختان الرجل: هو الموضع الذي يقطع منه في حال الختان، وهو ما دون حزة الحشفة. ¬
دليل من قال: يكفي بعض الحشفة
وأما ختان المرأة - فاعلم - أن مدخل الذكر: هو مخرج الحيض والولد والمني , وفوق مدخل الذكر ثقب مثل إحليل الرجل, هو مخرج البول, وبين هذا الثقب ومدخل الذكر جلدة رقيقة, وفوق مخرج البول جلدة رقيقة مثل ورقة بين الشفرين, والشفران تحيطان بالجميع, فتلك الجلدة الرقيقة يقطع منها في الختان وهي ختان المرأة; فحصل أن ختان المرأة مستعل, وتحته مخرج البول, وتحت مخرج البول مدخل الذكر. قال البندنيجي وغيره: ومخرج الحيض الذي هو مخرج الولد ومدخل الذكر هو خرق لطيف, فإذا افتضت البكر اتسع ذلك الخرق فصارت ثيباً. قال أصحابنا: فالتقاء الختانين أن تغيب الحشفة في الفرج, فإذا غابت فقد حاذى ختانه ختانها, والمحاذاة هي التقاء الختانين, وليس المراد بالتقاء الختانين التصاقهما وضم أحدهما إلى الآخر, فإنه لو وضع موضع ختانه على موضع ختانها, ولم يدخله في مدخل الذكر لم يجب غسل بإجماع الأمة, هذا كلام الشيخ أبي حامد وغيره (¬1). دليل من قال: يكفي بعض الحشفة. لا أعلم لهم دليلاً من السنة، إلا أن يقال: إذا كان إدخال الحشفة بمثابة إدخال الذكر كله، والحشفة بعض الذكر، فإدخال بعض الحشفة بمنزلة إدخال الحشفة. وهذا القياس إن كان قد قيل به، فإنه قياس بمقابلة النص، فإن النص علق وجوب الغسل بالتقاء الختانين، وبمجاوزة الختان الختان، وإدخال بعض الحشفة لا يتحقق هذا الشرط، فلا يجب به غسل، والله أعلم. ¬
فرع إذا قطعت الحشفة إذا قطع بعض الذكر فإن كان الباقي دون قدر الحشفة لم يتعلق به شيء من الأحكام باتفاق الأئمة (¬1). وإن كان قدرها فقط تعلقت الأحكام بتغييبه كله دون بعضه. وإن كان أكثر من قدر الحشفة فقولان: فقيل: لا بد لوجوب الغسل من تغييب جميع الباقي، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: يتعلق الحكم بقدر الحشفة منه، وهو مذهب الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، ووجه في مذهب الشافعية رجحه النووي (¬5)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬6). ¬
دليل من قال: لابد من إيلاج جميع الذكر
دليل من قال: لابد من إيلاج جميع الذكر. الأصل أن الغسل يتعلق بإيلاج الذكر كله؛ لأنه آلة الجماع، جاء الدليل بوجوب الغسل بإدخال الحشفة، فقلنا به بموجب الدليل، فإذا لم توجد الحشفة رجعنا إلى المتيقن، وهو وجوب الغسل بإيلاج الذكر كله، ولا يوجد دليل على أن إيلاج مقدار الحشفة من الذكر موجب للغسل، وقياس غير الحشفة على الحشفة قياس مع الفارق، فإن الحشفة من الذكر، هي مجمع الشهوة من العضو. دليل من قال: يكفي إيلاج مقدار الحشفة. دليل هذا القول: هو القياس على الحشفة، فإذا كان مقدار الحشفة يوجب الغسل، فإدخال مقدار الحشفة من الذكر عند عدم الحشفة موجب للغسل أيضاً، والله أعلم.
المبحث السادس في الإيلاج في الدبر
المبحث السادس في الإيلاج في الدبر اختلف الفقهاء في الإيلاج في الدبر، هل يوجب الغسل؟ فقيل: يوجب الغسل، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: لا يوجب الغسل، وهو قول آخر غير مشهور عن مالك (¬2)، واختيار ابن حزم (¬3). دليل من قال: يوجب الغسل. الدليل الأول: قال تعالى عن قوم لوط: {إنكم لتأتون الفاحشة} (¬4). ¬
الدليل الثاني
وقال عن الزنا في القبل: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم} (¬1). وقال تعالى: {واللذان يأتيانها منكم} (¬2). فجعل هاهنا فاحشة، وهاهنا فاحشة، فسمي هذا كما سمي هذا، فكان الموجب في هذا كالموجب في تلك. الدليل الثاني: إذا كان الإيلاج في الدبر يوجب الحد، فكذلك يوجب صاعاً من ماء. الدليل الثالث: قالوا: إن الإيلاج في الدبر سبب لنزول المني عادة، مثل الإيلاج في السبيل المعتاد، والسبب يقوم مقام المسبب خصوصاً في موضع الاحتياط (¬3). دليل من قال: لا يوجب الغسل. الدليل الأول: عدم الدليل الموجب للغسل، والغسل لا يجب إلا بدليل شرعي، ولم يأت نص من الشارع على وجوب الغسل في الإيلاج في الدبر، وإنما النصوص الواردة جاءت بالتقاء الختانين، {وما كان ربك نسياً} (¬4). الدليل الثاني: كون الإيلاج محرماً لا يكفي لوجوب الغسل، فالقتل والكذب والغيبة محرمات بأدلة قطعية، ومع ذلك لا يجب الغسل منها. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: أن هذا المحل لم يخلق للجماع، وبالتالي لا يوجب الغسل الإيلاج فيه، كما لا يوجب الغسل الإيلاج في فخذ المرأة أو في إبطها أو عكن بطنها أو نحو ذلك، والدليل على أنه لم يخلق لهذا قوله تعالى إنكاراً على قوم لوط {أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم} (¬1). وكونه يسمى فاحشة فلا يكفي هذا لوجوب الغسل، بل جاء إطلاق الفاحشة على غير الجماع قال تعالى: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} (¬2). وقد ذكر المفسرون أن الآية نزلت فيمن يطوف بالبيت عرياناً، ومع ذلك من تعرى أمام الناس لا يجب عليه الغسل، وإن كان فعله من الفواحش، والله أعلم (¬3). والقول بعدم وجوب الغسل قول قوي، والغسل أحوط، والله أعلم. ¬
فرع في إدخال الأصبع ونحوها في الفرج
فرع في إدخال الأصبع ونحوها في الفرج قد يدخل الإنسان أصبعه في قبل أو دبر، وقد يدخل الطبيب آلة تعرف بالمنظار للكشف على الجهاز الهضمي عن طريق الدبر، فهل يوجب مثل هذا الغسل؟ فقيل: لا يوجب الغسل، وهو مذهب الأئمة (¬1). وقيل: إذا أدخل أصبعه في دبره وجب عليه الغسل، وهو قول في مذهب الحنفية (¬2). دليل من قال: لا يجب الغسل. بأن الأصبع ليس آلة للجماع، فلا يجب فيه غسل، سواء أدخله في قبل أو دبر، وسواء وجدت الشهوة أم لم توجد، مثله تماماً لو استنكح يده، ووجد اللذة بذلك إلا أنه لم ينزل، فلا يجب في ذلك غسل، لأن اليد لم تخلق للنكاح. دليل من قال: يجب عليه الغسل. ربما قاسه على كلام لبعض الفقهاء من وجوب قضاء الصيام بمثل هذا الفعل، وأن الفاعل قد يجد لذة بذلك. وهذا كلام ضعيف، ولا دليل عليه البتة والله أعلم. ¬
المبحث السابع إذا أولج ذكره في قبل أو دبر مع وجود حائل
المبحث السابع إذا أولج ذكره في قبل أو دبر مع وجود حائل لو أدخل الرجل ذكره في كيس أو لف عليه خرقة، ثم أدخل ذكره في قبل أو دبر امرأة، فهل عليهما الغسل؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة، فقيل: لا غسل عليه مطلقاً، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يجب عليه الغسل مطلقاً، وهو قول لبعض المالكية (¬3)، وأصح الأوجه في مذهب الشافعية (¬4)، ووجه في مذهب الحنابلة (¬5). وقيل: إن كان الحائل رقيقاً وجب الغسل، وإن كان كثيفاً لم يجب، قال الحطاب المالكي: وهو الأشبه بمذهبنا (¬6)، اهـ وهو وجه في مذهب الشافعية (¬7). ¬
دليل من قال: لا يجب عليه الغسل مطلقا
وفسر المالكية الخفيفة: ما يحصل معها اللذة. وفسرها بعض الشافعية: بحيث لا تمنع وصول بلل الفرج إلى الذكر، ولا يمنع وصول الحرارة إليه. دليل من قال: لا يجب عليه الغسل مطلقاً. قالوا: إن الإيلاج إنما هو وقع على الخرقة، ولم يمس الذكر الفرج، والدليل على أنه لم يقع مماسة أن هذه الأكياس يستعملها حتى المبتلى بأمراض جنسية معدية كمرض نقص المناعة، ولا تنتقل العدوى مع وجود هذه العوازل، وقياساً على القول بنقض الوضوء من مس الذكر ومس المرأة، فكما أنه لا ينقض الوضوء مس الذكر بحائل، وكذلك لا ينقض الوضوء مس المرأة بحائل على من يقول بالنقض من المس، فكذلك لا يوجب الغسل إيلاج بحائل، فلا بد من وجود مماسة بين الفرج وبين الذكر، وهذا ما لم يحصل. دليل من قال: يجب الوضوء مع الحائل. قالوا: إن الحكم متعلق بالإيلاج، وقد حصل. دليل من قال بالتفريق بين الرقيق والغليظ. إذا سلمنا أن إيلاج الذكر في الفرج موجب للغسل بدون إنزال، وكان هذا الحائل رقيقاً لم يمنع كمال اللذة والإحساس بحرارة المكان، وقد يصل بلل الفرج إلى الذكر، فوجود العازل كعدمه حيث يجد مع العازل ما يجده بدونه.
الراجح
الراجح: القول بأن الجماع مع وجود هذه الأكياس كالجماع بدونها من حيث اللذة والحرارة قول ليس دقيقاً، وكل من جرب هذه الأكياس يشعر بأن وجودها يكون على حساب كمال الاستمتاع واللذة، فالقول بعدم وجوب الغسل قول قوي، والغسل أحوط للدين خاصة أن الأمر يتعلق بالركن العملي الأول في الإسلام، والله أعلم.
الفرع الأول إذا أولج في قبل أو دبر خنثى مشكل
الفرع الأول إذا أولج في قبل أو دبر خنثى مشكل إذا أولج الرجل في دبر خنثى مشكل، كان على الخلاف في الإيلاج في الدبر، لأن الدبر أصلي لا إشكال فيه، وقد سبق تحرير الخلاف. فقيل: يجب عليه الغسل، وهو مذهب الجمهور. وقيل: لا يجب الغسل بالإيلاج في الدبر، وهو رواية عن مالك، واختيار ابن حزم رحمه الله تعالى. وانظر أدلتهم والعزو إلى كتبهم في مسألة الإيلاج في الدبر. أما إذا أولج رجل في فرج خنثى مشكل، أو أولج خنثى مشكل ذكره في دبر أو قبل، فقيل: لا يجب عليهما الغسل، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وقول في مذهب المالكية (¬4). وقيل: يجب عليهما الغسل، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬5)، ووجه في مذهب الحنابلة (¬6). ¬
دليل القول بعدم وجوب الغسل من الإيلاج في فرج الخنثى المشكل
دليل القول بعدم وجوب الغسل من الإيلاج في فرج الخنثى المشكل. قالوا: إن فرج الخنثى المشكل لا يعلم، هل هو فرج أصلي أو عضو زائد؟ ومع عدم اليقين بحقيقة الحال لا يجب الغسل بمجرد الشك؛ لأن الأصل عدم وجوب الغسل حتى نتيقن الحدث. واستدلوا على هذه القاعدة: (1148 - 21) بما رواه البخاري، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب (ح) وعن عباد بن تميم، عن عمه، أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً، ورواه مسلم (¬1) دليل المالكية على وجوب الغسل. الدليل الأول: قالوا: قد تيقنا حصول الإيلاج، وحدث شك، هل هو فرج أصلي أو زائد، فأصبحت طهارته مشكوكاً في بقائها؛ لأن كلا الاحتمالين قائم، ولا بد من اليقين في تحقيق الطهارة، وإنما أوجب الغسل بالشك؛ لأن الطهارة شرط، والشك في الشرط مؤثر، بخلاف الشك في طلاق زوجته، أو عتق أمته، أو في الرضاع فلا يؤثر؛ لأنه شك في المانع، وهو لا يؤثر، وإنما أثر في الشرط دون المانع، لأن العبادة محققة في الذمة فلا تبرأ منها إلا بطهارة محققة، والمانع يطرأ على أمر محقق، وهو الإباحة أو الملك من الرقيق، فلا تنقطع بأمر مشكوك فيه (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: وعملاً بعموم الخبر «إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل» وسبق تخريجه. الدليل الثالث: القياس على الإيلاج في دبر الخنثى المشكل. وأجاب المالكية عن حديث عبد الله بن زيد: «لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً». بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمره إذا شك في الصلاة أن يستمر فيها، ولا ينصرف عنها إلا بيقين، لأن الخروج من الصلاة محرم، قالوا: وأما إذا شك خارج الصلاة، فالحكم مختلف، فيلزمه أن يأتي بالطهارة بيقين. قال الدسوقي في حاشيته: من شك، وهو في الصلاة طرأ عليه الشك فيها بعد دخوله، فوجب أن لا ينصرف عنها إلا بيقين، ومن شك خارجها طرأ عليه الشك في طهارته قبل الدخول في الصلاة، فوجب أن لا يدخلها إلا بطهارة متيقنة (¬1). قال ابن حجر تعليقاً على ذلك: إن كان ناقضاً خارج الصلاة فينبغي أن يكون كذلك في الصلاة كبقية النواقض (¬2). بعد استعراض الأدلة نجد أن مذهب الجمهور أقيس، ومذهب الإمام مالك رحمه الله أحوط، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني لو غيب الرجل ذكره في دبر نفسه
الفرع الثاني لو غيب الرجل ذكره في دبر نفسه ذكر بعض الفقهاء هذه الصورة، واختلفوا في وجوب الغسل منها: فقيل: لا غسل عليه، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يجب عليه الغسل، وهو قول في مذهب الحنفية (¬2)، ومذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4). دليل الحنفية: النصوص الموجبة للغسل وردت في فاعل ومفعول به، فنقتصر على ما ورد فيه النص. قال ابن عابدين: «ولأنه أولى من الصغيرة والميتة في قصور الداعي». اهـ ومعناه هذا: أي أن الحنفية لا يوجبون الغسل بالإيلاج في الصغيرة والميتة، فالإيلاج في دبر نفسه من باب أولى لنقص اللذة. دليل من أوجب الغسل. العمل بعموم الخبر، فإنه إيلاج ذكر في أحد السبيلين، فمناط الحكم هو إيلاج فرج أصلي في قبل أصلي، وقد تحقق، سواء كان الفاعل والمفعول به ¬
مختلفين أو كانا من شخص واحد كالإنزال، قد يكون سبب الإنزال الاستمتاع بامرأة لا تحل له، وقد يكون سبب الإنزال الاستمتاع بيده، فلا فرق في الحكم في وجوب الغسل، والله أعلم.
الفصل الثالث في الشك في التقاء الختانين أو الشك في إنزال المني
الفصل الثالث في الشك في التقاء الختانين أو الشك في إنزال المني إذا شك الرجل هل أنزل منياً أو لم ينزل، أو شك، هل التقى الختانين أو لا؟ فهل يوجب هذا الشك الغسل عليه؟ اختلف العلماء في ذلك، فذهب الجمهور إلى أنه لا يجب عليه الغسل بمجرد الشك حتى يستيقن (¬1). وذهب المالكية إلى وجوب الغسل بالشك (¬2). وأدلة هذه المسألة هي أدلة المسألة السابقة معنا، إذا أولج في فرج خنثى مشكل، فهل يجب عليه الغسل، مع الشك هل هو فرج أصلي أو زائد؟ أو لا يجب عليه الغسل حتى يتيقن أنه فرج أصلي؟ فأغنى ذكر الأدلة هناك عن إعادتها هنا. ومذهب المالكية في الشك قول ضعيف غير مطرد، فهم يفرقون بين الشك في نجاسة الماء، وبين الشك في نجاسة غيره، ويفرقون بين الشك في نجاسة البدن، وبين الشك في نجاسة الثوب، ويفرقون بين الشك في النجاسة وبين الشك في الحدث، ويفرقون بين الشك في الحدث داخل الصلاة وبين الشك فيه خارجها. ¬
وإليك بيان مذهبهم في هذه المسائل. إذا شك في نجاسة الثوب ونحوه وجب نضحه (¬1). وإذا شك في نجاسة البدن وجب غسله (¬2). وإذا شك في حصول الحدث، ففيه قولان: فقيل: ينقض مطلقاً، وهو رواية ابن القاسم عن مالك. وقيل: الشك ينقض الوضوء خارج الصلاة، ولا ينقض داخلها، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬3)، ونسب هذا القول للحسن رحمه الله (¬4). ¬
وروى ابن نافع عن مالك أنه لا وضوء عليه مطلقاً كالجمهور (¬1). وأما مذهب المالكية في الشك في الماء، فيعمل بالأصل، وهو الطهارة كمذهب الجمهور (¬2). وقد بسطت أدلتهم والجواب عليها في كتاب المياه من هذا البحث، فارجع إليها إن شئت (¬3). ¬
الفصل الرابع من موجبات الغسل إسلام الكافر
الفصل الرابع من موجبات الغسل إسلام الكافر اختلف العلماء في إسلام الكافر الأصلي أو المرتد هل يوجب الغسل؟ فقيل: يجب عليه الغسل مطلقاً، وهو قول في مذهب المالكية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: لا يجب عليه الغسل مطلقاً، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: يستحب الغسل مطلقاً وجد منه ما يوجب الغسل أو لم يوجد، وهو قول في مذهب الحنفية (¬4)، وقول في مذهب المالكية (¬5)، وقول في مذهب الحنابلة (¬6). وقيل: يستحب الغسل إلا أن يوجد منه ما يوجب الغسل حال كفره ¬
دليل من قال: يجب عليه الغسل مطلقا
فإنه يجب عليه الغسل، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3). دليل من قال: يجب عليه الغسل مطلقاً. الدليل الأول: (1149 - 22) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن، ثنا سفيان، عن الأغر، عن خليفة بن حصين، عن جده قيس بن عاصم أنه أسلم، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل بماء وسدر (¬4). [الحديث إسناده منقطع] (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1150 - 23) ما رواه عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبيد الله وعبد الله ابنا عمر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة أن ثمامة الحنفي أسر، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغدو إليه، فيقول: ما عندك يا ثمامة؟ فيقول: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمن تمن على شاكر، وإن ترد المال تعط منه ما شئت، وكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبون الفداء، ويقولون: ما نصنع بقتل هذا، فمر النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً، فأسلم، فحله، وبعث به إلى حائط أبي طلحة، فأمره أن يغتسل، فاغتسل، وصلى ركعتين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لقد حسن إسلام إخيكم (¬1). [في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالغسل، وهو غير محفوظ، وإنما المحفوظ أنه اغتسل من قبل نفسه كما هي رواية الصحيحين، كما أن المحفوظ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مَنَّ عليه بإطلاق سراحه قبل أن يعلن إسلامه، فذهب واغتسل، ثم أعلن إسلامه، فكان غسله قبل أن يعلن إسلامه خلاف ¬
هذا الحديث] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ويحتمل أن يكون ثمامة اغتسل لمقابلة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان في الأسر ثلاثة أيام، وهو كبير قومه، فلما أطلق سراحه وكان يريد الجلوس مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، لإعلان إسلامه رأى أن يحسن من حاله، خاصة أن بلاد الحجاز بلاد حارة، كما أنه يليق بثمامة وهو كبير قومه، وقد نوى أن يقابل رجلاً مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
الدليل الثالث
أن يُحَسِّنَ من هيئته ما استطاع، فكان غسله ليطرد عنه رائحة العرق، وقد وقع غسله قبل أن يعلن إسلامه، فإذا قلنا: تشترط النية للغسل، فقبل إعلان إسلامه ليس من أهل العبادة، فلا يصح غسله عن غسل الإسلام على القول بوجوب الغسل. الدليل الثالث: (1151 - 24) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمد بن إدريس بن مطيب المصيصي، حدثنا سليم بن منصور بن عمار، حدثنا أبي، حدثنا معروف أبو الخطاب، عن واثلة بن الأسقع لما أسلمت أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: اغتسل بماء وسدر، واحلق عنك شعر الكفر. قال الطبراني: لم يروه عن واثلة بن الأسقع إلا بهذا الإسناد، تفرد به منصور بن عمار (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (1152 - 25) ما رواه الطبراني من طريق أحمد بن عبد الملك بن واقد الحراني، ثنا قتادة بن الفضل بن قتادة الرهاوي، عن أبيه، حدثني عم أبي هشام ابن قتادة الرهاوي، عن أبيه، قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لي: يا قتادة اغتسل بماء وسدر، واحلق عنك شعر الكفر، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر من أسلم أن ¬
الدليل الخامس
يختتن، وإن كان ابن ثمانين سنة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الخامس: (1153 - 26) قال ابن دقيق العيد: وروي من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلاً أسلم أن يغتسل (¬3). [مع كونه ساقه معلقاً، فإسناده ضعيف جداً] (¬4). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (1154 - 27) قال ابن دقيق العيد: وروي من حديث سالم بن سالم، عن أبي المغيرة، عن أبي البراء رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلاً أسلم أن يغتسل بماء وسدر (¬1). [إسناده ضعيف مع كونه ساقه معلقاً] (¬2). ¬
دليل من قال: لا يجب عليه الغسل مطلقا
دليل من قال: لا يجب عليه الغسل مطلقاً. الدليل الأول: عدم قيام دليل صحيح يوجب الغسل على الكافر إذا أسلم، والأحكام الشرعية لا تثبت إلا بدليل صحيح، وقد رأينا من خلال ذكر أدلة القائلين بالوجوب بأنها أدلة ضعيفة. الدليل الثاني: ما أكثر الصحابة الذين أسلموا، ولم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالغسل، ولو كان الغسل واجباً، لكان هذا الحكم مشهوراً؛ لحاجة الناس إليه، ولجاءت به النصوص الصحيحة؛ لأنه ما من أحد أسلم في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا ويحتاج إلى معرفة هذا الحكم، فكونه ينفرد بهذا الحكم حصين بن قيس، وهو غير معروف، ولم يرو عنه إ لا ابنه يجعل في النفس شيئاً من إيجاب مثل هذا الحكم، لا سيما أننا قد علمنا أن حديث ثمامة في الأمر بالغسل حديث شاذ مخالف لرواية الصحيحين وغيرهما. وأجيب: كونه لم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر كل من أسلم بالغسل بعد إسلامه، فيقال: إن عدم النقل ليس نقلاً للعدم؛ لأن الأصل العمل بما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يلزم أن ينقل العمل به من كل واحد؛ ولأن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - واحداً من الأمة أمر لجميع الأمة. ورد هذا: بأن هذا الجواب مسلم لو ثبت الأمر النبوي لواحد من الأمة، وإذا لم يثبت كما تبين من خلال الكلام على إسناد الأحاديث فلا يصح أن يقال: إنه قد ثبت الأمر به لواحد من الأمة فيكون أمراً للجميع.
الدليل الثالث
الدليل الثالث: بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - معاذاً إلى اليمن ليدعو أهل الكتاب إلى الإسلام، وأخبره بأن يدعوهم إلى الشهادتين، ثم إلى الصلاة، ثم إلى الزكاة وهكذا، ولم يخبره بأن من أسلم فعليه أن يغتسل، ولو كان لزاماً على كل كافر دخل في الإسلام أن يغتسل لنبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - معاذاً إلى هذا، والله أعلم. (1155 - 28) فقد روى البخاري رحمه الله من طريق يحيى بن عبد الله بن صيفي، عن أبي معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب. ورواه مسلم (¬1). دليل من قال: يستحب له الغسل مطلقاً. أخذ من حديث قيس بن عاصم وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالغسل بأن الأمر للاستحباب، والذي حمله على صرف اللفظ عن ظاهره، كون الذي أسلم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثير، ولم ينقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه أمرهم بالغسل، فصار هذا قرينة لصرف الأمر من الوجوب إلى الندب. ¬
دليل من قال: يجب عليه الغسل إن كان جنبا حال كفره
وهذا التوجيه حسن لو صح حديث قيس بن عاصم، أما من لم يصحح الحديث، ولا يرى ثبوت الأحكام الشرعية بالأحاديث الضعيفة، فإن الأصل براءة الذمة حتى يثبت دليل صحيح خال من النزاع، وهذا ما لم يتحقق في مسألتنا هذه، والله أعلم. دليل من قال: يجب عليه الغسل إن كان جنباً حال كفره. قالوا: لا خلاف في أن الكافر إذا بال في حال كفره، ثم أسلم، أنه يلزمه الوضوء إذا أراد الصلاة، فإذا كان ذلك في الحدث الأصغر، فكذلك الحدث الأكبر، فإذا أجنب قبل أن يسلم، ثم أسلم، فإنه يلزمه الغسل قياساً على البول. وأجيب: بأن الله سبحانه وتعالى قال: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (¬1). ولحديث عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإسلام يهدم ما قبله» رواه مسلم. ولأنه أسلم خلق كثير لهم الزوجات والأولاد , ولم يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغسل وجوباً, ولو وجب لأمرهم به. ولأن الكافر إذا أسلم لا يطالب بقضاء الصلاة ولا بقضاء الصوم، فكذلك لا يطلب بما فعله حال كفره قبل أن يلتزم أحكام الإسلام. وأما القياس على البول فهو قياس مع الفارق، فهو لم يجب عليه الوضوء للصلاة بسبب الحدث السابق حال كفره، وإنما هو مخاطب عند القيام إلى ¬
الراجح من الأقوال
الصلاة بأن يكون على طهارة، وهو لم يفعلها، وقد قال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ....} (¬1) الآية، فكان فعله الوضوء بناء على امتثال أمر الله سبحانه وتعالى حال إسلامه، وليس بسبب الحدث القائم وقت كفره. ورده النووي بقوله: أما الآية الكريمة والحديث فالمراد بهما غفران الذنوب, فقد أجمعوا على أن الذمي لو كان عليه دين أو قصاص لا يسقط بإسلامه, ولأن إيجاب الغسل ليس مؤاخذة وتكليفاً بما وجب في الكفر, بل هو إلزام شرط من شروط الصلاة في الإسلام فإنه جنب والصلاة لا تصح من الجنب, ولا يخرج بإسلامه عن كونه جنباً، والجواب عن كونهم لم يؤمروا بالغسل بعد الإسلام أنه كان معلوماً عندهم, كما أنهم لم يؤمروا بالوضوء لكونه معلوماً لهم, والفرق بين وجوب الغسل ومنع قضاء الصوم والصلاة من وجهين. أحدهما: ما سبق أن الغسل مؤاخذة بما هو حاصل في الإسلام، وهو كونه جنباً بخلاف الصلاة. والثاني: أن الصلاة والصوم يكثران فيشق قضاؤهما، وينفر عن الإسلام، وأما الغسل فلا يلزمه إلا غسل واحد، ولو أجنب ألف مرة وأكثر، فلا مشقة فيه. الراجح من الأقوال: بعد استعراض أدلة الأقوال، نجد أن أقرب الأقوال إلى الصحة القول بعدم الوجوب، لعدم ثبوت دليل صحيح يقضي بوجوب الغسل، والله أعلم. ¬
الفصل الخامس من موجبات الغسل موت الرجل أو تغسيله
الفصل الخامس من موجبات الغسل موت الرجل أو تغسيله المبحث الأول في وجوب غسل الميت إذا مات المسلم، ولم يكن شهيداً، شرع تغسيله قبل الصلاة عليه، وهل غسله واجب أو سنة؟ في هذا خلاف بين العلماء، فقيل: غسله واجب، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، واختاره بعض المالكية (¬4). وقيل: سنة، وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى (¬5). ¬
دليل الجمهور
دليل الجمهور: الدليل الأول: (1156 - 29) ما رواه البخاري من طريق حفصة، عن أم عطية رضي الله عنها قالت: توفيت إحدى بنات النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: اغسلنها بالسدر وتراً، ثلاثاً أو خمساً، أو أكثر من ذلك، إن رأيتن ذلك، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن فآذنني، فلما فرغنا آذناه، فألقى إلينا حقوه، فضفرنا شعرها ثلاثة قرون، وألقيناها خلفها. ووراه مسلم أيضاً (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: اغسلنها، وهذا أمر، والأصل في الأمر الوجوب. الدليل الثاني: (1157 - 30) ما رواه البخاري من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهم قال: بينما رجل واقف بعرفة، إذ وقع عن راحلته، فوقصته - أو قال فأوقصته - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً، ورواه مسلم (¬2). ¬
الدليل الثالث
وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم - «اغسلوه» وهذا أمر، والأصل في الأمر الوجوب إلا لقرينة صارفة، ولا قرينة. الدليل الثالث: حكى بعضهم الإجماع على وجوب غسل الميت،. قال ابن الهمام: غسل الميت فرض بالإجماع (¬1). وقال النووي في المجموع: «وغسل الميت فرض كفاية بإجماع المسلمين» (¬2). وكذا حكاه النووي في الروضة (¬3). وأنكر ابن حجر على النووي دعوى الإجماع، فقال: وهو ذهول منه شديد، فإن الخلاف مشهور عند المالكية، حتى إن القرطبي رجح في شرح مسلم أنه سنة، ولكن الجمهور على وجوبه، وقد رد ابن العربي على من لم يقل بذلك - أي من لم يقل بالسنية - (¬4). الدليل الرابع: لقد غُسِّل أشرفُ الخلق على الله سبحانه وتعالى، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتغسيل ابنته، وغُسِّل أبو بكر بعده، والناس يتوارثونه خلفاً عن سلف، ولم ينقل عن أحد من المسلمين أنه مات، فدفن من غير غسل إلا الشهداء (¬5). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: يستدل الحنفية بحديث ينسبونه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونصه: «حق المسلم على المسلم ستة حقوق، وفي جملته: أن يغسله بعد موته» (¬1). وبعضهم يقول: حق المسلم على المسلم ثمانية حقوق، وذكر منها غسل الميت (¬2). قال الزيلعي: فهذا حديث ما عرفته، ولا وجدته، والذي وجدناه من هذا النوع، ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس. انتهى. وفي لفظ لمسلم: «حق المسلم على المسلم ست، فزاد: وإذا استنصحك فانصح له» (¬3). الدليل السادس: (1158 - 31) ما رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند، قال:، حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا حماد ابن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن عتي قال: رأيت شيخا بالمدينة يتكلم، فسألت عنه، فقالوا: هذا أبي بن كعب، فقال: إن آدم عليه السلام لما حضره الموت قال لبنيه: أي بني، إني أشتهي من ثمار الجنة؟ فذهبوا يطلبون له، فاستقبلتهم الملائكة، ومعهم أكفانه وحنوطه، ومعهم الفؤوس والمساحي والمكاتل، فقالوا لهم: ¬
يا بني آدم ما تريدون وما تطلبون - أو ما تريدون وأين تذهبون - قالوا: أبونا مريض، فاشتهى من ثمار الجنة، قالوا لهم: ارجعوا فقد قضي قضاء أبيكم، فجاءوا، فلما رأتهم حواء عرفتهم، فلاذت بآدم فقال: إليك إليك عني؛ فإني إنما أوتيت من قبلك، خلي بيني وبين ملائكة ربي تبارك وتعالى، فقبضوه، وغسلوه، وكفنوه، وحنطوه، وحفروا له، وألحدوا له، وصلوا عليه، ثم دخلوا قبره، فوضعوه في قبره، ووضعوا عليه اللبن، ثم خرجوا من القبر، ثم حثوا عليه التراب، ثم قالوا: يا بني آدم، هذه سنتكم (¬1). [ضعيف انفرد به عتي بن ضمرة ولم يتابع عليه، وفي إسناده اختلاف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وعلى تقدير صحته فإن قوله «سنة ولد آدم» تعم الواجب والمندوب، فليست نصاً صريحاً في الوجوب. ¬
دليل من قال: غسل الميت ليس بواجب
دليل من قال: غسل الميت ليس بواجب. الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم عطية المتقدم: «اغسلنها بالسدر وتراً ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك». فجعلوا قوله «إن رأيتن ذلك» عائد إلى جميع ما ذكر من الغسل أو الزيادة على الثلاث. ولو كان غسل الميت بمثابة الغسل من الحدث، وأنه تعبدي لم يزد على الثلاث، ولم يجعل الغسل راجعاً إلى تقدير الغاسل، وإذا ترجح أن الغسل ليس تعبدياً لم يكن واجباً؛ لأن المسلم الميت طاهر، والطاهر لا يجب تطهيره. ثم إنه ذكر مع الغسل، الثلاث والوتر، وهما ليس واجبين إجماعاً، فكذلك الغسل. وقال القاضي عياض: وسبب الخلاف قوله عليه السلام: «إن رأيتن ذلك» هل معناه: إن رأيتن الغسل، أو إن رأيتن الزيادة في العدد، وهذا وأشباهه مما اختلف فيه أهل الأصول، وذلك أنهم مختلفون في التقييد والاستنثناء، والشروط إذا تعقبت الجمل، هل يرجع إلى جميعها إلا ما أخرجه الدليل، أو إلى أقربها؟ (¬1). الراجح من الخلاف: أرى أن القول بوجوب الغسل أرجح من القول بسنيته، للأمر به، والمحافظة عليه، ولكي يهيأ الميت لملاقاة الملائكة، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في الغسل من تغسيل الميت
المبحث الثاني في الغسل من تغسيل الميت اختلف العلماء في حكم الغسل لمن غَسَّل ميتاً، فقيل: ليس بسنة، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: بل سنة، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، واختاره بعض الحنابلة (¬4). وقيل: يجب الغسل، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬5)، ورجحه ابن حزم (¬6). وقيل: يجب الغسل من تغسيل الكافر دون المسلم، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬7). وقيل: غسل الكافر يوجب الوضوء فقط، وهو المنصوص عن أحمد (¬8). ¬
دليل من قال: يجب عليه الغسل
دليل من قال: يجب عليه الغسل. الدليل الأول: (1159 - 32) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حجاج، قال: أخبرنا ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ (¬1). [اختلف في رفعه ووقفه، وقد رجح جمع من الأئمة المتقدمين وقفه] (¬2). الدليل الثاني: (1160 - 33) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا أبو عوانة، عن عبد الله ابن أبي السفر، عن مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله ابن الزبير، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يغتسل من أربع من الجمعة، والجنابة، والحجامة، وغسل الميت (¬3). [ضعيف] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (2161 - 34) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، قال: وقد كنت حفظت من كثير من علمائنا بالمدينة أن محمد بن عمرو بن حزم كان يروي عن المغيرة أحاديث، منها أنه حدثه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: من غسل ميتاً فليغتسل (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الرابع: (1162 - 35) ما رواه الطبراني في الأوسط من طريق يزيد بن زريع، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن أبيه، عن حذيفة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من غسل ميتاً فليغتسل (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (1163 - 36) ما رواه البخاري في التاريخ الكبير من طريق ابن وهب، عن إسامة، عن سعيد بن أبي سعيد مولى المهري، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من غسل ميتاً فليغتسل (¬1). [ضعيف] (¬2). دليل من قال: لا يشرع الغسل من تغسيل الميت. الدليل الأول: لم يثبت دليل صحيح في الأمر بالغسل من تغسيل الميت، والواجبات لا تثبت إلا بدليل من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو قول صحابي لا مخالف له. وقد قال جمع من أئمة المسلمين بأنه لم يثبت فيه حديث، من ذلك: الإمام أحمد (¬3)، وعلي بن المديني (¬4)، والذهلي (¬5)، وابن المنذر (¬6). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1164 - 37) ما رواه الحاكم من طريق أبي شيبة: إبراهيم بن عبد الله، ثنا خالد بن مخلد، ثنا سليمان بن بلال، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه؛ فإن ميتكم ليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم (¬1). [المحفوظ أنه موقوف على ابن عباس، وأخطأ من رفعه] (¬2). ¬
الدليل الثالث
وكون الثابت موقوفاً على ابن عباس فهو حجة خاصة أنه حكم معلل بمقدمة ونتيجة، وهو بما أن الميت طاهر، فإن غسل الطاهر لا يوجب الغسل. الدليل الثالث: (1165 - 38) مارواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن يزيد الرشك، عن معاذة، عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت، هل على الذين يغسلون المتوفين غسل؟ قالت: لا (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). قلت: وهذا الأثر عن عائشة يدل على بطلان ما رواه مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يغتسل من أربع وذكر منها غسل الميت، والذي خرجته في أدلة القول الأول. قال ابن عبد البر عقب أثر عائشة: «فدل على بطلان حديث مصعب ابن شيبة؛ لأنه لو صح عنها ما خالفته، ومن جهة النظر والاعتبار لا تجب طهارة على من لم يوجبها الله عليه في كتابه، ولا أوجبها رسوله من وجه يشهد بها عليه». ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (1166 - 39) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن ابن عمر كفن ميتاً، وحنطه، ولم يمس ماء (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (1167 - 40) روى عبد الرزاق، عن هشام بن حسان، عن بكر بن عبد الله المزني، قال: أخبرني علقمة المزني، قال: غسل أباك أربعة من أصحاب الشجرة، فما زادوا على أن احتجزوا على ثيابهم، فلما فرغوا توضؤوا وصلوا عليه. قال: وسمعت أبا الشعثاء يقول: ألا تتقون الله، تغتسلون من موتاكم، أنجاس هم؟ (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). دليل من قال: يجب الغسل من تغسيل الكافر. (1168 - 41) ما رواه أحمد، قال: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت ناجية بن كعب يحدث عن علي رضي الله عنه، أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أبا طالب مات، فقال له: النبي - صلى الله عليه وسلم -: اذهب فواره، فقال: إنه مات مشركا. فقال: اذهب فواره. قال: فلما واريته، رجعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لي: اغتسل (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬
وأجيب: أولاً: الحديث تفرد به ناجية بن كعب، عن علي، ولم يتابع عليه. ثانياً: لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً بأن يغسله، وإنما أمره أن يواره، ولو صح لكان الحديث دليلاً على الغسل من دفن الكافر أو من حمله، ولا قائل به. وقد قال البيهقي رحمه الله: «وليس فيه أنه غسله» (¬1). اهـ قلت: ولا يشرع إذا مات الكافر أن يغسل. ثالثاً: لعل الغسل بسبب أمر آخر، لا يرجع إلى أبي طالب، ولذلك جاء عند ابن أبي شيبة، من طريق أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن ناجية، عن علي وفيه: «فانطلقت، فواريته، ثم رجعت إليه وعلي أثر التراب والغبار» (¬2). ¬
دليل من قال: غسل الميت يوجب الوضوء فقط
وعلى الرغم من تفرد أبي الأحوص بهذه الزيادة إلا أن واقع الحال يشهد لها، فإن من أراد أن يحفر للميت حفرة بأرض مثل أرض الحجاز، لا بد أن يصيبه من أثر التراب والغبار، فبعيد أن يشتغل الإنسان بالحفر والدفن، ثم يرجع نظيف البدن. دليل من قال: غسل الميت يوجب الوضوء فقط. قد تعرضت لأدلة هذا القول في باب نواقض الوضوء، وهل غسل الميت يوجب الوضوء أم لا؟ ورجحت هناك أن غسل الميت لا يوجب الوضوء، وليس حدثاً، ولا مظنة للحدث فارجع إليه غير مأمور. دليل من قال: يستحب الغسل ولا يجب. استدلوا بأدلة القائلين بالوجوب، إلا أنهم حملوا الأمر فيها على الاستحباب، والذي حملهم على صرف الأمر من الوجوب إلى الندب ما رواه الخطيب البغدادي في تاريخه (¬1)، والدارقطني في السنن (¬2)، والبيهقي في السنن الكبرى (¬3)، من طريق محمد بن عبد الله المخرمي، عن أبي هشام المغيرة بن سلمة المخزومي، عن وهيب، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل، ومنا من لم يغتسل. [إسناده صحيح] (¬4). ¬
الراجح من الأقوال
الراجح من الأقوال: بعد استعراض الأقوال وأدلتها نجد أن القول بوجوب الغسل من تغسيل الميت قول ضعيف، والآثار في ذلك لا تسلم من ضعف، وقد حكم جمع من أئمة الحديث بأنه لا يثبت في الباب حديث، وأما القول بالاستحباب فإنه قول قوي. قال الخطابي: ولا أعلم أحداً من الفقهاء يوجب الاغتسال من غسل الميت، ولا الوضوء من حمله، ويشبه أن يكون الأمر في ذلك على الاستحباب. اهـ (¬1). قلت: أما القول بوجوب الاغتسال من غسل الميت والقول بوجوب الوضوء من حمله فقد حفظ القول بهما، ولكن الأدلة لا تعضدهما، والله أعلم. ¬
الفصل السادس في غسل الجمعة
الفصل السادس في غسل الجمعة المبحث الأول خلاف أهل العلم في وجوب غسل الجمعة اختلف العلماء في حكم غسل الجمعة، فقيل: الغسل سنة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والمالكية (¬3)، والحنابلة (¬4)، وقيل: الغسل واجب، وهو رواية عن أحمد (¬5)، ومذهب الظاهرية (¬6). ¬
دليل من قال: الغسل يوم الجمعة مسنون
وقيل: يجب من عرق أو ريح يتأذى به الناس، اختاره بعض الحنابلة (¬1). دليل من قال: الغسل يوم الجمعة مسنون. الدليل الأول: (1169 - 42) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن الحسن، عن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فذلك أفضل (¬2). [إسناده ضعيف، الحسن لم يسمع هذا الحديث من سمرة] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1170 - 43) ما رواه مسلم من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ، فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا (¬1). وجه الاستدلال: أنه - صلى الله عليه وسلم - أثنى على المتوضئ، ولم يذكر الغسل، فلو كان واجباً لذكره عليه الصلاة والسلام. قال القرطبي: ذكر الوضوء وما معه مرتباً عليه الثواب المقتضي للصحة، ¬
الدليل الثالث
فدل على أن الوضوء كاف (¬1). وأجيب: قال ابن حجر: ليس فيه نفي الغسل، وقد ورد من وجه آخر في الصحيحين بلفظ «من اغتسل» فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدم غسله على الذهاب، فاحتاج إلى إعادة الوضوء (¬2). قلت: كلام ابن حجر ظاهر، فهذا الدليل لا يمنع وجوب الغسل بدليل آخر، ولا يوجد دليل واحد يقوم بكل الواجبات الشرعية، فهذا دليل يوجب السعي للجمعة عند سماع النداء، وآخر يوجب الغسل، وثالث يوجب الاستماع وعدم الكلام وهكذا، وعلى التنزل أن يكون هذا الدليل فيه تلويح بعدم وجوب الغسل، فيكون ذلك على البراءة الأصلية، والأحاديث التي توجب الغسل تكون مقدمة؛ لأنها ناقلة عن البراءة الأصلية، وشاغلة للذمة، والله أعلم. الدليل الثالث: (1171 - 44) ما رواه البخاري من طريق الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فناداه عمر، أية ساعة هذه؟ قال: إني شغلت، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزد أن توضأت. فقال: والوضوء أيضاً، وقد ¬
علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالغسل (¬1). وجه الاستدلال: قالوا: لما لم يترك عثمان الصلاة للغسل، ولم يأمره عمر بالخروج للغسل دل ذلك على أنهما قد علما أن الأمر بالغسل للاختيار (¬2). وزاد بعضهم بأن من حضر من الصحابة الصلاة قد وافقوهما على ترك عثمان للغسل، فكان إجماعاً. وقال ابن عبد البر: «ومن الدليل على أن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالغسل يوم الجمعة ليس بفرض واجب، أن عمر رضي الله عنه في هذا الحديث لم يأمر عثمان بالانصراف للغسل، ولا انصرف عثمان حين ذكره عمر بذلك، ولو كان الغسل واجباً فرضاً للجمعة ما أجزأت الجمعة إلا به، كما لا تجزئ الصلاة إلا بوضوء للمحدث أو بالغسل للجنب، ولو كان كذلك ما جهله عمر ولا عثمان» (¬3). قال القاضي عياض: هذا قول من عمر، وإقرار بمحضر جماعة من الصحابة، ولا منكر له، ولا مخالف، فهو كالإجماع، وعامة الفقهاء والأصوليين منهم يعدون هذا إجماعاً (¬4). اهـ وأجيب: بأنه لم يقل أحد: بأن غسل الجمعة شرط لصحة الصلاة، لا تجزئ صلاة ¬
الجمعة إلا به، ولم يأت نص نبوي يقول: «لا يقبل الله صلاة الجمعة إلا بالغسل» كما قيل ذلك في الوضوء، ولو صلى تاركاً للغسل عمداً مع القدرة عليه صحت صلاته، وقد حكي إجماعاً صحة صلاة الجمعة ولو لم يغتسل (¬1)، وإنما قالوا: الغسل واجب، وليس بشرط، وإذا فهم ذلك فلا يمكن أن تكون قصة عثمان رضي الله عنه مع عمر دليلاً على نفي وجوب الغسل، بل إن الحديث ظاهر في وجوب الغسل، من وجهين: الأول: كون عمر يقطع الخطبة، ويشتغل بمعاتبة عثمان رضي الله عنه، ويقوم بتوبيخه على رؤوس الناس، كل ذلك دليل على وجوب الغسل، فلو كان ترك الغسل مباحاً لما فعل ذلك عمر رضي الله عنه. الثاني: أن عمر رضي الله عنه قد أعلن في خطبته، بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالغسل، والأصل في الأمر الوجوب، وإنما لم يرجع عثمان للغسل لضيق الوقت، إذ لو فعل لفاتته الجمعة، خاصة وأن الخطبة كانت على عهد الخلفاء الراشدين قصيرة، كما كانت على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولم يلزم من ذلك تأثيم عثمان؛ لأنه إنما تركه ذاهلاً عن الوقت، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الإنسان إذا خشي لو توضأ أن تفوته الجمعة فإنه يتيمم، فما بالك بالغسل الذي هو مجرد واجب، وليس شرطاً في صحة الصلاة، على أن عثمان قد يكون قد اغتسل في أول النهار، لما ثبت في صحيح مسلم عن حمران، أن عثمان لم يكن يمضي عليه يوم حتى يفيض عليه الماء (¬2)، وإنما لم يعتذر بذلك ¬
الدليل الرابع
لعمر كما اعتذر عن التأخير؛ لأنه لم يتصل غسله بذهابه إلى الجمعة، كما هو الأفضل (¬1). الدليل الرابع: (1172 - 45) ما رواه البخاري من طريق عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي، فيأتون في العباء يصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنسان منهم، وهو عندي، فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا (¬2). وجه الاستدلال: قوله «لو أنكم تطهرتم» فكلمة «لو» حرف للتمني، أو للشرط، والجواب محذوف لكان حسناً، وهذا يدل على الحض والترغيب في الغسل، لا على الوجوب. وأجيب: بأن حديث عائشة هذا ليس فيه الأمر بالغسل، وإنما عرض عليهم الغسل عرضاً، وحثهم عليه، فليس فيه دليل على وجوب الغسل، ثم أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك أمر إلزام، فصار الغسل واجباً لذلك، ولو لم يرد إلا هذا الحديث ما قال أحد بوجوب الغسل، وإنما وردت مجموعة من الأحاديث تأمرهم بالغسل، ¬
الدليل الخامس
وبعضها يعبر بالوجوب، (غسل الجمعة واجب) وبعضها بلفظ: (الغسل على كل بالغ) وهي ظاهرة في الوجوب، وبعضها بلفظ (الغسل على كل مسلم) ولا يمنع أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - رغبهم بالغسل أول الأمر، ثم أوجبه عليهم، فيكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - تدرج بهم كشأن بعض الأحكام الشرعية، والله أعلم. الدليل الخامس: (1173 - 46) ما رواه البخاري، من طريق عمرو بن سليم الأنصاري، قال: أشهد على أبي سعيد، قال: أشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستن، وأن يمس طيباً إن وجد. قال عمرو: أما الغسل فأشهد أنه واجب، وأما الاستنان والطيب فالله أعلم، أواجب هو أم لا؟ ولكن هكذا في الحديث. ورواه مسلم دون قول عمرو (¬1). وجه الاستدلال: ظاهر الحديث وجوب الاستنان والطيب لذكرهما بالعطف على الغسل، فالتقدير الغسل واجب، والاستنان والطيب كذلك، وليس الطيب والاستنان بواجبين اتفاقاً، فدل على أن الغسل ليس بواجب، إذ لا يصح تشريك ما ليس بواجب مع الواجب بلفظ واحد. وأجيب بعدة أجوبة، منها: الأول: لا نسلم أن دلالة الاقتران، تعني التساوي في الحكم، لا سيما ولم يقع التصريح بحكم المعطوف، وقد قال سبحانه وتعالى: {كلوا من ثمره إذا ¬
أثمر، وآتوا حقه يوم حصاده} (¬1)، والأكل مباح، ودفع الحق واجب. ثانياً: على التسليم بأن الحديث ظاهر في وجوب الاستنان والطيب، فيقال: قد دل الإجماع على خروج الطيب والاستنان من القول بالوجوب، وبقي ما عداه على الأصل، وهو وجوب الغسل. ثالثاً: لا نسلم حكاية الإجماع بأن الطيب والاستنان ليسا واجبين، فالخلاف محفوظ فيهما، فأما الاستنان، فالقول بوجوبه ذهب إليه داوود الظاهري (¬2)، ونُسِبَ هذا القول إلى إسحاق بن راهوية (¬3). وقد استعرضت أدلة الأقوال في كتابي سنن الفطرة، وهو جزء من هذه السلسلة، والله الموفق. وأما الطيب، فقد قال الحافظ ابن حجر: روى سفيان بن عيينة في جامعه عن أبي هريرة أنه كان يوجب الطيب يوم الجمعة. وإسناده صحيح، وكذا ¬
الدليل السادس
قال بوجوبه بعض أهل الظاهر (¬1). وإن كنت أرجح أن الطيب والاستنان ليسا واجبين، وظاهر حديث أبي سعيد يفيد الوجوب في الجميع، لكن لا يمنع أن يقال: خرج الطيب والاستنان من القول بالوجوب بدليل آخر، وبقي غسل الجمعة على الوجوب، ولذلك روى البخاري عن عمرو بن سليم الأنصاري الراوي لحديث أبي سعيد قوله: أما الغسل فأشهد أنه واجب، وأما الاستنان والطيب فالله أعلم أواجب هو أم لا؟ ولكن هكذا في الحديث. مما يدل على أن فهم السلف للوجوب على ظاهره، وهو الإلزام، ولذلك شهد عمرو بن سليم بوجوب الغسل يوم الجمعة، ولم يشهد على وجوب الطيب والاستنان، ولو كان الوجوب بمعنى التوكيد كما تأوله الجمهور لشهد بذلك للجميع. الدليل السادس: قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: «أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على أن غسل الجمعة ليس بفرض واجب، وفي ذلك ما يكفي ويغني عن الإكثار». ثم قال: «ومع إجماعهم على أن غسل الجمعة ليس بفرض واجب، اختلفوا فيه: هل هو سنة مسنونة للأمة؟ أم هو استحباب وفضل؟ أو كان لعلة فارتفعت؟» (¬2). ودعوى الإجماع على أنه ليس بواجب فيه نظر كبير، فالقول بوجوبه قد شهد به عمرو بن سليم الأنصاري الراوي للحديث عن أبي سعيد، وقوله في ¬
دليل من قال: غسل الجمعة واجب
البخاري، وسبق تخريجه، كما أنه رواية عن الإمام أحمد، ومذهب الظاهرية، وقال الحافظ: وحكاه ابن المنذر عن أبي هريرة وعمار بن ياسر (¬1). قلت: وهو مقتضى صنيع عمر حين أنكر على عثمان بن عفان ترك الاغتسال، وهو على المنبر محتجاً بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالغسل، وهو في الصحيحين، وسبق تخريجه. دليل من قال: غسل الجمعة واجب. الدليل الأول: (1174 - 47) ما رواه البخاري من طريق نافع وسالم فرقهما، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل (¬2). وجه الدلالة: قوله - صلى الله عليه وسلم - «فليغتسل» وهذا أمر بالغسل يوم الجمعة، والأصل في الأمر الوجوب، قال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (¬3). وقال تعالى: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} (¬4)، وقد عاقبه على ترك الامتثال. ¬
الدليل الثاني
وقال تعالى: {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} (¬1)، فذم على ترك امتثال أمره. (1175 - 45) وبما رواه البخاري من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة (¬2). وقد أجمعت الأمة على وجوب الصلاة والزكاة من قوله سبحانه وتعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} (¬3). الدليل الثاني: (1176 - 49) ما رواه مسلم من طريق وهيب، حدثنا عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده. ورواه البخاري (¬4). وجه الدلالة: قوله (حق لله) فالحق بمعنى الواجب، ففي الصحيحين من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن يعبدوه، ولا ¬
يشركوا به شيئاً)) (¬1). فاسْتُعْمِلَتْ كلمة حق في أعظم الواجبات على الإطلاق، وهو ما خلق الخليقة من أجله، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (¬2). الدليل الثالث: (1177 - 50) ما رواه البخاري من طريق صفوان بن سليم، عن عطاء ابن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم. ورواه مسلم (¬3). فالواجب هو اللازم شرعاً، وقد حاول الجمهور تأويل الحديث؛ فقالوا: إن كلمة واجب المقصود بها التوكيد، كما تقول: إكرامك علي واجب، والذي حملهم على هذا التأويل المخالف لظاهر الحديث: إما لأنهم فهموا من كلمة واجب، أن الغسل شرط في صحة الصلاة، فقالوا: الإجماع منعقد على صحة الصلاة، ولو لم يغتسل للجمعة، فحملهم هذا على تأويل الحديث عن ظاهره، والحق أن الحديث نص في وجوب الغسل، وليس نصاً على شرطية الغسل، فلا يصح الاعتراض (¬4). ¬
أو لأنهم حاولوا الجمع بين الأحاديث التي توجب الغسل وبين أحاديث تعارضها، ولكن ليست صحيحة، مثل حديث «من اغتسل يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل». قالوا: فقوله «الغسل أفضل» فإنه يقتضي إشتراك الوضوء والغسل في أصل الفضل، فيستلزم إجزاء الوضوء، فحملهم ذلك على تأويل «غسل يوم الجمعة واجب» إلى ما ذكرنا من أن المقصود به توكيد الغسل، وليس لزومه. والحق أن سند هذا الحديث لا يمكن أن يعارض به أحاديث الصحيحين، فقد علمت ما في الحديث من اختلاف من خلال الكلام على سنده ومتنه. قال ابن دقيق العيد: ذهب الأكثرون إلى استحباب غسل الجمعة، وهم محتاجون إلى الاعتذار عن مخالفة هذا الظاهر - يعني من الأمر بالغسل، ومن الحكم بأنه واجب - وقد أولوا صيغة الأمر على الندب، وصيغة الوجوب على التأكيد، كما يقال: إكرامك علي واجب، وهو تأويل ضعيف إنما يصار إليه إذا كان المعارض راجحاً على هذا الظاهر، وأقوى ما عارضوا به هذا الظاهر حديث «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل» ولا يعارض سنده سند هذه الأحاديث. الخ كلامه رحمه الله (¬1). ¬
قلت: وكلمة (واجب) في الحقيقة الشرعية تعني اللزوم، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم». وقد أخرج أبو داود (¬1)، والنسائي (¬2)، وابن الجارود (¬3)، والطبراني في المعجم الأوسط (¬4)، والطحاوي في شرح معاني الآثار، (¬5) وابن خزيمة (¬6)، وابن حبان (¬7)، والبيهقي (¬8)، من طرق عن مفضل بن فضالة، عن عياش بن عباس، عن بكير بن عبد الله الأشج، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: على كل محتلم رواح الجمعة، وعلى كل من راح إلى الجمعة الغسل. فجمع بكلمة (على) الظاهرة في الوجوب بين الرواح وبين الغسل (¬9). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل من قال: الغسل واجب على من كان به رائحة كريهة
دليل من قال: الغسل واجب على من كان به رائحة كريهة. الدليل الأول: (1178 - 51) ما رواه البخاري من طريق عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي، فيأتون في العباء يصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنسان منهم، وهو عندي، فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا. ووراه مسلم (¬1). وأجيب: بأن هذا الحديث لا ينافي الوجوب، فبيان سبب الوجوب لا ينافي استصحاب الحكم، مع أن حديث عائشة ليس فيه أمر بالغسل، وإنما كان مجرد عرض وحث على الغسل، ثم أمرهم أمر إلزام بالغسل بعد ذلك، وكون السبب قد ارتفع لا يرتفع الحكم، أرأيت إلى مشروعية الرمل في الطواف، كان سبب مشروعيته إغاظة المشركين، ودحض ما أشاعوه بين الناس، بأن ¬
الدليل الثاني
الصحابة رضوان الله عليهم قد وهنتهم حمى يثرب، ولا يزال الناس يرملون إلى اليوم، مع أن الله سبحانه وتعالى قد طهر مكة من رجس المشركين. الدليل الثاني: (1179 - 52) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا عبد العزيز، يعني ابن محمد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، أن أناسا من أهل العراق جاءوا، فقالوا: يا ابن عباس، أترى الغسل يوم الجمعة واجباً؟ قال: لا، ولكنه أطهر وخير لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدء الغسل، كان الناس مجهودين يلبسون الصوف، ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقاً مقارب السقف، إنما هو عريش، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم حار، وعرق الناس في ذلك الصوف حتى ثارت منهم رياح آذى بذلك بعضهم بعضاً، فلما وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الريح قال: أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا، وليمس أحدكم أفضل ما يجد من دهنه وطيبه. قال ابن عباس: ثم جاء الله بالخير، ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل، ووسع مسجدهم، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضا من العرق (¬1). ¬
[قال الحافظ إسناده حسن] (¬1). وأجاب عنه الحافظ بعدة أجوبة، منها: أولاً: الثابت عن ابن عباس خلافه. قلت: لعل الحافظ يشير إلى ما رواه ابن عباس مرفوعاً عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالأمر بالغسل أمراً مطلقاً (¬2)، فإن كان مقصود الحافظ بقوله: «خلافه» أنه يخالفه مخالفة معارضة، بحيث يلزم من قبول هذا طرح ذاك، فليس بصواب، فابن عباس ساق سبب وجوب الغسل، ثم روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمر بالغسل أمراً مطلقاً، وهما لا يتعارضان، خاصة فيما يتعلق بالمرفوع، أما فهم ابن عباس، بأن السبب إذا ارتفع ارتفع الحكم، فهذا فهم من عنده، موقوفاً عليه، والحجة في المرفوع خاصة، كما سيشير إليه الحافظ في الكلام التالي. ثانياً: قال الحافظ: «على تقدير الصحة، فالمرفوع منه ورد بصيغة الأمر الدالة على الوجوب، وأما نفي الوجوب فهو موقوف؛ لأنه من استنباط ابن عباس، وفيه نظر؛ إذ لا يلزم من زوال السبب زوال المسبب، كما في الرمل والجمار» (¬3). هذا فيما يتعلق بأهم الأدلة لكل فريق، وبعد استعراض الأدلة نجد أن ¬
الخلاف في المسألة قوي جداً، وأجد نفسي تميل إلى القول بالوجوب، لأنه ظاهر الأحاديث، والقائلون بالسنية يحتاجون إلى تأويل النصوص، وصرفها عن ظاهرها، لمعارض ليس من القوة بحيث نضطر إلى تأويل النصوص عن ظاهرها، والله أعلم، ومع القول بوجوب الغسل فإن من صلى بدون أن يغتسل فصلاته صحيحة، حتى ولو تركه بدون عذر؛ لأن الغسل واجب، وليس شرطاً في صحة الصلاة هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن وجوب الغسل إنما كان من أجل النظافة وإزالة العرق، وليس عن حدث، والله أعلم.
المبحث الثاني غسل الجمعة لليوم أو للصلاة
المبحث الثاني غسل الجمعة لليوم أو للصلاة اختلف الفقهاء هل غسل الجمعة للصلاة، أو لليوم؟ فقيل: الغسل للصلاة، ويدخل وقته بطلوع الفجر، وهو مذهب الجمهور من المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: الغسل للصلاة، ووقته أن يصلي الجمعة بذلك الغسل، حتى ولو اغتسل قبل طلوع الفجر، فإن اغتسل قبيل صلاة الجمعة، ثم أحدث قبل أن يصلي، أعاد الغسل، وهو اختيار أبي يوسف من الحنفية (¬4). وقيل: الغسل لليوم، فلو اغتسل قبل غروب يوم الجمعة حقق السنة، اختاره بعض الحنفية (¬5)، وهو اختيار ابن حزم (¬6). ¬
دليل من قال: الغسل يوم الجمعة للصلاة
دليل من قال: الغسل يوم الجمعة للصلاة. الدليل الأول: (1180 - 53) ما رواه البخاري من طريق نافع وسالم فرقهما، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل (¬1). الدليل الثاني: ما رواه أبو داود، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا عبد العزيز، يعني ابن محمد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة أن أناسا من أهل العراق جاءوا فقالوا: يا ابن عباس، أترى الغسل يوم الجمعة واجباً؟ قال: لا، ولكنه أطهر وخير لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدء الغسل، كان الناس مجهودين يلبسون الصوف، ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقاً مقارب السقف، إنما هو عريش، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم حار، وعرق الناس في ذلك الصوف، حتى ثارت منهم رياح آذى بذلك بعضهم بعضاً، فلما وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الريح قال: أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا، وليمس أحدكم أفضل ما يجد من دهنه وطيبه. قال ابن عباس: ثم جاء الله بالخير، ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل، ووسع مسجدهم، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم ¬
الدليل الثالث
بعضا من العرق (¬1). [قال الحافظ إسناده حسن] (¬2). فكان مشروعية الغسل من أجل اجتماع الناس في المسجد، ودفعاً لما قد يتأذى بعضهم من بعض نتيجة انبعاث الروائح الكريهة عند اجتماع الناس. الدليل الثالث: (1181 - 54) ما رواه البخاري من طريق الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن عمر بن الخطاب بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة، إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فناداه عمر، أية ساعة هذه؟ قال: إني شغلت، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزد أن توضأت. فقال: والوضوء أيضاً، وقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالغسل (¬3). وجه الاستدلال: أنكر عمر على عثمان إتيانه الجمعة مقتصراً على الوضوء، وتاركاً للغسل، ولو كان وقت الغسل لم يذهب بعد، لم يكن الإنكار في محله، فكان يمكن لعثمان أن يغتسل بعد الجمعة، فدل هذا على أن الغسل لحضور الصلاة، وليس لذات اليوم. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (1182 - 55) ما رواه البخاري من طريق سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر. ووراه مسلم (¬1). قوله: «من اغتسل ثم راح» التعبير بـ (ثم) دليل على الترتيب، فكان الغسل قبل الرواح. دليل من قال: الغسل لليوم، وليس للصلاة. الدليل الأول: (1183 - 56) ما رواه البخاري من طريق صفوان بن سليم، عن عطاء ابن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم. ورواه مسلم (¬2). ¬
الدليل الثاني
وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أضاف الغسل إلى يوم الجمعة، ويوم الجمعة يبدأ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. الدليل الثاني: (1184 - 57) ما رواه البخاري من طريق عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي، فيأتون في العباء يصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنسان منهم، وهو عندي، فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا» فجعل الطهر من أجل اليوم، وليس من أجل الصلاة. الدليل الثالث: (1185 - 58) ما رواه مسلم من طريق وهيب، حدثنا عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده. ¬
وفي رواية للبخاري «على كل مسلم حق أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً» (¬1). وجه الاستدلال: جعل الغسل مشروعاً في السبعة أيام، فإذا اغتسل في اليوم السابع فقد قام بالمشروع، وقد بينب الرويات الأخرى، أن هذا اليوم هو يوم الجمعة، ففي أي ساعة اغتسل فقد امتثل الأمر. (1186 - 59) فقد روى أحمد رحمه الله، قال: حدثنا بشر بن المفضل، عن داود بن أبي هند، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: على كل مسلم غسل في سبعة أيام، كل جمعة (¬2). [أخطأ فيه داود بن أبي هند، فرواه على الجادة، عن أبي الزبير، عن جابر، وقد رواه الثقات عن أبي الزبير، عن طاووس، عن أبي هريرة] (¬3). ¬
دليل من قال: لو اغتسل قبل الفجر ثم صلى الجمعة بذلك الغسل أجزأ
قلت: الجمع بين هذه الروايات ممكن، فقد يطلق الكل، ويراد به البعض، كما قال تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم} (¬1). وقد يطلق البعض، ويراد به الكل، كما في قوله تعالى: {فتحرير رقبة} (¬2)، فالأحاديث التي أطلق فيها الغسل يوم الجمعة، لم يرد به كل اليوم، وإنما أراد به بعض اليوم، وهو ما قبل صلاة الجمعة، والقرينة التي تؤيد ذلك الأحاديث الصحيحة المصرحة بالأمر بالغسل من أراد أن يأتي الجمعة، أي الصلاة، والله أعلم. دليل من قال: لو اغتسل قبل الفجر ثم صلى الجمعة بذلك الغسل أجزأ. استدل من جهة اللغة، فإن النصوص قد نصت على الغسل يوم الجمعة لمن يريد حضور الصلاة، واليوم يطلق ويراد به اليوم والليلة، قال تعالى: {قال ¬
الراجح من الخلاف
رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً} (¬1). وقال في آية أخرى {ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً} (¬2). (1187 - 60) وقد روى البخاري ومسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام (¬3). وفي رواية لمسلم: (أن أعتكف يوماً)، قال - صلى الله عليه وسلم -: أوف بنذرك (¬4). الراجح من الخلاف: أن الغسل للصلاة، ليس من قبيل الغسل عن الأحداث، فهو مراد به النظافة، ومن أجل اجتماع الناس، وقد أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والأصل في الأمر الوجوب، وجاء بعضها بلفظ (غسل الجمعة حق لله) وفي بعضها «غسل الجمعة واجب» وفي بعضها (على كل مسلم) وهي كلها ألفاظ إن لم تكن صريحة فهي ظاهرة في الوجوب، وقد علق الأمر بالسعي إلى الجمعة: «إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل» وفي بعضها أضاف الغسل إلى يوم الجمعة، فيقال: الغسل للصلاة يوم الجمعة، ويوم الجمعة يدخل من ليلة الجمعة حتى حضور الصلاة، لكن لو أنه عندما نام ليلة الجمعة، تعرض لعرق كثير أذهب فائدة اغتسال ذلك اليوم، كان المطلوب منه إعادة الغسل؛ لأن غسل الجمعة المراد منه النظافة، وليس رفع الحدث، والله أعلم. ¬
مبحث في غسل من لا تجب عليه الجمعة
مبحث في غسل من لا تجب عليه الجمعة بينت فيما سبق خلاف أهل العلم في وقت الغسل، وهل الغسل مشروع للصلاة أو لليوم؟ وينبني على هذا الخلاف خلاف آخر، فمن قال: إن الغسل للصلاة رأى أن الحكم خاص بمن تلزمه الجمعة، أو بمن أراد حضورها، ولو لم تلزمه. ومن قال: إن الغسل لليوم، رأى أن الغسل مشروع للمرأة، والرجل، والمسافر، وغيرهم، بل ذهب بعض أهل العلم إلى مشروعيته حتى للحائض والنفساء، وإليك بيان الأقوال في هذه المسألة، فقيل: يسن لكل من أراد حضور الجمعة، سواء الرجل والمرأة، والصبي والمسافر والعبد وغيرهم، ولا يسن لمن لم يرد الحضور، وإن كان من أهل الجمعة، وهو الصحيح من مذهب الحنفية (¬1)، وهو مذهب المالكية (¬2)، وأصح الأقوال في مذهب الشافعية (¬3). ¬
دليل من قال: الغسل متعلق بالحضور، ولو لم تلزمه
وقيل: يسن لذكر حضر الجمعة، ولو لم تجب عليه، كالعبد، والمسافر، ولا يستحب للمرأة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: لا يسن إلا لمن لزمه الحضور، وهو قول في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: يسن لمن هو من أهل الجمعة، ومنعه من الحضور عذر ونحوه، وهو قول في مذهب الشافعية (¬3). وقيل: الغسل على كل بالغ من الرجال والنساء، حضروا الصلاة أو لم يحضروا، وهو قول أبي ثور (¬4)، وقول في مذهب الشافعية (¬5)، واختاره ابن حزم حتى للحائض والنفساء (¬6). دليل من قال: الغسل متعلق بالحضور، ولو لم تلزمه. الدليل الأول: (1188 - 61) ما رواه البخاري من طريق نافع وسالم فرقهما، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل (¬7). ¬
الدليل الثاني
فكلمة «أحد» نكرة مضافة، فتعم كل أحد ممن جاء إلى الجمعة، سواء كان صغيراً أو كبيراً، ذكراً كان أو أنثى، مسافراً أو غير مسافر، ومن قصر اللفظ على بعض أفراده لزمه دليل على تقييد هذا المطلق. الدليل الثاني: (1189 - 62) ما رواه البخاري من طريق سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر. ووراه مسلم (¬1). قوله: «من اغتسل ثم راح» فيه فائدتان: الأولى: أن الغسل قبل الرواح. والثانية: أن الرواح سبب في الغسل. الدليل الثالث: (1190 - 63) ما رواه ابن خزيمة من طريق محمد بن رافع، عن زيد بن الحباب، حدثني عثمان بن واقد العمري، حدثني نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أتى الجمعة من الرجال ¬
والنساء فليغتسل، ومن لم يأتها فليس عليه غسل من الرجال والنساء (¬1). [ذكر النساء في الحديث غير محفوظ] (¬2). ¬
دليل من قال: الغسل يلزم كل بالغ حضر الجمعة أو لا
دليل من قال: الغسل يلزم كل بالغ حضر الجمعة أو لا. الدليل الأول: (1191 - 64) ما رواه البخاري من طريق صفوان بن سليم، عن عطاء ابن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم (¬1). فكلمة «كل» من ألفاظ العموم، فتعم الرجال والنساء، مَنْ حضر الجمعة ومن لم يحضر، حتى الحائض والنفساء. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1192 - 65) ما رواه مسلم من طريق وهيب، حدثنا عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده. ورواه البخاري (¬1). وجه الاستدلال: أنه جعل الغسل في كل سبعة أيام، فكأن هذا توقيت لتنظيف الجسد مرة واحدة من كل أسبوع، حضر الجمعة أو لم يحضر. وأجابوا عن حديث «من جاء منكم الجمعة فليغتسل» بأن هذا الحديث فيه الأمر بالغسل على من حضر الجمعة، وليس فيه نص على إسقاط الغسل عمن لم يحضر، وفي الأحاديث الأخرى بينت وجوب الغسل على كل مسلم كما في حديث «حق لله على كل مسلم» وفي بعضها «واجب على كل محتلم» فهذا قدر زائد فيجب الأخذ به. دليل من قال: الغسل واجب على الرجال دون النساء. (1193 - 66) ما رواه البخاري، من طريق سالم بن عبد الله، أنه سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من جاء منكم الجمعة فليغتسل. ورواه مسلم. وجه الاستدلال: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من جاء منكم الجمعة» يؤخذ منه فائدتان: ¬
دليل من قال: يلزم الغسل لمن تلزمه الجمعة وإن تركها لعذر
الأولى: أن الغسل مشروع في حق من يحضر الجمعة. الثانية: أنه نص على وجوب الغسل على الرجال، لقوله: «منكم» ولم يقل: «منكن» فسقط وجوب الغسل على النساء. وأجيب: بأن الأحكام على عمومها للرجال والنساء إلا بدليل، فما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء، وكذلك العكس، وقد قال تعالى: {وأقيموا الصلاة} فكان هذا خطاباً للرجال، وقدخل فيه النساء، وكذلك قوله: ... {آتوا الزكاة} عام للرجال والنساء، كما أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أتى الجمعة فليغتسل» فإن كلمة (من) اسم شرط، وهو من ألفاظ العموم. دليل من قال: يلزم الغسل لمن تلزمه الجمعة وإن تركها لعذر. قالوا: هذا الرجل المعذور في ترك الجمعة مشروع في حقه أمران، الأول حضور الجمعة، والثاني الغسل لها، فإذا عجز عن أحدهما لم يسقط الآخر. الراجح من أقوال أهل العلم: بعد استعراض أدلة كل قول، أجد أن القول بأن الغسل مشروع في حق من حضر الجمعة من الرجال والنساء البالغين أقوى من حيث الأدلة، والنصوص تفسر بعضها بعضاً، فالأحاديث التي تأمر بالغسل يوم الجمعة، يجب أن تقيد بالأحاديث التي تعلق الأمر بالغسل على شهود الجمعة، وقد نصت على أن الوجوب على كل محتلم، فغير البالغ، ولو حضر ليس مخاطباً في الغسل، خاصة إذا علمنا أن سبب مشروعية الغسل هو اجتماع الناس، وقد يتضايق بعضهم من بعض بسبب اجتماع الناس، وقد ينبعث من بعضهم بعضُ الروائح التي تؤذي الآخرين، والله أعلم.
الفصل السابع من موجبات الغسل حيض المرأة
الفصل السابع من موجبات الغسل حيض المرأة اتفق العلماء على أن الغسل يجب من الحيض، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، والإجماع. أما من القرآن: فقوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} (¬1). وجه الاستدلال: أن المرأة يلزمها تمكين زوجها من الوطء، ولا يجوز ذلك إلا بالغسل، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فإن قيل: أين الدلالة من الآية على أنه لا يجوز الوطء إلا بعد الاغتسال؟ فالجواب: أن الله سبحانه وتعالى علق الحكم بجواز إتيان الزوجة بشرطين: الأول: انقطاع الدم، ويؤخذ من قوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} (¬2). فقوله: «يطهرْنَ» بالتخفيف. كلمة «طهر» تستعمل فيما لا كسب فيه للإنسان وهو انقطاع دم الحيض. ¬
الدليل من السنة على وجوب الاغتسال
الشرط الثاني: «فإذا تطهرن فأتوهن» وكلمة (تطهرن) بالتشديد: أي اغتسلن؛ لأن كلمة (تطهرّ) تستعمل فيما يكتسبه الإنسان بفعله، وهو الاغتسال من الماء. وقد سبق تحرير هذه المسألة في كتاب الحيض والنفاس من هذه السلسلة. الدليل من السنة على وجوب الاغتسال: (1194 - 67) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن أبي رجاء، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: سمعت هشام بن عروة، قال: أخبرني أبي، عن عائشة رضي الله عنها، أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: «إني استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟» فقال: لا، إن ذلك عرق ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي)) (¬1). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ثم اغتسلي وصلي» أمر بالاغتسال، والأصل في الأمر الوجوب. (1195 - 68) ودليل آخر رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن سلمة المرادي، حدثنا عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بن شهاب، عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أم حبيبة بنت جحش، ختنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحت عبد الرحمن بن عوف، استحيضت سبع سنين، فاستفتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن هذه ليست بالحيضة، ولكن هذا عرق، فاغتسلي وصلي. ¬
الدليل من الإجماع
قالت عائشة فكانت تغتسل في مركن في حجرة أختها زينب بنت جحش، حتى تعلو حمرة الدم الماء. قال ابن شهاب فحدثت بذلك أبا بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقال: يرحم الله هنداً، لو سمعت بهذه الفتيا، والله إن كانت لتبكي؛ لأنها كانت لا تصلي (¬1). وجه الشاهد قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فاغتسلي وصلي». وفي رواية: «امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي». وأما الدليل من الإجماع: فقد نقل الإجماع جماعة، منهم الكاساني الحنفي (¬2). وقال النووي: «أجمع العلماء على وجوب الغسل بسبب الحيض، وبسبب النفاس، وممن نقل الإجماع فيهما ابن المنذر، وابن جرير الطبري وآخرون» (¬3). ونقل الإجماع ابن مفلح الحنبلي (¬4). ¬
المبحث الأول خلاف العلماء في الموجب للغسل اختلف العلماء في الموجب للغسل: هل الموجب خروج الدم؟ أم انقطاعه؟ أم إرادة الصلاة؟ أم الموجب الجميع (خروج الدم وانقطاعه وإرادة الصلاة)؟ إلى أقوال: فقيل: الموجب للغسل خروج الدم. اختاره بعض الحنفية (¬1)، وقول العراقيين من الشافعية (¬2). وقيل: الموجب انقطاع دم الحيض. اختاره بعض الحنفية (¬3)، وأبو حامد من الشافعية (¬4)، وهو مفهوم كلام الخرقي (¬5). وقيل: الموجب للغسل خروج الدم، لكن الانقطاع شرط لصحته. وهو مذهب المالكية (¬6)، والحنابلة (¬7). ¬
دليل من قال: الموجب للغسل خروج الدم
وقيل: الموجب للغسل إرادة القيام إلى الصلاة. اختاره بعض الحنفية (¬1)، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: الغسل يجب بمجموع خروج الدم وانقطاعه والقيام إلى الصلاة. وهو وجه في مذهب الشافعية (¬3). دليل من قال: الموجب للغسل خروج الدم. قالوا: إذا خرج الدم فقد نقض الطهارة الكبرى، وإن لم يجب الغسل مع سيلان الدم، لأنه ينافيه، فإذا انقطع أمكن الغسل. فوجوبه من أجل الحدث السابق. التعليل الثاني: أن الحيض الذي أوجب الغسل من وجهين: الأول: من حيث كونه سبباً في منع الصلاة والصيام ونحوهما. الثاني: أننا لا يمكن أن نعتبر انقطاع الدم، وهو نوع من الطهارة موجباً للطهارة، فمحال أن الطهارة توجب الطهارة، وإنما الموجب للطهارة هو النجاسة، إنما أجل الاغتسال إلى حين انقطاع الحيض، لأنه لا فائدة من الاغتسال حينئذٍ. دليل من قال: الموجب للغسل انقطاع الدم. قالوا: لأن الدم ما دام باقياً لا يمكن الغسل، وما لا يمكن لا يجب. ورد عليهم: بأن الحائض يحرم عليها الصلاة والصيام بخروج الدم، ولو كان الموجب هو الانقطاع لما حرم عليها حتى ينقطع. ¬
دليل من قال: يجب بإرادة القيام إلى الصلاة
ولأن النجاسة حصلت بخروج الدم، فوجب التطهير عنده، إذ التنجس ووجوب التطهير متلازمان. دليل من قال: يجب بإرادة القيام إلى الصلاة. ولعل ملحظ هذا القول رأى بأن الإنسان لا تجب عليه الطهارة الصغرى والكبرى إلا إذا وجب عليه فعل عبادة تشترط لها الطهارة، فإذا طهرت المرأة بعد طلوع الشمس لم يجب عليها الاغتسال إلا عند إرادة فعل صلاة الظهر في وقتها، ولعلهم ذكروا الصلاة وأرادوا به المثال: أي ومثل الصلاة سائر العبادات التي تشترط لها الطهارة؛ ولأن الحدث الأصغر والأكبر إنما أمرنا بالطهارة منهما عند القيام إلى الصلاة، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ..} إلى قوله: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬1). دليل من قال: لا يجب الغسل إلا بخروج الدم وانقطاعه والقيام إلى الصلاة. أدلته: مجموع أدلة الأقوال السابقة، وهي أن خروج الدم موجب للحدث الأكبر وانقطاعه وإرادة الصلاة موجبان للغسل كذلك. والراجح من هذه الأقوال: أن خروج الدم موجب للغسل، لكن انقطاعه شرط للصحة، وهذا الوجوب على التراخي، وليس على الفور، فإذا وجبت عبادة تشترط لها الصلاة وضاق بوقتها ولم يبق من وقتها إلا ما يكفي للغسل والصلاة وجب الغسل حينئذ. والله أعلم. ¬
الفصل الثامن من موجبات الغسل النفاس
الفصل الثامن من موجبات الغسل النفاس يجب على النفساء الاغتسال إذا طهرت. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم لا اختلاف بينهم أن على النفساء الاغتسال عند خروجها من النفاس. اهـ (¬1). وقال ابن حزم: ((ودم النفاس يمنع ما يمنع منه دم الحيض، هذا لا خلاف فيه من أحد، ثم قال: «وكذلك الغسل منه واجب بإجماع» (¬2). وقال صاحب المجموع، وصاحب نيل المآرب يزيد بعضهم على بعض، قالا: والنفاس كحيض، فيما يجب: كغسل، وقضاء صوم، وكفارة بوطء فيه. وفيما يحرم: كصلاة وصوم ووطء في فرج، وطلاق. وفيما يسقط: كقضاء الصلاة، وطواف الوداع. وفيما يحل: كاستمتاع بما دون فرج. وفيما يمنع صحة الصلاة، والصوم، والطواف، والاعتكاف، والغسل (¬3). وقال ابن قدامة: وحكم النفساء حكم الحائض في جميع ما يحرم عليها، ويسقط عنها، لا نعلم في هذا خلافاً، وكذلك تحريم وطئها، وحل ¬
مباشرتها، والاستمتاع بما دون الفرج منها، والخلاف في الكفارة بوطئها (¬1). وقال في المهذب: «ودم النفاس يحرم ما يحرمه الحيض، ويسقط ما يسقطه الحيض؛ لأنه حيض مجتمع احتبس لأجل الحمل، فكان حكمه حكم الحيض» (¬2). وقال في المعونة: «وجميع ما ذكرناه من الظواهر - يعني من أحكام الحيض- وإن كان النص فيها متناولاً للحيض وحده، فإن النفاس ملحق به بالإجماع؛ لأن أحداً لم يفرق بينهما في هذه الأحكام، أو بالقياس، وهو أنه دم خارج من الفرج، لا يكون إلا مع البلوغ» (¬3). وقال ابن رجب: ودم النفاس حكمه حكم دم الحيض فيما يحرمه ويسقطه، وقد حكى الإجماع غير واحد من العلماء، منهم ابن جرير وغيره (¬4). ¬
الباب الثاني في الأغسال المستحبة
الباب الثاني في الأغسال المستحبة الفصل الأول الغسل للإحرام يسن لمن أراد أن يحرم بالحج أو بالعمرة أن يغتسل لإحرامه، ذكراً كان أو أنثى، صغيراً كان أو كبيراً، حتى الحائض والنفساء، وهذا مذهب الأئمة (¬1). ¬
دليل من قال: الغسل للإحرام مسنون
وقيل: يجب الغسل على النفساء إذا أرادت الإحرام، وعلى المرأة إذا أهلت بعمرة ثم حاضت، ثم أرادت أن تهل بالحج ففرض عليها الغسل أيضاً، وهذا مذهب ابن حزم رحمه الله (¬1). وقيل: يجب الغسل على كل من أراد أن يهل، طاهراً كان أو غير طاهر، قال ابن عبد البر: وبه قال: أهل الظاهر (¬2). دليل من قال: الغسل للإحرام مسنون. الدليل الأول: (1196 - 69) ما رواه البزار، قال: حدثنا الفضل بن يعقوب الجزري، ثنا سهل بن يوسف، ثنا حميد، عن بكر، عن ابن عمر، قال: من السنة أن يغتسل الرجل إذا أراد أن يحرم. قال البزار: لا نعلمه عن ابن عمر من وجه أحسن من هذا (¬3). [رجاله ثقات] (¬4). ¬
الدليل الثاني
وقد روى مالك، عن نافع، عن ابن عمر من فعله موقوفاً عليه، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. الدليل الثاني: (1197 - 70) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي زياد، حدثنا عبد الله بن يعقوب المدني، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - تجرد لإهلاله واغتسل. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب (¬1). [تفرد به عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1198 - 70) ما رواه الطبراني من طريق عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، قال: نا خالد ابن إلياس، عن صالح بن أبي حسان، عن عبد الملك بن مروان، عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج إلى مكة اغتسل حين يريد أن يحرم. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن عبد الملك بن مروان إلا صالح بن أبي حسان، ولا عن صالح إلا خالد بن إلياس، تفرد به عبيد الله بن عبد المجيد (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (1199 - 72) ما رواه الحاكم في المستدرك من طريق يعقوب بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اغتسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لبس ثيابه، فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين، ثم قعد على بعيره، فلما استوى على البيداء أحرم بالحج (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: أصح ما ورد في الاغتسال للإحرام، كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر به أسماء بنت عميس، وهي نفساء، وأمر به عائشة، وهي حائض، واغتسال مثلهما لم يكن لرفع حدث، وإنما قصد به النظافة، فغيرهما ممن يصلي مع المسلمين أولى بالأمر بالغسل، والله أعلم. (1200 - 73) فقد روى مسلم من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر رضي الله عنه في صفة حج الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: ولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي .. الحديث (¬1). وقوله: «استثفري» دليل على أن الدم ما زال ينزل منها. (1201 - 74) وروى مسلم من طريق الليث، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه أنه قال في حديث طويل وفيه: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة رضي الله عنها، فوجدها تبكي، فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني أني قد حضت، وقد حل الناس، ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن، فقال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلي بالحج ... الحديث (¬2). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: الإجماع، فقد حكى الإجماع بعض أهل العلم على استحباب الغسل للإحرام. قال النووي: اتفق العلماء على أنه يستحب الغسل عند إرادة الإحرام بحج أو عمرة أو بهما (¬1). (1202 - 75) ومن الآثار: ما رواه مالك، عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم، ولدخوله مكة، ولوقوفه عشية عرفة (¬2). [إسناده في غاية الصحة]. دليل ابن حزم على وجوب الغسل على النفساء وعلى الحائض إذا خشيت فوات الحج. (1203 - 76) ما رواه مسلم من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر رضي الله عنه في صفة حج الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: ولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي .. الحديث (¬3). وقوله: «اغتسلي» أمر، والأصل في الأمر الوجوب إلا لصارف، ولا صارف هنا. (1204 - 77) وروى مسلم من طريق الليث، عن أبي الزبير، ¬
عن جابر رضي الله عنه أنه قال في حديث طويل وفيه: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة رضي الله عنها فوجدها تبكي، فقال: ما شأنك، قالت: شأني أني قد حضت، وقد حل الناس، ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن، فقال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلي بالحج ... الحديث (¬1). وجه الاستدلال: كالاستدلال بالحديث الذي قبله حيث أمرها بالغسل، والأصل في الأمر الوجوب. ويجاب: هذا الحكم يتمشى مع ظاهرية ابن حزم رحمه الله، لكن أهل القياس يعلمون أن الأمر هنا ليس للوجوب، وذلك إذا كان الغسل في حق المرأة الطاهرة وكذلك في حق الرجل ليس واجباً بالإجماع، فكيف يكون واجباً في حق المرأة النفساء والحائض، خاصة أن الغسل لن يمكنها من الطواف، ولن يمنع نزول الدم، والله أعلم. قال ابن المنذر في الأشراف: أجمع عوام أهل العلم على أن الإحرام بغير غسل جائز, قال: وأجمعوا على أن الغسل للإحرام ليس بواجب إلا ما روي عن الحسن البصري أنه قال: إذا نسي الغسل يغتسل إذا ذكره (¬2). قلت: هذه العبارة من الحسن البصري لا تدل على وجوب الغسل، لأن ¬
دليل من قال: الغسل للإحرام واجب
الغسل المراد به التنظيف، فإذا نسيه فقد تركه لعذر، فيقضيه، كما تقضى السنن الرواتب إذا تركها المرء لعذر، والله أعلم. دليل من قال: الغسل للإحرام واجب. ربما استدل بأمره صلى الله عليه وسلم للفنساء والحائض بالغسل، فإذا أمرن به، فالأصل في الأمر الوجوب، وإذا كان واجباً في حق النفساء والحائض كان واجباً في حق الطاهر من باب أولى. والراجح: القول بالاستحباب، فإنه أقوى دليلاً، وقد علمت المناقشة الواردة على أدلة من قال بالوجوب.
الفصل الثاني الاغتسال لدخول مكة
الفصل الثاني الاغتسال لدخول مكة من الأغسال المسنونة الغسل عند دخول الحرم، وقبل الطواف، وهو مذهب الأئمة. وهل الغسل لدخول الحرم، أو من أجل الطواف بحيث لا يشرع الغسل للحائض والنفساء، قولان. فقيل: لدخول الحرم، فيشرع الغسل للجميع حتى الحائض والنفساء، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: بل من أجل الطواف، فلا يشرع الغسل للحائض والنفساء، وهو مذهب المالكية (¬4)، ورجحه ابن تيمية رحمه الله (¬5). ¬
الدليل على مشروعية الغسل لدخول مكة. (1205 - 78) ما رواه البخاري، قال: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، أخبرنا، أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى، ثم يصلي به الصبح ويغتسل، ويحدث أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك (¬1). (1206 - 79) وفي رواية لمسلم: أن ابن عمر كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح، ويغتسل، ثم يدخل مكة نهاراً، ويذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله (¬2). والذي يظهر أن الغسل كان للطواف، ولو كان الغسل لدخول الحرم لكان الغسل مشروعاً قبيل دخول الحرم، أو بعد دخوله مباشرة، أما كونه يغتسل بعد دخول الحرم، والمبيت بذي طوى، فيكون الغسل ظاهراً أنه من أجل الطواف، ولم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر النفساء والحائض بالغسل عند دخول الحرم، كما أمر أسماء بنت عميس بالغسل عند الإحرام، ولو أمرهن لنقل وحفظ؛ لأنه من شريعة الله التي تعهد الله بحفظها، فلما لم ينقل علم أنه غير مشروع، والله أعلم. ثم القياس على الجمعة، فكما أن الغسل مشروع يوم الجمعة للصلاة من أجل اجتماع الناس، فكذلك الغسل مشروع للطواف من أجل ازدحام الطائفين، لئلا يتأذى الناس والملائكة بسبب الروائح المنبعثة، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث الغسل من زوال العقل
الفصل الثالث الغسل من زوال العقل إذا أفاق المجنون أو المغمى عليه، فيشرع في حقه الغسل، ولا يجب عليه، نص عليه كثير من العلماء (¬1). وقيل: يجب الغسل، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2)، وحكاه الرافعي من الشافعية وجهاً (¬3). ¬
دليل من قال بأن الغسل سنة
وقيل: لا يشرع الغسل، وهو مذهب مالك، وحمل بعضهم غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته حين أغمي عليه، ليقوى على الخروج، وهو اختيار ابن حزم (¬1). دليل من قال بأن الغسل سنة. (1207 - 80) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن يونس، قال حدثنا زائدة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: دخلت على عائشة، فقلت: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قالت: بلى، ثقل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك. قال: ضعوا لي ماء في المخضب، قالت: ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله. قال: ضعوا لي ماء في المخضب، قالت: فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، فقال: ضعوا لي ماء في المخضب، فقعد، فاغتسل، ثم ذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي عليه السلام لصلاة العشاء الآخرة، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس ... الحديث (¬2). ¬
دليل من قال: لا يشرع الغسل
قال النووي: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ضعوا لي ماء في المخضب، ففعلنا، فاغتسل» دليل الاستحباب بالغسل من الإغماء، وإذا تكرر الإغماء استحب تكرار الغسل لكل مرة، فإن لم يغتسل إلا بعد الإغماء مرات كفى غسل واحد، وقد حمل القاضي عياض الغسل هنا على الوضوء، ولكن الصواب أن المراد غسل جميع البدن، فإنه ظاهر اللفظ، ولا مانع يمنع منه، فإن الغسل مستحب من الإغماء، بل قال بعض أصحابنا: إنه واجب، وهذا شاذ، ضعيف (¬1). وإذا كان هذا الغسل في حق المغمى عليه، فالمجنون من باب أولى؛ لأنه أشد. دليل من قال: لا يشرع الغسل. ذكر إن حديث عائشة السابق ليس فيه دليل على أن الغسل كان بسبب الإغماء، وإنما الغسل كان من أجل الحاجة لكي يتقوى للخروج إلى الصلاة بالمسلمين؛ لأنه لم يطلب الماء للغسل إلا حين قيل له: الناس عكوف في المسجد، ينتظرونك للصلاة، فلو كانت الصلاة في بيته لم يغتسل من أجل الإغماء، وفرق بين الغسل من أجل النشاط والقوة، وبين الغسل من أجل الإغماء. وهذا أجود من حمل القاضي عياض، بأن المراد بالغسل الوضوء؛ لأنه خلاف ظاهر اللفظ. ¬
دليل من قال: الغسل واجب
دليل من قال: الغسل واجب. قال إن الجنون سبب في نزول المني غالباً، ويلحق به المغمى عليه، فما كان مظنة للحدث نزل منزلة الحدث كالنوم. ويجاب: بأن الريح من النائم ليس لها أمارة يعرف بها خروج الحدث، فنزل النوم منزلة الحدث، بخلاف نزول المني فإن له أمارة وأثراً على البدن والثوب، ولذلك لا يجب الغسل من النوم مع أن فيه زوال العقل؛ لأن موجب الغسل له أمارة تدل عليه، بخلاف نقض الوضوء بالريح، والله أعلم. الراجح والله أعلم، أن المغمى عليه إذا هم بفعل الصلاة، فوجد ثقلاً في بدنه، فإنه يستحب له الغسل ليصلي بقوة ونشاط، فإن كان لا يريد الصلاة، فلا يستحب له الغسل، والله أعلم.
الفصل الرابع الغسل للعيدين
الفصل الرابع الغسل للعيدين اختلف العلماء في غسل العيدين، فقيل: يشرع الغسل للعيدين، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: لا يشرع الغسل (¬5). دليل مشروعية الغسل للعيدين. الدليل الأول: (1208 - 81) ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، قال: أخبرني من لا أتهم، ¬
عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنهم سمعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم جمعة من الجمع، وهو على المنبر يقول: يا معشر المسلمين، إن هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين، فاغتسلوا فيه من الماء، ومن كان عنده طيب أن يمس منه، وعليكم بهذا السواك (¬1). [إسناده ضعيف لإبهام الواسطة بين الزهري وبين الصحابي] (¬2). ¬
وجه الاستدلال: قوله: «جعله الله عيداً للمسلمين فاغتسلوا فيه» فعلل الأمر بالاغتسال يوم الجمعة لكونه عيداً، فكذلك كل عيد للمسلمين يكون مشروعاً الاغتسال فيه، والله أعلم. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1209 - 82) ما رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند، قال: قال حدثني نصر بن علي، قال: حدثنا يوسف بن خالد، قال حدثنا أبو جعفر الخطمي، عن عبد الرحمن بن عقبة بن الفاكه، عن جده الفاكه بن سعد، وكانت له صحبة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم الفطر، ويوم النحر قال: وكان الفاكه ابن سعد يأمر أهله بالغسل في هذه الأيام (¬1). [موضوع] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1210 - 83) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا جبارة بن المغلس، حدثنا حجاج بن تميم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل يوم الفطر، ويوم الأضحى (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (1211 - 84) ما رواه الطبراني من طريق نصر بن حماد، قال: نا أيوب ابن خوط، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من صام رمضان، وغدا بغسل إلى المصلى، وختمه بصدقة، رجع مغفوراً له (¬1). قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن قتادة إلا أيوب بن خوط، تفرد به نصر بن حماد. [ضعيف جداً] (¬2). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (1212 - 85) ما رواه البزار، قال: حدثنا محمد بن معمر، ثنا عبد العزيز، ثنا مندل، عن محمد بن عبيد الله، عن أبيه، عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل للعيدين (¬1). [ضعيف جداً] (¬2). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (1213 - 86) ما رواه مالك في الموطأ، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى (¬1). [إسناده في غاية الصحة، وهو موقوف على ابن عمر]. الدليل السابع: (1214 - 87) ما رواه الشافعي، قال: أخبرنا ابن علية، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن زاذان، قال: سأل رجل علياً رضي الله عنه عن الغسل؟ فقال: اغتسل كل يوم إن شئت، فقال: الغسل الذي هو الغسل؟ قال: يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم النحر، ويوم الفطر (¬2). [إسناده صحيح]. ¬
الدليل الثامن
فينبغي أن يكون الاستدلال على مشروعية الاغتسال في يوم العيد على فعل ابن عمر وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما؛ لأن فعل الصحابي حجة فيما لم يُخَالَف فيه، ولم يُخَالِف نصاً صريحاً مرفوعاً. الدليل الثامن: القياس على غسل الجمعة، بجامع أن كلاً منهما عيد للمسلمين، ويجتمع فيه الناس، فيستحب فيه أن يكون المسلم في كامل زينته، ومنها الاغتسال والطيب وغيرهما. دليل من قال: غسل العيدين ليس مشروعاً. هذا القول رأى أن العبادات توقيفية، ولا يتعبد الله سبحانه وتعالى إلا بما شرع لهم، ولا يوجد دليل صحيح مرفوع يأمر بالغسل يوم العيد، {وما كان ربك نسياً}. وقد قال البزار: لا أحفظ في الاغتسال في العيدين حديثاً صحيحاً (¬1). ويجاب عنه: كونه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث مرفوع، فهذا مسلم، ولكن قد فعله السلف، ومنهم علي بن أبي طالب، وهو خليفة راشد، وله سنة متبعة، كما فعله ابن عمر، وهو من أحرص الناس على السنة، فكل هذا يدل على أن استحباب الغسل للعيدين له أصل، والله أعلم. الراجح من الخلاف: استحباب الغسل يوم العيد يتنازعه عندي معنيان، ¬
فعدم ثبوت اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم للعيد، وعدم ثبوت الأمر به من لدن النبي صلى الله عليه وسلم، والعيد يتكرر في عهده صلى الله عليه وسلم، ولو فعله أو أمر به، لنقل إلينا برواية الثقات العدول، فلما لم ينقل ذلك علم أن هذا الأمر ليس مشروعاً، وكان ذلك بمثابة نقل عدم الفعل منه صلى الله عليه وسلم. وينازع ذلك أن الغسل قد ثبت عن علي بن أبي طالب، وعن ابن عمر رضي الله عنهم، خاصة أن ما ورد عن علي بن أبي طالب كان قولياً، وهو أبلغ من الفعل، وهو إمام راشد، له سنة متبعة، والمعنى الذي من أجله شرع الغسل يوم الجمعة، وهو اجتماع الناس موجود في العيد، بل هو في العيد أكبر اجتماعاً من الجمعة، ومطلوب في العيد أن يكون الإنسان على هيئة حسنة، ومنها الاغتسال، فيكون الغسل لهذا المعنى مستحباً، وهذا ما أميل إليه، والله أعلم.
المبحث الأول في وقت الاغتسال للعيد
المبحث الأول في وقت الاغتسال للعيد بحثنا في المسألة السابقة استحباب الاغتسال للعيدين، واختلفوا في وقت الاغتسال، فقيل: وقته بعد صلاة الفجر، فإن فعله قبل طلوع الصبح لم يصب سنة الاغتسال، نص عليه خليل في مختصره (¬1)، وهو مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يجوز فعله قبل الفجر، وهو مذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، والمنصوص عن أحمد (¬5)، إلا أنهم اختلفوا في أي جزء من الليل يصح فعله، ¬
دليل من قال: يجوز بساعة من الليل
فقيل: في يصح الغسل في أي جزء من الليل، وهو أحد الوجوه في مذهب الشافعية (¬1). وقيل: يختص في النصف الثاني من الليل، وهو وجه في مذهب الشافعية أيضاً (¬2). وقيل: يصح فعله عند السحر، وهو قول في مذهب المالكية (¬3)، ووجه ثالث في مذهب الشافعية (¬4). دليل من قال: يجوز بساعة من الليل. قال: لأن وقت الاغتسال ضيق، والناس يقدمون إلى الصلاة من مكان بعيد، فلو اشتغلوا بالاغتسال بعد صلاة الفجر ربما فاتتهم الصلاة. دليل من قال: الغسل بعد طلوع الصبح. قال: إن اليوم يبدأ من طلوع الصبح كما في الصيام، فإذا اغتسل قبل دخول وقته لم يصب السنة، شأنه شأن العبادات المؤقتة بوقت، لا تصح قبل أو بعد وقتها. والحق أن اليوم إذا أطلق دخل فيه الليل والنهار، ويدخل من غروب الشمس إلى غروبها من الغد، وقد ذكرنا دليل ذلك في غسل الجمعة. ¬
المبحث الثاني هل اغتسال العيد لليوم أو للصلاة
المبحث الثاني هل اغتسال العيد لليوم أو للصلاة كما اختلف العلماء هل اغتسال العيد من أجل الصلاة، فيفوت وقته بفواتها، أو من أجل اليوم، فيغتسل ولو بعد الصلاة، ولو لم يحضر الصلاة مع المسلمين. فقيل: إنه لليوم؛ لأنه يوم زينة وفرح واجتماع، فلا يفوت فعله بفوات الصلاة، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2). وقيل: إن الاغتسال للصلاة، فيفوت بفوات الصلاة، وهو مذهب الحنابلة (¬3). لأن الصلاة هي الاجتماع الكبير في ذلك اليوم، فشرع لإذهاب الروائح الكريهة، وحتى لا يتأذى الناس بعضهم من بعض. ولا شك أن من فعله للصلاة فقد أحسن، ولكن لو لم يفعله للصلاة، هل يقال: خرج وقته، ولا تفعله لليوم، مع أن في هذا اليوم يشرع اتخاذ الزينة من لبس الثياب الحسنة، والتطيب وغير ذلك؟ مع أن هناك اجتماعاً آخر وإن كان أصغر من اجتماع الصلاة، وذلك أن الأقارب يجتمعون في ذلك اليوم بعد الصلاة، يصل بعضهم بعضاً، فمن هذا المعنى يكون مذهب الحنابلة قولاً مرجوحاً، والله أعلم. ¬
الفصل الخامس الغسل يوم عرفة
الفصل الخامس الغسل يوم عرفة استحب الفقهاء الغسل يوم عرفة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: لا يستحب الغسل ليوم عرفة، وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله (¬5). ¬
دليل من قال: يستحب الغسل
دليل من قال: يستحب الغسل. الدليل الأول: (1215 - 88) ما رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند، قال: قال حدثني نصر بن علي، قال: حدثنا يوسف بن خالد، قال حدثنا أبو جعفر الخطمي، عن عبد الرحمن بن عقبة بن الفاكه، عن جده الفاكه بن سعد وكانت له صحبة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم الفطر، ويوم النحر قال: وكان الفاكه ابن سعد يأمر أهله بالغسل في هذه الأيام (¬1). [موضوع] (¬2). الدليل الثاني: (1216 - 89) ما رواه مالك، عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم، ولدخوله مكة، ولوقوفه عشية عرفة (¬3). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1217 - 90) ما رواه الشافعي، قال: أخبرنا ابن علية، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن زاذان، قال: سأل رجل علياً رضي الله عنه عن الغسل؟ فقال: اغتسل كل يوم إن شئت، فقال: الغسل الذي هو الغسل؟ قال: يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم النحر، ويوم الفطر (¬1). [إسناده صحيح]. دليل من قال: لا يستحب الغسل. إذا ثبت هذا القول، فإنه يمكن أن يستدل له، بأن النسك قد تولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيانه للأمة، منادياً: «خذوا عني مناسككم» ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اغتسل لعرفة، ولو اغتسل لحفظه الصحابة رضوان الله عليهم، وترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لشيء مع إمكان فعله تشريع للأمة كفعله الشيء، فالترك والفعل كلاهما سنة، فلا يستحب الاغتسال لعرفة من أجل عرفة، أما لو اغتسل لوجود سبب يقتضي ذلك كوجود روائح كريهة في بدنه، فهذا سبب آخر لا علاقة له بعرفة. والراجح: استحباب الغسل لعرفة، خاصة أنه ثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو خليفة راشد، وثبت عن ابن عمر وهو صحابي جليل، فهذا ¬
كاف في الاستدلال على مشروعية الاغتسال، خاصة أن الثابت عن علي رضي الله عنه ليس مجرد الفعل الذي قد يدخله احتمال أن يكون هناك سبب يقتضي الغسل من درن ونحوه، وإنما هو نص قولي يذكر فيه الأغسال المستحبة، فذكر منها يوم عرفة.
الفصل السادس في الاغتسال للوقوف بمزدلفة
الفصل السادس في الاغتسال للوقوف بمزدلفة استحب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، الاغتسال لمزدلفة. وقيل: لا يستحب، وهو اختيار ابن تيمية (¬4). دليل من قال بالاستحباب: ربما استدل له بأنه مكان يجتمع فيه الناس، فكان الغسل مشروعاً قياساً على غسل الجمعة. دليل من قال: لا يستحب. قال ابن تيمية: لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه في الحج إلا ثلاثة أغسال: غسل الإحرام، والغسل عند دخول مكة، والغسل يوم عرفة، وما سوى ذلك كالغسل لرمي الجمار، وللطواف، والمبيت بمزدلفة، فلا أصل له عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أصحابه، ولا استحبه جمهور الأئمة: لا مالك ولا أبو حنيفة ولا أحمد، وإن كان قد ذكره طائفة من متأخري أصحابه ... الخ كلامه رحمه الله (¬5). وهذا القول هو الراجح من أقوال أهل العلم، والله أعلم. ¬
الفصل السابع في الاغتسال لرمي الجمار
الفصل السابع في الاغتسال لرمي الجمار استحب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3) الغسل لرمي الجمار. وقيل: لا يستحب، اختاره ابن تيمية (¬4). دليل المشروعية: قالوا: إن هذه المواضع يجتمع لها الناس، فيستحب الاغتسال لها كالجمعة، وبسبب هذا التعليل نص الشافعية أنه لا يغتسل لرمي جمرة العقبة؛ لأن وقت الرمي من نصف الليل إلى آخر النهار، فلا يجتمع لها الناس في وقت واحد، ولأنه اغتسل للوقوف بالمشعر الحرام، وهو يرمي جمرة العقبة بعده بساعة، فأثر الغسل باق، فلا حاجة إلى إعادته (¬5). دليل من قال: لا يستحب. أن هذه العبادة لو كانت مستحبة لفعلها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو أرشد إليها من قوله، فلما لم يفعلها مع إمكان الفعل علم أن الترك هو السنة، وكما ¬
ذكرت سابقاً أن الترك سنة كالفعل، فما تركه المصطفى فالسنة تركه، وما فعله فالسنة فعله، إلا أن يدل دليل على أنه خاص به، وهذا هو الراجح.
الفصل الثامن الاغتسال لصلاة الكسوف والاستسقاء
الفصل الثامن الاغتسال لصلاة الكسوف والاستسقاء استحب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، الاغتسال لصلاة الكسوف والاستسقاء. وقيل: لا يستحب، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬3). دليل من قال بالاستحباب: قال: إن هذا موضع يجتمع فيه الناس، فيستحب الاغتسال دفعاً للروائح الكريهة، وقياساً على غسل الجمعة. ¬
دليل من قال: لا يستحب ذلك
دليل من قال: لا يستحب ذلك. انظر دليله في المسألة التي قبل هذه، وعمدته أنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ولا قول في الاغتسال لهذه الصلوات، والله أعلم.
الفصل التاسع الغسل من الحجامة
الفصل التاسع الغسل من الحجامة اختلف العلماء في الاغتسال من الحجامة، فقيل: يسن الاغتسال، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: يجب الاغتسال من الحجامة (¬4). وقيل: لا يستحب الاغتسل منها، قال المرداوي الحنبلي: وهو الصحيح من المذهب (¬5). ¬
دليل من قال بالاستحباب
دليل من قال بالاستحباب: الدليل الأول: (1218 - 91) ما رواه أحمد من طريق مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله ابن الزبير، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يغتسل من أربع من الجمعة، والجنابة، والحجامة، وغسل الميت (¬1). [ضعيف] (¬2). الدليل الثاني: (1219 - 92) ما رواه الشافعي، قال: أخبرنا وكيع، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن زاذان، أن علياً رضي الله عنه كان يغتسل من الحجامة (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1220 - 93) ما رواه بن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، قال: اغتسل من الحجامة (¬1). [ضعيف] (¬2). الدليل الرابع: (1221 - 94) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبيد الله، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إذا احتجم الرجل فليتغتسل، ولم يره واجباً (¬3). [صحيح عن ابن عباس] (¬4). ¬
دليل من قال: لا يغتسل من الحجامة
دليل من قال: لا يغتسل من الحجامة. الدليل الأول: (1222 - 95) ما رواه ابن أبي شيبة من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان إذا احتجم غسل أثر محاجمه (¬1). [إسناده صحيح]. قلت: ما ثبت عن ابن عمر، لا يعارض ثبوت الغسل عن بعض الصحابة، لأن من اغتسل فقد استحب الغسل من الحجامة، ومن ترك الاغتسال دل على أن الاغتسال ليس بواجب، ونحتاج إلى أثر ينفي استحباب الاغتسال من الحجامة، ولم أقف عليه. دليل من قال: الاغتسال من الحجامة واجب. لم أقف له على دليل، لا من الكتاب ولا من السنة، ولا من قول الصحابة رضوان الله عليهم. الراجح: ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - احتجم، ولم ينقل أنه اغتسل، ولا يقال: عدم النقل ليس نقلاً للعدم، بل يقال: قام المقتضي للغسل، ولم يفعل - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان الغسل مشروعاً لفعله عليه الصلاة والسلام، ولو فعله لنقل إلينا، فلما لم يفعله دل على أن الترك منه - صلى الله عليه وسلم - هو السنة، مثله مثل ما لو فعل أمراً على وجه التعبد كان الفعل هو السنة، فيكون قول الصحابي ليس بحجة، ولا يرجع إلى المسألة ¬
الأصولية، هل فعل الصحابي حجة، أو ليس بحجة، فإني أميل إلى الاحتجاج بقول الصحابي وفعله إذا لم يثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه ترك أو فعل، أما وقد ثبت الترك، فالسنة الترك، ولا يبدع من فعل الاغتسال لفعل بعض الصحابة رضوان الله عليهم، والله أعلم.
الباب الثالث أحكام الجنب
الباب الثالث أحكام الجنب الفصل الأول تحريم فعل الصلاة يحرم على الجنب فعل الصلاة، ودليله كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع المسلمين، أما الكتاب، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬1). فأمر بالطهارة من الجنابة عند القيام إلى الصلاة. (1224 - 97) ومن السنة، ما رواه البخاري من طريق همام بن منبه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ. قال رجل من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو ¬
ضراط. ورواه مسلم عدا قول أبي هريرة (¬1). وإذا كان هذا في الحدث الأصغر فالحدث الأكبر من باب أولى. الدليل الثاني: (1225 - 98) ما رواه البخاري من طريق الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف قياماً، فخرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب، فقال لنا: مكانكم، ثم رجع فاغتسل، ثم خرج إلينا ورأسه يقطر، فكبر، فصلينا معه (¬2). الدليل الرابع: (1226 - 99) ما رواه مسلم من طريق سماك بن حرب، عن مصعب ابن سعد، قال: دخل عبد الله بن عمر على ابن عامر يعوده، وهو مريض فقال: ألا تدعو الله لي يا ابن عمر، قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول، وكنت على البصرة (¬3). وأما الإجماع، فقد قال النووي: ((أجمع المسلمون على تحريم الصلاة على المحدث، وأجمعوا على أنها لا تصح منه، سواء كان عالماً بحدثه، أو جاهلاً، أو ناسياً، لكنه إن صلى جاهلاً أو ناسياً فلا إثم ¬
عليه، وإن كان عالماً بالحدث وتحريم الصلاة مع الحدث فقد ارتكب معصية عظيمة ...)) (¬1). قلت: وإذا كان هذا في الحدث الأصغر، كان ذلك في الحدث الأكبر من باب أولى؛ لأنه أغلظ الحدثين. ¬
الفصل الثاني في طواف الجنب
الفصل الثاني في طواف الجنب اختلف العلماء في طواف الجنب. فقيل: يشترط الطهارة من الجنابة، بل ومن الحدث الأصغر، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: الطهارة واجبة، ويصح الطواف بدونها، وتجبر بدم، وهو الراجح عند الحنفية (¬4)، ورواية عن أحمد (¬5). وقيل: الطهارة من الجنابة سنة، وهو رواية عن أحمد (¬6)، واختاره ابن ¬
دليل الجمهور على اشتراط الطهارة من الجنابة
حزم رحمه الله (¬1). دليل الجمهور على اشتراط الطهارة من الجنابة. الدليل الأول: لا خلاف في اشتراط الطهارة الصغرى والكبرى في الصلاة، وقد حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام، فيثبت للطواف ما يثبت للصلاة، ومنه اشتراط الغسل من الجنابة. (1227 - 100) فقد روى الترمذي رحمه الله، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا، جرير، عن عطاء بن السائب، عن طاوس، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الطواف حول البيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه فمن تكلم فيه فلا يتكلمن إلا بخير. [إسناده ضعيف، والراجح وقفه على ابن عباس] (¬2). ¬
وقد رجح كونه موقوفاً جمع من الأئمة. قال الحافظ: «رجح الموقوف النسائي والبيهقي وابن الصلاح والمنذري والنووي» اهـ (¬1). ¬
وقال الترمذي رحمه الله: «روي هذا الحديث عن ابن طاووس وغيره، عن طاووس، عن ابن عباس موقوفاً، ولا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث عطاء ابن السائب» (¬1) اهـ. ورجح وقفه أيضاً ابن تيمية رحمه الله تعالى (¬2)، وابن عبد الهادي كما في فيض القدير (¬3). كما أن متنه شاهد على أنه ليس من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالحديث يعتبر الطواف كالصلاة إلا في الكلام، وقد قال علماء الأصول: الاستثناء معيار العموم، بمعنى أنها تثبت للطواف جميع أحكام الصلاة إلا ما استثني، وعند التأمل نرى أنه يجوز بالطواف الأكل والشرب، وليس فيه تسليم، ولا دعاء استفتاح، ولا استقبال القبلة، ولا تجب له قراءة الفاتحة، وله أن يقطع طوافه لشهود صلاة الجنازة، أو لحضور الجماعة، ثم يبني على طوافه بخلاف الصلاة، ولا يحتاج فيه إلى تسوية صفوف، ولا تقديم الرجال على النساء، وله أن يطوف وهو عاري الكتفين، وبالتالي فهذه المخالفات تدل على أن الكلام ليس من عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} (¬4) (¬5). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: دل الدليل على اشتراط الطهارة الصغرى، وما اشترطت فيه الطهارة الصغرى كانت الطهارة الكبرى شرطاً فيه من باب أولى؛ لأنها أغلظ، والدليل على اشتراط الطهارة الصغرى، (1228 - 101) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أصبغ، عن ابن وهب، أخبرني عمرو، عن محمد بن عبد الرحمن، ذكرت لعروة، قال: فأخبرتني عائشة رضي الله تعالى عنها، أن أول شيء بدأ به حين قدم ¬
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ، ثم طاف، ثم لم تكن عمرة. الحديث (¬1). ولا يقال: إن الوضوء مجرد فعل من النبي - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، لأننا نقول: (1229 - 102) قد روى مسلم في صحيحه من طريق ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابراً يقول: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمى على راحلته يوم النحر ويقول: لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه (¬2). قال الشنقيطي: وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - لطوافه، قد دل دليلان على أن الوضوء لازم لابد منه: أحدهما: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع: «خذوا عني مناسككم»، وهذا الأمر للوجوب والتحتم، فلما توضأ للطواف لزمنا أن نأخذ عنه الوضوء للطواف امتثالاً لأمره، في قوله - صلى الله عليه وسلم - «خذوا عني مناسككم». الثاني: أن فعله في الطواف من الوضوء له، ومن هيئته التي أتي به عليها كلها بيان وتفصيل لما أجمل في قوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} وقد تقرر في الأصول أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان لبيان نص من كتاب الله، فهو على اللزوم والتحتم، ولذا أجمع العلماء على قطع يد السارق من الكوع؛ لأن قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - للسارق من الكوع، بيان وتفصيل لما أجمل في قوله تعالى {فاقطعوا ¬
أيديهما} لأن اليد تطلق على العضو إلى المرفق، وإلى المنكب)) (¬1). وأجيب عن هذا الدليل: أما كونه لما طاف توضأ، فهذا وحده لا يدل على الوجوب؛ فإنه كان - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ لكل صلاة حتى ولو كان طاهراً، وتيمم لرد السلام، وقال: إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر. وأما الجواب عن قوله: «لتأخذوا عني مناسككم». قال ابن القيم: «أن نفعل كما فعل على الوجه الذي فعل، فإذا كان قد فعل فعلاً على وجه الاستحباب، فأوجبناه لم نكن قد أخذنا عنه وتأسينا به، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل في حجته أشياء كثيرة جداً لم يوجبها أحد من الفقهاء» اهـ (¬2). وعلى كل حال، لا أرى الاستدلال بمثل هذا الأمر العام المشتمل على أحوال وهيئات، وصفات وأقوال، أحكامها مختلفة، لا أرى أن يستدل على وجوبها بهذا العموم، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا عني مناسككم» يدل على كونه مشروعاً، وأنه من أفعال المناسك، أما دلالته على الوجوب فيحتاج إلى دليل خاص، كما أن دلالته على الشرطية أو الركنية يحتاج إلى دليل خاص كذلك، فإذا كان ورود الأمر الخاص فيه نزاع في دلالته على الوجوب كما هو معلوم في أصول الفقه، فما بالك في حديث: «خذوا عني مناسككم» والذي يشمل جميع أفعال المناسك. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: دل الدليل على منع الجنب من المكث في المسجد، ويلزم من طواف الجنب المكث فيه؛ لأن الطواف متعلق بالبيت، والبيت في وسط المسجد الحرام، والدليل على منع الجنب من المكث في المسجد، من الكتاب ومن السنة، أما الكتاب: فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (¬1). (1230 - 103) وأما السنة فهو ما رواه أبو داود (¬2) من طريق أفلت بن خليفة، قال: حدثتني جسرة بنت دجاجة، قالت: سمعت عائشة تقول: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال: «وجهوا هذه البيوت عن المسجد» ثم دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يصنع القوم شيئاً رجاء أن ينزل فيهم رخصة، فخرج إليهم بعدُ فقال: وجهوا البيوت عن المسجد؛ فإني لا أحلُّ المسجد لحائض ولا جنب. [إسناده ضعيف] (¬3). ¬
الدليل الرابع
وسوف نناقش مسألة المكث في المسجد في فصل مستقل إن شاء الله تعالى، فانظر فيه الجواب عن الآية والحديث. الدليل الرابع: منعت الحائض عن الطواف بالبيت بالإجماع مع القدرة على الطواف في حال الطهر، فيقاس عليها الجنب بجامع أن كلاً منهما حدث أكبر يوجب الغسل، ويمنع من الصلاة. قال ابن عبد البر: الحائض لا تطوف بالبيت، وهو أمر مجتمع عليه، لا أعلم فيه خلافاً (¬1). وقال ابن رشد: «اتفق المسلمون على أن الحيض يمنع أربعة أشياء، وذكر الثالث منها، قال: والثالث: فيما أحسب الطواف» (¬2). ¬
وقال النووي: وقد أجمع العلماء على تحريم الطواف على الحائض والنفساء. وأجمعوا على أنه لا يصح منهما طواف مفروض ولا تطوع، وأجمعوا على أن الحائض والنفساء لا تمنع من شيء من مناسك الحج إلا الطواف وركعتيه، نقل الإجماع في هذا كله ابن جرير وغيره (¬1). وقال ابن تيمية: «وأما الذي لا أعلم فيه نزاعاً، أنه ليس لها أن تطوف مع الحيض، إذا كانت قادرة على الطواف مع الطهر، فما أعلم منازعاً أن ذلك يحرم عليها، وتأثم به» (¬2). وقال ابن حزم: أما امتناع الصلاة والصوم والطواف والوطء في الفرج حال الحيض فإجماع متيقن مقطوع به، لا خلاف بين أحد من أهل الإسلام فيه (¬3). (1231 - 104) وعمدة الإجماع ما رواه البخاري، قال رحمه الله: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر إلا الحج، فلما جئنا سرف طمثت، فدخل عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟ قلت: لوددت والله أني لم أحج العام. قال: لعلك نُفِست؟ قالت: نعم. قال: فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري، ورواه مسلم (¬4). ¬
الدليل الخامس
(1232 - 105) وبما رواه البخاري رحمه الله من طريق الزهري، حدثني عروة بن الزبير وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرتهما، أن صفية بنت حيي زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حاضت في حجة الوداع فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أحابستنا هي؟ فقلت: إنها قد أفاضت يا رسول الله، وطافت بالبيت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فلتنفر. ورواه مسلم (¬1). وأجيب: بأن قياس الجنب على الحائض قياس مع الفارق، فأنتم لا تقولون بأن أحكامهما واحدة من كل وجه حتى يتم القياس، فهذه الحائض لا تقضي الصلاة، بخلاف الجنب، ولا يصح الصوم مع الحيض، بخلاف الجنب فإنه يصح أن يصبح صائماً، وهو جنب، وإذا توضأ الجنب مكث في المسجد عندكم، مع أن الجنابة لم ترتفع، ولا تبيحون للحائض أن تمكث في المسجد ولو توضأت، فكل هذا يجعل قياس الأخف على الأغلظ قياساً ضعيفاً، مع أن مكث الحائض في المسجد متنازع فيه، وقد رجحت في كتابي الحيض والنفاس جواز مكث الحائض في المسجد، فانظره هناك. الدليل الخامس: استدل بعضهم بقوله تعالى: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} (¬2). ¬
وجه الاستدلال من وجهين: الأول: أن الطواف ذكر مع الصلاة، فإذا كانت الصلاة تشترط لها الطهارة، فكذلك الطواف، بل إن تقديم الطواف على الصلاة يدل على أن الطهارة فيه أولى. الوجه الثاني: إذا وجب تطهير مكان الطائف، فبدنه من باب أولى. وأجيب: بأن هذه الدلالة دلالة اقتران، وهي من أضعف الدلالات، ولا يلزم من اقترانهما اشتراكهما في الحكم. قال تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} (¬1). والأكل مباح، فهل إتيان حقه يوم حصاده تقولون: إنه مباح، ثم إنه قال في الآية الأخرى: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} (¬2). هل تقولون: إن المعتكف لا يصح اعتكافه إلا على طهارة؛ لأنه قرن بالصلاة، فإذا سقطت الدلالة من هذه الآية سقطت من تلك. وكونه قدم الطواف على الصلاة ليس دليلاً على كونه أولى بالطهارة من الصلاة، فقد يكون قدم باعتبار أن الطواف أخص بالبيت من الصلاة، فالصلاة يصليها الإنسان في كل المساجد، بل في الأرض كلها، وأما الطواف فلا يطوف الإنسان إلا في هذا البيت، والله أعلم. ¬
دليل من قال: الطهارة من الجنابة سنة في الطواف
وأما الأمر بتطهير المكان، فالمراد من الشرك: وهو نجاسة معنوية، ومن الخبث: وهو نجاسة حسية، وأما المؤمن فإنه ليس بنجس، ولا ينجس بالحدث، ولا يمنع المحدث من دخول البيت، فليس مقصوداً في الآية. دليل من قال: الطهارة من الجنابة سنة في الطواف. الدليل الأول: هذا القول لا يحتاج إلى دليل، وإنما الذي يطالب بالدليل الذي يقول باشتراط الطهارة من الجنابة ومن الحدث الأصغر للطواف، فعدم الدليل الموجب للطهارة كاف في الاستدلال، كما أن الأصل براءة الذمة حتى يثبت الدليل الصحيح الصريح، فدليل هذا القول هو عدم وجود دليل يدل على وجوب الطهارة من الحدث في الطواف، ومنه الطهارة من الجنابة. قال ابن تيمية: «لم ينقل أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بإسناد صحيح، ولا ضعيف أنه أمر بالوضوء للطواف، مع العلم أنه قد حج معه خلائق عظيمة، وقد اعتمر عمراً متعددة، والناس معتمرون معه، فلو كان الوضوء فرضاً في الطواف لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بياناً عاماً، ولو بينه لنقل ذلك المسلمون عنه، ولم يهملوه» (¬1). وقال ابن القيم: «لم ينقل أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر المسلمين بالطهارة، لا في عمرته، ولا في حجته، مع كثرة من حج معه واعتمر، ويمتنع أن يكون ذلك واجباً ولا يبينه للأمة، وتأخير البيان عن وقته ممتنع» (¬2). ¬
الدليل الثاني
قلت: وقد طاف مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حجته خلق كثير، وكثير منهم حديث عهد بالإسلام، ومع ذلك لم يأمرهم بالطهارة، وقد ينتقض وضوء كثير منهم أثناء الطواف، ومع هذا الاحتمال القوي، لم يبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه يلزمهم الطهارة في الطواف، مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أنه يعلن أفعاله ليأخذ الناس مناسكهم، فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشعر بأنه قد لا يحج العام القابل، وكان كما تنبأ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا لم يدل دليل على وجوب الطهارة الصغرى للطواف، فكذلك لم يدل دليل على وجوب الطهارة من الجنابة، والله أعلم. الدليل الثاني: قال ابن تيمية: «ثبت أيضاً أن الطهارة لا تجب لغير الصلاة». (1233 - 106) لما ثبت في صحيح مسلم، من حديث ابن جريج، حدثنا سعيد بن الحارث، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى حاجته من الخلاء، فقرب له طعام، فأكل، ولم يمس ماء. قال ابن جريج: وزادني عمرو بن دينار، عن سعيد ابن الحارث، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: إنك لم تتوضأ؟ قال: ما أردت صلاة فأتوضأ. قال عمرو: سمعته من سعيد بن الحارث. اهـ (¬1). ثم قال: «ما أردت صلاة، فأتوضأ» يدل على أنه لم يجب عليه الوضوء إلا إذا أراد صلاة، وأن وضوءه لما سوى ذلك مستحب، وليس بواجب)) اهـ. ¬
دليل من قال: الطهارة واجبة، ويصح الطواف بدونها وتجبر بدم
وما يقال في عدم اشتراط الطهارة من الحدث الأصغر للطواف يقال: في عدم اشتراط الطهارة من الجنابة، سواء بسواء. دليل من قال: الطهارة واجبة، ويصح الطواف بدونها وتجبر بدم. استدلوا: على أن الطهارة واجبة بقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} (¬1). وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى أمر بالآية بالطواف، وهو اسم للدوران حول البيت، وذلك يتحقق من المحدث والطاهر، فاشتراط الطهارة في الطواف يكون زيادة على النص، ومثل هذه الزيادة لا تثبت بخبر الواحد، ولا بالقياس؛ لأن الركنية لا تثبت إلا بدليل قاطع، فأما الوجوب فيثبت بخبر الواحد؛ لأنه يوجب العمل، ولا يوجب علم اليقين والركنية إنما تثبت بما يوجب علم اليقين. وأصل الطواف ركن ثابت بالنص، والطهارة فيه تثبت بخبر الواحد، فيكون موجباً للعمل دون العلم، فلم تصر الطهارة ركناً، ولكنها واجبة، والدم يقوم مقام الواجبات في الحج (¬2). ويجاب: أولاً: لا نسلم أنه قد قام دليل على وجوب الطهارة للطواف ولو بخبر آحاد، فأين هذا الدليل الموجب للطهارة حتى نأخذ به؟ ثانياً: تفريق الحنفية بين ما هو قطعي الدلالة، وما هو ظني الدلالة، ¬
الراجح
والأول يصلح أن يكون دليلاً على الفرض، والثاني يكون دليلاً على الواجبات دون الشروط والأركان، والتفريق بين الواجب والفرض كل هذه الأمور مرجوحة لاتقوم على دليل صحيح، ولا يوافقهم فيها الجمهور، ثم الراجح من خبر الآحاد أنه يفيد العلم ما لم يعارضه ما هو أقوى منه، وتجويز الخطأ في خبر الآحاد تجويز عقلي، والأصل عدمه، ولو فتح الباب للتجويز العقلي لهدم الشرع، وهي لا تخرج عن أوهام ووساوس، لا تبنى على أسس، إنما بنيت على شفا جرف هار، وقد كان البلاغ في الرسالة يقوم على خبر الواحد، وهو أصل الشرع، فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرسل الآحاد من الصحابة لتبليغ رسالته، وتقوم الحجة بذلك، فغيره من باب أولى. وليس هذا مقام بسط الكلام بالاحتجاج بخبر الواحد. الراجح: جواز الطهارة من المحدث، سواء كان حدثاً أصغر أو أكبر عدا الحيض، فإن الطواف لا يصح مع الحيض مع القدرة على الطواف في حال الطهر، فإن اضطرت إلى الطواف صح منها، والخلاف في طواف الحائض قد عقدت له فصلاً مستقلاً في كتابي الحيض والنفاس، فليراجع من هناك، والله أعلم.
الفصل الثالث في مكث الجنب في المسجد
الفصل الثالث في مكث الجنب في المسجد اختلف العلماء في مكث الجنب للمسجد، فقيل: لا يجوز للجنب أن يمكث في المسجد مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3). وقيل: يجوز له المكث في المسجد بشرط الوضوء، وهو مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: يجوز له المكث مطلقاً، سواء كان متوضئاً أو غير متوضئ، وهو اختيار ابن حزم (¬5). دليل من قال: لا يجوز للجنب المكث في المسجد. من الكتاب قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (¬6). ¬
(1234 - 107) فقد روى عبد الرزاق (¬1)، قال: عن معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة بن عبد الله، عن ابن مسعود أنه كان يرخص للجنب أن يمر في المسجد مجتازاً ولا أعلمه إلا قال: {ولا جنباً إلا عابر سبيل} (¬2). [إسناده منقطع؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، وقيل بل هو على الاتصال؛ لأن كل ما حدثه به عن أبيه، فقد رواه عن أهل بيته، فهو في حكم المتصل] (¬3). (1235 - 108) وروى ابن المنذر، قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبونعيم، ثنا أبو جعفر الرازي، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس قال: {ولا جنباً إلا عابري سبيل} قال: إلا وأنت مار فيه (¬4). [سنده ضعيف، والثابت عن ابن عباس خلاف هذا كما سيأتي إن شاء الله تعالى] (¬5). ¬
وقد ذهب عطاء (¬1)، والحسن (¬2)، وإبراهيم النخعي (¬3)، إلى أن معنى قوله: {ولا جنباً إلا عابري سبيل} الجنب يمر في المسجد. وقد اختلف العلماء في معنى الآية على قولين: الأول: أن معنى قوله: {ولا جنباً إلا عابري سبيل} أي: لا تقرب موضع الصلاة وأنت جنب إلا أن تكون ماراً في المسجد غير ماكث فيه. وعليه فيكون معنى قوله: {لا تقربوا الصلاة} أي لا تقربوا مواضع الصلاة (¬4). وقد تقدم أن هذا القول مروي عن ابن مسعود. ¬
المعنى الثاني: أن معنى قوله: {ولا جنباً إلا عابري سبيل} أي: لا يقرب الصلاة الجنب إلا أن يكون مسافراً فيتيمم ويصلي، وهذا التفسير هو الثابت عن ابن عباس وعلي رضي الله عنهم، وجماعة من التابعين. (1236 - 109) فقد روى ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، ومحمد ابن المثني، قالا: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي مجلز، عن ابن عباس في قوله: {ولا جنباً إلا عابري سبيل} (¬1)، قال: المسافر. وقال ابن المثنى: السفر (¬2). فهذا سند في غاية الصحة، ولا تضر عنعنة قتادة، وقد جاء حديثه من طريق شعبة (¬3). وله شاهد من قول علي - رضي الله عنه -. (1237 - 110) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا علي بن هاشم، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن عباد بن عبد الله وزر عن علي: {ولا جنباً إلا عابري سبيل} (¬4)، قال: المار الذي لايجد الماء يتيمم ويصلي (¬5). ¬
ورواه ابن جرير الطبري (¬1)، وابن المنذر (¬2)، من طريق ابن أبي ليلى إلا أن ابن المنذر لم يذكر عباد بن عبد الله، وابن جرير رواه عن عباد أو عن زر. [وهذا إسناد فيه ضعف] (¬3). وقد فسر قوله تعالى: {عابري سبيل} بالمسافرين جماعة من التابعين، منهم مجاهد (¬4)، وعمرو بن دينار (¬5)، وسعيد بن جبير (¬6)، وسليمان بن موسى (¬7)، والحكم بن عتيبة (¬8)، والحسن بن مسلم (¬9). هذان هما القولان الواردان في معنى الآية، ولكل قول عندي مرجح. فأما ترجيح أن المراد به المجتاز، وليس المسافر، فيرجحه أن الله سبحانه وتعالى قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله تعالى {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء ¬
فلم تجدوا ماء فتيمموا ...} (¬1) الآية، فلو كان يقصد بقوله: إلا عابري سبيل هو المسافر، لم يكن لإعادة ذكره معنى. وأما ترجيح تفسير {عابري سبيل} بالمسافر، فيكفي أنه تفسير اثنين من الصحابة رضي الله عنهما: ابن عباس، وعلي بن أبي طالب، ولأنه لا يحتاج إلى تقدير في الآية، فمعنى: {لا تقربوا الصلاة} على حقيقته وليس مواضع الصلاة. الدليل الثاني: (1238 - 111) ما رواه أبو داود (¬2) من طريق أفلت بن خليفة، قال: حدثتني جسرة بنت دجاجة، قالت: سمعت عائشة تقول: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال: «وجهوا هذه البيوت عن المسجد» ثم دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يصنع القوم شيئاً رجاء أن ينزل فيهم رخصة، فخرج إليهم بعدُ فقال: وجهوا البيوت عن المسجد؛ فإني لا أحلُّ المسجد لحائض ولا جنب)). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬
الدليل الثالث: روي أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه جنب، والمساجد بيوت الله، وأماكن إقامة ذكره، والملائكة فيها أكثر من غيرها، ولذا منع من يأكل الثوم والبصل من دخول المساجد؛ وعُلِّل ذلك بأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، فإذا كانت الملائكة لا تدخل مكاناً فيه جنب، منع الجنب من دخول المسجد حتى لا يؤذي الملائكة، (1239 - 112) فقد روى أحمد، قال: حدثنا يحيى، عن شعبة، حدثني علي بن مدرك، عن أبى زرعة، عن ابن نجي، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تدخل الملائكة بيتا فيه جنب ولا صورة ولا كلب (¬1). ¬
[زيادة ذكر الجنب منكرة، وإسناد هذا الحديث ليس بالقوي، وحديث ابن عباس وعائشة وابن عمر وميمونة في الصحيح بدون ذكر الجنب] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وله شاهد ضعيف من حديث عمار، أخرجه أحمد، من طريق حماد بن سلمة، أخبرنا عطاء الخراساني، عن يحيى بن يعمر، أن عماراً قال: قدمت على أهلي ليلاً، وقد تشققت يداي، فضمخوني بالزعفران، فغدوت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسلمت عليه، فلم يرد علي، ولم يرحب بي، فقال: اغسل هذا. قال: فذهبت، فغسلته، ثم جئت، وقد بقي علي منه شيء، فسلمت عليه، فلم يرد علي، ولم يرحب بي وقال: اغسل هذا عنك، فذهبت فغسلته، ثم جئت، فسلمت عليه، فرد علي، ورحب بي وقال: إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر، ولا المتضمخ بزعفران، ولا ¬
الجنب، ورخص للجنب إذا نام، أو أكل، أو شرب أن يتوضأ (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ويجاب: أولاً: أن الحديث ضعيف، كما وضح من تخريجه. ثانياً: حديث عائشة (¬3)، وأبي طلحة (¬4)، وميمونة (¬5)، وابن عمر (¬6)، في ¬
الصحيح، بذكر الكلب والصورة دون ذكر الجنب. ثالثاً: ترجم البخاري في صحيحه: باب كينونة الجنب بالبيت، وساق حديث عائشة المتفق عليه في نوم الجنب إذا توضأ (¬1). قال الحافظ: «أشار المصنف بهذه الترجمة إلى تضعيف ما ورد عن علي مرفوعاً: ((إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ولا جنب» رواه أبو داود وغيره، وفيه نجي بضم النون وفتح الجيم الحضرمي، ما روى عنه غير ابنه عبد الله، فهو مجهول، لكن وثقه العجلي، وصحح حديثه ابن حبان، والحاكم، فيحتمل كما قال الخطابي: أن المراد بالجنب من يتهاون بالاغتسال، ويتخذ تركه عادة، لا من يؤخره ليفعله، قال: ويقويه: أن المراد بالكلب غير ما أذن في اتخاذه، وبالصورة ما فيه روح وما لا يمتهن. قال النووي: وفي الكلب نظر. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون المراد با لجنب في حديث علي من لا يرتفع حدثه كله ولا بعضه، وعلى هذا فلا يكون بينه وبين حديث الباب منافاة؛ لأنه إذا توضأ ارتفع بعض حدثه على الصحيح (¬2). قلت: لست بحاجة إلى الجمع أو التأويل والحديث ضعيف، فالمعروف هو امتناع الملائكة من دخول بيت فيه كلب أو صورة، وليست الجنابة أغلظ من النجاسة، ومع ذلك لا تمنع النجاسة دخول الجنابة، والجنب طاهر البدن والعرق، وقد رجحت في كتاب النجاسة جواز دخول المشرك مساجد الله عدا المسجد الحرام، كما ربط ثمامة في سارية من سواري المسجد، والمشرك جنب وزيادة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربما قرأ القرآن، ورأسه في حجر عائشة، وهي ¬
دليل الحنابلة على جواز المكث بشرط الوضوء
حائض، ولو كانت الجنابة تمنع دخول الملائكة لوجدت نصوص تحث على المبادرة في غسل الجنابة، ولم يؤمر المسلم بالغسل إلا عند القيام إلى الصلاة، أو تخفيف الجنابة بالوضوء عند النوم، والله أعلم. دليل الحنابلة على جواز المكث بشرط الوضوء. (1240 - 113) ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد الداروردي، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، قال: رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤا وضوء الصلاة (¬1). [وهشام بن سعد وإن كان فيه كلام، إلا أن أبا داود قال فيه: أثبت الناس في زيد بن أسلم، وباقي رجاله ثقات إلا الداروردي فإنه صدوق، إلا أن هشام بن سعد قد اختلف عليه في هذا الأثر] (¬2). ¬
دليل من قال: يجوز مكث الجنب في المسجد
وعلى فرض صحته فإنه لايدل على الوجوب. أولاً: أن هذا حكاية فعل عن بعض أصحاب رسول الله، والفعل المجرد من النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على الوجوب فكيف من غيره. ثانياً: أن هذا الأثر فيه اختلاف سنداً ومتناً كما تبين من تخريجه. ثالثاً: على تفسير: {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (¬1)، بأن المقصود به المجتاز فإنه يعارض هذاالأثر، فإن الآية تضمنت نهي الجنب عن المكث في المسجد، وجعلت غاية النهي هي الاغتسال، بينما الأثر جعل غاية النهي الوضوء. رابعاً: أن الأثر لم يحك عنهم أن هذا الفعل منهم كان زمن التشريع، بل صريح في أن زيد بن أسلم رآهم، وهذا يدل على أن ذلك كان بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يحك عن عموم الصحابة حتى يكون حكاية للإجماع، فلا يصلح للاحتجاج. دليل من قال: يجوز مكث الجنب في المسجد. الدليل الأول: أصحاب هذا القول ليسوا بحاجة إلى دليل؛ لأن المطالب بالدليل من منع ذلك؛ لأن الأصل الحل، وبراءة الذمة، ولم يرد دليل صحيح صريح في منع الجنب من المكث في المسجد، ولا يجوز منعه إلا بدليل صحيح صريح سالم من المعارضة، ولم يوجد هنا. الدليل الثاني: إذا كان المشرك يدخل المسجد، ويمكث فيه، ولا يبعد أن يكون جنباً، فالمسلم الجنب من باب أولى، ¬
(1241 - 114) فقد روى البخاري، قال: حدثناعبد الله بن يوسف، قال: حدثنا الليث، قال: حدثنا سعيد بن أبي سعيد، أنه سمع أبا هريرة، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. وقد اختصره البخاري (¬1). وأجاب النووي عن هذا الدليل بقوله: ((القياس على المشرك جوابه من وجهين: الأول: أن الشرع فرق بينهما!! فقام دليل تحريم مكث الجنب، وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس بعض المشركين في المسجد، فإذا فرق الشرع لم يجز التسوية. الثاني: أن الكافر لا يعتقد حرمة المسجد، فلا يكلف بها، بخلاف المسلم، وهذا كما أن الحربي لو أتلف على المسلم شيئاً لم يلزمه ضمانه، لأنه لم يلتزم الضمان بخلاف المسلم والذمي إذا أتلفا (¬2). ويمكن أن يدفع هذا الكلام، بأن الكافر منهي عما ينهى عنه المسلم، فإذا منع المسلم من دخول المسجد، وقد أكل بصلاً أو ثوماً، منع الكافر كذلك في ¬
الدليل الثالث
هذه الحال، وكذلك إذا منع المسلم من البصق في المسجد لم يترك الكافر ليبصق فيه، ومثله النهي عن البيع فيه وإنشاد الضالة ونحوها، يلزم الكافر بما يلزم به المسلم، فما كان من قبيل المنهيات أو كان من قبيل الأحكام الوضعية يستوي فيه الكبير والصغير والمسلم والكافر، كالكذب والسرقة والزنا ونحوها، وإذا مكنا الكافر من دخول المسجد، وإن كان لا يعتقد حرمته، فإن هذا الفعل أصبح من كسبنا، وليس من كسب الكافر، والله أعلم. الدليل الثالث: أن الجنب ليس نجساً، فبدنه، وعرقه، وريقه طاهر، فلا يمنع من دخول المسجد، بل إن المسلم المتضمخ بالنجاسة على وجه لا يتعدى لا يمنع من دخول المسجد، فإذا كان على بدن المسلم أثر بول، أو على ثوبه، لم يحرم عليه دخول المسجد، فالجنب من باب أولى. (1242 - 115) فقد روى البخاري، قال: حدثنا عياش، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا حميد، عن بكر، عن أبي رافع، عن أبي هريرة قال: «لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا جنب، فأخذ بيدي، فمشيت معه حتى قعد، فانسللت، فأتيت الرحل فاغتسلت، ثم جئت وهو قاعد فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ فقلت له: فقال: سبحان الله، يا أبا هريرة إن المؤمن لا ينجس» ورواه مسلم (¬1). وجه الشاهد منه، قوله: «إن المؤمن لا ينجس» سواء قلنا: إن معنى الحديث: إن المؤمن لا ينجس بالجنابة، وإن كانت قد تلحقه النجاسة الحسية ¬
الدليل الرابع
كغيره، أو قلنا: إن المؤمن طاهر بإيمانه، كما أن المشرك نجس بشركه، فهي طهارة معنوية، فعلى كلا التفسيرين إذا كان المؤمن لا ينجس، ولو كان جنباً، فالطاهر لا يمنع من دخول المسجد. الدليل الرابع: إذا كانت الحائض لا تمنع من دخول المسجد على الصحيح، مع أن حدثها أغلظ من حدث الجنابة، فالجنب من باب أولى، (1243 - 116) فقد روى البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر إلا الحج، فلما جئنا سرف طمثت، فدخل عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟ قلت: لوددت والله أني لم أحج العام. قال: لعلك نُفِست؟ قالت: نعم. قال: فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري)) ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: «افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي في البيت». فيقال: إن الاستثناء معيار العموم، فلم يستثن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا الطواف، ومعلوم أن الحاج يمكث في المسجد، ولو كان لا يحل لها لنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه. وبهذا الاستدلال قال ابن حزم، فقد قال: ((لو كان دخول المسجد لا يجوز للحائض لأخبر بذلك عليه السلام عائشة إذ حاضت، فلم ينهها إلا عن الطواف في البيت، ومن الباطل ¬
الراجح من أقوال أهل العلم
المتيقن أن يكون لا يحل لها دخول المسجد فلا ينهاها عليه السلام عن ذلك، ويقتصر على منعها من الطواف (¬1). وهذا الاستدلال فيه نظر، لأن استثناء الطواف من العموم السابق: «افعلي ما يفعل الحاج» فكأنه قال: ((افعلي جميع المناسك ما عدا الطواف، والمكث في المسجد ليس من الأعمال الخاصة بالمناسك، والله أعلم. ومع أن هذا الدليل لا أراه كافياً في الاستدلال بمنع الحائض من دخول المسجد، إلا أنه ليس الدليل الوحيد في الباب، وقد بحثت هذا الفصل ورجحت جواز دخول الحائض المسجد في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، وهو جزء من هذه السلسلة، فأغنى عن إعادته هنا، فالدليل متوجه في الجملة: وهو أن ما جاز للحائض فعله جاز للجنب، وليس العكس، وقد صح عندي جواز دخول الحائض المسجد، فالجنب أولى. الراجح من أقوال أهل العلم. بعد استعراض أدلة الأقوال أرى أن الراجح من أقوال أهل العلم جواز دخول الجنب المسجد، والحدث ليس أغلظ من النجاسة، ومع ذلك لا يمنع المسلم المتلبس بالنجاسة على وجه لا يتعدى من دخول المسجد، والله أعلم. ¬
الفصل الرابع في قراءة الجنب للقرآن
الفصل الرابع في قراءة الجنب للقرآن اختلف العلماء في قراءة الجنب للقرآن، فقيل: لا يجوز له، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: يجوز للجنب أن يقرأ القرآن، وهو مذهب ابن عباس (¬5)، وسعيد ¬
دليل الجمهور على منع الجنب من قراءة القرآن
ابن المسيب (¬1)، واختيار ابن حزم (¬2). دليل الجمهور على منع الجنب من قراءة القرآن. الدليل الأول: (1244 - 117) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سَلِمة، عن علي، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرئنا القرآن مالم يكن جنباً (¬3). [إسناده ضعيف، والمعروف أنه موقوف على عليّ] (¬4). ¬
وعبد الله بن سلمة، وإن كان فيه كلام، إلا أنه قد توبع، (1245 - 118) فقد روى أحمد، قال: حدثنا عائذ بن حبيب، حدثني عامر بن السمط، عن أبي الغريف، قال: أتي علي بوضوء، فمضمض واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وغسل يديه وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه، ثم قال: هكذا رأيت رسول - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ثم قرأ شيئاً من القرآن، ثم قال: هذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا ولا آية (¬1). [إسناده ضعيف، وقوله: «هذا لمن ليس بجنب ...» الخ موقوف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال من الحديثين: قالوا: إن تبليغ القرآن من الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجب، وكونه يترك هذا الواجب يدل على أنه تركه لما هو أوجب منه، وهو اشتراط الطهارة من الجنابة لقراءة القرآن. ويجاب عن هذا الأثر بما يأتي: الأول: أننا أثبتنا أن الأثر موقوف على علي رضي الله عنه، وليس مرفوعاً، فإن قيل: أليس الموقوف حجة، قيل: نعم يكون حجة لو لم يخالف من صحابي آخر، وقد خالفه ابن عباس، فأجاز قراءة القرآن للجنب كما سيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى. ثانياً: قولهم: إن قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبيل التبليغ، يقال لهم: هل كل قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للقرآن من قبيل ذلك، أو يقال: إن قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - منها ما هو واجب، ومنها ما هو على سبيل الاستحباب، كالتعبد بتلاوته؟ كما ¬
الدليل الثاني
أن تبليغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - واحداً من أمته للقرآن تبليغ للأمة، فأكثر ما تكون قراءته له - صلى الله عليه وسلم - على وجه الذكر والتعبد، فإذا كان كذلك، كان حديث عليّ لو صح مجرد فعل من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب. قال ابن خزيمة: «لا حجة في هذا الحديث لمن منع الجنب من القراءة؛ لأنه ليس فيه نهي، وإنما هو حكاية فعل» (¬1). وقال ابن حزم: ((فأما منع الجنب من قراءة القرآن فاحتجوا بما رواه عبد الله بن سلمة، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة. وهذا لا حجة فيه؛ لأنه ليس فيه نهي عن أن يقرأ الجنب القرآن، وإنما هو فعل منه عليه السلام ... الخ كلامه رحمه الله تعالى (¬2). الدليل الثاني: (1246 - 119) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا علي بن حجر والحسن بن عرفة، قالا: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1247 - 120) ما رواه الدارقطني، من طريق أبي نعيم النخعي (عبد الرحمن بن هانئ)، نا أبو مالك النخعي، عن عبد الملك بن حسين، حدثني أبو إسحاق السبيعي، عن الحارث، عن علي. قال أبو مالك: وأخبرني عاصم بن كليب، عن أبي بردة، عن أبي موسى كلاهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا علي إني أرضى لك ما أرضى لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي، لا تقرأ القرآن وأنت جنب، ولا أنت راكع، ولا أنت ساجد، ولا تصل، وأنت عاقص شعرك، ولا تدبح تدبيح الحمار (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). الدليل الرابع: (1248 - 121) ما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار من طريق عبد الله بن لهيعة، عن عبد الله بن سليمان، عن ثعلبة بن أبي الكنود، عن مالك بن عبادة الغافقي، قال: أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جنب، فأخبرت عمر بن الخطاب، فجرني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله إن هذا أخبرني أنك أكلت، وأنت جنب، قال: نعم إذا توضأت أكلت ¬
الدليل الخامس
وشربت، ولكني لا أصلي، ولا أقرأ حتى أغتسل (¬1). [إسناده ضعيف، ولو صح لكان حكاية فعل في الجنب خاصة] (¬2). الدليل الخامس: (1249 - 122) ما رواه عبد الرزاق، قال: عن الثوري، عن أبي وائل، عن عبيدة السلماني، قال: كان عمر بن الخطاب يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب. [رجاله ثقات، والكراهة عند السلف تعني التحريم، وعمر له سنة متبعة؛ لأنه من الخلفاء الراشدين المأمورين باتباع سنتهم] (¬3). ويجاب عن هذا: أولاً: الكراهة في الشرع لفظ مشترك بين التحريم والكراهة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر. وقال تعالى: {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً} (¬4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال، ¬
الدليل السادس
فالكراهة في النص الأول كراهة تنزيه، وفي الثاني والثالث المراد منها التحريم، وإذا كانت الكراهة نصاً مشتركاً لم يكن الدليل نصاً في التحريم. ثانياً: على فرض أن المراد بها التحريم، فإن الصحابة قد اختلفوا في قراءة الجنب للقرآن، وليس قول بعضهم حجة على البعض، وإذا اختلفوا كان الموقف الشرعي النظر في أقرب أقوالهم للحق، كما هو الحال في هذه المسألة. الدليل السادس: (1250 - 123) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا غندر، عن شعبة، عن حماد، عن إبراهيم، أن ابن مسعود كان يمشي نحو الفرات، وهو يقرئ رجلاً القرآن، فبال ابن مسعود، فكف الرجل عنه، فقال ابن مسعود: مالك؟ فقال: إنك بلت. فقال ابن مسعود: إني لست بجنب (¬1). [إسناده منقطع، إبراهيم لم يسمع من ابن مسعود، وباقي رجاله ثقات إلا حماد بن أبي سليمان فإنه صدوق له أوهام، كما أن الأثر موقوف] (¬2). وعلى فرض صحته، فإن الجواب عنه لا يختلف عن الجواب عن أثر عمر رضي الله عنه. الدليل السابع: (1251 - 124) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا محمد بن مخلد، نا العباس بن محمد الدوري (ح) ¬
وحدثنا إبراهيم بن دُبَيْس بن أحمد الحداد، نا محمد بن سليمان الواسطي، قالا: نا أبو نعيم، نا زمعة ابن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، قال: كان ابن رواحة مضطجعاً إلى جنب امرأته، فقام إلى جارية له في ناحية الحجرة، فوقع عليها، وفزعت امرأته، فلم تجده في مضجعه، فقامت وخرجت، فرأته على جاريته، فرجعت إلى البيت، فأخذت الشفرة، فقال: مهيم؟ فقالت: مهيم! لو أدركتك حيث رأيتك لوجأت بين كتفيك بهذه الشفرة. قال: وأين رأيتيني؟ فقالت: رأيتك على الجارية. فقال: ما رأيتيني، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرأ أحدنا القرآن، وهو جنب، قالت: فاقرأ، فقال: أتانا رسول الله يتلو كتابه ... كما لاح مشهور من الفجر ساطع أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع فقالت: آمنت بالله، وكذبت البصر، ثم غدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فضحك حتى رأيت نواجذه - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ] إسناد القصة ضعيف، وفيه انقطاع، والشعر ثابت لعبد الله ابن رواحة من غير هذا الطريق] (¬2). قالوا: فهذه الأحاديث في منع الجنب صالحة للاحتجاج إما بنفسها، وأما بمجموعها، وكلها تدل على أن الجنب ليس له أن يقرأ القرآن. وأجيب: بأن أحاديث منع الجنب من قراءة القرآن كونها لا تأتي إلا من طريق ¬
دليل من قال: يجوز للجنب قراءة القرآن
الضعفاء، فانفرادهم بهذا الحكم مع حاجة الأمة إليه، يوجب في النفس ريبة من قبول هذا الحكم، فالحكم إذا كانت الأمة بحاجته، لا بد أن تأتي النصوص صحيحة صريحة تقوم بمثلها الحجة، وكما قلنا في أحاديث البسملة في الوضوء، وأحاديث تخليل اللحية في الوضوء نقوله هنا، والاعتبار بالحديث الضعيف ليس على إطلاقه، وقد حكم العلماء بأن البسملة بالوضوء لا يثبت فيها حديث، وكذلك أحاديث التخليل مع كثرة الشواهد في الباب، والله أعلم. دليل من قال: يجوز للجنب قراءة القرآن. الدليل الأول: الأصل عدم وجوب الغسل لقراءة القرآن، فمن أوجب الغسل لقراءة القرآن فعليه الدليل، وبالتالي فهذا القول لا يطالب بالدليل، وإنما يطالب بأن يجيب عن أدلة القائلين بالوجوب، وقد فعل فيما سبق، وهذا كاف في عدم وجوب الغسل من قراءة القرآن، ومع ذلك فسوف نلتمس دليلاً إيجابياً على صحة قراءة القرآن من الجنب، فيقال: أمر الله بتلاوة القرآن وتدبره، قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} (¬1). وقال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} (¬2). وهذا الأمر بالتدبر مطلق، فمن ادعى منع الجنب أو غيره كلف أن يأتي بالبرهان. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: لو كان الجنب ممنوعاً من قراءة القرآن لجاءت النصوص الصحيحة الصريحة بمنعه، كما جاء في منعه من الصلاة، فلما كانت الأحاديث الواردة لا تقوم بها حجة، وتدور على الضعفاء والمتروكين علم أن الشرع لا يمنع من ذلك؛ لأن كل شيء يحتاج إليه في الشرع، ويتكرر، وتكون حاجته عامة ليست مقصوة على فرد معين، لا بد أن تأتي النصوص فيه صحيحة صريحة واضحة تقوم بمثلها الحجة، قال سبحانه وتعالى: {وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم} (¬1). الدليل الثالث: (1252 - 125) ما رواه مسلم من طريق البهي، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه (¬2). وجه الاستدلال: قال ابن حجر: الذكر أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره، وإنما فرق بين الذكر والتلاوة بالعرف (¬3). فإذا كان لفظ الذكر يشمل قراءة القرآن، وكان لفظ الذكر مطلقاً في الحديث، فمن قيد الذكر بما عدا القرآن فعليه الدليل. وحاول أن يرده ابن رجب، فقال: ((ليس فيه دليل على جواز قراءة ¬
الدليل الرابع
القرآن للجنب؛ لأن ذكر الله إذا أطلق لا يراد به القرآن)). وهذا غير صحيح؛ لأن قوله: ((الذكر إذا أطلق لا يراد به القرآن، هل يريد لا يراد به القرآن شرعاً، أم عرفاً، فإن كان يقصد العرف فمسلم، والعرف يختلف من قوم إلى قوم، ومن زمان إلى آخر، وأما في الشرع فإن القرآن كله يسمى الذكر، قال سبحانه وتعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (¬1)، وقال سبحانه: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} (¬2)، والآيات في هذا كثيرة، والحقيقة الشرعية مقدمة على الحقيقة العرفية. الدليل الرابع: (1253 - 126) ما رواه مسلم، قال رحمه الله: حدثني محمد بن عمرو ابن عباد بن جبلة حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: حدثنا سعيد ابن حويرث، أنه سمع ابن عباس يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى حاجته من الخلاء، فقرب إليه طعام فأكل ولم يمس ماء. قال: وزادني عمرو بن دينار عن سعيد بن الحويرث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: إنك لم توضأ، قال: ما أردت صلاة فأتوضأ. وزعم عمرو أنه سمع من سعيد بن الحويرث (¬3). (1254 = 127) ورواه عبد بن حميد كما في المنتخب، قال: أخبرنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عمرو بن دينار، عن ¬
الدليل الخامس
سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس. وفيه: «إنما أمرتم بالوضوء للصلاة». وسنده صحيح، وفيه التعبير بالحصر بـ (إنما). وجه الاستدلال: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أردت صلاة فأتوضأ» وقوله: «إنما أمرتم بالوضوء للصلاة» منطوقه: أن الوضوء لا يجب إلا للصلاة، ومفهومه: أنه لا يجب الوضوء لغير الصلاة من قراءة القرآن للجنب والحائض وغيرهما. وقد استدل به ابن تيمية: على جواز الطواف من غير وضوء، فالباب واحد، فينبغي أن يستدل به على هذا الباب أيضاً، والله أعلم. الدليل الخامس: (1255 - 128) ما روى ابن المنذر من طريق عبيد بن عبيدة من بني عباب الناجي، قال: قرأ ابن عباس شيئاً من القرآن، وهو جنب، فقيل له في ذلك؟ فقال: ما في جوفي أكثر من ذلك (¬1). [صحيح عن ابن عباس] (¬2). القول الراجح: بعد استعراض أدلة كل قول، نجد أن القول بجواز قراءة الجنب للقرآن أقوى حجة من القائلين باشتراط الطهارة من أجل القراءة، وهو مذهب ابن عباس رحمه الله تعالى، والله أعلم. ¬
الفصل الخامس في مس الجنب للمصحف
الفصل الخامس في مس الجنب للمصحف اختلف العلماء في مس الجنب للمصحف، فقيل: تشترط له الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). واختيار ابن تيمية (¬2). وقيل: يجوز للجنب أن يمس المصحف، وهو مذهب ابن حزم رحمه الله (¬3). وقد ناقشت هذه المسألة مناقشة مستفيضة في كتابي الحيض والنفاس وكتبت فيها في أكثر من أربعين صفحة، فأغنى عن إعادته هنا، والله أعلم. ¬
الفصل السادس في صيام الجنب
الفصل السادس في صيام الجنب اختلف العلماء في الرجل يجامع أهله قبل الفجر، ثم يطلع عليه الفجر، وهو جنب، هل يصح صومه، أو يلزمه الغسل قبل طلوع الفجر؟ فقيل: يصح صوم الجنب مطلقاً، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). وقيل: لا يصح صومه مطلقاً، وهو مروي عن أبي هريرة، وسالم بن عبد الله، والحسن البصري (¬2). وقيل: إن أخر الاغتسال لغير عذر بطل صومه. وهو قول عروة بن الزبير (¬3). ¬
دليل الجمهور على صحة صوم الجنب
وقيل: يصح في النفل دون الفرض، وهو قول إبراهيم النخعي (¬1). دليل الجمهور على صحة صوم الجنب. الدليل الأول: قال تعالى: {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل} (¬2). وجه الاستدلال: دلت الآية على إباحة الوقاع في كل أجزاء الليل إلى طلوع الفجر، ويفهم منه إباحة الإصباح جنباً في حالة الصوم؛ لأن إباحة الجماع إلى طلوع الفجر، يستلزم أن يطلع عليه الفجر، وهو جنب. وهذه إشارة لطيفة من النص القرآني على صحة صوم الجنب. الدليل الثاني: (1256 - 129) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، عن عروة وأبي بكر، قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدركه الفجر في رمضان من غير حلم، فيغتسل ويصوم، ورواه مسلم (¬3). ¬
الدليل الثالث
وفي رواية للبخاري: «كان يدركه الفجر، وهو جنب من أهله، ثم يغتسل ويصوم» (¬1). وجه الاستدلال: يؤخذ من الحديث فائدتان: الأولى: أنه كان يجامع في رمضان، ويؤخر الغسل إلى بعد طلوع الفجر بياناً للجواز. الثانية: أن ذلك كان من جماع، لا من احتلام (¬2). الدليل الثالث: (1257 - 130) ما رواه مسلم، من طريق أبي بكر (يعني ابن الحارث) حدثه، أن مروان أرسله إلى أم سلمة رضي الله عنها يسأل، عن الرجل يصبح جنبا أيصوم؟ فقالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنبا من جماع لا من حلم، ثم لا يفطر، ولا يقضي. وهو في البخاري (¬3). وجه الاستدلال من الحديث كالذي قبله. دليل من قال: لا يصح صوم الجنب. الدليل الأول: (1258 - 131) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام بن منبه، قال: ¬
هذا ما حدثنا به أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا نودي للصلاة، صلاة الصبح وأحدكم جنب، فلا يصم يومئذ (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬
وقد وقف العلماء من حديث عائشة وأم سلمة، ومن حديث أبي هريرة إما موقف الترجيح أو موقف الجمع، أو القول بالنسخ، فأما موقف الترجيح فمن وجوه: الأول: أن حديث عائشة موافق لحديث أم سلمة، ورواية الاثنين تقدم على رواية الواحد، لا سيما وهما زوجتان، وهما أعلم بذلك من غيرهما من الرجال. الوجه الثاني: أن حديث عائشة وحديث أم سلمة موافقان للقرآن، وذلك أن الله سبحانه وتعالى في آية البقرة أباح الأكل والمباشرة إلى طلوع الفجر، ومعلوم أنه إذا جاز الجماع إلى طلوع الفجر لزم منه أن يصبح جنباً، وصيامه صحيح. الوجه الثالث: أن حديث عائشة وأم سلمة موافقان للنظر، وهو أن المحرم هو الجماع في وقت الصيام، وأما كون حكم الجنابة باقياً عليه في وقت الصيام فهذا لا يحرم عليه، فقد يحتلم بالنهار ويجب عليه الغسل، ولا يغتسل مباشرة بل يبقى ساعات كثيرة بالنهار، وهو جنب، ولا يفسد صومه بالإجماع، ولا يجب عليه الغسل إلا عند القيام إلى الصلاة، فكذلك إذا احتلم ¬
ليلاً، ثم بقي ساعات جنباً وهو صائم، بل هو من باب أولى، وإنما يمنع الصائم من تعمد الجماع نهاراً، وهو شبيه بمن يمنع من التطيب، وهو محرم، لكن لو تطيب، وهو حلال، ثم أحرم فبقي عليه لونه أو ريحه لم يحرم ذلك عليه. الوجه الرابع: إن أبا هريرة قد رجع عن قوله حين بلغه حديث عائشة وأم سلمة، فهذا يدل على أن أبا هريرة رضي الله عنه قد رجح حديث عائشة وأم سلمة على ما سمعه من الفضل بن عباس، (1259 - 132) فقد روى مسلم من طريق ابن جريج، أخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي بكر، قال: سمعت أبا هريرة يقص، يقول في قصصه: من أدركه الفجر جنباً فلا يصم، فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن الحارث (لأبيه) فأنكر ذلك، فانطلق عبد الرحمن وانطلقت معه حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة، فسألهما عبد الرحمن عن ذلك، قال: فكلتاهما قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنباً من غير حلم، ثم يصوم، قال: فانطلقنا حتى دخلنا على مروان، فذكر ذلك له عبد الرحمن، فقال مروان: عزمت عليك إلا ما ذهبت إلى أبي هريرة، فرددت عليه ما يقول، قال: فجئنا أبا هريرة، وأبو بكر حاضر ذلك كله، قال: فذكر له عبد الرحمن، فقال أبو هريرة: أهما قالتاه لك؟ قال: نعم، قال: هما أعلم، ثم رد أبو هريرة ما كان يقول في ذلك إلى الفضل بن عباس، فقال أبو هريرة: سمعت ذلك من الفضل، ولم أسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك (¬1). ¬
ورواه أحمد من طريق شعبة، عن الحكم عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبيه به، وفيه: قال أبو هريرة: عائشة إذن أعلم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [إسناده صحيح] (¬1). (1260 - 133) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة، عن ابن المسيب، أن أبا هريرة رجع عن فتياه من أصبح جنباً فلا صوم له (¬2). ورجاله ثقات إلا أن رواية قتادة عن سعيد بن المسيب فيها كلام (¬3). ¬
(1261 - 143) وأخرج النسائي في الكبرى (¬1)، من طريق عبد الله بن المبارك، عن ابن أبي ذئب، عن سليمان بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أخيه محمد، ¬
أنه كان يسمع أبا هريرة يقول: من احتلم من الليل أو واقع أهله، ثم أدركه الفجر، ولم يغتسل، فلا يصوم، قال: ثم سمعته نزع عن ذلك. [إسناده فيه لين] (¬1). فيكفي في التصريح بالرجوع من أبي هريرة بما ورد في صحيح مسلم، وسقته في أول الاستدلال على رجوع أبي هريرة، وبما رواه أحمد من طريق شعبة، عن الحكم، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عائشة وأم سلمة في صحة صيام الجنب، وإخبار عبد الرحمن لأبي هريرة بما قالتاه، وشهادة أبي هريرة بأن أمهات المؤمنين أعلم. (1262 - 135) وأما ما رواه أحمد (¬2)، عن علي بن عاصم، عن خالد، عن أبي قلابة، عن عبد الرحمن بن عتاب، قال: كان أبو هريرة يقول: من أصبح جنباً فلا صوم له، قال: فأرسلني مروان بن الحكم أنا ورجل آخر إلى عائشة وأم سلمة، وفيه: فقال مروان لعبد الرحمن: أخبر أبا هريرة بما قالتا، فقال: أبو هريرة: كذا كنت أحسب، وكذا كنت أظن. قال: فقال له مروان: بأظن وبأحسب تفتي الناس! [فإسناده ضعيف، ومتنه منكر] (¬3). ¬
(1263 - 136) وأما ما رواه ابن عبد البر من طريق عمر بن قيس، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة أنه قال: كنت حدثتكم: من أصبح جنباً فقد أفطر، فإنما ذلك من كيس أبي هريرة، فمن أصبح جنباً فلا بفطر (¬1). [فإسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬
الوجه الخامس: من وجوه الترجيح ما ذكره البخاري في صحيحه، بعد أن أخرج حديث عائشة وأم سلمة، ثم ساق بعده ما يعارضه معلقاً، قال البخاري: قال همام وابن عبد الله بن عمر، عن أبي هريرة، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالفطر. قال البخاري: والأول أسند، يعني: حديث عائشة وأم سلمة. ومقصود البخاري بقوله: والأول أسند، أي أكثر طرقاً إلى عائشة وأم سلمة، قال الحافظ: والذي يظهر لي أن مراد البخاري أن الرواية الأولى: أقوى إسناداً، وهي من حيث الرجحان كذلك؛ لأن حديث عائشة وأم سلمة في ذلك جاءا عنهما من طرق كثيرة جداً بمعنى واحد، حتى قال ابن عبد البر: إنه صح وتواتر، وأما أبو هريرة فأكثر الروايات عنه أن كان يفتي به، وجاء عنه من طريق هذين (يعني همام وابن عبد الله بن عمر) أنه كان يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك وقع في رواية معمر، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكره .. أخرجه عبد الرزاق. وللنسائي من طريق عكرمة بن خالد، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، قال: بلغ مروان أنا أبا هريرة يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..... فذكره، وله من طريق المقبري، قال: بعثت عائشة إلى أبي هريرة لا تحدث بهذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولأحمد من طريق عبد الله بن عمرو القارئ، سمعت أبا هريرة يقول: ورب هذا البيت، ما أنا قلت: من أدرك الصبح، وهو جنب فلا يصم، محمد ¬
ورب الكعبة قاله. اهـ نقلاً من الفتح (¬1). وقد سبق تخريج كل هذه الطرق عند ذكر أثر أبي هريرة رضي الله عنه. وأما طريقة من سلك مسلك الجمع، فله في الجمع أقوال: الأول: قال بعضهم: إن حديث أبي هريرة إرشاد إلى الأفضل، فالأفضل أن يغتسل قبل الفجر، فلو خالف جاز. قال النووي: وهذا مذهب أصحابنا، وجوابهم عن الحديث، فإن قيل: كيف يكون الاغتسال قبل الفجر أفضل، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافه؟ فالجواب أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله لبيان الجواز، ويكون في حقه حينئذ أفضل؛ لأنه يتضمن البيان للناس، وهو مأمور بالبيان، وهذا كما توضأ مرة مرة في بعض الأوقات بياناً للجواز، ومعلوم أن الثلاث أفضل، وطاف على البعير، ومعلوم أن الطواف ساعياً أفضل (¬2). وهذا الجواب غير ظاهر، فلا يمكن حمل حديث أبي هريرة على فعل الأفضل وقد وقع التصريح في كثير من طرق حديث أبي هريرة بالأمر بالفطر لمن أصبح جنباً، وبالنهي عن الصيام لمن أصبح وهو جنب. القول الثاني في الجمع: قال بعضهم: إن حديث عائشة وأم سلمة في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحديث أبي هريرة في حق أمته، فلا تعارض، فيكون من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - كونه يصبح جنباً، وهو صائم، ولا يجوز هذا الفعل لأمته عليه الصلاة والسلام. ¬
وهذا القول ضعيف؛ لأن خصائص النبي لا تثبت إلا بدليل صريح على أن هذا الحكم خاص به، وإلا فالأصل التأسي به - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (¬1). وقد ورد دليل صريح بأن هذا الحكم ليس خاصاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، (1264 - 137) فقد روى مسلم من طريق أبي يونس مولى عائشة، عن عائشة أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفتيه، وهي تسمع من وراء الباب، فقال: يا رسول الله تدركني الصلاة، وأنا جنب، أفأصوم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وأنا تدركني الصلاة، وأنا جنب، فأصوم. فقال: لست مثلنا يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي (¬2). القول الثالث في الجمع: قال بعضهم: لعل حديث أبي هريرة محمول على من أدركه الفجر مجامعاً، فاستدام بعد طلوع الفجر عالماً فإنه يفطر، ولا صوم له (¬3). (1265 - 138) قال الحافظ ابن حجر: ويعكر عليه ما رواه النسائي من طريق أبي حازم، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبيه، أنا أبا هريرة كان يقول: من احتلم وعلم باحتلامه، ولم يغتسل حتى ¬
دليل من فرق بين الفرض والنفل أو بين المعذور وغير المعذور
أصبح فلا يصوم (¬1). إسناده صحيح. وأما وجه من اتبع طريقة النسخ، فقال البيهقي: «وروينا عن أبي بكر ابن المنذر أنه قال: أحسن ما سمعت في هذا، أن يكون ذلك محمولاً على النسخ، وذلك أن الجماع كان في أول الإسلام محرماً على الصائم في الليل بعد النوم، كالطعام والشراب، فلما أباح الله عز وجل الجماع إلى طلوع الفجر، جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل أن يصوم ذلك اليوم؛ لارتفاع الحظر، فكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل بن عباس على الأمر الأول، ولم يعلم بالنسخ، فلما سمع خبر عائشة وأم سلمة صار إليه» (¬2). قال ابن حجر: «ويقويه أن في حديث عائشة هذا الأخير ما يشعر بأن ذلك كان بعد الحديبية، لقوله فيها: ((قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر» وأشار إلى آية الفتح، وهي إنما نزلت عام الحديبية، سنة ست، وابتداء فرض الصيام كان في السنة الثانية، وإلى دعوى النسخ ذهب ابن المنذر والخطابي وغير واحد)) (¬3). دليل من فرق بين الفرض والنفل أو بين المعذور وغير المعذور. هذان القولان هما من وجوه الجمع بين حديث أبي هريرة، وبين حديث عائشة وأم سلمة، فحمل حديث أبي هريرة على الفرض، وحمل حديث عائشة وأم سلمة على النفل. ¬
الراجح من خلاف أهل العلم
أو حمل حديث أبي هريرة على غير المعذور، وحمل حديث عائشة وأم سلمة على المعذور، ومن سلك طريق الجمع لم ير حديث أبي هريرة غلطاً، أو منسوخاً، وإنما رأى أن هناك دليلين ظاهرهما التعارض، فحاول الجمع، وما زال بعض التابعين لا يرون أن أبا هريرة رجع عن حديثه. ولذلك قال الترمذي في سننه: حديث عائشة وأم سلمة حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، ثم قال: وقد قال قوم من التابعين: إذا أصبح جنباً يقضي ذلك اليوم، والقول الأول أصح (¬1). فهنا الترمذي يرى أن هناك قوماً من التابعين يأخذون بحديث أبي هريرة. (1266 - 139) وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أيبيت الرجل جنباً في شهر رمضان حتى يصبح، يتعمد ذلك، ثم يصوم؟ قال: أما أبو هريرة فكان ينهى عن ذلك، وأما عائشة فكانت تقول: ليس بذلك بأس، فلما اختلفا على عطاء، قال: يتم يومه ذلك، ويبدل يوماً (¬2). [وإسناده صحيح عن عطاء]. الراجح من خلاف أهل العلم. بعد استعراض أدلة الأقوال نرى أن استصحاب حكم الجنابة لا يؤثر على الصيام، وقد دللنا على ذلك أثراً ونظراً، وهذا القول قد رأى بعضهم أن الإجماع انعقد عليه عند المتأخرين، قال النووي: ((وأما حكم المسألة فقد أجمع ¬
أهل هذه الأمصار على صحة صوم الجنب، سواء كان من احتلام أو جماع، وبه قال جماهير الصحابة والتابعين)) (¬1). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: «وقد بقي على مقالة أبي هريرة بعض التابعين كما نقله الترمذي، ثم ارتفع ذلك الخلاف، واستقر الإجماع على خلافه كما جزم به النوووي، وأما ابن دقيق العيد، فقال: صار ذلك إجماعاً أو كالإجماع» (¬2). وهل ينعقد الإجماع بعد ثبوت الخلاف عند الصحابة والتابعين، هذه مسألة خلافية عند أهل الأصول، ليس هذا موضع تحريرها، فلعل الله أن ييسر لأكتب في هذه المسألة بحثاً مستقلاً إن شاء الله تعالى، والله سبحانه وتعالى أعلم. ¬
مبحث في الحائض والنفساء تطهر قبل الفجر ولا تغتسل إلا بعد طلوع الصبح
مبحث في الحائض والنفساء تطهر قبل الفجر ولا تغتسل إلا بعد طلوع الصبح إذا طهرت المرأة من الحيض ليلاً، ونوت الصيام، وأخرت الغسل إلى طلوع الفجر، فهل يصح صومها ذلك اليوم؟ اختلف العلماء في ذلك: فقيل: إن طهرت قبل الفجر بوقت يتسع فيه للغسل، فلم تغتسل حتى طلع الفجر أجزأها، وإن كان الوقت ضيقاً، لا يتسع للغسل، لم يصح صومها (¬1). وهذا مذهب الحنفية، واختاره من المالكية عبد الملك، ومحمد بن مسلمة (¬2). ¬
وقيل: صيامها صحيح، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: لا يباح الصيام مطلقاً حتى تغتسل، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2)، وحكي قولاً للأوزاعي (¬3). وسبب الخلاف في هذه المسألة، اختلافهم فيها: هل هي مقيسة على من أجنب من الليل، ثم طلع عليه الفجر ولم يغتسل، أو لا؟ فمن رأى أن الحيض حدث يمنع من الصيام لم يجر القياس. ومن رأى أن الحائض إذا طهرت من الدم أصبحت كالجنب بجامع أن ¬
كلاً منهما يملك أن يرفع حدثه متى شاء، فالحائض عندما انقطع دمها قد طهرت من الخبث، وبقيت طهارتها من الحدث، فأصبح حدثها بعد انقطاع دمها لا يوجب إلا الغسل، كالجنب تماماً، وصفة الغسل في الجنابة والحيض واحدة، أجرى القياس، فصحح صيام الحائض إذا طهرت من الليل ولم تغتسل إلا بعد طلوع الصبح. وهناك من رأى أنه يشترط أن تدرك من الوقت زمناً يتسع للغسل، حتى يكون الصيام واجباً في ذمتها، فإن كان الوقت ضيقاً، لا تدرك فيه الغسل، لم يصح صومها، ويومها يوم فطر، ويخرج الخلاف في هذه المسألة كالخلاف في من طهرت قبل خروج وقت الصلاة، هل يشترط أن تدرك من الوقت زمناً يتسع للغسل حتى تكون الصلاة واجبة في ذمتها، أو يكفي أن تدرك من الوقت مقدار تكبيرة الإحرام، أو مقدار ركعة، على الخلاف المعروف ولا مدخل فيه لوقت الغسل. وقد ذكرنا أدلة هذه الأقوال بشيء من التفصيل في كتابي الحيض والنفاس رواية ودارية فأغنى عن إعادته هنا (¬1). ¬
الفصل السابع في أذان وإقامة الجنب للصلاة
الفصل السابع في أذان وإقامة الجنب للصلاة المبحث الأول في أذان الجنب اختلف الفقهاء في أذان الجنب، فقيل: يكره أذانه، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وأحد القولين في مذهب المالكية (¬2)، ومذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: لا بأس بذلك في غير المسجد، وهو قول في مذهب المالكية (¬5)، وقول في مذهب الحنابلة (¬6). ¬
دليل من قال: لا يصح الأذان إلا بطهارة
وقيل: إن أذن جنباً أعاد، وهو اختيار الخرقي من الحنابلة (¬1). دليل من قال: لا يصح الأذان إلا بطهارة. (1267 - 140) استدلوا: بما رواه البيهقي من طريق سلمة بن سليمان الضبي، ثنا صدقة بن عبيد الله المازني، ثنا الحارث بن عتبة، عن عبد الجبار بن وائل، عن أبيه، قال: حق وسنة مسنونة أن لا يؤذن الرجل إلا وهو طاهر، ولا يؤذن إلا وهو قائم (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). الدليل الثاني: قالوا: إن للأذان شبهاً بالصلاة، وذلك أنهما يفتتحان بالتكبير، ويؤديان مع الاستقبال، ويختصان بالوقت، ولا يتكلم فيهما (¬4). ¬
دليل من قال: يكره أذان الجنب
ويجاب عنه: بأن الجنابة أحد الحدثين، ولو كان الأذان صلاة، ما صح مع الحدث الأصغر، ولما أجزأ عندهم. الدليل الثالث: قالوا: إن الأذان يتطلب دخول المسجد، والجنب ممنوع من دخول المسجد. ويجاب: بأن هذه المسألة قد بحثت في فصل مستقل، وعُرِض فيها أقوال أهل العلم، فمنهم من منع مطلقاً، ومنهم من أباح المرور فيه بدون مكث، ومنهم من أجاز المكث بشرط الوضوء، وقد ترجح من خلال البحث جواز دخول الجنب للمسجد مطلقاً، فأغنى عن إعادته هنا. دليل من قال: يكره أذان الجنب. الدليل الأول: قالوا: قد ذهب بعض أهل العلم إلى أن أذان الجنب لا يصح، فخروجاً من الخلاف قلنا بالكراهة (¬1). والتعليل بالخلاف تعليل ضعيف، مع أنهم في هذه المسألة لم يخرجوا من الخلاف، بل زادوا منه لأمور: أولاً: أنتم لم تأتوا بقول يجمع بين القولين حتى يقال: قد وفقتم بين الخلاف، فلا أنتم قلتم بصحته بلا كراهة، ولا أنتم منعتم منه، فأنتم في الحقيقة ¬
أحدثتم قولاً ثالثاً في المسألة، لا بسبب دليل دعاكم إلى القول بهذا، ولكن الذي دعاكم إلى القول به، وجود قولين في المسألة، وبدلاً من أن يكون في المسألة قولان، أصبح فيها ثلاثة أقوال، فأصبح تعليلكم زاد من الخلاف، ولم تخرجوا منه. ثانياً: الكراهة حكم شرعي، يقوم على دليل شرعي، ووجود الخلاف ليس من أدلة الشرع المتفق عليها، ولا المختلف فيها حتى نعلل به الحكم الشرعي. ثالثاً: لو أخذنا بالخلاف كدليل أو تعليل للحكم الشرعي، للزم أن كل مسألة خلافية، نقول: إنها مكروهة، وهذا لا يقول به أحد، فالصحيح أن الخلاف قسمان: خلاف يكون ضعيفاً جداً، فهذا نطرحه ولا نبالي. وليس كل خلاف جاء معتبراً ... إلا خلافاً له حظ من النظر وخلاف يكون قوياً، فتجد كل خلاف في المسألة له دليل قوي، وله حظ من النظر، فهنا ينظر: فإن أمكن الخروج من الخلاف، بحيث نأخذ بقول يجمع بين القولين، فهو جيد، ويكون من باب الاحتياط، وليس السبب وجود الخلاف، ولكن السبب تنازع الأدلة، فهو من باب دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. وليس كل خلاف يمكن الخروج منه، فإن هناك أقوالاً متضادة لا يمكن الخروج من الخلاف فيها، وذلك مثل قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية، فهناك قول يقول: تجب قراءتها، وقول آخر يقول: تحرم قراءتها، فلا يمكن هنا في مثل هذه المسألة الخروج من خلاف أهل العلم، ولا بد من ترجيح أحد القولين لامتناع جمع هذين القولين في قول ثالث، والله أعلم.
الدليل الثاني
الدليل الثاني: قالوا: إنه ذكر مشروع للصلاة يتقدمها أشبه الخطبة. قلت: القياس في العبادات ضعيف، ولا يصح إلا مع النص على العلة ووجودها في المقيس، وهذا لا يتأتى هنا، مع أن المقيس عليه، وهو الخطبة لا دليل فيها على كراهتها من الجنب. الدليل الثالث: قالوا: إن المؤذن يدعو الناس إلى التأهب للصلاة، فإذا لم يكن متأهباً لها دخل تحت قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} (¬1). ويجاب: بأن الآية ليس هذا موضعاً لها، ولذا قال في آخر الآية: {أفلا تعقلون} والأذان من الجنب ليس منافياً للعقل، ثم إن الجنب سوف يصلي فلا يدخل تحت من يأمر الناس بشيء ولا يفعله، غاية ما فيه أنه سوف يذهب للغسل بعد الأذان، فهو كمن أذن، وهو محدث حدثاً أصغر، ثم ذهب يتوضأ بعد الأذان، ولا فرق إلا أن هذه طهارة لأربعة أعضاء، وهذه طهارة للبدن كله. دليل من قال: يصح الأذان من الجنب. قالوا: لم يأت نهي من كتاب الله، ولا من سنة رسول - صلى الله عليه وسلم - للجنب يمنعه من الأذان، وقد قال سبحانه وتعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} (¬2). ¬
القول الراجح
فصح أن كل ما لم يفصل لنا تحريمه، فهو مباح (¬1). الدليل الثاني: أن الأذان ذكر لله، والجنب لا يمنع من ذكر الله سبحانه وتعالى اتفاقاً في غير القرآن الكريم، فكذا لا يمنع من الأذان. القول الراجح: بعد استعراض أدلة الأقوال نجد أن القول بصحة أذان الجنب هو أقوى الأقوال، وذلك أن من منع أو كره أذان الجنب لم يأت بدليل صحيح صريح على ما ذهب إليه، والأصل عدم المنع، وإذا كنتم لا تمنعون الجنب من إجابة المؤذن، وهو سوف يقول مثل ما قال المؤذن، فكيف يمنع من الأذان، فلا فرق بينهما، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في إقامة الجنب للصلاة
المبحث الثاني في إقامة الجنب للصلاة اختلف أهل العلم في إقامة الجنب للصلاة، فقيل: لا تصح الإقامة من الجنب، وهو مذهب المالكية (¬1)، وقول عطاء (¬2)، ومجاهد (¬3)، والأوزاعي (¬4)، وإسحاق (¬5). وقيل: تكره، وهو مذهب الحنفية (¬6)، والشافعية (¬7)، والحنابلة (¬8)، وقول في مذهب المالكية (¬9). ¬
وجه منع الجنب من إقامة الصلاة
وقيل: تصح الإقامة من الجنب بلا كراهة، وهو اختيار ابن حزم (¬1). وجه منع الجنب من إقامة الصلاة. كل الأدلة التي استدلوا بها على منع الجنب من الأذان، استدلوا بها هنا على منع الجنب من إقامة الصلاة، بل قالوا: إن الإقامة أشد في المنع من الأذان. وجه كراهة إقامة الجنب. أنه يلزم منه الخروج من المسجد بعد الأذان، ويترتب عليه فوات قدر من الصلاة، وفواته المكان الفاضل، ويلزم منه الفصل بين الإقامة والصلاة، وهي متصلة بها. وجه تصحيح إقامة الجنب. نفس الأدلة التي استدلوا بها على تصحيح أذان الجنب يستدل بها هنا على صحة إقامة الجنب، فلم يأت دليل من كتاب أو سنة يمنع من إقامة الجنب للصلاة، والتعاليل التي ذكروها لا تكفي في الكراهة الشرعية. الراجح: صحة إقامة الجنب، ولو قيل: إنها خلاف الأولى لم يبعد هذا القول، أما الجزم بالكراهة، فيفتقر إلى نهي من الشارع، ولم يثبت، والله أعلم. ¬
الفصل الثامن في نوم الجنب
الفصل الثامن في نوم الجنب اتفق العلماء على جواز النوم للجنب قبل الاغتسال، واختلفوا في جواز النوم قبل الوضوء، فقيل: الوضوء قبل أن ينام أفضل، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وإليه مال ¬
ابن عبد البر رحمه الله (¬1). وقيل: يندب للجنب أن يتوضأ قبل أن ينام، هو مذهب المالكية (¬2)، ¬
وقيل: يكره أن ينام بدون وضوء، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والمشهور عند المتأخرين من الحنابلة (¬2)، واختيار ابن تيمية رحمه الله (¬3). وقيل: يجب عليه الوضوء إذا أراد أن ينام، اختاره ابن حبيب من ¬
دليل من قال: للجنب أن ينام دون أن يمس ماء
المالكية (¬1)، وهو مذهب الظاهرية (¬2). دليل من قال: للجنب أن ينام دون أن يمس ماء. الدليل الأول: (1268 - 141) ما رواه أحمد، قال: حدثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام، وهو جنب، ولا يمس ماء (¬3). [حديث معلول] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1269 - 142) ما رواه ابن خزيمة من طريق أحمد بن عبدة، أخبرنا سفيان، عن عبد الله ابن دينار، عن ابن عمر، عن عمر، أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أينام أحدنا، وهو جنب؟ قال: ينام، ويتوضأ إن شاء (¬1). [الحديث رجاله ثقات إلا أن زيادة إن شاء زيادة شاذة] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1269 - 143) ما رواه مسلم، قال رحمه الله: حدثني محمد بن عمرو ابن عباد بن جبلة حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: حدثنا سعيد ابن حويرث، أنه سمع ابن عباس يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى حاجته من الخلاء، فقرب إليه طعام فأكل ولم يمس ماء. ¬
دليل القائلين بوجوب الوضوء إذا أراد الجنب أن ينام
قال: وزادني عمرو بن دينار، عن سعيد بن الحويرث، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: إنك لم توضأ، قال: ما أردت صلاة فأتوضأ. وزعم عمرو أنه سمع من سعيد بن الحويرث (¬1). (1271 - 144) ورواه عبد بن حميد كما في المنتخب، قال: أخبرنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس. وفيه: «إنما أمرتم بالوضوء للصلاة». وسنده صحيح، وفيه التعبير بالحصر بـ (إنما). وجه الاستدلال: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أردت صلاة فأتوضأ» وقوله: «إنما أمرتم بالوضوء للصلاة» منطوقه: أن الوضوء لا يجب إلا للصلاة، ومفهومه: أنه لا يجب الوضوء لغير الصلاة، ومنه الوضوء عند النوم للجنب. دليل القائلين بوجوب الوضوء إذا أراد الجنب أن ينام. الدليل الأول: (2272 - 145) ما رواه البخاري من طريق الليث، عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد، وهو جنب، ورواه مسلم (¬2). فأذن بالنوم بشرط الوضوء، وهذا دليل على وجوبه. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: صح من فعله - صلى الله عليه وسلم -، أنه إذا أراد أن ينام توضأ، وهذا وإن كان فعلاً إلا أنه مؤيد لحديث عمر بن الخطاب، في عدم النوم إلا بشرط الوضوء، ولم ينقل ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث صحيح حتى يقال: يجوز تركه. (1273 - 146) فقد روى البخاري من طريق عن عروة، عن عائشة قالت كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن ينام، وهو جنب، غسل فرجه، وتوضأ للصلاة، ورواه مسلم (¬1). فقوله: «كان» دليل على الاستمرار من حاله - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثالث: (1274 - 147) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن عطاء الخرساني، عن يحيى بن يعمر، عن عمار، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه رخص للجنب، إذا أراد أن ينام، أو يأكل، أو يشرب، أن يتوضأ وضوءه للصلاة (¬2). [إسناده ضعيف] (¬3). ¬
دليل من قال: يكره النوم للجنب بدون وضوء
فقوله: «رخص» يدل على أنه في مقابل المنع، فيؤخذ منه أن غير المتوضئ لا يرخص له في النوم. وهذا ممكن أن يتوجه القول به لو صح الحديث. دليل من قال: يكره النوم للجنب بدون وضوء. هذا القول حين رأى أن القول بالوجوب قول قوي، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان لا ينام، وهو جنب إلا وهو على وضوء، وحين استفتاه عمر رضي الله عنه في النوم أذن له بشرط الوضوء، رأى أن ترك الوضوء والحالة هذه مكروه، خروجاً من خلاف القائلين بالوجوب، والله أعلم. الراجح: بعد استعراض أدلة الأقوال، نجد أن القول بالوجوب قول قوي، والقول بالاستحباب أقوى، وعلى كل فعلى المسلم أن يحرص على النوم على وضوء، خروجاً من خلاف أهل العلم، والله أعلم.
الفصل التاسع في أكل الجنب وشربه
الفصل التاسع في أكل الجنب وشربه اختلف العلماء في وضوء الجنب للأكل والشرب، فقيل: يغسل يديه إن كان أصابهما أذى، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2). وقيل: يستحب للجنب أن يتوضأ عند الأكل، وهو مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ¬
دليل من قال: يستحب له أن يغسل يديه
دليل من قال: يستحب له أن يغسل يديه. (1278 - 148) ما رواه أحمد، قال: حدثنا علي بن إسحاق، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا يونس، عن الزهري، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة، وإذا أراد أن يأكل ويشرب، قالت: يغسل يده ثم يأكل ويشرب (¬1). [حديث الوضوء للنوم محفوظ في الصحيحين، وحديث غسل اليد للأكل المحفوظ أنه من قول عائشة رضي الله عنها غير مرفوع] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل من قال: يستحب له الوضوء
دليل من قال: يستحب له الوضوء. (1276 - 149) ما رواه مسلم، قال: من طريق ابن علية، ووكيع، وغندر، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، ¬
عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان جنباً، فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة (¬1). [زيادة الوضوء للأكل انفرد به الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، وكان شعبة يرويه عن الحكم، ثم ترك ذكره بعد، قال الحافظ: «لعله تركه بعد أن كان يحدث به؛ لتفرده بذكر الأكل كما حكاه الخلال عن أحمد»] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني: (1277 - 150) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا محمد بن عمر بن هياج، حدثنا إسمعيل ابن صبيح، حدثنا أبو أويس، عن شرحبيل بن سعد، عن جابر بن عبد الله قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجنب، هل ينام، أو يأكل، أو يشرب؟ قال: نعم إذا توضأ وضوءه للصلاة (¬1). [تفرد به أبو أويس، وليس بالقوي] (¬2). ¬
الدليل الثالث: (1278 - 151) ما رواه الطبراني من طريق جابر بن يزيد الجعفي، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أم سلمة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أجنب لم يطعم حتى يتوضأ وضوءه للصلاة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الرابع: (1279 - 152) ما رواه الطبراني من طريق إسحاق بن إبراهيم القرقساني، ثنا حجاج بن محمد، ثنا شعبة، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان جنباً، وأراد أن يأكل أو ينام توضأ (¬1). [قال الطبراني: لم يروه عن قتادة إلا شعبة، ولا عنه إلا حجاج تفرد به إسحاق] (¬2). ¬
الراجح
الراجح: بعد استعراض الأقوال نجد أن الأدلة بوجوب الوضوء للأكل ليست سالمة من علة التفرد أو المخالفة، والأصل براء الذمة، وعدم المشروعية حتى يأتي دليل صحيح صريح سالم من المخالفة، نقطع بموجبه أو يغلب على ظننا استحباب وضوء الجنب للأكل، وما لم نصل إلى ذلك فلا أرى الجزم بالمشروعية، والله أعلم.
الفصل العاشر في استحباب الوضوء لمعاودة الوطء
الفصل العاشر في استحباب الوضوء لمعاودة الوطء اختلف العلماء في الوضوء من الجنب إذا رغب أن يعاود الوطء قبل الغسل، فقيل: يستحب الوضوء، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: يجب الوضوء، اختاره ابن حبيب من المالكية (¬3)، وهو مذهب الظاهرية (¬4). وقيل: يستحب له غسل فرجه مطلقاً، سواء عاد إلى المرأة التي جامعها أو غيرها، وهذا مذهب المالكية (¬5). ¬
دليل من قال: يجب الوضوء لمعاودة الوطء
وقيل: يجب غسل فرجه، وهو مذهب إسحاق بن راهوية (¬1). وقيل: إن كانت الموطوءة أخرى وجب غسل الفرج، اختاره بعض المالكية (¬2). دليل من قال: يجب الوضوء لمعاودة الوطء. (1280 - 153) ما رواه مسلم من طريق عاصم، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود، فليتوضأ (¬3). وجه الاستدلال: قوله: «فليتوضأ» أمر، والأصل في الأمر الوجوب. دليل من قال: يستحب الوضوء. دليله حديث أبي سعيد المتقدم، وإنما حملوه على الاستحباب للتعليل الوارد في بعض طرق الحديث، (1281 - 154) فقد رواه ابن خزيمة من طريق مسلم بن إبراهيم، عن شعبة، عن عاصم، عن أبي المتوكل، ¬
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أراد أحدكم العود فليتوضأ؛ فإنه أنشط له في العود (¬1). ¬
فدل على أن الأمر للإرشاد، أو للندب؛ لأن تحصيل النشاط للعود ليس بواجب، فكذلك وسيلته، وهو الوضوء. (1282 - 155) كما أنه يصرفه عن الوجوب بما رواه الطحاوي، من طريق يحيى بن أيوب، عن موسى بن عقبة وأبي حنيفة، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجامع، ثم يعود ولا يتوضأ، وينام ولا يغتسل (¬1). [انفرد بهذا اللفظ يحيى بن أيوب، عن موسى بن عقبة، عن أبي إسحاق، وكل من رواه عن أبي إسحاق لم يذكروه بهذا اللفظ، فلعل يحيى رواه بالمعنى، فأخطأ فيه] (¬2). ¬
دليل من قال: يغسل فرجه
دليل من قال: يغسل فرجه. استدلوا بحديث أبي سعيد المتقدم، ولكنهم حملوا الأمر بالوضوء على الوضوء اللغوي، وهو غسل الفرج (¬1). وحملهم هذا خطأ؛ لأن كلام الشارع يحمل على الحقيقة الشرعية إذا أمكن، فإن تعذر حمله على الحقيقة الشرعية حمل على الحقيقة اللغوية، فإن تعذر أيضاً حمل على الحقيقة العرفية، ولا تترك الحقيقة الشرعية مع إمكان الحمل عليها، ولم يمنع من حمله على الحقيقة الشرعية مانع. دليل من قال: يجب غسل فرجه إن كانت الموطوءة أخرى. قالوا: إذا عاد إلى امرأة أخرى لوثها بنجاسة غيرها؛ لأن فرجه لا يسلم من النجاسة، وهذا لا يجوز، بخلاف تلويثها بنجاستها هي، فإنه يتسامح فيه حتى تتمكن من إزالته. وهذا القول من المالكية مبني على قولهم بنجاسة المني، وهو قول مرجوح، بينت ضعفه في مباحث أحكام النجاسة، وفي كتاب آداب الخلاء في الاستنجاء من المني، وحتى على التنزل بأن المني نجس، فأين الدليل على تحريم التلوث بالنجاسة في مثل الجماع والاستنجاء ونحوهما، ولذلك قال الدسوقي في حاشيته: «غاية ما يلزم عليه التلطخ بالنجاسة، وهو مكروه على المعتمد ولو بالنسبة للغير إذا رضي بها» (¬2). ¬
الراجح
الراجح: بعد استعراض أدلة الأقوال في المسألة نجد أن القول باستحباب الوضوء لمعاودة الوطء هو القول الراجح؛ لدلالة السنة عليه من حديث أبي سعيد؛ ولأنه قول وسط بين القائلين بوجوب الوضوء، وبين القائلين بأنه يغسل فرجه فقط، ولحديث «ما أردت صلاة فأتوضأ» «إنما أمرتم بالوضوء للصلاة» وسبق تخريجه والله أعلم.
الفصل الحادي عشر في طهارة جسد الجنب وعرقه
الفصل الحادي عشر في طهارة جسد الجنب وعرقه عرق الجنب وسؤره وبدنه طاهر، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: إن بدن الجنب نجس نجاسة حكمية، وهو مذهب أبي حنيفة (¬5). ¬
الدليل على طهارة بدن الجنب وعرقه
الدليل على طهارة بدن الجنب وعرقه. الدليل الأول: (1283 - 156) ما رواه البخاري، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا حميد، قال: حدثنا بكر، عن أبي رافع، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيه في بعض طريق المدينة، وهو جنب، فانخنست منه، فذهب، فاغتسل، ثم جاء فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قال: كنت جنبا فكرهت أن أجالسك، وأنا على غير طهارة، فقال: سبحان الله إن المسلم لا ينجس. ورواه مسلم (¬1). الدليل الثاني: من الإجماع، فقد حكى الإجماع بعض أهل العلم على طهارة بدن الجنب وعرقه وسؤره. قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن عرق الجنب طاهر، ثبت ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وغيرهم (¬2). وقال ابن تيمية: ((متفق عليه بين الأئمة، أن بدن الجنب طاهر، وعرقه طاهر، والثوب الذي يكون فيه عرقه طاهر، ولو سقط الجنب في دهن، أو ¬
دليل الحنفية على نجاسة بدن الجنب
مائع لم ينجسه بلا نزاع بين الأئمة، بل وكذلك الحائض عرقها طاهر، وثوبها الذي يكون فيه عرقها طاهر، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أذن للحائض أن تصلي في ثوبها الذي تحيض فيه، وأنها إذا رأت دماً أزالته، وصلت فيه" (¬1). وقد ذكرت لك أن في مذهب الحنفية قولاً بأن الجنب إذا انغمس في ماء قليل نجسه، مما يجعل المسألة خلافية، وليست محل إجماع. دليل الحنفية على نجاسة بدن الجنب. الدليل الأول: قوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬2). والطهارة لا تكون إلا عن نجاسة؛ إذ تطهير الطاهر لا يعقل (¬3). وأجيب: أولاً: إنما سمي طهارة؛ لأنه يطهر العبد من الذنوب، لا أنه طهره من نجاسة حلت فيه؛ ولذلك لما اعتبر أبو هريرة حدثه نجاسة، بين له - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "إن المؤمن لا ينجس ". متفق عليه. وقوله: "لا ينجس" أى بمثل ذلك، وإلا فالمؤمن قد تطرأ عليه النجاسة الحسية كغيره. وثانياً: تجديد الوضوء يسمى طهارة شرعية مع أنه متطهر. ¬
الراجح
وثالثاً: لو كان المحدث نجساً، لما صح حمله فى الصلاة، وقد جاء في حديث أبي قتادة في الصحيحين: «أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي، وهو حامل أمامة بنت زينب» (¬1). ورابعاً: المغتسل لابد أن يتساقط عليه من الماء المستعمل، ومعنى هذا أنه سوف يتنجس به، وكذلك سوف يتنجس بما يصيب ثيابه وما يتنشف به. الراجح: أن بدن الجنب طاهر، وقد ثبتت طهارة من هو أغلظ من الجنب، أعني بذلك بدن الحائض، وإنما كانت الحائض أغلظ من الجنب، ذلك لأن الحائض قد اتصفت بالحدث الأكبر، وهو موجود في الجنب، واتصفت بنجاسة الخبث، وهو خروج الدم النجس منها، كما منعت من الصلاة والصيام، ومع ذلك فقد قام الدليل على طهارة بدن الحائض، فما بالك بالجنب. قال النووي: " قال العلماء: لا تكره مضاجعة الحائض، ولا قبلتها، ولا الاستمتاع بها فيما فوق السرة، وتحت الركبة، ولا يكره وضع يدها في شيء من المائعات، ولا يكره غسلها رأس زوجها، أو غيره من محارمها، وترجيله، ولا يكره طبخها وعجنها، وغير ذلك من الصنائع، وسؤرها وعرقها طاهران. وكل هذا متفق عليه، وقد نقل الإمام أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري في كتابه (مذاهب العلماء) إجماع المسلمين على هذا كله ودلائله من السنة ظاهرة مشهورة " (¬2). ¬
الفصل الثاني عشر في انغماس الجنب في الماء الدائم
الفصل الثاني عشر في انغماس الجنب في الماء الدائم ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - النهي عن الانغماس في الماء الدائم، والإنسان جنب، (1284 - 157) فقد روى مسلم في صحيحه من طريق عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم، وهو جنب، فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولاً (¬1). والبحث في هذا الحديث في مسألتين: الأولى: حكم الانغماس في الماء الدائم من الجنب. الثانية: أثر انغماس الجنب على الماء القليل. ¬
المبحث الأول في حكم اغتسال الجنب في الماء الدائم
المبحث الأول في حكم اغتسال الجنب في الماء الدائم اختلف العلماء في حكم اغتسال الجنب في الماء الدائم، فقيل: يحرم، وهو قول في مذهب أبي حنيفة (¬1)، واختيار ابن حزم رحمه الله تعالى (¬2). وقيل: يكره، وهو مذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). وقيل: يجوز بلا كراهة بشرط أن يغسل عنه الأذى، وهو اختيار ابن القاسم من المالكية (¬6). وقيل: يجوز اغتسال الجنب في الماء الدائم ما لم يبل فيه، فإن بال فيه منع من الاغتسال (¬7). ¬
دليل من قال: يحرم الاغتسال في الماء الدائم
دليل من قال: يحرم الاغتسال في الماء الدائم. (1285 - 158) ما رواه مسلم من طريق عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم، وهو جنب، فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولاً (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الاغتسال فيه، والأصل في النهي التحريم، ولا نصرفه للكراهة إلا بقرينة، ولا قرينة صارفة. دليل من قال: النهي عن الاغتسال في الماء الدائم للكراهة. قال: إن بدن الجنب طاهر، وقد ذكرنا أن ذلك إجماع من أهل العلم في فصل مستقل، ولا يمكن أن ينجس الماء الطهور بملاقاة البدن الطاهر، فكان النهي لمعنى آخر غير معنى تنجس الماء بذلك. فقيل: إن النهي عن الاغتسال فيه من أجل ألا يكون الماء مستعملاً، فيسلبه الطهورية، ويدل لذلك قول أبي هريرة حين سئل: كيف يفعل: قال: يتناوله تناولاً، فدل على أن المنع إنما هو من الانغماس فيه، لئلا يصير الماء مستعملاً، فيمتنع على الغير الانتفاع منه، والصحابي أعلم بموارد الخطاب من غيره، وهذا التعليل هو قول الجمهور كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في حكم أثر إنغماس الجنب على الماء في الفصل التالي (¬2). ¬
دليل من قال: يجوز بلا كراهة بشرط غسل الأذى
وقيل: نهى عن ذلك كراهة أن يستقذر الماء، فإن الطباع تنفر من الماء الراكد القليل إذا اغتسل فيه الجنب (¬1). وسواء كان لهذا المعنى أو ذاك، فإن مثل هذا لا يجعل النهي يبلغ مبلغ التحريم، وإنما هو الكراهة فقط. دليل من قال: يجوز بلا كراهة بشرط غسل الأذى. هذا القول من ابن القاسم مبني على أن ذكر الإنسان لا يسلم من المني والمذي، وهما نجسان في مذهب المالكية كما سنبينه إن شاء الله تعالى في باب ¬
دليل من قال: إن النهي عن الجمع بين البول والاغتسال
النجاسات. فإذا غسل الإنسان الأذى عنه أصبح بدنه طاهراً، فلا كراهة في هذه الحالة في انغماسه في الماء الدائم، لأن الماء لا ينجس إلا بملاقاته النجاسة، ولا نجاسة هنا. وهذا قول ضعيف أيضاً؛ لأن النهي لو كان خوفاً من تلوث الماء بالنجاسة؛ لأرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى غسل الأذى قبل الاغتسال، خاصة وأنه يسن لمن أراد الغسل أن يغسل فرجه وما أصابه من أذى في أول غسله، فالنص النبوي مطلق، سواء غسل الأذى أو لم يغسله، ولا يجوز أن يخص النص العام ولا يقيد النص المطلق إلا بنص مثله. دليل من قال: إن النهي عن الجمع بين البول والاغتسال. (1286 - 159) استدلوا بما رواه البخاري من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، أنه سمع أبا هريرة، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه. هذا القول خرجه أصحابه على إمكان نصب كلمة (يغتسل) فقوله: «ثم يغتسل فيه» وذلك على تقدير (أن) محذوفة بعد حرف العطف (ثم) وكأنهم جعلوا (ثم) مقام واو المعية، أي: وأن يغتسل فيه. فكأنه نهى عن البول والاغتسال معاً، أي نهى عن الجمع بينهما، وليس فيه تعرض للبول مفرداً، أو للاغتسال مفرداً. وهذا الحمل مبني على تجويز نصب كلمة (يغتسل)، وتفسير النصب بأنه محمول على النهي عن الجمع بين البول والاغتسال. والذي يدل على أن النصب إنما ذكره النحاة من باب التجويز، وليس من باب الرواية.
قال ابن حجر: «قال القرطبي: لا يجوز النصب؛ إذ لا تضمر أن بعد (ثم) وأجازه ابن مالك بإعطاء (ثم) حكم (الواو) وتعقبه النووي: بأن ذلك يقتضي أن يكون المنهي عنه الجمع بين الأمرين، دون إ فراد أحدهما، وضعفه ابن دقيق العيد، بأنه لا يلزم أن يدل على الأحكام المتعددة لفظ واحد، فيؤخذ النهي عن الإفراد من حديث آخر» (¬1). فهذا واضح أن الكلام على التخريج اللغوي، وليس مبنياً على رواية محفوظة، رواها الرواة بالنصب، وقام النحويون بتخريجها بناء على ما حفظ من أفواه الرواة، فالمشهور في الحديث كما قال ابن حجر هو على رفع (ثم يغتسلُ فيه) (¬2). ¬
الراجح
وعلى فرض أن اللفظ ورد بالنصب، فإنه لا يمكن منع أنه ثبت في صحيح مسلم من طريقين مستقلين: النهي عن البول في الماء الراكد من حديث جابر، والنهي عن الاغتسال في الماء الدائم، وهو جنب دون تعرض للبول. فيكون قد ورد النهي عن البول منفرداً، وعن الاغتسال منفرداً، وعن الجمع بينهما على تقدير أن تكون رواية النصب محفوظة، والله أعلم. الراجح: بعد استعراض أدلة الأقوال نجد أن القول بأن اغتسال الجنب في الماء الدائم مكروه، وليس بحرام، هو القول القوي من حيث التعليل، كما أن هذا القول وسط بين قولين: القول بالتحريم مطلقاً، والقول بالجواز إذا غسل ما به من أذى، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني أثر انغماس الجنب على الماء القليل
المبحث الثاني أثر انغماس الجنب على الماء القليل ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الجنب إذا انغمس في ماء قليل تحول الماء إلى ماء مستعمل، وسبق لنا أن بينا في مباحث المياه متى يكون الماء مستعملاً؟ وذكرنا أن: الماء المتقاطر من أعضاء الوضوء في رفع الحدث مستعمل بالاتفاق. وأما إذا غمس يده في ماء بنية رفع الحدث، فهل يكون مستعملاً؟ قالوا: إذا كان الماء قليلاً كان مستعملاً. واختلفوا في حد القليل: فيرى الحنفية أن الجنب إذا انغمس في البئر بنية رفع الحدث فسد الماء، وإن انغمس لطلب الدلو فسد الماء على رأي أبي حنيفة خلافاً لصاحبيه. ومعنى هذا أن البئر في حد القليل عندهم. وأما المالكية فيرون اليسير كآنية الوضوء والغسل، فإن غمس يده فيها صار مستعملاً، وإن كان أكثر من ذلك لم يكن مستعملاً. والشافعية والحنابلة يحدون القليل بما دون القلتين، فإن انغمس في ماء دون القلتين صار مستعملاً، وإلا فلا. ولا يكون الماء مستعملاً إذا أدخل يده في الإناء ليغترف منها. وقيل: بشرط أن يدخلها بنية الاغتراف (¬1). ¬
إذا عرفنا هذا نأتي إلى الأقوال في حكم الماء القليل إذا استعمل في رفع الجنابة، كما لو انغمس فيه جنب بنية رفع الحدث، فقيل: إنه نجس، وهو رواية عن أبي حنيفة (¬1)، واختارها أبو يوسف (¬2). وقيل: إنه طهور مكروه في رفع الحدث، غير مكروه في زوال الخبث، وهو مذهب المالكية (¬3). وقيل: إنه طاهر غير مطهر، وهو الرواية المشهورة عن أبي حنيفة، وعليه الفتوى (¬4)، ¬
ومذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، واختيار محمد بن الحسن من الحنفية (¬3). وقيل: طهور بلا كراهة، وهو رواية عن أحمد (¬4)، ورجحها ابن حزم (¬5)، ¬
وابن تيمية (¬1)، وابن عبد الهادي (¬2)، والشوكاني (¬3)، وغيرهم. وقد ذكرت دليل كل قول، والراجح من الأقوال في كتاب أحكام المياه والآنية، فأغنى عن إعادته مرة أخرى، وذهبت إلى أن الراجح أن الماء المستعمل في غسل الجنابة طهور غير مكروه. ¬
الفصل الثالث عشر في ذبيحة الجنب
الفصل الثالث عشر في ذبيحة الجنب ذهب الأئمة الأربعة (¬1) إلى جواز أكل ذبيحة الجنب. وقيل: تكره، وهو رواية عن أحمد (¬2). وقال عكرمة وقتادة: يذبح الجنب إذا توضأ (¬3). والصحيح جواز ذبيحة الجنب بلا كراهة، لأدلة منها: الدليل الأول: القياس الجلي على ذبيحة الكتابي، فإذا كان القرآن قد نص على جواز ذبيحة أهل الكتاب، مع نص القرآن على أنهم مشركون، وأنجاس. قال تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} (¬4). مع قوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} (¬5). ¬
الدليل الثاني
والنصارى من جملة المشركين؛ لأنهم يعتقدون بأن الله ثالث ثلاثة، وأن المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام إله من دون الله، فكون ذبيحة الجنب تجوز من باب أولى فأولى، ثم أولى فأولى، وقد نصت السنة بأن المؤمن الجنب ليس بنجس، كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين، قال: لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا جنب، فأخذ بيدي، فمشيت معه حتى قعد، فانسللت، فأتيت الرحل، فاغتسلت ثم جئت، وهو قاعد، فقال: أين كنت يا أبا هر. فقلت له، فقال: سبحان الله، يا أبا هر إن المؤمن لا ينجس (¬1). الدليل الثاني: نقل بعض أهل العلم الإجماع على جواز ذبيحة الجنب قال النووي: «نقل ابن المنذر الاتفاق على حل ذبيحة الجنب، قال: وإذا دل القرآن على حل ذبيحة الكتابي، مع أنه نجس، فالذي نفت السنة عنه النجاسة أولى» (¬2). وقال ابن قدامة: وإن كان جنباً جاز له أن يسمي ويذبح، وذلك أن الجنب تجوز له التسمية، ولا يمنع منها؛ لأنه إنما يمنع من القرآن، لا من الذكر، ولهذا تشرع له التسمية عند اغتساله، وليست الجنابة أعظم من الكفر، والكافر يسمي ويذبح، وممن رخص في ذبح الجنب: الحسن، والحكم، والليث، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، قال ابن المنذر: ولا أعلم أحداً منع من ذلك (¬3). ¬
(1321 - 194) وقد روى البخاري في صحيحه من طريق عبيد الله، عن نافع، أنه سمع ابن كعب بن مالك يحدث عن أبيه، أنه كانت لهم غنم ترعى بسلع، فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتاَ، فكسرت حجراً، فذبحتها به، فقال لهم: لا تأكلوا حتى أسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو أرسل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من يسأله، وأنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذاك، أو أرسل، فأمره بأكلها (¬1). وجه الاستدلال من الحديث: ففي هذا الحديث دليل على جواز إباحة ذبيحة المرأة، والحائض، والجنب، أما المرأة فظاهر، وأما الحائض، فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل، هل المرأة كانت حائضاً أم لا؟ وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، وإذا جازت من الحائض جازت من الجنب، لأن الحيض أشد، والله أعلم. ¬
الباب الرابع في آداب الغسل
الباب الرابع في آداب الغسل الفصل الأول في عدم الإسراف في الماء مع إحكام الغسل سبق أن ذكرنا الأقوال في مقدار ماء الوضوء، في كتاب الوضوء، ونبين هنا الأقوال في مقدار ماء الغسل، فالجمهور على كراهة الإسراف في ماء الغسل (¬1). وقيل: يحرم الإسراف فيه، اختاره البغوي والمتولي من الشافعية (¬2). كما أن الفقهاء متفقون على أنه لا يشترط قدر معين في ماء الغسل، لا يجوز النقص عنه، ولا الزيادة عليه، فإذا استوعب الأعضاء كفاه بأي قدر كان. قال النووي: «أجمعت الأمة على أن ماء الوضوء والغسل لا يشترط فيه قدر معين، بل إذا استوعب الأعضاء كفاه بأي قدر كان، وممن نقل الإجماع فيه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري» (¬3). ¬
وإذا قلنا لا يشترط قدر معين في ماء الغسل، فهل يستحب الصاع؟ فقيل: الصاع أدنى ما يكفي في الغسل، وهل يكفي الصاع حتى لو جمع بين الوضوء والغسل؟ أو الصاع يكفي إن ترك الوضوء، فإن توضأ قبل الغسل زاد على الصاع مداً للوضوء؟ قولان في مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يستحب أن يغتسل بالصاع، وهو مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: لا تقدير في ماء الغسل مطلقاً، وهو مذهب المالكية (¬4). وقيل: لا يجزئ في الغسل أقل من صاع، اختاره شعبان من المالكية (¬5)، وبعض الشافعية (¬6). ¬
دليل من قال: باستحباب الصاع للغسل
دليل من قال: باستحباب الصاع للغسل: الدليل الأول: (1287 - 160) ما رواه البخاري، من طريق أبي جعفر، أنه كان عند جابر بن عبد الله هو وأبوه، وعنده قوم، فسألوه عن الغسل؟ فقال: يكفيك صاع؟ فقال رجل: ما يكفيني، فقال جابر: كان يكفي من هو أوفى منك شعراً، وخير منك، ثم أمنا في ثوب (¬1). الدليل الثاني: (1288 - 161) ما رواه مسلم من طريق أبي ريحانة، عن سفينة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسله الصاع من الماء من الجنابة، ويوضئه المد (¬2). الدليل الثالث: (1289 - 162) ما رواه الشيخان من طريق عبد الله بن عبد الله بن جبر، قال: سمعت أنساً يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد. رواه البخاري (¬3)، ومسلم (¬4). ¬
دليل من قال: لا تقدير في ماء الغسل
دليل من قال: لا تقدير في ماء الغسل. استدلوا بأدلة منها: الدليل الأول: الإجماع، قال ابن عبد البر: «أجمعوا على أن الماء لا يكال للوضوء، ولا للغسل، من قال منهم بحديث المد والصاع، ومن قال بحديث الفرق، لا يختلفون أنه لا يكال الماء لوضوء ولا غسل، لا أعلم في ذلك خلافاً، ولو كانت الآثار في ذلك على التحديد الذي لا يتجاوز استحباباً، أو وجوباً، ما كرهوا الكيل، بل كانوا يستحبونه اقتداء وتأسياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يكرهونه» (¬1). الدليل الثاني: أن النصوص الواردة في مقدار الماء الذي يغتسل فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءت بمقادير متفاوتة، وهذا دليل على أنه ليس هناك مقدار معين يمكن استحبابه، بل المطلوب هو إحكام الغسل، مع قلة الماء. (1290 - 163) منها ما رواه مسلم من طريق حفصة بنت عبد الرحمن ابن أبي بكر، أن عائشة أخبرتها، أنها كانت تغتسل هي والنبي - صلى الله عليه وسلم - في إناء واحد، يسع ثلاثة أمداد، أو قريباً من ذلك (¬2). (1291 - 164) ومنها ما رواه البخاري من طريق الزهري، عن عروة، ¬
دليل من قال: لا يجزئ أقل من صاع
عن عائشة قالت كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد من قدح يقال له الفرق. ورواه مسلم (¬1). قال ابن عيينة والشافعي وغيرهما: هو ثلاثة آصع (¬2). قال ابن حجر: «فهذا يدل على اختلاف الحال بقدر الحاجة، وفيه رد على من قدر الوضوء والغسل بالمد والصاع، كابن شعبان من المالكية، وكذا من قال به من الحنفية مع مخالفتهم له في مقدار المد والصاع» (¬3). دليل من قال: لا يجزئ أقل من صاع. استدلوا بحديث أنس في الصحيحين وتقدم ذكره، وليس فيه تحديد، بل ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - اغتسل بأقل من صاع، كما ذكرت ذلك في أدلة المالكية. الراجح من الخلاف: مذهب المالكية أقوى من غيرهم، وأن الوارد لم يكن على سبيل استحباب التحديد؛ وذلك لأن الناس يختلفون في هذا، فهناك من الناس من هو معتدل الخلقة، ومنهم النحيف، ومنهم المتفاحش الخلق طولاً وعرضاً، ومنهم صاحب الشعر الكثير، ومنهم غير ذلك، فاستحباب مقدار معين لكل الناس على اختلاف خلقتهم قول ضعيف، فالأولى أن يقال كما قال المالكية: المستحب إحكام الغسل، مع قلة الماء، بأي مقدار تحقق ذلك، فقد حقق السنة، الله أعلم. ¬
الفصل الثاني من آداب الغسل أن يستتر عن أعين الناس
الفصل الثاني من آداب الغسل أن يستتر عن أعين الناس والستر تارة يكون للبدن، وتارة يكون للعورة، وحرصاً على هذا الأدب تكلم الفقهاء في هاتين المسألتين، وتعرضوا للكلام عليهما في حكم دخول الحمام؛ لأنه يلزم من دخول الحمام غالباً، أن يتعرض: إما لكشف عورته، أو النظر إلى عورة الآخرين ممن يتساهل في سترها،، وسوف أسوق البحث في هذه المسائل الثلاث في حكم ستر العورة، وفي حكم ستر البدن حال الغسل، وفي حكم دخول الحمام.
المبحث الأول في حكم ستر العورة
المبحث الأول في حكم ستر العورة الفرع الأول ستر العورة عن النظر إليها من الأجانب أما ستر العورة عن النظر إليها فهو واجب، ويحرم على المسلم أن يكشف عورته لناظر من غير حاجة (¬1). وهو أمر مجمع عليه، قال النووي: «ستر العورة عن العيون واجب بالإجماع» (¬2). ومستند الإجماع كتاب الله وسنة رسول - صلى الله عليه وسلم -، ¬
أما الكتاب فقال تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} (¬1). (1292 - 165) ومن السنة: روى مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، عن الضحاك بن عثمان قال: أخبرني زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد (¬2). بقي للبحث مسألة كشف العورة، والإنسان خالٍ من غير حاجة، وكشف العورة للحاجة كما لو كشفها للغسل، وهذا الكشف يعبر عنه بالحاجة، وليس بالضرورة؛ لأنه يمكنه أن يغتسل بدون كشف العورة، كما لو اغتسل، وهو متسرول، وهاتان المسألتان قد خصصت لهما مباحث مستقلة، لوجود الخلاف فيها، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني في كشف العورة بالخلوة من غير حاجة
الفرع الثاني في كشف العورة بالخلوة من غير حاجة أختلف أهل العلم في حكم كشف العورة بالخلوة من غير حاجة. فقيل: يكره، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، ووجه في مذهب الشافعية (¬3). وقيل: لا يجوز، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬4)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬5)، وقول في مذهب الحنفية (¬6). ¬
دليل من قال بالتحريم
دليل من قال بالتحريم: (1293 - 166) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد وإسماعيل بن إبراهيم، عن بهز قال: حدثني أبي، عن جدي قال: قلت يا رسول الله: عوراتنا ما نأتي منها، وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك. قال، قلت: يا رسول الله فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت أن لا يراها أحد، فلا يرينها. قلت: فإذا كان أحدنا خالياً؟ قال: فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه. حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن بهز فذكر مثله قال فالله عز وجل أحق أن يستحيا منه، ووضع يده على فرجه (¬1). [إسناده حسن، وسبق تخريجه] (¬2). وجه الاستدلال: قال ابن حجر: «ظاهر حديث بهز يدل على أن التعري في الخلوة غير جائز مطلقاً». اهـ قلت: لأن وجوب ستر العورة عن الناس لا ينازع فيه أحد، فإذا كان الله أحق أن يستحيا منه من الناس، كان ستر العورة خالياً أولى بالمنع هذا ما يفيده قوله: «فالله أحق» كما استُدِلَ به في قوله: «اقضوا الله، فالله أحق بالقضاء» ¬
(1294 - 167) فقد روى البخاري، قال: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، عن أبي بشر قال: سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتى رجل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: إن أختي قد نذرت أن تحج، وإنها ماتت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو كان عليها دين، أكنت قاضيه؟ قال: نعم. قال: فاقض الله، فهو أحق بالقضاء (¬1). وكونه ثبت عن موسى وأيوب عليهما السلام اغتسالهما عريانين، فهذا في شريعتهما، وقد جاء في شريعتنا ما يدل على وجوب ستر العورة خالياً. قال الشوكاني: أصل ستر العورة الوجوب، فلا يحل كشف شيء منها إلا لضرورة، كما يكون عند خروج الحاجة، فالاستتار قبل حالة الخروج واجب، فيكشف عورته حالا الانحطاط لخروج الخارج، لا حال كونه قائماً، ولا حال كونه ماشياً إلى قضاء الحاجة (¬2). اهـ وممكن أن يجاب: بأن يقال: قوله: «فالله أحق بالقضاء» هذا التعبير لا يدل على الوجوب، فالصيام عن الميت، ووفاء نذره لا يجب على غير الميت، ولكن القضاء عنه من الوفاء له، والبر به، لأن الأصل في العبادة أنها واجبة على الإنسان نفسه، لكن إن تطوع أحد من الورثة كان محسناً، فلا يدل تعبير «فالله أحق» على وجوب قضاء العبادة عن الميت، وبالتالي لا يدل على وجوب ستر العورة، والإنسان خالياً، والله أعلم. ¬
دليل من قال: يستحب ولا يجب
دليل من قال: يستحب ولا يجب. عورة الإنسان بضعة منه، ولا يحرم عليه النظر إلى أي جزء من جسمه، فكما أنه يباح له النظر إلى عورة زوجته، وما ملكت يمينه، فعورته أولى بالجواز، وتحريم النظر إلى عورة الغير هي من باب تحريم الوسائل، حتى لا يكون وسيلة إلى الوقوع في المحرم، وهذا منتف في نظره إلى عورته، وإنما يستحب الستر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فالله أحق أن يستحيا منه». الراجح: القول باستحباب ستر العورة إذا كان الإنسان خالياً أقوى من حيث النظر، والله أعلم.
الفرع الثالث في كشف العورة للغسل ونحوه إذا كان خاليا
الفرع الثالث في كشف العورة للغسل ونحوه إذا كان خالياً اختلف الفقهاء في حكم كشف العورة للغسل ونحوه إذا كان خالياً، فقيل: بالجواز، والستر أفضل، وهو مذهب الأئمة الربعة (¬1)، واختاره البخاري رحمه الله تعالى (¬2). وقيل: لا يجوز، اختاره ابن أبي ليلى (¬3). دليل من قال بالجواز. (1295 - 168) ما رواه البخاري من طريق معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى - صلى الله عليه وسلم - يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فخرج موسى في إثره يقول: ثوبي يا حجر، ¬
حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى، فقالوا: والله ما بموسى من بأس، وأخذ ثوبه، فطفق بالحجر ضرباً، فقال أبو هريرة: والله إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة ضرباً بالحجر (¬1). وجه الاستدلال: أن موسى عليه الصلاة والسلام اغتسل عرياناً، وهذا وإن كان في شرع من قبلنا، إلا أنه لم يأت في شرعنا ما ينسخه، ولو كان الاغتسال عرياناً في الخلوة منافياً للآداب لمنع منه الأنبياء. وقال الشوكاني: «وجه الدلالة منه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قص القصتين، ولم يتعقب شيئاً منهما، فدل على موافقتهما لشرعنا، وإلا فلو كان فيهما شيء غير موافق لبينه» (¬2). الدليل الثاني: (1296 - 169) ما رواه البخاري من طريق معمر، عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بينما أيوب يغتسل عرياناً خر عليه رجل جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، فنادى ربه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى بي عن بركتك (¬3). وجه الاستدلال: وجه الاستدلال منه كالاستدلال بالحديث السابق سواء بسواء. ¬
دليل من قال: يحرم التعري للاغتسال
الدليل الثالث: الاغتسال عرياناً غاية ما فيه أن يكون محرماً، وكل ما كان محرماً لغيره تبيحه الحاجة، وإن لم تكن ضرورة، انظر النظر إلى العورة في الختان، والنظر إلى العورة في التداوي، بل أباح الشرع ربا الفضل كما في بيع العرايا لحاجة التفكه، فالحاجة إلى الاغتسال عرياناً محافظة على ثيابه من البلل، وعلى بدنه من البرد يكفي في إباحة التعري للاغتسال، والله أعلم. دليل من قال: يحرم التعري للاغتسال. الدليل الأول: (1297 - 170) حديث بهز بن حكيم، قلت يا رسول الله: عوراتنا ما نأتي منها، وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك. قال، قلت: يا رسول الله، فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت أن لا يراها أحد، فلا يرينها. قلت: فإذا كان أحدنا خالياً؟ قال: فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه. فإذا كان التعري حال الخلوة محرماً، فكذلك التعري حال الاغتسال، لأنه تعر حال الخلوة، وليس هناك ضرورة بحيث يباح التعري للاغتسال، فيمكنه أن يغتسل، وهو متزر أو عليه سراويل. وسبق الجواب عن هذا الحديث بالمسألة التي قبل هذه. الدليل الثاني: (1298 - 171) ما رواه ابن عدي، من طريق يحيى بن سعيد، ثنا أبو الزبير،
الراجح
عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يدخل أحدكم الماء إلا بمئزر؛ فإن للماء عامراً (¬1). [ضعيف جداً أو موضوع] (¬2). الراجح: بعد استعراض أدلة القولين، نجد أن القول بجواز الاغتسال عرياناً هو الأقوى من حيث الدلالة، وهو الذي يليق بالفتوى، فإن المنع فيه تضييق على الناس، مع أنه لا يدفع مفسدة، ولا يحقق مصلحة، ويكفي أن الجواز قد دل عليه فعل موسى عليه الصلاة والسلام، وهو من أولى العزم من الرسل، ولو كان منافياً للفطرة، أو مخالفاً للمرؤة لكان أبعد ما يكون عنه أنبياء الله سبحانه وتعالى، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في ستر سائر البدن حال الغسل
المبحث الثاني في ستر سائر البدن حال الغسل تكلمت فيما سبق في ستر العورة، وبقي الكلام في ستر سائر البدن من غير العورة عن أعين الناس، وقد دلت أحاديث كثيرة على استحباب ستر سائر البدن، منها: (1299 - 172) ما رواه البخاري من طريق أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، أن أبا مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب أخبره، أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب تقول: ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة تستره فقال: من هذه؟ فقلت: أنا أم هانئ (¬1). (1300 - 173) ومنها ما رواه البخاري من طريق الأعمش، عن سالم ابن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة قالت: سترت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يغتسل من الجنابة، فغسل يديه، ثم صب بيمينه على شماله، فغسل فرجه، وما أصابه، ثم مسح بيده على الحائط أو الأرض، ثم توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه، ثم أفاض على جسده الماء، ثم تنحى فغسل قدميه (¬2). ¬
المبحث الثالث في دخول الحمام من أجل الاغتسال
المبحث الثالث في دخول الحمام من أجل الاغتسال تعريف الحمام: الحمام: مشدد، والمستحم في الأصل: الموضع الذي يستحم فيه بالحميم، وهو الماء الحار. قال في الفتاوى الهندية: «الحمام يذكره العرب، هكذا في عين الخليل، وهو فعال: من الحميم، واستحم الرجل: إذا دخل الحمام، وحقيقته: إغتسال بالماء الحميم» (¬1). وقال في الشرح الكبير: «حمام، بتشديد الميم: وهو بيت الماء، المعد للحموم فيه بالماء الساخن، لتنظيف البدن والتداوي» (¬2). ¬
خلاف أهل العلم في دخول الحمام اختلف أهل العلم في حكم دخول الحمام للاغتسال، فقيل: إنه ينهى عنه الرجال والنساء، وهو رواية عن الإمام أحمد وإسحاق (¬1). وقيل: يباح دخوله للرجال، وهو مذهب الجمهور (¬2)، واختلفوا في ¬
دخول النساء، فقيل: يباح للنساء بلا كراهة، اختاره بعض الحنفية (¬1)، وقال ابن رشد: الذي يوجبه النظر أنهن بمنزلة الرجال (¬2). وقيل: يحرم على النساء إلا لعذر، اختاره بعض الحنفية (¬3)، وهو مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: يكره للنساء ولو من عذر، إلا أن تكون مفردة، وهو قول في مذهب المالكية (¬5). ¬
دليل من قال: يحرم الدخول للحمام
وقيل: يكره للنساء إلا لعذر وهو مذهب الشافعية (¬1)، واختاره بعض المالكية (¬2). دليل من قال: يحرم الدخول للحمام. الدليل الأول: (1301 - 174) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن عمارة، عن أبي زرعة، قال: قال علي: بئس البيت الحمام (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). الدليل الثاني: (1302 - 175) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا منصور، عن ابن سيرين، عن ابن عمر قال: لا تدخل الحمام، فإنه مما أحدثوا من النعيم (¬5). [إسناده صحيح]. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1303 - 176) ما رواه مسدد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا شعبة، ثنا عبد الرحمن، قال: سألت محمد بن سيرين عن دخول الحمام؟ فقال: كان عمر بن الخطاب يكرهه (¬1). [ابن سيرين لم يسمع من عمر] (¬2). وأجيب: أولاً: أن كلام الصحابة رضي الله عنهم إنما هو عن اتخاذ الحمام في بلاد الحجاز، وهي بلاد حارة، لا يضطر فيها الإنسان إلى اتخاذ الحمام، ولذلك لم تعرف الحمامات في عهد النبوة، ولم تعرف كذلك في عهد أبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم. ثانياً: على تقدير أن كلام الصحابة رضي الله عنهم عن الحمامات ¬
الموجودة في الشام، وهي أرض باردة، فإن الصحابة مختلفون فيها، والحجة إنما هو فيما أجمعوا عليه، وأما ما اختلفوا فيه فينظر في أقربها للصواب، وسوف أسوق في أدلة المجيزين بعض الآثار عن الصحابة في دخولها، والانتفاع بها، والله أعلم. الدليل الثالث من أدلة المانعين: أن دخول الحمام من الإرفاه والتنعم الذي ينهى عنه، ومن ذلك: (1304 - 177) ما رواه النسائي، قال: أخبرنا إسمعيل بن مسعود، قال: حدثنا خالد بن الحارث، عن كهمس، عن عبد الله بن شقيق، قال: كان رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عاملاً بمصر، فأتاه رجل من أصحابه، فإذا هو شعث الرأس مشعان، قال: ما لي أراك مشعاناً، وأنت أمير؟ قال: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا عن الإرفاه، قلنا: وما الإرفاه؟ قال: الترجل كل يوم (¬1). [إسناده صحيح وسبق تخريجه] (¬2). وجه الاستدلال: كون الصحابي ذكر في تفسير الترفه الترجل كل يوم، إنما قصد به المثال، لأن السؤال كان عن ترك الرأس شعثاً، وإلا كل ما فيه تنعم وترفه، فإن المؤمن منهي عن الإكثار منه؛ لأن المؤمن لا يذهب طيباته في حياته الدنيا، وإنما هذا شأن الكفار، قال سبحانه {ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم ¬
الدليل الرابع
طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون} (¬1). وأجيب: بأنه الحمام يختلف اتخاذه من بلد لآخر، فالحمام في البلاد الحارة كالبلاد الحجازية يمكن أن يكون من الترفه، وعليه يحمل كلام ابن عمر رحمه الله المتقدم ذكره في الدليل الثاني، وأما اتخاذه في البلاد الباردة، لا سيما في العصور المتقدمة كان من الضرورة، حيث لم يكن موجوداً في ذلك العصر وسائل تسخين للمياه، وقد يكون الغسل واجباً، أو مستحباً، ثم على التسليم أن دخول الحمام من الترفه، فإن الترفه ليس من المحرمات، فقد يكون من باب المكروهات، والمكروه يرتفع بالحاجة، {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} (¬2)، فلا يؤمر الإنسان أن يغتسل بالماء البارد لا سيما في البلاد الباردة، وهو قادر على استعمال الماء الحار في استعمال مياه الحمام، والله أعلم. الدليل الرابع: (1305 - 178) ما رواه الطبراني من طريق عبيد الله بن زحر، عن علي ابن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: ((إن إبليس لما أنزل إلى الأرض، قال: يا رب أنزلتني إلى الأرض، وجعلتني رجيماً، أو كما ذكر، فجعل لي ¬
الدليل الخامس
بيتاً، قال: الحمام ....)) وذكر الحديث بطوله (¬1). [الحديث ضعيف جداً] (¬2). الدليل الخامس: أن العقد مشتمل على غرر، والغرر منهي عنه، فإن العقد في استئجار الحمام يكون على الماء، وعلى مقدار مدة الليث في الحمام، وهما مجهولان، والإجارة لا تصح إلا بشرط معرفة العين المستهلكة من الماء، ومدة اللبث في الحمام، وإلا كان العقد مشتملاً على جهالتين: جهالة المدة، وجهالة المعقود عليه، وكل ذلك كاف في إفساد مدة الإجارة. وأجيب: بأن الأجرة في العقد في مقابلة الماء، واستعمال الأصطال، وسكنى المكان، وحفظ الثياب، والغرر ليس كله منهي عنه، بل هناك غرر متفق على قبوله، كالغرر اليسير، وغرر مجمع على النهي عنه كالغرر الكثير، وغرر مختلف ¬
فيه، هل يدخل في الغرر اليسير، فيقبل، أو في الغرر الكثير، فيمنع، وعقد الاستحمام من الغرر اليسير المقبول إن شاء الله تعالى؛ لأن عموم البلوى في هذا العمل، وتعارف الناس عليه يجعله جائزاً، يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: «واغتفر في هذا الباب ما لم يغتفر في غيره؛ لأن منه ما ليس بمقدر كالماء، ومقدار الإقامة، والمتبع في ذلك عرف الناس، وتسامحهم بمثل ذلك؛ لأنه مما تدعو الحاجة إليه، ويعسر ضبطه على الناس، والله أعلم، وقد حكي عن بعض المتقشفين أنه كان يشارط الحمامي على قدر ما يستعمله من الماء، ولا يحتاج الأمر إلى ذلك إن شاء الله تعالى؛ لأن فاعله بعد مستهجناً، وكان يلزمه أن يجلس في الحمام بالمنكام؛ لينضبط له مقدار الزمان. ولم يجعل الله سبحانه وتعالى علينا في الدين من حرج، بل أموال اليتامى التي من تعمد أكلها أطعم يوم القيامة ناراً، قد أباح الله تعالى شركتهم في أطعمتهم من غير تقدير، بل بما جرت به العادة، وقال تعالى: {والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم}» (¬1) (¬2). ويقول ابن عابدين: «وللعرف؛ لأن الناس في سائر الأمصار يدفعون أجرة الحمام، وإن لم يعلم مقدار ما يستعمل من الماء، ولا مقدار العقود، فدل إجماعهم على جواز ذلك، وإن كان القياس يأباه لوروده على إتلاف العين مع الجهالة» (¬3). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: أن دخول الحمام وإن كان الإنسان قد يعرف من نفسه القيام بستر العورة، لكنه لا يضمن ذلك من قبل الناس، فلا يجوز له أن ينظر إلى عورة الناس، كما يجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا لم يمتثل الناس اعتزلهم، وإذا كان الناس في الأزمان المتقدمة يغلب عليهم الحياء، فإنهم في هذا العصر انقلبت فطر كثير منهم، وصاروا يمشون عراة على شواطئ البحار من غير نكير، لا تعرف الرجل منهم من المرأة، ولم يقتصر الأمر على العورة المخففة، بل قد يصل ذلك إلى العورة المغلظة، فيجب قطع الباب سداً للذريعة. وأجيب: بأن دخول الحمام محرم إذا اشتمل على فعل محرم، وذلك مثل كشف العورة، أو تعمد النظر إلى عورة الغير، أو كان فيه تمكين للأجنبي بمس العورة، وقد أجمع العلماء على أن ستر العورة واجب بالنص والإجماع. وممن حكى الإجماع على ذلك ابن كثير (¬1)، والنووي (¬2)، وغيرهم، وإنما تنازع الناس في حكم كشف العورة في الوحدة، وسبق ذكرها في بحث مستقل في ذكر هذه المسائل وأدلتها. واعلم أن دخول الحمام قد يكون محرماً، وقد يكون واجباً، وقد يكون مستحباً، وقد يكون مباحاً، وقد يكون مكروهاً، فتدخله الأحكام الخمسة. ¬
فيكون محرماً، إذا اشتمل على فعل محرم، كأن يترتب على دخوله ترك للصلاة، أو كشف للعورات. يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: «الواجب على الكافة منعهن من تعاطي مثل ذلك، فإنه مما يترتب عليه من المفاسد الخاصة والعامة، اللازمة والمتعدية ما الله به عليم، وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ((لو رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أحدث النساء بعده لمنعهن المساجد، كما منعت نساء بني إسرائيل» (¬1). فهذا قولها في المساجد التي زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجال أن يمنعوهن إذا أردن الخروج إليها، فيكف بالحمامات)) (¬2). وقد يكون دخول الحمام واجباً إذا احتاج إلى طهارة واجبة، لا يمكنه فعلها إلا في الحمام، كالغسل من الجنابة، والحيض، والنفاس، أو للجمعة على القول بوجوبه، ولا يمكنه الاغتسال بالماء البارد ولا بغيره بالبيت، فهذا يجب عليه الذهاب للاغتسال؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله بأن هذه الاغتسال في البلاد الباردة لا يمكن إلا في حمام، وإن اغتسل في غير حمام خيف عليه الموت، أو المرض، فلا يجوز الاغتسال في غير حمام حينئذ (¬3). وقد يكون مستحباً إذا لم يمكنه فعل المستحب من الطهارة وغيرها إلا فيها، كغسل الجمعة على القول باستحبابه، ومثله الاغتسال الذي يقصد بها ¬
الدليل السابع
إزالة الدرن من البدن، فإن نظافة البدن من الدرن مستحب شرعاً، فهذا يستحب له الذهاب إلى الحمام إذا كان لا يستطيع الاغتسال في غير الحمام؛ ليحصل له هذا المقصود؛ لأنه والحالة هذه يعتبر الحمام وسيلة إلى فعل المستحب، فيكون مستحباً. وقد يكون مكروهاً إذا كان يترتب على دخول الحمام الوقوع في بعض المكروهات، كالإسراف في الماء. وقد يكون مباحاً كما لو كان دخوله للتلذذ والترفه، أو للتداوي على القول بأن التداوي مباح (¬1). الدليل السابع: أن مياه هذه الحمامات قد يغتسل فيه من لا يتحفظ عن النجاسات، وقد يبول فيها، وقد يكون على بدنه نجاسة، أو مرض، ثم الأواني المستعملة قد تكون نجسة، وقد يكون ما يغسل فيها من الثياب نجساً. ولذلك نهي عن الصلاة في الحمام، وذلك لأن أرضه لا تسلم من النجاسة. (1306 - 179) فقد روى أحمد من طريق محمد بن إسحاق، عن عمرو ابن يحيى بن عمارة، عن أبيه، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل الأرض مسجد وطهور إلا المقبرة والحمام (¬2). ¬
[حديث مضطرب، اختلف في وصله وإرساله، وقد رجح الترمذي والدارقطني، والبيهقي، والنووي إرساله، كما أشار الترمذي والنووي إلى اضطرابه، ثم إن كلمة طهور انفرد بها محمد بن إسحاق، وكل من روى الحديث لم يذكرها، فليست محفوظة، فلا يكون النهي لعلة النجاسة] (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
فاستثنى الحمام من الأرض الطهور، وهذا دليل على نجاستها، وإنما تنجس الحمام بتنجس الماء المستعمل فيه. ويجاب عن هذا: أولاً: أما قولكم بأن مياه هذه الحمامات قد يغتسل فيها من لا يتحفظ عن النجاسات. فيقال: الأصل في الماء أنه طهور حتى يتغير بالنجاسة، ولم يتغير بها. ثانياً: الشك لا يقضي على اليقين، فنجاسة الماء مشكوك فيها، وطهوريته متيقنة، فلا ننتقل عن اليقين بمجرد الشك. ثالثاً: أننا إذا افترضنا أن الماء قد خالطته نجاسة، فإن ماء الحمامات كثير، وفي حكم الماء الجاري، والماء الجاري على الصحيح لا ينجس إلا بالتغير، كما قال الإمام أحمد ففي مسائله رواية صالح، قلت: ما تقول في الغسل بماء الحمام؟ قال: الحمام بمنزلة الماء الجاري عندي (¬1). وأما الجواب عن الحديث، والنهي عن الصلاة في الحمام، فيجيب عنه ابن تيمية رحمه الله تعالى، فيقول: ((استثنى الحمام مطلقاً، فيتناول الاسم ما دخل في المسمى، فلهم طريقان: ¬
دليل من قال بالجواز مطلقا للرجال والنساء
الأول: أن النهي تعبد لا يعقل معناه، كما ذهب إليه طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم، كأبي بكر، والقاضي أبي يعلى، وأتباعه. والثاني: أن ذلك؛ لأنه مأوى الشياطين، كما في الحديث الذي رواه الطبراني عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن الشيطان قال: يا رب اجعل لي بيتاً، قال: بيتك الحمام ... وذكر الحديث المتقدم (¬1). وهذا التعليل كتعليل النهي عن الصلاة في أعطان الإبل بنحو ذلك، كما في الحديث: إن على ذروة كل بعير شيطاناً، وإنه جن، خلقت من جن، إذ لا يصح التعليل هناك بالنجاسة؛ لأنه فَرَّق بين أعطان الإبل ومبارك الغنم، وكلاهما في الطهارة والنجاسة سواء، كما لا يصح تعليل الأمر بالوضوء بأنه لأجل مس النار مع تفريقه بين لحوم الإبل ولحوم الغنم، وكلاهما في مس النار وعدمه سواء)) (¬2). دليل من قال بالجواز مطلقاً للرجال والنساء. الدليل الأول: قال الموصلي رحمه الله تعالى: «لم يصح في هذا الباب شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (¬3). وقال ابن القيم: «ولم يدخل - صلى الله عليه وسلم - حماماً قط، ولعله ما رآه بعينه، ولم يصح في الحمام حديث» (¬4). ¬
الدليل الثاني
وقال عبد الحق في أحكامه: «وأما ما خرجه أبو داود في هذا من الحظر والإباحة، فلا يصح منه شيء؛ لضعف الأسانيد» (¬1). وإذا كان لم يصح فيه حديث، فالأصل في دخوله الإباحة للرجال والنساء، بشرط أن يخلو من محظور آخر، كالتعري ونحوه، فهذا إنما يمنع لا من أجل الحمام، ولكن من أجل كشف العورة، وهو غير خاص في دخول الحمام، بل في كل مكان يتعرض فيه الناس إلى كشف عوراتهم فيجب أن يمنعوا من ذلك، ولو كان هذا في أماكن العبادة ونحوها. الدليل الثاني: (1307 - 180) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه دخل حمام الجحفة (¬2). [إسناده صحيح]. وإذا جاز دخوله للرجال جاز دخوله للنساء إلا بدليل، وإنما النساء شقائق الرجال. الدليل الثالث: (1308 - 181) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، قال: نعم البيت الحمام، يذهب الدرن، ويذكر النار (¬3). [إسناده صحيح]. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (1309 - 182) ما رواه البزار حدثنا يوسف بن موسى، ثنا يعلى بن عبيد، ثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: احذروا بيتاً يقال له الحمام، قالوا: يا رسول الله ينفي الوسخ؟ قال: فاستتروا. قال البزار: وهذا رواه الناس عن طاوس مرسلاً، ولا نعلم أحداً وصله إلا يوسف، عن يعلى، عن الثوري (¬1). وقال عبد الحق في أحكامه عن حديث البزار: هذا أصح إسناد حديث في هذا الباب، على أن الناس يرسلونه عن طاوس (¬2). [المحفوظ أنه مرسل] (¬3). ¬
أدلة من فرق بين الرجال والنساء
أدلة من فرق بين الرجال والنساء. الدليل الأول: (1310 - 183) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي مليح الهذلي، أن نساء من أهل حمص، ومن أهل الشام دخلن على عائشة، فقالت: أنتن اللاتي يدخلن نساؤكم الحمامات؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت زوجها، إلا هتكت الستر بينها وبين الله (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
والحديث استنبطت منه عائشة رضي الله عنها حرمة دخول النساء للحمام، وإن كان الحديث مطلق، ولم يقيد بدخول الحمام، ولذا لا يشمل الحديث امرأة دخلت الحمام بقميص مثلاً؛ لأن الوعيد على من وضعت ثيابها، وهذه لم تضع ثيابها، كذلك الحديث لا يشمل من وضعت بعض ثيابها عند من تحل له رؤية زينتها الظاهرة، كالأزواج والنساء ونحو ذلك، فالحديث يقصد به تلك المرأة التي تضع ثيابها أمام الرجال الأجانب بقصد الفاحشة أو مقدماتها، والله أعلم. الدليل الثاني: (1311 - 184) ما رواه أحمد من طريق عمر بن السائب، أن القاسم ابن أبي القاسم السبئي حدثه، عن قاص الأجناد بالقسطنطينية أنه سمعه يحدث، ¬
الدليل الثالث
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا أيها الناس، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليها بالخمر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بإزار، ومن كانت تؤمن بالله واليوم الآخر فلا تدخل الحمام (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). فجعل النهي للرجال متوقف على لبس الإزار، ونهى المرأة نهياً مطلقاً من دخوله، لكن الحديث ضعيف. الدليل الثالث: (1312 - 185) ما رواه الطبراني من طريق علي بن يزيد، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، ¬
الدليل الرابع
عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام ... الحديث (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الرابع: (1313 - 186) ما رواه أحمد من طريق عبد الله بن شداد، عن أبي عذرة، قال - وكان قد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى الرجال والنساء عن الحمامات، ثم رخص للرجال أن يدخلوها في المآزر (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (1314 - 187) ما رواه أحمد من طريق أبي خيرة، عن موسى بن وردان، قال أبو خيرة: لا أعلم إلا أنه قال: عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من ذكور أمتي فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كانت تؤمن بالله واليوم الآخر من إناث أمتي فلا تدخل الحمام (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل السادس: (1315 - 188) ما رواه أحمد من طريق ابن لهيعة، عن أبي الزبير، ¬
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام ... الحديث (¬1). [ضعيف بهذا الإسناد] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل السابع
الدليل السابع: (1316 - 189) ما رواه أبو يعلى من طريق عمرو بن الربيع بن طارق، حدثني يحيى بن أيوب، عن يعقوب بن إبراهيم، عن محمد بن ثابت بن شرحبيل، عن عبد الله ابن سويد الخطمي، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر من نسائكم فلا يدخلن الحمام، قال: فنميته إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في خلافته، فكتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن سل محمد بن ثابت في حديثه، فإنه رضي، فسأله، فكتب إلى عمر رضي الله عنه، فمنع النساء من الحمام (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
هذه تقريباً الأحاديث التي وقفت عليها مرفوعة في التفريق بين الرجل والمرأة. ¬
الراجح
الراجح والله أعلم. قد يكون الرجل والمرأة فيما سبق يضطرون إلى دخول الحمام، خاصة في البلاد الباردة، وفي الغسل الواجب، فيكون الإنسان بين أن يدخل الحمام، ويغتسل، وبين أن يدع ويتيمم، وإذا اغتسل في غير الحمام ربما عرض نفسه للتلف، أما الآن والحمد لله فإن الحال قد تغيرت، وأصبح في كل بيت من بيوت المسلمين ما يقوم بتسخين المياه عن طريق الكهرباء، فلم يحتج الرجل ولا المرأة إلى الذهاب إلى الحمامات، ولكن من جهة النظر العلمي، فإن الأصل أن المرأة في الأحكام كالرجل إلا ما دل عليه الدليل، فإذا لم تتجرد المرأة في هذه الحمامات، ولم يكن معها أجانب ينظرون منها ما يحرم النظر إليه، فإن الأصل الحل، وأن المرأة كالرجل والله أعلم.
المبحث الرابع إذا دخل الحمام بنية الاغتسال ثم شك هل اغتسل
المبحث الرابع إذا دخل الحمام بنية الاغتسال ثم شك هل اغتسل إذا دخل رجل الحمام بنية الاغتسال من الجنابة، وبعد ما خرج منه بمدة، حصل له شك، هل اغتسل من الجنابة أم لا؟ فقيل: لا غسل عليه، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يجب عليه الغسل، وهو مذهب الجمهور (¬2). وجه قول الحنفية: قالوا: غلبنا الظاهر على الأصل، وذلك أن الظاهر من حاله أنه لا يخرج من الحمام إلا بعد أن يغتسل، والبناء على الظاهر واجب، ما لم يعلم خلافه. وجه قول الجمهور: العمل باليقين، وذلك أن الجنابة متيقنة، وأما رفع الجنابة فمشكوك فيه، والأصل عدم الغسل، وأنه باق على حكم الجنابة حتى يتيقن الانتقال منها. وقد دل على هذه القاعدة حديث متفق عليه، ¬
(1322 - 195) فقد روى البخاري، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب ح وعن عباد بن تميم، عن عمه، أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً، ورواه مسلم (¬1). فأمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا شك في الحدث، وهو في الصلاة أن يستمر فيها، وأن يبقى على طهارته، ولا ينصرف عنها إلا بيقين، وكذلك الحكم لا يختلف لو كان متيقناً الحدث، وشك في الطهارة، فإنه لا يزال محدثاً حتى يتيقن أنه اغتسل، وعلى هذه القاعدة فروع كثيرة منتشرة في كتب القواعد الفقهية، وكتب الفروق، فيرجع إليها في مظانها ليرى جوانب تطبيق هذه القاعدة، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث في اغتسال الرجل وزوجه من إناء واحد وهما جنبان
الفصل الثالث في اغتسال الرجل وزوجه من إناء واحد وهما جنبان (1317 - 190) روى البخاري في صحيحه من طريق إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، كلانا جنب، ورواه مسلم (¬1). وفي الصحيحين: «كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد من الجنابة» (¬2). وفيهما: تختلف فيه أيدينا (¬3). (1318 - 191) وفي رواية لمسلم: «كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء بيني وبينه واحد، فيبادرني حتى أقول: دع لي، قالت: وهما جنبان» (¬4). وللبخاري: نغرف منه جميعاً (¬5). ففي هذا الحديث دليل واضح على جواز وضوء الرجل من فضل المرأة الجنب والعكس؛ لأن اغتسالهما من إناء واحد يعني أن كلاً منهما يغتسل ¬
بفضل صاحبه، وقد اختلف في الوضوء من فضل الجنب في الصدر الأول، بين ابن عمر رضي الله عنه، وبين ابن عباس رضي الله عنه. (1319 - 191) فقد روى مالك، عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان يقول: لا بأس أن يغتسل بفضل المرأة ما لم تكن حائضاً أو جنباً (¬1). [وسنده صحيح]. وبه أخذ إبراهيم النخعي، فقد قال ابن المنذر: انفرد إبراهيم النخعي بكراهة فضل المرأة إن كانت جنباً (¬2). وخالفهما حبر الأمة وترجمان القرآن، ابن عباس رضي الله عنهما. فقد روى ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي يزيد المديني، قال: سئل ابن عباس عن سؤر المرأة، فقال: هي ألطف بناناً، وأطيب ريحا (¬3). [ورجاله ثقات]. وقد ذهب إلى الأخذ برأي ابن عباس جماهير أهل العلم، فأجازوا الوضوء بفضل المرأة، جنباً كانت، أو غير جنب (¬4)، وهو رواية عن أحمد، ¬
اختارها ابن عقيل من الحنابلة (¬1)، ورجحه ابن المنذر (¬2)، قال ابن عبد البر في التمهيد: «والذي ذهب إليه جمهور العلماء، وجماعة فقهاء الأمصار، أنه لا بأس أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة، وتتوضأ المرأة بفضله، انفردت بالإناء، أو لم تنفرد، وفي مثل هذا آثار كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صحاح، والذي يُذْهَب إليه أن الماء لا ينجسه شيء، إلا ما ظهر فيه من النجاسات، أو غلب عليه منها، فلا وجه للاشتغال بما لا يصح من الآثار والأقوال، والله المستعان» (¬3). اهـ قال ابن حجر: ونقل الطحاوي، ثم القرطبي، والنووي الاتفاق على جواز اغتسال الرجل والمرأة من الإناء الواحد، وفيه نظر؛ لما حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة أنه كان ينهى عنه، وكذا حكاه ابن عبد البر عن قوم، وهذا الحديث حجة عليهم (¬4). ¬
وخالف الحنابلة الجمهور في مسألتين: في فهم فضل المرأة، وفي حكمه: فقالوا في فضل المرأة: هو الماء الذي خلت به المرأة من مشاهدة مميز، سواء كان ذكراً أم أنثى، وليس ما انفردت به، وهو المشهور عند المتأخرين من الحنابلة (¬1). وأما حكم هذا الماء، فقالوا: طهور في حق المرأة، وليس طهوراً في حق الرجل، فلا يستعمل في رفع حدث الرجل خاصة، ويستعمل في إزالة النجاسة، كما يستعمل في رفع حدث المرأة والصبي (¬2)، ومذهب ابن ¬
حزم قريب منه (¬1). وهذا الرأي من غريب الفقه، إذ كيف يكون ماء طهور في حق المرأة، ولا يكون طهوراً في حق الرجل، والحكم بالطهورية هو حكم وضعي، وليس حكماً تكليفياً، فإما أن يكون الماء قد طرأ عليه ما يفسده، فَنَقَلَه عن الطهورية إلى غيرها، وإما أن تكون الطهورية باقية، فلا فرق حينئذ بين الرجل والمرأة. ¬
والصحيح أن الوضوء بفضل المرأة، جنباً كانت، أو حائضاً، جائر بلا كراهة، وهل يكون سؤر الهرة أطيب من سؤر المرأة؟! فيتوضأ الإنسان من سؤر الهرة بدون حرج، ويتحاشى سؤر المرأة. وقد ذكرت أدلة الأقوال في مسألة مستقلة من كتاب أحكام الطهارة، في مباحث المياه والآنية، فأغنى عن إعادته هنا، والحمد لله.
الفصل الرابع من آداب الغسل: ذكر التسمية في أوله
الفصل الرابع من آداب الغسل: ذكر التسمية في أوله اختلف الفقهاء في التسمية للغسل، ومعلوم أن المغتسل للجنابة تارة يتوضأ قبل أن يغتسل، وتارة يغتسل بدون وضوء، وسيأتي إن شاء الله تعالى حكم الوضوء في غسل الجنابة، فإن توضأ قبل غسله، فقد ذكرت في مباحث الوضوء حكم التسمية في الوضوء، وجرى تحرير الخلاف فيها مع ذكر الأدلة هناك، وتم ترجيح أن التسمية غير مشروعة في الوضوء، وهو قول في مذهب المالكية، جاء في التاج والإكليل (¬1): «أنكر مالك التسمية على الوضوء، وقال: ما سمعت بهذا، أيريد أن يذبح»؟. وإن اغتسل بلا وضوء، فما حكم التسمية حينئذ عند الفقهاء رحمهم الله تعالى، فقيل: التسمية سنة، وهو مذهب الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3). ¬
دليل من قال باستحباب التسمية في الغسل
وقيل: التسمية من الفضائل، وهو المشهور في مذهب المالكية (¬1). وقيل: لا تستحب التسمية للجنب، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬2)، وينبغي أن يكون قولاً في مذهب المالكية (¬3). وقيل: تجب التسمية، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬4). دليل من قال باستحباب التسمية في الغسل. الدليل الأول: (1323 - 196) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن مبارك، عن الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، ¬
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله عز وجل فهو أبتر، أو قال: أقطع (¬1). [إسناده ضعيف، ومتنه مضطرب] (¬2). ويجاب عن ذلك: أولاً: أن الحديث ضعيف. ثانياً: ليس كل عبادة مشروعة تكون التسمية فيها مشروعة، فالتسمية في العبادات منها ما هو شرط كالذبح، ومنها ما هو مستحب كما في قراءة القرآن، بل قد تستحب في بعض المباحات كالأكل والشرب. ومنها ما هو بدعة، كالتسمية في الأذان، وفي الإقامة، وفي الصلاة، وفي الحج والعمرة ونحوها، فليس كل فعل تشرع فيه التسمية (¬3). ¬
وقد قال القرافي في كتابه الفروق: «فأما ضابط ما تشرع فيه التسمية من القربات، وما لم تشرع، فيه فقد وقع بحث مع جماعة من الفضلاء، وعسر تحرير ذلك وضبطه، ثم قال: والقصد من هذا الفرق بيان عسره، والتنبيه على طلب البحث عن ذلك، فإن الإنسان قد يعتقد أن هذا لا إشكال فيه، فإذا نبه على الإشكال استفاده، وحثه ذلك على طلب جوابه» (¬1). قلت: رحمك الله رحمة واسعة يا أحمد بن إدريس القرافي، فلقد طلبت في بحثي هذا حديثاً صحيحاً أو ضعيفاً في مشروعية التسمية في غسل الجنابة، ولم أقف عليه حتى كتابة هذه السطور، وليس في قلبي شيء من عدم مشرعية التسمية في غسل الجنابة، فيبعد أن تكون التسمية مشروعة، ثم لا تأتي في الأحاديث التي تنقل لنا صفة الغسل من الجنابة، فهل يتصور أن يتتابع الصحابة على إهمال ترك التسمية، وعدم نقلها للأمة مع ثبوت مشروعيتها، ولو كانت التسمية من دين الله لحفظها الله سبحانه وتعالى، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (¬2)، وحفظ الكتاب إنما يكون أيضاً بحفظ الشرع، فلا يمكن أن يكون شيء من شرع الله غير محفوظ لنا، ودع عنك أيها القارئ الكريم متابعة جمهور الفقهاء بلا نور من كتاب الله سبحانه وتعالى، أو حجة من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنهما الحجة ¬
الدليل الثاني
على خلقه، وما ليس فيهما فلا تتبعه، وإن قال به من قال، فإن خطأ القائل معذور به مأجور عليه، وأما متابعتك لغيرك من غير هدى فإن سلمت من الإثم، فلا أجر فيها، والله المستعان، وعليه التكلان. الدليل الثاني: وردت أحاديث كثيرة في مشروعية التسمية في الوضوء، بلفظ: (لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه). ورد ذلك من حديث أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وسهل بن سعد، وعلي بن أبي طالب، وسعيد بن زيد، وأنس وعائشة رضي الله عنهم أجمعين، وإن كان في أسانيدها مقال، فإنها صالحة للحجة بالمجموع (¬1). فإذا ثبتت التسمية في الطهارة الصغرى، كانت التسمية مشروعة في الطهارة الكبرى من باب أولى؛ لأنها صغرى وزيادة (¬2). وأجيب: لا نسلم أن التسمية مشروعة في الطهارة الصغرى، وقد تقدم بحث التسمية في الطهارة الصغرى، وتبين أن التسمية فيها غير مشروعة، وإذا بطل الأصل بطل الفرع، ولو أخذنا بظاهر أحاديث «لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» لقلنا: إن التسمية شرط في صحة الوضوء، من تركها، ولو سهواً، لم يصح وضوؤه، ووجب عليهم القول بأن منزلة التسمية في الوضوء، كمنزلة الوضوء للصلاة، ولما لم تكن هذه الأحاديث ¬
دليل الحنابلة على وجوب التسمية
بتلك الصحة لم يذهب الجمهور إلى أن التسمية شرط، بل لم يذهبوا إلى القول بالوجوب إلا رواية عن الإمام أحمد، وقد استقر مذهبه على القول بعدم الوجوب كما نقل الخلال عنه، ونقلت ذلك في كتاب الوضوء، وعليه فنقول لهم: لا تحتجوا علينا بأحاديث أنتم أنفسكم لا تقولون بمقتضاها، والله المستعان. دليل الحنابلة على وجوب التسمية: لما كان الحنابلة يوجبون التسمية في الطهارة الصغرى، أوجبوها في الطهارة في الكبرى من باب القياس. والجواب عنهم، هو الجواب نفسه الذي رُدَّ به قول الجمهور، فهذا الدليل هو عين دليل الجمهور إلا أن الجمهور قالوا: لما كانت الطهارة مشروعة في الطهارة الصغرى كانت مشروعة في الطهارة الكبرى، والحنابلة قالوا: لما كانت التسمية واجبة في الطهارة الصغرى كانت واجبة في الطهارة الكبرى، ولا يصح القياس لما ذكرنا في الجواب عن الدليل الذي قبل هذا. دليل من قال: التسمية غير مشروعة في الغسل. الدليل الأول: الأصل في العبادت الحضر، حتى يرد دليل صحيح على المشروعية، وأحاديث الأغتسال من الجنابة ليس فيها ذكر التسمية، {وما كان ربك نسياً} (¬1). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن أحاديث غسل الجنابة في السنة خلو من التسمية، ولو كانت مشروعة لما أغفل الصحابة رضي الله عنهم ذكرها، ولو كانت التسمية مشروعة لحفظها الله لنا، فلما لم تنقل لنا التسمية في الغسل، لا في حديث صحيح، ولا في حديث ضعيف، كان هذا دليلاً على عدم مشروعية التسمية، والقول بمشروعية التسمية في غسل الجنابة يعني أن التسمية كانت تفعل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن صحابته، ولكن الصحابة قد قصروا في نقل هذه السنة للأمة، وأسوق لك بعض الأحاديث الصحيحة في صفة غسل الجنابة، وليس فيها ذكر للتسمية، منها: (1324 - 197) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده. ورواه مسلم (¬1). فهذه صفة غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة وليس فيها ذكر البسملة. (1325 - 198) ومنها ما رواه مسلم من طريق الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، قال: حدثتني خالتي ميمونة، قالت: أدنيت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسله من الجنابة، فغسل كفيه مرتين أو ثلاثاً، ثم أدخل يده في الإناء، ثم أفرغ بها على فرجه، ¬
وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكاً شديداً، ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه، ثم غسل سائر جسده، ثم تنحى عن مقامه ذلك فغسل رجليه، ثم أتيته بمنديل فرده. ورواه البخاري (¬1). وهذا الحديث كغيره ليس فيه التسمية، فيبعد أن تكون التسمية مشروعة ثم لا تنقل من قوله - صلى الله عليه وسلم - ولا من فعله. (1326 - 199) ومنها ما رواه مسلم من طريق سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن، عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء، فتطهرين (¬2). فهذه الأحاديث هي التي نقلت لنا صفة غسل الجنابة، وليست التسمية فيها، وبالتالي يقطع الباحث بعدم مشروعية التسمية، ولا حاجة لنا إلى الذهاب إلى القياس على الوضوء، لأمرين بل لثلاثة: الأول: عدم ثبوت التسمية في الوضوء. الثاني: أن الغسل كان يتكرر منه - صلى الله عليه وسلم -، كما كان يتكرر من صحابته رضوان الله عليهم، فكانت الأمة بحاجة إلى معرفة حكم التسمية في الغسل، فلما لم يأت ذكر للتسمية في أحاديث صفة الغسل من الجنابة، علم أنها ليست مشروعة. ¬
الراجح من الخلاف
الثالث: أن القياس في العبادات، قياس ضعيف، ولذلك سبق لنا قول القرافي: «يعسر الحصول على ضابط لما تشرع فيه التسمية وما لا تشرع» وإذا كان لا يوجد ضابط كان القول بمشروعية التسمية في الغسل يحتاج إلى توقيف من الشارع، فالضابط المطرد: هو النص، فإذا لم نجد مثل ذلك لم نذهب ونتكلف بالقول بالقياس، وكيف نرد على من قال: إذا قلتم بالقياس، فقولوا بمشروعية التسمية في الصلاة والأذان بجامع أن كلاً منهما عبادة، فإذا منعتم القياس بهذه العبادات منعنا القياس على الوضوء، وهذا على التسليم في صحة التسمية في الوضوء، بل يمكن أن يعكس القياس، فيقال: لم يرد حديث صحيح ولا ضعيف في ثبوت التسمية في الغسل، أو في التيمم، وكلاهما طهارة من الحدث، فيقاس عليهم الوضوء بعدم مشروعية التسمية بجامع أن كلاً منهما طهارة من حدث، والله أعلم. الراجح من الخلاف. القول بعدم مشروعية التسمية، هو القول الذي يتمشى مع الأدلة، والأصل عدم المشروعية حتى تثبت التسمية في حديث صحيح خال من النزاع، والله أعلم، وإن عدم ثبوت حديث صحيح أو ضعيف في مشروعية التسمية في الغسل يؤكد لك أخي القارئ عدم مشروعية التسمية في الطهارة الصغرى، والتي وردت فيها أحاديث لا تقوم فيها حجة، فإذا كان اغتسال النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة لم نقف فيه على أثر مرفوع في مشروعية التسمية، فالطهارة الصغرى لا يستنكر القول بعدم مشروعية التسمية فيها، وإن وردت فيها أحاديث ليست بذاك، وإذا كان الجمهور يرى مشروعية التسمية في الغسل، مع أنه لا يوجد فيها سنة مرفوعة، ولو ضعيفة، لم نجعل قول الجمهور حجة في ذهابهم إلى مشروعية التسمية في الطهارة الصغرى، والله أعلم.
الفصل الخامس من آداب الغسل: غسل فرجه وما أصابه من أذى قبل الاغتسال
الفصل الخامس من آداب الغسل: غسل فرجه وما أصابه من أذى قبل الاغتسال يستحب لمن أراد الغسل أن يغسل فرجه، وما أصابه من أذى، سواء كان هذا الأذى نجساً كالمذي، أو كان طاهراً مستقذراً كالمني (¬1). وهذا الاستحباب، هل يستحب مطلقاً، أو يستحب حيث يوجد على ذكره أذى، فإن لم يوجد لم يستحب ذلك، كما لو أولج ذكره بحائل، ولم ينزل، في ذلك خلاف بين أهل العلم. فذهب الحنفية إلى أن تقديم غسل الفرج سنة مطلقاً، سواء كان على ذكره نجاسة أم لا، وقاسوه على تقديم الوضوء على غسل باقي البدن، سواء ¬
كان هناك حدث أم لا (¬1). وقيل: إن لم يكن هناك أذى، فلا حاجة إلى غسل فرجه، وهذا مذهب الشافعية (¬2). وربما أخذ الشافعية من قول ميمونة في الحديث «وغسل فرجه، وما أصابه من أذى» وأن الأذى يطلق على النجاسة، لقوله سبحانه وتعالى عن الحيض: {يسألونك عن المحيض قل هو أذى} (¬3). والمحيض: نجس بالإجماع. فالجواب: أن الأذى قد يطلق على النجاسة كإطلاقه على دم الحيض، وقد يطلق على الشيء الطاهر، قال تعالى: {ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر} (¬4). وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} (¬5). وقال: {قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى} (¬6). وقال: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه} (¬7). ¬
الدليل على استحباب غسل الفرج في غسل الجنابة
وأذى الرأس يقصد به القمل، كما هو معلوم من سبب النزول، وقصة كعب بن عجرة في الصحيحين (¬1)، ولا يقال: إن القمل نجس. وأرى أن غسل الفرج لا يتعين من أجل إزالة النجاسة، بل قد يبدأ بغسله حتى لا يحتاج إلى مسه بعد ذلك، فينتقض وضوؤه، ولو كان كل من جامع أصبح ذكره نجساً، لنقل عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مباشرة غسله بعد الجماع، خاصة أن الذكر يخرج من الجماع، وهو رطب، ولنقل عنه - صلى الله عليه وسلم - حرصه على توقيه، حتى لا تتعدى النجاسة إلى ثيابه، ولجاء الأمر بغسل الذكر بعد الجماع مباشرة، أو التحفظ منه، فلما لم ينقل عن المعصوم أمر بغسل الذكر من الجماع، ولم ينقل غسله مباشرة بعد الجماع، علم أن غسل الذكر في غسل الجنابة ليس واجباً، وسيأتي مزيد بيان لهذا، حين الكلام على دليل الاستحباب، والله أعلم. الدليل على استحباب غسل الفرج في غسل الجنابة. هناك دليلان أثري ونظري على استحباب البداءة بغسل الفرج. أما الدليل الأثري: (1327 - 200) قال البخاري: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة، فغسل فرجه بيده، ثم دلك بها الحائط، ثم غسلها، ثم توضأ وضوءه للصلاة، فلما فرغ من غسله غسل رجليه. رواه البخاري اللفظ له ومسلم (¬2). ¬
الدليل النظري
قال ابن تيمية: الاستنجاء من المني فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على الدوام، ولا أعلم إخلالهم به بحال (¬1). وأما الدليل النظري: فإنه يستحب أن يغسل فرجه قبل ضوئه؛ لأنه إذا أخر غسل الفرج، فإنه إن مس فرجه انتقض وضوؤه، وإن لم يمسه أخل بسنة الدلك، وربما لا يتقين وصول الماء إلى مغابنه إلا بالدلك (¬2). وقد استدل الحنفية والمالكية بهذا الحديث على نجاسة المني، وذلك لكونه استنجى من المني فغسل فرجه، وليس بصواب، فإن الغسل ليس مقصوراً فقط على النجاسة، فقد يكون الغسل للنظافة، أو من أمر مستقذر وإن لم يكن نجساً، وقد يكون الغسل من مذي أصابه، وهو نجس، فلا يصح الحديث دليلاً على نجاسة المني، وقد يكون الغسل حتى لا يحتاج إلى مسه بعد ذلك، فيبطل وضوؤه (¬3). ¬
وقد أشار النووي إلى أن الاستنجاء من المني لا يكفي في رفع الجنابة، فلا بد من غسله مرة أخرى بنية رفع الجنابة، قال النووي: «وينبغي لمن اغتسل من إناء كالإبريق ونحوه، أن يتفطن لدقيقة قد يغفل عنها، وهي: أنه إذا استنجى، وطهر محل الاستنجاء بالماء، فينبغي أن يغسل محل الاستنجاء بعد ذلك بنية غسل الجنابة؛ لأنه إذا لم يغسله الآن ربما غفل عنه بعد ذلك، فلا يصح غسله لترك ذلك، وإن ذكره احتاج إلى مس فرجه، فينتقض وضوءه، أو يحتاج إلى كلفة في لف خرقة على يده، والله أعلم». (¬1) اهـ قلت: إذا استنجى بنية رفع الحدث وإزالة النجاسة كفى، ولا يحتاج الأمر إلى إعادة غسل الفرج مرة أخرى بنية رفع الجنابة، بل إن إزالة النجاسة لا يحتاج الأمر فيها إلى نية، فإذا ذهبت النجاسة ولو كانت النية رفع الحدث فقد حصل المطلوب، وربما كان غسل الفرج أولاً لكي لا يحتاج إلى غسله مرة أخرى فينتقض وضوءه، ولو كان غسل الفرج يتكرر أكثر من مرة لبينته السنة. ولذلك قال الخرشي: «ثم يغسل ذلك المحل، أو غيره بنية غسل الجنابة؛ ليأمن من نقض الوضوء بمس ذكره بعد ذلك، وإن لم ينو رفع الجنابة عند غسل فرجه فلا بد من غسله ثانياً؛ ليعم جسده، وكثير من الناس لا يتفطن لذلك فينوي بعد غسل فرجه، ثم لا يمسه حفظاً للوضوء، فيؤدي لبطلان الغسل لعرو غسل الفرج عن نية، قاله المؤلف في شرحه على المدونة اللخمي، وإن نوى رفع الجنابة في حين إزالة النجاسة عنه، وغسل غسلاً وحداً أجزأ على مذهب المدونة» (¬2). ¬
فهذا الكلام أدق من كلام النووي، حيث لا يطلب غسل الفرج مرة أخرى إذا كان غسله للفرج بنية رفع الجنابة، أو نواهما معاً: إزالة النجاسة ورفع الحدث، وأرى أن الأمر سهل جداً، وأن النية العامة في رفع حدث الجنابة تكفي إن شاء الله تعالى، ولا يتطلب الأمر نية خاصة عند كل عضو من البدن، فإذا نوى نية عامة في هذا الغسل رفع الجنابة، يكون الفرج داخلاً في تلك النية، ولو غسله بنية إزالة الأذى، فنية الصلاة تكفي عن نية خاصة عند الركوع والسجود والجلوس، فكذلك نية الغسل تكفي عن نية خاصة عند غسل الفرج، أو الرأس، أو اليد، وهكذا، والله أعلم
الفصل السادس من آداب الغسل: غسل اليدين قبل الوضوء وقبل غسل الفرج
الفصل السادس من آداب الغسل: غسل اليدين قبل الوضوء وقبل غسل الفرج نحتاج في بحث هذه المسألة إلى الكلام أولاً: في محل غسل اليدين من غسل الجنابة. وثانياً: هل يغسل كفيه كليهما، أو اليمنى فقط التي يغرف بها؟ وثالثاً: ما نية غسلهما، هل يغسلهما بنية النظافة، أو بنية رفع الحدث، أو ماذا؟ ورابعاً: عدد غسلات اليد، هل تغسل مرة واحدة، أو أكثر؟ المبحث الأول: في محل غسل اليدين من غسل الجنابة جاء السنة الصحيحة الصريحة في أن غسل الكفين إنما يكون في ابتداء الغسل، وقبل الاستنجاء. (1328 - 201) لما روى البخاري من طريق سفيان عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة قالت: سترت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يغتسل من الجنابة، فغسل يديه، ثم صب بيمينه على شماله، فغسل فرجه، وما أصابه، ثم مسح بيده الحائط، أو الأرض، ثم توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه، ثم
أفاض على جسده الماء، ثم تنحى فغسل قدميه. فهذه الرواية صريحة في أن غسل اليد كان قبل غسل الفرج، وأن غسل الفرج كان قبل الوضوء، ثم يفيض على جسده الماء، وكان التعبير بلفظ (ثم) الدالة على الترتيب في جميع ذلك. (1329 - 202) وأما ما رواه البخاري رحمه الله تعالى من طريق سفيان، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءه للصلاة غير رجليه، وغسل فرجه، وما أصابه من أذى، ثم أفاض عليه الماء، ثم نحى رجليه، فغسلهما. هذه غسله من الجنابة. فذكر غسل الفرج بعد الوضوء، فقد أجاب عنه الحافظ في الفتح، فقال: «فيه تقديم وتأخير؛ لأن غسل الفرج كان قبل الوضوء؛ إذ الواو لا تقتضي الترتيب، وقد بين ذلك ابن المبارك عن الثوري عند البخاري في باب الستر في الغسل، فذكر غسل اليدين، ثم غسل الفرج، ثم مسح يده بالحائط، ثم الوضوء غير رجليه، وأتى بـ ((ثم» الدالة على الترتيب في جميع ذلك)) (¬1). ¬
المبحث الثاني هل يغسل يديه كليهما أو اليمنى فقط؛ لأنها آلة الغرف
المبحث الثاني هل يغسل يديه كليهما أو اليمنى فقط؛ لأنها آلة الغرف قال الباجي: «ويكفي غسل اليمنى في هذا الموضع على قول أشهب؛ ليمكنه غرف الماء بها، ولا معنى لغسل اليد اليسرى معها؛ لأنه يغسل بها فرجه بعد ذلك، فيباشر النجاسة، ولا يباشر شيئاً من ذلك بيمناه، فلذلك غسلها ليتناول بها الماء» (¬1). (1330 - 203) واستدل الباجي بأثر موقوف على ابن عمر رضي الله عنه، رواه مالك في الموطأ، عن نافع، عن عبد الله بن عمر كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ، فأفرغ على يده اليمنى، فغسلها، ثم غسل فرجه، ثم مضمض واستنثر ... الخ (¬2). (1331 - 204) بل يمكن أن يستدل له بما رواه البخاري من طريق أبي عوانة، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة بنت الحارث، قالت: وضعت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسله، وسترته، فصب على يده، فغسلها مرة أو مرتين، قال سليمان: لا أدري أذكر الثالثة أم لا، ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل فرجه ... الحديث. قلت: الصحيح غسل الكفين معاً، وهذه الرواية لا بد من حملها على باقي الرويات الأخرى لحديث ميمونة، لأن الحديث واحد، فيقال: إن كلمة «يده» مفرد مضاف، فيعم كلتا يديه. ¬
فحديث ميمونة مداره على الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة، (1332 - 105) رواه البخاري من طريق أبي حمزة، عن الأعمش به بلفظ: «صب على يديه، فغسلهما، ثم صب بيمينه على شماله، فغسل فرجه، فضرب بيده الأرض فمسحها، ثم غسلها .... الحديث». فهنا ذكر أن الغسل كان لكلتا يديه قبل غسل الفرج، وأما بعد غسل فرجه فكان الغسل ليده اليسرى؛ لأنها هي التي باشر بها غسل فرجه، وهي التي ضرب بها الأرض. (2333 - 206) ورواه البخاري من طريق حفص بن غياث، عن الأعمش به، بلفظ: «صببت للنبي - صلى الله عليه وسلم - غسلاً، فأفرغ بيمينه على يساره فغسلهما، ثم غسل فرجه، ثم قال بيده الأرض، فمسحها بالتراب، ثم غسلها، ثم تمضمض واستنشق ...» الحديث. ورواية حفص هذه توافق رواية أبي حمزة، بأن غسل اليدين كان قبل غسل الفرج، وأن الغسل كان لكلتا يديه، ثم عاد وغسل اليد اليسرى بعد أن مسحها بالتراب. (1334 - 207) ورواه مسلم من طريق عيسى بن يونس، عن الأعمش به، بلفظ: «فغسل كفيه مرتين أو ثلاثاً، ثم أدخل يده في الإناء، ثم أفرغ بها على فرجه، وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكاً شديداً، ثم توضأ وضوءه للصلاة» (¬1). ¬
فهذه الروايات في حديث ميمونة صريحة في أن الغسل كان لكفيه كليهما، ولم يختلف الأمر في صفة الغسل في حديث عائشة، (1335 - 208) فقد رواه البخاري من طريق مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة بلفظ: «كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ، فغسل يديه، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ...» الحديث (¬1). ورواه البخاري كذلك من طريق عبد الله بن المبارك، عن هشام به (¬2). ورواه مسلم من طريق وكيع، عن هشام به، بلفظ: «بدأ، فغسل كفيه ثلاثاً» (¬3). ورواه مسلم أيضاً من طريق أبي معاوية، عن هشام به، بلفظ: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة يبدأ، فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة» (¬4). ¬
المبحث الثالث الموجب لغسل اليدين في غسل الجنابة
المبحث الثالث الموجب لغسل اليدين في غسل الجنابة اختلف العلماء في موجب غسل اليدين، قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون غسلهما من أجل النظافة، وإزالة ما بهما من مستقذر (¬1). قلت: يمنع من هذا اعتبار العدد في غسلهما، فإنه لو كان الأمر من أجل النظافة وإزلة المستقذر فقط لاكتفى بذلك بغسلة واحدة، فإن النجاسة العينية تكفي في غسلها غسلة واحدة تذهب بعينها، فلما كان الغسل ثلاث مرات، كان الأمر ليس من أجل النظافة، أو إزالة النجاسة، أو المستقذر. وهذا الخلاف ليس لفظياً، فمن قال: إن الغسل من أجل النظافة، لم ير أن غسلهما مشروع فيما لو كانت يده نظيفة، أو كان قد غسلهما، ثم أحدث، فإذا استأنف الوضوء لم يشرع له إعادة غسلهما، كما أنه لا يرى وجوب النية في غسلهما؛ لأن الغسل إذا كان من قبيل النظافة، أو إزالة النجاسة لم تكن النية واجبة، بخلاف من يرى أن غسلهما من أجل الوضوء فحسب، سواء كانت اليد نظيفة، أو غير نظيفة. فالراجح أن غسل اليدين مشروع، حتى ولو كانت اليد نظيفة؛ لأن الطهارة إذا دخلتها أحكام العبادة المحضة غلبت عليها، فلم يراع فيها السبب، فغسل اليدين حين دخله العدد غلبت عليه أحكام العبادة المحضة، ومثله غسل الجمعة أصله إزالة الرائحة، فلما دخلت عليه أحكام العبادة لزمه الاتيان به، وإن لم يوجد سببه، والله أعلم. ¬
قال الحافظ: ويحتمل أن يكون غسلهما هو الغسل المشروع عند القيام من النوم (¬1). (1336 - 209) وقد أخذ ذلك بما رواه مسلم من طريق زائدة، عن معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ، فغسل يديه قبل أن يدخل يده في الإناء، ثم توضأ مثل وضوئه للصلاة (¬2). ورواه الشافعي والترمذي من طريق سفيان بن عيينة، عن هشام به، وذكر غسل يديه قبل إدخالهما في الإناء. وكونه غسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ليس فيه دليل على أن ذلك بسبب القيام من النوم، بل كان ذلك هديه - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يتوضأ غسل يديه قبل إدخالهما في الإناء، (1337 - 210) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عبد العزيز ابن عبد الله الأويسي، قال: حدثني إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، أن عطاء ابن يزيد أخبره، أن حمران مولى عثمان أخبره أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء، فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق. الحديث. وأخرجه مسلم (¬3). ¬
فلم يدخل يمينه في الإناء حتى غسلها ثلاثاً، ولم يكن ذلك بسبب القيام من نوم الليل، لأن الحديث مطلق، نعم إذا كان غسل اليد بعد القيام من نوم الليل فإن غسلهما يتأكد، وقد قال بعض العلماء بالوجوب، وقد ذكرت خلاف العلماء في ذلك في باب المياه، والدليل على تأكد غسلهما إن كان ذلك بعد القيام من النوم، (1338 - 211) ما رواه مسلم حديث أبي هريرة في مسلم، «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده». ورواه البخاري دون قوله ثلاثاً (¬1). فالذي يظهر أن غسل الكفين ثلاثاً في ابتداء الغسل كان من أجل الوضوء، فَفَعَلَ في وضوء غسله، كما كان يفعل في وضوئه المعتاد، والله أعلم، ومن أدخل يديه في الإناء قبل غسلهما لم يضر ذلك وضوءه، فإن كانت يده نظيفة فالأمر ظاهر، يد طاهرة لاقت ماء طهوراً فلم تؤثر فيه. وإن كان في يده نجاسة، وتغير الماء بالنجاسة نجس إجماعاً، وإن لم يتغير الماء رجعت هذه المسألة إلى مسألة أخرى سبق أن حُرِّرت الأقوال فيها، وهي في حكم الماء إذا لاقته نجاسة فلم تغيره، وقد فصلت القول فيها في كتاب المياه. وقد ترجم البخاري باباً في صحيحه، بعنوان: باب هل يدخل الجنب يده في الإناء قبل أن يغسلها إذا لم يكن على يده قذر غير الجنابة، ثم ساق حديث القاسم، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، تختلف أيدينا فيه، ورواه مسلم (¬2). ¬
كما ساق أثراً معلقاً، قال البخاري: أدخل ابن عمر، والبراء بن عازب يده في الطهور، ولم يغسلها، ثم توضأ (¬1). قال الحافظ في الفتح في توجيه الاستدلال بحديث عائشة: «لما جاز للجنب أن يدخل يده في الإناء، ليغترف بها قبل ارتفاع حدثه؛ لتمام الغسل كما في حديث الباب، دل على أن الأمر بغسل يده قبل إدخالها ليس لأمر يرجع إلى الجنابة، بل إلى ما لعله يكون بيده من نجاسة متيقنة أو مظنونة». قلت: هذا التوجيه مبني على قول: إن الحدث لا يرتفع عن العضو المغسول حتى يرتفع الحدث عن البدن كله، أما من يرى: أن كل عضو تم غسله فقد ارتفع حدثه، فلا يتوجه هذا الاستدلال، هذا من جهة، ومن جهة أخرى قول الحافظ: إن غسل اليد لا يرجع إلى أمر الجنابة، بل إلى ما لعله يكون بيده من نجاسة متيقنة أو مظنونة، ينتقض ذلك باستحباب غسل اليد، ولو تيقن نظافتها، فغسل اليد في ابتداء الوضوء والغسل إن كانت اليد بحاجة إلى النظافة فظاهر، وإلا كان غسلهما تعبدي، وذلك لكون غسلهما يسن فيه التثليث، وغسل النجاسة يكفي فيه غسلة واحدة تذهب بعينها، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع في عدد غسل الكفين في ابتداء الغسل
المبحث الرابع في عدد غسل الكفين في ابتداء الغسل ذهب الأئمة الأربعة (¬1)، إلى أن غسل الكفين في غسل الجنابة مرة واحدة إلى ثلاث مرات، ولا يزيد على الثلاث. وقيل: يغسل كفيه سبع مرات، يروى هذا عن ابن عباس، ولا يصح (¬2). دليل الجمهور: ما ورد في صفة الغسل من حديث ميمونة وحديث عائشة رضي الله عنهما من أنه غسل كفيه ثلاثاً، وسبق في الفصل الذي قبل هذا ذكر ألفاظهما. (1339 - 212) واستدل من رأى غسل الكفين سبعاً بما رواه أحمد من طريق ابن أبي ذئب، عن شعبة مولى ابن عباس، أن ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا اغتسل من الجنابة أفرغ بيده اليمنى على اليسرى فغسلها سبعاً قبل أن يدخلها في الإناء، فنسي مرة كم أفرغ على يده، فسألني: كم أفرغت؟ فقلت: لا أدري؟ فقال: لا أم لك، ولم لا تدري، ثم توضأ وضوءه للصلاة ... الحديث (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬
ومع ضعف الحديث، فإن الظاهر أن التسبيع كان في غسل الفرج، لأنه لم يذكر التسبيع إلا في غسل اليد اليسرى، واليد اليسرى هي التي يغسل بها المرء فرجه قبل الاغتسال، ولأنه ربما كان على الذكر نجاسة من مذي ونحوه، ففي غسل النجاسة قد قيل بغسلها سبعاً، كما هو مذهب الحنابلة، وهو مرجوح (¬1). قال ابن رجب: «وليس في هذه الرواية التسبيع سوى في غسل يده اليسرى قبل الاستنجاء، ويحتمل أن المراد به التسبيع في غسل الفرج خاصة، وهو الأظهر» (¬2). والصحيح أنه غسلها بعد الاستنجاء وقبل إدخال اليد في الإناء؛ وذلك لمباشرتها غسل الفرج، وما كان عليه من أذى، ومع ذلك فلو صح هذا عن ابن عباس لم يكن فيه حجة، لأنه موقوف عليه، فكيف، وهو ضعيف، مخالف للسنة المرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ ¬
الفصل السابع من سنن الغسل: الوضوء قبله
الفصل السابع من سنن الغسل: الوضوء قبله نحتاج في الكلام على الوضوء في غسل الجنابة إلى الكلام على مسائل كثيرة منها: أولاً: حكم الوضوء في غسل الجنابة. وثانياً: في موضع الوضوء من الغسل، هل يكون قبل الغسل أو بعده؟ وثالثاً: في نية الوضوء، هل يتوضأ بنية رفع الحدث الأصغر، أو يتوضأ بنية رفع الحدث الأكبر؟ رابعاً: لو اغتسل بدون وضوء، فهل يرتفع الحدث الأصغر، أو يرتفع الحدثان، ولو لم يتوضأ؟ خامساً: في التثليث في الوضوء، هل يغسل أعضاء الوضوء مرة، أو ثلاثاً؟ فهذه خمس مسائل سوف نتكلم عليها في المباحث التالية إن شاء الله تعالى، وأسأل الله سبحانه وتعالى منه التوفيق والعون، إنه على كل شيء قدير.
المبحث الأول في حكم الوضوء في غسل الجنابة
المبحث الأول في حكم الوضوء في غسل الجنابة اتفق العلماء على مشروعية الوضوء لمن أراد أن يغتسل للجنابة (¬1)، واختلفوا في وجوبه، فقيل: الوضوء سنة، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5)، واختيار ابن حزم رحمه الله تعالى (¬6). وقيل: الوضوء شرط في صحة الغسل، وهو رأي داود الظاهري رحمه الله تعالى (¬7)، وأبي ثور (¬8)، وراوية عن أحمد (¬9). ¬
وقيل: إن كان أجنب، وهو محدث لزمه الوضوء، وإن كان حين أجنب طاهراً لم يلزمه، ذكره بعض الحنفية (¬1)، وذهب إليه بعض الشافعية (¬2)، وبعض الحنابلة (¬3). هذه مجمل الأقوال في المسألة. وسبب اختلافهم في حكم الوضوء، اختلافهم في آية المائدة في قوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬4)، هل هي من قبيل المجمل، أو من قبيل المبين، فداود يرى أن قوله سبحانه وتعالى: {فاطهروا} أمر مجمل، وبيانه يؤخذ من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والرسول قد حافظ على الوضوء في غسله، فتكون هذه الصفة بياناً للأمر الرباني في قوله تعالى: {فاطهروا} فما كان ¬
بياناً لأمر واجب، يكون حكمه حكم ذلك الواجب، كما أن قوله سبحانه وتعالى: {وأقيموا الصلاة} (¬1)، مجمل، وجاء بيانه من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكان امتثال الصفة الورادة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صفة الصلاة واجبة؛ لكونها بياناً لأمر مجمل، وقل مثله في كثير من الأوامر المجملة في كتاب الله تعالى كما في قوله تعالى: {وآتوا الزكاة} (¬2). وأما الجمهور فيرون أن قوله تعالى {فاطهروا} أمر مبين وليس مجملاً، وكذلك قوله تعالى {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (¬3)، فالغسل ليس مبهماً، وإنما هو مبين، فأباح الله سبحانه وتعالى الصلاة بالاغتسال، فمن شرط الوضوء مع الغسل فقد زاد في الآية ما ليس فيها، ولو كان الوضوء واجباً لذكره الله سبحانه وتعالى، كما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أفتى الصحابة بالاغتسال من الجنابة، ولم يذكر لهم الوضوء في أحاديث صحيحة، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - في قصة الرجل الذي أصابته جنابة ولا ماء، قال: خذ هذا فأفرغه عليك، رواه البخاري (¬4)، فلم يطلب إلا إفراغ الماء على بدنه. وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة: «إنما كان يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين». رواه مسلم (¬5). فاكتفى بالإفاضة، ولم يذكر الوضوء، وجاء بلغة (إنما) الدالة على الحصر. ¬
وأما قول من فرق بين من أجنب، وهو محدث، وبين من أجنب وهو طاهر، فيلزم الأول الوضوء دون الثاني، قالوا: إذا كان محدثاً يلزمه الوضوء؛ لأنه قبل الجنابة لزمه الوضوء، فلا يسقط غسل الجنابة الوضوء الواجب عليه، وهذا قول ضعيف؛ لأن الأحداث تتداخل. قال القرافي في الذخيرة: «اتفق أئمة الفقه على أن الوضوء غير واجب، سواء طرأت الجنابة على الحدث، أو الطهارة، إلا الشافعي في أحد قوليه: إن كان محدثاً قبل الجنابة، واحتج عليه القاضي بدخوله معاً إذا اجتمعا، أو سبقت الجنابة، فكذلك ههنا؛ ولأن الكبرى تدخل في الكبرى، فالصغرى أولى» (¬1). وعليه فقول الجمهور هو الراجح، حتى حكى ابن جرير الإجماع على صحة الغسل بدون وضوء (¬2)، ولا تصح حكاية الإجماع مع خلاف داود وأبي ثور، وقد استكملت أدلة الفريقين وبسطتها مع المناقشة والترجيح في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، فليرجع إليه من أراد الاستزادة (¬3). ¬
المبحث الثاني موضع الوضوء من غسل الجنابة
المبحث الثاني موضع الوضوء من غسل الجنابة في المبحث السابق تبين لنا أن الجمع بين الوضوء والغسل هو السنة عند الجمهور، وفي هذا البحث نتكلم على موضع الوضوء من الغسل، فقد نص جمهور الفقهاء على استحباب تقديم الوضوء على الغسل واختلفوا في غسل الرجلين من الوضوء (¬1): فمنهم من استحب تأخير غسل رجليه إلى آخر الغسل. ومنهم من رأى غسل الرجلين مع الوضوء. ومنهم من قال: هو مخير، إن شاء غسل رجليه مع وضوئه، وإن شاء أخر غسلهما إلى آخر غسله، وسوف يأتي إن شاء الله التفصيل فيه عند الكلام على غسل الرجلين. وقيل: الوضوء بعد الغسل أفضل، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: الوضوء قبل الغسل وبعده سواء، اختاره أصحاب الشافعي (¬3)، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬4). ¬
دليل من قال الوضوء قبل الغسل
وقيل: إن نسي الوضوء قبل الغسل، فإنه يتوضأ بعد الغسل، نص عليه مالك وأحمد (¬1). دليل من قال الوضوء قبل الغسل. الدليل الأول: (1340 - 213) ما رواه البخاري من طريق مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ، فغسل يديه، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب على رأسه ثلاث غرف بيديه، ثم يفيض ¬
الدليل الثاني
الماء على جلده كله. ووراه مسلم (¬1). وفي الباب حديث ميمونة في الصحيحين (¬2). الدليل الثاني: (1341 - 214) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا شريك وزهير، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتوضأ بعد الغسل (¬3). [إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬4). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1342 - 215) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن غنيم بن قيس، عن ابن عمر، سئل عن الوضوء بعد الغسل؟ فقال: وأي وضوء أعم من الغسل (¬1). [إسناده صحيح، وروي مرفوعاً، ولا يصح] (¬2). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع من الآثار: (1343 - 216) ما رواه عبد الرزاق، عن هشيم، عن جعفر بن أبي وحشية، عن أبي سفيان، قال: سئل جابر بن عبد الله عن الجنب يتوضأ بعد الغسل؟ قال: لا، إلا أن يشاء، يكفيه الغسل (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الخامس: ذكر بعض أهل العلم أن الوضوء بعد الغسل لم يصح فيه شيء، منهم ابن رجب الحنبلي في شرحه لصحيح البخاري (¬3). دليل من قال: الأفضل بعد الغسل. لا أعلم لهم دليلاً من السنة، بل السنة على خلافه، ¬
دليل من قال: هو مخير إن شاء توضأ قبل الغسل أو بعده
(1344 - 217) ولعله يستدل له في أثر ابن عمر فيما رواه عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، قال: كان أبي يغتسل، ثم يتوضأ، فأقول: أما يجزيك الغسل؟ قال: وأي وضوء أتم من الغسل للجنب، ولكنه يخيل إلي أنه يخرج من ذكري الشيء، فأمسه، فأتوضأ لذلك. [سنده صحيح، وسبق تخريجه قبل قليل]. ولا دليل فيه؛ لأن ابن عمر إنما حمله الوضوء على الغسل لانتقاض طهارته بمس ذكره، ولم يكن سبب الوضوء هو حدث الجنابة، إلا أن يفضل أحد الوضوء بعد الغسل من باب، أنه ربما مس ذكره أثناء الغسل، فاحتاج إلى إعادة الوضوء، فيقال: هذا الاستحسان كان قائماً في حق المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ولم يره سبباً في تقديم الغسل على الوضوء، فما بالك تراه سبباً في التقديم، فاحرص على عدم مس ذكرك، فإن مسسته فلا مانع من إعادة الوضوء، والله أعلم. دليل من قال: هو مخير إن شاء توضأ قبل الغسل أو بعده. يرى أن طهارة الجنب ليس فيها ترتيب، فمن اغتسل بعد الوضوء، أو توضأ بعد الغسل فقد حصل المطلوب، من القيام بالوضوء والغسل معاً في غسل الجنابة. وإذا ثبت في حديث ميمونة تأخير غسل رجليه في الوضوء إلا أن يفرغ من غسله، فإن الوضوء في هذه الصورة لم يتم إلا بعد الفراغ من الغسل، فإذا شُرِعَ له تأخير بعض أعضاء الوضوء إلى نهاية الاغتسال، لم يمنع أن يكون مخيراً في الأعضاء الأخرى.
دليل من قال: إن نسي أن يتوضأ في أول غسله توضأ بعده
ويقال لهم: قولكم ليس فيه ترتيب، إن كنتم تقصدون أنه لا يجب الترتيب فمسلم، فإن الوضوء كله لو تركه واقتصر على الغسل، فقد ارتفع حدثه، وإن قلتم: ليس فيه ترتيب، أي مشروع، فإنه غير مسلم، فإن السنة واضحة في الصحيحين وفي غيرهما من تقديم الوضوء، وأما تأخير غسل الرجلين فإنه لا مانع أن يقال: السنة للمغتسل في القدمين التخيير بين غسل القدمين أولاً، أو تأخيرهما إلى نهاية الغسل، ولا يقاس أعضاء بقية أعضاء الوضوء عليهما، تمسكاً بالنص الوارد، مع اختلاف العلماء في علة تأخير غسل القدمين، وسوف يبحث إن شاء الله تعالى في فصل قادم، العلة في تأخير غسل القدمين، والله أعلم. دليل من قال: إن نسي أن يتوضأ في أول غسله توضأ بعده. هذا القول رأى أن النسيان عذر شرعي، والمعذور يغتفر له ما لا يغتفر لغيره، فإذا ترك الوضوء قبل الغسل معذوراً فله أن يأتي به بعد الغسل. وهذا القول في ظاهره أنه جيد، وليس كذلك، فالمعذور يكتب له الأجر؛ لأنه لم يتعمد الترك، ولا يشرع في حقه الوضوء بعد الغسل، وذلك لأن الوضوء قبل الغسل يراد به ليس الوضوء الخاص برفع الحدث الأصغر، وإنما المطلوب أن يبدأ في غسله في مواضع الوضوء، ثم يغسل سائر جسده، ولا يغسل أعضاء الوضوء مرة أخرى، أما إذا اغتسل ثم توضأ يكون قد غسل أعضاء الوضوء مرتين، مرة في الغسل، ومرة في الوضوء، وهذا لا حاجة له. وسيأتي مزيد بحث في مبحث مستقل عن نية الوضوء في الغسل، ليتبين لك أن المراد البداءة بأعضاء الوضوء، وليس الوضوء الذي سببه الحدث الأصغر، والله أعلم.
الراجح
الراجح: بعد ذكر الخلاف، ودليل كل قول، الذي يترجح لي أن السنة لا تحصل إلا بتقديم الوضوء على الغسل إلا في الرجلين، فإن شاء قدم غسل قدميه مع الوضوء، وإن شاء أخر غسلهما إلى نهاية الغسل، فإن ترك الوضوء قبل الغسل، فلا يعيده بعد الغسل، إلا أن تنتقض الطهارة الصغرى بحدث، والله أعلم.
المبحث الثالث إذا اغتسل بدون وضوء فهل يرتفع الحدث الأصغر
المبحث الثالث إذا اغتسل بدون وضوء فهل يرتفع الحدث الأصغر اختلف العلماء في هذه المسألة، فقيل: يجزئ الغسل عن الوضوء مطلقاً، سواء كان محدثاً حدثاً أصغر قبل الجنابة، أم لا، وسواء نوى رفع الحدثين معاً، أو نوى رفع الجنابة، وهذا هو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وأصح الأقوال في مذهب الشافعية (¬3)، ¬
واختاره ابن تيمية (¬1). وقيل: لا يرتفع الحدث الأصغر حتى يتوضأ، سواء توضأ قبل الغسل، أو توضأ بعده، وهو أحد قولي الشافعي (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: لا تتداخل الطهارتان الكبرى والصغرى إلا بنية، فعلى هذا، إما أن يتوضأ قبل الغسل، أو ينوي بغسله الطهارة من الحدثين، وهذا نص أحمد رحمه الله (¬4)، ووجه في مذهب الشافعية (¬5). ¬
دليل الجمهور على أنه يكفي الغسل وحده في رفع الحدثين
دليل الجمهور على أنه يكفي الغسل وحده في رفع الحدثين. الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (¬1). وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى أباح الصلاة بالاغتسال من غير وضوء، فمن شرط في صحة الغسل وجود الوضوء، أو شرط نية رفع الحدث، فقد زاد في الآية ما ليس فيها، وذلك غير جائز. الدليل الثاني: (1345 - 218) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (¬2). [حديث حسن] (¬3). وجه الاستدلال: لم يطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - للمجنب إذا وجد الماء إلا أن يمسه بشرته، فلو كان الوضوء، أو نيته واجبة لذكره الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: أن الطهارة الكبرى متضمنة للطهارة الصغرى، فالأكبر متضمن لغسل الأعضاء الأربعة، فيتداخلان، كما أن الوضوء إذا تعددت أسبابه، أو تكرر السبب الواحد تداخلا، ولم يجب لكل سبب وضوء، والغسل إذا اختلفت أسبابه، أو تكرر السبب الواحد كذلك، فالطهارة الصغرى تدخل في الطهارة الكبرى وتغني عنها. الدليل الرابع: أن تقديم الوضوء لم يكن من أجل رفع الحدث الأصغر، بل هو غسل في صورة وضوء، فتقديمه لأعضاء الوضوء بمنزلة تقديم اليمنى على اليسرى في الوضوء، والدليل على أنه توضأ بنية الغسل، ولم يكن بنية رفع الحدث الأصغر، قوله - صلى الله عليه وسلم - لأم عطية واللواتي غسلن ابنته: اغسلنها، وابدأن بمواضع الوضوء منها. متفق عليه (¬1). فجعل الأمر موجه للغسل، وجعل ابتداء الغسل إنما هو لمواضع الوضوء، فهو لم يكن وضوءاً بنية رفع الحدث، وإنما كان غسلاً مقدماً فيه أعضاء الوضوء لشرفها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بدأ بمواضع الوضوء، ثم غسل سائر جسده، لم يكن يغسل أعضاء الوضوء مرة أخرى، بل كان يكتفي بغسلها في أول الأمر، ولو كان غسله الأعضاء بنية رفع الحدث الأصغر لاحتاج إلى غسلها مرة أخرى بنية رفع الحدث الأكبر، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: ((الذين نقلوا لنا صفة غسله كعائشة رضي الله عنها ¬
دليل من قال: إذا لم ينو رفع الحدث الأصغر بالغسل لم يرتفع
ذكرت أنه كان يتوضأ، ثم يفيض الماء على شعره، ثم على سائر بدنه، ولا يقصد غسل مواضع الوضوء مرتين، وكان لا يتوضأ بعد الغسل)) (¬1). وسيأتي إن شاء الله تعالى كلام الفقهاء حول هذه المسألة بمزيد بحث في مبحث مستقل. فظهر لنا أن من فهم من الوضوء في أول الغسل، أنه أراد نية رفع الحدث الأصغر فقد أخطأ، وعليه فيكفي نية الغسل ليرتفع الحدثان، والله أعلم. دليل من قال: إذا لم ينو رفع الحدث الأصغر بالغسل لم يرتفع. (1346 - 219) ما رواه البخاري من طريق يحيى بن سعيد، قال: أخبرني محمد بن إبراهيم، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه. ورواه مسلم (¬2). وجه الاستدلال: لفظة: (إنما) للحصر، وليس المراد صورة العمل، فإنها توجد بلا نية، وإنما المراد أن حكم العمل لا يثبت إلا بالنية، ودليل آخر، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وإنما لكل امرئ ما نوى» وهذا لم يتوضأ، ولم ينو رفع الحدث الأصغر، فلا يكون له (¬3). ¬
دليل من قال: لا يرتفع الحدث الأصغر حتى يتوضأ
ويجاب: بأنه لا يمكن أن ينكر أحد تداخل بعض العبادات مع بعض، فهذه تحية المسجد مع الفرض تدخل تحية المسجد في الفرض، ولا يطالب بتحية المسجد، ومثله لو أفطر في نهار رمضان في اليوم الواحد مراراً لم يجب عليه إلا كفارة واحدة، ومثله طواف الإفاضة إذا أخره دخل فيه طواف الوداع على القول الصحيح، وهكذا، فكيف بالطهارة الصغرى والكبرى فكلاهما عبادتان من جنس واحد، فيتداخلان. دليل من قال: لا يرتفع الحدث الأصغر حتى يتوضأ. أنه يجب عليه الوضوء والغسل؛ لأنهما حقان مختلفان يجبان بسببين مختلفين، فلم يدخل أحدهما في الآخر، كحد الزنا والسرقة. ولأنه قبل الجنابة قد لزمه الوضوء، فلا يسقط غسل الجنابة الوضوء الواجب عليه. وهذا التعليل في مقابل النصوص، فلا يقبل. الراجح من الخلاف. بعد معرفة أدلة الأقوال نجد أن قول الجمهور أقوى لقوة أدلته، وضعف أدلة الأقوال الأخرى، وهناك أدلة أخرى لم أذكرها للجمهور قد ذكرتها في كتابي الحيض والنفاس فليراجع هناك (¬1) والله أعلم. ¬
المبحث الرابع في نية الوضوء في غسل الجنابة
المبحث الرابع في نية الوضوء في غسل الجنابة عرفنا فيما سبق، أن السنة: هو أن يغسل أعضاء الوضوء في ابتداء الغسل، وأنه لا يشرع له الوضوء بعد الغسل، والكلام الآن في هذا المبحث في النية، هل يتوضأ قبل الغسل بنية رفع الحدث الأصغر؟ أو يتوضأ بنية رفع الحدث الأكبر؟ وكنت قد أشرت في المسألة السابقة إلى هذه المسألة، ووعدت أن أفصل فيها كلام أهل الفقه في مبحث مستقل، وهذا أوان الوفاء بالوعد، فقيل: يتوضأ بنية رفع الحدث الأكبر، وهو مذهب المالكية (¬1)، واختاره محمد بن عقيل الشهرزوي من الشافعية (¬2)، وهو رأي ابن تيمية من الحنابلة (¬3). ¬
وقيل: يتوضأ بنية رفع الحدث الأكبر، إلا إن أحدث، ثم أجنب فإنه، ينوي بالوضوء رفع الحدث الأصغر، اختاره عمرو بن الصلاح من الشافعية (¬1). قلت: يلزم على هذا القول وجوب الوضوء مع الغسل إذا كان جنباً محدثاً، والراجح عدم وجوب الوضوء مطلقاً، وهو الصحيح حتى في مذهب الشافعية، وقد تقدم تحرير الخلاف في الفصل الذي قبل هذا. ¬
دليل من قال: يتوضأ بنية رفع الجنابة
دليل من قال: يتوضأ بنية رفع الجنابة. الدليل الأول: الدليل على أن الوضوء في غسل الجنابة، هو غسل في صورة وضوء، وأن تقديمه لأعضاء الوضوء بمنزلة تقديم اليمنى على اليسرى في الوضوء، ولم يكن بنية رفع الحدث الأصغر، قوله - صلى الله عليه وسلم - لأم عطية واللواتي غسلن ابنته: اغسلنها، وابدأن بمواضع الوضوء منها. متفق عليه (¬1). فجعل الأمر موجه للغسل، وجعل ابتداء الغسل إنما هو لمواضع الوضوء، فهو لم يكن وضوءاً بنية رفع الحدث، وإنما كان غسلاً مقدماً فيه أعضاء الوضوء لشرفها. الدليل الثاني: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من الوضوء غسل سائر جسده، ولم يغسل أعضاء الوضوء مرة أخرى، بل كان يكتفي بغسلها في أول الأمر، ولو كان غسله الأعضاء بنية رفع الحدث الأصغر، لاحتاج إلى غسلها مرة أخرى بنية رفع الحدث الأكبر، وإلا فلا يمكن أن ينوي الأصغر، ويرتفع الأكبر؛ لأن الأصغر لا يتضمن الأكبر والعكس صحيح. (1347 - 220) فقد روى البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بين شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده، ورواه مسلم (¬2). ¬
فقولها: «ثم غسل سائر جسده» أي بقية جسده، وقد ذكر الزبيدي: أن كلمة سائر الناس: أي الباقي من الناس (¬1). وله شاهد من حديث ميمونة من رواية مسلم له، في صفة غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة، وفيه: «ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه، ثم غسل سائر جسده» (¬2). والبخاري رحمه الله لا يرى غسل أعضاء الوضوء مرة أخرى، بل يتوضأ، ثم يغسل بقية بدنه، قال رحمه الله في صحيحه: ((باب: من توضأ في ¬
الجنابة، ثم غسل سائر جسده، ولم يعد غسل مواضع الوضوء فيه مرة أخرى)) (¬1). قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: «الذين نقلوا لنا صفة غسله كعائشة رضي الله عنها ذكرت أنه كان يتوضأ، ثم يفيض الماء على شعره، ثم على سائر بدنه، ولا يقصد غسل مواضع الوضوء مرتين، وكان لا يتوضأ بعد الغسل» (¬2). وقال ابن حزم رحمه الله: «وأما غسل الجنابة والوضوء، فإنه أجزأ فيهما عمل واحد، بنية واحدة لهما جميعاً، للنص الوارد في ذلك، ثم ذكر حديث ميمونة من رواية مسلم له، وفيه ((ثم غسل سائر جسده» فقال: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعد غسل أعضاء الوضوء في غسله للجنابة ..)) (¬3). ويذكر ابن عبد البر أن غسل أعضاء الوضوء في غسل الجنابة ليس من قبيل المستحب، بل هو فرض، ويقصد أن المستحب هو تقديمها في الغسل، وأما غسلها إذا قدمتها فهو فرض؛ لأنه بنية رفع الجنابة، ونية رفع الجنابة فرض. يقول ابن عبد البر في الاستذكار: «والابتداء بالوضوء في غسل الجنابة يقتضي تقديم أعضاء الوضوء في الغسل سنة مسنونة في تقديم تلك الأعضاء خاصة؛ لأنه ليس في الغسل رتبة، وليس ذلك من باب السنة التي هي غير الفرض، ولذلك لم يحتج أن يعيد تلك الأعضاء بنية الجنابة؛ لأنه بذلك غسلها، وقدم الغسل لها على سائر البدن» (¬4). ¬
فقوله: «وليس ذلك من باب السنة التي هي غير الفرض» يقصد بالسنة: الطريقة المشروعة التي يدخل فيها الفرض والمندوب، ونص هنا على أن السنة المقصود بها الفريضة. وقال ابن عبد البر في التمهيد: «وأما قوله في حديث عائشة: ((يتوضأ وضوءه للصلاة» فيحتمل أنها أرادت بدأ بمواضع الوضوء، والدليل على ذلك أنه ليس في شيء من الآثار الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم - في غسل الجنابة أنه أعاد غسل تلك الأعضاء، ولا أعاد المضمضة ولا الاستنشاق، وأجمع العلماء على أن ذلك كله لا يعاد، من أوجب منهم المضمضة والاستنشاق ومن لم يوجبها)) (¬1). فإذا كان لا يرجع إلى أعضاء الوضوء مرة أخرى، وحكى فيه ابن عبد البر الإجماع، لزم على ذلك أحد ثلاثة أمور: الأول: أما أن يكون غسله لأعضاء الوضوء كان بنية رفع الحدث الأصغر، فيلزم منه أنه لم يغسلها بنية رفع الحدث الأكبر، فيبقى الحدث الأكبر ما زال على أعضاء الوضوء؛ لأن الحدث الأصغر أدنى، فهو لا يغني عن الحدث الأكبر؛ لكونه أعلى منه وأشد، والأخف لا يتضمن الأشد. الثاني: أن يكون غسل أعضاء الوضوء بنية رفع الحدثين، فيقال: هذه دعوى، إذ لو كان هذا شرطاً لرفع الحدث الأصغر، لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبينه القرآن، فلم يذكر في القرآن إلا قوله تعالى: {حتى تغتسلوا} وقال - صلى الله عليه وسلم -: «خذ هذا فأفرغه عليك». الأمر الثالث: أن يكون غسله لأعضاء الوضوء كان بنية رفع الجنابة، وليس بنية رفع الحدث الأكبر، وهذا ما يفسر اكتفاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغسلها في الوضوء عن غسلها مرة أخرى عند غسل سائر جسده، وهذا هو المتعين. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: قد يستدل له بأنه لا يمكن رفع الحدث الأصغر، والأكبر باق، وعليه فتكون نيته في الوضوء، هي نية الغسل، وإنما بدأ بمواضع الوضوء لشرفها. وبعضهم استدل بطريقة أخرى، فقال: الوضوء في غسل الجنابة مستحب، فلو توضأ بنية الوضوء المعروف للزم منه أن يجزئ المستحب عن الواجب (¬1)، فلزم أن يكون الوضوء هو بنية الغسل، وليس بنية رفع الحدث. قلت: وهذا الاستدلال يستأنس به مع الأدلة السابقة الذكر، وإن لم يكن وحده ملزماً. دليل من قال: إن كان عليه حدث وجنابة لزمه نية رفع الحدث الأصغر. ذكرنا دليلهم في الفصل الذي قبل هذا، من إيجابهم الطهارة الصغرى، وأجبنا عليه. فالراجح: أن الوضوء يكون بنية رفع الحدث الأكبر، وليس بنية رفع الحدث الأصغر، ولو نواهما معاً لم يمنع من ذلك مانع، أما أن يكون ذلك حتم عليه، وإلا فلا يرتفع حدثه، أو يكون ذلك بنية رفع الحدث الأصغر، وهو لن يعود إلى غسل أعضائه مرة أخرى فهذا فيه نظر، والله أعلم. وثمرة الخلاف بين القولين: أن من يرى أن وضوءه هذا بنية رفع الحدث الأكبر، فلو أحدث في أثنائه بنى على وضوئه؛ لأن الترتيب في الغسل ليس بشرط، وأي عضو تم غسله، فقد فرغ منه، وبقي عليه غسل الباقي، كما أنه لو أحدث في أثناء غسله لم يؤثر ذلك في غسله، بل يتمه ويجزيه. ¬
ولذلك نص المالكية على أن وضوء الغسل لا يبطله إلا الجماع: قال في الشرح الصغير: «وضوء الجنب لا يبطله إلا الجماع، بخلاف وضوء غيره فإنه ينقضه كل ناقض مما تقدم» (¬1). وإنما كان لا يبطله إلا الجماع لأنه لم يكن وضوءاً، وإنما كانت صورته صورة الوضوء، والله أعلم. ¬
المبحث الخامس في التثليث في وضوء الغسل
المبحث الخامس في التثليث في وضوء الغسل اختلف العلماء في وضوء الغسل، هل يغسل أعضاء الوضوء مرة واحدة، أو يغسلها ثلاثاً، كما هو في الوضوء المستقل عن غسل الجنابة؟ فقيل: يسن في وضوء الغسل أن يكون ثلاثاً ثلاثاً. وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وبه قال سفيان الثوري (¬4)، وإسحاق بن راهويه (¬5)، ووجه في مذهب المالكية (¬6). وقيل: يتوضأ مرة مرة، وهو المشهور في مذهب المالكية (¬7). ¬
وقال ابن رجب: لم ينص أحمد إلا على تثليث غسل كفيه ثلاثاً، وعلى تثليث صب الماء على الرأس (¬1). اهـ. وينبغي أن يتفطن أن هذه المسألة غير مسألة التثليث في غسل البدن، وسوف تأتي هذه إن شاء الله تعالى. وقد ذكرت أدلة هذه الأقوال بشيء من التفصيل في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية (¬2)، فأغنى عن إعادته هنا، وقد رجحت في ذلك أنه لا يشرع التثليث في وضوء الغسل؛ لأن هذا الوضوء جزء من غسل البدن، وإنما صورته صورة الوضوء، كما تقدم بيانه في الفصل السابق، والبدن لا يشرع فيه التثليث كما سوف يتبين إن شاء الله تعالى في مبحث مستقل من هذا الباب، إلا في غسل الكفين في ابتداء الغسل، فإنه يشرع فيهما التثليث، (1348 - 221) لما روى البخاري من طريق عبد الواحد، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، قال: قالت ميمونة: وضعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ماء للغسل، فغسل يديه مرتين أو ثلاثاً ... وذكر بقية الحديث. ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬3). وروى مسلم من طريق وكيع، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة فبدأ، فغسل كفيه ثلاثاً ... الحديث (¬4). ¬
وكأن غسل الكفين سنة مستقلة في ابتداء الطهارة، يغسلهن ثلاثاً إن أراد وضوءاً، أو أراد غسلاً، قبل إدخال يديه في الإناء، حتى ولو كانت اليد نظيفة، ويجب غسلهما في حالتين: إن كان في اليد نجاسة، أو كان قائماً من نوم الليل، ويستحب غسلهما في غير ذلك، والله أعلم. وقد بحثت مسألة حكم غسل اليدين بعد الاستيقاظ من النوم في كتاب أحكام الطهارة: في مباحث المياه، فأغنى عن إعادته هنا. وكذلك يستحب التثليث في غسل الرأس، وسوف يأتي بحثه في فصل مستقل إن شاء الله تعالى، وأما ما عدا الكفين والرأس فلا يستحب التثليث على الصحيح من أقوال أهل العلم.
الفصل الثامن في استحباب المضمضة والاستنشاق في الغسل
الفصل الثامن في استحباب المضمضة والاستنشاق في الغسل اختلف أهل العلم في حكم المضمضة والاستنشاق في الغسل، فقيل: المضمضة والاستنشاق سنة في الوضوء والغسل، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2). وقيل: واجبان في الوضوء والغسل، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬3). هذان قولان متقابلان. وفيه قولان آخران متقابلان أيضاً: فقيل: المضمضة والاستنشاق سنة في الوضوء، واجبان في الغسل، وهذا مذهب الحنفية (¬4). ¬
وقيل: واجبان في الوضوء دون الغسل (¬1). وقيل: المضمضة سنة، والاستنشاق واجب فيهما (¬2). والراجح: أن المضمضة والاستنشاق سنة في غسل الجنابة، فقد روى البخاري من حديث طويل، في قصة الرجل الذي أصابته جنابة ولا ماء، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: خذ هذا فأفرغه عليك (¬3). (1350 - 223) وروى مسلم عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬4). فعبر بـ «إنما» الدالة على الحصر، واكتفى بالإفاضة ولم يذكر المضمضة والاستنشاق. وقد بسطت الكلام في المسألة، وناقشت أدلة الأقوال في بحث مطول، فأغنى عن إعادته هنا، فارجع إليه غير مأمور في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية (¬5). ¬
الفصل التاسع في السنن الواردة في غسل الرأس
الفصل التاسع في السنن الواردة في غسل الرأس نحتاج في الكلام على السنن الواردة في غسل الرأس إلى الكلام على جملة من المسائل: الأولى: هل يمسح الرأس في وضوء غسل الجنابة، أو لا يمسح باعتبار أن فرضه الغسل، وهو أعلى من المسح؟ الثانية: حكم تخليل الشعر في غسل الجنابة، ومنه شعر الرأس. الثالثة: استحباب التثليث في مسح الرأس. الرابعة: هل يوجد فرق بين الرجل والمرأة في عدد غسلات الرأس. الخامسة: هل تنقض الضفائر في غسل الجنابة؟ السادسة: في حكم المسترسل من الشعر، هل يجب غسل ظاهره وباطنه؟ فهذه ستة مسائل متعلقة بالرأس في غسل الجنابة، وأسأل الله سبحانه وتعالى عونه وتوفيقه، إنه على كل شيء قدير.
المبحث الأول ما السنة في وضوء الغسل غسل الرأس أو مسحه؟
المبحث الأول ما السنة في وضوء الغسل غسل الرأس أو مسحه؟ علمنا فيما سبق أن غسل أعضاء الوضوء سنة في ابتداء الغسل، وأن أعضاء الوضوء تغسل بنية رفع الجنابة، ومعلوم أن أعضاء الوضوء منها ما هو مغسول كالوجه واليدين والرجلين، ومنها ما هو ممسوح كالرأس، هذا في رفع الحدث الأصغر، فهل يمسح الرأس في وضوء رفع الحدث الأكبر، أو يكون السنة فيه الغسل؟ أما الوضوء في رفع الحدث الأصغر، فالمشروع فيه المسح بلا خلاف بين أهل العلم، واختلفوا هل يجزئ الغسل على ثلاثة أقوال: قيل: لا يجزئ مطلقاً. وقيل: يجزئ مع الكراهة. وقيل: يجزئ إن مر بيده على رأسه. وقد تقدم بحثها في كتاب الوضوء من هذه السلسلة وذكرنا مستمسك كل قول مع مناقشتها في الكلام على فروض الوضوء. وأما في غسل الجنابة، فهل يمسح الرأس في وضوء الغسل؟ أو يكتفي في غسل الرأس بدلاً من مسحه؟ في هذا خلاف بين أهل العلم، فقيل: لا يمسح الرأس، بل يكتفي بغسله؛ إذ لا فائدة من مسحه، وهو سوف يغسل، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة (¬1)، ورواية ابن وهب عن ¬
مالك (¬1)، وهو نص الإمام أحمد رضي الله عنه كما في المسائل (¬2)، ونص عليه إسحاق (¬3). وقال ابن رجب: «غسل الرأس في الوضوء يجزئ عن مسحه، لكنه في الوضوء المفرد مكروه، وفي الوضوء المقرون بالغسل غير مكروه» (¬4). وقيل: يمسح الرأس في وضوء الغسل، وهو مذهب الجمهور (¬5). ¬
دليل من قال: لا يمسح رأسه بل يغسله
دليل من قال: لا يمسح رأسه بل يغسله. الدليل الأول: كل الأحاديث التي فصلت وضوء غسل الجنابة تذكر صراحة غسل الرأس، وليس في حديث منها ذكر للمسح، من ذلك: (1351 - 224) ما رواه البخاري من طريق عبد الواحد، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، قال: قالت ميمونة رضي الله عنها: وضعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ماء للغسل، فغسل يديه مرتين أو ثلاثاً، ثم أفرغ على شماله، فغسل مذاكيره، ثم مسح بيده الأرض، ثم مضمض واستنشق، وغسل وجهه ويديه، ثم أفاض على جسده، ثم تحول من مكانه، فغسل قدميه. وهو في مسلم بغير هذا اللفظ. فانظر كيف قالت رضي الله عنها: «غسل وجهه ويديه، ثم أفاض على جسده» فلو كان الرأس يمسح كيف تذكر المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه واليدين، ثم تذكر غسل الرجلين، ولا تذكر مسح الرأس؟ فدل على أن المشروع هو الغسل، ولا معنى لمسح الرأس في عضو سوف يغسل ثلاث مرات، وأي مسح أبلغ من الغسل؟ الدليل الثاني: قد بينت في فصل سابق، أن هذا الوضوء لم يكن بنية رفع الحدث، وإنما هو جزء من الغسل الواجب قُدِّمَ فيه أعضاء الوضوء لشرفها، كتقديم اليمين بالنسبة للشمال، ولن يرجع إلى أعضاء الوضوء مرة أخرى، وإذا كان هذا الوضوء بنيه رفع الجنابة لم يكن فيه شيء ممسوح؛ لأن غسل الجنابة على اسمه غسل، وليس مسحاً، وهذا يوضح بجلاء كيف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يمسح رأسه؟ وإنما أفاض عليه الماء حين بلغ الرأس، والله أعلم.
دليل من قال: يمسح رأسه، ثم يغسله
دليل من قال: يمسح رأسه، ثم يغسله. (1352 - 225) استدلوا بما رواه البخاري في صحيحه من طريق عبد الله، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده، رواه البخاري واللفظ له، ومسلم (¬1). وجه الاستدلال: قولها رضي الله عنها: «توضأ وضوءه للصلاة» يراد به الوضوء الكامل، ومنه مسح الرأس. ويجاب عن هذا الحديث: قولها رضي الله عنها: «توضأ وضوءه للصلاة» مجمل، قد يراد به الوضوء الكامل، وقد يقال: باعتبار الأغلب، فهذه ميمونة رضي الله عنها تقول: «توضأ وضوءه للصلاة» والمراد الأغلب، وليس كل أعضاء الوضوء، (1353 - 226) فقد روى البخاري من طريق سفيان، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة، فغسل فرجه بيده، ثم دلك بها الحائط، ثم غسلها، ثم توضأ وضوءه للصلاة، فلما فرغ من غسله غسل رجليه. رواه البخاري واللفظ له، ومسلم (¬2). ¬
فإذا صح أن تقول ميمونة رضي الله عنها: «توضأ وضوءه للصلاة» والمراد غير رجليه، صح أن قول عائشة رضي الله عنها: «توضأ وضوءه للصلاة» أي وغسل رأسه بدلاً من مسحه، خاصة أن الرأس لم يترك حتى يستثنى، بل غسل غسلاً، وهو مسح وزيادة، وكوننا نحمل حديث عائشة على حديث ميمونة في صفة غسل الرأس، أولى من حمله على صفتين، خاصة أننا لم نقف على حديث واحد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصرح بمسح الرأس في غسل الجنابة، بل جاء عن عائشة ما يوافق حديث ميمونة عندما ذكر الوضوء بشيء من التفصيل، (1354 - 227) فقد روى أحمد رحمه الله، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، قال: سمعت أبا سلمة، قال: دخلت على عائشة، فسألتها عن غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة؟ قالت: كان يؤتى بإناء، فيغسل يديه ثلاثاً، ثم يصب من الإناء على فرجه، فيغسله، ثم يفرغ بيده اليمنى على اليسرى، فيغسلها، ثم يمضمض ويستنشق، ثم يفرغ على رأسه ثلاثاً، ثم يغسل سائر جسده (¬1). [حديث حسن، وشعبة روى عن عطاء قبل تغيره] (¬2). ¬
الراجح من خلاف أهل العلم
فهذا حديث عائشة حين ذكر الوضوء فيه مفصلاً، ذكر غسل الرأس بدلاً من مسحه، وهو يؤكد أن قوله: «توضأ وضوءه للصلاة» أن ذلك يدخل فيه الرأس، ولكن بالغسل، وليس بالمسح، كما في رواية ميمونة، وكما في حديث عائشة من رواية أبي سلمة عنها، والله أعلم. الدليل الثاني على أن الرأس يمسح في الوضوء. (1355 - 228) ما رواه البخاري من طريق سفيان، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة، قالت: توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءه للصلاة غير رجليه ... وذكرت الحديث. ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬1). فالاستثناء معيار العموم، فمعنى ذلك أنه لم يستثن إلا الرجلين، فدل على أن الرأس يمسح. قلت: هذا الحديث ليس صريحاً، نعم فيه دليل على أن الرأس لم يترك كما ترك غسل الرجلين، ولكنه ليس صريحاً أنه مسح رأسه، فقد يكون غسل رأسه، وهو مسح وزيادة، خاصة أن رواية أبي سلمة، عن عائشة عندما فصلت الوضوء في حديث عائشة، ذكرت أنه غسل رأسه، وكذلك جاء في حديث ميمونة، والله أعلم. الراجح من خلاف أهل العلم: الذي يظهر لي أن الراجح من كلام أهل العلم هو القول بغسل الرأس؛ إذ لا فائدة ترجى من المسح، وهو يريد غسله، فيدخل المسح بالغسل، لكون الغسل أعلى، والمقصود واحد، وهو رفع الجنابة، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في تخليل الشعر في غسل الجنابة، ومنه شعر الرأس
المبحث الثاني في تخليل الشعر في غسل الجنابة، ومنه شعر الرأس. تكلمنا عن تخليل الشعر في الوضوء، وكان محل التخليل في الوضوء هو خاص في اللحية؛ لأن شعر الرأس في الوضوء يمسح مسحاً، فلا حاجة فيه إلى التخليل، وانتهينا إلى أن الراجح أن التخليل ليس بسنة، ولا يصح فيه حديث. وأما في الغسل، فإن عندنا مع شعر اللحية شعر الرأس، فهل يشرع لهما التخليل، أو لا؟ قال مالك: «ولم يأت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله في وضوئه، وجاء أنه خلل أصول شعره في الجنابة» (¬1). الأصل في هذا الباب هو حديث عائشة رضي الله عنها. (1356 - 229) فقد روى البخاري من طريق مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة بدأ بغسل يديه، ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب الماء على رأسه ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على جلده كله. فقول عائشة رضي الله عنها: «ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول شعره» نص على تخليل شعر الرأس. (1357 - 230) ورواه مسلم من طريق أبي معاوية، عن هشام به، وفيه: ¬
«ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء، فيدخل أصابعه في أصول الشعر، حتى إذا رأى أن قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه» (¬1). قال ابن رجب في شرح البخاري: «وهذه سنة عظيمة من سنن غسل الجنابة، ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يتنبه لها أكثر الفقهاء، مع توسعهم للقول في سنن الغسل وآدابه، ولم أر من صرح به منهم، إلا صاحب المغني من أصحابنا، وأخذه من عموم قول أحمد: الغسل على حديث عائشة، وكذلك ذكره صاحب المهذب من الشافعية» (¬2). ويمكن أيضاً يستدل بمشروعية تخليل الشعر بالقياس على غسل الحيض، فإن غسل الحيض وغسل الجنابة متشابهان في كثير من الأحكام، وبجامع أن كلاً منهما حدث أكبر، (1358 - 231) فقد روى مسلم في صحيحه من طريق إبراهيم بن المهاجر، قال: سمعت صفية تحدث، عن عائشة، أن أسماء بنت شكل سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسل المحيض؟ فقال: «تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها، فَتَطَهَّر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها، فتدلكه دلكاً شديداً، حتى تبلغ شؤون رأسها ...» الحديث (¬3)، والحديث ورواه البخاري بأخصر من هذا (¬4). ¬
قلت في مذهب المالكية قولان في تخليل اللحية: قال أشهب: عن مالك: «وعليه تخليل لحيته في غسل الجنابة. قيل له في موضع آخر: أيخللها في غسله من الجنابة؟ قال: نعم، ويحركها، واحتج في الموضعين بأن النبي عليه السلام خلل أصول شعر رأسه، وكذلك روى عنه ابن القاسم، وابن وهب في المجموعة، بأنه يخلل لحيته في الغسل ويحركها» (¬1). وقال ابن حبيب: «ومن ترك تخليل لحيته في ذلك وأصابع رجليه لم يجزه» (¬2). وجه وجوب التخليل: قال الباجي: «وجه قول أشهب: قول عائشة في هذا الحديث:» ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول شعره. ومن جهة المعنى: أن استيعاب جميع الجسد في الغسل واجب، والبشرة التي تحت اللحية من جملته، فوجب إيصال الماء إليها ومباشرتها بالبلل، وإنما انتقل الفرض إلى الشعر في الطهارة الصغرى؛ لأنها مبنية على التخفيف، ونيابة الأبدال فيها من غير ضرورة، ولذلك جاز فيها المسح على الخفين، ولم يجز في الغسل)) (¬3). قلت: القول بوجوب التخليل قد يتمشى مع مذهب مالك القائل بوجوب الدلك في الغسل، ولكن الراجح أن تخليل أصول الشعر ليس بواجب لما يلي: ¬
أولاً: أن هذه الصفة لم يأت فيها أمر شرعي، كما لو قال: خللوا شعوركم أو نحو ذلك، وإنما هي حكاية فعل، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، كما في القواعد الأصولية. ثانياً: أن هناك أحاديث كثيرة أخرى، تنقل لنا صفة الغسل من الجنابة من قوله، ومن فعله - صلى الله عليه وسلم -، وليس فيها ذكر التخليل، أما الأحاديث القولية: فمنها: قوله - صلى الله عليه وسلم - في قصة الرجل الذي أصابته جنابة، ولا ماء، قال له: «خذ هذا فأفرغه عليك» قطعة من حديث طويل رواه البخاري (¬1)، فلم يطلب إلا إفراغ الماء على بدنه. (1359 - 232) ومنها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة: «إنما كان يكفيك إن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين». رواه مسلم (¬2)، فاكتفى بالإفاضة، ولم يذكر التخليل. وأما الأحاديث الفعلية: وهي التي تحكي لنا فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فمنها وأشهرها حديث ميمونة: (1360 - 233) فقد رواه البخاري رحمه الله، عنها، قالت: وضعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ماء للغسل، فغسل يديه مرتين أو ثلاثاً، ثم أفرغ على شماله، فغسل مذاكيره، ثم مسح يده بالأرض، ثم مضمض واستنشق، وغسل وجهه ويديه، ثم أفاض على جسده، ثم تحول من مكانه، فغسل قدميه، وراه مسلم، واللفظ للبخاري (¬3). ¬
القول الثاني في مذهب مالك: أنه ليس عليه تخليل لحيته. روى ابن القاسم، عن مالك: ليس على المغتسل من الجنابة تخليل لحيته (¬1). قال الباجي: «وجه رواية ابن القاسم: أن الفرض قد انتقل إلى الشعر النابت على البشرة، فوجب أن يسقط حكم إيصال الماء إلى البشرة بإمرار اليد عليها» (¬2). قلت: إن كان نفي التخليل المقصود به نفي الوجوب، فذاك مسلم، وإن كان تعليل الباجي قد يفهم منه، أن إيصال الماء إلى البشرة قد سقط، وليس بمشروع، فإن كان هذا هو المقصود، فحديث عائشة رد عليه، وهو يفيد استحباب تخليل أصول شعر الرأس في الغسل، ولا يفيد الوجوب كما أسلفنا، وقد ترجم النسائي رحمه الله تعالى في سننه، في كتاب الطهارة، قال: باب: تخليل الجنب رأسه، ثم ساق حديث عائشة رضي الله عنها، وهو يدل على أن الاستحباب ما زال محكماً في غسل الجنابة، والله أعلم. وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: «قوله: ((ثم يخلل بيديه شعره» التخليل ههنا: إدخال الأصابع فيما بين أجزاء الشعر، ورأيت في كلام بعضهم إشارة إلى أن التخليل، هل يكون بنقل الماء، أو بإدخال الأصابع مبلولة بغير نقل الماء؟ وأشار به إلى ترجيح نقل الماء؛ لما وقع في بعض الروايات الصحيحة في كتاب مسلم: «ثم يأخذ الماء، فيدخل أصابعه في أصول شعره» فقال هذا القائل: نقل الماء لتخليل الشعر: هو رد على من يقول: يخلل بأصابعه مبلولة ¬
بغير نقل الماء، قال: وذكر النسائي في السنن ما يبين هذا، فقال: باب تخليل الجنب رأسه، وأدخل حديث عائشة رضي الله عنها فيه، فقالت فيه: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرب رأسه، ثم يحثي عليه ثلاثاً». قال: فهذا يبين أن التخليل بالماء. قال النووي: وفي الحديث دليل على أن التخليل يكون بمجموع الأصابع العشر، لا بالخمس)) (¬1). ¬
المبحث الثالث استحباب التثليث في غسل الرأس
المبحث الثالث استحباب التثليث في غسل الرأس ذكرنا فيما سبق عند الكلام على وضوء الغسل أنه يتوضأ مرة واحدة بنية غسل الجنابة، ولا يشرع له تثليث الوضوء، إلا في غسل الكفين، فقد ثبت أنه غسلهما ثلاثاً، والكلام الآن في غسل الرأس، هل يشرع التثليث في غسله؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم، فقيل: يشرع غسل الرأس ثلاث مرات، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وقول في مذهب المالكية (¬4). ¬
دليل الجمهور على استحباب التثليث في غسل الرأس
وقيل: ليس فيه عدد معتبر، وإنما المطلوب أن يغسل رأسه، ويسبغ الغسل بدون توقيت عدد معين، فإذا بلغ الماء إلى بشرة الرأس فقد أدى ما عليه. وهذا نص مالك في المدونة (¬1). وقد نص القرطبي (¬2)، والقاضي عياض (¬3)، على أن التكرار في الغسل غير مشروع حتى في غسل الرأس. دليل الجمهور على استحباب التثليث في غسل الرأس. (1361 - 234) ما رواه البخاري من طريق عبد الله، قال: أخبرنا هشام، عن أبيه، عن عائشة، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة، غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيديه شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده، ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬4). ¬
فقوله رضي الله عنها: «أفاض عليه الماء ثلاث مرات» ظاهره أنه أفاضه على جميع رأسه، مما يدل على تعميم الرأس بكل غرفة. وراه البخاري من طريق مالك، عن هشام، وفيه: «ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه» (¬1). فالصب ظاهره على جميع الرأس، وبكفيه كليهما. (1361 - 235) وروى مسلم من طريق سليمان بن صرد، عن جبير بن مطعم، قال: تماروا في الغسل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال بعض القوم: أما أنا فإني أغسل رأسي كذا وكذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما أنا فأفيض على رأسي ثلاث أكف. رواه مسلم (¬2). وفي لفظ للبخاري: «فأفيض على رأسي ثلاثاً»، وأشار بيديه كلتيهما (¬3). فذه الرواية تدل على أن الغرفة كانت بكلتا يديه، وأنه أفاض على كل واحدة منها على جميع رأسه. (1363 - 236) وروى البخاري رحمه الله من طريق أبي جعفر، قال: قال لي جابر بن عبد الله: أتاني ابن عمك، يعرض بالحسن بن محمد بن الحنفية، قال: كيف الغسل من الجنابة؟ فقلت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذ ثلاثة أكف، ويفيضها على رأسه، ثم يفيض على سائر جسده، فقال لي الحسن: ¬
دليل من قال: لا يشرع التكرار في غسل الرأس
إني رجل كثير الشعر، فقلت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر منك شعراً (¬1). دليل من قال: لا يشرع التكرار في غسل الرأس. ذهب القرطبي والقاضي عياض من المالكية إلى أنه لا يشرع التكرار في غسل الجنابة، لا في وضوء الغسل، ولا في الرأس، ولا في سائر البدن. وأجابوا عن الأحاديث السابقة بأنها لا تسلم إلا إذا دلت صراحة أن كل غرفة من الغرفات الثلاث حصل بها تعميم الرأس بالغسل. قال الباجي: «قوله: ((ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات» يحتمل أن يكون على ما شرع في الطهارة من التكرار، ويحتمل أن يكون لتمام الطهارة؛ لأن الغرفة لا تجزئ في استيعاب ما يحتاج إليه من غسل رأسه)) (¬2). وقال القرطبي في المفهم: «ولا يفهم من هذه الثلاث حفنات، أنه غسل رأسه ثلاث مرات؛ لأن التكرار في الغسل غير مشروع؛ لما في ذلك من المشقة، وإنما كان ذلك العدد؛ لأنه بدأ بجانب رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم على وسط رأسه، كما في حديث عائشة». (1364 - 237) قلت: حديث عائشة رواه مسلم من طريق القاسم، عنها، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب، فأخذ بكفه: بدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم أخذ بكفيه، فقال بهما على رأسه (¬3). ¬
ولفظ البخاري: «فأخذ بكفه، فبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، فقال بهما على وسط رأسه» (¬1). وتعقب ابن رجب كلام القرطبي في شرحه لصحيح البخاري، فقال عن كلامه: وهو خلاف الظاهر، قال: «والظاهر، والله أعلم أنه يعم رأسه بكل مرة، ولكن يبدأ في الأولى بجهة اليمين، وفي الثانية: بجهة اليسار، ثم يصب الثالثة على الوسطى» (¬2). قلت: كلام ابن رجب هو الذي خلاف الظاهر، فلو كان المقصود هو فقط البداءة باليمين إلى نهاية الرأس، فلماذا يقدم الجهة اليسرى على وسط الرأس، فإن الجانب الأيسر لا يعرف في الشرع تقديمه على غيره، وكان الأفضل بعد تقديم الجهة اليمنى أن يبدأ بأعلى الرأس، فالظاهر أنه بدأ بجوانب الرأس مقدماً فيه اليمين لاستحباب تقديم اليمين، ثم أنهى ذلك بأعلى الرأس، ثم هي غرفة واحدة، كيف تكفي في كل مرة من جانب الرأس الأيمن إلى أعلاه، وصولاً إلى جانبه الأيسر وانتهاء بمؤخرة الرأس؟ فلو كانت هذه الصفة هي المنقولة، لجاءت صريحة في الحديث، ثم القول بعدم تثليث الرأس يطرد مع بقية أعمال الغسل، فقد ثبت لنا أن الوضوء ليس فيه تكرار، وسبق بحثه، وأن سائر البدن فيما عدا الرأس لا يشرع فيه تكرار، كما سيأتي إثباته إن شاء الله تعالى، فما بال الرأس يستثنى من سائر الجسم، فالقول بعدم تكرار غسله متسق مع القول بأنه لا يشرع تكرار في سائر أحكام الغسل، وكنت فيما سبق أرى سنية غسل الرأس ثلاثاً، ثم بعد التأمل رأيت أن القول بعدم تكرار غسل الرأس، هو الراجح، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع هل يوجد فرق بين الرجل والمرأة في عدد غسلات الرأس
المبحث الرابع هل يوجد فرق بين الرجل والمرأة في عدد غسلات الرأس الأحاديث المرفوعة في غسل الرأس للمرأة تذكر ثلاث غرفات، لا فرق بين الرجل والمرأة في ذلك. (1365 - 238) فقد روى مسلم عن أبي الزبير عبيد بن عمير، قال: بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، فقالت: يا عجباً لابن عمرو، هذا يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟ لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، ولا أزيد أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات (¬1). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة في صحيح مسلم: «إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء، فتطهرين» (¬2). فهذا نص مرفوع أن عائشة لا تزيد على ثلاث إفراغات، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يغتسل معها. (1366 - 239) وروى البخاري من طريق صفية بن شيبة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كنا إذا أصاب إحدانا جنابة، أخذت بيديها ثلاثاً فوق رأسها، ثم تأخذ بيدها على شقها الأيمن، وبيدها على شقها الأيسر (¬3). ¬
فظاهر هذا الأثر أنها تصب على رأسها خمس حفنات، إلا أن الأثر جاء بصيغة «كنا نفعل» ولم تضف ذلك إلى زمن النبوة، فهل له حكم الرفع، أو يكون موقوفاً؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم. وقد بينت في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية كلام أهل العلم حول الحديثين، وهل يؤخذ منه أن في غسل رأس المرأة صفتين، تارة بثلاث غرفات، وتارة بخمس، أو السبيل الترجيح بين ما ورد، أرجو مراجعة ما كتب هنالك لمن أراد الاستزادة، والله أعلم (¬1). ¬
المبحث الخامس هل تنقض الضفائر في غسل الجنابة
المبحث الخامس هل تنقض الضفائر في غسل الجنابة. كانت المرأة العربية من عصر البنوة إلى عهد قريب، وهي تربي شعرها، حتى يكون لها ضفائر تنزل على ظهرها، فإذا أرادت المرأة أن تغتسل للجنابة أو للحيض، فهل عليها أن تنقض شعرها، ليتخلل الماء شعرها؟ أو يمكنها أن تغسل رأسها، ولو كانت لم تحل ضفائرها؟ وكذلك بعض الأعراب من أهل البادية يترك شعره حتى يكون له ضفائر طويلة، فهل إذا أراد أن يغتسل من الجنابة كان لزاماً عليه أن يحل ضفائره؟ في هذا المسألة اختلف الفقهاء: فقيل: لا تنقض المرأة ولا الرجل رأسه مطقاً، لا في غسل الجنابة ولا في غسل الحيض. وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3). ¬
وقيل: يجب على الرجل نقض شعره بخلاف المرأة، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: في التفريق بين غسل الجنابة والحيض، فلا يجب نقضه في الجنابة ويجب في غسل الحيض، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2)، واختاره الباجي من المالكية (¬3)، وابن حزم من الظاهرية (¬4). والراجح القول الأول، وقد ذكرت أدلة الأقوال وناقشتها في كتابي الحيض والنفاس فأغنى عن إعادته هنا، والله الموفق (¬5). ¬
المبحث السادس في حكم المسترسل من الشعر هل يجب غسل ظاهره وباطنه
المبحث السادس في حكم المسترسل من الشعر هل يجب غسل ظاهره وباطنه إذا رجحنا أنه لا يجب عليها نقض الضفائر، فهل يجب غسل ظاهر الشعر وباطنه؟ أو يجب غسل ظاهره فقط؟ أو يجب غسل أصول الشعر (بشرة الشعر) دون المسترسل؟ هذه مسألة اختلف فيها العلماء: فقيل: يجب غسل ما استرسل من الشعر، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: لا يجب، وهو مذهب الحنفية (¬4)، واختاره ابن قدامة من الحنابلة (¬5). وهذا القول هو الراجح، والقول الأول أحوط، وقد ذكرت أدلتهما في كتاب الحيض والنفاس فأغنى عن إعادته هنا (¬6). ¬
الفصل العاشر استحباب التيامن في الاغتسال
الفصل العاشر استحباب التيامن في الاغتسال أما التيامن في غسل الرأس ففيه دليل خاص: (1367 - 240) فقد روى مسلم من طريق القاسم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب، فأخذ بكفه، بدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه. رواه البخاري، ومسلم واللفظ لمسلم (¬1). وأما التيامن في البدن فالأحاديث كلها تنص على إفاضة الماء على البدن، ولم تذكر أنه بدأ بشقه الأيمن، ثم الأيسر. فحديث عائشة في صفة غسل النبي - صلى الله عليه وسلم -، في البخاري: «ثم يفيض الماء على جلده كله» (¬2). ولفظ مسلم «ثم أفاض على سائر جسده» (¬3). وفي رواية أخرى للبخاري «ثم غسل سائر جسده» (¬4). وكذا قالت ميمونة رضي الله عنها في صفة غسل النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬
وقد وصفت عائشة وميمونة رضي الله عنهما كل شيء في غسله، من غسل الكفين ثلاثاً، ثم غسل الفرج، ثم وضوء الصلاة بتقديم اليد اليمنى على اليد اليسرى، والرجل اليمنى على اليسرى، ثم تخليل أصول الشعر، ثم غسل الرأس بثلاث غرفات، ثم غسل القدمين بعد الفراغ من الغسل، فهل يمكن أن يفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - التيامن في غسل البدن، من تقديم الشق الأيمن، ثم الأيسر، ولا ينقلان ذلك، بل إن عائشة نقلت تقديم غسل الجانب الأيمن من الرأس، ثم الجانب الأيسر منه، ثم وسط الرأس، ولما كان التيامن في غسل الرأس مشروعاً، حفظ لنا بالنقل الخاص الصريح، فهل نحن بحاجة إلى استخدام عمومات، أو استخدام القياس في استحباب التيامن في غسل البدن، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل عند أزواجه، وينقلان لنا صفة غسله، ثم لا ينقلان لنا التيامن في غسل البدن؟ إن التيامن إما أن يكون مشروعاً، فيكون أولى الناس بفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتكون أمهات المؤمنين قد أهملن نقل هذه الصفة لنا من فعله - صلى الله عليه وسلم -؟ وإما أن يكون التيامن غير مشروع، ويكون تركهن لنقل التيامن في غسله دليلاً على أنه لم يكن يفعل هذه الصفة، وما تركه عليه الصلاة والسلام كانت السنة تركه، والله أعلم، إنني أبحث عن حديث صحيح صريح في استحباب تقديم الشق الأيمن في غسل البدن من الجنابة، وفي استحباب تأخير الشق الأيسر منه، إن الذي أراه أن البدن عضو واحد، والعضو الواحد الأصل فيه عدم تقسيمه إلى أيمن وأيسر، نعم ورد هذا في الرأس على خلاف الأصل، فنقتصر عليه، ولا نتعداه، انظر إلى الأذنين في الوضوء لما كانت من الرأس بحكم العضو الواحد مسحا جميعاً دون تقصد في تقديم اليمنى على اليسرى،
مع أنه لو قيل في التيامن في مسح الأذنين لم يبعد؛ لأن الأذنين في واقع الأمر عضوان مستقلان، فما بالك بالبدن الذي هو عضو واحد، فإذا كان الأمر ليس فيه حديث صريح في غسل الجنابة والحيض، فهل يقاس غسل الجنابة على غسل الميت، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم عطية رضي الله عنها: «ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها». رواه البخاري ومسلم (¬1). فهل كان غسل الجنابة لا يتكرر فعله من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى نضطر إلى القياس في عبادة كانت تفعل كثيراً في بيوت أمهات المؤمنين، ونقلن رضي الله عنهن ما شاهدنه من فعله عليه الصلاة والسلام، ولم يذكرن في حديث واحد، أنه كان يبدأ بالشق الأيمن على الشق الأيسر؟ (1368 - 241) أو نحتاج إلى أخذ استحباب التيامن، بما رواه البخاري، ومسلم (¬2)، من طريق شعبة، عن الأشعث بن سليم، سمعت أبي يحدث عن مسروق، عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله. أليس هذا الحديث مطلقاً، وليس نصاً في غسل الجنابة؟ فلماذا لم يؤخذ من هذا الحديث المطلق استحباب تقديم الأذن اليمنى على الأذن اليسرى، وذهب الفقهاء إلى أنهما يمسحان معاً، أو ذهب الفقهاء إلى استحباب تقديم الجانب الأيمن في مسح الرأس في الحدث الأصغر، خاصة أن التيامن في الرأس محفوظ في غسل الجنابة، فإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد فعل التيامن في غسل بدنه ¬
من الجنابة، فلماذا لم تنقله عائشة وميمونة وغيرهما؟ وإذا كان لم يفعله فلماذا نستحب فعله اتكاء على حديث لم يكن سياقه في غسل الجنابة؟ فإن كانت المسألة إجماعاً في تقديم غسل الجانب الأيمن على الجانب الأيسر فهذا مسلم للإجماع؛ لأنه من الأدلة الشرعية، وإن لم يكن مسلماً فإني أترك هذه المسألة ليتأملها الباحثون وطلبة العلم، فيوجدوا أجوبة لما ذكرته، والله أعلم.
الفصل الحادي عشر في حكم غسل البدن ثلاث مرات
الفصل الحادي عشر في حكم غسل البدن ثلاث مرات تبين لنا في المبحث السابق أن الوضوء في غسل الجنابة لا يشرع فيه التثليث، واختلف العلماء في غسل البدن، هل يستحب التثليث فيه أو لا؟ فقيل: يستحب، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: لا يستحب، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬4)، واختاره ¬
ابن تيمية من الحنابلة (¬1). وهذا القول هو الراجح، وسبق أن بينت أن وضوء غسل الجنابة، وغسل الرأس وكذلك غسل البدن لا يشرع فيه التثليث، والخلاف في التثليث في الرأس خلاف قوي، فقد ورد فيه ثلاث غرفات، فمنهم من عد هذا من التكرار، ومنهم من أخذ بحديث عائشة، وأنه غسل جانب الرأس الأيمن بغرفة، والأيسر بغرفة، وأعالي الرأس بالغرفة الثالثة، وأما تثليث البدن فالخلاف فيه ضعيف، لأنه لم يرد فيه نص باستحباب التثليث، والراجح عندي طرد الباب، وأنه لا يشرع في غسل الجنابة تثليث البتة إلا في غسل الكفين، وغسلهما في ابتداء الطهارة سنة مستقلة تفعل في الوضوء وفي الغسل قبل مباشرة اليد للغسل، وقبل إدخالهما في الإناء. وقد عرضت هذه المسألة مع أدلتها في كتاب الحيض والنفاس فأغنى عن إعادته هنا، فلله الحمد (¬2). ¬
الفصل الثاني عشر في حكم تأخير غسل الرجلين
الفصل الثاني عشر في حكم تأخير غسل الرجلين إذا اغتسل المكلف من الجنابة، وبدأ بالوضوء، فهل يغسل رجليه مع الوضوء، أم يؤخر غسلهما إلى تمام الغسل، اختلف الفقهاء في ذلك. فقيل: لا يغسلهما مع الوضوء، بل يؤخر غسلهما إلى تمام الغسل، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب المالكية (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: يغسلهما مع الوضوء، وهو مذهب المالكية (¬5)، والمشهور عند الشافعية (¬6). ¬
وقيل: يغسلهما مع الوضوء، ويعيد غسلهما بعد تمام الغسل، وهوالمشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: إن كان المكان غير نظيف، فالمستحب تأخيرهما، وإلا فالتقديم (¬2). وقيل: التقديم في غسل الرجلين والتأخير سواء، وهو رواية عن أحمد (¬3). والذي يظهر لي أن السنة في تأخير غسلهما على حديث ميمونة، وقد بينت أن حديث عائشة والذي ظاهره أنه يكمل وضوءه ليس صريحاً، وقد جاء عن عائشة في معرض تفصيلها للوضوء ما يدل على تأخير غسلهما، فإذا أمكن حمل حديث عائشة على حديث ميمونة حملاً لا تكلف فيه تعين حمله، لأن الأصل عدم تعدد السنة في العضو المغسول، وقد بينت أنه يمكن حمل حديث عائشة على حديث ميمونة، وتكون الصفة الواردة في غسل الرجلين صفة واحدة، انظر الكلام على هذا في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، فقد تكلمت عليه بشيء من التفصيل، فأغنى عن إعادته هنا (¬4). ¬
الفصل الثالث عشر في الموالاة في غسل الجنابة
الفصل الثالث عشر في الموالاة في غسل الجنابة إذا فرق المغتسل غسله، بأن غسل بعض بدنه، ثم فصل بفاصل طويل، فهل يبني على غسله، أو يستأنف؟ اختلف الفقهاء في ذلك؛ لاختلافهم في حكم الموالاة في غسل الجنابة، فقيل: الموالاة سنة، وهو مذهب الجمهور (¬1)، ورجحه ابن حزم (¬2). وقيل: تجب الموالاة في الغسل، وهو مذهب المالكية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). دليل المالكية على الوجوب: الدليل الأول: أن الغسل المنقول عنه - صلى الله عليه وسلم - كان متوالياً، ولم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه فرق غسله، ¬
الدليل الثاني
وليس المقصود هنا الاحتجاج بمطلق الفعل، ولكن هذا الفعل كان بياناً لقوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬1)، فكما أن الأمر بقوله تعالى: {فاطهروا} واجب، فكذلك ما وقع بياناً له من فعله - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان فعله متوالياً غير مفرق، فمن فرق غسله، فقد جاء أمراً ليس عليه أمر الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد. ويجاب: بأن الآية القرآنية في قوله تعالى: {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (¬2)، لم تذكر إلا غسل البدن فقط، وهذا هو الواجب، وكما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «خذ هذا فأفرغه عليك». وما فعله - صلى الله عليه وسلم - في السنة المطهرة زيادة على ما في الآية الكريمة، فهو من قبيل الاستحباب، ومنه الموالاة، والوضوء قبله، والمضمضة والاستنشاق وغيرها، والله أعلم. الدليل الثاني: القياس على الوضوء، فإذا كانت الموالاة واجبة في الوضوء، فكذلك الغسل؛ لأنه إحدى الطهارتين. وأجيب: بأن وجوب الموالاة في الوضوء ليست محل إجماع، فقد اختلف العلماء في وجوب الموالاة فيه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هناك فرقاً بين ¬
دليل الجمهور
الغسل والوضوء، فإن الوضوء فيه أعضاء متعددة: الوجه واليدان والرجلان، بخلاف الغسل فإنه ينظر إليه بأنه عضو واحد، وهو جميع البدن. وقد يقال: إذا كان لا يعذر في تفريق الأعضاء المختلفة في الوضوء، وهي أعضاء لا يرتبط بعضها ببعض، فكيف يعذر في تفريق غسل عضو واحد، فهو أولى بوجوب الموالاة من غيره. ويجاب على هذا: بأن حقيقة الموالاة: هي أن تكون بين شيئين مختلفين، فإذا كان الغسل لشيء واحد، وهو البدن، فكيف يتصور وجوب الموالاة فيه؟ دليل الجمهور: الدليل الأول: لو كانت الموالاة واجبة لجاء النص الشرعي المقرر لوجوبها، لأن المسألة مهمة جداً، فإما أن يرتفع الحدث أو لا يرتفع، وبالتالي إما أن تصح صلاته، أو تكون صلاته باطلة، فإذا كان الأمر بهذه المثابة من الأهمية، وتتعلق بأعظم أركان الإسلام العملية، وهي الصلاة، فلا بد من وجود نص صحيح صريح تقوم به الحجة على وجوب الموالاة، ولم يوجد. الدليل الثاني: أن المأمور به في الغسل هو غسل البدن، فكيفما غسل فقد قام بما أوجب الله عليه. الدليل الثالث: (1369 - 242) ما رواه البخاري من طريق الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس،
الراجح
عن ميمونة قالت: سترت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يغتسل من الجنابة، فغسل يديه، ثم صب بيمينه على شماله، فغسل فرجه وما أصابه، ثم مسح بيده على الحائط أو الأرض، ثم توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه، ثم أفاض على جسده الماء، ثم تنحى فغسل قدميه (¬1). فهنا غسل بدنه إلا رجليه، ثم تنحى من مقامه فغسل رجليه، فوجد مهلة بين فعله الأول وبين غسل رجليه، فإذا جاز وجود مهلة بين أفعال الغسل لم تكن الموالاة واجبة إلا أن يقال: إن هذا من التفريق اليسير، وهو لا يضر. قال ابن حزم: «إذا جاز أن يجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين وضوئه وغسله، وبين تمامهما بغسل رجليه مهلة خروجه من مغتسله، فالتفريق بين المدد لا نص فيه ولا برهان» (¬2). الراجح: أن القول بالوجوب هو حكم شرعي، يحتاج إلى دليل شرعي، ولم أجد دليلاً على وجوب الموالاة في الغسل، والأصل عدم الوجوب، والله أعلم. ¬
الفصل الرابع عشر في تدليك البدن في الغسل
الفصل الرابع عشر في تدليك البدن في الغسل اختلف العلماء في تدليك البدن في الغسل، فقيل: التدليك ليس بفرض، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: التدليك فرض، وهو مذهب المالكية (¬2). قال القرافي: ومنشأ الخلاف: هل حقيقة الغسل لغة: الإيصال مع الدلك، فيجب، وهو الصحيح، ولذلك تفرق العرب بين الغسل والغمس لأجل التدليك، فتقول: غمست اللقمة في المرق، ولا تقول: غسلتها، أو نقول: حقيقته: الإيصال فقط، لقول العرب: غسلت السماء الأرض: إذا أمطرتها (¬3). قلت: إنما فرق بين المرق والماء، لأن الغسل يراد به الطهارة والنظافة، وهو مختص بالماء، فالماء مطهر بخلاف المرق، وليس هذا التفريق راجعاً إلى وجوب الدلك أو عدمه. ¬
دليل الجمهور على عدم وجوب الدلك
دليل الجمهور على عدم وجوب الدلك: الدليل الأول: (1370 - 243) ما رواه مسلم من طريق سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن، عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة، قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (¬1). وجه الاستدلال: قوله: «إنما كان يكفيك» ساقه مساق الحصر، ولم يذكر سواء إفاضة الماء على البدن، وهي لا تقتضي الدلك. الدليل الثاني: (1371 - 244) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (¬2). [حديث حسن وسبق تخريجه] (¬3). ¬
الدليل الثالث
لم يطلب الحديث إلا أن يمس الماء بشرة المسلم، ولا يلزم من ذلك التدليك، فدل الحديث على عدم وجوبه، والله أعلم. الدليل الثالث: لو كان الدلك فرضاً لجاء نقله عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك لما كان الدلك مشروعاً في غسل الرأس جاء ذكره في السنة، (1372 - 245) فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من طريق إبراهيم بن المهاجر، قال: سمعت صفية تحدث عن عائشة، أن أسماء سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسل المحيض، فقال: تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها، فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء .... الحديث (¬1). فلما لم يذكر دلك البدن في غسل الجنابة والحيض علم أنه ليس بواجب. الدليل الرابع: لو كان على بدنه نجاسة، فصب عليه الماء صباً حتى زالت عين النجاسة طهر المحل، ولو لم يدلك موضع النجاسة، فإذا كان لا يشترط الدلك مع طهارة الخبث، وقيام جرم النجاسة على البدن، فكيف يشترط الدلك في رفع الحدث، ولم يكن هناك شيء على البدن يزال بالدلك أصلاً؟ دليل المالكية على وجوب التدليك: الدليل الأول: قالوا: إن الله سبحانه وتعالى أمر بغسل أعضاء الوضوء، والدلك شرط في حصول مسمى الغسل، فلا يكون هناك غسل إلا إذا كان معه دلك، فليس ¬
الدليل الثاني
المطلوب هو وصول الماء إلى هذه الأعضاء، بل المطلوب إيصال الماء إلى الجسد على وجه يسمى غسلاً، ولا يتحقق هذا إلا بالدلك (¬1). قال عطاء في الجنب يفيض عليه الماء؟ قال: لا، بل يغتسل غسلاً؛ لأن الله تعالى قال: {حتى تغتسلوا} ولا يقال: اغتسل إلا لمن دلك نفسه (¬2). وهذا القول ليس عليه دليل، والصحيح أن الغسل هو جريان الماء على العضو وقد شهد لذلك حديث عمران بن الحصين وحديث أم سلمة المتقدمان. قال ابن حزم: من ادعى أن اسم الغسل لا يقع إلا على التدلك باليد فقد ادعى ما لا برهان له به (¬3). الدليل الثاني: القياس على طهارة التيمم، قال المزني: ولأن التيمم يشترط فيه إمرار اليد فكذلك هنا. وأجيب: قال ابن قدامة: وأما قياسه على التيمم فبعيد؛ لأن التيمم أمرنا فيه بالمسح، والمسح لا يكون إلا باليد، ويتعذر بالغالب إمرار التراب إلا باليد. الراجح من الخلاف: بعد استعراض أدلة القولين نجد أن قول الجمهور هو الصواب، وأن ¬
الدلك ليس بواجب، بل لو قيل: إن في استحبابه نظراً لم يبعد قائله عن الصواب (¬1)، ولا يقال: هذا من إسباغ الغسل، لأن الإسباغ في الطهارة المقصود به إكماله وإتمامه غير منقوص، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أسبغوا الوضوء، ويل ¬
للأعقاب من النار)) فجعل عدم وصول الماء إلى العقب من ترك الإسباغ. ولو كان الغسل لا يقع إلا على الدلك، لكان المواضع الذي لا يستطيع الوصول إليها بيده كبعض المواضع من ظهره لا يمكن أن يغسلها، فإما أن يقال: بسقوط الدلك للعجز، كما اختاره من المالكية ابن القصار (¬1)، وبالتالي لم يقم بغسل جميع بدنه؛ لأن الغسل عندهم لا يطلق إلى على جريان الماء مع الدلك. أو يقال: يجب أن يتخذ خرقة ليستعين بها على دلك ما يعجز عن دلكه، كما اختاره سحنون من المالكية (¬2)، وقال بعضهم: يجب استنابة من يدلكه من زوجة أو أمة، أو يتدلك بحائط إن كان ملكاً له، أو أذن له مالكها، ولم يكن الدلك يؤذيه (¬3)، وهذا أيضاً لم يقم عليه دليل من السنة، ومن التعمق الذي لم نؤمر به، وكل هذا يدل على ضعف القول بوجوب التدليك، والله أعلم. ¬
الباب الخامس في فروض الغسل
الباب الخامس في فروض الغسل الفرض الأول الماء الطهور مع القدرة عليه لا يرفع الحدث إلا الماء الطهور مع وجوده، فلا يرفع الحدث الماء النجس، وهذا إجماع. قال ابن المنذر: قال تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬1)، فالطهارة على ظاهر كتاب الله بكل ماء، إلا ما منع منه كتاب، أو سنة أو إجماع، والماء الذي منع الإجماع الطهارة منه: هو الماء الذى غلبت عليه النجاسة بلون، أوطعم، أو ريح (¬2). ولا يرفع الحدث سائل آخر غير الماء: قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن الحدث لا يرفع بسائل آخر غير الماء، كالزيت، والدهن، والمرق (¬3). ¬
وقال الغزالي: الطهورية مختصة بالماء من بين سائر المائعات، أما في طهارة الحدث فبالإجماع (¬1). وتعقبه النووي في المجموع شرح المهذب، فقال: حكى أصحابنا عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وأبي بكر الأصم: أنه يجوز رفع الحدث وإزالة النجاسة بكل مائع طاهر، قال القاضي أبو الطيب إلا الدمع فإن الأصم يوافق على منع الوضوء به، ثم قال: والأول أرجح؛ قال تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا} الآية (¬2)، فأحالنا إلىالتيمم عند عدم الماء، ولم ينقلنا إلى سائل آخر (¬3). قلت: ويستثنى من السوائل النبيذ فإنه مختلف في رفع الحدث به: فقيل: يتوضأ به إن لم يجد غيره، وهو مذهب أبي حنيفة (¬4). وقيل: يتوضأ به ويتيمم، وهو مذهب محمد بن الحسن (¬5). وقيل: يتيمم، ولا يتوضأ به، وهو مذهب المالكية (¬6)،والشافعية (¬7)، ¬
والحنابلة (¬1)، واختاره أبو يوسف والطحاوي من الحنفية (¬2)، وهو رواية عن أبي حنيفة (¬3)، وهو اختيار ابن حزم (¬4). وقد سبق أن ذكرت أدلتهم وبيان الراجح في كتاب أحكام الطهارة: أحكام المياه، فانظره هناك مشكوراً. فإذا لم يوجد الماء الطهور فإنه يتيمم، وهذه مسألة خلافية أعني التيمم من الجنب، وسوف أتعرض لذكر الخلاف فيها إن شاء الله تعالى في كتاب التيمم، بلغنا الله إياه بمنه وكرمه. قولنا: لا يرفع الحدث إلا الماء الطهور، لا أعني به إثبات قسم الماء الطاهر في نفسه غير المطهر لغيره، وهي مسألة بحثت في أقسام المياه، وخلصت إلى أن الماء قسمان على القول الصحيح: طهور، ونجس، بخلاف مذهب الجمهور الذي يذهب إلى إثبات قسم الماء الطاهر، المستعمل عندهم في الأكل والشرب، ولا يستعمل في رفع الحدث، ومن أراد الإطلاع على أدلة القوم فليرجع إليه في كتاب الطهارة: في أحكام المياه، في مبحث أقسام المياه، والله الموفق. ¬
الفرض الثاني النية
الفرض الثاني النية اختلف العلماء في حكم النية في طهارة الحدث عموماً: الأصغر والأكبر، فقيل: النية سنة في طهارة الوضوء والغسل، شرط في طهارة التيمم، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: النية شرط لطهارة الحدث مطلقاً الأصغر والأكبر، بالماء أو التيمم، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، وهو الراجح. وقيل: يجزئ الوضوء والغسل والتيمم بلا نية، وهو قول الأوزاعي (¬5). ¬
وسبب الاختلاف في اشتراط النية للطهارة ما قاله ابن رشد: اختلف العلماء هل النية شرط في صحة الوضوء أم لا؟ بعد اتفاقهم على اشتراط النية في العبادات لقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (¬1) ثم قال: وسبب اختلافهم: تردد الوضوء بين أن يكون عبادة محضة أعني غير معقولة المعنى، وإنما يقصد بها القربة فقط كالصلاة وغيرها، وبين أن يكون عبادة معقولة المعنى، كغسل النجاسة، فإنهم لا يختلفون أن العبادة المحضة مفتقرة إلى نية، والعبادة المفهومة المعنى غير مفتقرة إلى النية، والوضوء فيه شبه من العبادتين (¬2). وقد ذكرت أدلة الأقوال وناقشتها نقاشاً مستفيضاً في كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية فارجع إليه غير مأمور. ولما كان الكلام في النية طويلاً ومتشعباً عقدت فصلاً خاصاً في كتاب الوضوء عن النية من حيث تعريفها، وبيان حكمها وذكر محلها، وشروطها، ووقتها، وكيفيتها، فالحمد لله على منه وفضله. ¬
الفرض الثالث تعميم جميع الجسد بالغسل
الفرض الثالث تعميم جميع الجسد بالغسل اتفق الفقهاء على أن تعميم الجسد كله بالماء فرض من فروض الغسل (¬1). نقل الإجماع في هذا النووي وغيره (¬2). ومستند الإجماع في هذا قوله تعالى: {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (¬3). وقوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬4). ومن السنة أحاديث كثيرة سبق ذكرها، منها حديث عائشة وميمونة وهما في الصحيحين، وحديث أم سلمة في مسلم، وحديث عمران بن حصين في البخاري للرجل الذي أصابته جنابة ولا ماء، ثم حضر الماء بعد، وكل هذه الأحاديث سبق تخريجها في هذا الكتاب. ولم يستثن من الإجماع إلا مسائل وقع فيها خلاف، منها: داخل الفم والأنف، وقد سبق بحث حكم المضمضة والاستنشاق، وخلصت إلى أنهما غير واجبين في الغسل. ¬
وكذلك لا يجب نقض ضفائر الرأس في الغسل وقد سبق بحث الخلاف فيه، كما لا يجب غسل المسترسل من الشعر، وقد سبق تحرير الخلاف فيه، وكذلك لا يجب غسل داخل فرج المرأة مطلقاً بكراً كانت أو ثيباً (¬1). وكذلك لا يجب غسل داخل العينين؛ لأنه لم ينقل غسلهما من المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ولأنهما من الباطن الذي لم نؤمر بغسله؛ ولأن الغسل مضر بهما، ولأن غسلهما من الحرج المرفوع عن هذه الأمة، قال سبحانه وتعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (¬2). وقال سبحانه: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (¬3)، (¬4). وما عدا ذلك فإنه يجب إيصال الماء إليه حتى ولو كان غائراً، كعمق السرة ونحوها (¬5). ¬
الباب السادس صفة الغسل الكامل والمجزئ
الباب السادس صفة الغسل الكامل والمجزئ بعد أن تكلمنا بشيء من تفصيل الخلاف، وذكر الأدلة على سنن الغسل، وآدابه، وفروضه، نستطيع أن نخلص من هذه المباحث بصفة الغسل الكامل والمجزئ منها على وجه الاختصار، وهذا العرض إنما هو خاص بما هو راجح لدى الباحث، وقد لا يكون راجحاً عند غيره، وربما لا يكون راجحاً في حقيقة الأمر، ومن أراد أن يطلع على وجه الترجيح، فلينظر المسألة في معرض ذكر خلاف العلماء فيها وأدلتها التفصيلية، المهم أن من اقتصر على الاطلاع على هذا الفصل، فلن يعرف وجه الحجة فيما رجحت، وكان يمكن أن يختم البحث بدون هذا الفصل، خاصة أن هذا الفصل خال من ذكر أدلة الترجيح، لولا ما تعود الفقهاء من ذكر صفة الغسل الكامل والمجزئ في بحوثهم، مما دفعني أن أختار هذه الطريقة لتجمع للطالب المبتدئ صفة الغسل على وجه الإيجاز، فأقول في صفة الغسل الكامل وبالله التوفيق: إذا أراد أن يغتسل، فلا بد أولاً من النية، وذلك بأن ينوي رفع الحدث، أو ينوي استباحة ما تشترط له الطهارة من صلاة ونحوها. ولا يتقدم الغسل أيُّ ذكر قولي، ومن ذلك البسملة، فإن الراجح أنها غير مشروعة لا في وضوء، ولا غسل، ولا تيمم. ثم يقوم بغسل يديه قبل إدخالهما الإناء، ثلاثاً، أو مرتين. ثم يتمضمض ويستنشق مرة واحدة.
ثم يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين غسلة واحدة، ولا يشرع تكرار غسلهما، ويكون غسلهما بنية الغسل، لا بنية رفع الحدث الأصغر، فهذا الوضوء صوري، وإنما المراد هو غسل بدنه، قُدِّمَ فيه غسل مواضع الوضوء لشرفها. ولا يشرع على الصحيح مسح رأسه، وإنما يخلل شعر رأسه بالماء حتى يبلغ الماء أصول شعره، وحتى يظن أنه قد أروى بشرته، ثم يفيض على رأسه ثلاثاً، مبتدئاً بجانب رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم أعلى الرأس. ثم يفيض الماء على سائر جسده، ولا يعيد غسل مواضع الوضوء مرة أخرى. ثم يغسل قدميه. وبهذا يكون قد انتهى من الغسل مراعياً فيه سنن الغسل، ويكفي هذا الفعل في رفع الحدثين الأصغر والأكبر. وأما الغسل المجزئ، فهو أن ينوي الغسل، ثم يعم بدنه كله بالماء مرة واحدة، ولا يجب في هذا الغسل مضمضة ولا استنشاق، والله أعلم.
[التيمم]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي خلقنا من تراب، وجعله لأمتنا خاصة من بين سائر الأمم مسجداً وطهوراً، والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، ومن سار على هديه إلى يوم الدين،،، وبعد لما انتهيت بتوفيق من الله سبحانه وتعالى من أحكام الوضوء والغسل بالماء ناسب أن أنتقل إلى طهارة البدل منهما: وهو طهارة التيمم عند تعذر الماء أو العجز عن استعماله. ومن عناية الشارع بطهارة الحدث أن جعل لها بدلاً عند فقد آلته (الماء) أو عند العجز عن استعماله، بخلاف طهارة الخبث فلم يجعل لها بدلاً، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أن مكن عباده من الصلوات: التي هي صلة بين العباد وبين خالقهم حتى في حالة عدم التمكن من الطهارة المائية، ولو منع الإنسان من الصلاة إلا في حالة وجود الماء لربما قسا قلب العبد بسبب تركه للصلوات أياماً وربما أسابيع بسبب عدم قيامه بما هو صلة بينه وبين ربه، فكان لطفاً من الله أن شرع التيمم مطهراً بدلاً من الماء، ليكون العبد متهيئاً لمناجاة الله في أعظم ركن عملي، وهو الصلاة، وهو ما أشار الله إليه في آية التيمم، من كون الغاية من مشروعية التيمم رفع الحرج عن هذه الأمة، والغاية الثانية تطهيرها، قال تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (¬1). ¬
خطة البحث
فكان الأمر قبل مشروعية التيمم إما أن يدع الإنسان الصلاة إلى حين وجود الماء ثم يقضي تلك الصلوات، أو يدع الصلاة من غير قضاء، وكل هذا فيه ما فيه من الحرج، فترك الصلوات فيه ما أشرنا إليه من قسوة القلب وغفلته عن ذكر ربه، وقد قال سبحانه وتعالى: {وأقم الصلاة لذكري} (¬1)، كما أن القضاء قد يشق على العبد إذا اجتمع إليه صلوات كثيرة خاصة في الأسفار التي تطول، ولا يكون الماء مقدوراً عليه، ثم فوات تطهير العبد الطهارة المعنوية من الوضوء، ومن بدله وهو التيمم، فترك الطهارة يجعل الذنوب تتراكم عليه، ولكن إذا كان يتعاهد نفسه بالوضوء أو ببدله بالتيمم، ثم بعد ذلك بالصلوات والتي ضرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لها مثلاً بالنهر في باب أحدنا، يغتسل فيه باليوم خمس مرات، فلا يبقى من درن الإنسان شيئاً، وهكذا التيمم الذي يجعل المسلم بإمكانه أن يصلي ويتطهر من تلك الذنوب التي لا يسلم منها أحد، وكان الشرط في هذا البحث كغيره من البحوث السابقة التي سبقته، يقوم على تمهيد، وأبواب، وفصول ومباحث وفروع ومسائل على النحو التالي: خطة البحث: التمهيد: ويشتمل: على خمسة مباحث: المبحث الأول: تعريف التيمم. المبحث الثاني: الأدلة على مشروعية التيمم. المبحث الثالث: في بدء مشروعية التيمم. المبحث الرابع: التيمم من خصائص الأمة المحمدية. المبحث الخامس: مشروعية التيمم على وفق القياس. ¬
الباب الأول: في حكم التيمم: الفصل الأول: في التيمم هل هو رخصه أو عزيمة. الفصل الثاني: هل التيمم يرفع الحدث، أو يبيح فعل المأمور مع قيام الحدث؟. الفصل الثالث: إذا عدم الماء والصعيد. الفصل الرابع: في تأخير الصلاة لمن يرجو وجود الماء في آخر الوقت. الفصل الخامس: في حكم إمامه المتيمم للمتوضئ. الفصل السادس: في وطء عادم الماء. الباب الثاني: في الأسباب الموجبة للتيمم: الفصل الأول: فقد الماء، ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: إذا وجد ماء، لا يكفي للطهارة. المبحث الثاني: لو كان مع الجنب ما يكفي للوضوء. المبحث الثالث: لو كان المحدث على بدنه نجاسة ووجد ماء يكفي أحدهما. الفصل الثاني: في تعذر استعمال الماء، ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في تيمم المريض. المبحث الثاني: في تيمم الصحيح إذا كان يحتاج الماء لشرب ونحوه. المبحث الثالث: في الماء يباع بأكثر من ثمنه، هل يجب شراؤه، أو يتيمم؟.
المبحث الرابع: إذا وهب للرجل الماء، فهل يجب قبوله؟ الفصل الثالث: في التيمم خوفاً من فوات العبادة، ويشتمل على ثلاثة مباحث. المبحث الأول: إذا خاف خروج وقت الفريضة. المبحث الثاني: إذا خاف فوت صلاة الجنازة والعيد، فهل يتيمم؟ المبحث الثالث: التيمم لخوف فوات الجمعة. الباب الثالث: في شروط التيمم. الشرط الأول: النية، وينقسم البحث في النية إلى فصول ومباحث وفروع ومسائل على النحو التالي: الفصل الأول: في اشترط النية لطهارة التيمم. الفصل الثاني: لو سفت الرياح التراب على وجهه ونوى به التيمم. الفصل الثالث: في صفة النية. المبحث الأول: لو نوى مطلق التيمم. المبحث الثاني: إذا نوى المتيمم بتيممه رفع الحدث. المبحث الثالث: في اشتراط نية ما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر. الفرع الأول: لو تيمم ولم ينو ما تيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر. الفرع الثاني: لو تيمم للحدث الأصغر، فهل يرتفع حدثه الأكبر؟.
الفرع الثالث: في نية ما يتيمم له من صلاة ونحوهما. المسألة الأولى: لو نوى بالتيمم الصلاة وأطلق. المسألة الثانية: لو نوى أن يصلي نفلاً فهل يصلي به فريضة. المسألة الثالثة: لو تيمم للفريضة، فهل له أن يصلي به نافلة؟. المسألة الرابعة: إذا تيمم للفريضة، فهل يصلي به أكثر من فريضة. المسألة الخامسة: إذا تيمم للنافلة فهل له أن يصلي به نوافل أخرى. المبحث الرابع: لو تيمم يريد به تعليم الغير. الشرط الثاني: الإسلام. الشرط الثالث: التكليف. الشرط الرابع: انقطاع ما يوجب الحدث إلا في المعذور. الشرط الخامس: طلب الماء قبل التيمم. الباب الرابع: فيما يتيمم عنه. الفصل الأول: في التيمم عن الحدث. الفصل الثاني: في التيمم عن النجاسة.
الباب الخامس: في فروض التيمم الفرض الأول: مسح الوجه واليدين مع الاستيعاب. المبحث الأول: في ضرب اليدين في الأرض ليمسح بهما وجهه ويديه. المبحث الثاني: في استيعاب المسح للوجه واليدين. المبحث الثالث: في مسح ما تحت الشعر الخفيف في التيمم. المبحث الرابع: في صفة مسح الوجه واليدين عند الفقهاء،. المبحث الخامس: لو وضع يديه على الأرض بدون ضرب. المبحث السادس: في مسح الوجه بيد واحدة أو إصبع واحد. الفرض الثاني: الترتيب في التيمم. الفرض الثالث: الموالاة في التيمم الباب السادس: في سنن التيمم الفصل الأول: في التسمية. الفصل الثاني: في تكرار المسح في التيمم. الفصل الثالث: في نفخ الأيدي بعد ضربها الأرض الفصل الرابع: في استحباب تقديم اليد اليمنى على اليد اليسرى. الفصل الخامس: في تجديد التيمم. الفصل السادس: في استقبال القبلة حال التيمم.
الفصل السابع: في إقبال اليدين وإدبارهما في التراب حال الضرب. الفصل الثامن: في البدء بأعلى الوجه حين المسح. الباب السابع: في مبطلات التيمم. الفصل الأول: يبطل التيمم ما يبطل الوضوء. الفصل الثاني: يبطل التيمم وجود الماء. المبحث الأول: وجود الماء قبل الصلاة. المبحث الثاني: إذا وجد الماء أثناء الصلاة. المبحث الثالث: إذا وجد المتيمم الماء بعد الفراغ من الصلاة. الفصل الثالث: خروج الوقت. هذه خطة البحث في هذا الكتاب، فإن يكن من صواب فهو من الله سبحانه وتعالى، وإن يكن من خطأ فهو من الشيطان، ومن ضعفي وتقصيري، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
التمهيد
التمهيد المبحث الأول: تعريف التيمم تعريف التيمم لغة واصطلاحاً: التيمم لغة: القصد، يقال: يمَّمتُه وتَيَمَّمته: إذا قصدته، وأصله التعمد والتوخي. ومنه قوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} (¬1)، أي: لا تقصدوا. وقوله سبحانه: {فتيمموا صعيداً طيباً} (¬2)، أي اقصدوا الصعيد الطيب. وقول كعب بن مالك: " فيممت بها التنور " أي: قصدت. ومنه قول الشاعر: وما أدري إذا يممت أرضاً ... أريد الخير أيهما يليني أأ الخير الذي أنا ابتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني ثم كثر استعمالهم لهذه الكلمة حتى صار التيمم اسماً علماً لمسح الوجه واليدين بالتراب (¬3). ¬
تعريف التيمم عند الفقهاء
تعريف التيمم عند الفقهاء: تعريف الحنفية: قال في بدائع الصنائع: " عبارة عن استعمال الصعيد في عضوين مخصوصين على قصد التطهر بشرائط مخصوصة " (¬1). تعريف المالكية: قال الصاوي في تعريف التيمم: " طهارة ترابية تشتمل على مسح الوجه واليدين بنية " (¬2). زاد بعضهم: تستعمل عند عدم الماء أو عدم القدرة على استعماله، والمراد بالتراب: جنس الأرض فيشمل جميع أجزائها (¬3). تعريف الشافعية: قالوا: التيمم: إيصال التراب إلى الوجه واليدين بشروط بدلاً عن الوضوء، أو الغسل، أو بدلاً عن عضو من أعضائهما بشرائط مخصوصة (¬4). تعريف الحنابلة: قال البهوتي: " مسح الوجه واليدين بتراب طهور على وجه مخصوص" (¬5). وهذه التعريفات متقاربة، وقد قال أبو بكر بن العربي بأن التيمم له ثلاثة ¬
أسماء، الأول: التيمم، قال الله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} (¬1). الثاني: الوضوء، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الصعيد الطيب وضوء المسلم، ولو لم يجد الماء عشر حجج " (¬2). الثالث: الطهور، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " وجعلت لنا الأرض مسجداً وطهوراً " (¬3) (¬4). والاسمان الأخيران ليسا من باب التسمية اللغوية، وإنما هو من باب الحكم الشرعي، فالتيمم يقوم مقام الوضوء، كما أنه يطهر المسلم، أي يرفع حدثه، أو في حكم الطهور كما سيأتي تحرير الخلاف فيه إن شاء الله تعالى، هل التيمم مبيح أو رافع؟. ¬
المبحث الثاني: الأدلة على مشروعية التيمم
المبحث الثاني: الأدلة على مشروعية التيمم التيمم مشروع عند عدم الماء، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} (¬1). ومن السنة، أحاديث كثيرة، منها: (1368 - 1) ما رواه البخاري من طريق هشيم، قال: أخبرنا سيار، قال: حدثنا يزيد - هو ابن صهيب الفقير - قال: أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ ... "الحديث (¬2). ورواه مسلم من طريق هشيم به، بلفظ: " وجعلت لي الأرض طيبة طهوراً ومسجداً " (¬3). (1369 - 2) وروى مسلم في صحيحه من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، ¬
عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون (¬1). (1370 - 3) وروى مسلم أيضاً من طريقين عن أبي مالك الأشجعي، عن ربعي، عن حذيفة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء، وذكر خصلة أخرى (¬2). وأما الإجماع فقد نقله طائفة من أهل العلم، منهم: النووي فإنه قال: " إذا عدم الماء بعد طلبه المعتبر جاز له التيمم للآية، والأحاديث الصحيحة، والإجماع " (¬3). وقال صاحب كتاب رحمة الأمة: " التيمم بالصعيد الطيب عند عدم الماء أو الخوف من استعماله جائز بالإجماع " (¬4). وقال الشوكاني: " والحديث يدل على مشروعية التيمم للصلاة عند عدم الماء، من غير فرق بين الجنب وغيره، وقد أجمع العلماء على ذلك " (¬5). ¬
المبحث الثالث: في بدء مشروعيته
المبحث الثالث: في بدء مشروعيته روت كتب السنة بدء مشروعية التيمم في أحاديث صحيحة، (1371 - 4) فقد روى البخاري رحمه الله من طريق عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء - أو بذات الجيش- انقطع عقد لي، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق، فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذي، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم، فتيمموا، فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فأصبنا العقد تحته، ورواه مسلم (¬1). في هذا الحديث من الفقه: قول عائشة رضي الله عنها: " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض ¬
أسفاره " فيه دليل على جواز خروج النساء مع الرجال في الأسفار، وفي الغزوات إذا كان العسكر كبيراً يؤمن عليه الغلبة (¬1). وفيه أيضاً جواز تأديب الرجل ابنته ولو كانت متزوجة كبيرة خارجة عن بيته، ويلحق بذلك تأديب من له تأديبه (¬2). وفيه أيضاً أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الغيب، ولو كان يعلم الغيب لم يبعث رجالاً في طلب العقد، وهو تحت البعير. وفيه أيضاً: أن الله سبحانه وتعالى قد يربط تشريع بعض الأحكام بأسباب قدرية، وأخرى شرعية، فجعل غياب هذا العقد سبباً لمشروعية التيمم لجميع الأمة. وفيه إثبات البركة لبعض الصالحين، قال أسيد (ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر " أي بل هي مسبوقة بغيرها من البركات، وفيه دليل على فضل عائشة وأبيها وتكرار البركة منهما (¬3)، وفي رواية للبخاري: جزاك الله خيراً، فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً، وجعل للمسلمين فيه بركة" (¬4). وفيه فرح الصحابة رضي الله عنهم بتيسير الأحكام عليهم، على خلاف ما ينشده بعض الناس في عصرنا من النزعة إلى التحريم، وحجب الأقوال التي ¬
فيها تيسير على الأمة، بدعوى أن الناس قد يتهاونون، فيتجاوزن الحد المباح إلى الوقوع في المحرم، وهذا ليس من الفقه في شيء، واستحسان مخالف لمقاصد الشارع وقواعد الشرع. إن تعامل بعض الناس مع الخلاف يكشف لك أننا نعاني من أزمة حقيقية في التعامل مع الخلاف الفقهي، ونظن أن بالإمكان إلغاء الخلاف المحفوظ، وأننا بالقدر الذي نسفه فيه قول المخالف نردع الناس من الأخذ به وقبوله، ونعتقد بأن هذا الأسلوب يكفل لنا ترويج اختياراتنا الفقهية، ولذا إذا أتينا إلى أدلة المخالفين، نضع عنوانين تحكي نزعة الإلغاء والازدراء للقول الآخر، فيقول بعضهم: شبهات القائلين بالجواز، فنجعل أدلتهم مجرد شبهات، وليست أدلة قائمة، حتى ولو كان هذا القول هو قول الجمهور، وكأننا قد نزل علينا الوحي بأن قولنا هو الصواب، بينما المطلوب منا أن نتعامل مع تراث المسلمين الفقهي بشيء من الاحترام بصرف النظر عن الصواب والخطأ، وأن تكون عباراتنا بالترجيح تعكس مقدار الأدب الإسلامي المأمور به شرعاً، فنتجنب قدر المستطاع القطع في مسائل الخلاف، ونتجنب القول بأن هذا القول ساقط أو باطل، أو ليس عليه آثارة من علم، أو هذا القول سبب في رقة الدين، أو هذا قول شاذ، مع العلم أنه مذهب جماهير أهل العلم. إنني لا أدعو إلى اتباع قول الجمهور، لكونه كذلك، ومن قرأ البحوث السابقة تأكد له ذلك، ولكن مع وجوب اتباع ما يترجح يجب احترام قول الجمهور، بل وكل قول عالم من علماء هذه الأمة مع بيان الخطأ بالدليل الشرعي.
إن الوحي قد انقطع، والخلاف الفقهي في هذه الأمة قدر كوني وشرعي، وما زال الصحابة يختلفون في أمور الفقه، وما لم يعصم منه الصحابة فلن يعصم منه غيرهم، وإني لا يعجبني أبداً في أي بلد من المسلمين أن تقوم لجنة أو هيئة رسمية أو غير رسمية فتجعل من نفسها مرجعاً يجب الرد إليه عند التنازع في أمور فقهية قد حفظ فيها الخلاف، ولا ينبغي لها أن تتصدى بالرد على فلان أو فلان من طلبة العلم بسبب اختياره الفقهي ما دام داخلاً تحت الخلاف السائغ الذي قيل به من لدن السلف، ولا حجر عليها أن تذكر رأيها دون أن تتعرض لأحد باسمه، فمن شاء أن يأخذ بفتواها فله ذلك، ومن رأى أنه يسعه أن يأخذ برأي أحد من الأئمة فإن له ذلك أيضاً، ولا حجر عليه، وإذا أبت إلا الخوض في ذلك فلا بد أن يحفظ للطرف الأخر حقه بالرد عليهم، وبيان حجته فيما يطرحون، وأن يكون في مأمن من ظلمهم من منع كتابه من الطبع، فإن منع مثل ذلك يعتبر من الظلم والعدوان الذي لا يرضاه خلق ولا دين، ولم يكن من عمل السلف، فمن أعطى لنفسه حق الرد على الناس فليعط غيره حق الجواب على رده، ولا يسوغ أبداً أن يتكلم أحد في نيته أو في منهجه لمجرد أن رد على أحد من علماء عصره في مسألة يسوغ فيها الخلاف، وإذا كنا نعطي أنفسنا أن نخالف أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وعائشة وابن عباس في مسائل فقهية وقع الخلاف بينهم فيها، وهم أجل قدراً وأوسع علماً، وقد زكاهم القرآن والرسول - صلى الله عليه وسلم -، فمخالفة غيرهم من باب أولى، ولا يضيق بالخلاف من أوتى قدراً من العلم الشرعي، وعلم أن هذا سبيل المؤمنين، وليست المشكلة في الكلام النظري المجرد عن التطبيق، فإن كل واحد من
طلبة العلم يردد في مجالسه ودروسه المقولة المشهورة: كل يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن عند التطبيق تجد البون الشاسع بين ما يقال وبين ما يفعل، وليس هذا من صغار الطلبة، بل ممن ترأس وتصدر، فالله المستعان، وقد تركت ضرب الأمثلة من الواقع حتى لا أنكأ الجراح، وأزيد في سعة الخلاف، ولا أبرئ نفسي مما يقع فيه غيري، فإن طبيعة الإنسان الظلم والجهل إلا من وفقه الله سبحانه وتعالى.
المبحث الرابع: التيمم من خصائص الأمة المحمدية
المبحث الرابع: التيمم من خصائص الأمة المحمدية التيمم من الخصائص التي اختص الله بها هذه الأمة، وقد دل على ذلك السنة والإجماع. أما السنة، (1372 - 5) فقد روى البخاري من طريق هشيم، قال: أخبرنا سيار، قال: حدثنا يزيد - هو ابن صهيب الفقير - قال: أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ... "الحديث (¬1). ورواه مسلم من طريق هشيم به، بلفظ: " وجعلت لي الأرض طيبة طهوراً ومسجداً " (¬2). (1373 - 6) وروى مسلم في صحيحه من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون (¬3). ¬
(1374 - 7) وروى مسلم أيضاً من طريقين عن أبي مالك الأشجعي، عن ربعي، عن حذيفة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فضلنا على الناس بثلاث (¬1): جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء، وذكر خصلة أخرى (¬2). قال ابن عبد البر - رحمه الله تعالى -: " وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: جعلت لي الأرض كلها مسجداً وطهوراً " في تعديد فضائله - صلى الله عليه وسلم - من وجوه كثيرة، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه (¬3)، ¬
وابن عباس (¬1)، وجابر (¬2)، وأبي هريرة (¬3)، وأبي موسى (¬4)، وحذيفة (¬5)، وهي آثار كلها صحاح ثابتة، كرهت ذكرها بأسانيدها خشية الإطالة، وقد ذكرها كلها أو أكثرها أبو بكر ابن أبي شيبة في أول كتاب الفضائل" (¬6). وأما الإجماع، فقد نقل الإجماع طائفة من أهل العلم. ¬
قال في منح الجليل: " وهو من خصائص هذه الأمة إجماعاً " (¬1). وقال الصاوي: "وهو من خصائص هذه الأمة اتفاقاً، بل إجماعاً " (¬2). وقال الحطاب: " وانعقد الإجماع على مشروعيته، وعلى أنه من خصائص هذه الأمة لطفاً من الله بها، وإحساناً " (¬3). كما صرح جملة من العلماء على أن التيمم من خصائص هذه الأمة، وإن لم ينصوا على ذكر الإجماع، منهم: ابن الهمام في فتح القدير (¬4) وابن نجيم في البحر الرائق (¬5)، وابن عابدين في حاشيته (¬6)، وهؤلاء من الحنفية. ومن المالكية: الخرشي في شرحه لمختصر خليل (¬7)، والنفرواي في الفواكه الدواني (¬8)، والقرافي في الذخيرة (¬9). ومن الشافعية: العراقي في طرح التثريب (¬10)،، وقليوبي وعميرة في حاشيتهما (¬11). ¬
ومن الحنابلة: ابن مفلح في الفروع (¬1)،،، والبهوتي في كشاف القناع (¬2). وغيرهم خلق كثير من حملة العلم الشرعي تركتهم اقتصاراً واختصاراً. قال النفرواي: " وهو من خصائص هذه الأمة؛ لأن الأمم السابقة لا تصلي إلا بالوضوء، كما أنها كانت لا تصلي إلا في أماكن مخصوصة يعينونها للصلاة، ويسمونها بيعاً وكنائس وصوامع، ومن عدم منهم الماء، أو غاب عن محل صلاته يدع الصلاة حتى يجد الماء، أو يعود إلى مصلاه " (¬3). وذكر اللالكائي في كتابه اعتقاد أهل السنة: " جعلت له ولأمته الأرض مسجداً، وكان غيره من الأنبياء لا تجزئ صلاته إلا في كنائسهم وبيعهم" وقال أيضاً: " وجعل التراب له ولأمته طهوراً إذا عدم الماء " (¬4). ونقل الحافظ عن ابن التين قوله:: " المراد جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وجعلت لغيري مسجداً، ولم تجعل له طهوراً؛ لأن عيسى كان يسبح في الأرض، ويصلي حيث أدركته الصلاة، كذا قال وسبقه إلى ذلك الداودي " (¬5). وقال القاضي عياض: " وأما اختصاصه بكون الأرض له مسجداً وطهوراً، فيدل أن التيمم لم يشرع لغيره قبله، وأما كونها مسجداً فقيل: ¬
إن من كان قبله من الأنبياء كانوا لا يصلون إلا فيما أيقنوا طهارته من الأرض، وخص نبينا وأمته بجواز الصلاة على الأرض إلا ما تيقنت نجاسته منها" (¬1). قال الحافظ: " والأظهر ما قاله الخطابي: وهو أن من قبله إنما أبيحت لهم الصلوات في أماكن مخصوصة كالبيع والصوامع، ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ: " وكان من قبلي إنما كانوا يصلون في كنائسهم " (¬2)، وهذا ¬
نص في موضع النزاع، فثبتت الخصوصية. ويؤيده ما أخرجه البزار من حديث ابن عباس (¬1) بنحو حديث الباب فيه: "ولم يكن من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه " (¬2). ¬
المبحث الخامس: مشروعية التيمم على وفق القياس
المبحث الخامس: مشروعية التيمم على وفق القياس اختلف العلماء في كون التيمم مطهراً، هل هذا على وفق القياس، أو مخالف للقياس، مع أني أتحفظ على هذا الطرح، لولا أن هذا موجود في كتب الفقه؛ لأننا نرى أن أحكام الشرع كلها على وفق القياس، إن كان المقصود بالقياس: هو النظر والحكمة؛ لأن أحكام الشرع لا تخالف المعقول، وإن كان شيء متهماً فهو في عجز العقول عن إدراك أسرار الأحكام، فأحكام الله من لدن حكيم خبير، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟ والبحث في العلة إنما هو في حدود الحاجة إلى تعدية النص من أصل منصوص عليه إلى فرع لعلة جامعة، فيلحق النظير بنظيره؛ لأن النصوص محدودة، والوقائع غير متناهية، ولذلك لما سئلت عائشة رضي الله عنها، ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة، وكأن السائلة رأت أن هذا مخالف للقياس، فإما أن يسقط القضاء عنهما، أو تكلف بقضاء كليهما، فقالت: كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة " (¬1)، فأرجعت الشأن إلى النص. فإذا علم هذا، فقد اختلف العلماء في التيمم، فذهب بعض أهل العلم إلى أن رفع الحدث بالتيمم على خلاف القياس (¬2). ¬
وذهب ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى إلى أن التيمم على وفق القياس، وأنه لا يوجد شيء في الشرع يخالف القياس الصحيح (¬1). حجة من قال: إن التيمم ليس جارياً على وفق القياس. استدلوا بدليلين: أحدهما: أن التراب ملوث، لا يزيل درناً ولا وسخاً، ولا يطهر البدن، كما لا يطهر الثوب. الثاني: أنه شرع في عضوين من أعضاء الوضوء دون بقيتها، وهذا خروج عن القياس الصحيح، ولذلك حين استعمل عمار القياس تمرغ في التراب كما تتمرغ الدابة؛ ليعم بدنه كله بالتراب، كما يعم بدنه كله بالماء في غسل الجنابة. وأجاب ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله على ذلك، وذكرا كلاماً طويلاً في رد هذا القول، أورد إن شاء الله تعالى ما أحتاج إليه مختصراً ومقتصراً. لفظ القياس لفظ مجمل، يدخل فيه القياس الصحيح، والقياس الفاسد: فالقياس الصحيح: هو الذي وردت به الشريعة، وهو الجمع بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين: الأول: قياس الطرد. والثاني: قياس العكس، وهو من العدل الذي بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فالقياس الصحيح مثل أن تكون العلة التي علق الحكم بها في الأصل موجودة في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها، ومثل هذا القياس ¬
لا تأتي الشريعة بخلافه قط، وكذلك القياس بإلغاء الفارق، وهو أن لا يكون بين الصورتين فرق مؤثر في الشرع، فمثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه، وحيث جاءت الشريعة باختصاص بعض الأنواع بحكم يفارق به نظائره، فلا بد أن يختص ذلك النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم، ويمنع مساواته لغيره، لكن الوصف الذي اختص به قد يظهر لبعض الناس، وقد لا يظهر، وليس من شرط القياس الصحيح المعتدل أن يعلم صحته كل أحد، فمن رأى شيئاً من الشريعة مخالفاً للقياس فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه، وليس مخالفاً للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر (¬1). " فليس في الشريعة ما يخالف قياساً صحيحاً، لكن فيها ما يخالف القياس الفاسد، وإن كان من الناس من لا يعلم فساده " (¬2). والحديث إذا خالف أصلاً عند المخالفين، فإن هذا الحديث هو أصل بنفسه، كما أن غيره أصل، فلا تضرب الأصول بعضها ببعض، بل يجب اتباعها كلها، فإنها كلها من عند الله (¬3). وقال ابن تيمية: " وبالجملة فما عرفت حديثاً صحيحاً إلا ويمكن تخرجه على الأصول الثابتة، وقد تدبرت ما أمكنني من أدلة الشرع، فما رأيت قياساً صحيحاً يخالف حديثاً صحيحاً، كما أن المعقول الصريح لا يخالف المنقول الصحيح، بل متى رأيت قياساً يخالف أثراً فلا بد من ضعف أحدهما، لكن التمييز بين صحيح القياس وفاسده مما يخفى كثير منه على أفاضل العلماء فضلاً ¬
عمن هو دونهم؛ فإن إدراك الصفات المؤثرة في الأحكام على وجهها، ومعرفة الحكم والمعاني التي تضمنتها الشريعة من أشرف العلوم، فمنه الجلي الذي يعرفه كثير من الناس، ومنه الدقيق الذي لا يعرفه إلا خواصهم، فلهذا صار قياس كثير من العلماء يرد مخالفاً للنصوص؛ لخفاء القياس الصحيح عليهم، كما يخفى على كثير من الناس ما في النصوص من الدلائل الدقيقة التي تدل على الأحكام" (¬1). وقال ابن القيم رحمه الله: التيمم على وفق القياس الصحيح؛ فإن الله سبحانه وتعالى جعل من الماء كل شيء حي، وخلقنا من التراب، فلنا مادتان: الماء والتراب، فجعل منهما نشأتنا وأقواتنا، وبهما تطهرنا وتعبدنا، فالتراب أصل ما خلق منه الناس، والماء حياة كل شيء، وهما الأصل في الطبائع التي ركب الله عليهما هذا العالم، وجعل قوامه بهما، وكان أصل ما يقع به تطهير الأشياء من الأدناس والأقذار: هو الماء في الأمر المعتاد، فلم يجز العدول عنه إلا في حال العدم والعذر بمرض أو نحوه، وكان النقل عنه إلى شقيقه وأخيه التراب أولى من غيره، وإن لوث ظاهراً فإنه يطهر باطناً، ثم يُقَوِّى طهارة الباطن فيزيل دنس الظاهر أو يخففه، وهذا أمر يشهده من له بصر نافذ بحقائق الأعمال، وارتباط الظاهر بالباطن، وتأثر كل منهما بالآخر، وانفعاله عنه ". قلت: من يسلم أن التراب ملوث غير مطهر، فهذا الكلام يصادم النص المنقول، ويصادم الأمر المعقول. أما النص، فقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن ¬
لم يجد الماء عشر سنين " (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " (¬2). والطهور: ما يطهر غيره. وأما موافقته للمعقول، فإن طهارة الخبث إذا أمكن إزالتها بالتراب، وهي عين خبيثة، وطهارتها معقولة المعنى، كما في الاستجمار، وكما في طهارة النعل بدلكها بالتراب، وكما في تطهير الإناء من ولوغ الكلب ونحوها من النجاسات، فلأن يطهر التراب طهارة الحدث، والتي هي ليست عن نجاسة أصلاً من باب أولى، فما كان له قوة في إزالة النجاسة، كان له قوة في رفع الحدث بشرطه كالماء والتراب. وأما كونه في عضوين، يقول ابن القيم: " فهذا في غاية الموافقة للقياس، فإن وضع التراب على الرؤوس مكروه في العادات، وإنما يفعل عند المصائب والنوائب، والرجلان محل ملابسة التراب في أغلب الأحوال، وفي تتريب الوجه من الخضوع، والتعظيم لله، والذل له، والإنكسار لله ما هو من أحب العبادات إليه وأنفعها للعبد، ولذلك يستحب للساجد أن يترب وجهه لله، وأن لا يقصد وقاية وجهه من التراب كما قال بعض الصحابة لمن رآه قد سجد، وجعل بينه وبين التراب وقاية فقال: " ترب وجهك " وهذا المعنى لا يوجد في تتريب الرجلين. وأيضاً فموافقة ذلك للقياس من وجه آخر: وهو أن التيمم جعل في ¬
العضوين المغسولين، وسقط عن العضوين الممسوحين، فإن الرجلين تمسحان في الخف، والرأس في العمامة، فلما خفف عن المغسولين بالمسح، خفف عن الممسوحين بالعفو؛ إذ لو مسحا بالتراب لم يكن فيه تخفيف عنهما، بل كان فيه انتقال من مسحهما بالماء إلى مسحهما بالتراب، فظهر أن الذي جاءت به الشرعية هو أعدل الأمور، وأكملها، وهو الميزان الصحيح " (¬1). وهذا هو القول الراجح إن شاء الله تعالى، والله أعلم. ¬
الباب الأول: في حكم التيمم
الباب الأول: في حكم التيمم الفصل الأول: في التيمم هل هو رخصة أو عزيمة؟ تعريف الرخصة: الرخصة في اللغة تطلق على التيسير والتسهيل، يقال: رخص الشرع في كذا: إذا يسره وسهله. والرخصة في الأمر: هو خلاف التشديد. وقال - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه " (¬1). ويقال: رَخُص السعر: إذا تراجع وسهل الشراء. ويقال: رخَّص له في الأمر: إذا أذن له فيه وسهله بعد أن كان ممنوعاً. والرخصة: ترخيص الله للعبد في أشياء خففها عنه. وأما العزيمة: فالعزم عبارة عن القصد المؤكد، قال الله تعالى: {فنسي ¬
ولم نجد له عزماً} (¬1)، أي: قصداً بليغاً، وسمي بعض الرسل أولي العزم، لتأكيد قصدهم في طلب الحق (¬2). وفي اصطلاح الفقهاء: الرخصة، قال الغزالي: عبارة عما وُسِّعَ للمكلف في فعله لعذر، وعجز عنه مع قيام السبب المحرم (¬3). وقال في شرح المجلة: هي الأحكام التي ثبتت مشروعيتها بناء على الأعذار مع قيام الدليل المحرم توسعاً في الضيق (¬4). وقيل: الرخصة ما شرع على وجه التسهيل والتخفيف (¬5). وقيل: حكم شرعي سهل، انتقل إليه من حكم شرعي صعب لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي (¬6). وأما العزيمة: فقيل: هو الحكم الأصلي السالم موجبه عن المعارض (¬7). وإذ عرفنا الرخصة والعزيمة، فقد اختلف العلماء في التيمم، هل هو رخصة أو عزيمة؟. ¬
فقيل: رخصة، وهو مذهب الجمهور (¬1)، وأومأ إليه ابن القيم رحمه الله (¬2). وقيل: عزيمة، وهو قول في مذهب الشافعية (¬3)، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: عزيمة عند عدم الماء، رخصة في حق المريض إذا تيمم مع وجود الماء، أو مع بُعْدِه، أو بيعه بأكثر من ثمنه، وهو قول في مذهب المالكية (¬5)، ¬
وقول في مذهب الشافعية (¬1). وسبب الخلاف في التيمم، هل هو عزيمة أو رخصة؟ أن بعض العلماء لا يرى أن الرخصة تكون في الواجبات، والتيمم واجب عند عدم الماء أو العجز عن استعماله، فلا يلحق بالرخص، وبعض العلماء لا يرى مانعاً من إلحاقه بالرخصة وإن كان واجباً، لأن الرخصة عنده تنقسم إلى واجب ومندوب ومباح (¬2). فإن قيل: كيف يكون الشيء واجباً ويكون رخصة؟ قيل: أكل الميتة للمضطر واجب لإنقاذ نفسه من الهلكة، فهو من حيث وجوب الأكل عزيمة، ومن حيث إسقاط العقاب والعفو عن الفعل هو رخصة (¬3). ¬
دليل من قال: التيمم رخصة
ومثله دفع الغصة بالخمر إذا خاف على نفسه، فهو واجب ورخصة أيضاً (¬1). وذكر بعضهم ثمرة الخلاف في هذه المسألة، في تيمم العاصي بسفره، فعلى أنه عزيمة، يتيمم ولو كان عاصياً، وعلى أنه رخصة لا يتيمم (¬2). والحق أنه يتيمم مطلقاً، سواء كان عاصياً في سفره أو لا، وقد بحثت هذه المسألة فيما سبق وذكرت أدلة الأقوال مع بيان الراجح، مع أن التيمم ليس من الرخص الخاصة بالسفر على القول بأنه رخصة؛ لأن القائلين بمنع العاصي من الرخص في السفر خصوا ذلك بالرخص الخاصة بالسفر، كالقصر والفطر في رمضان، فإنها من رخص السفر خاصة، والله أعلم (¬3). دليل من قال: التيمم رخصة. الدليل الأول: (1375 - 8) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حجاج، حدثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، ¬
عن عمار بن ياسر أبي اليقظان، قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهلك عقد لعائشة، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أضاء الفجر، فتغيظ أبو بكر على عائشة، فنزلت عليهم الرخصة في المسح بالصعدات، فدخل عليها أبو بكر، فقال: إنك لمباركة، لقد نزل علينا فيك رخصة، فضربنا بأيدينا لوجوهنا، وضربنا بأيدينا ضربة إلى المناكب والآباط [الحديث مطضرب الإسناد منكر المتن] (¬1). وجه الاستدلال: قوله: " فنزلت عليهم الرخصة في المسح " وقول أبي بكر: " لقد نزل علينا فيك رخصة ". ويجاب عن ذلك: أولاً: الحديث إسناده منقطع على اختلاف فيه، كما أن متنه منكر، وقد اختلف فيه على الزهري (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
ثانياً: قد يكون المقصود بالرخصة هنا المعنى اللغوي، وهو التسهيل والتيسير، وليس المقصود به المعنى الاصطلاحي، والله أعلم. الدليل الثاني: (1376 - 9) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي، حدثنا محمد بن سلمة، عن الزبير بن خريق، عن عطاء، عن جابر، قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب ـ شك موسى ـ على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل ¬
الدليل الثالث
سائر جسده (¬1). [إسناده ضعيف، وزيادة ويعصر أو يعصب ثم يمسح عليها زيادة منكرة] (¬2). وجه الاستدلال: أنه سألهم: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فاعتبر التيمم رخصة، وقد أنكر عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - صنيعهم مما يدل على أن التيمم رخصة. وهذا الحديث لا حجة فيه كما قلت لضعفه، ولو صح فليس فيه دليل على كون التيمم رخصة بالمفهوم الاصطلاحي. الدليل الثالث: أن مسمى الرخصة الاصطلاحي ينطبق على التيمم، وذلك أن الحكم الأصلي، وهو وجوب الغسل، سقط هذا الحكم لحكم آخر أخف منه وذلك عند العجز عن الماء سواء كان العجز حسياً لفقد الماء، أو عجزاً شرعياً كما لو خاف على نفسه من الضرر من استعماله مع وجوده لمعارض راجح. دليل من قال: التيمم عزيمة، وليس برخصة. قالوا: التيمم عند فقد الماء لا يمكن تسميته رخصة، بخلاف المكره على الكفر، فإن للمكره أن يمتنع عن قول الكفر والأخذ بالعزيمة، وله الأخذ بالرخصة في إظهار الكفر، وقلبه مطمئن بالإيمان، ومثله الفطر للمسافر في ¬
دليل من فرق بين التيمم لفقد الماء وبين التيمم لبيعه بأكثر من ثمنه
نهار رمضان، فإن له الأخذ بالعزيمة، وله الأخذ بالرخصة من الفطر، هذا هو حقيقة الرخصة، وأما التيمم فإنه لا يشرع مع القدرة على وجود الماء، ويجب عند فقد الماء، فهو بمنزلة الإطعام عند فقد الرقبة، وذلك ليس برخصة، بل وجبت الرقبة في حال، والإطعام في حال، فكذلك الوضوء وجب في حال، ووجب التيمم في حال أخرى، بخلاف المسح على الخفين، فله أن يمسح، وله أن يخلع الخف، ويغسل رجله، ولذلك قالوا في مسح الجبيرة عزيمة، وليس برخصة؛ لأنه لا مندوحة عنه، فيجب المسح عندهم عند العجز عن الغسل. دليل من فرق بين التيمم لفقد الماء وبين التيمم لبيعه بأكثر من ثمنه. قالوا: التيمم عند فقد الماء لا يمكن أن يقال له رخصة؛ لما سبق ذكره من أدلة القول السابق، ولكن التيمم عند بيع الماء بأكثر من ثمن المثل، فإنه يصح أن يقال له رخصة؛ لأن له شراء الماء والوضوء به (¬1)، ويباح له التيمم في هذه الحالة عند بعض أهل العلم، وسوف يأتي ذكر خلاف أهل العلم في هذه المسألة (¬2). الراجح من الخلاف: ما دمنا قد رجحنا أن العاصي بسفره وغيره سواء في الترخص لم يكن للخلاف في هذه المسألة ثمرة كبيرة، وإطلاق الرخصة على التيمم إن كان ذلك من قبيل الإطلاق اللغوي، وهو أن مشروعية التيمم من التيسير والتسهيل على المكلف فلا حرج، بل قد يطلق الترخيص على أمر لم يرد فيه منع، كما ¬
أبيح لنا شحوم البقر والغنم، وكانت محرمة على غيرنا، فيجوز أن نقول: إن ذلك رخصة في حقنا، ومن رفع الحرج عن هذه الأمة، وإن لم يرد فيه منع أصلاً في شرعنا، وإن كان المقصود بالرخصة هو الاصطلاح الفقهي، فالذي أميل إليه أنه لا يسمى التيمم رخصة إلا في الحال الذي يكون التيمم مباحاً، وليس واجباً، كما لو كان الماء يبعد مسافة كبيرة، فله أن يتيمم، وله أن يؤخر الصلاة ويطلب الماء ما دام أنه يجده قبل خروج الوقت، وهذا المثال أفضل من مثال شراء الماء بأكثر من ثمن المثل، فإن في هذا خلافاً بين أهل العلم، هل يصح له التيمم، أو يجب عليه الشراء ما دام أن الثمن لا يضره، والله أعلم.
الفصل الثاني: هل التيمم يرفع الحدث أو يبيح فعل المأمور مع قيام الحدث؟
الفصل الثاني: هل التيمم يرفع الحدث أو يبيح فعل المأمور مع قيام الحدث؟ اختلف العلماء في التيمم، هل يقوم مقام الماء في رفع الحدث، فيكون الإنسان متطهراً به، أو أنه يبيح له فعل الصلاة ونحوها مما تشترط له الطهارة مع قيام الحدث. فقيل: التيمم لا يرفع الحدث، وهو المشهور عن الإمام مالك رحمه الله (¬1)، والقول الجديد للشافعي (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: بل يرفع الحدث إلى حين وجود الماء، وهو مذهب الحنفية (¬4)، وأحد القولين في مذهب المالكية (¬5)، ورجحه ابن تيمية (¬6) من الحنابلة. ¬
ثمرة الخلاف بين القولين: هناك خلاف بين القولين نظري، وعملي: أما النظري فخلافهم هل التيمم يرفع الحدث رفعاً مؤقتاً إلى حين القدرة على استعمال الماء، أو الحدث قائم، ولكن تصح الصلاة مع وجود الحدث المانع؟. وأما الخلاف العملي، فقد اختلفوا بناء على اختلافهم في هذه المسألة في مسائل منها: هل يقوم التيمم مقام الماء، فيتيمم قبل الوقت، كما يتوضأ قبل الوقت، ويصلي به ما شاء من فروض ونوافل، كما يصلي بالماء؟. وهل خروج الوقت مبطل للتيمم، أو يكون بمنزلة الماء؟. وهل يصح وطء الحائض إذا طهرت من الحيض به؟. وهل يلبس الخفان بالتيمم؟. وهل تصح إمامة المتيمم بالمتوضئ؟. فهذه مسائل خمسة اختلف فيها الفقهاء بناء على اختلافهم في التيمم هل يرفع الحدث، أو يبيح فعل المأمور والحدث قائم (¬1). وإن كانت المسألة الأخيرة: أعني إمامة المتيمم للمتوضئ قال بها بعض الأئمة الذين يرون أن التيمم لا يرفع الحدث، وسيأتي مزيد بحث لهذه المسألة بخصوصها إن شاء الله تعالى. ¬
دليل من قال: التيمم لا يرفع الحدث
دليل من قال: التيمم لا يرفع الحدث. الدليل الأول: قالوا: إذا كان التيمم لا يرفع الحدث مع وجود الماء، لم يرفعه مع عدمه كسائر المائعات (¬1). الدليل الثاني: (1377 - 10) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (¬2). [حديث حسن] (¬3). الدليل الثالث: (1378 - 11) ما رواه البخاري من حديث عمران بن حصين الطويل، وفيه: " فلما انفتل - صلى الله عليه وسلم - من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم، قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك. ¬
وفي آخر الحديث حين وجد عليه الصلاة والسلام الماء أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء، وقال: " اذهب فأفرغه عليك " (¬1). وجه الاستدلال من الحديثين السابقين: لو كان الحدث يرتفع بالتيمم لما عاد إليه حدثه إذا وجد الماء، فلو كانت الجنابة قد ارتفعت بالتيمم كيف تعود الجنابة بوجود الماء، مع أنه لم يوجد ما يوجب تجدد الجنابة، ولذلك لما كان الماء رافعاً للحدث لم يرجع الحدث إلا بتجدد حدث آخر، وهذا دليل على أن الحدث أصلاً لم يرتفع، وإنما أبيح فعل المأمور مع بقاء الحدث. ويجاب: كون الحكم يكون ثابتاً إلى غاية أو غايات كثيرة غير ممنوع شرعاً، فالتيمم يرفع الحدث إلى غايات منها: طريان الحدث، ومنها وجود الماء، ألا ترى أن الأجنبية ممنوعة محرمة، والعقد عليها رافع لهذا المنع إلى غايات منها: الطلاق، وثانيها الحيض، وثالثها الصوم، ورابعها: الإحرام، وخامسها الظهار (¬2)، فما المانع أن يكون الحدث مرتفعاً إلى حين وجود الماء، خاصة أن التيمم بدل عن الماء فهو مطهر ما دام الماء مفقوداً، كما أن الملتقط يملك اللقطة ما دام لم يأته صاحبها، وكان ملك الملتقط ملكاً مؤقتاً إلى ظهور المالك، فإنه كان بدلاً عن المالك، فإذا جاء صاحبها خرجت عن ملك الملتقط إلى ملك صاحبها (¬3). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (1379 - 12) ما رواه أحمد في مسنده، قال: ثنا حسن بن موسى، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص أنه قال: لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام ذات السلاسل، قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو صليت بأصحابك، وأنت جنب؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله عز وجل {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} (¬1)، فتيممت، ثم صليت. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقل شيئاً (¬2). [أعله أحمد بالانقطاع، وهذا الإسناد له علتان] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال: قوله: " صليت بأصحابك وأنت جنب " فدل على أن التيمم لم يرفع الجنابة، ولو كان التيمم يرفع الجنابة لم يكن عمرو بن العاص رضي الله عنه صلى، وهو جنب، بل صلى وقد ارتفع حدثه. ويجاب: بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين قال له ذلك قاله مستفهماً؛ لأنه معلوم أن من تيمم مع وجود الماء، وبلا عذر، فإن حدثه لا يرتفع إجماعاً، وأن التيمم إنما يرفع الحدث بشرطه، وهو عدم الماء، أو الخوف من استعماله لمرض ونحوه، وحين أخبره عمرو بن العاص رضي الله عنه بعذره، أقره عليه، وعلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يصل، وهو جنب، فكيف لا يكون إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد اطلاعه على عذره دليلاً على أن حدثه قد ارتفع. يقول ابن تيمية رحمه الله: " قوله: " أصليت بأصحابك وأنت جنب " استفهام، أي: هل فعلت ذلك؟ فأخبره عمرو رضي الله عنه أنه لم يفعله، بل تيمم لخوفه أن يقتله البرد، فسكت عنه، وضحك، ولم يقل شيئاً. ¬
دليل من قال: إن التيمم يرفع الحدث
فإن قيل: إن هذا إنكار عليه أنه صلى مع الجنابة، فإنه يدل على أن الصلاة مع الجنابة لا تجوز، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر ما هو منكر، فلما أخبره أنه صلى بالتيمم دل على أنه لم يصل وهو جنب. فالحديث حجة على من احتج به، وجعل المتيمم جنباً ومحدثاً، والله يقول: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} فلم يجز الله له الصلاة حتى يتطهر، والمتيمم قد تطهر بنص الكتاب والسنة، فكيف يكون جنباً غير متطهر؟ لكنها طهارة بدل، فإذا قدر على الماء بطلت هذه الطهارة، وتطهر بالماء حينئذ؛ لأن البول المتقدم جعله محدثاً، والصعيد جعله مطهراً إلى أن يجد الماء، فإن وجد الماء فهو محدث بالسبب المتقدم، لا أن الحدث كان مستمراً " (¬1). دليل من قال: إن التيمم يرفع الحدث. الدليل الأول: من الكتاب قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (¬2). وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى نص على أنه شرع لنا الوضوء والغسل والتيمم لغايتين: ¬
الدليل الثاني
الأمر الأول: رفع الحرج عن هذه الأمة. والأمر الثاني: إرادة التطهير، فدل على أن التيمم مطهر لنا بنص الكتاب. الدليل الثاني: من السنة، (1380 - 13) ما رواه البخاري من طريق هشيم، قال: أخبرنا سيار، قال: حدثنا يزيد - هو ابن صهيب الفقير - قال: أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ... "الحديث، ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬1). وجه الاستدلال: فإذا كان الماء طهوراً يرفع الحدث لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الماء طهور لا ينجسه شيء "، فكذلك التيمم يرفع الحدث لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " فالطهور: هو ما يتطهر به. الدليل الثالث: (1381 - 14) ما رواه الترمذي من طريق أبي أحمد الزبيري، حدثنا سفيان، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن ¬
الدليل الرابع
لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير (¬1). [حديث حسن، وسبق تخريجه] (¬2). وجه الاستدلال: وجه الاستدلال منه كالاستدلال من الحديث السابق، حيث حكم على الصعيد بأنه طهور المسلم، فكيف يكون الحدث قائماً، ولدى المسلم طهوره من الصعيد؟. الدليل الرابع: (1382 - 15) ما رواه مسلم، قال: حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد وأبو كامل الجحدري- واللفظ لسعيد- قالوا: حدثنا أبو عوانة، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، قال: دخل عبد الله بن عمر على ابن عامر يعوده، وهو مريض، فقال: ألا تدعو الله لي يا ابن عمر. قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول، وكنت على البصرة (¬3). فالحديث نص على أن الصلاة لا تصح بدون طهور مطلقاً، لأن نفي القبول هنا نفي للصحة، وقد أطلق الطهور على الماء، كما أطلق على التيمم في حديث أبي ذر المتقدم، فإذا صحت الصلاة بالتيمم دل على أن التيمم طهور بشرطه. ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: قولكم: إن التيمم لا يرفع الحدث، إن كان المراد لا يرفع الأسباب الموجبة له كالريح والوطء، فكذلك الوضوء؛ لأن رفع الأسباب محال وقد وقعت، وإن كان المقصود لا يرفع الحدث لا يرفع المنع الشرعي من الإقدام على العبادة، فإن المنع قد ارتفع بالضرورة، فإن الإباحة ثابتة بالإجماع، ومع الإباحة لا منع، فهذا بيان ضروري لا محيص عنه (¬1)، ولذلك قال ابن تيمية رحمه الله: " من قال: إن التيمم مبيح لا رافع فإن نزاعه لفظي، فإنه إن قال: إنه يبيح الصلاة مع الجنابة والحدث، وإنه ليس بطهور فهو يخالف النصوص والجنابة مُحَرِّمة للصلاة، فيمتنع أن يجتمع المبيح والمُحَرِّم على سبيل التمام؛ فإن ذلك يقتضي اجتماع الضدين، والمتيمم غير ممنوع من الصلاة، فالمنع ارتفع بالاتفاق، وحكم الجنابة المنع، فإذا قبل بوجوده (يعني الحدث) دون مقتضاها - وهو المنع- فهو نزاع لفظي " (¬2). الراجح: بعد استعراض الأقوال نجد أن القول بأن التيمم يقوم مقام الماء في كل شيء عند فقده أقوى دليلاً، وذلك لأن البدل له حكم المبدل، إلا أن رفعه للحدث يكون إلى غاية وجود الأصل، وهو الماء، فإذا وجد الماء عاد إليه حدثه، ووجب عليه رفع الحدث بالماء، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث: في حكم إمامة المتيمم للمتوضئ
الفصل الثالث: في حكم إمامة المتيمم للمتوضئ اختلف أهل العلم في حكم إمامة المتيمم للمتوضئ: فقيل: يجوز من غير كراهة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، ونص عليه الإمام أحمد وإسحاق (¬2)، واختاره ابن حزم (¬3)، وابن تيمية (¬4). وقيل: يكره إمامة المتيمم للمتوضئ، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬5)، وصرح متأخروا الحنابلة بأن إمامة المتوضئ أولى (¬6). ¬
وبالرغم من أن المالكية والحنابلة لا يرون التيمم رافعاً للحدث إلا أنهم صححوا إمامة المتيمم بالمتوضئ (¬1). وقيل: لا يجوز، وهو اختيار محمد بن الحسن من الحنفية (¬2). وقيل: إن كان المتيمم تلزمه إعادة الصلاة فلا يجوز الاقتداء به، كما لو تيمم في الحضر لعدم الماء، وإن كانت لا تلزمه الإعادة فيجوز الاقتداء به، وهو مذهب الشافعية (¬3). وقيل: لا يؤمهم إلا أن يكون الإمام أميراً، وهو قول الأوزاعي رحمه الله تعالى (¬4). ¬
دليل من قال: تصح إمامة المتيمم بالمتوضئ
دليل من قال: تصح إمامة المتيمم بالمتوضئ. الدليل الأول: من الكتاب قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فافسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (¬1). وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى نص على أنه شرع لنا الوضوء والغسل والتيمم لغايتين: الأمر الأول: رفع الحرج عن هذه الأمة. والأمر الثاني: إرادة التطهير، فدل على أن التيمم مطهر لنا بنص الكتاب، وإذا كان مطهراً فلا فرق بين إمامة المتيمم وإمامة المتوضئ، فكل قد فعل ما أمر به شرعاً، وكل واحد منهما صلاته صحيحة، وإذا صحت صلاته صحت صلاة من خلفه. ومثل الآية الكريمة الأحاديث الواردة بأن التيمم جعله الله مطهراً لنا، كحديث جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ... "الحديث، رواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬2). وما رواه الترمذي من حديث أبي ذر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن ¬
الدليل الثاني
الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير (¬1). [حديث حسن وسبق تخريجه] (¬2). الدليل الثاني: (1383 - 16) ما رواه أحمد في مسنده، قال: ثنا حسن بن موسى، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص أنه قال: لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام ذات السلاسل، قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو صليت بأصحابك، وأنت جنب؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله عز وجل {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} (¬3)، فتيممت، ثم صليت. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقل شيئاً (¬4). [أعله الإمام أحمد بالانقطاع] (¬5). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1384 - 17) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، قال: كان ابن عباس في سفر مع أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيهم عمار بن ياسر، فكانوا يقدمونه يصلي بهم لقرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى بهم ذات يوم، ثم التفت إليهم فضحك، فأخبرهم أنه أصاب جارية له رومية، وصلى بهم، وهو جنب، فتيمم (¬1). [حسن، وسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى] (¬2). دليل من قال: لا تجوز إمامة المتيمم للمتوضئ. الدليل الأول: (1385 - 18) ما رواه الدارقطني من طريق صالح بن بيان، عن محمد ابن المنكدر، عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يؤم المتيمم المتوضئين (¬3). [إسناده ضعيف جداً] (¬4). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1386 - 19) ما رواه ابن المنذر من طريق زيد بن الحباب، أخبرني معاوية بن صالح، قاضي الأندلس، أخبرني العلاء بن الحارث الحضرمي، حدثني نافع، قال: صحبت ابن عمر في سفر، فأصابت ابن عمر جنابة، ولم يقدر على ماء، فتيمم، وأمرني أن أصلي بهم، وكان ماء معنا (¬1). [إسناده ضعيف، ولو صح فهو موقوف، وقد خالفه ابن عباس] (¬2). الدليل الثالث: (1387 - 20) ما رواه ابن المنذر من طريق مسدد، ثنا حفص، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي أنه كره أن يصلي المتيمم بالمتوضئ (¬3). [ضعيف جداً] (¬4). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: قالوا: إن المتيمم أقل من المتطهر بالماء، والإمام يجب أن يكون مساوياً للمأموم أو أعلى منه، ولا يصح أن يكون أقل منه، والتيمم نفسه لا يرفع الحدث، وطهارته طهارة ضرورة. ¬
الدليل الخامس
ويجاب: بأننا لا نسلم أن المتطهر بالتراب أقل من المتطهر بالماء، فكل قد قام بما هو مطهر له شرعاً، كما أن المكفر إذا لم يجد الرقبة، وكفر بالصيام لم تكن كفارته ناقصة، وقد قدمنا أن التيمم يرفع الحدث، وسقت الأدلة على ذلك، فأغنى عن إعادته هنا. الدليل الخامس: قالوا: القياس على ائتمام القارئ بالأمي الذي لا يقرأ الفاتحة إذا صلى بتسبيح وذكر، وبصلاة القائم خلف القاعد، فإن كلاً منهما أتى ببدل، لا يصح أن يأتم إلا من هو بمثله. ويجاب عن ذلك: بأن الأمي مخل بركن القيام الأعظم، وهو القراءة، والقرآن مقصود لذاته في الصلاة بخلاف الطهارة، فإنها لا تراد لذاتها بل لغيرها، وهو استباحة الصلاة بها، والتيمم يبيح الصلاة كطهارة الماء، وإما ائتمام القاعد بالقائم فقد أجازه جماعة من العلماء، وأجازه أحمد في صورة خاصة، فإن القاعد قد أتى ببدل القيام، وهو الجلوس، وأتى بركن القيام الأعظم، وهو القراءة (¬1). دليل من قال: يجوز إذا كان الإمام الأمير. ربما يرى الأوزاعي أن الأصل منع المتيمم من أن يكون إماماً إلا لمثله، إلا أن إمامة عمرو بن العاص في أصحابه، وهو جنب استثني لكونه أميراً للجند، وسبق لنا أن الحديث قد أعله أحمد بالانقطاع، وعلى فرض صحته، فإن هذا ¬
الراجح من الخلاف
فرد من أفراد الحكم المطلق لا يقتضي اختصاص الحكم به، بل هو دليل على الجواز المطلق، ومن أين لنا القول بأن الأصل منع إمامة المتيمم إلا لمثله، فلم يأت نص من الشارع على المنع حتى يقال: إن إمامة عمرو بن العاص رضي الله عنه اغتفرت لكونه أميراً، والله أعلم. الراجح من الخلاف: بعد استعراض أدلة الأقوال، نجد أن القول بأن طهارة المتيمم وطهارة المتوضئ لا فرق بينهما؛ فلا مانع من أن يؤم المتيمم غيره من المتوضئين، وقد ورد ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه، وأن التيمم يرفع الحدث كما أن الماء يرفعه، إلا أن التيمم يرفعه بشرطين: الأول: عدم الماء أو العجز عن استعماله، والثاني: استمرار فقد الماء أو العذر المبيح للتيمم، فإذا ارتفع الموجب للتيمم عاد إليه حدثه، ووجب عليه حينئذ أن يمس الماء، والله أعلم.
الفصل الرابع: إذا عدم الماء والصعيد
الفصل الرابع: إذا عدم الماء والصعيد اختلف أهل العلم في الرجل لا يجد صعيداً ولا ماء، كما لو كان محبوساً. فقيل: لا يصلى، ويقضي صلاته إذا قدر على الطهارة، وهو قول أبي حنيفة (¬1)، والثوري (¬2)، وقول في مذهب مالك (¬3)، وقول في مذهب الشافعية (¬4). وقيل: يصلي، ويعيد إذا قدر على الماء أو على الصعيد، وهو اختيار ابن القاسم (¬5)، والمشهور في مذهب الشافعية (¬6)، وقول في مذهب الحنابلة (¬7). ¬
دليل من قال: لا يصلي
وقيل: يصلي حسب حاله، ولا قضاء عليه، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: لا يصلي، ولا يعيد، هو رواية عن مالك (¬2)، وقول بعض الظاهرية (¬3)، وحكاه بعضهم رواية عن أبي ثور (¬4). دليل من قال: لا يصلي: الدليل الأول: أن الله سبحانه وتعالى قال: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ..} وقال: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬5). (1388 - 21) وروى مسلم في صحيحه من طريق سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، عن ابن عمر، وفيه: ¬
قال عبد الله بن عمر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول (¬1). ومن صلى بغير وضوء ولا تيمم فقد صلى بغير طهور، فلا يكون ذلك صلاة، فالطهارة شرط أهلية أداء الصلاة، كالحائض لا تجب عليها الصلاة لفقد شرط الأهلية: وهي الطهارة، فلا تجب الصلاة إلا على الطاهر. ويجاب عن هذا: بأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يقبل الله صلاة بغير طهور" أي مع القدرة على الطهور، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " أي مع القدرة على الوضوء؛ لأنه لا خلاف أنه لو عدم الماء، وصلى بالتيمم صحت صلاته (¬2). ومثله حديث: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " (¬3)، ولو عجز عن الفاتحة لم تسقط عنه الصلاة مع قيام النفي بصحة الصلاة بدونها. ولو قلنا: الطهارة شرط في وجوب الصلاة، لكان لكل مكلف أن يقول: أنا لا تجب علي الصلاة حتى أتطهر، وأنا لا أتطهر فلا يجب عليّ شيء، لأن القاعدة: أن كل ماهو شرط في الوجوب كالحول مع الزكاة، والإقامة مع الجمعة لا يتحقق الوجوب حالة عدمه، ولا يجب على المكلف تحصيله، فالصحيح أن وجوب الصلاة ليس مشروطاً بالطهارة (¬4). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1389 - 22) استدلوا بما رواه البخاري من طريق عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء - أو بذات الجيش- انقطع عقد لي، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء ..... وفيه: فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم، فتيمموا ..... الحديث، والحديث رواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام حتى أصبح على غير ماء، وأنه لم يصل هو ولا من كان معه حتى أنزل الله آية التيمم، فإذا كان الطهور هو الماء وحده قبل نزول آية التيمم، وحين فقد الماء لم يصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا من كان معه حتى أنزل الله آية التيمم، فكذلك يكون الحال فيمن فقد القدرة على التيمم لا يصلي حتى يتمكن من الفعل. أجاب عن ذلك ابن رجب رحمه الله: قال: " وأما توقفهم - يعني الصحابة - في التيمم حتى نزلت آية المائدة مع سبق نزول آية التيمم في سورة النساء، فالظاهر - والله أعلم - أنهم توقفوا في جواز التيمم في مثل هذه الواقعة؛ لأن فقدهم للماء إنما كان بسبب ¬
إقامتهم لطلب عقد أو قلادة، وإرسالهم في طلبها من لا ماء معه، مع إمكان سيرهم جميعاً إلى مكان فيه ماء، فاعتقدوا أن في ذلك تقصيراً في طلب الماء، فلا يباح معه التيمم، فنزلت آية المائدة مبينة جواز التيمم في مثل هذه الحال، وأن هذه الصورة داخلة في عموم آية النساء، ولا يستبعد هذا، فقد كان طائفة من الصحابة يعتقدون أنه لا يجوز استباحة رخص السفر من الفطر والقصر إلا في سفر طاعة، دون الأسفار المباحة، ومنهم من خص ذلك بالسفر الواجب كالحج والجهاد، فلذلك توقفوا في جواز التيمم للاحتباس عن الماء لطلب شيء من الدنيا حتى بين لهم جوازه ودخوله في عموم قوله: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬1) (¬2). وقال أيضاً: " وزعم بعضهم أن رواية القاسم، عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام حتى أصبح على غير ماء يدل على أنه لم يصل هو لا من معه. وهذا في غاية الضعف، وقد قررنا فيما تقدم أن آية سورة النساء التي فيها ذكر آية التيمم كان نزولها سابقاً لهذه القصة، وأن توقفهم في التيمم إنما كان لظنهم أن من فوت الماء لطلب مال لا رخصة له في التيمم، فنزلت الآية التي في سورة المائدة مبينة لجواز التيمم في مثل ذلك، والظاهر أن الجميع صلوا بالتيمم، ولكن حصل لهم شك في ذلك، فزال ذلك عنهم بنزول أية المائدة، والله أعلم (¬3). ¬
دليل من قال: يصلي ولا يعيد
دليل من قال: يصلي ولا يعيد: الدليل الأول: (1390 - 23) استدلوا بما رواه البخاري من طريق أبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها استعارت من أسماء قلادة، فهلكت، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناساً من أصحابه في طلبها، فأدركتهم الصلاة، فصلوا بغير وضوء، فلما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - شكوا ذلك إليه، فنزلت آية التيمم ... الحديث، والحديث رواه مسلم (¬1). وقد استدل البخاري بهذا الحديث الذي رواه هشام عن أبيه، على أن من لم يجد ماء ولا تراباً أنه يصلي على حسب حاله، فإنهم صلوا بغير وضوء، ولم يكن شرع التيمم قبل ذلك، وشكوا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يأمرهم بإعادة الصلاة، فإذا كان من فقد الماء قبل نزول التيمم صلى على حسب حاله، فكذلك من فقد الماء والصعيد صلى على حسب حاله، ولم يؤمر بالإعادة. الدليل الثاني: قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (¬2). (1391 - 24) وروى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، ¬
الدليل الثالث
عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. ورواه مسلم (¬1). الدليل الثالث: أن الطهارة شرط، فإذا عجز عنها سقطت عنه كاستقبال القبلة وستر العورة ونحوهما، وكما لو عجز عن القيام بركن من أركان الصلاة كالقيام فإنه يصلي قاعداً، فإن لم يستطع فقاعداً، وهكذا. دليل من قال: يصلي ويعيد: هذان حكمان: الصلاة، ووجوب الإعادة، وكل واحد عليه دليل: أما الدليل على وجوب الصلاة عليهم في الحال، فاستدلوا بما سبق من حديث عائشة، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، فإن هؤلاء الصحابة صلوا على حسب حالهم حين عدموا المطهر معتقدين وجوب ذلك، وأخبروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينكر عليهم، ولا قال: ليست الصلاة واجبة في هذا الحال، ولو كانت غير واجبة لبين ذلك لهم، كما قال لعمار رضي الله عنه: " إنما كان يكفيك كذا وكذا " .. وأما الدليل على وجوب الإعادة فاحتجوا بما رواه مسلم من حديث ابن عمر المتقدم ذكره: " لا يقبل الله صلاة بغير طهور ". ولأنه عذر نادر غير متصل، فلم تسقط الإعادة، كمن صلى محدثاً ناسياً أو جاهلاً حدثه (¬2). ¬
دليل من قال: لا يصلي ولا يعيد
ويجاب عن هذا الدليل: أما استدلالكم على وجوب الصلاة عليه في الحال، فهو دليل صحيح، غير مدفوع. والاعتراض إنما هو على وجوب الإعادة، فإذا كانت هذه الصلاة لم تسقط عنه الصلاة، ولم تبرأ ذمته بهذا الفعل فما المصلحة من فعل صلاة لم يعتد بها، فأوجبتم عليه صلاة الظهر مرتين، وإنما أوجب الله عليه الظهر مرة واحدة. وأما استدلالكم على وجوب الإعادة بحديث " لا يقبل الله صلاة بغير طهور " فهل قلتم: إن الصلاة غير المقبولة لاغية، وليست صحيحة، ولا يطلب من المكلف فعل عبادة لا يقبلها الله، ولكن الجواب عن الحديث ما تقدم: لا يقبل الله صلاة بغير طهور: أي مع القدرة عليه، مثله مثل حديث: لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " أي مع القدرة عليه، فإن عجز تيمم، فإن عجز صلى على حسب حاله. والله أعلم. دليل من قال: لا يصلي ولا يعيد: قالوا: إن من عجز عن الطهارة فقد سقطت عنه الصلاة كالحائض، فأهلية أداء الصلاة أن يكون متطهراً إما بالماء أو بالتيمم عند فقده، فإذا لم يمكنه ذلك سقطت عنه الصلاة، ولم يقض كالحائض ليست أهلاً لأداء الصلاة، ولا يجب عليها القضاء. وأجيب: بأن الحائض مكلفة بترك الصلاة، لا سبيل لها إلى فعلها، ولو وجدت الطهور، بخلاف الرجل، والله أعلم. الراجح من الخلاف. القول بأنه يصلي ولا يعيد هو أقوى الأدلة وأسلمها من المعارضة، والله أعلم.
الفصل الخامس: في تأخير الصلاة لمن يرجو وجود الماء في آخر الوقت
الفصل الخامس: في تأخير الصلاة لمن يرجو وجود الماء في آخر الوقت اختلف الفقهاء هل الأفضل أن يصلي في أول الوقت بالتيمم، أو يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت إذا كان يرجو وجود الماء فيه: فقيل: تأخيرها إلى آخر الوقت أفضل، إن كان يغلب على ظنه وجود الماء، وهو مذهب الحنفية (¬1) والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يصلي في أول الوقت إلا إذا تيقن وجوده في آخر الوقت في منزله الذي هو فيه، فالتأخير أفضل، وهو مذهب الشافعية (¬3). ¬
تعليل من قال: يؤخر إلى آخر الوقت
وقيل: إذا لم يغلب على ظن المسافر الرجاء للماء، ولا اليأس منه، فالمستحب له أن يتيمم وسط الوقت. فإن غلب على ظنه إدراك الماء استحب له التأخير. وإن غلب على ظنه عدم وجود الماء، استحب له الصلاة في أول الوقت وهذا مذهب المالكية (¬1). تعليل من قال: يؤخر إلى آخر الوقت: في التأخير تحصيل شرط من شروط الصلاة، وهو الطهارة، بينما الصلاة في أول الوقت تحصيل فضيلة الوقت، وهو مستحب فقط، مراعاة الشرط أولى من مراعاة المستحب. تعليل من قال: يصلي في أول الوقت. الدليل الأول: (1392 - 25) ما رواه الدارقطني من طريق محمد بن سنان القزاز، نا عمرو ابن محمد بن أبي رزين، حدثنا هشام بن حسان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتيمم بموضع يقال له مربد النعم، وهو يرى بيوت المدينة (¬2). [إسناده ضعيف، والمحفوظ وقفه على ابن عمر] (¬3). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1393 - 26) ما رواه الإمام أحمد، قال: ثنا علي بن إسحاق، أخبرنا عبد الله، أخبرنا ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة، عن حنش، عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج، فيهريق الماء، فيتمسح بالتراب، فأقول: يا رسول الله، إن الماء منك قريب، فيقول: وما يدريني، لعلي لا أبلغه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1394 - 27) ما رواه الدارقطني من طريق شريك، عن أبي إسحاق، عن الحارث، ¬
الدليل الرابع
عن علي، قال: إذا اجنب الرجل في السفر تلوم ما بينه وبين آخر الوقت، فإن لم يجد الماء تيمم، وصلى (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الرابع: (1395 - 28) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن محمد ويحيى بن سعيد، عن نافع، أن ابن عمر تيمم، وصلى العصر وبينه وبين المدينة ميل أو ميلان، ثم دخل المدينة، والشمس مرتفعة، فلم يعد (¬3). [إسناده صحيح، وسبق تخريجه] (¬4). وهذا أصح ما ورد في الباب، والله أعلم. الدليل الخامس: الصلاة أول الوقت من أفضل القربات، وفيه إبراء للذمة، ومسارعة لفعل الخيرات، قال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} (¬5)، وقال تعالى: ¬
تعليل المالكية على تقسيم عادم الماء إلى ثلاثة
{فاستبقوا الخيرات} (¬1)، وآخر الوقت غيب علمه عند الله، والإنسان إنما هو مكلف في ساعته القائمة، ولذا يباح للمسافر القصر والجمع وإن كان قد شارف الوصول إلى بلده، ويمكنه أن يدرك الوقت حال الإقامة ليصلي تماماً وبدون جمع، ومع ذلك إذا صلى فإنه يصلى بحسب حاله وقت الأداء، فكذلك المتيمم يستحب له أن يبرئ ذمته في أداء الصلاة أول الوقت، إلا ما استحب له التأخير فيه كالعشاء والإبراد بالظهر زمن الحر، والله أعلم. تعليل المالكية على تقسيم عادم الماء إلى ثلاثة: قال في المعونة: " العادمون ثلاثة: منهم من يدخل عليه الوقت، وهو راج له، يغلب على ظنه وصوله إليه في الوقت، فيستحب له تأخير التيمم؛ ليجمع بين الوقت والطهارة الكاملة؛ لأن مراعاة كمال الطهارة أولى من مراعاة فضيلة أول الوقت. ومنهم من يغلب على ظنه أنه لا يجده حتى يخرج الوقت، فيستحب له أن يقدم التيمم؛ لأن في تأخيره فوات الأمرين - يعني: فضيلة الوقت، وفضيلة كمال الطهارة - ومنهم من هو بين الخوف والرجاء، لا يغلب على ظنه أحد الأمرين، فيتيمم وسط الوقت؛ لأنه لم تبلغ فيه قوة الرجاء أن يؤخره، ولا ضعفه أن يقدمه، فاستحب له الوسط " (¬2). الراجح: بعد استعراض أدلة كل قول أجد أن القول بالصلاة في أول الوقت أقوى ¬
من حيث التعليل، وذلك أن الإنسان إذا صلى بالتيمم فقد امتثل الأمر الشرعي، لا فرق بينه وبين المصلي بالماء؛ لأن كلاً من المتطهر بالماء والمتطهر بالتراب قد فعل ما أمر به شرعاً، والتيمم على ما ترجح مطهر، وليس مجرد رافع للمنع، فكيف يقال: إن مراعاة شرط الطهارة أولى من فضيلة الوقت، وكأن المتيمم لم يراع شرط الطهارة، فإذا كانت الطهارة في حق فاقد الماء، هو التيمم، فقد قام بحق الطهارة على أكمل وجه. قال الإمام مالك رحمه الله: " من قام إلى الصلاة، فلم يجد ماء، فعمل بما أمره الله به من التيمم، فقد أطاع الله، وليس الذي وجد الماء بأطهر منه، ولا أتم صلاة؛ لأنهما أُمِرا جميعاً، فكل عمل بما أمره الله به، وإنما العمل بما أمر الله به من الوضوء لمن وجد الماء، والتيمم لمن لم يجد الماء قبل أن يدخل في الصلاة" (¬1). وإذا كان التيمم هو طهارة فاقد الماء، فتكون المبادرة بفعل الصلوات في أول الوقت قد أدرك فضيلتين: فضيلة الطهارة، وهي في حقه التيمم، وفضيلة أول الوقت، بينما من أخر الصلاة إلى آخر الوقت قد أردك فضيلة واحدة، وهو فضيلة الطهارة بالماء، وإدراك فضيلتين أولى، ويكفي أنه فعل ابن عمر رضي الله عنه على ما عرف عنه من الحرص على السنة، والله أعلم. ¬
الفصل السادس: في وطء عادم الماء
الفصل السادس: في وطء عادم الماء إذا كان الإنسان على طهارة مائية، فهل يباح له نقض طهارته بالجماع ليتيمم بعد ذلك، أو يحافظ على طهارته المائية؟. ويتصور وقوع ذلك في صور كثيرة، منها: لو أن الإنسان خاف على نفسه الضرر من الاغتسال لوجود برد شديد ونحوه، ولا يخاف ذلك من الوضوء، فهل له أن يجامع زوجته، ويتيمم عن الغسل، أو ليس له ذلك ليحافظ على الطهارة المائية؟ ومثله: لو كان الإنسان معه ماء يكفي لوضوئه، وليس معه ما يكفي للغسل، فهل له أن يجامع ليتيمم بعد ذلك، أو يحافظ على الطهارة المائية؟ اختلف أهل العلم في ذلك، فقيل: لا بأس أن يجامع أهله، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، واختيار ابن حزم رحمه الله (¬4). ¬
وبه قال ابن عباس (¬1) وجابر بن زيد (¬2)، والحسن البصري وسعيد بن المسيب (¬3)، وقتادة وسفيان الثوري (¬4)، ورجحه ابن تيمية (¬5). وقيل: يكره الجماع إلا أن يخاف الضرر، وهو مذهب المالكية (¬6)، ¬
دليل من قال: له أن يطأ زوجته
ورواية عن أحمد (¬1). وقيل: ليس له أن يجامع أهله، وبه قال الزهري رحمه الله (¬2). وقيل: إن كان بينه وبين أهله أربع ليال فليصب أهله، وإن كان ثلاث فما دونها فلا يصبها، وهو قول عطاء، والأوزاعي (¬3). دليل من قال: له أن يطأ زوجته. الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى: {أو لا مستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬4)، فأفادت الآية إباحة الجماع في حال عدم الماء، وقد قدمنا أن اللمس هنا المقصود به الجماع في خلاف أهل العلم في تيمم الجنب. الدليل الثاني: أباح الله سبحانه وتعالى للرجل أن يجامع زوجه وملك يمينه، فما أباح فهو على الإباحة، لا يجوز حظر ذلك، ولا المنع منه إلا بسنة أو إجماع، والممنوع منه: حال الحيض، والإحرام، والصيام، وحال المظاهر قبل أن يكفر، ¬
الدليل الثالث
وما عدا ذلك فهو على الإباحة، قال تعالى: {فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} (¬1)، وما خص الله تعالى بذلك من حكمه الغسل أو الوضوء ممن حكمه التيمم، ولا فرق بين من صلى بوضوء عند وجود الماء، وبين من صلى بتيمم حيث لا يجد الماء، فكل واحد منهم قد أدى ما فرض عليه (¬2). الدليل الثالث: (1396 - 29) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (¬3). [إسناده حسن، وسبق تخريجه] (¬4). وجه الاستدلال من وجهين: الأول: الصعيد الطيب وضوء المسلم، وفي رواية طهور المسلم، وهذا عام لطهارته من الحدث ومن الجنابة، وإذا كان التيمم بهذه المثابة لم تكن طهارته ناقصة. الوجه الثاني: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يسأله هل كان جنباً من جماع أو من ¬
الدليل الرابع
احتلام، فدل على أنه لا فرق في الحكم، ولو كان هناك فرق لسأله النبي - صلى الله عليه وسلم -، هل كانت جنابته من جماع، فينهاه عن ذلك، أو كانت من احتلام فيرشده إلى التيمم؟ فلما ترك الاستفصال في مقام الاحتمال، نزل ذلك منزلة العموم في المقال، مع أنه ورد في بعض طرق الحديث أن تيمم أبي ذر كان عن جماع، كما في مصنف عبد الرزاق (¬1)، وسنن أبي داود (¬2)، الله أعلم. الدليل الرابع: (1397 - 30) ما رواه أحمد، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، حدثنا الحجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، الرجل يغيب، لا يقدر على الماء، أيجامع أهله؟ قال: نعم (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (1398 - 31) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن مجاهد، قال: كنا مع ابن عباس في سفر، ومعه جارية له، فتخلف، فأصاب منها ثم أدركنا، فقال: معكم ماء؟ قلنا: لا؟ قال: أما إني قد علمت ذلك، فتيمم (¬1). [رواية الأعمش عن مجاهد فيها تدليس كثير، ومع ذلك فالأثر حسن لغيره إن شاء الله تعالى] (¬2). ¬
دليل من قال بالمنع
دليل من قال بالمنع. قالوا: كما أن الإنسان لو كان معه ماء لا يجوز له أن يريقه ويتيمم، ولو فعل ذلك لكان عاصياً، وكذلك لو كان على طهارة مائية لا يجوز له أن يتعمد نقض طهارته بريح أو بول أو غائط ما لم يكن مضطراً إلى ذلك حتى ¬
دليل من قال بالكراهة
لا ينتقل إلى التيمم مع قدرته على الطهارة المائية، فكذلك الجماع يمنع منه ما لم يتضرر من ذلك. دليل من قال بالكراهة: قالوا: إذا لم يكن هناك حاجة شديدة فيكره الجماع؛ لأن فيه انتقال من الطهارة المائية إلى الطهارة الترابية من غير حاجة، فيفوت على نفسه طهارة مائية يمكنه بقاؤها. الراجح: بعد استعراض أدلة الأقوال، نجد أن القول بإباحة الجماع قول قوي جداً، ولم يقدم المانعون أو القائلون بالكراهة دليلاً شرعياً على كراهية ذلك، والأصل الإباحة حتى يقوم دليل صحيح صريح ينقلنا عن هذا الأصل، والله أعلم.
الباب الثاني: في الأسباب الموجبة للتيمم
الباب الثاني: في الأسباب الموجبة للتيمم الأسباب الموجبة للتيمم ترجع إلى ثلاثة أسباب في الجملة: الأول: عدم الماء. الثاني: تعذر استعمال الماء. وتعذر الاستعمال تارة يكون لخوف المرض أو زيادته، أو لخوف عطش على نفسه أو على غيره من آدمي أو بهيمة، أو يخاف إن هو خرج إلى الماء لصوصاً أو سباعاً، أو يباع الماء بأكثر من ثمنه، أو يخشى فوات الوقت إن ذهب إلى الماء أو انتظره، وهل له أن يتيمم مع وجود شخص يتبرع له بالماء من غير مسألة، سوف نفصل الكلام إن شاء الله تعالى على جل هذه المسائل، وبعضها قد يؤجل بحثه ليبحث مع نظائره في فصول أخرى، والله وحده المستعان، والموفق إلى معرفة الصواب. السبب الثالث: إذا خشي فوات العبادة بخروج وقتها.
الفصل الأول: فقد الماء
الفصل الأول: فقد الماء إذا فقد المسلم وجود الماء فإن كان مسافراً فإنه يشرع له التيمم إجماعاً، نقل الإجماع على ذلك طائفة من أهل العلم. قال ابن عبد البر: وأجمع علماء الأمصار، بالحجاز والعراق والشام والمشرق والمغرب - فيما علمت - أن التيمم بالصعيد عند عدم الماء طهور كل مريض أو مسافر ... " (¬1). ونقل الإجماع أيضاً العيني من الحنفية (¬2)، وابن رشد في بداية المجتهد من المالكية (¬3)، وابن تيمية (¬4)، وابن عبد الهادي (¬5) من الحنابلة، وابن حزم من الظاهرية (¬6). وإن كان حاضراً داخل المصر، فقد اختلف العلماء: فقيل: يتيمم ويصلي، ولا إعادة عليه، وهو أحد القولين في مذهب ¬
الحنفية (¬1)، والمشهور في مذهب المالكية (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4)، وقيل: يتيمم، ويصلي، ويعيد إذا وجد الماء، وبه قال الليث، وهو المشهور في مذهب الشافعية. (¬5)، ووجه في مذهب الحنابلة (¬6). وقيل: لا يصلي حتى يجد الماء، أو يسافر، وهو قول في مذهب الحنفية (¬7)، وأحد القولين عن الإمام مالك رحمه الله (¬8)، واختاره بعض ¬
دليل من قال: يتيمم ويصلي ولا إعادة عليه
الخرسانين من الشافعية (¬1)، وهو رواية عن الإمام أحمد (¬2). دليل من قال: يتيمم ويصلي ولا إعادة عليه. الدليل الأول: أن العلة في مشروعية التيمم هو فقد الماء نص عليه في آية التيمم، قال تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬3). الدليل الثاني: إذا كان التيمم للمريض المقيم يجوز بالإجماع مع وجود الماء (¬4)، فجوازه للمقيم عند فقد الماء جائز أيضاً، ولا فرق؛ لأن المرض هو عجز حكمي، ¬
الدليل الثالث
وفقد الماء عجز حسي، والعجز الحسي أولى بالمراعاة؛ لأنه يستحيل معه الفعل بخلاف العجز الحكمي، فقد يستعمل الماء إلا أنه قد يلحقه ضرر بذلك. الدليل الثالث: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تيمم لرد السلام في الحضر، مع أن الطهارة لرد السلام ليست شرطاً بل ولا واجباً، فكونه يتيمم لفعل الصلاة المفروضة، والقيام بالطهارة التي هي شرط لصحة الصلاة أولى فأولى. (1399 - 32) فقد روى البخاري، قال: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال: سمعت عميراً مولى ابن عباس قال: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو الجهيم الأنصاري: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم (¬1). وقد استدل البخاري بهذا الحديث على جواز التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء وخاف فوت الصلاة (¬2). دليل من قال: السفر شرط في جواز التيمم. استدل بقوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد ¬
دليل من قال: يتيمم ويعيد
منكم من الغائط أو لا مستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} (¬1). وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى قال: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} فذكر شيئين مبيحين للتيمم: أحدهما: المرض، والثاني: السفر. وأجيب: بأن الله سبحانه وتعالى ذكر السفر لكونه مظنة عدم الماء، فإن فقد الماء في الحضر نادر وقليل، ومثله ذكر السفر في آية الرهن، قال تعالى: {وإن كنتم على سفر فلم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة} (¬2)، وليس السفر بشرط للرهن، فإذا جاز الرهن في الحضر، جاز التيمم في الحضر أيضاً. دليل من قال: يتيمم ويعيد: علل النووي وجوب الإعادة إذا تيمم في الحضر، بأن هذا العذر نادر غير متصل، وقال: احترزنا بالنادر عن المريض والمسافر، وبغير المتصل من المستحاضة. ويجاب عنه بأمور: الأول: هذا التعليل عليل، وإنما شرع التيمم لرفع الحرج عن هذه الأمة كما في قوله تعالى بعد أن ذكر طهارة الماء والتيمم {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (¬3)، فأين التخفيف، وقد كلف ¬
في فعل الصلوات مرتين، مرة في التيمم، ومرة إذا وجد الماء، وقد يطول ذلك فيجتمع عليه صلوات كثيرة، فأين التخفيف في ذلك، وهل ذلك إلا موجب للعنت والمشقة على الناس. ثانياً: إذا كان لا يعيد الصلاة إذا تيمم في السفر، فلا يعيد الصلاة إذا تيمم في الحضر، ولا فرق. ثالثاً: التكليف بالإعادة لا بد له من دليل من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقم دليل في تكليف المسلم بالإعادة، ولم يوجب الله فرض الظهر مرتين، فمن أوجب عليه الإعادة فقد أوجب عليه الفرض الواحد مرتين، وهذا خلاف المشروع. رابعاً: أن الذي أميل إليه أن الإنسان إذا اجتهد وأخطأ، وامتثل الأمر معتقداً أن هذا هو الواجب عليه، ثم تبين له أنه أخطأ لم يكلف الإعادة، فما بالك بمن نأمره أن يتيمم، ثم نطلب منه أن يعيد، فإن كان التيمم لا يسقط عنه الواجب فلماذا نأمره به، وإذا كان التيمم يقوم مقام الماء عند فقده فلماذا نأمره بالإعادة. فهذه المرأة التي كانت تستحاض، وكانت تعتقد أن ذلك حيض، وكانت تمتنع عن الصلاة والصيام قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي " (¬1)، ولم يأمرها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإعادة الصلوات التي تركت ظناً منها أنه دم حيض. وهذا الرجل المسيء في صلاته مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال له: " ارجع ¬
فصل فإنك لم تصل " (¬1)، لم يطلب منه إعادة الصلوات السابقة، مع أنه نفى عنه فعل الصلاة، وكلفه بإعادة الصلاة القائمة فقط، إما لأن الوقت ما زال قائماً، أو لأجل أن تشتد حاجته لمعرفة الصواب، ولذلك اغتفر تكراره مع الإساءة للصلاة لمصلحة التعليم، وإلا فالإنسان الذي لا يعلم أن يصلي قد لا يجوز أن نجعله يعبث في الصلاة على غير هدى، ونطلب منه أكثر من مرة أن يعيد الصلاة، وهو لا يحسن. وهذا عمار تمرغ كما تتمرغ الدابة، وصلى، ظنا منه رضي الله عنه أن هذه هي الصفة المطلوبة في تيمم الجنب، ولم يفعل الصفة المشروعة، ولم يكلفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة، وإنما اكتفى بإخباره بالصفة المشروعة (¬2)، هذا عدي رضي الله عنه جعل تحت وساده عقالين: أبيض وأسود، وأخذ يأكل حتى تبين له العقال الأبيض من العقال الأسود، فأخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فضحك منه، وأخبره بالصواب، ولم يأمره بالإعادة (¬3)، وهكذا فالنصوص متظافرة على أن من اجتهد، ففعل ما يعتقد أنه يلزمه شرعاً، ثم تبين له خطأ فعله، لم يكلف بالإعادة، فما بال المتيمم الذي كلفناه بالتيمم، وأنه يجب عليه فعل الصلاة على هذه الصفة، فما بالنا نأمره بالإعادة، فهذا القول بعيد جداً عن الصواب، والله أعلم. ¬
المبحث الأول: إذا وجد ماء لا يكفي للطهارة
المبحث الأول: إذا وجد ماء لا يكفي للطهارة ناقشنا في الفصل السابق، أن التيمم مشروع بشرط عدم الماء، فهل يختلف الحكم إذا وجد ماء لا يكفي لطهارته؟، وهل يستعمل الماء بدون تيمم؟، أو يتيمم ويدع الماء ما دام أنه لا يكفي لفعل الطهارة كاملة؟ أو يستعمل الماء، ويتيمم عن الباقي؟. في هذه المسألة اختلف أهل العلم: فقيل: يتيمم، ويدع الماء، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والقول القديم للشافعي (¬3)، واختاره المزني (¬4). وقيل: يستحب له استعمال الماء، ويتيمم عن الباقي، وبه قال جماعة من أهل العلم (¬5). وقيل: يجب عليه استعمال الماء، ثم يتيمم عن الباقي، وهذا هو القول ¬
دليل من قال: يتيمم، ويدع الماء
الجديد للشافعي (¬1)، ومذهب الحنابلة (¬2)، واختيار ابن حزم رحمه الله (¬3). وقيل: بالتفريق بين طهارة الوضوء وطهارة الغسل، فإذا وجد ماء يكفي بعض الغسل تيمم بعد استعماله، ولا يتوضأ بماء يكفي بعض الوضوء (¬4). وقيل: يتوضأ بذلك الماء ويصلي، فإن لم يكن معه من الماء إلا قدر ما يغسل به وجهه ويديه، فهو أولى من التيمم، وإن لم يجد إلا ما يغسل به وجهه غسله، ومسح كفيه بالتراب، وهو قول الحسن وعطاء (¬5). دليل من قال: يتيمم، ويدع الماء. الدليل الأول: من الكتاب قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} إلى قوله {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬6). فاقتضى ذلك وجوب أحد شيئين: إما الماء عند وجوده، أو التراب عند عدمه، فكوننا نوجب الماء والتراب معاً هذا خلاف نص الآية، فلما لم يكن هذا الماء كافياً في طهارته علمنا أن فرضه هو التيمم، ولو كان هذا الماء هو ¬
الدليل الثاني
الماء الذي تقوم به طهارته لم تكن صلاته موقوفة على التيمم، فلما لم يرفع هذا الماء حدثه كان وجوده كعدمه كالماء النجس. الدليل الثاني: أن التيمم بدل عن الماء، فلا يجمع بين الأصل والبدل، فإما أن يستعمل الماء، أو يتيمم، وما دام أن الماء لا يرفع حدثه ينتقل إلى بدله، وهو التيمم ويكون وجوده كعدمه، وهذا له أمثلة في الشريعة، فلو وجبت عليه كفارة يمين، ولم يجد الكسوة والرقبة، ووجد ما يطعم به تسعة مساكين انتقل إلى الصيام، ولم يؤمر بإطعام التسعة، وهكذا. وكذلك من وجبت عليه رقبة، وكان عنده ثمن بعض الرقبة، انتقل إلى الإطعام كما لو عدم الرقبة أصلاً. واعترض على هذا الدليل: أما قولكم: إنه لا يجمع بين البدل والأصل، فغير مسلم، فقد جمع بين الأصل والبدل في الوضوء، فهذا مسح الخفين بدل عن طهارة الماء، وقد جمع بينهما في الوضوء، فإنه يغسل أعضاء الوضوء، ويمسح قدميه. كما أنه جمع بين الأصل والبدل في المسح على الجبيرة، فإن المسح بدل من الغسل، فلو كان في العضو جبيرة، فإنه يمسح عليها، ويغسل الباقي، وهو جمع بين الأصل والبدل. وأما قولكم بأنه لا عبرة بالقدرة على البعض إذا لم يقدر على الكل قياساً على القدرة على بعض الكفارة، فيقال: " ضابط الباب: أن ما لم يكن جزؤه عبادة مشروعة لا يلزمه الإتيان به، كإمساك بعض اليوم، وما كان جزؤه عبادة مشروعة لزمه الإتيان به، كتطهير الجنب بعض أعضائه، فإنه
يشرع عند النوم والأكل والمعاودة ... تخفيفاً للجنابة .... وإذا ثبت تخفيف الحدث الأكبر في بعض البدن، فكذلك الحدث الأصغر " (¬1). ويجاب: أما قولكم في المسح على الخفين بأنه جمع بين الأصل والبدل، فيقال: إن المسح على الخفين بدل عن غسل الرجل، وليس بدلاً عن الوضوء، حتى يقال: جمع بين البدل والمبدل منه، فقد سقط غسل القدم إلى بدله، وهو المسح، ولم يجمع بين الغسل والمسح، وكذلك يقال في الجبيرة، فمسح الجبيرة بدل عن غسل الجرح، ولم يجمع بين مسح الجرح وغسله، فتأمل. وأما قياسكم على تخفيف الحدث، في مشروعية غسل بعض الأعضاء، دون بعض، فكذلك غسلها في مسألتنا، فهذا الكلام ظاهره القوة، ولكن يعكر عليه ما يلي: أولاً: نحن نوجب أمراً قياساً على أمر مستحب، فإن كان الفرع له حكم الأصل، فالأصل غير واجب، فكيف يكون الفرع واجباً، فتخفيف الحدث في غسل الجنابة للأكل والوطء مستحب، وليس بواجب، فكذلك ما قيس عليه ينبغي أن يكون كذلك. ثانياً: لو سلم هذا الفعل في الحدث الأكبر، وأن الجنب إذا قدر على الوضوء، وعجز عن الغسل فله أن يتوضأ بالماء، ويتيمم عن الجنابة، وهي مسألة سوف نتعرض لها إن شاء الله تعالى، فأين الدليل من الشرع على جريانه بالحدث الأصغر، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد عمد إلى تخفيف الحدث الأصغر بغسل بعض أعضائه، فلم يقع هذا منه - صلى الله عليه وسلم - لا في حديث صحيح، ولا في حديث ضعيف أنه خفف الحدث الأصغر، فكيف نوجب على الإنسان أن يستعمل الماء في الحدث الأصغر على بعض أعضائه، وأن ذلك من باب تخفيف الحدث، قياساً على تخفيف الحدث الأكبر، وهو أمر لم يحدث منه - صلى الله عليه وسلم - قط، فلو تعبد أحد بتخفيف الحدث الأصغر بغسل ¬
دليل من قال: يستعمل الماء، ثم يتيمم
بعض أعضاء الوضوء مع وجود الماء لقيل: إنه مبتدع (¬1). دليل من قال: يستعمل الماء، ثم يتيمم. الدليل الأول: قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء} (¬2). فاشترط للتيمم عدم الماء، وهذا واجد للماء، ومن جهة أخرى، فإن كلمة (ماء) نكرة في سياق النفي، فتعم كل ماء، سواء كان قليلاً أو كثيراً، فلا يتيمم حتى يفرغ من استعمال الماء، فيكون تيممه عن الباقي من أعضائه مما لم يمسها الماء، لتحقق فقد الماء. وأجيب: بأن المقصود بكلمة " فلم تجدوا ماء " أي ماء يطهره، ألا ترى أن وجود الماء النجس لا يمنعه من التيمم؛ ولأنه معطوف على ما سبق، وقد سبق بيان ¬
الدليل الثاني
حكم الوضوء والاغتسال بالماء في أول الآية بقوله {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} إلى قوله: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬1)، فأراد به جميع البدن، ثم قال: {فلم تجدوا ماء} أي يقوم بجميع ما ذكر، فإن آخر الكلام مرتبط بأوله، فإذا لم يوجد هذا الماء الذي يقوم بجميع ما ذكر فإنه غير واجد لذلك الماء (¬2). الدليل الثاني: قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (¬3). (1400 - 33) وروى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا إسماعيل: حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، ورواه مسلم (¬4). فهذا مكلف قد أمر بالطهارة، واستطاع أن يأتي ببعضها، فهو مكلف بأن يأتي بما يستطيع، ويتيمم عن الباقي. ويجاب: بأن الحديث لم يسق في المسألة بخصوصها، ولو قيل: العبرة بعموم اللفظ ¬
دليل من فرق بين الوضوء والغسل
فنقول إن هذا العموم غير مراد هنا، بدليل أن هناك أموراً يكلف فيها الإنسان، ويكون المشروع إما أن يأتي بها كلها، أو يتركها كلها، فمن طلب منه صيام يوم، فلو استطاع أن يصوم بعضه لم يكلف به، لأن المطلوب هو صيام يوم كامل، وكذلك ما تقدم من الإطعام في الكفارة، فمن استطاع أن يطعم خمسة مساكين، والمطلوب إطعام العشرة لم يكلف بالإطعام، بل ينتقل إلى بدله، فكذلك في الطهارة، فالمطلوب أن يرتفع حدثه إما بالماء أو بالتيمم، وبعض الماء لا يرفع الحدث، فوجوده كعدمه، والتيمم كاف في رفع الحدث، فينتقل إليه. دليل من فرق بين الوضوء والغسل. قالوا: إذا وجد ماء يكفي بعض الوضوء فلا فائدة من استعماله، لأن الحدث لا يرتفع لعدم الموالاة، ويفارق هذا الغسل من الجنابة؛ لأن الحدث يرتفع عن قدر ما غسل؛ لأنه ليس من شرطها الموالاة (¬1). هذا ما وقفت عليه من أدلة القوم: سواء من قال: يتيمم، ومن قال: يستعمل الماء، ثم يتيمم، وأما قول عطاء، بأنه لو وجد من الماء ما يغسل به وجهه، غسل وجهه، ومسح كفيه بالتراب، فلا هو فعل صفة التيمم المطلوبة، فيرتفع حدثه بالتيمم، ولا هو قام برفع حدثه بالماء، فجاء بطهارة جديدة ملفقة من طهارتين مختلفتين، فهذا قول لا أعرف له وجهاً من الشرع، ولا وجهاً من اللغة، والله أعلم. الراجح من الخلاف: كنت فيما سبق أميل إلى القول بوجوب استعمال الماء، ثم التيمم ¬
بعد استعماله، وكنت قد ذكرت ذلك في كتاب المسح على الحائل، عند الكلام على المسح على الجبيرة، ثم بعد كتابة هذا البحث، وبعد مزيد من التأمل وجدت أن مذهب الحنفية والمالكية القائلين بأن الواجب هو التيمم أقوى من مذهب الشافعية والحنابلة، وإن كان في كل من القولين قوة، والله أعلم.
المبحث الثاني: لو كان مع الجنب ماء يكفي للوضوء
المبحث الثاني: لو كان مع الجنب ماء يكفي للوضوء هذه المسألة سوف نبحثها وفقاً لمذهب الحنفية والمالكية، لأن مذهب الشافعية والحنابلة كما مر معنا في المسألة المتقدمة يوجبون استعمال الماء، مهما قَلَّ، فالمسألة مفروضة على مذهب من يشترط أن يكون الماء كافياً للطهارة، وإلا انتقل إلى التيمم، فهل يقولون يتيمم عن الجنابة، ويتوضأ عن الحدث الأصغر باعتباره مقدوراً عليه؟ أو يقولون: يتيمم، ويدع الوضوء؛ لأن التيمم قد رفع الحدث، فلا حاجة إلى استعمال الوضوء؟. فقيل: يتيمم، ولا يستعمل هذا الماء في الحدث الأكبر، فإن أحدث بعد تيممه حدثاً أصغر توضأ، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يتيمم، وإذا أحدث حدثاً أصغر تيمم أيضاً، ولا يستعمل الماء، وهذا مذهب المالكية (¬2). دليل الحنفية: بأن هذا الرجل قد ارتفع حدثه الأكبر بالتيمم، فلا يرجع إليه إلا بقدرته على الاغتسال، وقد قام به حدث أصغر، وهو قادر على الوضوء، فلا يرتفع هذا الحدث الأصغر إلا بالوضوء، فلزمه. ودليل المالكية: قالوا: الفرق بين الغسل للجنابة والتيمم للجنابة، في كون الوضوء شرع مع الغسل دون التيمم أمران: ¬
أحدهما: أن الوضوء من جنس الغسل، شرع بين يديه أهبة له، كالمضمضة والاستنشاق قبل الوضوء، والإقامة بين يدي الصلاة، والصدقة بين يدي النجوى، والوضوء ليس من جنس التيمم، فلا يشرع تهيؤ له. وثانيهما: أن أعضاء الوضوء أشرف الجسد لكونها موضع التقرب إلى الله، فكانت البداءة به أولى، والتيمم شرع في عضوين منها، فالوضوء يأتي عليهما وعلى غيرهما، فلا معنى للبداية بالوضوء" (¬1). قلت: هذا الكلام وجيه في عدم استحباب الوضوء في تيمم الجنب، لكن لو أحدث حدثاً أصغر، فما الدليل على أنه لا يشرع له الوضوء بالماء مع القدرة عليه؟ أجاب الحطاب في مواهب الجليل بقوله: " وإن تيمم الجنب، ثم أحدث، أو نام ثم وجد من الماء قدر الوضوء، لم يجزه الوضوء به؛ لأنه عاد جنباً، وكذلك يعود بدخول وقت صلاة ثانية " (¬2). قلت: يعود جنباً بوجود الماء الذي يكفي لرفع حدثه الأكبر، ولو قلنا: إنه يعود جنباً بوجود هذا الماء القليل لما صح تيممه الأول عن الجنابة مع وجود الماء القليل، فلما ألغينا اعتبار وجود الماء في التيمم الأول عن الجنابة، يجب أن نلغي عود الجنابة ببقاء هذا الماء إلا أن يجنب، فإذا أحدث حدثاً أصغر توضأ عنه لقدرته على الوضوء، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث: لو كان المحدث على بدنه نجاسة، ووجد ماء يكفي أحدهما
المبحث الثالث: لو كان المحدث على بدنه نجاسة، ووجد ماء يكفي أحدهما إذا كان المحدث على بدنه نجاسة، ووجد ماء يكفي إحدى الطهارتين، إما النجاسة أو رفع الحدث، فماذا يقدم؟ قيل: يقدم إزالة النجاسة؛ لأنه لا بدل له، بخلاف رفع الحدث، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: يتوضأ به، ويصلي بالنجاسة، وهو قول أبي يوسف وحماد (¬4)، واختاره بعض المالكية. قال في مواهب الجليل: " قال ابن عبد السلام: وأظن أني وقفت لأبي عمران على أنه يتوضأ، ويصلي بالنجاسة، وكان بعض أشياخي ينقله عنه، ويحتج بأن طهارة الخبث مختلف في وجوبها، وذكر ابن هارون أنه اختلف في ذلك، فقيل: يصلي بالنجاسة، ويتوضأ، وقيل: يزيل به النجاسة، ويتيمم، وجزم ابن رشد في رسم سلف من سماع عيسى من ابن القاسم من كتاب الطهارة، بأنه يزيل النجاسة، ويتيمم، وكذلك ابن العربي وصاحب الطراز، ذكره في الكلام على سؤر ما لا يتوقى النجاسة. قال الحطاب: وهذا إذا لم يمكنه جمع الماء من أعضائه طهوراً، وأما إن ¬
أمكنه جمعه طهوراً من غير تغير فإنه يتوضأ به، ويجمعه، ويغسل به النجاسة؛ لأنه طهور على المشهور " (¬1). قلت: جمع الماء المتساقط ليس معروفاً عن السلف. وقال العز أيضاً: " إذا وجد المحرم ما يكفيه لطهارة الحدث، أو لغسل الطيب العالق به، فإن يغسل به الطيب تحصيلاً لمصلحة التنزه منه في حال الإحرام، ويتيمم عن الحدث تحصيلاً لمصلحة بدل طهارة الحدث، ولو عكس ذلك لفاتت إحدى المصلحتين " (¬2). وهذه أخف من السابقة، لأن الطيب لا يعتبر نجاسة، وإن كان من المحظورات. وعندي أن القيام بالوضوء أهم من القيام بغسل النجاسة أولاً: أن الوضوء فعل مأمور، وغسل النجاسة ترك محظور، وفعل المأمور لا يسقط بالنسيان، بخلاف المحظور، فلو صلى بدون طهارة لم تصح صلاته، وطلب منه إعادة الفعل بخلاف ما لو صلى ناسياً وجود النجاسة على بدنه، فإن صلاته صحيحة. ثانياً: أن طهارة الحدث شرط لصحة الصلاة بلا خلاف، بخلاف إزالة النجاسة فإنه مختلف فيها، هل التخلي عنها شرط أو واجب أو مستحب، وما اتفق على اعتباره أولى بالتقديم، والله أعلم. ثالثاً: من اهتمام الشارع بطهارة الحدث أنه جعل لها بديلاً عند عدم الماء، وهذا لأهميتها، بينما طهارة الخبث لم يجعل لها بدلاً. ¬
الفصل الثاني: في تعذر استعمال الماء
الفصل الثاني: في تعذر استعمال الماء المبحث الأول: في تيمم المريض اختلف أهل العلم في تيمم المريض: فقيل: المريض لا يتيمم أصلاً مع وجود الماء، حتى ولو خشي التلف، وهذا القول منسوب إلى الحسن وعطاء (¬1). واستدلا بأن الله أباح التيمم للمريض والمسافر بشرط عدم الماء، فقال تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لا مستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬2). قال ابن عبد البر: " ولولا قول الجمهور، وما روي من الأثر (¬3)، كان قول عطاء صحيحاً، والله أعلم " (¬4). ¬
وهذا القول ضعيف جداً؛ لأنه لو لم يجز التيمم إلا لفقد الماء لكان ذكر المرض لا فائدة له. ومن حيث المعنى، فإن فائدة وجود الماء: هو الاستعمال والانتفاع، وذلك بالقدرة على ذلك، فمعنى قوله: {فلم تجدوا ماء} أي: فلم تقدروا؛ ليتضمن ذلك الوجوه المتقدمة المذكورة: وهي المرض والسفر، فإن المريض واجد للماء صورة، ولكنه لما لم يتمكن من استعماله لضرر، صار معدماً حكماً؛ فالمعنى الذي يجمع نشر الكلام (فلم تقدروا على استعمال الماء) وهذا يعم المرض والصحة إذا خاف من أخذ الماء لصاً أو سبعاً، ويجمع الحضر والسفر، وهذا هو العلم الصريح، والفقه الصحيح، والأصوب بالتصحيح، ألا ترى أنه لو وجده زائداً عن قيمته جعله معدماً حكماً، وقيل له: تيمم، فتبين أن المراد: هو الوجود الحكمي، وليس الوجود الحسي (¬1). وقد حكى الإجماع جماعة من أهل العلم على أن المريض يباح له التيمم، قال السرخسي: " وأما إذا كان يخاف الهلاك باستعمال الماء، فالتيمم جائز له بالاتفاق " (¬2). وقال ابن عبد البر: أجمع علماء الأمصار بالحجاز والعراق والشام والمشرق والمغرب فيما علمت أن التيمم بالصعيد عند عدم الماء طهور كل مريض أو مسافر ... " (¬3). وقال القاضي ابن رشد: " أمر الله سبحانه وتعالى المسافر والمريض ¬
بالتيمم للصلاة عند عدم الماء، وأجمع أهل العلم على وجوب التيمم عليهما" (¬1). وحكاية الإجماع مع خلاف الحسن وعطاء فيه نظر إلا أن ذلك مشروط بصحة نسبة هذا القول عنهما، إلا أن يقال: قد انعقد الإجماع بعدهما، والله أعلم، وقد شكك في صحة هذا القول عنهما ابن رجب في شرحه للبخاري، فقال: " وهذا بعيد الصحة عنهما " (¬2). ولم أقف على إسناد عنهما لأنظر في صحته، وإنما حكاه عنهم جماعة من أهل العلم منهم ابن المنذر والنووي وابن عبد البر وابن قدامة وابن حزم وغيرهم، وسبق العزو إليهم (¬3). ¬
وقد ثبت عن الحسن مسنداً خلاف هذا القول (¬1). وقيل: يباح التيمم للمريض بالجملة، واختلفوا في المريض الذي يباح له التيمم: فقيل: يباح لكل مريض يجد أن في استعمال الماء حرجاً ومشقة، حتى ولو كان استعمال الماء لا يزيد في علته، ولا يؤخر البرء. وهذا منسوب إلى أهل الظاهر (¬2). وقيل: يباح التيمم إذا كان استعمال الماء يزيد في المرض أو يتسبب في تأخير البرء، وهو مذهب الجمهور (¬3)، وأحد القولين في مذهب الشافعي (¬4). وقيل: لا يباح التيمم إلا إذا كان يخشى التلف لنفسه أو عضوه من استعمال الماء، أو حدوث مرض يخاف منه تلف النفس، أو العضو، أو فوات منفعة العضو، حكي هذا القول عن مالك (¬5)، وهو أحد القولين في مذهب الشافعية (¬6)، ورواية عن أحمد (¬7). ¬
وألحق المالكية والحنابلة بالمريض الصحيح إذا خشي نزلة أو حمى (¬1). هذا ملخص الأقوال في المريض، رجعت إلى أربعة أقوال: الأول: لا يتيمم المريض مع وجود الماء، ولا يصح التيمم إلا مع فقد الماء، وهذا سبق ذكر دليله والرد عليه. الثاني: يتيمم المريض إذا كان في استعمال الماء حرج ومشقة، ولو لم يكن في استعمال الماء زيادة في المرض، أو تأخير للبرء. الثالث: يتيمم إذا خاف زيادة المرض، أو تأخير البرء. الرابع: لا يتيمم إلا أن يخاف التلف لنفسه، أو عضوه، أو فوات منفعة عضو من أعضائه. دليل من قال: يكفي للتيمم وجود الحرج والمشقة، ولا يشترط الضرر. استدل بقوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} (¬2)، فذكر الأعذار المبيحة للتيمم، ثم قال: {فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (¬3). فوجود الحرج والمشقة زائداً عن المشقة المعتادة التي لا تنفك عن العبادة مع قيام المرض يبح له التيمم بنص الآية، لأن المقصد الشرعي من مشروعية ¬
دليل من قال: يتيمم المريض إذا خاف زيادة المرض أو تأخر البرء
التيمم للمريض ما ذكره الله سبحانه وتعالى بقوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} فحرج: نكرة، في سياق النفي، فتعم نفي أي حرج ومشقة، ولم يوجد في الآية نص على اشتراط زيادة المرض باستعمال الماء، أو تأخير البرء، فهذان الشرطان زيادة على ما في الآية الكريمة، وإذا كنتم تشترطون الضرر باستعمال الماء، فإن وجود الحرج والمشقة نوع من الضرر المعتبر شرعاً، وإذا كنا نبيح للمريض الفطر إذا شق عليه الصيام بسبب المرض، ولا نشترط أن يكون الصيام سبباً في زيادة المرض أو تأخير العافية، فكذلك في التيمم. وقد يجاب عن ذلك: بأن الحرج والمشقة لا ضابط لهما، وأن الناس يتفاوتون في هذا، فمنهم من يرى أن مس الماء البارد في ليالي الشتاء الباردة فيه حرج ومشقة حتى ولو لم يكن مريضاً، ومنهم من لا يشعر بالمشقة الكبيرة خاصة إذا كان ذلك على سبيل القربة، فلا بد من ضابط يمكن طرده لجميع الناس، فلا يصح التيمم إلا مع خوف الضرر من استعمال الماء، أو زيادة المرض. ويرد على ذلك: بأن الناس كما هم متفاوتون في اعتبار الحرج والمشقة متفاوتون أيضاً في تقدير الضرر، والناس مؤتمنون على مثل ذلك، والخطأ في ذلك مغفور إذا عمل الإنسان بغلبة ظنه. دليل من قال: يتيمم المريض إذا خاف زيادة المرض أو تأخر البرء. يجب على الإنسان أن يحفظ بدنه من كل شيء يضره، وإذا أخبر طبيب حاذق بأن أكل المباح يلحق به ضرر في بدنه حرم عليه أكله، فكذلك الواجبات تسقط عن الإنسان إذا كان يترتب على القيام بها ضرر في بدنه أو
دليل من قال: يشترط خوف التلف
في ماله، وزيادة المرض أو تأخير البرء لا شك أنه ضرر يلحق بالإنسان، فيجب عليه دفعه، وقد قال سبحانه وتعالى: {وإن كنتم مرضى} فأباح التيمم للمريض، ومعلوم أن المرض الذي لا يتأثر من استعمال الماء كالصداع ووجع الضرس هو والصحيح سواء في استعمال الماء، وبالتالي لا يباح له التيمم، كما أن اشتراط خوف التلف لم يذكر في الآية. وإذا كان خوف التلف يبيح التيمم فكذلك خوف المرض؛ لأن المرض محذور كما أن التلف محذور وإذا كان كثير من الفقهاء يقولون: إذا زاد الماء على قدر قيمته لم يلزمه شراؤه صيانة للمال، في الوقت الذي يلزمونه بالتيمم ولو كان ذلك سبباً في زيادة المرض وتأخير البرء، أليس حفظ البدن أولى من حفظ المال؟ (¬1). دليل من قال: يشترط خوف التلف: الدليل الأول: من الكتاب قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة} (¬2). وقال تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} (¬3). الدليل الثاني: (1401 - 34) من السنة ما رواه أحمد في مسنده، قال: ثنا حسن بن موسى، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن ابن جبير، ¬
الدليل الثاني
عن عمرو بن العاص أنه قال: لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام ذات السلاسل، قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو صليت بأصحابك، وأنت جنب؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله عز وجل: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} (¬1)، فتيممت، ثم صليت. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقل شيئاً. [هذا الإسناد له علتان وسبق تخريجه] (¬2). الدليل الثاني: (1402 - 35) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي، حدثنا محمد بن سلمة، عن الزبير بن خريق، عن عطاء، عن جابر، قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر ¬
الدليل الثاني
أو يعصب ـ شك موسى ـ على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده (¬1). [إسناده ضعيف، وزيادة ويعصر أو يعصب ثم يمسح عليها زيادة منكرة] (¬2). وجه الاستدلال من الحديثين: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أنكر على عمرو بن العاص رضي الله عنه أن يصلي بأصحابه، وهو جنب، وحين ذكر له أنه خشي على نفسه الهلكة أقره عليه الصلاة والسلام، ومثله إنكاره ترك التيمم في الحال الذي يخشى على نفسه من الهلكة، فلا يتيمم الإنسان إلا في مثل هذه الحالة. ويجاب: نحن لا ننكر أنه إذا خاف على نفسه الهلكة أنه يشرع له التيمم، ولكن أين الدليل على أنه لا يشرع التيمم إلا في مثل هذه الحالة، وكما سبق وذكرنا إذا كان خوف التلف محذوراً، فكذلك خوف المرض وطول مدته محذور أيضاً، وليس في كتاب الله إلا اشتراط المرض. الدليل الثاني: إن فرض الوضوء متيقن، وزيادة المرض أو تأخير البرء غير متحققة، فلا يجوز ترك الفرض المتيقن للخوف المشكوك فيه. ¬
الراجح من الخلاف
ويجاب عن ذلك: بأن مثل هذا القول قد يقال حتى في حال خوف التلف، فيقال: فرض الوضوء متيقن، وخوف التلف مشكوك فيه، ولا يترك اليقين للشك. الراجح من الخلاف. الذي أميل إليه هو ما اختاره ابن حزم، وأن المريض إذا كان يلحقه مشقة وحرج باستعمال الماء فإنه يشرع له التيمم ولو لم يترتب على استعمال الماء زيادة في مرضه أو في طول مدته، كما يقال للمريض الصائم إذا كان يشق عليه الصيام فله الفطر، ولا فرق، وهذا هو ما يحقق المقصود الشرعي من مشروعية التيمم، وهو نفي الحرج {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} (¬1). والمشاق في العبادة على قسمين: الأول: مشقة لا تنفك عن العبادة، كالوضوء والغسل في البرد، والصوم في نهار الصيف، والمخاطرة بالنفس بالجهاد، فمثل هذا لا يوجب تخفيفاً في العبادة؛ لأنها قررت معه. الثاني: تنفك عن العبادة، وهي ثلاثة أنواع: الأول: نوع في المرتبة العليا، كالخوف على النفوس والأعضاء والمنافع، فهذا يوجب التخفيف؛ لأن حفظ هذه الأمور هو سبب مصالح الدنيا والآخرة، فلو حصلنا هذه العبادة طلباً لثوابها لذهب أمثالها. ونوع في المرتبة الدنيا: كأذى وجع في أصبع، فتحصيل هذه العبادة أولى من درء هذه المشقة، لشرف العبادة وخسة هذه المشقة. ¬
النوع الثالث: مشقة بين هذين النوعين، فما قرب من العليا أوجب التخفيف، وما قرب من الدنيا لم يوجب، وما توسط يختلف فيه لتجاذب الطرفين له (¬1)، فإذا وجدت مشقة في تحصيل القيام في الصلاة، وكان إدراك القيام سبباً في التأثير على الخشوع سقط القيام، وإن كان يمكنه أن يفعل، ولكن مع المشقة العظيمة، وإذا كان يشق على المريض الصيام بسبب المرض، ويجد من ذلك حرجاً ومشقة أبيح له الفطر، ولو كان يمكنه أن يقوم بالصيام ولكن مع المشقة الكبيرة، وهكذا نقول في التيمم، إذا كان يلحقه باستعمال الماء مشقة كبيرة، أبيح له التيمم بصرف النظر هل التيمم يزيد في مرضه أو يؤخر في برئه، والله أعلم. فإن قيل: ما ضابط المشقة المؤثرة في التخفيف من غيرها؟ ذكر القرافي في الذخيرة ما معناه: إذا سألنا الفقهاء عن ذلك، قالوا: يرجع إلى العرف، فيحيلون على غيرهم، ويقولون: لا نحد ذلك، فلم يبق بعد الفقهاء إلا العوام، والعوام لا يصح تقليدهم في الدين. جوابه: هذا السؤال له وقع عند المحققين، وإن كان سهلاً في بادي الرأي، ونحن نقول: ما لم يرد الشرع بتحديده يتعين تقريبه بقواعد الشرع؛ لأن التقريب خير من التعطيل لما اعتبره الشرع، فنقول: على الفقيه أن يفحص عن أدنى مشاق تلك العبادة المعينة فيحققه بنص أو إجماع أو استدلال، ثم ما ورد عليه بعد ذلك من المشاق مثل تلك المشقة أو أعلى، جعله مسقطاً، وإن كان أدنى لم يجعله، مثاله: التأذي بالقمل في الحج مبيح للحلق بحديث كعب ¬
ابن عجرة، فأي مرض آذى مثله أو أعلى منه أباح، وإلا فلا، والسفر مبيح للفطر بالنص، فيعتبر به غيره من المشاق، والعبادات مشتملة على مصالح المعاد، فلا يليق تفويتها بمسمى المشقة، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أجرك على قدر نصبك، فيحرص العبد على العبادة مع المشقة المحتملة، وإذا كانت المشقة كبيرة غير محتملة إلا بجهد ونصب؛ فإنه حينئذ له أن يترخص برخص الله سبحانه وتعالى، وإذا ترك العمل لعذر كتب له ما كان يعمل صحيحاً كما جاء في الحديث الصحيح، والله أعلم.
المبحث الثاني: في تيمم الصحيح إذا كان يحتاج الماء لشرب ونحوه
المبحث الثاني: في تيمم الصحيح إذا كان يحتاج الماء لشرب ونحوه الرجل إذا كان معه ماء، ويحتاج إليه لشرب ونحوه، كأن يخاف على نفسه العطش، أو يخاف على رفيقه، أو على ذي حياة محترم من ذمي، أو مستأمن، أو دابة، فإنه يجب عليه التيمم، ويحرم عليه الوضوء. وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة (¬1)، والثوري (¬2)، وإسحاق (¬3)، وحكى ابن المنذر الإجماع على هذا. قال ابن المنذر: " أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن المسافر إذا خشي على نفسه العطش، ومعه مقدار ما يتطهر به من الماء، أنه يبقي ماءه للشرب، ويتيمم " (¬4). ¬
ومستند هذا الإجماع قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} (¬1). وقياساً على المريض، بجامع أن كلاً منهما خائف على نفسه. وقال النووي: وأما إذا كان الحيوان غير محترم، كالحربي، والمرتد، والخنزير، والكلب، وسائر الفواسق الخمس المذكورة في الحديث، وما في معناها فلا يجوز صرف الماء إلى سقيها بالاتفاق، بل يجب الوضوء به، فإن سقاها وتيمم أثم" (¬2). فإن كانت المسألة بالاتفاق كما قال النووي فالحجة ما حكاه من قيام الاتفاق، وإن لم يكن هناك اتفاق ففي كلام النووي نظر، (1403 - 36) فقد روى البخاري من طريق أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئراً، فشرب منها، ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقى فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجراً. قال: في كل كبد رطبة أجر. ورواه مسلم أيضاً (¬3). فعموم: " في كل كبد رطبة أجر " يشمل كل ما استثناه النووي رحمه الله تعالى. (1404 - 37) وروى البخاري من طريق عوف، عن الحسن وابن سيرين، ¬
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: غفر لامرأة مومسة مرت بكلب على رأس ركي يلهث، قال: كاد يقتله العطش، فنَزعت خفها، فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء، فغفر لها بذلك. ورواه مسلم بنحوه (¬1). وكون المرتد يجب قتله من قبل الحاكم هذا لا يوجب أبداً تركه يتعذب ويموت عطشاً، وربما رجع عن ردته قبل قتله، نعم في الحربي إذا خاف منه على نفسه أو على المسلمين إذا سقاه أن يتقوى على ذلك لا يجوز سقيه، دفعاً لضرره، وليس عقوبة له، وإن تمكن من قتله فهو أولى من تركه يموت عطشاً، وإن لم يخش على نفسه، ولا على المسلمين منه، وكان من بلد يتولى القتال فيها الجند، ولم يكن منهم لم يتركه يموت عطشاً، والله أعلم. وذهب بعض المالكية بأن الكلب غير المأذون فيه والخنزير إن قدر على قتلهما وإلا ترك الماء لهما، ولا يعذبان بالعطش (¬2). وهذا أقوى من كلام النووي رحمة الله عليهما جميعاً. والمالكية يقسمون الخوف من العطش تقسيماً جيداً، فيذكرون أن خوف العطش: تارة يخاف منه، ولم يتلبس به، وتارة يكون متلبساً به، فإن خاف العطش سواء كان الخوف متيقناً أو غلب على ظنه العطش، وخاف هلاكاً، أو أذى شديداً، فإنه يجب عليه التيمم، ويحبس الماء لدفع العطش. ¬
وإن غلب على ظنه أنه يلحقه أذى، وإن لم يكن شديداً، فإنه يجوز له التيمم، ولا يجب عليه. وإن شك في ذلك فلا يتيمم، ومن باب أولى إن توهم ذلك. وإن كان متلبساً بالعطش بالفعل، وخاف الضرر عليه فإنه يتيمم مطلقاً، تحقق الضرر أو ظنه أو شك فيه أو توهمه؛ لأن التلبس بالعطش مظنة الضرر (¬1). ويلحق بالخوف على نفسه من العطش، الخوف على نفسه من اللصوص، أو السباع إذا خرج إلى الماء، كما أنه لا فرق بين الخوف على نفسه، أو الخوف على غيره من رفيق ودابة ونحوهما. قيل للإمام أحمد كما في مسائل ابن هانئ: " الرجل معه إداوة من ماء لوضوئه، فيرى قوماً عطاشاً، أحب إليك أن يسقيهم، ويتيمم، أو يتوضأ؟ قال: يسقيهم، ثم ذكر عدة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم تيمموا، وحبسوا الماء لسقياهم " (¬2). ونقل هذا ابن قدامة في المغني، وعارضه بقول أبي بكر والقاضي حيث قالا: لا يلزمه بذله؛ لأنه محتاج إليه. فتعقبه ابن قدامة بقوله: " إن حرمة الآدمي تقدم على الصلاة، بدليل ما لو رأى حريقاً أو غريقاً في الصلاة عند ضيق وقتها لزمه ترك الصلاة، والخروج لإنقاذه، فلأن يقدمها على الطهارة بالماء أولى " (¬3). ¬
وجاء في مسائل أبي داود: " قلت لأحمد: المرأة تكون في القرية، والماء عنده مجتمع الفساق، فتخاف أن تخرج، أتتيمم؟ قال: لا أدري " (¬1). ولعل الإمام أحمد رأى أن هذا الأمر قد يكون من المرأة من قبيل توهم الخوف الذي لا حقيقة له، وإلا فإن المرأة إذا خافت على عرضها حرم عليها الخروج؛ لأن المحافظة على العرض أولى من تحصيل الطهارة بالماء، وإذا كان يشرع له التيمم إذا خاف على ماله من اللصوص، فلأن يشرع له التيمم إذا خاف على عرضه من باب أولى فأولى. كما جاء في مسائل أحمد رحمه الله: " قلت لأحمد: الذي يخاف أن يأتي الماء أيتيمم؟ قال: مم يخاف؟ قلت: من لا شيء، خاف هو بالليل. قال: رجل يخاف السبع؟ قلت: ليس سبع. فقال أحمد: لا بد من أن يتوضأ " (¬2). قلت: الخوف من الليل هو نوع من المرض، والمرض يبيح التيمم، ومقصود الشرع من مشروعية التيمم رفع الحرج، وتكليف هذا الرجل بالوضوء مع مرضه هذا يلحقه أذى نفسي شديد، فلا أرى حرجاً من تيمم هذا الرجل، وأكثر من يخاف من الليل أصحاب الأمراض النفسية المسمى في عصرنا بالاكتئاب، ويصيب كبار السن أكثر من غيرهم، فتجدهم يخافون من الظلمة، وإذا سألتهم مم يخافون؟ قالوا: لا ندري، نسأل الله لنا ولهم السلامة والعافية. ¬
المبحث الثالث: في الماء يباع بأكثر من ثمنه هل يجب شراؤه أو يتيمم؟
المبحث الثالث: في الماء يباع بأكثر من ثمنه هل يجب شراؤه أو يتيمم؟ إذا وجد الرجل الماء يباع، فإما أن يباع بأكثر من ثمنه، أو يباع بثمنه بدون زيادة، فإن بيع بثمنه، وهو واجد للثمن، غير محتاج إليه لزمه شراؤه، كما يلزمه شراء الرقبة في الكفارة، وهذا مذهب الأئمة الأربعة (¬1). وقال النووي: يلزمه شراؤه بلا خلاف (¬2). وقيل: ليس عليه شراؤه لا بما قل ولا بما كثر، فإن اشتراه لم يجز الوضوء به، ولا الغسل، وفرضه التيمم، وله أن يشتريه للشرب إن لم يعطه بلا ثمن. وهو اختيار ابن حزم رحمه الله (¬3). (1405 - 38) واستدل ابن حزم رحمه الله بما رواه مسلم من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع فضل الماء (¬4). ¬
(1406 - 39) وبما رواه ابن ماجه من طريق سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ثلاث لا يمنعن الماء والكلأ والنار (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). وإنما جعل الشرع الناس شركاء في الماء، والكلأ والنار؛ لأنها أسباب الحياة: حياة الإنسان، وحياة الحيوان، وما كان سبباً في حياة الناس فلا يجوز احتكاره كالهواء. وهذه المسألة: أعني بيع فضل الماء فيه خلاف بين الفقهاء، ومحل تحرير هذه المسألة في كتاب البيع، ويكفي الإشارة في ذلك إلى الأقوال الفقهية، وسوف تحرر هذه المسألة بإذن الله تعالى في مظانها من كتاب البيوع، بلغنا الله ذلك سريعاً بمنه وكرمه، إنه ولي ذلك، والقادر عليه، فأقول: قال القرطبي في المفهم: " المسلمون مجمعون على أن الإنسان إذا أخذ الماء من النيل مثلاً فقد ملكه، وأن له بيعه، وأما ماء الأنهار والعيون وآبار الفيافي التي ليست بمملوكة فالاتفاق حاصل على أن ذلك لا يجوز منعه، ولا ¬
بيعه، ولا يشك في تناول أحاديث النهي لذلك، وأما فضل ماء في ملك فهذا هو محل الخلاف، فهل يجبر على بذل فضله، أو لا يجبر، وإذا أجبر فهل هو بالقيمة أم لا؟ وسبب الخلاف معارضة النهي عن بيع فضل الماء لأصل الملكية، وقياس الماء على الطعام إذا احتيج إليه ". فالماء إذا كان نابعاً في أرض مباحة فهو مشترك بين الناس، وإن كان نابعاً في ملك رجل، فهل يجوز بيعه، أو لايجوز، فيه خلاف، والخلاف مبني على مسألة أخرى: هل يملك أو لا يملك؟ ومذهب الجمهور على أن الإنسان إذا حاز الماء من البئر واستخرجه منه فقد ملكه، وجاز له بيعه، (1407 - 40) واستدلوا بما رواه البخاري في صحيحه، من حديث الزبير ابن العوام، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لأن يأخذ أحدكم أحبلاً، فيأخذ حزمة من حطب، فيبيع، فيكف الله بها وجهه خير من أن يسأل الناس، أعطي أم منع (¬1). فإذا أذن الشرع في بيع الحطب، مع أن الشرع جعل الناس شركاء في الكلأ، فيحمل ذلك على أن الأمر قبل احتطابه، فكذلك الماء، إذا استخرجه من البئر في الأرض المباحة جاز له بيعه، وإن كانت البئر في أرضه فهو أحق بالماء إذا كان محتاجاً إليه، وإن كان غير محتاج إليه وجب بذله، ولا يجوز بيعه، ما دام الماء نقعاً في البئر، والله أعلم (¬2). ¬
هذا فيما يتعلق بالخلاف في جواز شراء الماء للوضوء، وأن الراجح مذهب الجمهور، وهو جواز شراء الماء للوضوء، وصحة بيع الماء إذا حازه الإنسان من الآبار ونحوها. وحتى لو صححنا مذهب ابن حزم رحمه الله في عدم جواز بيع الماء للتيمم، فإن الإنسان إذا منع حقه، فاشتراه فإن له أن يتوضأ به، والإثم على من منع بذله إلا بالمال، مثله مثل ما إذا احتاج إلى كلب صيد، ولم يبذل له إلا بالمال فإن له أن يشتريه، والإثم على من منعه بذل هذا الكلب إلا بالبيع. ¬
هذا فيما يتعلق بالخلاف فيما إذا وجد الماء يباع من غير زيادة في ثمنه. وإن وجد الرجل الماء يباع بأكثر من ثمنه، فهل يجب عليه شراؤه، أو يتيمم؟ اختلف أهل العلم في هذا. فقيل: يلزمه الشراء، ولو كان بجميع ماله، ذهب إلى هذا الحسن البصري رحمه الله تعالى (¬1). وقيل: إذا زاد ثمن الماء عن قيمته، فإن كان الغبن يسيراً، وجب عليه شراؤه، وإن كان فاحشاً فله أن يتيمم، وهذا هو مذهب الحنفية (¬2)، والحنابلة (¬3). ونظر المالكية إلى اعتبار المشتري، فقالوا: إن كان قليل الدراهم تيمم، أي حتى ولو عرض الماء بثمن المثل، وإن كان يقدر على الشراء فليشتره ما لم يرفعوا عليه في الثمن (¬4). ¬
دليل الحسن على وجوب شراء الماء ولو بماله كله
وقيل: لا يلزمه الشراء إذا زاد عن ثمن المثل، ولو كان يسيراً، وهذا مذهب الشافعية (¬1)، وهو وجه في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: إن كان ذا مال كثير، ولا تجحف به الزيادة لزمه الشراء، ولو كانت الزيادة كثيرة، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬3). دليل الحسن على وجوب شراء الماء ولو بماله كله. هذا القول انفرد به الحسن عن بقية العلماء، ولعل دليله، أن الله سبحانه وتعالى شرط للتيمم عدم وجود الماء بقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء ¬
دليل الجمهور على أن الزيادة إذا كانت فاحشة تيمم
فتيمموا} (¬1)، وهذا واجد للماء، ثم إن المال إذا ذهب لتحصيل شرط الصلاة لم يكن مبذراً ولا مسرفاً؛ وذلك لأنه صرفه في أعظم الأعمال بعد الشهادتين، وهو الصلاة. دليل الجمهور على أن الزيادة إذا كانت فاحشة تيمم: الدليل الأول: دلت النصوص القطعية على حرمة مال المسلم، وأن حرمة ماله كحرمة نفسه، والضرر في النفس مسقط، فكذلك الضرر في المال (¬2). الدليل الثاني: أن التفريق بين الغبن اليسير والغبن الفاحش مقرر في الشرع، وأن الناس قد يقع بينهم مثل ذلك في معاملاتهم، ولا يعدون ذلك موجباً لفسخ البيع، فالمصير إليه متعين في وجوب شراء الماء. والعجب أن الشافعية يوجبون التيمم، ولو كان ذلك يلحق بالبدن ضرراً كبيراً من زيادة في المرض أو تأخير في البرء، ولا يجيزون التيمم إلا مع خوف تلف النفس أو العضو، مع أن زيادة المرض نوع من الضرر يلحق بالبدن، ويجيزون التيمم إذا لحق المال ضرر يسير، مع أن الأولى مراعاة البدن على مراعاة المال. دليل المالكية على اعتبار الثلث. المالكية يجعلون الزيادة على الثلث في كثير من الأمور فرقاً بين القليل ¬
دليل من قال: يلزمه الشراء إذا كان ذا مال ولا تجحف به الزيادة
والكثير، ويستدلون بحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، (1408 - 41) فقد روى البخاري من طريق عامر بن سعد، عن سعد، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعودني، وأنا مريض بمكة، فقلت: لي مال، أوصي بمالي كله؟ قال: لا. قلت: فالشطر؟ قال: لا. قلت: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ... الحديث، والحديث رواه مسلم (¬1). ومع أن هناك فرقاً كبيراً بين أن يستثني الإنسان من ماله مقدار الثلث، وبين أن يأخذ الأجنبي من ماله الثلث فأكثر، كما أن هذا قيل في باب الوصية، فسحب هذا الحكم على كل شيء في أبواب الفقه، في العبادات والمعاوضات، فيجعل ما زاد على الثلث كثير في كل شيء فيه تكلف، وفيه قياس أمور على أخرى دون أن يكون هناك علة جامعة. دليل من قال: يلزمه الشراء إذا كان ذا مال ولا تجحف به الزيادة: أن الله سبحانه وتعالى شرع التيمم بشرط المرض، أو عدم الماء، فقال تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} إلى قوله سبحانه: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬2)، فكان المعتبر إما عدم الماء، أو دفع الضرر كما لو كان مريضاً، وإذا كان المعتبر مع وجود الماء هو دفع الضرر، فإن صاحب المال الكثير لن يضره بذل الماء، ولو زاد على ثمنه كثيراً، وبالتالي لا يشرع له التيمم، ما دام أن الضرر أو عدم الماء غير موجود، والله أعلم. ¬
الراجح من الخلاف
الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأقوال، وحجة كل قول نجد أن أضعف الأقوال هو قول الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى، وهو وجوب بذل المال كله في شراء الماء، حتى ولو كان ذلك يلحق الضرر به. كما أن مذهب الشافعية الذي يعتبرون أدنى زيادة في قيمة الماء تجيز للإنسان أن يتيمم، ولو كان ذا مال كثير، هو قول ضعيف أيضاً. بقي قول الجمهور بأن الغبن إذا كان فاحشاً فإن له أن يتيمم، وقول من قال: يشتريه ولو كان الغبن فاحشاً إذا كان ذا مال، وكانت الزيادة لا تضره، فهذا القولان لهما حظ من النظر، وأجد نفسي تميل إلى اعتبار الضرر بقيمة الماء، فإن كانت قيمة المال تضره لم يجب عليه الشراء، ولو كان الماء بثمن المثل، وإن كانت لا تضره فإنه يجب عليه الشراء، والله أعلم.
المبحث الرابع: إذا وهب للرجل الماء فهل يجب قبوله؟
المبحث الرابع: إذا وهب للرجل الماء فهل يجب قبوله؟ إذا وهب للرجل ماء ليتوضأ به، فهل يلزمه قبوله؟. قيل: يلزمه، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والصحيح المنصوص في مذهب الشافعية (¬3)، وأصح الوجهين في مذهب الحنابلة (¬4)، وهو اختيار ابن حزم (¬5). وقيل: لا يلزمه، اختاره بعض المالكية (¬6)، حكاه بعضهم وجهاً في مذهب الشافعية (¬7). ومن أجاز رأى أن بذل الماء بين الناس ليس فيه منة، فأوجب قبول الهبة. ¬
ومن منع رأى أن ذلك لا يسلم من منة، والمنة نوع من الحرج والأذى، وقد قال سبحانه وتعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (¬1). والحقيقة أن المنة لها تعلق بالآخذ وبالدافع، فإن كان يعرف من حال الدافع أنه يتبع هبته المن والأذى، لم يلزمه قبوله، فإن بعض الناس قد يمن بالشيء الحقير، وبعض الناس قد يرى أن أخذك لهديته نوع من الإحسان عليه، كما قال الشاعر: يا ذا الذي يعطي الكثير وعنده ... أني عليه بأخذه أتصدق كما أن بعض الناس لم يتعود أن يسأل الناس شيئاً، حتى ولو لم يكن في ذلك منة من الدافع، فقد تعود أن تكون يده دائماً عليا، واليد العليا خير من اليد السفلى. وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبايع الناس على ألا يسألوا الناس شيئاً، كما في صحيح مسلم، قال الراوي: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحداً يناوله إياه (¬2). ثم هناك فرق بين أن يعطى الماء دون مسألة، وبين أن يسأل الناس الماء، ففي الأول أقل مِنَّة من الثاني. وإذا غلب على ظنه أن يمنعه، أو يمن عليه ينبغي أن يقال: لا يجب عليه السؤال حتى على مذهب الجمهور القائلين بأنه إذا وهب له وجب عليه قبوله. جاء في النوادر والزيادات: " وإنما على المسافر أن يطلب الماء ممن يليه، أو ممن يرجو أن يعطيه، وليس عليه أن يطلب أربعين رجلاً " (¬3). ¬
فقوله: " ممن يرجو أن يعطيه " دليل على أنه إذا غلب على ظنه أن لا يبذل له الماء لم يجب عليه السؤال. وقال الغزالي في الوسيط: " وهل يجب عليه الابتداء بسؤال هذه الأمور؟ فيه وجهان: لأن السؤال أصعب على ذوي المرواءت، وإن هان قدر المسؤول" (¬1). وأما إذا وهب له ثمنه، فقد قال النووي: لم يلزمه قبوله بالاتفاق، ونقل إمام الحرمين الإجماع فيه (¬2). وينبغي أن يقيد ذلك بأن لا يكون الواهب ابناً أو أباً؛ وذلك لأنه لا منة من الأب على ابنه، فإن الأب هو سبب وجود الابن، فالمنة له قائمة على ولده، أخذ منه ثمن الماء أو لم يأخذ، كما أن الولد لا يمن على أبيه إذا أعطاه ثمن الماء، وذلك لأن الأب إذا احتاج إلى مال ولده فله أن يأخذ قدر كفايته منه، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث: في التيمم خوفا من فوات العبادة
الفصل الثالث: في التيمم خوفاً من فوات العبادة ذكرنا فيما سبق سببين من أسباب التيمم، وهو فقد الماء، والثاني: التعذر عن استعماله، وسوف نتناول في هذا الفصل بحثاً آخر، وهو في الرجل بين يديه الماء، إن توضأ به فاتته العبادة، أو فاته وقت أدائها، فهل يتيمم ليدرك العبادة، أو يتوضأ، والمسائل التي يتكلم عليها الفقهاء في مثل هذه المسألة ثلاث: الأولى: إذا خشي خروج وقت الفريضة. الثانية: إذا خاف فوت صلاة العيد أو صلاة الجنازة. الثالثة: إذا خاف فوت الجمعة.
المبحث الأول: إذ خاف خروج وقت الفريضة
المبحث الأول: إذ خاف خروج وقت الفريضة إذا خشي خروج الوقت لو توضأ، فهل يتيمم ليدرك الوقت، أو يتوضأ ولو صلى خارج الوقت، في هذه المسألة وقع نزاع بين أهل العلم، فقيل: يتيمم، ويصلي بالوقت، وهو المشهور من مذهب مالك (¬1). ¬
وقيل: بالتفريق بين النائم والناسي وبين غيرهما، فإن كان نائماً، فاستيقظ من نومه، أو ناسياً فتذكر في آخر الوقت، فرأى إن اشتغل بتحصيل الطهارة بالماء خرج الوقت، وإن تيمم أدرك الوقت، أنه يتوضأ، وإن خرج الوقت، وإن لم يكن نائماً ولا ناسياً، فإنه يتيمم لإدراك الوقت، وهذا اختيار ابن تيمية رحمه الله تعالى (¬1). ¬
دليل من قال: يتيمم ويصلي
وقيل: يتوضأ، ولو صلى خارج الوقت، اختاره المغاربة من المالكية (¬1)، وهذا مذهب الحنفية (¬2)، والحنابلة (¬3). دليل من قال: يتيمم ويصلي. الدليل الأول: قالوا: إن التيمم إنما شرع للحاجة إلى أداء الصلاة في الوقت، ولولا مراعاة الشارع لهذه المصلحة لقيل: ينتظر إلى حين وجود الماء، فيصليها بالماء، فمشروعية التيمم دليل على اهتمام الشارع بالوقت، وأن المحافظة على الوقت بالتيمم، أولى من المحافظة على الطهارة المائية خارج الوقت. والدليل على عناية الشارع بالوقت أنه لم يجعل قتال العدو مبيحاً لتأخير ¬
الدليل الثاني
الصلاة عن وقتها، قال تعالى: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} (¬1). فرخص الله لعبيده في الصلاة حال الخوف رجالاً على الأقدام، أو ركباناً على الخيل والإبل ونحوهما، إيماء وإشارة بالرأس حيثما توجه، وجوز ترك بعض الشروط كاستقبال القبلة، بل ومن الاكتفاء بالإيماء عن الركوع والسجود كل ذلك من أجل المحافظة على الوقت، مع أنه يمكنه أن يصلي خارج الوقت مع قيامه بشروط العبادة وأركانها، فالوقت أولى بالمراعاة من الطهارة المائية، والله أعلم. الدليل الثاني: القياس على المسافر، وذلك أن المسافر إذا علم أنه لا يجد الماء إلا بعد خروج الوقت كان فرضاً عليه أن يصلي بالتيمم باتفاق الأئمة، وليس له أن يؤخر الصلاة عن وقتها حتى يصل إلى الماء، بل إذا فعل ذلك كان عاصياً بالاتفاق (¬2)، فكذلك الحال هنا، يجب عليه أن يؤدي الصلاة بالتيمم، ولا يخرج العبادة عن وقتها طلباً للطهارة المائية. الدليل الثالث: (1409 - 42) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال: سمعت عميراً مولى ابن عباس قال: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، ¬
دليل من قال: يتوضأ، ولا يتيمم
فقال أبو الجهيم الأنصاري: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما خشي فوات الرد على الرجل إن هو توضأ لرد السلام، تيمم في الحضر مع وجود الماء من أجل إدراك الرد على الرجل على طهارة، فكذلك إذا خشي فوات وقت الفريضة تيمم لإدراك الوقت، وإن كان الماء موجوداً. دليل من قال: يتوضأ، ولا يتيمم. (1410 - 42) ما رواه أبو ذر، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - له: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك لهو خير (¬2). [حديث حسن] (¬3). فقوله: " فإذا وجد الماء فليمسه بشرته " مطلق، سواء خاف خروج الوقت أو لا، فالله سبحانه وتعالى إنما أجاز التيمم بشرطين: فقد الماء، أو العجز عن استعماله لمرض ونحوه، أما مع وجود الماء، والقدرة على استعماله فإنه يجب عليه استعماله، ولو خرج الوقت؛ وخروج الوقت معذور فيه؛ لأنه مشتغل بتحصيل شرط العبادة. ¬
دليل ابن تيمية على التفريق بين النائم والناسي وبين غيرهما
ويجاب: بأن من المسافر إذا علم أنه يدرك الماء بعد خروج الوقت لم يجز له تأخير الصلاة، ووجب عليه التيمم، ولم يكن اشتغاله بتحصيل شرط العبادة عذراً له في ترك التيمم، بل وجب عليه التيمم، فتبين أن هذا التعليل ليس بجيد. دليل ابن تيمية على التفريق بين النائم والناسي وبين غيرهما: قال: إن الوقت في حق النائم من حين الاستيقاظ، فلا تفوته الصلاة، (1411 - 43) وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " أما إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجئ وقت الصلاة الأخرى. الحديث قطعة من حديث طويل أخرجه مسلم من طريق سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة (¬1). فإذا كان النوم ليس فيه تفريط، وقد أمر النائم بإيقاع الصلاة إذا قام من النوم، فهذا هو وقتها بالنسبة إليه، لا فرق بين كون الصلاة في الوقت أو خارج الوقت. الراجح: بعد استعراض الأقوال، نجد أن مذهب الحنابلة والشافعية أضعف الأقوال القائلين بتقديم الطهارة على تحصيل الوقت، ويبقى الترجيح بين قول المالكية وبين اختيار ابن تيمية، وذلك في التفريق بين النائم وغيره، وهو محل اجتهاد لم يتبين لي الراجح فيه، وإن كنت أميل ميلاً طفيفاً إلى رأي المالكية، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني: إذا خاف فوت صلاة الجنازة والعيد، فهل يتيمم؟
المبحث الثاني: إذا خاف فوت صلاة الجنازة والعيد، فهل يتيمم؟ اختلف أهل العلم في الرجل يخشى فوات صلاة الجنازة وصلاة العيد، هل يتيمم؟. فقيل: يتيمم ويصلي، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، ورواية عن أحمد (¬2)، اختارها ابن تيمية (¬3). وقيل: لا يتيمم في الحضر لصلاة جنازة إلا إن تعينت عليه، ويتيمم لها المسافر والمريض مطلقاً تعينت عليه أم لا، وهذا مذهب المالكية (¬4). ¬
وقيل: لا يتيمم مطلقاً للجنازة والعيد، وهذا مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). ¬
دليل من قال: يتيمم لفوت الجنازة.
وقيل: يصلي عليها من غير وضوء ولا تيمم، وهو قول الشعبي (¬1)، ومحمد بن جرير الطبري (¬2). دليل من قال: يتيمم لفوت الجنازة. الدليل الأول: (1412 - 44) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عمر بن أيوب الموصلي، عن مغيرة بن زياد، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: إذا خفت أن تفوتك الجنازة، وأنت على غير وضوء، فتيمم، وصل (¬3). [المحفوظ وقفه على عطاء، وأنكر أحمد وابن معين والبيهقي إسناده إلى ابن عباس رضي الله عنه] (¬4). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1413 - 45) ما رواه ابن عدي من طريق يمان بن سعيد، حدثنا وكيع ابن الجراح، ثنا معافي بن عمران، عن مغيرة بن زياد، عن عطاء، ¬
الدليل الثالث
عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: إذا فاجأتك جنازة، وأنت على غير وضوء، فتيمم (¬1). [وهذا أشد نكارة من الذي قبله] (¬2). الدليل الثالث: (1414 - 46) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال: سمعت عميراً مولى ابن ¬
عباس قال: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو الجهيم الأنصاري: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أنه لما تيمم بالمدينة مع جود الماء خوفاً من فوت السلام، كان تيممه خوفاً من فوات الجنازة وصلاة العيد من باب أولى، فكل ما يفوت لا إلى بدل يجوز أداؤه بالتيمم، بخلاف الجمعة فإنها تفوت إلى بدل، وهو الظهر، وبخلاف الصلوات الخمس، فإنها تفوت إلى بدل، وهو القضاء. ولأنه جعل التيمم في تلك الحالة طهوراً، لأنه حين تيمم تحقق له أنه ذكر الله على طهارة، فاقتضى أن يكون فعل الصلاة به جائزاً، ولأنها صلاة لا يقدر على فلعها إلا بالتيمم، فاقتضى أن يجزئه كالمريض والمسافر. ويجاب: قالوا: إن الطهارة ليست بشرط في رد السلام، فالتيمم لذلك أهون مما هو شرط فيها كالصلاة على الجنازة والعيد. وأما الصلاة على الجنازة فإنها لا تفوت، لأنه يمكنه الصلاة على القبر، قال النووي: " الجنازة لا تفوت، بل يصليها على القبر إلى ثلاثة أيام بالإجماع، ويجوز بعدها عندنا" (¬2). ¬
الدليل الرابع
ويرد على الجواب: بأن رد السلام ليس من شرطه الطهارة، هذا لا خلاف فيه، وإذا تحقق أن المتيمم لرد السلام قد ارتفع حدثه وأصبح طاهراً، فقد أذن لمن تطهر أن يصلي على الجنازة وأن يصلي صلاة العيد، لأن الحدث قد ارتفع. وأما قولهم بأن الجنازة لا تفوت بإمكان الصلاة على القبر، قلنا: المقصود بقولنا تفوت ما قاله المرداوي، في كتابه الإنصاف، قال: " مراد المصنف (ابن قدامة) وغيره بفوات الجنازة: فواتها مع الإمام، قاله القاضي وغيره. قال جماعة: ولو أمكنه أن يصلي على قبره لكثرة وقوعه، وعظم المشقة فيه ". قلت: والذي أذن بأن تقضى السنة الراتبة للفجر بعد الصلاة إذا فاتته مع أنه وقت نهي، مع إمكان أن يصليها ضحى في غير وقت النهي، لكن باعتبار أن ذلك قد يشق عليه، أذن له أن ينتهك وقت النهي، فهذا مثله، وقد يشق عليه اتباع الجنازة للمقبرة والصلاة على القبر، وإذا فرغ الإمام من الصلاة رفعت الجنازة. الدليل الرابع: (1415 - 47) ما رواه ابن المنذر من طريق محمد بن عمرو، ثنا ابن نمير، عن إسماعيل بن مسلم، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أنه أتي بجنازة، وهو على غير وضوء، فتيمم وصلى عليها (¬1). [وقفه على ابن عمر وهم، والصواب كون الأثر موقوفاً على عامر الشعبي] (¬2). ¬
دليل من قال: لا يتيمم
دليل من قال: لا يتيمم. الدليل الأول: قال تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬1)، وهذا واجد للماء مع القدرة على استعماله من غير خوف، ولا ضرر، فلا يعذر بالتيمم. الدليل الثاني: (1416 - 48) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر ¬
الدليل الثالث
سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (¬1). وجه الاستدلال: قوله: " فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته " فأوجب مس الماء للبشرة إذا وجد الماء، وهذا واجد للماء، فكيف يتيمم مع وجوده. والجواب عن هذا الدليل والذي قبله: ما ذكرنا من مشروعية التيمم إذا خاف خروج الوقت مع وجود الماء، فالتيمم إنما شرع من أجل المحافظة على الوقت، فإنه يمكن لمن عدم الماء في السفر أن يؤخر الصلاة عن وقتها، ويصليها إذا وجد الماء، فإذا كان لا يجوز له ذلك، وإن كان يعلم أنه يجد الماء بعد خروج الوقت، فكذلك يشرع له التيمم إذا خاف فوت العبادة، لأن فوت العبادة أبلغ من فوت وقتها، والله أعلم. الدليل الثالث: (1417 - 49) ما رواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: لا يصلي الرجل على الجنازة إلا وهو طاهر (¬2). إسناده صحيح. ويجاب عن هذا: بأن هذا الأثر رد على الشعبي والطبري ممن يجيز الصلاة على الجنازة بغير طهارة، وأما من اشترط لها التيمم، فقد صلاها بطهارة، لأن التيمم على ¬
دليل من قال: يصلى على الجنازة بالتيمم بشرط إن تعينت عليه
الصحيح مطهر، كما مر معنا في الأحاديث الصحيحة: " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " وحديث " الصعيد الطيب طهور المسلم ". دليل من قال: يصلى على الجنازة بالتيمم بشرط إن تعينت عليه: تعليلهم في ذلك، بأن صلاة الجنازة إذا تعينت أصبحت فرض عين عليه، فصار معذوراً في التيمم لها، وأما إذا لم تتعين، بأن وجد من يصلي عليها من المتوضئين فإنها لا تجب عليه، لأنها لما كانت على الكفاية جرت مجرى السنن في حقه. وهذا التعليل عليل، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - تيمم لرد السلام، والطهارة ليست شرطاً، بل ولا واجباً في رد السلام، وإنما رد السلام من ذكر الله، والطهارة للذكر سنة بالاتفاق، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الخطاب في فرض الكفاية موجه إلى جميع الناس إلى أن تفعله طائفة منهم، وأن فعل الجميع يقع فرضاً، وليس من قبيل السنن. دليل الشعبي والطبري على جواز صلاة الجنازة بدون طهارة: حجتهم في ذلك بأن الصلاة على الميت دعاء له بالمغفرة والرحمة، وهذا الفعل لا تشترط له الطهارة. والصحيح أن الدعاء للميت صلاة، وليست مجرد دعاء له. قال ابن عبد البر: " وقد أجمعوا أنه لا يصلى عليها إلا إلى القبلة، ولو كانت دعاء كما زعم الشعبي لجازت إلى غير القبلة، ولما أجمعوا على التكبير فيها، واستقبال القبلة علم أنها صلاة، ولا صلاة إلا بوضوء" (¬1). ¬
الراجح
قلت: ولو قال: ولا صلاة إلا بطهور لكان أعم، لأن الصلاة بالتيمم تجوز، وهي بلا وضوء. الراجح من أقوال أهل العلم. بعد استعراض أدلة الأقوال، نجد أن القول بجواز التيمم لمن خاف فوات الصلاة على الجنازة أو العيد، ويشق عليه أن يصلى على الجنازة بالمقبرة أو على القبر فإن ذلك سائغ إن شاء الله تعالى، والأصل في مشروعيته تيمم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لرد السلام، والله أعلم.
المبحث الثالث: التيمم لخوف فوات الجمعة
المبحث الثالث: التيمم لخوف فوات الجمعة اختلف العلماء فيما إذا خاف الرجل أن تفوته صلاة الجمعة، فهل يتيمم لها، أو يتوضأ ولو فاتته، بناء على أن الجمعة لها بدل، وهو صلاة الظهر، وصلاة الظهر يمكنه أن يصليها في وقتها؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم، فقيل: لا يتيمم لها، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمشهور من مذهب المالكية (¬2)، ومذهب الشافعية (¬3)، ومذهب الحنابلة (¬4). وقيل: بل يتيمم لها، وهو قول في مذهب المالكية خلاف المشهور عند المتأخرين (¬5)، واختاره ابن تيمية (¬6). وقيل: يتيمم، ويصلي الجمعة، ثم يتوضأ، ويعيدها ظهراً، وهو قول في مذهب المالكية (¬7). ¬
والأدلة في هذه المسألة هي الأدلة في المسألة السابقة، وهي إذا خشي فوات العيد، هل يتيمم، حتى يدرك الصلاة أو لا يتيمم في الحضر مع وجود الماء، إلا أن صلاة الجمعة قد رأى بعضهم إن هناك إجماعاً على عدم صلاتها بالتيمم؛ والإجماع لعله غير محفوظ. قال ابن المنذر: "قال أبو ثور: لا أعلم خلافاً أن رجلاً لو أحدث يوم الجمعة، وخاف فواتها أن ليس له أن يتيمم، ويصلي، فإذا كان هذا من القوم إجماعاً لوجود الماء، كان كل محدث في موضع يجد فيه الماء مثله " (¬1). والخلاف محفوظ عند المالكية كما تبين لك من خلال عرض الأقوال في المسألة، كما أنه رأي ابن تيمية. ¬
الباب الثالث: في شروط التيمم
الباب الثالث: في شروط التيمم الشرط الأول: النية الكلام في النية طويل ومتشعب، وكنت قد تطرقت إلى كثير من أحكامها في كتاب الوضوء، عند الكلام على شروط الوضوء، وسوف أتطرق إلى مباحث النية الخاصة بالتيمم، والتي لم نتطرق لها في أحكام الوضوء، وسوف أقسم الكلام على أحكام النية إلى ثلاثة فصول إن شاء الله تعالى، وأقسم هذه الفصول إلى مباحث، والمباحث إلى فروع، والفروع إلى مسائل، حتى آتي إن شاء الله تعالى على أكثر أحكامها، يسر الله ذلك بمنه وكرمه.
الفصل الأول: في اشتراط النية لطهارة التيمم
الفصل الأول: في اشتراط النية لطهارة التيمم اختلف العلماء في اشتراط النية في الطهارة عموماً، وقد سبق لنا أن ذكرنا خلاف العلماء في كتاب الوضوء، فقيل: النية شرط في طهارة الأحداث كلها، الأصغر والأكبر، لا فرق بين طهارة الماء، وبين طهارة التيمم، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: عكسه، أن النية ليست بشرط مطلقاً، وهذا القول منسوب لزفر من الحنفية (¬2)، وللأوزاعي رحمه الله تعالى (¬3)، وللحسن بن صالح (¬4). وقيل: كل طهارة بالماء تجوز بغير نية، ولا يجزئ التيمم إلا بنية، وهو ¬
دليل الجمهور على اشتراط النية في الطهارتين الماء والتيمم
مذهب الحنفية (¬1)، وبه قال سفيان الثوري (¬2). دليل الجمهور على اشتراط النية في الطهارتين الماء والتيمم: سبق لنا أن ذكرنا أدلتهم في كتاب الحيض والنفاس، فأغنى عن إعادته هنا. دليل الحنفية على التفريق بين طهارة الماء وطهارة التراب. أما دليل الحنفية على عدم اشتراط النية في طهارة الماء، فقد ذكرته، وأجبت عنه، في كتابي أحكام المسح على الحائل (¬3). وأما وجه التفريق بين طهارة الماء وطهارة التراب: ذكروا وجوهاً منها: الأول: أن التيمم في اللغة: القصد، وذلك يدل على اشتراط النية فيه، بخلاف الوضوء والغسل، فإن النية قدر زائد على مرور الماء على الأعضاء المغسولة، فإذا جرى الماء على أعضاء الوضوء، أو عم الماء جميع البدن فيصدق عليه أنه امتثل الأمر الشرعي بقوله: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (¬4). ¬
وقوله: {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (¬1). فهذا الأمر تحصيله لا يتوقف على النية. الثاني: الماء مطهر بنفسه، فلم يفتقر إلى قصد فإذا وجدت النظافة به على أي وجه كان فقد حصل المقصود، بخلاف التراب فإنه ملوث، وإنما جعل طهارة عند الحاجة، والحاجة إنما تعرف بالنية. ويجاب عن هذا بجوابين: الأول: أن يقال: وكذلك التراب ملوث بنفسه، فلم يفتقر إلى قصد فإذا وجد التلوث به على أي وجه كان فقد حصل المقصود. الوجه الثاني: لا نسلم أن التراب غير مطهر، فإنه قد ثبت أنه مطهر للحدث والخبث معاً، فالدليل على أنه مطهر من الأحداث قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (¬2). فنص على أن الغاية من مشروعية التيمم إرادة التطهير مع نفي الحرج عن هذه الأمة. ومن السنة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث جابر " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ... "الحديثَ، والحديث رواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬3). ¬
دليل من قال: التيمم يصح بدون نية
وفي حديث أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير (¬1). [حديث حسن وسبق تخريجه] (¬2). فحكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أن الصعيد طهور المسلم. فهذا دليل على أن التراب مطهر للحدث، وأما طهارة الخبث بالتراب فذلك مثل الاستجمار، ومثل طهارة النعل بالتراب، وطهارة ذيل المرأة بمروره على تراب طاهر، فالقول بأن التراب غير مطهر مخالف لنصوص الكتاب والسنة، والتفريق بين الوضوء والتيمم، فلا تجب النية في طهارة الوضوء، وتجب النية في طهارة التيمم تفريق بين ما جمع الله سبحانه وتعالى، فقد جمع بينهما في آية المائدة، ذاكراً سبحانه وتعالى الوضوء بقوله {إذا قمتم إلى الصلاة} إشارة إلى النية، وقال في التيمم {فتيمموا} إشارة إلى قصد الصعيد، فمن فرق بينهما فقد فرق بين ما جمع الله، وقوله في غاية الضعف. دليل من قال: التيمم يصح بدون نية: قالوا: إن التيمم بدل عن طهارة الماء، وإذا كانت طهارة الماء وهي الأصل تصح بلا نية، فكذلك طهارة البدل؛ لأن البدل يأخذ حكم المبدل. ¬
الراجح من الخلاف
ويجاب: لا نسلم أن طهارة الماء تصح بلا نية، وما بني على قول ضعيف كان ضعيفاً، فالصحيح من أقوال أهل العلم أن الطهارة من الأحداث كلها تفتقر إلى نية، وقد قدمنا مجموعة من الأدلة على اشتراط النية في بحث سابق، فأغنى عن إعادته هنا (¬1)، والله أعلم. الراجح من الخلاف. بعد استعراض أدلة الفريقين نجد أن القول بأن النية شرط في طهارة الحدث مطلقاً، سواء كانت الطهارة بالماء، أو بالتراب هو القول الراجح، لقوة أدلته، وضعف أدلة الأقوال الأخرى، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني: لو سفت الريح التراب على وجهه ونوى به التيمم
الفصل الثاني: لو سفت الريح التراب على وجهه ونوى به التيمم. اختلف أهل العلم فيما لو ألقت عليه الريح تراباً عمَّ وجهه ويديه، هل يصح تيممه؟. قال النووي: فإن لم يقصدها لم يجزه بلا خلاف (¬1). قلت: ينبغي أن يكون فيه خلاف، فإن من لم يشترط النية ربما صحح تيممه، كما أن من لم يشترط النية في غسل الجنابة، لو انغمس في نهر ارتفع حدثه، إلا أنني لم أقف على من صرح بصحة تيممه في مسألتنا هذه، فليتأمل. وأما إذا نوى به التيمم وصمد للريح، فقيل: لا يصح تيممه، وهو مذهب المالكية (¬2)، والمنصوص في مذهب الشافعية، وعليه أكثرهم (¬3)، ورجحه كثير من الحنابلة (¬4). ¬
تعليل من قال: لا يصح تيممه
وقيل: يصح تيممه، اختاره بعض الشافعية (¬1)، وبعض الحنابلة (¬2). وقيل: إن مسح أجزأ، وإلا فلا، اختاره ابن الصباغ من الشافعية (¬3)، والمتأخرون من الحنابلة، قال صاحب الإنصاف: وهذا الصحيح قياساً على مسح الرأس (¬4). تعليل من قال: لا يصح تيممه: قالوا: إن النقل شرط، ولم يوجد. ويجاب: أين الدليل على أن النقل شرط، فالقصد للشي: وهو النية كافية في المطلوب، وقصده لا يستلزم قصد النقل، وكما أن النقل ليس شرطاً في طهارة الماء، وهي أصل، كذلك لا تكون شرطاً في طهارة البدل، فلو نزل المطر على بدن الجنب ونوى به الغسل، حتى عمم به جميع بدنه ارتفع حدثه، فكذلك هنا. ¬
دليل من قال: يصح تيممه
دليل من قال: يصح تيممه: قاله قياساً على ما ذكرنا من صحة الغسل لو جلس تحت المطر أو الميزاب، ونزل عليه الماء، فعمم جميع بدنه أن حدثه يرتفع، فكذلك هنا. دليل من قال: إن مسح أجزأ، وإلا فلا: الدليل الأول: استدل بقوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} فطلب الشرع المسح، فإذا لم يمسح لم يمتثل للأمر. الدليل الثاني: ولأنه يتعذر وصول التراب إلى جميع وجهه من غير مسح. ويجاب عن هذين الدليلين: بأن المسح ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو آلة لتحقيق المطلوب، ولذلك لو يممه غيره مع قدرته صح تيممه، مع أنه لم يمسح هو، وإنما مسح غيره، فلا فرق بين أن يكون مرور التراب عن طريق يد غيره، وبين أن يكون مروره عن طريق الريح إذا قصد التيمم، فالغاية أن يمس التراب وجهه ويديه، وأما كون التعميم متعذراً، فالتعميم حتى باليد متعذر، فالمسح الأصل فيه التخفيف بخلاف الغسل، كالمسح على الخفين ومسح الرأس وغيرهما، فإذا أصاب أكثر التراب غالب وجهه أجزأه، والله أعلم. الدليل الثالث: قالوا اشترطنا المسح قياساً على ما ذكرناه في كتاب الوضوء فيما لو غسل رأسه بدلاً من مسحه، فمنهم من قال: لا يجزئ مطلقاً، ومنهم من قال:
يجزئ مطلقاً، ومنهم من قال: إن مسح أجزأ، ليتحقق امتثال الأمر، والكلام في تلك المسألة كالكلام في هذه، ولا فرق، وقد سبق تحريرها. وأجاب المانعون عن هذا الدليل: قالوا: هناك فرق بين ما لو غسل رأسه أجزأ عن مسحه، وبين هذه المسألة، فإن من غسل رأسه قد قام الدليل على صحته، لأنه إذا أجزأ غسل الرأس عن الجنابة، فلأن يجزئ ذلك عن الوضوء أولى بخلاف التيمم. والراجح أنه لا فرق. تنبيه: قال المسعودي: " وإن أدنى وجهه من الأرض أو تمعك في التراب، فحصل الغبار على أعضاء التيمم، فإن كان لعجز صح، وإن كان لا لعجز، فهل يصح؟ فيه وجهان " (¬1). قلت: ينبغي أن يصح مطلقاً، وبدون شرط الغبار. ¬
الفصل الثالث: في صفة النية
الفصل الثالث: في صفة النية سوف نخصص هذا الفصل في الكلام عن كيفية النية في التيمم، فلو نوى المتيمم نية التيمم فقط فهل يجزئ؟ أو لا بد من نية ما يتيمم له، وما يتيمم عنه، فأنوي مثلاً التيمم، للصلاة أو للطواف أو نحوهما، عن الحدث الأصغر، أو عن الحدث الأكبر، أو عن النجاسة على البدن كما في مذهب الحنابلة، فعندنا ثلاثة أشياء، الأولى: نية التيمم. الثانية: نية ما يتيمم له من الطاعات كالصلاة والطواف وقراءة القرآن، وهل إذا نوى الفرض منها يكفي عن نية النفل؟ الثالثة: نية ما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر، وسوف نتناول هذه المسائل واحدة واحدة، وما يتفرع منها.
المبحث الأول: لو نوى بفعله مطلق التيمم
المبحث الأول: لو نوى بفعله مطلق التيمم اختلف الفقهاء فيما لو نوى بتيممه فرض التيمم هل يصح تيممه؟ فقيل: يصح تيممه، وهو اختيار أبي بكر بن سعيد البلخي من الحنفية، ونسب إلى أبي حنيفة (¬1)، وهو مذهب المالكية (¬2)، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: لا يصح، وهو مذهب الحنفية (¬5)، وأصح الوجهين في مذهب ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه من قال بالصحة
الشافعية (¬1)، وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة (¬2). وجه من قال بالصحة: القياس على الوضوء، فكما أنه لو نوى فرض الوضوء صح الوضوء، فكذلك التيمم. وجه من قال: لا يصح: وأما دليل الحنفية فاستدلوا بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} ثم قال: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬3)، فتضمنت الآية نية التيمم للصلاة، وليس مطلق النية (¬4). وأما تعليل إمام الحرمين من الشافعية: قال: لأن التيمم لا يرفع الحدث، وإنما يبيح فعل الصلاة، فلا بد من تعيين ما يتيمم له كالصلاة والطواف، وما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر، قالوا: ويفارق الوضوء، أن الوضوء مقصود لنفسه، ولهذا استحب تجديده بخلاف التيمم، وعلل السيوطي التفريق بين التيمم والوضوء بقوله: " إن التمييز لا يحصل بذلك - أي بنية الفرض - لأن التيمم عن الحدث والجنابة فرض، وصورته ¬
واحدة بخلاف الوضوء والغسل فإنما يتميزان بالصورة " (¬1). والراجح أنه لو تيمم بنية الفرض أو بنية رفع الحدث فإن حدثه يرتفع، ولا إشكال كما نبهت على أن هذه المسألة إنما بنيت على أصل ضعيف، وهو أن التيمم لا يرفع الحدث، وهو خلاف الكتاب والسنة كما بينت في مبحث مستقل. ¬
المبحث الثاني: إذا نوى المتيمم بتيممه رفع الحدث
المبحث الثاني: إذا نوى المتيمم بتيممه رفع الحدث اختلف أهل العلم فيما إذا نوى المتيمم رفع الحدث، فقيل: يرتفع حدثه، وهو مذهب الحنفية (¬1)، ووجه في مذهب الشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: لا يرتفع حدثه، وهو مذهب المالكية (¬4)، والشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6). والقول في أدلة هذه المسألة راجع إلى مسألة سبق بحثها، وهي هل التيمم يرفع الحدث، أو يبيح فعل الصلاة فقط؟ فمن رأى أن التيمم يرفع الحدث كالحنفية لم يمنع التيمم بهذه النية، ومن رأى أن التيمم لا يرفع الحدث منع المتيمم أن يتيمم بهذه النية، وقد رجحت فيما سبق أن التيمم يرفع الحدث رفعاً مؤقتاً إلى حين وجود الماء، وقد ذكرنا أدلتهم فيما سبق، فأغنى عن إعادته هنا، ولا يختلف القول لو نوى الطهارة، فإن نية الطهارة راجع إلى مسألتنا، هل التيمم مطهر، أو مبيح فقط، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث: في اشتراط نية ما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر
المبحث الثالث: في اشتراط نية ما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر الفرع الأول: لو تيمم ولم ينو ما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر عرفنا فيما سبق الخلاف فيما لو نوى التيمم فقط، وسوف نناقش في هذا المبحث حكم نية ما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر، فقيل: لا يشترط نية ما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر، بل يكفي أن ينوي التيمم للصلاة مثلاً، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، وقول في مذهب المالكية (¬3). وقيل: إن كان التيمم من الحدث الأصغر لم يلزمه استحضاره حال ¬
التيمم، بل يكفي فيه استباحة الصلاة من غير ذكر المتعلق، وفي الأكبر لابد من استحضار المتعلق، فإن ترك ذلك أعاد أبداً. هذا هو المشهور من مذهب المالكية (¬1). وقيل: يستحب له استحضار نية الحدث الأكبر، فإن ترك هذا مطلقاً عامداً أو ناسياً أعاد في الوقت، وهو قول في مذهب المالكية (¬2). ¬
وقيل: يشترط أن ينوي نية ما يتيمم له، وما يتيمم عنه، وهذا مذهب الحنابلة (¬1). والراجح أن التيمم يقوم مقام الماء، فإذا نوى فرض التيمم، فقد قام بما هو واجب عليه، وإذا نوى الصلاة بتيممه، ارتفع حدثه الأصغر والأكبر؛ لأنه يلزم من نية الصلاة ارتفاع الحدث، وإذا نوى ارتفاع الحدث الأصغر ارتفع الأصغر فقط، أو نوى ارتفاع الحدث الأكبر دخل فيه الحدث الأصغر تماماً كما هو في طهارة الماء، ولا فرق؛ لأن التيمم بدل عن طهارة الماء، والبدل يأخذ حكم المبدل، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني: لو تيمم للحدث الأصغر فهل يرتفع حدثه الأكبر
الفرع الثاني: لو تيمم للحدث الأصغر فهل يرتفع حدثه الأكبر لو أن رجلاً تيمم للحدث الأصغر ناسياً حدثه الأكبر، فهل يصح تيممه عن الحدث الأكبر؟ في هذا خلاف بين أهل العلم، فقيل: يصح، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، وأحد القولين في مذهب المالكية (¬3). وقيل: لا يصح، اختاره الجصاص وأبو بكر الرازي من الحنفية (¬4)، وهو مذهب المالكية (¬5)، والحنابلة (¬6). ¬
دليل من قال: يصح تيممه عن الحدث الأكبر
دليل من قال: يصح تيممه عن الحدث الأكبر: التعليل الأول: قالوا: لأنه لو كان ذاكراً للجنابة لم يكن عليه أكثر من التيمم، وقد فعل. التعليل الثاني: قالوا: إن التيمم طهارة، فلا يلزم نية أسبابها كما في الوضوء. وهذا التعليل جيد، لكنهم لا يقبلونه فيما لو نوى التيمم وأطلق، فلا بد عندهم من نية الطهارة، أو نية استباحة الصلاة، أو نية عبادة مقصودة بذاتها لا تصح بدون طهارة، وهذا سبق بيانه. التعليل الثالث: أن الجنب والمحدث نيتهما واحدة، فلم يشترط نية الحدث الأكبر، قال النووي: إن الجنب ينوي بتيممه ما ينويه المحدث، وهو استباحة الصلاة، فلا فرق (¬1). اهـ قلت: نية الصلاة تستلزم نية الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر، فكذلك لو كان جنباً ونوى بغسله الصلاة ارتفع حدثه الأكبر، ولكن لو أن هذا الجنب انغمس في ماء، وخرج مرتباً على القول بوجوب الترتيب، ولم ينو إلا الحدث الأصغر لم يرتفع حدثه الأكبر، فلماذا في التيمم قلنا: إذا نوى حدثه الأصغر ارتفع حدثه الأكبر، فالواجب أن يكون التيمم حكمه حكم الماء. ¬
التعليل الرابع
التعليل الرابع: قالوا: التيمم عن الحدث الأصغر يجزئ عن الحدث الأكبر، لأن صفة التيمم فيهما واحدة. وقد جعل بعض أهل العلم هذا التعليل سبباً في وجوب تعيين النية كما سيأتي في أدلة القول الثاني. دليل من قال: لا يصح تيممه عن الحدث الأكبر: الدليل الأول: (1418 - 50) ما رواه البخاري من طريق يحيى بن سعيد يقول: أخبرني محمد بن إبراهيم، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه (¬1). وجه الاستدلال: أن هذا لم ينو إلا الحدث الأصغر، فكيف يرتفع الحدث الأكبر، وإذا كان هذا ممنوعاً في طهارة الماء، وهي الأصل، فكيف يكون مسموحاً به في طهارة التيمم، وهي الفرع، أي البدل. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: ذكر الرازي من الحنفية أنه لا بد من نية التمييز، وهو أن ينوي الحدث أو الجنابة؛ لأن التيمم لهما يقع على صفة واحدة، فلا بد من التمييز بالنية (¬1). وهذا القول هو الراجح، نظراً لقوة أدلته، والله أعلم. ¬
الفرع الثالث: في نية ما يتيمم له من صلاة ونحوها
الفرع الثالث: في نية ما يتيمم له من صلاة ونحوها المسألة الأولى: لو نوى بالتيمم الصلاة وأطلق فقيل: يصلي به النافلة والفريضة، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، واختيار إمام الحرمين والغزالي من الشافعية (¬2)، ووجه في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: لا يصلي به إلا النافلة، وهو الصحيح من مذهب الشافعية (¬4)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬5). ¬
تعليل الحنفية الشافعية
تعليل الحنفية الشافعية: تعليل الحنفية يختلف عن تعليل الشافعية، أما الحنفية فيرون أن التيمم يرفع الحدث، فإذا ارتفع الحدث كان له أن يصلي ما شاء من الفرائض والنوافل، وهذا هو التعليل الصحيح لفروع هذه المسائل. وأما تعليل إمام الحرمين والغزالي من الشافعية، فقالوا: إن الصلاة اسم جنس، فيشمل الفرض والنفل، فيكون حكمه حكم ما لو نوى بتيممه الفريضة والنافلة معاً. تعليل الحنابلة: لما كان التيمم لا يرفع الحدث، وإنما يستباح به الصلاة، فلا يستباح به الفرض حتى ينويه؛ ولهذا كان التعيين شرطاً في الفرض، ولما لم يوجد أبيح له التنفل؛ لأنه أقل ما يحمل عليه الإطلاق بخلاف الوضوء فإنه يرفع الحدث فاستباح به الجميع. والجواب عن هذا قد ذكرته في المسألة المتقدمة، وأن القول بأن التيمم لا يرفع الحدث قول ضعيف، وما بني على الضعيف فهو ضعيف.
المسألة الثانية: لو نوى أن يصلي نفلا فهل يصلي به فريضة
المسألة الثانية: لو نوى أن يصلي نفلاً فهل يصلي به فريضة إذا نوى بتيممه نافلة، فهل له أن يصلي بهذا التيمم فريضة، اختلف أهل العلم في هذا، فقيل: يصلي به ما شاء من الفرائض والنوافل حتى يجد الماء أو يحدث، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: لا يجوز أن تصلى الفريضة بتيمم النافلة، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: لا تصلى النافلة بالتيمم أصلاً، وإنما يتيمم للمكتوبة (¬5). دليل من قال: يصلي ما شاء من الفرائض والنوافل: الدليل الأول: (1419 - 51) ما رواه البخاري من طريق هشيم، قال: أخبرنا سيار، قال: حدثنا يزيد - هو ابن صهيب الفقير - قال: أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً ¬
الدليل الثاني
وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ... " الحديث، ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (¬1). فإذا تيمم الرجل فهو على طهارته ما لم يجد الماء أو يحدث، ومن طلب منه إعادة التيمم فعليه الدليل من كتاب الله أو من سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يوجد دليل يطلب لمن كان متطهراً إعادة الطهور. الدليل الثاني: (1420 - 52) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (¬2). [حديث حسن] (¬3). فإذا كان التيمم يقوم مقام الوضوء، فإنه يأخذ حكمه، فإذا كان للمتوضئ أن يصلي بوضوئه ما شاء من الفرائض والنوافل، فكذلك الحكم في التيمم، له أن يصلي به ما شاء من الفرائض والنوافل. دليل من قال: إذا تيمم للنافلة لا يصلي بها الفريضة: هذه المسألة وأمثالها بنوها على مسألة سابقة، وهي هل التيمم يرفع ¬
دليل من قال: لا يتيمم لنافلة
الحدث، أو يعتبر يبيح للمتيمم فعل المأمور؟ فحين ذهبوا إلى الاعتقاد بأن التيمم لا يرفع الحدث، لم يجعلوا حكمه حكم الوضوء، وبنوا على هذه المسألة من الشروط والأحكام ما كنا في غنية عنه لو تبنوا القول الراجح، وهو أن التيمم يرفع الحدث إلى وجود الماء، فمن ذلك اشترطوا في التيمم نية ما يتيمم له من صلاة أو طواف، ونية ما يتيمم عنه من حدث أصغر أو أكبر، فلو تيمم، ونوى نفلاً لم يدخل الفرض؛ لأن الفرض أعلى من النفل، ولو نوى استباحة الصلاة وأطلق، فلم يعين فرضاً ولا نفلاً لم يصل به فرضاً (¬1)، وبعضهم ذهب إلى أنه لا يصلي فرضين بتيمم واحد كما سيأتي بيانه، وهكذا كل هذه الفروع بنيت على أصل ضعيف، وهو أن التيمم لا يرفع الحدث، وقد بينت فيما سبق من السنة أن التيمم يرفع الحدث إلى حين وجود الماء، وهو يقوم مقام الماء في كل شيء، فأغنى عن إعادته هنا. دليل من قال: لا يتيمم لنافلة. قال: إن التيمم لا يرفع الحدث، فلا يتيمم إلا للمكتوبة؛ لأنه محدث أجيزت له الفريضة للضرورة، فلا نتعداها. وهذا يعكر عليه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تيمم لرد السلام، والطهارة لرد السلام مستحب، وليس بواجب. (1421 - 53) فقد روى البخاري من طريق الأعرج، قال: سمعت عميراً مولى ابن عباس قال: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، ¬
فقال أبو الجهيم الأنصاري: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم (¬1). فالقول الراجح: هو مذهب الحنفية، وأن التيمم يقوم مقام الماء فيرفع الحدث بشرطه، وهو عدم الماء، أو العجز عن استعماله، والله أعلم. ¬
المسألة الثالثة: لو تيمم للفريضة، فهل له أن يصلي به نافلة
المسألة الثالثة: لو تيمم للفريضة، فهل له أن يصلي به نافلة اختلف أهل العلم فيما لو تيمم للفريضة، فهل له أن يصلي به نافلة، فقيل: له أن يصلي به نافلة مطلقاً، سواء تقدمت النافلة على الفريضة، أو العكس، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، ومذهب الشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: له أن يصلي به نافلة بشرط ألا تتقدم النافلة على الفريضة، وأن تكون النافلة موصولة بالفريضة، وهذا مذهب المالكية (¬4)، وقول في مذهب الشافعية (¬5). وجه قول الجمهور: أما الحنفية فتعليلهم هو ما سبق أن التيمم يرفع الحدث، فإذا ارتفع الحدث فله أن يصلي ما شاء من الفرائض والنوافل، وهذا هو التعليل الصحيح لهذه المسألة. وأما تعليل الشافعية، فقالوا: إن كل طهارة جاز له أن يتنفل بها بعد الفريضة، جاز له قبلها كالوضوء " (¬6). ¬
تعليل المالكية
وهذا التعليل جيد، لكن لا يطردونه، فلا يجيزون له فعل الفريضة لو تيمم بنية النافلة، فيقال لهم: لما لا تقولون: كل طهارة جاز أن يصلي بها نافلة، فيجوز أن يصلي بها فريضة كالوضوء، ولا فرق. وأما تعليل الحنابلة، قالوا: إذا نوى استباحة الأعلى الذي هو الفرض جاز له استباحة الأدنى: الذي هو النفل، فنية الفريضة أعلى من نية النافلة، دون العكس. فيقال لهم القاعدة المشهورة: الصلاة جنس واحد، ما صح في النفل صح في الفرض، وكذلك العكس، فكل ما يبطل النافلة يبطل الفريضة، وكل شيء يبطل الفريضة يبطل النافلة إلا بدليل صحيح من السنة كاستقبال القبلة ونحوها، فما لم يأت دليل على أن هذا خاص بالنفل دون الفرض فالأصل فيه استواء الحكم، ولذلك لما ذكر الصحابي رضي الله عنه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يسبح على الراحلة قبل أي وجه توجه ويوتر عليها، قال: غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة (¬1)، فلولا هذا الاستثناء لانسحب الحكم حتى على الفريضة، فنحتاج إلى دليل من السنة على أن من تيمم للنفل لا يصلي به الفرض، ولا يوجد دليل، فلذلك فالقول الراجح أن الحدث إذا ارتفع يصلي به ما شاء من الفرائض والنوافل، سواء نوى ارتفاع الحدث، أو نوى صلاة مطلقة أو نوى نفلاً أو فرضاً. تعليل المالكية: التعليل الأول: قال في مواهب الجليل: " الأصل أن لا يصلي صلاتين بتيمم واحد نافلة ولا فريضة، وأن لا يجوز التيمم للصلاة عند عدم الماء إلا عند القيام إليها، ¬
فأجيز أن يصلي بتيمم واحد ما اتصل من النوافل، والنافلة إذا اتصلت بالفريضة استحساناً ومراعاة للخلاف لكونها لاتصالها بها كالصلاة الواحدة، فإذا طال ما بينهما سقطت مراعاة للخلاف، ورجعت المسألة إلى حكم الأصل في وجوب إعادة التيمم" (¬1). اهـ ويجاب: الظاهر من هذا التعليل أنهم بنوه على أصل ضعيف، وهو أنه لا يصلي صلاتين بتيمم واحد، وهذا لا دليل عليه، وأنه اغتفر ذلك في النافلة بشرط أن تكون بعد الفريضة، وبشرط أن تكون متصلة بها بدون فاصل، وحملهم على ذلك أن النافلة يتسامح فيها ما لا يتسامح في الفرض، ومراعاة للخلاف، وأنها إذا اتصلت كان حكمها حكم الصلاة الواحدة، وكل ذلك لا دليل عليه من السنة، وإنما هو قائم على نظر غير صحيح، وأن التيمم لا يرفع الحدث، ولو كانت النافلة إذا اتصلت بالفريضة كان حكمهما حكم الصلاة الواحدة، فلماذا لا تقولون هذا في الفريضة، وأنه يجوز أن يصلي فرضين بتيمم واحد بشرط اتصالها حتى يكونا كالصلاة الواحدة، ولو كان الحامل على ذلك مراعاة الخلاف، فإن الخلاف قائم حتى في صلاة فريضتين بتيمم واحد، فلماذا لم تقولوا بجواز ذلك مراعاة للخلاف، مع أن مراعاة الخلاف ليس من أدلة الشرع مطلقاً، لا المتفق عليها، ولا المختلف فيها، ولكن دائماً تجد القول الضعيف لا يَطَّرد، ويحمل تناقضه معه، بخلاف القول الصحيح، والله أعلم. ¬
التعليل الثاني للمالكية
التعليل الثاني للمالكية: ذكر بعضهم تعليلاً آخر، وهو أن مالكاً إنما قال: تصلى النافلة بتيمم الفريضة، ولا تصلى الفريضة بتيمم النافلة، مع أن الكل صلاة؛ لأن الأصول مبنية على أن النوافل تبع للفرائض؛ لأن الفرائض أصول، فلما كان الأصل كذلك جاز أن تصلى النافلة بتيمم الفريضة؛ لأنها تبع لها، ولم يجز أن تصلى الفريضة بتيمم النافلة؛ لأن ذلك خلاف الأصول؛ إذ تصير الفريضة حينئذ تبعاً للنافلة. ويجاب: لو كان هذا الأصل صحيحاً لاطرد هذا الأصل في طهارة الماء، وكنا نمنع من صلاة الفريضة بعد النافلة حتى في الوضوء من أجل أن لا تكون الفريضة تبعاً للنافلة، فلما لم يراع مثل هذا في طهارة الماء لم يراع مثل ذلك في طهارة التيمم، والتيمم إنما هو بدل عن الوضوء، والبدل له حكم المبدل.
المسألة الرابعة: إذا تيمم للفريضة، فهل يصلي به أكثر من فريضة؟
المسألة الرابعة: إذا تيمم للفريضة، فهل يصلي به أكثر من فريضة؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة، فقيل: إذا تيمم للفريضة فله أن يصلي به ما شاء من الفروض والنوافل، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: لا يصلي به إلا فريضة واحدة، وهذا مذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، إلا أن المالكية في أحدى القولين عنهم استثنوا الصلوات الفائتة إذا صلاها متصلة بعضها ببعض (¬5). ¬
دليل من قال: يصلي بتيممه ما شاء من الفرائض والنوافل
دليل من قال: يصلي بتيممه ما شاء من الفرائض والنوافل: الدليل الأول: (1422 - 54) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (¬1). فقوله: " الصعيد وضوء المسلم " أي يقوم مقام الوضوء، فإذا كان من توضأ له أن يصلي ما شاء من الفرائض والنوافل، فكذلك التيمم، فمن تيمم فقد ارتفع حدثه بالتيمم، فجاز له أن يصلي به ما شاء من الفرائض والنوافل حتى يحدث أو يجد الماء، فما دام أنه لم يأت ما يبطل تيممه، ولم يشرع له تجديد التيمم، فيبقى على طهارته، هذا وجه استدلال الحنفية من الحديث القائلين بأن التيمم يرفع الحدث. وأما وجه استدلال الحنابلة القائلين بأن التيمم لا يرفع الحدث، وإنما هو مبيح، يرون أن التيمم إذا استباح به فعل الفريضة استباح به ما كان من جنسها، ولا فرق بين فريضة وأخرى، وأما إذا استباح به نافلة، فلا يستبيح به ما هو أعلى منها كالفريضة، فإذا تيمم للفريضة صلى به ما شاء من الفرائض والنوافل حتى يخرج وقت الصلاة، أو يجد الماء، أو يحدث، فليس الفراغ من الفريضة حدثاً يبطل التيمم حتى نوجب للفريضة الأخرى تيمماً آخر، والله أعلم. ¬
دليل من قال: لا يصلي به أكثر من فريضة واحدة
دليل من قال: لا يصلي به أكثر من فريضة واحدة: الدليل الأول: (1423 - 55) ما رواه ابن المنذر من طريق الأزهر بن مروان، ثنا عبد الوارث، عن عامر الأحول، عن نافع، عن ابن عمر، قال: يتيمم لكل صلاة (¬1). [إسناده حسن إن سلم من خطأ عامر الأحول] (¬2). ¬
وعلى فرض صحته، فإنه مخالف لما ثبت عن ابن عباس، فإذا اختلف الصحابة كان الاتباع لأقرب القولين إلى الشرع، وقول ابن عباس موافق للقياس الصحيح. (1424 - 56) فقد روى ابن المنذر من طريق إسرائيل، عن أبي عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: يجزئ المتيمم أن يصلي الصلوات بتيمم واحد (¬1). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1425 - 57) ما رواه عبد الرزاق، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: من السنة أن لا يصلي الرجل بالتيمم إلا صلاة واحدة (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). الدليل الثالث: (1426 - 58) ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة أن عمرو بن العاص قال: نحدث لكل صلاة تيمماً (¬3). [ضعيف] (¬4). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (1427 - 59) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، قال: يتيمم لكل صلاة (¬1). [إسناده ضعيف، وفيه أكثر من علة] (¬2). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: الأصل أن الطهارة تجب لكل صلاة، بظاهر قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ..} (¬1)، ولكن السنة خصت من ذلك الطهارة بالماء، حيث صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة صلوات بوضوء واحد، فبقي التيمم على أصله، إذ لم يرد فيه من التخصيص ما ورد في الوضوء. وأجيب: بأن قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} (¬2). إن كان يدل على استحباب الوضوء لكل صلاة لفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا يدل على استحباب التيمم لكل صلاة، فضلاً أن يجب التيمم لكل صلاة، وذلك أن تجديد الوضوء قد وردت به السنة، ولم يرد في التيمم استحباب تجديده لكل صلاة، فكان الأولى أن يقال: إن السنة خصت التيمم، فلا يشرع التيمم لكل صلاة، والقول بأنه لولا ما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح لكان الوضوء واجباً لكل صلاة ليس بصواب، لما روى البخاري من حديث أنس، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ عند كل صلاة، قلت: كيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث (¬3). فهذا الحديث ظاهره أن الوضوء لكل صلاة من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - خاصة، ¬
الراجح من الخلاف
وأن الصحابة لم يكن يصنعون ما يصنع عليه الصلاة والسلام، وأن هذا لم يتلق بعد فتح مكة، وإنما كان هذا شأن الصحابة رضي الله عنهم. وإن كان في الآية تقدير كما ذكر بعض أهل العلم، وأن معنى الآية، كما قال زيد بن أسلم رحمه الله: إذا قمتم إلى الصلاة: أي: من النوم .. فعلى هذا التقدير لا يكون فيه مستمسك لمن أوجب التيمم لكل صلاة، والله أعلم. الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأدلة نجد أن القول بأن المتيمم له أن يصلي ما شاء من الفرائض والنوافل أقوى من حيث الاستدلال، وذلك لأن القول بأنه ليس له أن يصلي إلا فريضة واحدة، وله أن يصلي ما شاء من النوافل خلاف القياس، فإن كان له أن يجمع من النوافل ما شاء، فله أن يصلي من الفرائض ما شاء، إذ ليس بين طهارته للمكتوبة وطهارته للنافلة فرق في شيء من الأحكام، وغير جائز أن نقول: إذا صليت النافلة فأنت متطهر، وإذا صليت المكتوبة فأنت غير متطهر، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن من تطهر بموجب الكتاب والسنة فهو على طهارته، ولا ينقضها إلا كتاب أو سنة أو إجماع، أو قول صاحب لا مخالف له، ولا يوجد في هذه المسألة شيء من هذه الأمور، والعجب في مذهب المالكية رحمهم الله تعالى كيف يصلي الرجل مجموعة من الفرائض بتيمم واحد إذا كانت مقضية، ولا يصليها إذا كانت أداء، فهل هذا إلا دليل على أن هذا القول بني على الرأي المحض، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً، والله أعلم.
المسألة الخامسة: لو تيمم للنافلة فهل له أن يصلي به نوافل أخرى
المسألة الخامسة: لو تيمم للنافلة فهل له أن يصلي به نوافل أخرى لو تيمم الرجل ينوي بتيممه فعل نافلة من النوافل، فهل له أن يصلي بهذا التيمم نوافل أخرى، اختلف الفقهاء في ذلك، فقيل: له أن يصلي ما شاء من النوافل، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: له أن يصلي نوافل أخرى بشرط أن تكون متصلة، فإن كان بينها فاصل طويل عرفاً أعاد تيممه، وهذا مذهب المالكية (¬4). وهذه المسألة وإن كانت متفرعة عن المسائل السابقة، من كون التيمم يرفع الحدث، أو لا يرفعه، وإنما يبيح فعل الصلاة، ومع ذلك فقد خفف الجمهور في مسألة النوافل، فأجازوا فيها صلاة أكثر من نافلة بتيمم واحد، ولم يجيزوا ذلك في الفرض، وهذا راجع إلى أن النوافل مبنية على التيسير، فهذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي حيث توجهت به راحلته. ¬
المبحث الرابع: لو تيمم يريد به تعليم الغير
المبحث الرابع: لو تيمم يريد به تعليم الغير لو تيمم الرجل يريد تعليم الغير، فهل له أن يصلي بهذا التيمم؟ اختلف في ذلك. فقيل: يصلي به، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة (¬1). وقيل: لا يصلي به، وهو مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). ¬
قال سفيان: من علم غيره الوضوء أجزأه، ومن علمه التيمم لم يجزه (¬1). والخلاف في هذا قائم على حكم النية في التيمم، فمن يرى أن النية ليست شرطاً في صحة التيمم رأى أن تيممه لتعليم الغير يمكن له أن يصلي به، ومن رأى أن النية شرط في صحة التيمم، اشترط أن يكون مع نية التعليم نية التيمم للصلاة، ونحوها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن القاعدة: أن من نوى ما لا يصح إلا بطهارة كالصلاة صح تيممه، ومن نوى شيئاً لا يشترط فيه الطهارة كالتعليم لم يصح تيممه؛ لأن نية التعليم لا تتضمن نية الطهارة؛ لأنها ليست شرطاً فيها، والله أعلم، ومن نوى التعليم والصلاة صح تيممه، لأن التعليم عبادة مقصودة، وكذا الصلاة، وقد صلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، وقال: إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي. متفق عليه (¬2). فإذا كانت نية التعليم لم تقدح في صحة الصلاة، فكذلك إذا نوى التيمم للصلاة، ونوى التعليم لم يقدح في صحة التيمم، والله أعلم. ¬
الشرط الثاني: من شروط التيمم الإسلام
الشرط الثاني: من شروط التيمم الإسلام سبق لنا في الكلام على شروط الوضوء أن قدمنا خلاف العلماء في وضوء الكافر، وهل يصح وضوؤه أو لا يصح، وأن مذهب الجمهور على أن الإسلام شرط في صحة الوضوء، وخالف في ذلك الحنفية رحمه الله، فقالوا بصحة وضوء الكافر، وقد تم مناقشة الأدلة هناك، فأغنى عن إعادته هنا، وفي هذا البحث نتناول الخلاف في التيمم، وهل يصح التيمم من الكافر، أو يشترط أن يكون المتيمم مسلماً، في ذلك خلاف بين أهل العلم، فقيل: الطهارة كلها من وضوء أو تيمم، بل وكل العبادات لا يصح فعلها من الكافر، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: يصح الوضوء من الكافر ولا يصح منه التيمم، وبه قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن (¬2). وقال أبو يوسف: إذا تيمم بنية الإسلام أو الطهر فهو صحيح، وإذا أسلم فله أن يصلي به، وإن تيمم بنية الصلاة لم يصح (¬3). أما الخلاف في صحة الوضوء فقد سبق تحريره في كتاب الوضوء، وأما ¬
سبب الخلاف في التيمم فيرجع إلى الكلام على اشتراط النية فيه، فمن ذهب إلى وجوب النية في التيمم اشترط أن يكون المتيمم مسلماً؛ لأن الكافر ليس من أهل النية، فكل عمل يفتقر إلى نية لا يصح فعله من الكافر؛ لأن النية تصير الفعل منتهضاً مسبباً للثواب، ولذلك لما كان أبو حنيفة رحمه الله يرى صحة الوضوء بلا نية صحح الوضوء من الكافر، ولم يصحح تيممه لاشتراطه النية عنده في التيمم، وأما الجمهور الذين يذهبون إلى أن النية شرط في الوضوء والتيمم والغسل يذهبون إلى أن الإسلام شرط في صحة هذه الأفعال، فلا يصح فعلها من الكافر، وهو الصحيح. وسبب تفريق أبي يوسف بأنه إن نوى الكافر بتيممه الإسلام صح، فإذا أسلم بعد صلى بتيممه، وإن نوى به الصلاة لم يصح؛ لأن الكافر من أهل نية الإسلام، والإسلام رأس العبادة، فيصح تيممه بخلاف ما إذا تيمم للصلاة، فإنه ليس من أهل الصلاة، فلا يصح تيممه بهذه النية. والراجح قول الجمهور، وهل تجب على الكافر الطهارة من وضوء وتيمم وغسل، فيه خلاف، وهذه المسألة ترجع إلى مسألة أصولية، وهي هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟ وقد حررت فيها الخلاف في كتاب الوضوء، في الكلام على شروط الوضوء، فارجع إليها غير مأمور.
الشرط الثالث: التكليف
الشرط الثالث: التكليف والمكلف: هو البالغ العاقل، فلا يجب ولا يصح تيمم المجنون، وأما المميز: فيصح منه التيمم، ولا يجب عليه (¬1). وتعريف التمييز: هو الذي يفهم الخطاب ويرد الجواب، ولا ينضبط بسن، بل يختلف باختلاف الناس (¬2). وقيل: هو من يصل إلى حالة بحيث يأكل وحده، ويشرب وحده، ويستنجي وحده، ولا يتقيد بسبع سنين (¬3). وهذا التعريف هو ما يدل عليه اشتقاق كلمة مميز. وقيل: هو من استكمل سبع سنين (¬4). وأما كون التيمم لا يصح من مجنون، وغير مميز؛ فلأن من شرط الوضوء النية على الصحيح، وهما ليس لهما نية صحيحة. ¬
وأما كونه لا يجب عليهما؛ فلأن من شرط الوجوب التكليف، وهما غير مكلفين. وقد أجمع أهل العلم على أن الطفل غير المميز لا يصح منه التيمم، قال ابن تيمية: الأقوال في الشرع لا تعتبر إلا من عاقل يعلم ما يقول، ويقصده، فأما المجنون والطفل الذي لا يميز فأقواله كلها لغو في الشرع، لا يصح منه إيمان ولا كفر، ولا عقد من العقود، ولا شيء من الأقوال باتفاق المسلمين (¬1). والكلام في هذا الشرط كالكلام فيه في باب الوضوء، فقد سبق لي أن ذكرت الأدلة على أن الوضوء لا يصح من غير المميز والمجنون، وأن البلوغ شرط لوجوب الوضوء، والتمييز شرط لصحته، والكلام في الباب هنا كالكلام في الباب هناك فارجع إليه غير مأمور إن أردت الوقوف على مزيد أدلة هذا الشرط، والله الموفق. ¬
الشرط الرابع: انقطاع ما يوجب الحدث إلا في المعذور
الشرط الرابع: انقطاع ما يوجب الحدث إلا في المعذور إذا أراد التيمم لا بد أن ينقطع ما يوجب الحدث، وذلك كالحيض والنفاس، والبول والغائط، لأن خروج مثل هذه ينقض الطهارة، ويوجب الحدث، إلا في المعذور كالمستحاضة ومن به سلس بول ونحوهما فإنه يجوز له أن يتيمم، ولو لم ينقطع حدثه، بل إن خروج دم الاستحاضة، ومن به سلس بول، لا يعتبر حدثاً ناقضاً للوضوء أصلاً، وإنما يستحب منه الوضوء ومثله التيمم، ولا يجب، وهذا مذهب المالكية (¬1). وقد بحثت هذه المسألة بشيء من الاستفاضة في كتابي الحيض والنفاس فأغنى عن إعادته هنا (¬2). ¬
الشرط الخامس: طلب الماء قبل التيمم
الشرط الخامس: طلب الماء قبل التيمم سبق لنا أنه لا يصح التيمم إلا مع قيام العذر: وهو عدم الماء، أو العجز عن استعماله. وهل يجب عليه قبل التيمم طلب الماء، حتى يتحقق أن الماء معدوم، أو لا يجب عليه الطلب؟ اختلف في ذلك أهل العلم، فقيل: إذا لم يرجُ وجود الماء، ولم يخبره مخبر، فليس عليه الطلب، ويجزيه التيمم، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وراوية عن أحمد (¬2). وقيل: يجب عليه الطلب، فإن تيمم قبل الطلب لم يجزه، وهو مذهب الجمهور (¬3). دليل الجمهور على وجوب طلب الماء: الدليل الأول: استدلوا بقوله تعالى {فلم تجدوا ماء} فهذا دليل على وجوب طلب الماء؛ لأنه لا يصدق عليه أنه لم يجد الماء إلا بعد الطلب. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: من جهة القياس، فإن التيمم بدل عن طهارة الماء، ولا يصح فعل البدل إلا بالعجز عن المبدل، ولا يتحقق العجز إلا بعد البحث والطلب. دليل الحنفية على أن طلب الماء إذا لم يكن معه ماء غير واجب: استدلوا بقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء}، فمن لم يكن معه ماء فهو غير واجد للماء، فإن قيل: لا يكون غير واجد إلا بعد الطلب، قيل: هذا خطأ؛ لأن الوجود لا يقتضي طلباً، قال تعالى: {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين} (¬1)، ومعناه: ليس في ملكه، ولا له قيمتها، لا أنه أوجب عليه أن يطلبها. وقال تعالى: {فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا قالوا نعم} (¬2)، فأطلق اسم الوجود على ما لم يطلبوه. وقال تعالى: {ووجدك عائلاً فأغنى} (¬3). ويقال: وجد فلان لقطة، وإن لم يطلب وجودها. فإذا كان الوجود قد يكون من غير طلب، فمن ليس بحضرته ماء، ولا هو عالم به، فهو غير واجد، وإذا تناوله إطلاق اللفظ لم يجزئنا أن نزيد عليه فيه فرض الطلب؛ لأن فيه إلحاق الزيادة بحكم الآية، وذلك غير جائز (¬4). ¬
الراجح من الخلاف
الراجح من الخلاف: بعد استعراض القولين وأدلتهما، يمكننا القول بأن من تحقق عدم الماء فإنه يتيمم من غير طلب؛ لأن طلب الماء حينئذ سيكون نوعاً من العبث، وأما من كان لا يتحقق عدم الماء، فإنه يلزمه طلب الماء؛ لأن الوضوء واجب إجماعاً، فيجب طلب الماء للقيام به؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ومن شرط صحة التيمم عدم وجود الماء، ويبطل إذا وجد الماء، فكيف يصح تيممه، والاحتمال قائم بأن الماء قد يكون موجوداً حوله. ويمكن لنا أن نقسم حال الإنسان إلى أقسام: الأول: أن يعلم أن الماء غير موجود، كما لو كان في مفازة من الرمال، ولا يوجد بها أثر من حياة، فهذا يتيمم، وليس عليه الطلب. والله أعلم. الثاني: أن يغلب على ظنه بناء على أمارات معينة، فيعمل بغلبة الظن، سواء غلب على ظنه عدم الماء، فلا يلزمه الطلب، أو غلب على ظنه وجود الماء، فيجب عليه الطلب حينئذ. الثالث: أن يشك في وجود الماء، فيجب عليه الطلب حتى يصل إلى اليقين أو إلى غلبة الظن، فيعمل بموجبها. الرابع: أن يتوهم الأمر، فيجب عليه الطلب، سواء كان الوهم في وجود الماء أو عدمه.
الفرع الأول: في تقدير المسافة التي تبيح التيمم ويسقط فيها طلب الماء
الفرع الأول: في تقدير المسافة التي تبيح التيمم ويسقط فيها طلب الماء من خلال الفصل السابق تم مناقشة، هل يجب عليه طلب الماء قبل التيمم، وفي هذا الفصل سوف نناقش الحدود التي إذا بعد الماء فيها عن صاحبه، شرع له التيمم. اختلف في ذلك أهل العلم، فقيل: يتيمم إذا كان الماء يبعد ميلاً فأكثر، فإن كان أقل من ميل لم يجز التيمم، وهو قول محمد بن الحسن من الحنفية، ورجحه الكاساني في بدائع الصنائع (¬1). وقيل: إن كان الماء أمامه يعتبر ميلين، وإن كان يمنة أو يسرة يعتبر ميلاً واحداً، وهو اختيار الحسن بن زياد من الحنفية (¬2). وقيل: إن كان الماء بحيث لو ذهب إليه لا تنقطع عنه جلبة العير، ويحس أصواتهم وأصوات الدواب، فهو قريب، وإن كان يغيب عنه ذلك فهو بعيد، وهو اختيار أبي يوسف من الحنفية (¬3). ¬
وقيل: لا يحد فيه حداً، وإنما إذا شق عليه أو على أصحابه إن انتظروه، أو خاف فوات الرفقة تيمم. وهذا القول رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة (¬1)، والمشهور في مذهب المالكية (¬2). وقيل يطلب الماء في رحله، وما قرب منه عرفاً، بحيث ينظر أمامه، وخلفه، ويمينه، وشماله إن كان الذي حواليه لا يستتر عنه، وهذا مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ولم يرد دليل في الشرع على تقدير مسافة معينة، وكل ما لم يحد شرعاً فإن مرجعه إلى العرف، والحكمة من مشروعية التيمم هو رفع الحرج كما نصت عليه آية التيمم، فالطلب الذي يلحق صاحبه مشقة وعنت فهو مرفوع، ¬
وإذا خاف فوت الرفقة لم يجب عليه طلب الماء، حتى ولو لم يكن يتضرر بفوتهم، فيكفي أن يفقد الإنس والألفة معهم، ومن قدره بالميل كالحنفية فتقديره لم يكن عن توقيف من الشارع، وإنما نظروا إلى المشقة التي تلحق الرجل في عصرهم، وأما في عصرنا فقد يكون الحال مختلفاً، فالسيارة ليست كالراحلة، والراكب ليس كالماشي، ومذهب الشافعية والحنابلة أرى أنه أيسر على المكلف ما دام أن الأمر ليس فيه توقيف، فينظر في مكانه، وما قرب منه، ولا يلزمه أن يشد رحله في طلب الماء، ويكفي أن يسأل أهل الخبرة بالمكان الذي هو فيه إن أمكن، فإذا لم يقف على الماء تيمم، ولا حرج، (1428 - 60) فقد روى ابن المنذر من طريق صفوان بن صالح، حدثنا الوليد بن مسلم، قال: سألت الأوزاعي، قلت: حضرت الصلاة، والماء حائز على الطريق، أيجب أن أعدل إليه؟ قال: حدثني موسى بن يسار، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يكون في السفر، والماء على غلوتين ونحو ذلك، فلا يعدل إليه (¬1). [إسناده حسن] (¬2). ¬
(1429 - 61) وأما ما رواه الدارقطني من طريق محمد بن سنان القزاز، نا عمرو بن محمد بن أبي رزين، حدثنا هشام بن حسان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتيمم بموضع يقال له مربد النعم، وهو يرى بيوت المدينة (¬1). [إسناده ضعيف، والمحفوظ وقفه على ابن عمر] (¬2). ¬
والموقوف كاف في الاحتجاج، لأن الصحابي أعلم من غيره متى يشرع له التيمم، ومتى لا يشرع. (1430 - 62) فقد روى مالك، عن نافع، أنه أقبل هو وعبد الله بن عمر من الجرف حتى إذا كانا بالمربد نزل ¬
عبد الله، فتيمم صعيداً طيباً، فمسح وجهه ويديه إلى المرفقين، ثم صلى (¬1). وإسناده في غاية الصحة. (1431 - 63) ورواه ابن المنذر من طريق أيوب، عن نافع به، بلفظ: عن ابن عمر أنه أقبل من أرضه بالجرف، حتى إذا كان مربد النعم، حضرت صلاة العصر، فتيمم، وإنه لينظر إلى بيوت المدينة (¬2). وهو أصح شيء ورد في الباب حسب علمي، والله أعلم. وقول محمد بن مسلمة من المالكية: " إنما تيمم عبد الله بالمربد، وهو بطرف المدينة؛ ولم ينتظر الماء؛ لأنه خاف فوات الوقت " (¬3)، فيشكل عليه ¬
أن نافعاً قال: دخل المدينة، والشمس مرتفعة. وأجاب الباجي في المنتقى على هذا الإشكال، فقال: يحتمل وجهين: أحدهما: أن يريد بقوله: والشمس مرتفعة: أي أنها مرتفعة عن الأفق، لم تغب بعد، إلا أن الصفرة قد دخلتها، فخاف فوات وقت الصلاة المختار. الوجه الثاني: أن يكون عبد الله قد رأى أنه لا يدخل المدينة حتى يخرج الوقت، فتيمم على هذا الاجتهاد، وصلى، ثم تبين له أنه كان في فسحة من الوقت، فلم يعد " (¬1). قلت: هذا كله تأويل للأثر، ومن قبيل الحدس، ولا أظن أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه لا يدري أنه يدخل المدينة قبل خروج الوقت، خاصة وأنه ينظر إلى بيوت المدينة حين تيمم. (1432 - 64) أما ما رواه الطبراني من طريق المهيمن بن عباس، عن أبيه، عن جده، أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يأتون العالية، فيدركون المغرب عند مربد النعم، فيتيممون (¬2). [فإسناده ضعيف] (¬3). ¬
الفرع الثاني: لو تيمم ناسيا وجود الماء
الفرع الثاني: لو تيمم ناسياً وجود الماء إذا تيمم ناسياً وجود الماء، وبعد الصلاة تبين له أن الماء كان معه، فهل يلزمه إعادة الصلاة، أو يصح تيممه؟ فقيل: لا تلزمه الإعادة، وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن (¬1)، ومالك في إحدى الروايتين عنه (¬2)، ورواه أبو ثور عن الإمام الشافعي (¬3)، واختاره ابن حزم رحمه الله (¬4)، وابن العربي من المالكية (¬5). وقيل: لا يصح تيممه، وهو اختيار أبي يوسف من الحنفية (¬6)، وإحدى الروايتين عن مالك (¬7)، والصحيح من مذهب الشافعية (¬8)، والمنصوص عن ¬
دليل من قال: لا تلزمه الإعادة، وتيممه صحيح
الإمام أحمد رحمه الله (¬1). دليل من قال: لا تلزمه الإعادة، وتيممه صحيح: النسيان: عذر شرعي يلحق الإنسان، ومعه يكون عاجزاً عن استعمال الماء، والشرع اعتبر العذر مبيحاً للتيمم، ولو كان الماء موجوداً، كما لو جاء الإنسان إلى بئر، ولم يكن معه دلو يستقي به، فإن هذا عذر له يبيح التيمم، وإن كان الماء موجوداً، فالنسيان عجز شرعي لا يمكن معه استعمال الماء، فصح تيممه كالعجز الحسي. الدليل الثاني: إذا جهل وجود الماء، وخشي خروج الوقت صار مطالباً شرعاً بالتيمم، وأن يؤدي الصلاة في وقتها، فلو ترك التيمم حتى خرج الوقت صار آثماً لتفريطه، وإذا كان التكليف في حقه أن يتيمم ويصلي، كان فعله التيمم بمقتضى الشرع، فكيف نطالبه بالإعادة، وقد امتثل الأمر. دليل من قال: تلزمه الإعادة. الدليل الأول: أن القواعد الشرعية تدل على أن النسيان والجهل يعذر بهما المرء في حق الله تعالى في باب المنهيات، دون المأمورات، والأصل فيه حديث معاوية بن الحكم لما تكلم في الصلاة ولم يؤمر بالإعادة لجهله (¬2)، وصلاته - صلى الله عليه وسلم - في نعليه، ¬
وبهما آذى حتى أخبره جبريل بذلك، وهو في الصلاة، فنزعهما، وبنى على صلاته (¬1)، بخلاف فعل المأمور فإنه حين رأى رجلاً في قدمه لمعة لم يصبها الماء، قال: ارجع فأحسن وضوءك (¬2). والفرق بين المأمورات والمنهيات من حيث المعنى: أن المقصود من المأمورات إقامة مصالحها، وذلك لا يحصل إلا بفعلها، والمنهيات مزجور عنها بسبب مفاسدها، امتحاناً للمكلف بالانكفاف عنها، وذلك إنما يكون بالتعمد لارتكابها، ومع النسيان والجهل لم يقصد المكلف ارتكاب المنهي، فعذر ¬
الدليل الثاني
بالجهل فيه، وهذا ينطبق على من نسي الماء، وهو في رحله، وصلى بالتيمم، فإنه يطالب بفعله؛ لأنه من باب المأمورات، أرأيت لو أن الرجل نسي الطهارة، وصلى بدونها، لزمته إعادة الصلاة، فكذلك نسيان الماء، فإنه بمنزلة نسيان الطهارة الواجبة عليه. وهذا من أقوى أدلتهم (¬1). ويجاب: النزاع: هل يعتبر من نسي الماء، عاجزاً شرعاً عن استعماله، أو ليس بعاجز؟ فإن اعتبرناه عاجزاً عن استعمال الماء لم يكن تاركاً للمأمور، لأنه حينئذ لم يكن مأموراً بما عجز عنه شرعاً، وكان المأمور به في هذه الحال هو التيمم، وإن اعتبرناه في حالة النسيان ليس بعاجز شرعاً، صدق عليه أنه ترك ما هو مأمور فيه، فلا يعذر بالجهل والنسيان، ونحن نذهب إلى أن من نسي وجود الماء، وطلب الماء، وأمعن في طلبه، فلم يجده، أنه عاجز عن استعماله حالة نسيانه، وتيممه وصلاته إنما وقع في هذه الحالة، أعني حالة العجز، فلا يكون قد ترك المأمور، وفرق بين ترك الوضوء إلى غير بدل، وبين ترك الوضوء إلى بدل آخر، والله أعلم. الدليل الثاني: أن التيمم إنما يصح بشرطين: عدم الماء، أو عدم القدرة على استعماله، وهذا واجد للماء، وقادر على استعماله، إلا أنه جاهل بالوجود والقدرة، والجهل عذر في رفع الإثم، لا في إسقاط الواجب المأمور به، كما قلنا: في صلاته، ناسياً الحدث، فإنه يجب عليه أن يتطهر ويصلي، فكذلك هنا. ¬
الدليل الثالث
ويجاب عن هذا. إذا عجز الإنسان عن استعمال الماء صح تيممه كالمريض، وهذا الناسي غير قادر على استعمال الماء، فإمكان وقوع التيمم يقف على القدرة، والقدرة إنما تتصور مع العلم بمكان المقدور عليه، فإذا لم يعلم اختل شرط القدرة، وإذا لم يقدر صار عاجزاً، وإذا عجز أبيح له التيمم، وإذا أبيح له ذلك لم يلزم بالإعادة، ويفارق من حاله هذا حال من صلى بدون طهارة؛ لأن من صلى بدون طهارة لم يأت بالمأمور أصلاً، بينما هذا كان المأمور في حقه التيمم بدليل أنه لو ترك التيمم حتى خرج وقت الصلاة أثم لتفريطه، فإذا كان التيمم هو الطهارة في حقه، فكيف يقاس من نسي الطهارة بالكلية على من قام بها. الدليل الثالث: أن الله سبحانه وتعالى قال: {فلم تجدوا ماء} فاشترط عدم وجود الماء، ولم يشترط عدم العلم بوجود الماء، وبينهما فرق. الراجح: القولان فيهما قوة، وكل قول له وجه، والنفس تميل إلى القول بصحة تيممه، إلا أن ذلك ينبغي أن يكون مشروطاً بأن يكون الرجل قد قام بما يعتقد أنه يلزمه من البحث عن الماء حوله حتى غلب على ظنه عدم وجود الماء، فإن لم يقم بطلب الماء حوله، فإنه يكون بذلك قد قصر في القيام بما يجب عليه، ويكون القول بالإعادة في هذه الحالة فيه قوة واحتياط، والله أعلم.
الشرط السادس: في اشتراط دخول الوقت
الشرط السادس: في اشتراط دخول الوقت العبادات نوعان: عبادة مؤقتة بوقت، وذلك مثل الفرائض الخمس، والسنن الرواتب، والوتر ونحوها، وعبادة غير مؤقتة بوقت كالنفل المطلق. وقد اختلف العلماء هل يتشرط لصحة التيمم دخول وقت العبادة المؤقتة، أو يصح تيممه ولو تيمم قبل دخول وقتها، فقيل: لا يشترط، وهو مذهب أبي حنيفة (¬1)، واختاره ابن شعبان من المالكية (¬2)، وابن حزم (¬3)، ورجحه ابن تيمية (¬4). وقيل: يشترط دخول وقتها، وهو مذهب المالكية (¬5)، والشافعية (¬6)، والحنابلة (¬7). ¬
دليل من قال: لا يتيمم قبل دخول وقت العبادة
وسبب الخلاف اختلافهم في طهارة التيمم، هل هي طهارة ضرورة، والحدث فيها لا يرتفع، وإنما يستباح بها فعل المأمور، أو أنها طهارة بدل، تأخذ حكم المبدل من كل وجه إلى حين وجود الماء، فمن رأى أنه طهارة ضرورة، قال: لا يجوز التيمم إلا بعد دخول وقت الصلاة، ومن رأى أنها تقوم مقام الماء عند عدمه أو عند العجز عن استعماله، قال: بجواز أن يتيمم قبل الوقت، وأن يصلي بتيممه هذا فروضاً ونوافل إلى حين وجود الماء أو قيام حدث ناقض لهذه الطهارة. دليل من قال: لا يتيمم قبل دخول وقت العبادة: الدليل الأول: قالوا: من القرآن قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} إلى قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬1). وجه الاستدلال: أن القائم إلى الصلاة أمر بالوضوء، فإن لم يجده تيمم، وهذا يقتضي أن لا يفعله إلا بعد قيامه إليها، وعدم الماء، والوضوء إنما جاز قبل الوقت؛ لوجود دليل خاص على جواز وقوعه قبل الوقت، فبقي التيمم على المنع، ولكون الوضوء رافعاً للحدث، بخلاف التيمم، فإنه طهارة ضرورة كطهارة المستحاضة (¬2). ويجاب عن هذا: إذا كنا أمرنا بالوضوء عند القيام إلى الصلاة، ولم يمنع ذلك من جواز تقدم الوضوء على الوقت، لم يمنع هذا أيضاً من صحة التيمم قبل الوقت، ¬
وهذا مقتضى القياس الصحيح. ولا يمكن لكم أن تخرجوا من هذا القياس الصحيح بقولكم إن الوضوء يرفع الحدث بخلاف التيمم؛ لأننا لا نسلم أن التيمم ليس رافعاً للحدث، وقد تم مناقشة هذه المسألة في مسألة مستقلة، وتبين لنا بدليل الكتاب والسنة أن التيمم جعله الله مطهراً لهذه الأمة كما في قوله تعالى: {ولكن يريد ليطهركم} وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" (¬1). وقوله أيضاً: الصعيد الطيب طهور المسلم (¬2)، وهذه الأحاديث صحيحة، سبق تخريجها في أول البحث، وكلها نص في موضع النزاع، وأن التيمم طهور المسلم، والطهور: هو ما يطهر غيره، ولو كان المراد طاهراً لم يكن فيه خصوصية، فإن التراب طاهر لنا ولغيرنا من الأمم، وإنما اختصت هذه الأمة بكون التيمم مطهر. كما أن القياس على طهارة المستحاضة، وأن طهارتها يشترط لها دخول الوقت، فهذه مسألة فيها نزاع أيضاً، ولا يوجد حديث صحيح يأمر المستحاضة بأنها لا تتوضأ إلا بعد دخول الوقت، ولا بأمرها بالوضوء لكل صلاة، وإنما صح هذا من قول عروة رضي الله عنه موقوفاً عليه، فالمستحاضة ومن به سلس بول إذا توضأ فهو على طهارته، يصلي به ما شاء من الفروض والنوافل، خرج الوقت أو لم يخرج، والحدث الدائم لا يؤثر في طهارته شيئاً؛ لأنه مغلوب عليه، فوجوده كعدمه، وهذا مذهب المالكية، وسبق بحث هذه المسألة في باب نواقض الوضوء، وإذا بطل المقيس عليه بطل المقيس. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1433 - 65) روى البخاري من طريق هشيم، قال: أخبرنا سيار، قال: حدثنا يزيد - هو ابن صهيب الفقير - قال: أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ... "الحديث (¬1). وجه الاستدلال: قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث " أدركته الصلاة " أي أدركه وقت الصلاة، فهذا دليل على أن التيمم لا يكون إلا بعد دخول وقت الصلاة. ويجاب: أن الحديث إنما هو عن وجوب التيمم على العبد لوجوب الصلاة، فلا يجب التيمم على العبد إلا إذا أدركته الصلاة: أي وجب عليه فعلها، فالحديث في معنى الآية الكريمة {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} (¬2)، فإذا كانت هذه الآية لا تمنع من الوضوء قبل دخول وقت الصلاة، لم يمنع الحديث من التيمم قبل دخول الوقت. دليل من قال: يجوز التيمم قبل دخول الوقت. الدليل الأول: لا يوجد نص من كتاب الله ولا من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمنع من التيمم قبل الوقت، ومن ادعى ذلك فعليه الدليل الصحيح الخالي من النزاع. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: القياس الصحيح: أن التيمم بمنزلة الطهارة حتى يجد الماء، وإذا كان التيمم بدل عن الوضوء، فالبدل له حكم المبدل، فكما أن الوضوء يجوز قبل دخول الوقت فكذلك بدله الذي هو التيمم. الدليل الثالث: الصلاة في أول الوقت فضيلة في الجملة، قال تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أفضل الأعمال الصلاة على وقتها " متفق عليه أي على أول وقتها. ولا يمكن أن تقع الصلاة في أول الوقت إلا بتقديم الطهارة على دخول الوقت، والطهارة شيئان: الماء عند وجوده، والتراب عند عدم الماء، فاقتضى ذلك جواز تقديم التيمم على الوقت (¬2). الدليل الرابع: حديث أبي ذر، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (¬3). [حديث حسن] ¬
الراجح من الخلاف
ولم يفرق بين كونه قبل الوقت أو بعده، وإنما علق جوازه بعدم الماء، لا بالوقت، وهذا معنى قوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬1)، فأمر بالتيمم بعد الحدث إذا عدم الماء، ولم يفرق بين حاله قبل الوقت أو بعده. الراجح من الخلاف: بعد استعراض أدلة الأقوال نجد أن القول بجواز التيمم قبل الوقت هو القول الصحيح لقوة أدلته، وضعف أدلة الجمهور، والله أعلم. ¬
الشرط السابع: في ذكر الشروط التي تتعلق بالأرض المتيمم عليها
الشرط السابع: في ذكر الشروط التي تتعلق بالأرض المتيمم عليها الفرع الأول: في التيمم بغير التراب. قال ابن المنذر: " أجمع أهل العلم أن التيمم بالتراب ذي الغبار جائز إلا من شذ منهم " (¬1). وقال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن التيمم بالتراب جائز، واختلفوا فيما عداه من الأرض (¬2). وقال ابن رشد: " حصل الإجماع على إجازة التيمم على التراب، والاختلاف فيما سواه مما هو مشاكل للأرض " (¬3). واختلفوا بالتيمم بغير تراب مما هو من جنس الأرض، فقيل: التيمم جائز بكل ما صعد على الأرض من جنسها، من تراب، أوجص، أو نورة، أو رمل، أو غير ذلك، وهذا مذهب الحنفية (¬4)، والمالكية (¬5). ¬
وقيل: لا يجوز التيمم إلا بتراب طهور له غبار، وهذا مذهب الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2)، واختيار أبي يوسف من الحنفية (¬3). وقيل: يجوز التيمم بكل ما هو على وجه الأرض حتى الحشيش النابت على وجه الأرض والثلج إذا عم الأرض وحالا بينك وبينها، وهو قول في مذهب مالك (¬4). وقيل: لا يجوز التيمم إلا بالتراب أو بالرمل دون الحجارة ونحوها، وهو قول لأبي يوسف من الحنفية (¬5). وسبب الخلاف اختلافهم في تفسير قوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} (¬6)، ما هو الصعيد، وفي تفسيرها قولان: أحدهما: أن الصعيد يطلق على التراب الخالص. (1434 - 66) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، ¬
عن ابن عباس، قال: أطيب الصعيد الحرث، وأرض الحرث (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). وليس فيه دليل على أن الصعيد يطلق على التراب، لأن قوله " أطيب الصعيد " اسم تفضيل، فهو يدل على أن غير أرض الحرث يسمى صعيداً، لكن أرض الحرث أطيب الصعيد. وقال الشافعي: لا يقع اسم صعيد إلا على تراب ذي غبار (¬3). وقال الأزهري: " مذهب أكثر العلماء أن الصعيد في قوله سبحانه وتعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} (¬4)، أنه التراب الطاهر الذي على وجه الأرض، أو خرج من باطنها" (¬5). واستدل بعضهم بقوله " طيباً " فالأرض الطيبة: هي القابلة للإنبات، ففيها إشارة إلى اعتبار التراب، بدليل قوله تعالى: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً} (¬6). ولا يتعين الطيب بوصف الإنبات فقط، وليس لاعتبار الإنبات معنى يعود إلى التيمم، وإنما المقصود بالطيب هنا الطاهر الذي هو ضد النجس، قال ¬
محمد بن مسلمة: يريد أن يكون طاهراً، ولم يرد كرم الأرض ولا لؤمها (¬1). فالطيب: ضده الخبيث، ولا نعرف خبيثاً يمكن أن يوصف به الصعيد إلا أن يكون نجساً. والقول الثاني: الصعيد هو وجه الأرض. قال في المصباح المنير: الصعيد وجه الأرض تراباً كان أو غيره، قال الزجاج: ولا أعلم اختلافاً بين أهل اللغة في ذلك (¬2). وقال الباجي: " الصعيد وجه الأرض تراباً كان أو رملاً أو حجراً، قاله ابن الأعرابي وأبو إسحاق، والزجاج، قال أبو إسحاق: لا أعلم فيه خلافاً بين أهل اللغة " (¬3). فهذان إمامان من أهل اللغة يحكيان الإجماع على أن الصعيد هو وجه الأرض، وينفيان وقوع اختلاف بين أهل اللغة في ذلك. قلت: ويدل عليه قوله تعالى: {فتصبح صعيداً زلقاً} (¬4). وقال سبحانه وتعالى: {صعيداً جرزاً} (¬5). والجرز: هي الأرض التي لا نبات عليها ولا زرع ولا غرس (¬6). ¬
دليل من قال: يتيمم بكل ما هو من جنس الأرض
وقال ابن كثير: صعيداً جرزاً: أي لا ينبت ولا ينتفع به (¬1). وقال في المصباح المنير أيضاً: الصعيد في كلام العرب يطلق على وجوه: على التراب الذي على وجه الأرض، وعلى وجه الأرض، وعلى الطريق، وتجمع هذه على صعد بضمتين وصعدات، مثل طريق وطرق وطرقات. فالخلاصة: أن الصعيد على هذا التفسير الأخير اسم مشترك يطلق على التراب، وعلى وجه الأرض، فمن استدل بالآية على أنها دليل على أنه لا يجوز التيمم إلا على التراب فقط فقد أخطأ؛ والذين يجوزون التيمم بكل ما هو على وجه الأرض لا يمنعون من التيمم بالتراب، وإنما ينكرون أن في الآية دليلاً على اختصاص التيمم بالتراب فقط. فإذا عرفنا منشأ الخلاف فهذا أوان ذكر أدلة كل قول. دليل من قال: يتيمم بكل ما هو من جنس الأرض: الدليل الأول: قوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} (¬2). وجه الاستدلال: قد قدمنا كلام أهل اللغة في معنى الصعيد، وأنه لفظ مشترك يطلق على التراب، وعلى وجه الأرض، ويجب استعمال المشترك في معنييه إلا أن يمنع من ذلك مانع، ولا مانع هنا. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1435 - 67) ما رواه البخاري من طريق هشيم، قال: أخبرنا سيار، قال: حدثنا يزيد - هو ابن صهيب الفقير - قال: أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ... "الحديث، والحديث رواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: فكل موضع جازت الصلاة فيه من الأرض جاز التيمم به. الدليل الثالث: أنه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك مر برمال كثيرة، ولم يكن يحمل معه التراب، ولم ينقل أنه كان يصلي بدون تيمم. الدليل الرابع: لو كان التيمم يختص بالتراب لجاءت النصوص صريحة واضحة بالنهي عن التيمم بالرمال والحجارة ونحوها؛ لأن الأمر يتعلق بالطهارة، والطهارة تتعلق بالركن الثاني للإسلام وهو الصلاة، فلما لم يأت نصوص تنهى عن التيمم بغير التراب، علم أن الأرض كلها يجوز التيمم عليها، والله أعلم. ¬
دليل من قال: التيمم خاص بالتراب ذي الغبار
دليل من قال: التيمم خاص بالتراب ذي الغبار: أما الدليل على اشتراط التراب، فاستدلوا بما يلي. الدليل الأول: استدلوا بقوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} (¬1)، قالوا: الصعيد: هو التراب. وسبق الجواب عن ذلك، بأن الصعيد كما يطلق على التراب يطلق على وجه الأرض، فهو لفظ مشترك، فمن قصر الصعيد على التراب فقد قصر اللفظ المشترك على أحد معنييه بدون قرينة تقضي تخصيص إحدى المعنيين. الدليل الثاني: (1436 - 68) استدلوا بما رواه مسلم في صحيحه من طريق أبي مالك الأشجعي، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء، وذكر خصلة أخرى. وجه الاستدلال: أن الحديث جعل الأرض كلها مسجداً، وخص الطهورية بالتربة، وأخرج ذلك في مقام الامتنان وبيان الاختصاص فلولا أن الطهورية لا تعم جميع أجزاء الأرض لكان ذكر التربة لا معنى له، بل كان زيادة في اللفظ، ونقصاً في المعنى، وهذا لا يليق بمن أوتي جوامع الكلم (¬2). ¬
وهذا أقوى دليل لمن اشترط التراب، وأجيب عنه بأجوبة منها: الأول: أن حديث جابر: " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " منطوقه يدل على أن جميع الأرض طهور. وحديث حذيفة منطوقه يدل على أن التراب طهور، فمنطوقه موافق لمنطوق حديث جابر. ومفهوم حديث حذيفة: أن غير التراب ليس مطهراً، وإذا تعارض في غير التراب دلالة المفهوم الذي يقتضي عدم طهوريته، ودلالة المنطوق الذي يقتضي طهوريته، فالمنطوق مقدم على المفهوم، لأن دلالة المفهوم دلالة ضعيفة، بخلاف المنطوق، ولا يمكن أن نخصص أو نقيد بالمفهوم (¬1). الجواب الثاني: إذا ذكر عموم أو مطلق بحكم، ثم ذكر فرد من أفراده بحكم يوافق حكم العام أو المطلق، فإن هذا الفرد لا يعتبر مخصصاً ولا مقيداً للعموم. مثال ذلك: إذا قلنا: أكرم طلبة العلم، فهذا لفظ يفيد عموم الطلبة، ثم قلنا: أكرم زيداً، وكان زيد من طلبة العلم، فإنه لا يفهم منه تخصيص الإكرام لزيد وحده. فحديث جابر: " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " مطلق يشمل جميع الأرض. وحديث " وجعلت تربتها لنا طهوراً " التراب فرد من أفراد الأرض، ذكر بحكم يوافق حكم الأرض بكونها طهوراً، فلم يقتض ذلك تقييداً ولا تخصيصاً. ¬
الدليل الثالث
قال ابن المنذر في الأوسط للتدليل على هذه القاعدة: ونظير ذلك قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات} الآية (¬1)، فأمر بالمحافظة على الصلوات، والصلوات داخلة في جملة قوله: {حافظوا على الصلوات} (¬2)، ثم خص الوسطى بالأمر بالمحافظة عليها، فقال: {والصلاة الوسطى} (¬3)، فلم تكن خصوصية الوسطى بالأمر بالمحافظة عليها مخرجاً سائر الصلوات من الأمر العام الذي أمر بالمحافظة على الصلوات " اهـ (¬4). فكأن ابن المنذر يقول مفهوم {والصلاة الوسطى} (¬5) الآية، لم يؤخذ ويعارض به منطوق حافظوا على الصلوات. الدليل الثالث: (1437 - 69) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا المثنى بن الصباح، أخبرني عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله إني أكون في الرمل أربعة أشهر، أو خمسة أشهر، فيكون فينا النفساء والحائض والجنب، فما ترى؟ قال: عليك بالتراب (¬6). [إسناده ضعيف] (¬7). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل على اشتراط الغبار
وأما الدليل على اشتراط الغبار: فلقوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيدكم منه} (¬1). وجه الاستدلال: أن لفظة " منه " دالة على التبعيض، ولا يتحقق ذلك إلا بغبار يعلق باليد، ويمسح به الوجه واليدان. وأجيب: أولاً: أن كلمة " منه " في الآية ليست دالة على التبعيض، وإنما هي لابتداء الغاية، كما في قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام} (¬2). ثانياً: أن آية التيمم في سورة النساء ليس فيها كلمة (منه) قال تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (¬3). ثالثاً: في حديث عمار رضي الله عنه الذي رواه البخاري وفيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح وجهه وكفيه " (¬4). والنفخ قد يزيل أثر التراب والغبار. ¬
دليل من خص التيمم بالتراب والرمل
رابعاً: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يسافر في الأرض الرملية، ولم ينقل عنه ترك التيمم لعدم وجود الغبار، كل ذلك دليل على أن اشتراط الغبار قول ضعيف، والله أعلم. دليل من خص التيمم بالتراب والرمل: لعل صاحب هذا القول حمله على إدخال الرمل خاصة مع التراب، كونه رأى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما سافر هو وأصحابه في غزوة تبوك، قطعوا تلك الرمال في طريقهم، وكان ماؤهم في غاية القلة، ولم يرو عنه أنه حمل التراب معه، ولا أمر بحمله، ولا فعله أحد من أصحابه مع القطع بأن في المفاوز الرمال أكثر من التراب، فجعل الرمل ملحقاً بالتراب، والله أعلم.
الفرع الثاني: في طهارة ما يتيمم به
الفرع الثاني: في طهارة ما يتيمم به ذهب أكثر أهل العلم إلى اشتراط طهارة ما يتيمم به، فلا يصح التيمم على الأرض النجسة (¬1). وفي مذهب المالكية قولان فيمن تيمم على أرض نجسة: أحدهما: يعيد ما دام في الوقت. والثاني: يعيد أبداً (¬2). ¬
دليل من اشترط الطهارة
وعلى القول بأنه يعيد ما دام في الوقت فإن الإعادة ليست واجبة؛ لأن الذمة لو كانت مشغولة في وجوب الإعادة لم يكن هناك فرق بين الوقت وبين خارج الوقت، وقد قال بعضهم عن أصحاب مالك: إن كل موضع يقول فيه مالك: إنه يعيد في الوقت هو استحباب ليس بإيجاب (¬1). وقد أثبت جماعة من أهل العلم الخلاف في التيمم بالتراب النجس، وأنه ليس من مسائل الإجماع، منهم ابن حزم (¬2)، وابن المنذر (¬3)، وسائر من نقلنا عنه من كتب المالكية ممن حرر الخلاف. دليل من اشترط الطهارة: قوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} (¬4)، والطيب ضد النجس (¬5). قال ابن قدامة: الطيب: الطاهر (¬6). (1438 - 70) ولما رواه ابن الجارود في المنتقى من طريق حماد، عن ثابت وحميد، ¬
دليل من قال: يعيد ما دام في الوقت
عن أنس رضي الله عنه، قال: جعلت لي كل أرض طيبة مسجداً وطهوراً " (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). دليل من قال: يعيد ما دام في الوقت: لقد ذكر ابن عبد البر: أن هذا الحكم إنما هو في أرض أصابتها نجاسة، ولم يظهر لها أثر في الأرض، وأما الأرض التي تُرَى فيها النجاسة، فإنه يعيد أبداً (¬3)، فإذا كان ذلك كذلك، فهل الأرض بذلك تكون نجسة، ولا بد من غسلها بالماء، أو يحكم بطهارتها ما دامت لم تظهر فيها النجاسة، الخلاف في هذه المسألة كالخلاف في الماء القليل الذي وقعت فيه نجاسة فلم يظهر لها لون أو طعم أو رائحة، وفيه قولان لأهل العلم، فمنهم من يرى نجاسته، ومنهم من يرى أنه طاهر حتى يتأثر بالنجاسة، وقد حررت ذلك في كتاب المياه، وذكرت أدلة كل قول، ورجحت أن الماء لا يحكم له بالنجاسة حتى تكون ¬
النجاسة غالبة على الماء، وذلك بأن يظهر لها أثر في الماء من طعم أو لون أو رائحة، فإذا لم يظهر لها شيء من ذلك، واستهلكت في الماء، فإن الماء طهور، والحكم لا يختلف عنه في الأرض، فإن لم يكن للنجاسة وجود محسوس لم تكن الأرض نجسة، ولكن ما هو الدليل على استحباب الإعادة بالوقت، ذكروا وجوهاً للاستحباب منها: أن التيمم لا يجب فيه إيصال التراب إلى البشرة، إذ لو تيمم على الحجر الصلد أجزأه، وإنما الواجب قصد الأرض وضربها باليد، والمرتفع من التراب النجس إلى الأعضاء لم يحصل به خلل في طهارة الحدث، وإنما هو حامل لنجاسة لم يتعمدها، فيعيد في الوقت على قاعدة إزالة النجاسة. أو لأن الغبار ينتقل مع الريح الجارية على هذا المكان، والتيمم إنما يقع على أعلى المنتقل الطاهر (¬1). أو لأن الأمام طلب الإعادة بالوقت مراعاة للقائل من الأئمة بطهارة الأرض بالجفاف كمحمد بن الحنفية والحسن البصري (¬2). قلت: هذه مسألة أخرى سوف أتعرض لها في المسألة التالية لهذه. أو لأن الحكم عائد إلى حكم الصلاة بالثوب النجس، فإن في مذهب المالكية قولاً باستحباب التخلي عن النجاسة في الصلاة، وأن الطهارة من الخبث ليس شرطاً ولا واجباً من واجبات الصلاة، وأن من صلى في الثوب النجس يعيد ما دام في الوقت، ولا يعيد إذا خرج الوقت، فهذا مثله. وقد ناقشت أدلة هذه المسألة ولله الحمد في كتاب أحكام النجاسات، فانظرها مشكوراً. ¬
الراجح من الخلاف
الراجح من الخلاف: التيمم على النجاسة يختلف عن التيمم على التراب النجس، فالتميم على النجاسة لا يجوز، وأما على التراب المتنجس، فإن كانت الأرض لم تظهر عليها النجاسة، فإن الأرض طيبة، يجوز التيمم والصلاة عليها، وإن كانت النجاسة ترى على الأرض فإنه لا يتيمم عليها، ولكن أن يجعل ذلك شرطاً في صحة التيمم نحتاج إلى نص شرعي ينفي صحة التيمم، ولا يكفي كون الشيء واجباً أن يكون شرطاً، فإن الشرطية أخص من الوجوب، ولا بد في إثبات الشرطية أن نستند إلى نص ينفي صحة التيمم على الأرض النجسة، كما عبر عن الشرطية في الطهارة بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " (¬1). ¬
الفرع الثالث: في التيمم على الأرض التي أصابتها نجاسة ثم جفت
الفرع الثالث: في التيمم على الأرض التي أصابتها نجاسة ثم جفت إذا أصابت الأرض نجاسة، ثم جفت، وذهب أثرها، فهل يتيمم بها؟ اختلف العلماء في هذا بناء على اختلافهم في طهارة الأرض المتنجسة بالجفاف، وهل يتعين الماء لإزالة النجاسة، أو تزال بأي مزيل، ومنه الجفاف؟ فقيل: يتيمم بها، وهو قول في مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يصلي عليها، ولا يتيمم بها، وهو أحد القولين في مذهب الحنفية (¬2). وقيل: لا يتيمم بها، وهو مذهب الجمهور. (¬3). دليل الحنفية في التفريق بين الصلاة والتيمم: قالوا: لا يصح التيمم بها، وإن صحت الصلاة عليها؛ لأن الأرض التي ¬
دليل من قال: يتيمم بها
أصابتها نجاسة ثم جفت أصبحت طاهرة، غير مطهرة، وطهارتها كافية في الصلاة عليها، وأما التيمم فلا بد من طهورية الأرض، وبناء على هذا القول فهم يقسمون التراب إلى طهور وطاهر ونجس. وقد أجبنا على ضعف قول من ذهب إلى هذا التقسيم في المسألة السابقة. دليل من قال: يتيمم بها: ذهب إلى أن الطهارة تزال بأي مزيل، ولا يتعين ذهابها بالماء، فإذا ذهبت عين النجاسة فقد ذهب حكمها. دليل من قال: لا يتيمم بها: ذكرنا أدلتهم في مسألة سابقة، وسنذكرها في مسألة لاحقة، أما المسألة السابقة فقد ذكرنا أدلتهم في مسألة خلاف العلماء في وجوب تعيين الماء لإزالة النجاسة، فالجمهور يذهبون إلى أن النجاسة لا تذهب حتى تزال بالماء فإذا لم تغسل بالماء فما زال حكم النجاسة باقياً، ولو ذهبت عين النجاسة. وسنكمل أدلتهم في مسألة لاحقة ولله الحمد، وهي مسألة: هل الطهارة بالجفاف مطهر للنجاسات، أو لا؟ في كتاب أحكام النجاسات من هذه السلسلة، فانظره في الموضعين غير مأمور.
الفرع الرابع: في التيمم بالتراب المستعمل في طهارة واجبة
الفرع الرابع: في التيمم بالتراب المستعمل في طهارة واجبة واختلفوا في التيمم بالتراب المستعمل في طهارة واجبة. فقيل: يجوز التيمم به، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وأحد القولين في مذهب الشافعية (¬3)، ووجه في مذهب الحنابلة (¬4)، واختيار ابن حزم (¬5). وقيل: لا يجوز التيمم به، وهو أصح القولين في مذهب الشافعية (¬6)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬7). دليل من قال: يجوز التيمم بالتراب المستعمل: الدليل الأول: لا يوجد دليل على تقسيم التراب إلى طهور وطاهر ونجس، بل التراب كالماء قسمان: إما طهور، وإما نجس. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: كل الأدلة التي سيقت في الاستدلال على جواز الوضوء بالماء المستعمل في طهارة واجبة تصح دليلاً على صحة التيمم بالتراب المستعمل في طهارة واجبة، وقد سبق ذكرها في كتاب المياه. الدليل الثالث: قال - صلى الله عليه وسلم -: " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " (¬1)، والاستدلال في الحديث من وجهين: الأول: أن الحديث قد نص على أن الأرض قد جعلها الله طهوراً، خرج من ذلك الأرض النجسة بالدليل الشرعي، بقوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} (¬2)، وبقي ما عداه على الطهورية. الوجه الثاني: أن كلمة " طهور " على وزن فعول، وهذا الصيغة تدل على التكرار، فدلت بالإشارة إلى جواز التيمم بالتراب المستعمل (¬3). الدليل الرابع: أن التيمم لا يمكن أن ينفك عن استعمال التراب المستعمل، خاصة إذا قلنا: إن التيمم ضربة واحدة كما هو الصحيح من أقوال أهل العلم، وسوف نعرض لها إن شاء لله تعالى في مبحث مستقل، فإذا مسح المتيمم وجهه، ثم عاد ومسح يديه بنفس الضربة، فقد مسحهما بالتراب المستعمل في مسح ¬
الدليل الخامس
الوجه، وهذا دليل على جواز استعمال التراب المستعمل في طهارة واجبة. الدليل الخامس: ذكر بعضهم: أن التيمم لا يرفع الحدث، فلا يصير التراب مستعملاً بخلاف الماء. والصحيح أن التيمم يرفع الحدث رفعاً مؤقتاً، ولا نحتاج إلى هذا الدليل في التفريق بين الماء المستعمل في طهارة واجبة، وبين التراب المستعمل في طهارة واجبة، بل الكل طهور. دليل من قال: لا يجوز التيمم بالتراب المستعمل: إذا كان الماء المستعمل في طهارة واجبة لا يرفع الحدث، فكذلك التراب المستعمل في طهارة واجبة. وقد بينا ضعف هذا القياس، وأن الصحيح أن الماء المستعمل في طهارة واجبة ماء طهور، وإذا كان الأصل ضعيفاً، فما بني على القول الضعيف فهو ضعيف. الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأدلة نجد أن القول الذي يقسم التراب أو الماء إلى طهور وطاهر قول ضعيف، وأن الصحيح أن التراب إما طهور، وإما نجس، ولا فرق بين الماء والتراب، وعلى التنزل بأن الماء المستعمل في طهارة واجبة ليس ماء مطلقاً، فهل التراب المستعمل أيضاً لا يقال له تراب مطلق، فالتيمم بالتراب لا يخرجه عن كونه تراباً، وهو باق على صفته التي خلقه الله عليها، فكيف يمنع من التيمم به، ونقول له: إذا لم يجد غيره صل بدون تيمم.
الفرع الخامس: في التيمم بالتراب المغصوب
الفرع الخامس: في التيمم بالتراب المغصوب اختلف العلماء في التيمم بالتراب المغصوب، فقيل: يصح التيمم به، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: لا يصح، وهو مذهب الحنابلة (¬2). والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في الوضوء بالماء المغصوب، قال ابن مفلح: " وتراب مغصوب كالماء " (¬3).فالأدلة في المسألتين واحدة، وقد سبق بحث خلاف العلماء في الوضوء بالماء المغصوب، مع ذكر أدلة كل قول، وبينت أن الراجح صحة الوضوء، وأن التحريم والصحة منفكان، غير متلازمين، فقد يكون الشيء حراماً صحيحاً، وقد يكون الشيء حراماً فاسداً، باعتبارات تعود إلى المنهي عنه، فتارة يكون النهي عائداً إلى ذات الشيء المنهي عنه، وتارة يكون النهي لا يعود إليه، وإنما يعود لأمر خارج، فانظر أدلة كل فريق في كتاب أحكام الطهارة: (المياه والآنية). ¬
الباب الرابع: فيما يتيمم عنه
الباب الرابع: فيما يتيمم عنه الفصل الأول: في التيمم عن الحدث أما التيمم عن الحدث الأصغر فإنه إجماع بين أهل العلم، قال النووي: " يجوز التيمم عن الحدث الأصغر بالكتاب والسنة والإجماع" (¬1). واختلفوا في التيمم عن الحدث الأكبر، فقيل: يتيمم عنه، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬2). ¬
دليل من قال بمشروعية التيمم عن الجنابة
وقيل: لا يتيمم، وهو مذهب عمر وابن مسعود رضي الله عنهما (¬1). دليل من قال بمشروعية التيمم عن الجنابة: استدلوا من كتاب الله بآية المائدة، سواء من قال: إن قوله تعالى: {أو لا مستم النساء} (¬2)، المقصود به الجماع، أو من قال إن المقصود به الحدث الأصغر وهو مس بدن المرأة. لكن من قال: إن المقصود بقوله تعالى {أو لامستم النساء} الحدث الأصغر كان توجيه للاستدلال بالآية على النحو التالي، قال: إن قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم .. إلى قوله سبحانه: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} ثم قال تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬3)، وهو عائد إلى المحدث والجنب جميعاً. وأما من قال: إن المراد بقوله تعالى {أو لا مستم النساء} هو الجماع، وهو تفسير ابن عباس رضي الله عنهما، وهو الموافق لبلاغة القرآن، فالآية نص في تيمم الجنب، وتوجيه الآية: أن الله سبحانه وتعالى ذكر طهارتين: الماء والتيمم، وذكر في وجوب طهارة الماء سببين: الحدث الأصغر والأكبر، فالأصغر في قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيدكم إلى المرافق ..} والحدث الأكبر بقوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا}. وفي طهارة التيمم كذلك: ذكر حدثين: الأصغر والأكبر، فالأصغر بقوله ¬
تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} والأكبر بقوله تعالى: {أو لامستم النساء} أي جامعتم النساء، ولو حمل على اللمس باليد لكان معنى الآية هذا أن الآية كررت ذكر حدثين أصغرين، وأهملت الحدث الأكبر في طهارة التيمم، وهذا مناف للبلاغة المعهودة من كتاب الله سبحانه وتعالى، فكان مقتضى التقسيم في طهارة الماء من ذكر الحدث الأصغر والأكبر، أن يعاد التقسيم نفسه في طهارة التيمم، لا أن يكرر الحدث الأصغر، ويهمل الحدث الأكبر، وهذه القرينة كافية في حمل اللمس على الجماع في الآية الكريمة، وقد فسرها ابن عباس بالجماع، وهو ترجمان القرآن، (1439 - 71) فقد روى ابن أبي شيبة، من طريق عبد الملك بن ميسرة، عن سعيد بن جبير، قال: اختلفت أنا وأناس من العرب في اللمس، فقلت: أنا وأناس من الموالي: اللمس ما دون الجماع، وقالت العرب: هو الجماع، فأتينا ابن عباس، فقال: غلبت العرب، هو الجماع. [وإسناده صحيح] (¬1). وقد احتج أبو موسى رضي الله عنه بآية المائدة على مشروعية التيمم عن الجنابة، وذلك حين ناظر ابن مسعود، وانقطع ابن مسعود عن الجواب عن الآية، واعتذر بذلك بأنه قال بالمنع سداً للذريعة: (1440 - 72) فقد روى البخاري من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن شقيق قال: كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى الأشعري، فقال له أبو موسى: لو أن رجلا أجنب فلم يجد الماء شهراً أما كان يتيمم ¬
ويصلي؟ فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا}؟ فقال عبد الله: لو رخص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا الصعيد، قلت: وإنما كرهتم هذا لذا، قال: نعم ... الحديث (¬1). وفي رواية للبخاري: " فقال أبو موسى: فدعنا من قول عمار، فكيف تصنع بهذه الآية، فما درى عبد الله ما يقول، فقال: إنا لو رخصنا لهم .... وذكر الكلام السابق (¬2). وجواب ابن مسعود لم يكن مطابقاً للسؤال؛ لأن السؤال عن رجل أجنب فلم يجد الماء شهراً، فهو عادم للماء، فقال: لا يصلي، واعتذر ابن مسعود بأنه لو رخص في هذا لتيمم الرجل الذي يجد الماء إذا برد عليه، وجواب ابن مسعود مشكل من الناحية الشرعية؛ لأن سد الذرائع يجب ألا يؤدي القول بها إلى إسقاط واجب أو ارتكاب محرم، وسوف أعلق عليه عند الكلام على مذهب عمر وابن مسعود رضي الله عنهما. الدليل الثاني: (1441 - 73) ما رواه البخاري من طريق الحكم، عن ذر، عن سعيد ابن عبد الرحمن ابن أبزى، عن أبيه قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فقال: إني أجنبت فلم أصب الماء، فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنا كنا في سفر ¬
أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت، فصليت، فذكرت للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه، ورواه مسلم بنحوه (¬1). الدليل الثالث: (1442 - 74) ما رواه البخاري، قال: أخبرنا عبد الله، قال أخبرنا عوف، عن أبي رجاء، قال: حدثنا عمران بن حصين الخزاعي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا معتزلاً لم يصل في القوم، فقال: يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم؟ فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك (¬2). الدليل الرابع: (1443 - 75) ما رواه أبو داود من طريق خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر، قال: اجتمعت غنيمة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا أبا ذر ابد فيها، فبدوت إلى الربذة، فكانت تصيبني الجنابة، فأمكث الخمس والست، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو ذر: فسكت، فقال: ثكلتك أمك أبا ذر، لأمك الويل، فدعا لي بجارية سوداء، فجاءت بعس فيه ماء، فسترتني بثوب، واستترت بالراحلة، واغتسلت، فكأني ألقيت عني جبلاً، فقال: ¬
دليل عمر وابن مسعود على أن الجنب لا يتيمم
الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك؛ فإن ذلك خير (¬1). [حديث حسن وسبق تخريجه] (¬2). الدليل الخامس: من النظر، فإن التيمم إنما شرع من أجل استدارك مصلحة الوقت، لأن عادم الماء قد يستطيع أن يصلي خارج الوقت بالماء، فشرع لإدراك فضيلة الوقت، وهذا قدر مشترك بين الحدثين الأصغر والأكبر. دليل عمر وابن مسعود على أن الجنب لا يتيمم: الدليل الأول: عدم العلم بالدليل، وهو في حقهما كاف في الاستدلال؛ لأن الأصل في العبادات الحضر حتى يقوم دليل على المشروعية، إلا أن من لم يعلم بالدليل لا يكون قوله حجة على من علم، وقد حفظ غيرهما التيمم عن الجنابة من حديث عمران بن الحصين ومن حديث أبي ذر رضي الله عنه فضلاً عن حديث عمار المتفق على صحته. الدليل الثاني: قوله تعالى: {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (¬3). وجه الاستدلال: ¬
أن الله سبحانه وتعالى نهى الجنب أن يقرب مصلى المسلمين إلا مجتازاً فيه حتى يغتسل، ولم يرخص له بالتيمم. قالوا: وتأويل قوله تعالى: {أولا مستم النساء} قالوا: اللمس قالوا: المقصود به: اللمس باليد دون الفرج ودون الجماع (¬1). وقد تكلمت في أدلة الجمهور على أن الراجح في معنى اللمس: هو الجماع خاصة، ولكن الله يكني بذكره كما قال تعالى: {فالآن باشروهن} (¬2)، وقال: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} (¬3)، وهذا يراد به الجماع. وقد قال ابن عبد البر: " لم يتعلق بقول عمر وعبد الله أحد من فقهاء الأمصار من أهل الراي وحملة الآثار " (¬4). قلت: قد تبعهما على ذلك إبراهيم النخعي من فقهاء التابعين، فيما حكاه ابن المنذر (¬5). وقد حاول بعض أهل العلم أن ينسب إليهما الرجوع عن هذا القول، وعندي أن دعوى الرجوع تحتاج إلى إثباته عنهما بسند صحيح صريح، وكثير من الأقوال الضعيفة التي قال بها بعض الصحابة، كالقول بجواز المتعة، أو القول بجواز مسح القدم بلا خف، أو نفي القول بمشروعية المسح على الخفين ¬
أو القول بجواز ربا الفضل ونحوها تجد من أهل العلم من يحاول أن يثبت أن الصحابي الذي قال بهذا القول بأنه قد رجع، ولا يكون له دليل على هذه الدعوى إلا أنه قد ينبل بالصحابي أن يقول بهذا القول الضعيف فيحمله هذا على دعوى الرجوع، وقد يكون له دليل غير صحيح، أو صحيح ولكنه غير صريح، فمن ذلك مسألتنا هذه، فقد رأى بعض أهل العلم أن عمر وابن مسعود قد رجعا عن قولهما. قال النووي: " التيمم عن الحدث الأكبر جائز، هذا مذهبنا، وبه قال العلماء كافة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلا عمر بن الخطاب وعبد الله ابن مسعود وإبراهيم النخعي التابعي، فإنهم منعوه، قال ابن الصباغ وغيره: قيل إن عمر وعبد الله رجعا " (¬1). فقد ساق الرجوع بصيغة التمريض، وحكاية قيل ليست جزماً برجوعهما. قال ابن عبد البر: " قال قائل: إن في بعض الأحاديث عن عمار، أن عمر لم يقنع بقول عمار، فالجواب: أن عمر كان يذهب إلى أن الجنب لا يجزيه إلا الغسل بالماء، فلما أخبره عمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن التيمم يكفيه سكت عنه، ولم ينهه، فلما لم ينهه علمنا أنه قد وقع في قلبه تصديق عمار؛ لأن عماراً قال له: إن شئت لم أذكره، ولو وقع في قلبه تكذيب عمار لنهاه؛ لما كان الله قد جعل في قلبه تعظيم حرمات الله، ولا شيء أعظم من الصلاة، وغير متوهم على عمر أن يسكت على صلاة تصلى عنده بغير طهارة، وهو الخليفة المسؤول عن العامة، وكان أتقى الناس لربه، وأنصحهم لهم في دينهم في ذلك ¬
الوقت رحمة الله عليه " (¬1). قلت: ليست القسمة أن يقع في قلب عمر تصديق عمار أو تكذيبه، بل هناك قسم ثالث، وهو أن يقع في قلبه خطأ عمار، وقد قال لعمار: نوليك ما توليت (¬2)، يعني: أنت تتحمل مسؤولية هذا البلاغ، وأنا برئ من هذا، فهو في أحسن أحواله لا يذكر شيئاً، ولذلك قال عمر لعمار: اتق الله يا عمار (¬3)، فهذا دليل على أنه لم يقنع بكلام عمار. وقال الباجي: " والذي يظهر لي من قولهما أنهما إنما منعا ذلك للذريعة، وذلك أن أبا وائل روى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لو رخصنا لهم فيها لأوشك إذا برد على أحدهم الماء أن يدعه ويتمم " (¬4). وهذا الكلام يمكن أن يصدق على ابن مسعود وحده، ولا يصدق هذا الكلام على عمر، وذلك لأن عمر قد وعظ عماراً حين ذكر له قصة التيمم، وقال له: اتق الله يا عمار، وأخبره بأنه لا يذكر شيئاً، وأما عن ابن مسعود فهو ثابت عنه، وفيه إشكال كبير، ولا بد من توجيهه، فالعمل في سد الذرائع سائغ بشرط ألا يؤدي ذلك إلى إسقاط واجب، أو ارتكاب محرم، فالجنب إذا منعناه من التيمم كان معنى ذلك إما أن يدع الصلاة إلى أن يجد الماء، أو يصلي بدون طهارة، وكلا الأمرين حرام، ثم لو صح كلام ابن مسعود في الجنب إذا تيمم مع وجود الماء ¬
خوفاً من البرد، لم يصح كلامه في الجنب إذا تيمم لفقد الماء، وعمر وابن مسعود يمنعان الجنب من التيمم مطلقاً مع عدم الماء، ومع وجوده والخوف من استعماله، فلا بد من توجيه كلام ابن مسعود رضي الله عنه، خاصة أنه من كبار فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، فيقال: إن ابن مسعود ذكر سبباً واحداً من الأسباب التي حملته على القول بعدم تيمم الجنب، ولم يذكر كل الأسباب التي حملته على القول بالمنع، ولقد كان ابن مسعود رضي الله عنه شديد المتابعة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فحين رأى أن عمر لم يقنع بكلام عمار كما ذكر ابن مسعود ذلك في مناظرته لأبي موسى، ورأى أنه تعارض عنده كلام عمر وكلام عمار، وعمر أفقه من عمار رضي الله عنه، فاتبع ابن مسعود أفقه الرجلين، ولا بد من القول بذلك؛ لأن الاعتذار الذي ذكره ابن مسعود رضي الله عنه من كونه منع ذلك من باب سد الذرائع لا يجوز القول به، وهو يؤدي إلى ترك الواجبات، والوقوع في المحرمات، وإنما كان ذلك من جملة المرجحات، وليس المرجح الوحيد، والله أعلم. وأعتقد أن مذهب عمر وابن مسعود أصبح مهجوراً في هذا العصر، فليس له أتباع فيما أعلم، والعجب ليس من نسيان عمر رضي الله عنه ما حدث له مع عمار، فإن الإنسان مهما أوتي من حفظ فإنه معرض للنسيان، ولكن العجب كيف خفي على عمر وابن مسعود وأبي موسى الأشعري رضي الله عنه الأحاديث الأخرى في تيمم الجنب، كحديث عمران بن الحصين، وقد كان وقع ذلك في الغزو بشهود عدد كثير من الصحابة، وكيف خفي عليهم حديث أبي ذر رضي الله عنه، فأبو موسى لم يحتج على ابن
مسعود إلا في حديث عمار، وآية المائدة مما يدل على أنه لا يعلم الأحاديث الأخرى، وفي ذلك تسلية لطالب علم الحديث، فإنه قد يحكم لإسناد ما بأنه ضعيف، وهناك طريق أخرى صحيحة لم يقف عليها، وهذا أمر لا يسلم منه أحد، فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الفصل الثاني: في التيمم عن النجاسة
الفصل الثاني: في التيمم عن النجاسة تبين لنا فيما سبق أن التيمم عن الحدث الأصغر محل اتفاق بين العلماء، وأن التيمم عن الجنابة أيضاً هو مذهب الأئمة الأربعة، ولم يخالف في ذلك إلا عمر بن الخطاب وابن مسعود وإبراهيم النخعي، وسوف نبحث في هذه المسألة التيمم عن طهارة الخبث، فإن كانت النجاسة على ثيابه لم يتيمم لها قولاً واحداً (¬1)، وإن كانت النجاسة على بدنه، وليس عنده ما يزيلها، أو تضره إزالتها، فهل يتيمم لها؟ في هذا خلاف بين أهل العلم، فقيل: لا يتيمم عن طهارة الخبث، وهو مذهب الجمهور (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3). ¬
دليل من قال: لا يتيمم عن النجاسة
وقيل: بل يتيمم عنها، وبه قال الحسن البصري (¬1)، وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى (¬2). وقيل: يمسح موضع النجاسة بالتراب، ويصلي، وبه قال الثوري والأوزاعي، وحكاه أبو ثور عن الشافعي (¬3). دليل من قال: لا يتيمم عن النجاسة: الدليل الأول: النص الشرعي ورد في التيمم عن الحدث، ولم يوجد دليل من الكتاب ولا من السنة على صحة التيمم عن النجاسة، والأصل في العبادات الحضر ¬
الدليل الثاني
حتى يقوم دليل على المشروعية. الدليل الثاني: أن طهارة الحدث عبادة تعبدية، فإذا تعذر الماء تعفر بالتراب، وأما الطهارة من النجاسة فهي عبادة معقولة المعنى، وكان المطلوب من استعمال الماء في غسل النجاسة هو إزالتها فمتى زالت النجاسة عن البدن ولو بلا نية طهر المحل، وهذا لا يحصل بالتيمم، فالتيمم لا يزيل النجاسة ولا يخففها، فلهذا لم يشرع. الدليل الثالث: الطهارة من النجاسة إنما تكون في محل النجاسة حيث كانت دون غيره، فلو كان هناك مطهر من ماء ونحوه لم يغسل من البدن إلا ما أصابته النجاسة، وأما التيمم فمحل التطهير في الوجه والكفين، فكيف يكون التراب مطهراً للنجاسة في غير محل التطهير؟. دليل من قال: يصح التيمم عن النجاسة إذا كانت على البدن: أما اشتراط كون النجاسة على البدن، فلحديث أبي ذر: الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته " سبق تخريجه (¬1). فقوله: " فليمسه بشرته " دليل على تعلق التيمم بطهارة بالبدن دون طهارة الثوب والبقعة. ¬
وقوله " طهور المسلم " مطلق، يشمل طهارته عن الحدث، وعن الخبث. ويجاب: بأن الحديث ورد جواباً على سؤال وقع من أبي ذر، وهو أنه تصيبه الجنابة الليالي لا يقدر علىالماء، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "الصعيد الطيب طهور المسلم " أي طهوره من الجنابة، وليس من الخبث. الدليل الثاني: أن المكان النجس هو موضع من البدن يجب تطهيره بالماء مع القدرة عليه، فإذا عجز عن الماء وجب له التيمم بالتراب قياساً على طهارة الحدث. ويجاب: بأن قياس طهارة الخبث على طهارة الحدث قياس مع الفارق، وذلك أن طهارة الحدث تجب لها النية، وطهارة الخبث تصح بدون نية، فلو نزل المطر على ثوب نجس حتى ذهب بعين النجاسة طهر الثوب، ولو لم ينو صاحبه إزالة النجاسة. ومنها أن طهارة الحدث من قبيل فعل المأمور، وأما طهارة الخبث فهي من قبيل ترك المحضور، ولذلك لو صلى بدون طهارة الحدث وجب عليه إعادة الصلاة، بخلاف ما لو صلى ناسياً أن عليه نجاسة، فإن صلاته صحيحة، ولا تجب عليه الإعادة. ومنها أن طهارة الحدث تكون في أعضاء مخصوصة، بينما طهارة الخبث تتبع موضع النجاسة حيث كانت.
الراجح
ومنها أن طهارة الحدث تعبدية، فليست ناشئة عن نجاسة، ولا ينجس المؤمن بالحدث، بخلاف الخبث، فإنه عين مستقذرة شرعاً. فهذه بعض الفروق بين الطهارتين مما يجعل قياس طهارة الحدث على طهارة الخبث قياس مع الفارق، والله أعلم. الراجح: مذهب جماهير أهل العلم، وأن التيمم عن النجاسة غير مشروع، والله أعلم.
الباب الخامس: في فروض التيمم
الباب الخامس: في فروض التيمم الفرض الأول: مسح الوجه واليدين مع الاستيعاب. المبحث الأول: في ضرب اليدين في الأرض ليمسح بهما وجهه ويديه اختلف الفقهاء في كيفية الضرب والمسح، فقيل: يجب للتيمم ضربتان في الأرض، ضربة يمسح بهما وجهه، وضربة يمسح بهما يديه إلى المرفقين، هذا مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب المالكية (¬2)، ¬
والشافعية (¬1). وقيل: التيمم ضربة واحدة، للوجه والكفين، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2)، وأشهر القولين عن الأوزاعي رحمه لله (¬3). وقيل: الضربة الأولى ومسح اليدين إلى الكوعين فرض، والضربة الثانية ومسح اليدين إلى المرفقين سنة، وهو المشهور عند المالكية (¬4)، ¬
واختاره القاضي من الحنابلة (¬1). وقيل: مسح اليدين إلى الآباط، وهو مذهب الزهري رحمه الله تعالى (¬2). وقيل: اليتمم ضربتان، يمسح بكل ضربة وجهه وذراعيه ومرفقيه، وهذا قول ابن أبي ليلى، والحسن بن حي. قال ابن عبد البر: وما أعلم قال ذلك غيرهما (¬3). وقيل: التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى الكوعين، وهذا أحد القولين عن الأوزاعي (¬4)، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬5). وتقدم القول الأول عنه، أنه ضربة واحدة، للوجه واليدين إلى الكوعين. هذا تقريباً كل ما قيل من أقوال في المسألة (¬6)، والأقوال الشاذة لن نعنى بها، وبذكر أدلتها، وإنما الذي يهمنا في هذا الباب ذكر أدلة أشهر الأقوال، والله أعلم. ¬
دليل من قال: التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين
دليل من قال: التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين: الدليل الأول: (1444 - 76) ما رواه أبو داود من طريق محمد بن ثابت العبدي، أخبرنا نافع، قال: انطلقت مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس، فقضى ابن عمر حاجته، فكان من حديثه يومئذ أن قال: مر رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سكة من السكك، وقد خرج من غائط أو بول، فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة ضرب بيديه على الحائط، ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه، ثم رد على الرجل السلام وقال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر (¬1). [المعروف أنه موقوف على ابن عمر، وقد أنكر رفعه أحمد بن حنبل والبخاري وأبو داود وأبو زرعة والبيهقي وغيرهم] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1445 - 77) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا محمد بن مخلد وإسماعيل ابن علي وعبد الباقي بن قانع، نا إبراهيم بن إسحاق الحربي، ثنا عثمان بن محمد الأنماطي، ثنا حرمي بن عمارة، عن عزرة بن ثابت، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين (¬1). [صوب الدارقطني وقفه] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1446 - 78) ما رواه الطحاوي من طريق أبي يوسف، عن الربيع بن بدر، حدثنا أبي، عن جدي، عن أسلع التميمي، قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فقال لي: يا أسلع قم، فارجل لنا. قلت: يا رسول الله أصابتني بعدك جنابة، فسكت حتى أتاه جبريل بآية التيمم، فقال لي: يا أسلع، قم فتيمم صعيداً طيباً: ضربتين، ضربة لوجهك، وضربة لذراعيك، ظاهرهما وباطنهما، فلما انتهينا إلى الماء، قال: يا أسلع قم، فاغتسل (¬1). [حديث منكر، وقصة نزول آية التيمم مشهورة في الصحيحين، حين كان الصحابة في سفر، وقد ضاع عقد لعائشة، فقاموا، وليس معهم ماء، وليسوا على ماء، فنزلت آية التيمم، ولم تنزل الآية لهذه الحادثة] (¬2). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (1447 - 79) ما رواه الدارقطني من طريق محمد بن إسحاق، عن أبي صالح، حدثني الليث، حدثني جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن عمير مولى بن عباس، أنه سمعه يقول: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخلنا على أبي الجهم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو الجهم: أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل، فسلم عليه، فلم يرد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السلام حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه وذراعيه، ثم رد عليه السلام " (¬1). [ذكر الذراعين في الحديث ليس بمحفوظ، وقد اختلف على أبي صالح في ذكر هذه الزيادة، والحديث في صحيح البخاري، وليس فيه مسح الذراعين] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (1448 - 80) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا موسى بن إسمعيل، حدثنا أبان، قال: سئل قتادة عن التيمم في السفر؟ فقال: حدثني محدث عن الشعبي، عن عبد الرحمن ابن أبزى، عن عمار بن ياسر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إلى المرفقين (¬1). [إسناده ضعيف، وهو مخالف لما رواه أبان عن قتادة، ومخالف لما كان يفتي به قتادة، ومخالف لما رواه الناس عن عبد الرحمن بن أبزى، عن عمار] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: القياس على الوضوء، وذلك أن الفرض في الوضوء غسل اليدين إلى المرفقين، فكذلك التيمم يجب أن يكون المسح فيه إلى المرفقين، ولما كان غسل الوجه بالماء غير غسل اليدين، فكذلك يجب أن تكون الضربة في التيمم للوجه غير الضربة لليدين (¬1). ويجاب: بأن هذا نظر في مقابل النص، فيكون فاسداً، وهل هذا النظر إلا مثل نظر عمار بن ياسر رضي الله عنه حين تمرغ في التراب قياساً على طهارة الماء، فطهارة المسح لا ينبغي أن تقاس على طهارة الغسل، فطهارة المسح المشروع فيها التخفيف. دليل من قال: التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين: الدليل الأول: قوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (¬2). فذكر " اليد " وأطلق فلم يقيدها بشيء كما فعل في الوضوء، في قوله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق} (¬3)، واليد عند الإطلاق إنما يراد بها الكف، بدليل قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (¬4)، وقد أجمعوا ¬
الدليل الثاني
على أن القطع إلى الكوعين، نقل الإجماع ابن عبد البر (¬1)، فالمسح ينبغي أن يكون إلى الكوعين. قال ابن عبد البر: وحجة من رأى التيمم إلى الكوعين جائز، ولم ير بلوغ المرفقين واجباً: ظاهر قوله عز وجل: {فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} (¬2)، ولم يقل: إلى المرفقين {وما كان ربك نسياً} (¬3)، فلم يجب بهذا الخطاب إلا أقل ما يقع عليه اسم يد؛ لأنه اليقين، وما عدا ذلك شك، والفرائض لا تجب إلا بيقين، وقد قال الله عز وجل: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (¬4)، وثبتت السنة المجتمع عليها أن الأيدي في ذلك أريد بها من الكوع، فكذلك التيمم، إذ لم يذكر فيه المرفقين، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أكثر الآثار في التيمم أنه مسح وجهه وكفيه، وكفى بهذا حجة؛ لأنه لو كان ما زاد على ذلك واجباً لم يدعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5). الدليل الثاني: (1449 - 81) ما رواه البخاري من طريق الحكم، عن ذر، عن سعيد ابن عبد الرحمن ابن أبزى، ¬
عن أبيه قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فقال: إني أجنبت فلم أصب الماء، فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت، فصليت، فذكرت للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه، ورواه مسلم معلقاً بنحوه (¬1). وهذا صريح أن المسح ضربة واحدة، وأنه في اليدين إلى الكفين، وقد أخرجه البخاري في صحيحه، فيجب المصير إليه، وظاهر آية المائدة تؤيده كما سقت ذلك في الدليل الأول. قال الحافظ ابن حجر: الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهيم وعمار، وما عداهما فضعيف، أو مختلف في رفعه ووقفه، والراجح عدم رفعه، فأما حديث أبي جهيم فورد بذكر اليدين مجملاً (¬2)، وأما حديث عمار فورد بذكر الكفين في الصحيحين، وبذكر المرفقين في السنن، وفي رواية إلى نصف الذراع، وفي رواية إلى الآباط، فأما رواية المرفقين وكذا نصف الذراع ففيها مقال ... " (¬3). قلت: وكذلك رواية الآباط لا تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً، وقد سبق ¬
دليل من قال: التيمم إلى الآباط
تخريجها والتيمم إلى الآباط، قول لا يعرف إلا لابن شهاب رحمه الله تعالى (¬1). فلم يبق من روايات حديث عمار إلا ما ورد في الصحيحين، وأن التيمم للكفين فقط، والله أعلم. دليل من قال: التيمم إلى الآباط: (1450 - 82) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حجاج، حدثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عمار بن ياسر أبي اليقظان، قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهلك عقد لعائشة، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أضاء الفجر، فتغيظ أبو بكر على عائشة، فنزلت عليهم الرخصة في المسح بالصعدات، فدخل عليها أبو بكر، فقال: إنك لمباركة، لقد نزل علينا فيك رخصة، فضربنا بأيدينا لوجوهنا، وضربنا بأيدينا ضربة إلى المناكب والآباط (¬2). [الحديث فيه اضطراب كثير، وسبق تخريجه] (¬3). وقد حاول بعض العلماء الإجابة عنه، على احتمال ثبوته بأجوبة منها: الأول: أن يكون ذلك في أول الأمر، ثم نسخ. ذكر الشافعي رحمه الله تعالى وأبو بكر الأثرم وغيرهما من العلماء: أن التيمم إلى الآباط إن كان وقع ذلك بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فكل تيمم صح للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعده، فهو ناسخ له، وإن كان وقع بغير أمره فالحجة فيما أمر به. اهـ ¬
ومما يقوي رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين كون عمار كان يفتي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره، ولا سيما الصحابي المجتهد " (¬1). الثاني: أن يكون ذلك وقع من الصحابة على وجه الاجتهاد قبل معرفتهم للصفة المشروعة من النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن عبد البر: " يحتمل أن يكون من تيمم عند نزول الآية إلى المناكب أخذ بظاهر الكلام، وما تقتضيه اللغة من عموم لفظ الأيدي، ثم أحكمت الأمور بعدُ بفعل النبي عليه السلام، وأمره بالتيمم إلى المرفقين" (¬2). وقال ابن الجوزي: وحديث عمار: " تيممنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المناكب والآباط " ليس هو بمخالف لحديث الوجه والكفين؛ لأن عماراً لم يذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالوجه والكفين، والدليل على ذلك ما أفتى به عمار بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - في التيمم، أنه قال: الوجه والكفين. ففي هذا دلالة أنه انتهى إلى ما عَلَّمه النبي - صلى الله عليه وسلم - " (¬3). وقال ابن رجب: " وعلى تقدير صحته، ففي الجواب عنه وجهان: أحدهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم أصحابه التيمم على هذه الصفة، وإنما فعلوه عند نزول الآية لظنهم أن اليد عند الإطلاق تشمل الكفين والذارعين والمنكبين والعضدين، ففعلوا ذلك احتياطاً كما تمعك عمار بالأرض للجنابة، وظن أن تيمم الجنب يعم البدن كله كالغسل، ثم بين ¬
النبي - صلى الله عليه وسلم - التيمم بفعله وقوله " التيمم للوجه والكفين " فرجع الصحابة كلهم إلى بيانه - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم عمار راوي الحديث، فإنه أفتى أن التيمم ضربة للوجه والكفين " (¬1). وهذا الجواب لا حاجة إليه مع تضعيف حديث عمار من طريق الزهري، لأنه يبعد كل البعد أن يكون التيمم نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم في السفر، ثم يتيمم أصحابه رضي الله عنهم دون أن يسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صفة التيمم، مع حرصهم على متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الدقيق والجليل، وإمكان الرجوع إلى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في معرفة تلك الصفة، وعلى فرض أن يكون بعضهم فعل ذلك اجتهاداً مع وجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهم، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان سيعلم ذلك إما من الوحي لمخالفته الصفة المشروعة، وإما من الناس خاصة إذا شاهدوا تيمم الرسول - صلى الله عليه وسلم - مخالفاً لما فعلوه، وهذا إنما نقوله في المناظرة، وإلا فهو بعيد جداً، ولم يكن الصحابة يجتهدون إلا حيث لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم، وأما إذا كان معهم فإنه يرجعون إليه، ويصدرون عنه، فالصواب أن حديث عمار من طريق الزهري حديث مضطرب، وقد بينت اختلاف أصحاب الزهري عليه في إسناده في أول كتاب التيمم، وهذا الذي دفع ابن عبد البر أن يقول: " أحاديث عمار في التيمم كثيرة الاضطراب، وإن كان رواتها ثقات " (¬2). ¬
قال ابن رجب: " هذا حديث منكرجداً، لم يزل العلماء ينكرونه، وقد أنكره الزهري راويه، وقال: هو لا يعتبر به الناس، ذكره الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما، وروي عن الزهري أنه امتنع أن يحدث به، وقال: لم أسمعه إلا من عبيد الله، وروي عنه أنه قال: لا أدري ما هو؟ وروي عن مكحول أنه كان يغضب إذا حدث الزهري بهذا الحديث، وعن ابن عيينة أنه امتنع أن يحدث به، وقال: ليس العمل عليه، وسئل الإمام أحمد عنه، فقال: ليس بشيء، وقال: أيضاً: اختلفوا في إسناده، وكان الزهري يهابه، وقال: ما أرى العمل عليه " (¬1). الدليل الثاني لمن قال: يمسح إلى الآباط: قالوا: إن اليد إذا أطلقت يتناول جميع اليد، من رؤوس الأصابع إلى الآباط. ويجاب. هذا يحتاج إلى دليل على أن اليد تطلق على جميع الجارحة، بل الدليل قام من القرآن على خلاف هذا، والقرآن إنما نزل بلغة العرب، فهو بلسان عربي مبين، قال تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (¬2)، فأطلق اليد، ولم يفهم منه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا صحابته الكرام أن القطع يشمل جميع الجارحة من رؤوس الأصابع إلى الآباط، بل قام الإجماع على أن القطع للكف فقط، وقد نقلته عن ابن عبد البر في أدلة القول السابق. ¬
الراجح
الراجح: بعد استعراض أدلة الأقوال، نجد أن القول بأن التيمم يقتصر على الوجه والكفين بضربة واحدة هو أقوى الأقوال دليلاً، وأسلمها من الاعتراض، فلم يثبت حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتيمم إلى المرفقين، وإنما صح ذلك موقوفاً على بعض الصحابة، وليس في قولهم حجة مع مخالفتهم لحديث عمار المرفوع في الصحيحين، كما لم يثبت حديث مرفوع في أن التيمم ضربتان، والمصير في صفة التيمم إلى آية المائدة، مع حديث عمار بن ياسر، وما خالفهما فهو إما موقوف أو ضعيف، والله أعلم.
المبحث الثاني: في استيعاب المسح للوجه واليدين
المبحث الثاني: في استيعاب المسح للوجه واليدين اختلف العلماء في حكم استيعاب المسح للوجه واليدين، فلو أن المتيمم ترك شيئاً يسيراً من مسح وجهه أو يديه، فهل يصح تيممه؟ فقيل: الاستيعاب فرض، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: الاستيعاب ليس بفرض، فمسح الأكثر يقوم مقام الكل، وهو ¬
رواية الحسن عن أبي حنيفة (¬1)، واختيار ابن مسلمة من المالكية (¬2)، ورجحه ابن حزم رحمه الله (¬3). ولذلك أوجب الأئمة الأربعة نزع الخاتم من أجل القيام بفرض الاستيعاب (¬4). وأما تخليل الأصابع في التيمم: فمن ذهب منهم إلى جواز التيمم على الحجر ونحوه أوجب تخليل الأصابع، لكي يقوم بواجب الاستيعاب كالحنفية (¬5)، والمالكية على المشهور (¬6). ومن اشترط الغبار اشترط تفريج أصابعه إذا ضرب الأرض، حتى ¬
يتخللها الغبار كالشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). ¬
وقيل: ليس عليه تخليل أصابعه ولا نزع خاتمه، وهو رواية الكرخي عن أبي حنيفة (¬1)، وأحد القولين في مذهب المالكية (¬2). ¬
دليل من قال: يجب الاستيعاب
دليل من قال: يجب الاستيعاب: قال تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (¬1). (1451 - 83) وفي البخاري من حديث عمار بن ياسر: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه (¬2). فقوله: " ثم مسح بهما وجهه وكفيه " يقتضي أن يكون المسح لجميع الوجه واليدين، والحديث امتثال وبيان للآية الكريمة {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (¬3)، وهو يرفع ما قد يتوهم في الباء من تبعيض، وقد بينا في فرائض الوضوء من قوله تعالى {فامسحوا برؤوسكم} أن الباء لا تأتي للتبعيض، فهي كالباء في قوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} (¬4)، ولا يجوز بالإجماع الطواف ببعض البيت، والذين ذهبوا إلى جواز مسح بعض الرأس، مستدلين بأن الباء للتبعيض في قوله تعالى: {فامسحوا برؤوسكم} لم يقولوا هذا في آية التيمم {فامسحوا بوجوهكم} وهي واحدة في الآيتين، ومتعلقها واحد، وهو فعل الأمر (امسحوا) وهذا نوع من التناقض. الدليل الثاني: القياس على طهارة الماء، فكما أن غسل الوجه واليدين يجب أن يشمل جميع الوجه واليدين، فكذلك في طهارة التيمم يجب أن يشمل جميع الوجه واليدين، لأن البدل له حكم المبدل. ¬
ويجاب: بأن البدل إنما يقوم مقام المبدل في حكمه لا في وصفه، ولهذا المسح على الخفين بدل عن غسل الرجلين، ولا يجب فيه الاستيعاب مع وجوبه في الرجلين (¬1). ثم إن هذا الدليل أنتم لا تأخذون به من كل وجه، فهل ترون أنه يجب أن يصل الماء إلى باطن الفم والأنف ليقوم مقام المضمضة والاستنشاق، أو إلى باطن الشعر الخفيف كشعر الحاجبين واللحية الخفيفة (¬2)، فإذا استثنيتم ذلك، بطل القياس على طهارة الماء. الدليل الثالث: حكى الإمام أحمد أن التعميم في مسح الوجه إجماع. قال ابن رجب: " قال الجوزجاني: ثنا إسماعيل بن سعيد الشالنجي، قال: سألت أحمد بن حنبل عمن ترك مسح بعض وجهه في التيمم، قال: يعيد الصلاة. فقلت له: فما بال الرأس يجزئ في المسح، ولم يجز أن يترك ذلك من الوجه في التيمم؟ فقال: لم يبلغنا أن أحداً ترك ذلك من تيممه " (¬3). فإن كان فُهِم من كلام الإمام أحمد أنه إجماع كما فهمه ابن رجب رحمه الله، فهو إجماع على حكاية فعل، وليس إجماعاً قولياً على وجوب التعميم، فهناك فرق بين النقل بأن أحداً لم يترك كذا، وبين القول بوجوب ¬
دليل من قال: مسح الأكثر يقوم مقام الكل
التعميم؛ لأن الإجماع هنا قد يؤخذ منه على القول بثبوته على مشروعية التعميم، وليس على وجوبه؛ وذلك لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل عنه أنه أخل بالترتيب في الوضوء، ومع ذلك فالخلاف في وجوبه محفوظ، فما بالك بالنقل عن فعل السلف، وقد أثبتنا أن هناك قولاً في مذهب الحنفية أنه يجزئ مسح أكثر الوجه واليدين، وهذا اختيار ابن حزم، فهذا كاف في خرق الإجماع، والله أعلم. دليل من قال: مسح الأكثر يقوم مقام الكل: ذكر ابن حزم: أن الله سبحانه وتعالى قال: {بلسان عربي مبين} (¬1)، وقال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} (¬2)، والمسح في اللغة لا يقتضي الاستيعاب، فوجب الوقوف عند ذلك، ولم يأت بالاستيعاب في التيمم قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب، نعم ولا قياس، فبطل القول به ... والعجب أن لفظة المسح لم تأت في الشريعة إلا في أربعة مواضع، ولا مزيد: مسح الرأس، ومسح الوجه واليدين في التيمم، ومسح على الخفين، والعمامة والخمار، ومسح الحجر الأسود في الطواف، ولم يختلف أحد من خصومنا المخالفين لنا في أن مسح الخفين ومسح الحجر الأسود لا يقتضي الاستيعاب، وكذلك من قال منهم بالمسح على العمامة والخمار، ثم نقضوا ذلك في التيمم، فأوجبوا فيه الاستيعاب تحكماً بلا برهان .. واضطربوا في الرأس .. ثم ذكر اختلافهم (¬3). ¬
الراجح من الخلاف
الدليل الثاني: أن طهارة المسح مبنية على التخفيف، بخلاف طهارة الغسل، فإيجاب الاستيعاب في طهارة المسح فيه عسر ومشقة. الدليل الثالث: إذا كان المتيمم يمسح وجهه مرة واحدة بكلتا يديه، فلا تكفي يداه لاستيعاب كل جزء في وجهه مهما قل، فلو كان الاستيعاب فرضاً لكان شرع تكرار المسح للوجه؛ ليحصل الاستيعاب، فلما لم يشرع تكرار المسح للوجه علم أن الاستيعاب ليس فرضاً. الراجح من الخلاف: المطلوب أن يمسح وجهه بكلتا يديه، ولا يكرر المسح، فما أتت يداه على وجهه بالمسح كاف في حصول المقصود، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح وجهه مرة واحدة بكلتا يديه، ويعلم أن مسح الوجه باليدين لا يمكن أن يمسح كل جزء من وجهه، فإنه إن جمع أصابعه ليعمم بالمسح كل جزء من وجهه بقي طرفا الوجه بدون مسح، وإن فرج أصابعه ليمسح أكبر قدر ممكن من وجهه فإن ما بين أصابعه لم يصبه المسح، فيكون بذلك قد فوت جزءاً، ولو يسيراً، وهذا دليل على أن مسح الغالب يقوم مقام الكل، وأما تخليل الأصابع فلم يقم دليل صحيح بل ولا ضعيف فيما أعلم على مشروعية تخليل الأصابع في التيمم، فضلاً أن يكون التخليل واجباً، والتعليل في أن التراب ليس له نفوذ الماء وسريانه، فيعتبر التخليل آكد منه في التيمم منه في الوضوء، فهذا القول ممكن أن يعكس، فيقال: طهارة المسح مبنية على التخفيف، بخلاف طهارة الماء، فيستحب التخليل في الوضوء، ولا يشرع التخليل في التيمم، ثم إننا
نقول: لسنا بحاجة إلى القياس بالعبادات، وخاصة إن التخليل إما أن يكون مشروعاً أو لا؟. فإن لم يكن مشروعاً فظاهر، وإن كان مشروعاً فلا بد أن يفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو يرشد إليه، خاصة أنه تيمم عليه الصلاة والسلام، وفعله الصحابة في عهده، وبعد وفاته، فهل قدمتم دليلاً على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد فعل ذلك، فإذا لم يوجد دليل كان هذا دليلاً على أن السنة تركه، فما تركه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فالسنة تركه، والله أعلم. قال سليمان بن داود الهاشمي: "يجزئه في التيمم إن لم يصب بعض وجهه، أو بعض كفيه؛ لأنه بمنزلة المسح على الرأس إذا ترك منه بعضاً أجزأه" (¬1). وقال يحيى بن يحيى النيسابوري: المسح في التيمم كما يمسح الرأس، لا يتعمد لترك شيء من ذلك، فإن بقي شيء منه لم يعد، وليس هو عندي بمنزلة الوضوء (¬2). وقال الجوزجاني: لم نسمع أحداً يتبع ذلك من رأسه في المسح ولا بين أصابعه في التيمم، كما يتبعون في الوضوء بالتخليل (¬3). ونقل حرب، عن إسحاق أنه قال: تضرب بكفيك على الأرض، ثم تمسح بهما وجهك، وتمر بيديك على جميع الوجه واللحية، أصاب ما أصاب، وأخطأ ما أخطأ، ثم تضرب مرة أخرى بكفيك (¬4). ¬
المبحث الثالث: في مسح ما تحت الشعر الخفيف في التيمم
المبحث الثالث: في مسح ما تحت الشعر الخفيف في التيمم سبق لنا في طهارة الماء وجوب غسل ما تحت الشعر الخفيف، واختلف العلماء في طهارة التيمم، هل يجب مسح ما تحت الشعر الخفيف كالعنفقة وشعر الحاجبين، وشعر اللحية الخفيف، أو لا يجب؟. فقيل: يجب مسح ما تحت الشعر الخفيف، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وأحد الوجهين في مذهبي الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). ¬
وقيل: لا يجب مسح ما تحت الشعر، اختاره أبو يوسف والطحاوي من الحنفية (¬1)، وهو مذهب المالكية (¬2)، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، وقيل: لا يجب عليه مسح اللحية في التيمم، وهو قول في مذهب الحنفية (¬5). ¬
وسبب الخلاف اختلافهم في مسألتين: الأولى: وسبق بحثها، هل يجب استيعاب الوجه واليدين بالمسح في التيمم، وقد ترجح بأن الاستيعاب ليس بواجب، وأن عليه أن يمسح وجهه بكلتا يديه، ولا يتعمد ترك شيء منه، فإن بقي منه شيء لا يرجع إليه بالمسح. والثانية: قياس التيمم على الوضوء، فلما كان الوضوء يجب غسل ما تحت الشعر الخفيف، فهل يقاس عليه التيمم، فيقال بوجوب مسح ما تحت الشعر الخفيف؟ الصحيح أن قياس التيمم على الوضوء قياس مع الفارق؛ لأن المسح مبني على التخفيف، بخلاف طهارة الغسل، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع: في صفة مسح الوجه واليدين عند الفقهاء
المبحث الرابع: في صفة مسح الوجه واليدين عند الفقهاء (¬1) اختلف العلماء في صفة المسح بالتيمم: فقيل: يضرب بيديه الصعيد، فيقبل بهما ويدبر (¬2)، ثم ينفضهما، ثم يمسح بهما وجهه، ثم يعود بكفيه على الصعيد مرة ثانية، فيقبل بهما ويدبر، ثم ينفضهما، ثم يمسح بذلك ظاهر الذراعين وباطنهما إلى المرفقين، وهذه الصفة رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة (¬3). وقيل: يمسح بباطن أربع أصابع يده اليسرى، ظاهر يده اليمنى، من رؤوس الأصابع إلى المرفق، ثم يمسح بكفه اليسرى دون الأصابع باطن يده ¬
اليمنى من المرفق إلى الرسغ، ثم يمر بباطن إبهامه اليسرى على ظاهر إبهامه اليمنى، ثم يفعل باليد اليسرى كذلك. وهذه هي الصفة المختارة عند الحنفية (¬1). وذلك لأن مسح ظاهر اليد اليمنى بباطن الأصابع، ثم مسح باطن اليد اليمنى بباطن الكف دون الأصابع فيه احتراز من استعمال التراب المستعمل (¬2). ونحوها عند المالكية، إلا أنهم لم يجعلوا الأصابع تمسح ظاهر اليد، والكف يمسح باطن اليد، بل الكف بأصابعها تمسح ظاهر اليد وباطنها، فقالوا في صفة التيمم المستحبة ما يلي: " أن يضرب الأرض بيديه جميعاً ضربة واحدة، فإن تعلق بها شيء نفضه نفضاً خفيفاً، ومسح بهما وجهه، ثم يضرب أخرى لليدين ويضع اليسرى على اليمنى فيمرها من فوق الكف إلى المرفق، ومن باطن المرفق إلى الكوع، ويفعل باليسرى كذلك. وأجاز الشيخ أبو الحسن وعبد الحق مسح كف اليمنى قبل الشروع في اليسرى؛ لأن الأصل أن لا يشرع في عضو إلا بعد كمال ما قبله. وروى ابن حبيب تركها حتى يصل إلى كوع الأخرى، ويمسح الكوعين. ¬
وجهه: أن كفه اليمنى كما تمسح ذراعه فكذلك ذراعه يمسح كفه، والتكرار في التيمم غير مطلوب، فلا يؤمر بمسح كفه بكفه، ولأنه يذهب بما في كفه اليمين من التراب (¬1). وذكر صاحب الرسالة أنه إذا وصل إلى الكوع مسح بباطن إبهام اليسرى ظاهر إبهامه اليمنى، وكذلك في اليسرى (¬2). وذكر الشافعية صفة التيمم المستحبة نحواً من ذلك، حيث قالوا: أن يضع بطون أصابع اليسرى سوى الإبهام على ظهور أصابع اليمنى سوى الإبهام، بحيث لا تخرج أنامل اليمنى عن مسبحة اليسرى، ولا مسبحة اليمنى عن أنامل اليسرى، ويمرها على ظهر كفه اليمنى، فإذا بلغ الكوع ضم أطراف أصابعه إلى حرف الذراع، ويمرها إلى المرفق، ثم يدير بطن كفه إلى بطن الذراع، فيمرها عليه رافعاً إبهامه فإذا بلغ الكوع أمر إبهام اليسرى على إبهام اليمنى، ثم يفعل باليسرى كذلك، ثم يمسح إحدى الراحتين بالأخرى (¬3). وذكر النووي بأن مسح إحدى الراحتين، سنة على قول جمهور العراقيين، ونقله ابن الصباغ عن الأصحاب مطلقاً إذا كان قد فرق بين أصابعه في الضربة الثانية. ¬
وقال البغوي: إن قصد بإمرار الراحتين على الذراعين مسحهما حصل، وإلا فلا. قلت: كلام البغوي فيه نظر؛ لأن نية التيمم كافية، ولا تشترط نية عند كل فعل من أفعال التيمم، ومثله سائر العبادات، فالصلاة نية واحدة، والوضوء نية واحدة، والله أعلم. وصوب النووي طريقة العراقيين، قال: فإن قيل: إذا سقط فرض الراحتين صار التراب الذي عليهما مستعملاً، فكيف يجوز مسح الذراعين به؟ ولا يجوز نقل الماء الذي غسلت به إحدى اليدين إلى الأخرى؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن اليدين كعضو واحد، ولهذا جاز تقديم اليسار على اليمين، ولا يصير التراب مستعملاً إلا بانفصاله، والماء ينفصل عن اليد المغسولة، فيصير مستعملاً. الثاني: أنه يحتاج إلى هذا هاهنا، فإنه لا يمكنه أن يتم الذارع بكفها، بل يفتقر إلى الكف الأخرى، فصار كنقل الماء من بعض العضو إلى بعضه. ونقل صاحب البيان وجهاً أنه يجوز نقل الماء من يد إلى يد أخرى؛ لأنهما كيد، فعلى هذا يسقط السؤال (¬1). وأما صفة التيمم عند الحنابلة: فقالوا: يضرب بيديه مفرجتي الأصابع ضربة واحدة، يمسح وجهه بباطن أصابعه، وكفيه براحتيه (¬2). ¬
وقال ابن قدامة: "ويستحب أن يمسح إحدى الراحتين بالأخرى، وليس بفرض؛ لأن فرض الراحتين قد سقط بإمرار كل واحدة على ظهر الكف" (¬1). ومع اعتراف بعض الفقهاء من كل مذهب بأن هذه الصفة التي استحبوها لم يأت عليها دليل من الشرع فقد ذكر العيني في البناية والطحطاوي في حاشيته على مراقي الفلاح، وهما من الحنفية بأن هذه الصفة - أعني المسح بالأصابع ظاهر اليد اليمنى، والمسح بباطن الكف باطن اليد اليمنى، ثم اليسرى مثل ذلك - لم ترد في شيء من الأحاديث (¬2). وقال القرافي من المالكية: " وهذه الصفة وإن لم ترد - يعني في السنة- فليست تحكماً، بل لما علم الفقهاء أن الايعاب مطلوب، والصعيد ليس يعم بسيلانه كالماء اختاروا هذه الصفة؛ لإفضائها لمقصود الشارع، وفعل الوسائل لتحصيل المقاصد من قواعد الشرع وعادته " (¬3). فيقال: إذا اعترفتم بأن هذه الصفة لم ترد، فهل غاب إدراك هذه المصلحة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعن صحابته الكرام، أو لا؟ فإن قلتم: هي معلومة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، قلنا: فلماذا علمها ومع ذلك تركها، ألا يكون لكم في رسول الله أسوة حسنة. ألا يكون فعلكم نوعاً من الاستدراك على الشرع، وإحداث صفة لم تكن مشروعة، أليست صفة العبادة توقيفية، ¬
فكيف نستحسن شيئاً لم يرد في أحاديث التيمم، نعم القول بأن التيمم ضربتان ورد في بعض الأحاديث المرفوعة الضعيفة، وفي بعض الآثار الصحيحة الموقوفة، وقد ناقشت ذلك في فصل مستقل، كما ناقشت في فصل مستقل القول بأن التراب فيه ما هو مستعمل، فلا يتيمم به، ومنه ما هو غير مستعمل، فيختص التيمم به، قياساً على الماء، وبينت أن القول بأنه يوجد ماء أو تراب مستعمل لا يتطهر به، قول ضعيف، فأغنى الكلام هناك عن إعادته هنا، والله الموفق. قال النووي من الشافعية: " قال الرافعي: وزعم بعضهم أن هذه الكيفية منقولة عن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وليس هذا بشيء، قال أصحابنا: كيف أوصل التراب إلى وجهه واليدين بضربتين فأكثر بيده أو خرقة أو خشبة جاز، ونص عليه في الأم" (¬1). وقال ابن رجب الحنبلي: " وهذا الذي قالوه في صفة التيمم لم ينقل عن الإمام أحمد، ولا قاله أحد من متقدمي أصحابه كالخرقي وأبي بكر وغيرهما" (¬2). فهذا كلام جملة من أصحاب المذاهب قد صرحوا بأن هذه الصفة لم يثبت فيها حديث، فإذا عرفنا هذا فيقال في صفة المسح ما دل عليه حديث عمار في الصحيحين: ¬
ضربة واحدة يمسح بها وجهه وكفيه، وكيف مسح فقد حصل المقصود. قال في تنوير المقالة شرح ألفاظ الرسالة: " ولو مسح اليمنى باليسرى، واليسرى باليمنى كيف شاء وتيسر عليه، وأوعب المسح أجزأه؛ لأن الواجب التعميم على أي وجه وجد " (¬1). قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: أرني كيف التيمم؟ فضرب بيده باطن كفيه، ثم مسح وجهه وكفيه بعضهما على بعض ضربة واحدة، وقال: هكذا. قال ابن رجب تعليقاً: وهذا يدل على أنه مسح وجهه بيديه، ثم مسح يديه إحداهما بالأخرى من غير تخصيص للوجه بمسح باطن الأصابع، وهذا هو المتبادر إلى الفهم من الحديث المرفوع، ومن كلام من قال من السلف: إن التيمم ضربة للوجه والكفين. وما قاله المتأخرون من الأصحاب فإنما بنوه على أن التراب المستعمل لا يصح التيمم به كالماء المستعمل، وهذا ضعيف؛ لأن التراب المستعمل فيه لأصحابنا وجهان: أحدهما: أنه يجوز التيمم به بخلاف الماء؛ لأن الماء المستعمل قد رفع حدثاً، وهذا لم يرفع حدثاً على ظاهر المذهب. وعلى الوجه الثاني: أنه لا يتيمم بالتراب المستعمل، فالمستعمل هو ما علق بالوجه، أو تناثر منه، فأما ما بقي على اليد الممسوح بها فهو ¬
بمنزلة ما بقي في الإناء بعد الاستعمال منه، وليس هو بمستعمل، ويجوز التيمم به " (¬1). وقال ابن تيمية: " وصفة التيمم أن يضرب بيديه الأرض، ثم يمسح بهما وجهه وكفيه لحديث عمار بن ياسر الذي في الصحيح " (¬2). وليس فيه دليل على استحباب - فضلاً عن وجوب - تفريج الأصابع، ولم يدل عليها سنة مرفوعة، ولا أعلم بها أثراً صحيحاً، والسنة لزوم ما ورد في السنة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا يستحسن شيء من الصفات إلا بتوقيف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو عن أحد من صحابته رضوان الله عليهم. ¬
المبحث الخامس: لو وضع يديه على الأرض بدون ضرب
المبحث الخامس: لو وضع يديه على الأرض بدون ضرب هل يشترط في التيمم ضرب الأرض بيديه؟ أو يصح التيمم حتى لو وضع يديه على الأرض بدون ضرب، اختلف العلماء في ذلك: فقيل: لا يشترط ضرب الأرض بيديه، فلو وضع كفيه على التراب أجزأه، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ودليلهم: أن الكتاب لم يعتبر ضرب الأرض من مسمى التيمم، فإن المأمور به في القرآن هو المسح فقط، قال تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (¬5). ¬
فالعبرة بمسح الوجه واليدين بالتراب بنية التيمم. وأما حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه مرفوعاً، وفيه: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه (¬1). فهو لا يدل على وجوب كل ما ذكر في الحديث، ومنه الضرب، بدليل أن النفخ ليس بواجب، وهو مذكور فيه، وبدليل أن آية التيمم ليس فيها ذكر الضرب، فقد يكون الحديث خرج مخرج الغالب، أو أنه أراد من الضرب: إرادة المسح بالأرض، والضرب أبلغ من وضع اليد بالأرض، والله أعلم. ويتفرع على هذه المسألة سؤال آخر: هل ضرب اليد بالأرض ركن بالتيمم، أو وسيلة يتوصل بها لمسح الوجه واليدين بالأرض، وينبني على الخلاف في هذه المسألة ما لو ضرب الأرض بيديه، ثم أحدث قبل مسح وجهه ويديه. فقال أبو شجاع من الحنفية: يعيد ضرب الأرض، كبطلان بعض الوضوء بالحدث. وفي الخلاصة: الأصح أنه لا يستعمل ذلك التراب، كذا اختاره شمس الأئمة السرخسي (¬2). قلت: وهذا هو مذهب الشافعية: " قال القاضي حسين البغوي: إذا أحدث المتيمم بعد أخذه التراب، وقبل المسح بطل ذلك الأخذ، وعليه الأخذ ثانياً، بخلاف ما لو أحدث بعد ¬
أخذ الماء وقبل غسل الوجه، فإنه لا يضره؛ لأن المطلوب في الوضوء الغسل لا نقل الماء، وهنا المطلوب نقل التراب" (¬1). والصحيح أن نقل التراب ليس هو العبادة في التيمم، وإنما العبادة هو مسح الوجه واليدين بعد ضرب الصعيد الطيب. " قال القاضي الإسبيجابي من الحنفية: " يجوز - يعني: إذا أحدث بعد ضرب الأرض - كمن ملأ كفيه ماء، فأحدث، ثم استعمله، والذي يقتضيه النظر عدم اعتبار ضربة الأرض من مسمى التيمم شرعاً؛ فإن المأمور به المسح ليس غير في الكتاب، قال تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (¬2) (¬3). هذا وقد عقدت فصلاً مستقلاً فيما لو ألقت الرياح التراب على وجه المتيمم وكفيه، فهل يجزئ ذلك عن ضرب الأرض، أو لا بد من ضرب الأرض بالتيمم، فتلك المسألة لها متعلق بهذه، وقد حكيت فيها ثلاثة أقوال: الإجزاء مطلقاً، والمنع مطلقاً، والإجزاء إن مسح بيديه على وجه وكفيه، فارجع إليها لزيادة البحث في هذه المسألة، والله أعلم. ¬
المبحث السادس: في مسح الوجه بيد واحدة أو أصبع واحد
المبحث السادس: في مسح الوجه بيد واحدة أو أصبع واحد اختلف العلماء، فقيل: لا يجوز المسح بأقل من ثلاثة أصابع، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يجوز ولو بباطن إصبع واحد، وهذا مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: لا يجزئه، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬5). ¬
دليل من قال: يجزئ يد واحدة
دليل من قال: يجزئ يد واحدة: قالوا: إن الغرض إيصال التراب إلى محل الفرض، وقد حصل (¬1). ولأن المسح في الآية مطلق، فيتناول اليد وغيرها كما يتناول يد الغير (¬2). فآية التيمم ذكرت الممسوح، ولم تذكر آلة المسح، فكيف حصل المسح أجزأ. دليل من قال: لا يجزئه: الدليل الأول: (1452 - 84) استدلوا بما رواه البخاري من حديث عمار بن ياسر، وفيه: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه. ورواه مسلم (¬3). وهذا مجرد فعل، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، نعم يدل على استحباب ضرب جميع الكفين بالأرض، والله أعلم. الراجح: جواز مسح الوجه واليدين بيد واحدة أو بعض يده، أو بخرقة ونحوها بعد ضربها بالتراب؛ كما لو يممه غيره بإذنه. ¬
الفرض الثاني: في حكم الترتيب
الفرض الثاني: في حكم الترتيب اختلف العلماء في حكم الترتيب في التيمم، بأن يمسح وجهه أولاً، ثم يديه، فقيل: الترتيب مسنون، وليس بواجب، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: الترتيب فرض، بأن يقدم وجهه، ثم يديه وهو مذهب الشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). ¬
دليل من قال: إن الترتيب مسنون
وقيل: إن تيمم بضربتين: وجب الترتيب، وإن تيمم بضربة واحدة لم يجب، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: يقدم في التيمم اليدان قبل الوجه، وهو قول الأعمش (¬2). دليل من قال: إن الترتيب مسنون: الدليل الأول: لا يوجد دليل على أن الترتيب واجب، والأصل عدم التكليف حتى يقوم دليل على الوجوب. الدليل الثاني: لو كان الترتيب واجباً لعبر الله عنه بـ (ثم) المفيدة للترتيب، ولقال سبحانه وتعالى: فامسحوا بوجوهكم ثم أيديكم، فلما قال سبحانه وتعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (¬3)، وطلب مسح الوجه والأيدي بالواو، والواو في اللغة لا تقتضي ترتيباً، وإنما تقتضي مطلق التشريك، مثله لو قلت لك: اشتر لي خبزاً ولحماً. فإذا اشتريت اللحم قبل الخبز فقد امتثلت الأمر. الدليل الثالث: (1453 - 85) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن سلام، قال: أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق قال: ¬
كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى الأشعري، فقال له أبو موسى: ألم تسمع قول عمار لعمر: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة فأجنبت، فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا، فضرب بكفه ضربة على الأرض، ثم نفضها، ثم مسح بهما ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه، ثم مسح بهما وجهه ... الحديث وفيه مناظرة بين عبد الله ابن مسعود وبين أبي موسى (¬1). [قال أحمد: رواية أبي معاوية عن الأعمش في تقديم مسح الكفين على الوجه غلط] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
دليل من قال: يجب الترتيب
وإذا كان في هذا الدليل اعتراض، فإن الأدلة السابقة كافية في الاستدلال بعدم وجوب الترتيب، والله أعلم. دليل من قال: يجب الترتيب: استدلوا بقوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (¬1)، فبدأ بالوجه. (1454 - 86) وقد روى النسائي رحمه الله تعالى، قال: أخبرنا علي بن حجر، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف سبعاً، ورمل ثلاثاً، ومشى أربعاً، ثم قرأ: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " فصلى سجدتين، وجعل المقام بينه وبين الكعبة، ثم استلم الركن، ثم خرج، فقال: إن الصفا والمروة من شعائر الله، فابدأوا بما بدأ الله به (¬2). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن نبدأ بما بدأ الله به، والأصل في الأمر الوجوب، وقد بدأ الله بذكر الوجه قبل اليدين، فيكون الترتيب امتثالاً للأمر النبوي بتقديم ما قدمه الله، وتأخير ما أخره الله. ¬
دليل الأعمش على وجوب تقديم اليدين على الوجه
وأجيب: [بأن المحفوظ من لفظ الحديث أنه بلفظ الخبر: نبدأ بما بدأ الله به، فلا حجة فيه] (¬1). دليل الأعمش على وجوب تقديم اليدين على الوجه: إن ثبت هذا القول عن الأعمش، فربما أخذه مما رواه الأعمش عن أبي وائل. (1455 - 87) فقد روى البخاري من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن شقيق قال: كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى الأشعري، فقال له أبو موسى: ألم تسمع قول عمار لعمر: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة فأجنبت، فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا، فضرب بكفه ضربة على الأرض، ثم نفضها، ثم مسح بهما ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه، ثم مسح بهما وجهه ... الحديث وفيه مناظرة بين عبد الله ابن مسعود وأبي موسى (¬2). ¬
دليل من قال: إن تيمم بضربتين كان الترتيب واجبا، وإلا فلا
وقد بينا أن هذه اللفظة قد بين الإمام أحمد أنها غلط، وإن كان أبومعاوية من أثبت أصحاب الأعمش، وهو مقدم على غيره في حديث الأعمش يرجع إليه فيه عند اختلاف أصحابه، ولكن هذا مسلم لو أن أبا معاوية نفسه لم يختلف عليه في لفظه، فلما اختلف على أبي معاوية نفسه دل على أنه لم يضبط، والثقة قد يخطئ، ولو سلمت صحة رواية أبي معاوية على الأعمش، فإن الترتيب هذا في تقديم اليدين على الوجه مجرد فعل من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، وإنما يدل على الاستحباب، وظاهر القرآن تقديم الوجه، وهو يدل على أنه إن قدم الوجه على اليدين عملاً بكتاب الله تعالى فحسن، وإن قدم اليدين على الوجه عمل بلفظ أبي معاوية عن الأعمش فحسن أيضاً، ولا يدل على وجوب تقديم اليدين على الوجه، وهو ظاهر، والله أعلم. دليل من قال: إن تيمم بضربتين كان الترتيب واجباً، وإلا فلا: استدل لقوله بأن بطون الأصابع لا يجب مسحها بعد مسح الوجه، فإذا وقع مسح باطن الأصابع مع مسح وجهه أخل بالترتيب. قال ابن عقيل: رأيت التيمم بضربة واحدة قد أسقط ترتيباً مستحقاً في الوضوء، وهو أنه يعتد بمسح باطن يديه قبل مسح وجهه (¬1). قلت: في هذا دليل على أن الترتيب ليس واجباً، وليس معناه أن نقول بوجوب الترتيب إن كان التيمم بضربتين، والله أعلم. ¬
الراجح من الخلاف
الراجح من الخلاف. القول بعدم وجوب الترتيب أقوى من حيث النظر، كما أن الأثر لا يدل على وجوب الترتيب، والأصل عدم الوجوب، والله أعلم.
الفرض الثالث: في حكم الموالاة
الفرض الثالث: في حكم الموالاة اختلف العلماء في حكم الموالاة بين الوجه واليدين في طهارة التيمم، فقيل: سنة مطلقاً في التيمم من الحدث الأصغر والأكبر، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وأصح الأقوال في مذهب الشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: فرض مطلقاً في الحدث الأصغر والأكبر، وهو مذهب المالكية (¬4). ¬
وقيل: فرض في الحدث الأصغر دون الأكبر، وهو مذهب الحنابلة (¬1). والكلام في أدلة هذه المسألة مقيسة على مسألة حكم الموالاة في الوضوء والغسل، فما ذكرته من أدلة هناك، هي أدلة القائلين به في هذه المسألة، فذكره هناك أغنى عن إعادته هنا، ولله الحمد. وقد رجحت هناك أن الموالاة واجبة، وتسقط بالعذر كغيرها من الواجبات، لأن التيمم عبادة واحدة، فلا يفرق بين أفعالها، والله أعلم. ¬
الباب السادس: في سنن التيمم
الباب السادس: في سنن التيمم الفصل الأول: في التسمية سبق لنا خلاف أهل العلم في حكم التسمية في الوضوء وفي الغسل، وسوف نعرض في هذا الفصل حكم التسمية في بدلهما: وهو التيمم، فقد اختلف العلماء فيها إلى أقوال. فقيل: سنة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3)، اختارها ابن قدامة (¬4). ¬
وقيل: التسمية من فضائل الوضوء، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية (¬1). وقيل: لا تشرع التسمية في الوضوء، وهو قول في مذهب المالكية (¬2)، ¬
دليل من قال: التسمية سنة
وهو الراجح. وقيل: تجب التسمية مع الذكر، وتسقط بالنسيان، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: تباح التسمية في الوضوء، وهو قول في مذهب المالكية (¬2). دليل من قال: التسمية سنة: الدليل الأول: (1456 - 88) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن مبارك، عن الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله عز وجل فهو أبتر أو قال أقطع (¬3). [إسناده ضعيف، ومتنه مضطرب] (¬4). وقد قال القرافي في كتابه الفروق: " فأما ضابط ما تشرع فيه التسمية ¬
الدليل الثاني
من القربات، وما لم تشرع فيه فقد وقع بحث مع جماعة من الفضلاء، وعسر تحرير ذلك وضبطه، ثم قال: والقصد من هذا الفرق بيان عسره والتنبيه على طلب البحث عن ذلك، فإن الإنسان قد يعتقد أن هذا لا إشكال فيه، فإذا نبه على الإشكال استفاده، وحثه ذلك على طلب جوابه " (¬1). الدليل الثاني: استحسان التسمية على كل شيء، قال في النوادر: " لا يأتي - يعني: ذكر التسمية - من طريق صحيح، والتسمية في كل شيء حسنة ". قلت: استحسان التسمية في كل شيء قول ليس بالصواب، بل المطلوب اتباع الشرع، فما تركت فيه التسمية كانت السنة تركه، وما فعلت فيه التسمية كانت السنة فعله، ثم ما ثبت فيه فعل التسمية ننظر فيه، فإن ورد فيه ما يدل على الشرطية كقوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} (¬2)، اعتبرنا التسمية شرطاً في حلها، وما لم يرد ما يدل على الشرطية، فإن كان فيه ما يدل على الوجوب، اعتبرنا التسمية واجبة، وإلا بقيت على الاستحباب، وليس كل عبادة مشروعة تكون التسمية فيها مشروعة، فالتسمية في العبادات منها ما هو شرط كالذبح، ومنها ما هو مستحب كما في قراءة القرآن إذا افتتحت القراءة بأول السورة، بل قد تستحب في بعض المباحات كالأكل والشرب، ومنها ما هو بدعة، كالتسمية في الأذان وفي الإقامة وفي الصلاة وفي الحج والعمرة ونحوها، فليس كل فعل تشرع فيه التسمية. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: وردت أحاديث كثيرة في مشروعية التسمية في الوضوء، بلفظ: (لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) ورد ذلك من حديث أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وسهل بن سعد، وعلي بن أبي طالب، وسعيد بن زيد، وأنس وعائشة رضي الله عنهم أجمعين، وإن كان في أسانيدها مقال، فإنها صالحة للحجة بالمجموع (¬1). فإذا ثبتت التسمية في طهارة الماء، كانت التسمية مشروعة في التيمم، لأنه بدل عن طهارة الماء (¬2). وأجيب: لا نسلم أن التسمية مشروعة في الطهارة المائية، وقد تقدم بحث التسمية في الطهارة المائية من وضوء وغسل، وتبين أن التسمية فيهما غير مشروعة، وإذا بطل الأصل بطل الفرع، ولو أخذنا بظاهر أحاديث " لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه " لقلنا: إن التسمية شرط في صحة الوضوء، من تركها ولو سهواً لم يصح وضوؤه، وكان لزاماً عليهم القول بأن منزلة التسمية في الوضوء، كمنزلة الوضوء للصلاة، ولما لم تكن هذه الأحاديث بتلك الصحة لم يذهب الجمهور إلى أن التسمية شرط، بل لم يذهبوا إلى القول بالوجوب إلا رواية عن الإمام أحمد، وعليه فنقول لهم: لا تحتجوا علينا بأحاديث أنتم أنفسكم لا تقولون بمقتضاها، والله المستعان. ¬
دليل الحنابلة على وجوب التسمية مع الذكر
دليل الحنابلة على وجوب التسمية مع الذكر: لما كان الحنابلة يوجبون التسمية في الطهارة الصغرى، أوجبوها في بدلها، وهو التيمم، فإذا ثبتت التسمية في طهارة الأصل ثبتت في طهارة البدل؛ لأن البدل له حكم المبدل. ويجاب عن ذلك: أولاً: لم تثبت مشروعية التسمية في الوضوء حتى يثبت حكمها في التيمم هذا من جهة. ومن جهة أخرى على القول بثبوت التسمية في الوضوء، وهو قول ضعيف، فلا يلزم منه ثبوت التسمية في التيمم، قال شيخنا محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى: " قد يعارض في هذا، فيقال: إن التيمم ليس له حكم المبدل في وجوب تطهير الأعضاء؛ لأن التيمم إنما يطهر فيه عضوان فقط: الوجه والكفان في الحدث الأصغر والأكبر، فلا يقال: ما وجب في طهارة الماء وجب في طهارة التيمم، لكن الاحتياط أولى، فيسمي عند التيمم أيضاً، والمتأمل لحديث عمار بن ياسر، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا " يستفيد منه أن التسمية ليست واجبة " (¬1). قلت: ليس الاحتياط في قول التسمية في التيمم؛ لأن الاحتياط في العبادات عدم الفعل حتى تثبت المشروعية، وذلك لأن الأصل في العبادات الحضر حتى يقوم دليل على المشروعية، وإذا استفيد من حديث عمار عدم الوجوب، كان تارك التسمية لا يلام، بينما فاعل التسمية قد يقال عنه: إنه ¬
دليل من قال: التسمية غير مشروعة في التيمم
مبتدع، لأنه لا يوجد في التيمم حديث صحيح ولا ضعيف يذكر التسمية، وإذا اختلف في عبادة، هل هي مستحبة أو غير مشروعة كان الاحتياط تركها حتى نتيقن مشروعيتها، ويكفي أن الإمام مالكاً يقول في التسمية في الوضوء: لم أسمع بها في شيء، أهو يريد أن يذبح؟ ونقلنا كلامه أثناء تحرير الأقوال. دليل من قال: التسمية غير مشروعة في التيمم: الدليل الأول: الأصل في العبادت الحضر، حتى يرد دليل صحيح على المشروعية، وأحاديث التيمم ليس فيها ذكر التسمية، {وما كان ربك نسياً} (¬1). الدليل الثاني: أن آية التيمم في كتاب الله سبحانه وتعالى وأحاديث التيمم التي نقلت لنا في سنة المصطفى خلو من التسمية، فلو كانت مشروعة لذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه، ولما أغفل الصحابة رضي الله عنهم عن ذكرها، ولو كانت التسمية مشروعة لحفظها الله لنا، قال تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} (¬2)، ولم يذكر التسمية. (1457 - 89) ومنها ما رواه البخاري من طريق سعيد بن عبد الرحمن ابن أبزى، عن أبيه، قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجنبت فلم أصب الماء، فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت، ¬
القول الراجح
فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت فصليت، فذكرت للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه (¬1). فقوله: " إنما كان يكفيك هكذا " ولم يذكر التسمية، فلو كانت التسمية واجبة لما كفاه هذا الفعل. القول الراجح: القول بعدم مشروعية التسمية هو القول الذي يتمشى مع الأدلة، والأصل عدم المشروعية حتى تثبت التسمية في حديث صحيح خال من النزاع، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني: في تكرار المسح في التيمم
الفصل الثاني: في تكرار المسح في التيمم سبق لنا في الوضوء خلاف العلماء في استحباب الغسلة الثانية والثالثة في الوضوء، فهل يشرع تكرار المسح في التيمم مرتين وثلاثاً قياساً على الوضوء؟. فقيل: لا يشرع تكرار المسح للمتيمم، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ¬
دليل من قال: لا يشرع التكرار
وقيل: يستحب تكرار المسح، حكاه الرافعي وجهاً في مذهب الشافعية، وضعفه النووي (¬1). دليل من قال: لا يشرع التكرار: الدليل الأول: الأصل في العبادات المنع حتى يقوم دليل على الاستحباب، ولا يوجد دليل على استحباب تكرار التيمم، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بمسح الوجه واليدين، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار. الدليل الثاني: أن طهارة التيمم طهارة تقوم على المسح، فهي مبنية على التخفيف، بخلاف الطهارة المائية، ولذلك لم يشرع التكرار لما هو ممسوح بالماء، كمسح الرأس ومسح الخفين ومسح الجبيرة، فكيف لما هو ممسوح بالتراب. الدليل الثالث: (1458 - 90) ما رواه البخاري من حديث عمار، وفيه: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه (¬2). وجه الاستدلال: فكونه ينفخ في يديه دليل على سقوط استحباب التكرار؛ لأن تكرار المسح يستلزم تخفيف التراب على يديه، فلا يحوجه إلى نفخ يديه، فلما نفخ ¬
دليل من قال: يشرع التكرار
كان ذلك دليلاً على سقوط استحباب التكرار، والله أعلم. دليل من قال: يشرع التكرار: لما كان الوضوء يشرع فيه التكرار، فثبت الوضوء مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً، والتيمم بدل عن الماء، فيأخذ حكمه؛ لأن البدل له حكم المبدل. وقد أجبنا على هذا التعليل فيما سبق، وقلنا: إن البدل له حكم المبدل، وليس له صفة المبدل، فالمسح على الخفين بدل عن غسل الرجل، ولا يأخذ صفته، والله أعلم. الراجح: أنه لا يشرع تكرار المسح لعدم الدليل.
الفصل الثالث: في نفخ الأيدي بعد ضربهما في الأرض
الفصل الثالث: في نفخ الأيدي بعد ضربهما في الأرض اختلف أهل العلم في حكم نفخ الأيدي بعد ضربهما في الأرض، فقيل: يستحب النفخ، والغرض منه إزالة ما علق في اليدين من التراب؛ لأنه لا يجب عليه تلطيخ التراب على عضو التيمم، وهو دليل على أنه لا يشترط في التيمم التراب، وإنما يشترط الضرب من غير زيادة، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2). ¬
وقيل: يسن النفخ من أجل تخفيف التراب إن كان كثيراً بحيث يبقى بعد النفخ من التراب قدر الحاجة، وهذا لمن يشترط التراب في التيمم، وهو مذهب الشافعية، وبعضهم اعتبره قولاً قديماً للشافعي (¬1)، وبه قال إسحاق (¬2). ويفهم من القولين أنه إذا لم يكن تراب، فلا يسن النفض (¬3). وقال أحمد: لا يضره إن فعل أو لم يفعل (¬4). وقيل: يكره نفخ التراب، وهو رواية عن أحمد (¬5). ¬
الدليل على استحباب النفخ: (1459 - 91) ما رواه البخاري من حديث عمار بن ياسر، وفيه: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه (¬1). فثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه نفخ يديه بعد أن ضربهما الأرض، واختلف العلماء، هل هذا النفخ لكونه علق بيديه شيء، فخشي عليه الصلاة والسلام أن يصيب وجهه الكريم. أو علق بيده من التراب شيء له كثرة، فأراد تخفيفه لئلا يبقى له أثر في وجهه. ويحتمل أن يكون لبيان التشريع، فهذه ثلاثة أقوال لثلاثة احتمالات (¬2). وقد سقنا لك كل مذهب ومن قاله، والذي يظهر لي أن مذهب الحنفية هو أقوى المذاهب، وقد دللنا فيما سبق أن التراب ليس شرطاً في صحة التيمم، وأن المتيمم يصح تيممه إذا ضرب جنس الأرض، سواء كان تراباً أو غيره، فإذا ضرب الأرض وكان في يديه غبار يتقيه، فلينفخه، ولا حرج؛ لأن ¬
المطلوب هو ضرب الأرض باليدين ومسح الوجه واليدين بهما، وليس نقل التراب من الأرض. ونفخ اليدين ليس واجباً؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يذكره في آية التيمم، قال تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (¬1)، وكان ابن عمر لا ينفخ يديه، (1460 - 92) فقد روى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر أنه كان إذا تيمم ضرب بيديه ضربة على التراب، ثم مسح وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى، ثم مسح بهما يديه إلى المرفقين، ولا ينفض يديه من التراب. قال عبد الرزاق: وبه نأخذ (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). ¬
الفصل الرابع: في استحباب تقديم اليد اليمنى على اليد اليسرى
الفصل الرابع: في استحباب تقديم اليد اليمنى على اليد اليسرى ذهب الفقهاء إلى استحباب التيامن في التيمم، وهو تقديم مسح اليد اليمنى على اليد اليسرى (¬1). واعتبر المالكية ذلك من فضائل التيمم (¬2). ومستند هذا الاستحباب: (1461 - 93) ما رواه البخاري، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني أشعث بن سليم، قال: سمعت أبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، في شأنه كله. ورواه مسلم بنحوه (¬3). ¬
فإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستحب التيمن في الطهور، فقد جاء عن المصطفى أن التيمم طهور المسلم ما لم يجد الماء، فثبت استحباب تقديم اليمين فيه، والله أعلم. (1462 - 94) ومنه ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري، حدثنا أبو معاوية الضرير، عن الأعمش، عن شقيق، وفيه ذكر مناظرة بين أبي موسى وعبد الله بن مسعود، فكان منه أن قال أبو موسى: ألم تسمع قول عمار لعمر: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة، فأجنبت، فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة، ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك له، فقال: إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا، فضرب بيده على الأرض، فنفضها، ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله على الكفين، ثم مسح وجهه؟ فقال له عبد الله: أفلم تر عمر لم يقنع بقول عمار (¬1). [حديث عمار صحيح بالجملة، وتقديم مسح اليدين على الوجه انفرد به أبو معاوية عن الأعمش، وليس بمحفوظ] (¬2). وقال النووي: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: يستحب تقديم اليمنى في كل ما هو من باب التكريم كالوضوء، والغسل ولبس الثوب، والنعل والخف، والسراويل، ودخول المسجد، والسواك، والاكتحال وتقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط، وحلق الرأس والسلام من الصلاة، والخروج من الخلاء، والأكل والشرب، والمصافحة، واستلام الحجر الأسود، والأخذ والعطاء، وغير ذلك مما هو في معناه. ¬
ويستحب تقديم اليسار في ضد ذلك، كالامتخاط والاستنجاء، ودخول الخلاء، والخروج من المسجد، وخلع الخف والسراويل والثوب والنعل، وفعل المستقذرات، وأشباه ذلك. وقال ابن تيمية: قد استقرت قواعد الشريعة على أن الأفعال التي تشترك فيها اليمنى واليسرى تقدم فيها اليمنى إذا كانت من باب الكرامة كالوضوء والغسل، والابتداء بالشق الأيمن في السواك، ونتف الإبط، وكاللباس، والانتعال والترجل، ودخول المسجد والمنزل، والخروج من الخلاء، ونحو ذلك. وتقدم اليسرى في ضد ذلك، كدخول الخلاء، وخلع النعل، والخروج من المسجد، والذي يختص بإحداهما إن كان بالكرامة كان باليمين، كالأكل والشرب والمصافحة، ومناولة الكتب، وتناولها، ونحو ذلك (¬1). وإن كان ضد ذلك كان باليسرى، كالاستجمار، ومس الذكر، والاستنثار، والامتخاط، ونحو ذلك. اهـ ¬
الفصل الخامس: في تجديد التيمم
الفصل الخامس: في تجديد التيمم ذهب عامة الفقهاء إلى أنه لا يستحب تجديد التيمم (¬1)، وقيل: يستحب التجديد، وهو أضعف الوجهين في مذهب الشافعية (¬2). دليل من قال: لا يستحب: استدلوا: بعدم الدليل على المشروعية، والأصل في العبادات المنع. واستدلوا أيضاً: بأن المقصود من تجديد الوضوء النظافة ورفع الحدث، والتيمم طهارة ضرورة، وهو ملوث. والتعليل الأول أصح. واستدل من استحب التجديد: بالقياس على الوضوء، ولأنه بدل عنه، والبدل له حكم المبدل. والصحيح الأول، ولم يثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من فعله، ولا من قوله أن طلب تجديد التيمم، وترك النبي - صلى الله عليه وسلم - للعبادة سنة كفعله لها. وهذه المسألة مما يخالف فيه التيمم الوضوء؛ مع أنه بدل عنه، وهذا يدلك على أن القاعدة التي تقول: البدل له حكم المبدل، ليست على إطلاقها. ¬
الفصل السادس: في استقبال القبلة حال التيمم
الفصل السادس: في استقبال القبلة حال التيمم اعتبر المالكية استقبال القبلة حال التيمم من الفضائل (¬1). واعتبره الشافعية من الآداب (¬2)، ولا فرق بين الفضائل والآداب. وقد سبق أن الأئمة الأربعة على استحباب استقبال القبلة حال الوضوء، ولم أجد أحداً حكى الإجماع على استحباب استقبال القبلة إلا أن ابن مفلح قال: ولا تصريح بخلافه، وهو متجه في كل طاعة إلا لدليل. اهـ وهذه العبارة ليست حكاية للإجماع والله أعلم، خاصة إذا علمنا أنه لم ينقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يتحرى القبلة عند فعل الوضوء، ولا أمر به من قوله - صلى الله عليه وسلم -، والاستحباب لا يثبت إلا بدليل من فعله أو قوله عليه الصلاة والسلام. والقياس في العبادات من أضعف القياسات، وإذا لم يثبت استحباب استقبال القبلة في الوضوء، فكذلك الشأن في التيمم، ولا أعلم لهم دليلاً من كتاب أو سنة على هذا الاستحباب، والاستحباب حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي، فإذا لم يوجد لم يكن استحبابه جيداً، ولا أعلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بقوله، أو كان من فعله أنه إذا أراد أن يتيمم استقبل القبلة. ¬
ولو كان هذا في الدعاء لقيل له دليل إيجابي على ذلك، فقد استقبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - الكعبة حين دعا على الصفا وكذا حين دعا على المروة، كما استقبل القبلة بعد رميه الجمرة الأولى والوسطى من اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وأما استقبال القبلة حين الوضوء أو التميم فلا أعلم له أصلاً من الشرع، والله أعلم.
الفصل السابع: في إقبال اليدين وإدبارهما في التراب حال الضرب
الفصل السابع: في إقبال اليدين وإدبارهما في التراب حال الضرب ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى إلى استحباب إقبال اليدين وإدبارهما حال الضرب، مبالغة في الاستيعاب، ومعنى ذلك: أن يحركهما بعد الضرب أماماً وخلفاً مبالغة في إيصال التراب إلى أثناء الأصابع (¬1). ولا أعلم دليلاً من الكتاب ولا من السنة على إستحباب هذه الصفة، وهذا التعليل غير كاف في استحباب صفة لم ينقل فعلها من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا من صحابته الكرام، ولو كانت هذه الصفة مشروعة لفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولو فعلها لحفظت، ونقلت لنا. ¬
الفصل الثامن: في البداءة بأعلى الوجه حين المسح
الفصل الثامن: في البداءة بأعلى الوجه حين المسح ظاهر الأحاديث في صفة التيمم أنه لا استحباب في البداءة بشيء من الوجه، فكيف مسح وجهه فقد امتثل الأمر، سواء بدأ بأعلى الوجه أو بأسفله أو بغير ذلك، وهذا هو الصحيح؛ لأن الاستحباب حكم شرعي، يقوم على دليل شرعي، ولم يوجد. وقد صرح جماعة من أصحاب الشافعية باستحباب البداءة بأعلى الوجه، منهم المحاملي في اللباب، والرافعي. وقال صاحب الحاوي: مذهب الشافعي أنه يبتدئ بأعلى الوجه كالوضوء. قال: ومن أصحابنا من قال: يبدأ بأسفل الوجه، ثم يستعلي؛ لأن الماء في الوضوء إذا استعلى به انحدر بطبعه، فعم جميع الوجه، والتراب لا يجري إلا بإمرار اليد، فيبدأ بأسفله ليقل ما يصير على أعلاه من الغبار؛ ليكون أجمل لوجهه، وأسلم لعينيه (¬1). ¬
الفصل التاسع: في استحباب الصمت أثناء التيمم
الفصل التاسع: في استحباب الصمت أثناء التيمم سبق لنا أن الصمت عن كلام الناس من آداب الوضوء، وهو مذهب الحنفية (¬1)، المالكية (¬2). وقيل: يكره الكلام أثناء الوضوء، وهو قول في مذهب المالكية (¬3)، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وعد النووي من سنن الوضوء ترك الكلام من غير حاجة (¬5). وأما التيمم فلم أقف على استحباب الصمت فيه عند الحنفية والشافعية والحنابلة، ولم يذكروه من سنن التيمم أو من فضائله وآدابه. وذهب المالكية إلى اعتبار الصمت أثناء التيمم من فضائل التيمم (¬6)، ولا ¬
أعلم له دليلاً من الكتاب أو السنة على هذا الاستحباب، ولا أعرف أحداً غير المالكية اعتبروا الصمت من فضائل التيمم، فإن كانوا قاسوه على الوضوء، فلم يثبت النهي عن الكلام في الوضوء حتى يثبت في التيمم، (1463 - 95) وقد روى البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثني مالك بن أنس، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، أن أبا مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب أخبره، أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب تقول: ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره قالت: فسلمت عليه فقال: من هذه؟ فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال: مرحبا بأم هانئ، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد. الحديث. ورواه مسلم (¬1). فهذا في الكلام أثناء الغسل، والوضوء والتيمم مثله. ¬
الباب السابع: في مبطلات التيمم
الباب السابع: في مبطلات التيمم الفصل الأول: يبطل التيمم ما يبطل الوضوء سبق لنا نواقض الوضوء المتفق عليها والمختلف فيها، فما أجمع عليه العلماء على أنه يبطل الوضوء فإنه يبطل التيمم بالإجماع، كالبول والغائط والريح. وما اختلف في نقضه للوضوء اختلف في نقضه للتيمم، والترجيح هناك لا يختلف عن الترجيح هنا، فما رجحنا أنه مبطل للوضوء فإنه مبطل للتيمم، وما ترجح لنا أنه لا يبطل الوضوء فلا يبطل التيمم. ويبطل التيمم عن الحدث الأكبر بما يوجب الغسل، وقد قدمنا في كتاب الغسل موجباته المتفق عليها والمختلف فيها. قال ابن حزم:» وكل حدث ينقض الوضوء فإنه ينقض التيمم، هذا مما لا خلاف فيه من أحد من أهل الإسلام «(¬1). وقال في بدائع الصنائع:» وأما بيان ما ينقض التيمم، فالذي ينقض ¬
التيمم نوعان: عام، وخاص، أما العام: فكل ما ينقض الوضوء من الحدث الحقيقي والحكمي ينقض التيمم «(¬1). وقال المرداوي الحنبلي:» وأما مبطلات التيمم، فيبطل التيمم عن الحدث الأصغر بما يبطل الوضوء بلا نزاع، ويبطل التيمم عن الحدث الأكبر بما يوجب الغسل، وعن الحيض والنفاس بحدوثهما، فلو تيممت بعد طهرها من الحيض له، ثم أجنبت: جاز وطؤها لبقاء حكم تيمم الحيض، والوطء إنما يوجب حدث الجنابة على ما تقدم «(¬2). ولو تيمم للحدث الأصغر والأكبر معاً، ثم أحدث، فقيل: يبطل تيممه عن الحدث الأصغر، ويبقى تيممه عن الحدث الأكبر، وهو مذهب الحنفية (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). وقيل: يبطل تيممه كله، ويعود جنباً، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬6). ¬
تعليل الجمهور
تعليل الجمهور: أنه لو اغتسل من الجنابة بنية رفع الحدثين، ارتفعا، فإذا أحدث لم يعد إليه الحدث الأكبر، فكذلك التيمم. وتعليل المالكية: بأن التيمم مبيح لا رافع، فإذا تيمم للحدثين، ثم أحدث بطل تيممه، فإذا بطل تيممه رجع إلى حالته قبل التيمم، وهو كونه جنباً. والتعليل الأول أرجح، خاصة أننا رجحنا أن التيمم مطهر، وأنه بدل عن طهارة الماء، فيقوم البدل مقام المبدل إلا ما نص عليه الدليل. ¬
الفصل الثاني: يبطل التيمم وجود الماء
الفصل الثاني: يبطل التيمم وجود الماء المبحث الأول: وجود الماء قبل الصلاة إذا تيمم الرجل، ثم وجد الماء قبل دخوله في الصلاة، فهل وجود الماء يبطل تيممه؟. قيل: إذا وجد الماء بطل تيممه، وهو قول عامة أهل العلم (¬1). وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن والشعبي: إذا فرغ من التيمم لا يبطل بوجود الماء (¬2). ¬
دليل الجمهور
دليل الجمهور: الدليل الأول: قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} إلى قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬1)، فأوجب غسل هذه الأعضاء عند وجود الماء، ثم نقله إلى التراب عند عدمه، فمتى وجد الماء فهو مخاطب باستعماله بظاهر الآية (¬2). الدليل الثاني: الإجماع، قال ابن عبد البر:» أجمع العلماء أن من تيمم بعد أن طلب الماء فلم يجده، ثم وجد الماء قبل دخوله في الصلاة أن تيممه باطل، لا يجزيه أن يصلي، وأنه قد عاد بحاله قبل التيمم «(¬3). وقال القرطبي:» أجمعوا على أن من تيمم، ثم وجد الماء قبل الدخول ¬
الدليل الثالث
في الصلاة، بطل تيممه، عليه استعمال الماء «(¬1). وقال ابن المنذر: " أجمع عوام أهل العلم على أن من تيمم، ثم وجد الماء قبل دخوله في الصلاة أن طهارته تنقض، وعليه أن يتطهر، ويصلي، إلا حرف روي عن أبي سلمة فإنه فيما بلغني عنه أنه قال في الجنب، يتيمم، ثم يجد الماء، قال: لا يغتسل" (¬2). وجاء في حاشية قليبوبي وعميرة:» ومن تيمم لفقد ماء، فوجده، إن لم يكن في صلاة بطل تيممه بالإجماع «(¬3). الدليل الثالث: (1464 - 96) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (¬4). [إسناده حسن، وسبق تخريجه] (¬5). فقوله: " فإذا وجد الماء فليمسه بشرته " أمر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بوجوب مس الماء حين وجوده، وقد وجده قبل التلبس بالصلاة فوجب عليه مسه. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: أن التيمم بدل عن الماء، يراد لغيره، فإذا وجد المبدل قبل التلبس بالمقصود وجب الرجوع إليه. الدليل الخامس: سبق لنا في مبحث خاص أن التيمم مطهر إلى غاية وهو وجود الماء، ومن حكم الغاية أن يكون ما بعدها خلاف ما قبلها، فعند وجود الماء يصير محدثاً بالحدث السابق. دليل أبي سلمة على أنه لا يلزمه استعمال الماء. قال: إن التيمم طهارة صحيحة، ومتى صحت الطهارة فلا ينقضها إلا الحدث، وليس وجود الماء حدثاً حتى نقول ببطلان الطهارة. وأجيب بأمور منها: أولاً: القول بأن وجود الماء ليس بحدث مُسَلَّم به، ولا يصير المتيمم محدثاً بوجود الماء، وإنما الحدث السابق يظهر حكمه عند وجود الماء، وفرق بين أن يكون وجود الماء حدثاً، وبين قولنا: إنه عاد إليه حدثه السابق؛ لأن التيمم طهارة إلى حين وجود الماء، فإذا وجد الماء وجب عليه استعماله. ثانياً: أن هذا نظر في مقابل النص، فيعتبر نظراً فاسداً، لأن الدليل إذا قام على بطلان العبادة لم يعارض بالدليل النظري، (1465 - 97) فقد روى البخاري من حديث عمران بن حصين الطويل، وفيه: " فلما انفتل - صلى الله عليه وسلم - من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم،
الراجح
قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم، قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك. ثم ذكر في الحديث قصة الماء الذي أحدثه الله تعالى آية لنبيه عليه السلام، قال: " وكان آخر ذلك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء، وقال: اذهب فأفرغه عليك " (¬1). وكذلك يشهد لذلك ما رواه عبد الرزاق من حديث أبي ذر، وقد سقنا لفظه في أدلة القول الأول، وفيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (¬2). [حديث حسن] (¬3). فهذه الأحاديث تشهد على أن الطهور بالتراب إنما يصح مع عدم الماء، فإذا وجد الماء فلا يصح التطهر بالتراب، وأن الحدث السابق قبل التيمم يعود إلى العبد، سواء كان حدثاً أكبر أو أصغر. الراجح: القول الراجح الذي لا شك فيه أن المتيمم إذا وجد الماء قبل التلبس بالعبادة وجب عليه استعمال الماء لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ...} (¬4)، الآية فأمرت بالطهارة بالماء حين القيام إلى ¬
الصلاة، فإذا كان الماء موجوداً حال القيام إلى الصلاة، كان الفرض على العبد هو غسل أعضاء الوضوء في ذلك الماء، إلا أن ذلك مشروط بأن يدرك من الوقت ما يتسع لأن يتطهر بالماء، ويصلي قبل خروج الوقت، وأما إذا ضاق الوقت فإنه يصلي بالتيمم حتى ولو وجد الماء قبل الدخول في الصلاة، وقد بحثت في فصل مستقل فيما إذا خاف إن استعمل الماء أن يخرج الوقت، فهل يتيمم لإدراك فضيلة الوقت، أو يصلي الصلاة خارج الوقت لإدراك شرط الطهارة بالماء، وذكرنا أدلة كل فريق هناك، فأغنى بحثه السابق عن ذكر أدلته في هذا الفصل، والله أعلم.
المبحث الثاني: إذا وجد الماء أثناء الصلاة
المبحث الثاني: إذا وجد الماء أثناء الصلاة إذا قدر المتيمم على استعمال الماء، وهو في الصلاة، فهل يلزمه الخروج، أو يتم صلاته؟ في هذه المسألة اختلف أهل العلم، فقيل: تبطل صلاته، ويجب أن يتوضأ ويستأنف الصلاة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2)، واختيار ابن حزم (¬3). وقيل: يتم صلاته، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬4)، ورواية عن ¬
أحمد (¬1)،وقيل: إن أحمد رجع عن هذا القول فتكون المسألة عند الحنابلة رواية واحدة كقول الجمهور (¬2). وقيل: يتم صلاته إن كان تيممه يغنيه عن إعادة الصلاة، كما لو كان تيممه في السفر الطويل، وتبطل صلاته إن كان يجب عليه إعادة الصلاة، كما لو تيمم في الحضر، وهذا مذهب الشافعية (¬3). ¬
دليل من قال ببطلان الصلاة
وقيل: يتطهر، ويبني على صلاته، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬1). دليل من قال ببطلان الصلاة: الدليل الأول: (1466 - 98) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر، أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجنب، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (¬2). [إسناده حسن، وسبق تخريجه] (¬3). فأوجب استعمال الماء إذا وجده، وهو يشمل ما إذا كان قبل الصلاة، أو في أثناء الصلاة، أو بعد الصلاة، فإذا عاد إليه حدثه السابق أثناء الصلاة بطلت صلاته. الدليل الثاني: (1467 - 99) ما رواه البخاري من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب ح وعن عباد ابن تميم، ¬
الدليل الثالث
عن عمه أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً. وأخرجه مسلم (¬1). احتج به البيهقي في الخلافيات، ولولا أنه ذكره لم أذكره، لأن الحديث ليس في مسألتنا. وجه الاستدلال: أن الاستثناء معيار العموم، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ينصرف " نهي عن الإنصراف عن الصلاة. وقوله: "إلا أن يسمع صوتاً أو يجد ريحاً " اسثناء من النهي، ولو كان له أن ينصرف لوجود الماء لذكره الحديث. والحديث إنما سيق في معرض طرح الشك، والأخذ باليقين، ونحن نقول بذلك: فلا ينصرف إذا شك في وجود الماء، أما إذا تيقن وجود الماء، فإن عليه الانصراف كما لو تيقن الحدث، ثم إن الحديث سيق جواباً على سؤال عن الشك في الحدث أثناء الصلاة، وليس في موضوع البحث. الدليل الثالث: إذا كان وجود الماء قبل الصلاة يبطل التيمم بالإجماع إلا ما روي عن أبي سلمة، فكذلك وجود الماء أثناء الصلاة يبطلها. دليل من قال: يتم صلاته. قالوا: جعل الله للطهارة وقتاً، وجعل للصلاة وقتاً غيره، فوقت الطهارة: هو وقت القيام إلى الصلاة قبل الدخول فيها، ووقت الصلاة: هو وقت ¬
الدليل الثاني
الدخول في أدائها، وهو حينئذ غير متعبد بفرض الطهارة، إذ لا يجوز له أن يدخل في الصلاة إلا بعد فراغه من طهارتها، فإذا تيمم كما أمر، فقد خرج عن فرض الطهارة، وإذا كبر فقد دخل في فرض الصلاة، ولا يجوز نقض طهارة قد مضى وقتها، وإبطال ما صلى من الصلاة، كما فرض عليه وأمر به إلا بحجة من كتاب أو سنة أو إجماع. ويجاب: بأن فرض الطهارة لا شك أنه قبل الدخول في الصلاة، ويلزمه استصحاب حكم الطهارة، فلو ورد ما ينقض طهارته أثناء الصلاة بطلت، كما لو خرج منه ريح، ووجود الماء في حق المتيمم سبب في رجوع حدثه السابق، وإذا رجع حدثه السابق إلى بدنه بطلت صلاته كما لو أحدث فيها. الدليل الثاني: إذا تلبس بمقصود البدل: وهو الصلاة لم يلزمه الخروج، كما لو أنه شرع في الصيام، ثم قدر على العتق لم يجب عليه الانتقال على الصحيح. ويجاب عن هذا بجوابين: الأول: هناك فرق بين المسألتين، فوجود الماء سبب في رجوع الحدث السابق، وهذا مبطل بحد ذاته للصلاة، فإن من شروط صحة الصلاة مطلقاً أن يكون متطهراً من الحدث، فإذا رجع إليه حدثه لوجود الماء بطلت صلاته، بخلاف وجود الرقبة فليس مبطلاً للصيام، فمفسدات الصيام: هي الأكل والشرب والجماع، وليس وجود الرقبة يخل بعبادة الصوم لا من قريب ولا من بعيد، فاعتبر تلبسه بالصيام قبل قدرته على العتق كاف في براءة ذمته. الجواب الثاني: ما ذكره ابن رجب في قواعده:
قال: من تلبس بعبادة، ثم وجد قبل فراغها ما لو كان واجداً له قبل الشروع لكان هو الواجب، دون ما تلبس به، هل يلزمه الانتقال إليه، أم يمضي ويجزيه؟. هذا على ضربين: أحدهما: أن يكون المتلبس به رخصة عامة، شرعت تيسيراً على المكلف، وتسهيلاً عليه، مع إمكان إتيانه بالأصل على ضرب من المشقة والتكلف، فهذا لا يجب عليه الانتقال منه بوجود الأصل كالمتمتع إذا عدم الهدي، فإنه رخص له في الصيام رخصة عامة، حتى لو قدر على الشراء بثمن في ذمته، وهو ميسور في بلده لم يلزمه. الضرب الثاني: أن يكون المتلبس به إنما شرع ضرورة للعجز عن الأصل وتعذره بالكلية، فهذا يلزمه الانتقال إلى الأصل عند القدرة عليه، ولو في أثناء التلبس كالعدة بالأشهر، فإنها لا تعتبر بحال مع القدرة على الاعتداد بالحيض، ولهذا تؤمر من ارتفع حيضها لعارض معلوم، أن تنتظر زواله، ولو طالت المدة، وإنما جوز لمن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه أن تعتد بالأشهر؛ لأن حيضها غير معلوم، ولا مظنون عوده، وسواء كانت هذه المعتدة مكلفة قبل هذا بالاعتداد بالحيض كمن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه أن تعتد بالأشهر، ثم حاضت في أثنائها أو لم تكن مكلفة به كالصغيرة إذا حاضت في أثناء العدة بالأشهر". قال ابن رجب: وهاهنا مسائل كثيرة مترددة بين الضربين، منها: المتيمم إذا شرع في الصلاة، ثم وجد الماء، ففي بطلانها روايتان؛ لأن التيمم من حيث كونه رخصة عامة، فهو كصيام المتمتع، ومن حيث كونه ضرورة يشبه العدة بالأشهر، وبيان الضرورة أنه تستباح معه الصلاة بالحدث فإنه غير رافع له على المذهب، فلا يجوز إتمام الصلاة محدثاً مع وجود الماء الرافع له" (¬1). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: أن هذا المتيمم قد دخل في الصلاة بإذن من الشارع، ولم تثبت سنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - توجب قطع الصلاة بعد الدخول فيها بوجه مشروع. ويجاب: بأن قولكم قد دخل في الصلاة بوجه جائز مسلم، وأما قولكم بأنه لا توجد سنة توجب قطع الصلاة فإن هذا هو محل النزاع، وقد اتفقنا معكم أن الصعيد طهور المسلم بشرط عدم وجود الماء، وأن وجود الماء يوجب على المتيمم أن يمسه بشرته، فالنتيجة: أن المصلي بالتيمم قد صلى بالتيمم مع وجود الماء، ولم يمسه بشرته في عبادة من شرطها الطهارة بالماء مع وجوده، فكيف نصحح طهارة المتيمم مع وجود الماء والقدرة على استعماله، ولو سلمنا صحة بعض الصلاة قبل وجود الماء، فإننا لا يمكن أن نصحح القدر الباقي من الصلاة مع وجود الماء، وإذا تطرق الفساد إلى جزء من الصلاة فسدت كلها؛ لأن الصلاة يبنى آخرها على أولها. دليل الشافعية على التفريق بين الصلاة التي يلزمه إعادتها وبين غيرها. الشافعية بنوا تعليلهم على قول ضعيف، وهو أن الرجل إذا عدم الماء في الحضر تيمم وصلى، فإذا قدر على الماء وجب عليه إعادة الصلاة التي صلاها؛ لأن فقد الماء في الحضر عذر نادر، فألزموه أن يصلي الظهر مرتين: مرة بالتيمم، ومرة حين وجود الماء، فإذا كانت صلاته بالتيمم ليست مغنية له عن إعادة الصلاة، ولم تبرأ ذمته بذلك فلماذا الصلاة بالتيمم، وإن كان قد فعل ما أمر به، فقد برئت ذمته، فلماذا الإعادة، وسبق مناقشة هذا القول وبيان ضعفه، فإذا وجد الماء أثناء الصلاة، فإن كانت تلزمه إعادة الصلاة حسب
دليل من قال: يتطهر ويبني على صلاته
مذهبهم، بطلت صلاته؛ لأنه لما كانت الإعادة واجبة عليه، وقد وجد الماء، فوجب أن يشتغل بالإعادة، وإن كانت لا تلزمه الإعادة، لم تبطل صلاته، ويمضي فيها ولو وجد الماء في أثنائها. وهذا التفصيل ضعيف؛ لأنه بني على قول ضعيف من وجوب الإعادة على المتيمم في الحضر، والله أعلم. دليل من قال: يتطهر ويبني على صلاته: لم أقف لهم على دليل من الكتاب أو السنة في هذه المسألة، ولم تذكر الكتب التي رجعت إليها في ذكر هذا القول دليلاً لهم، ولعلهم قاسوا ذلك على من خرج منه رعاف، وهو في الصلاة،، فقد ثبت عن بعض الصحابة القول بالخروج من الصلاة، والوضوء، ثم البناء على ما مضى، من ذلك، وقد روي مرفوعاً، ولا يصح، وأما الموقوف فمنه: (1468 - 100) ما رواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، كان إذا رعف انصرف، فتوضأ، ثم رجع، فبنى، ولم يتكلم (¬1). [وهذا إسناد في غاية الصحة، وهو موقوف على ابن عمر] (¬2). (1469 - 101) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن علي بن صالح وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، قال: إذا وجد أحدكم في بطنه رزأً أو قيئاً أو رعافاً ¬
فلينصرف، فليتوضأ، ثم ليبن على صلاته ما لم يتكلم (¬1). [إسناده حسن] (¬2). (1470 - 102) ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان، عن عمران بن ظبيان، عن حكيم بن سعد أبي يحيى، عن سلمان، قال: إذا أحدث أحدكم في صلاته، فلينصرف غير راع لصنعه، فليتوضأ، ثم ليعد في آيته التي كان يقرأ (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). فهذه الآثار تبين أن الإنسان ممكن أن يبني على صلاته إذا وجد في أثنائها ما يقتضي الطهارة، وهو جار على خلاف القياس؛ لأن إيجاب الوضوء من الرعاف يعني: بطلان الطهارة، وبطلان الطهارة يلزم منه بطلان الصلاة كخروج البول والريح إذا خرجا من المصلي أثناء الصلاة، فإنه يجب استئناف الصلاة بعد إعادة الطهارة، فصحة الآثار عن الصحابة لا نقاش فيها، فإن ثبت الخلاف عن الصحابة كان الأمر واسعاً، وتقديم قول الصحابي الذي يوافق القياس أولى من غيره، وإن لم يثبت الخلاف بينهم، بحيث لا يعلم مخالف لقول من قال بالبناء، فإنا نقول به، ولو خالف القياس، لكن لا نتعداه إلى غيره، ولا ¬
الراجح من القولين
نقول به في وجود الماء أثناء الصلاة، وإنما يقتصر فقط على ما ورد عن الصحابة، والله أعلم. الراجح من القولين: بعد استعراض الأدلة نجد أن أقرب القولين إلى الصواب هو القول القائل بأنه يلزمه الخروج من الصلاة فإنه يعضده بعض النصوص المرفوعة كحديث أبي ذر رضي الله عنه، والله أعلم.
المبحث الثالث: إذا وجد المتيمم الماء بعد الفراغ من الصلاة
المبحث الثالث: إذا وجد المتيمم الماء بعد الفراغ من الصلاة إذا تيمم، ثم صلى، وبعد فراغه من الصلاة وجد الماء، فإن كان وجود الماء بعد خروج وقت الصلاة فلا إعادة عليه إجماعاً. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من تيمم صعيداً طيباً كما أمر الله، وصلى، ثم وجد الماء بعد خروج وقت الصلاة، لا إعادة عليه" (¬1). وإن وجد الماء قبل خروج وقت الصلاة، فهل تجب عليه إعادة الصلاة، أو تجزئه صلاته؟. اختلف أهل العلم في هذه المسألة، فقيل: لا يجب عليه أن يعيد صلاته، وهو مذهب الجمهور (¬2)، إلا أن المالكية استحبوا له الإعادة ما دام في الوقت، وحصل تقصير في طلب الماء (¬3). وقيل: يستحب له الإعادة مطلقاً، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬4)، وقول الأوزاعي رحمه الله تعالى (¬5). ¬
دليل من قال: لا يعيد صلاته
وقيل: إن رأى الماء بعد الفراغ من الصلاة نُظِر: فإن كان في الحضر أعاد الصلاة، وإن كان في السفر نظر: فإن كان في سفر طويل لم يلزمه الإعادة، وإن كان في سفر قصير، ففيه قولان: أشهرهما أنه لا يلزمه الإعادة، وهذا مذهب الشافعية (¬1). وقيل: تجب عليه الإعادة، وبه قال عطاء وطاووس والقاسم بن محمد، ومكحول وابن سيرين والزهري وربيعة (¬2). دليل من قال: لا يعيد صلاته: الدليل الأول: (1471 - 103) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن محمد ويحيى بن سعيد، عن نافع، أن ابن عمر تيمم، وصلى العصر وبينه وبين المدينة ميل أو ميلان، ثم دخل المدينة، والشمس مرتفعة، فلم يعد (¬3). [إسناده صحيح، وسبق تخريجه] (¬4). الدليل الثاني: أن من تيمم، وصلى، وفرغ من صلاته قبل وجود الماء فقد فعل ما أمر به شرعاً، ومن أوجب عليه الإعادة فإنه يطالب بحجة من كتاب الله، أو من ¬
الدليل الثالث
سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو من إجماع الصحابة، ولا يوجد حجة على بطلان عبادة كان صاحبها ممتثلاً الأمر الشرعي فيما فعل. الدليل الثالث: (1472 - 104) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن إسحق المسيبي، أخبرنا عبد الله ابن نافع، عن الليث بن سعد، عن بكر بن سوادة، عن عطاء ابن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً طيباً، فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وقال للذي توضأ وأعاد: لك الأجر مرتين (¬1). [رجح أبو داود أن الحديث مرسل، وأن ذكر أبي سعيد ليس بمحفوظ] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الرابع
وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صرح بأن ترك الإعادة من إصابة السنة، فمن علم السنة لزمه الأخذ بها، وعدم مخالفتها، وأما من صلى مجتهداً لا يعلم السنة في هذا، فله أجران بمجوع الاجتهادين: أجر على صلاته بالتيمم، وأجر على إعادة صلاته بالماء. الدليل الرابع: القياس، فكما أن من صلى جالساً لعلة، ثم فرغ من صلاته، ثم قدر على القيام في الوقت لا يعيد صلاته، فكذلك من صلى بالتيمم في وقت لم يوجد فيه الماء، ولم يكن قادراً على استعماله فإنه لا يعيد، ولو قدر على ذلك بعد فراغه من الصلاة، وفي الوقت. دليل من فرق بين الحضر والسفر: الشافعية بنوا تعليلهم على قول ضعيف، وهو أن الرجل إذا عدم الماء في الحضر تيمم وصلى، فإذا قدر على الماء وجب عليه إعادة الصلاة التي صلاها؛ ¬
دليل من قال: يستحب له الإعادة
لأن فقد الماء في الحضر عذر نادر، فألزموه أن يصلي الظهر مرتين: مرة بالتيمم، ومرة حين وجود الماء، فإذا كانت صلاته بالتيمم ليست مغنية له عن إعادة الصلاة، ولم تبرأ ذمته بذلك فلماذا الصلاة بالتيمم، وإن كان قد فعل ما أمر به، فقد برئت ذمته، فلماذا الإعادة، وسبق مناقشة هذا القول وبيان ضعفه، فإذا وجد الماء بعد الصلاة، فإن كانت تلزمه إعادة الصلاة حسب مذهبهم، بطلت صلاته؛ لأنه لما كانت الإعادة واجبة عليه، وقد وجد الماء، فوجب أن يشتغل بالإعادة، وإن كانت لا تلزمه الإعادة، لم تبطل صلاته، ولم يجب عليه إعادتها. وهذا التفصيل ضعيف؛ لأنه بني على قول ضعيف من وجوب الإعادة على المتيمم في الحضر، والله أعلم. دليل من قال: يستحب له الإعادة: لعلهم استحبوا له الإعادة خروجاً من خلاف من أوجب عليه الإعادة، والحقيقة أن الخروج من الخلاف ليس من أدلة الشرع المتفق عليها، ولا المختلف فيها، والاستحباب حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي من كتاب الله، أو من سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. دليل من قال: يجب عليه الإعادة: لم أقف على دليل لهذا القول في الكتب التي رجعت إليها، وكتب الخلاف التي وقفت عليها تذكر قولهم، ولا تسوق دليلهم، وهل يمكن أن يستدل له بحديث المسيء في صلاته، بقوله: " ارجع فصل فإنك لم تصل" (¬1). ¬
الراجح من الخلاف
وجه الاستدلال: أن المسيء في صلاته لم يكلفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إعادة تلك الصلوات التي لم يحسن صلاتها، وقد خرج وقتها، وخاطبه بإعادة الصلاة الحالية التي لم يزل وقتها قائماً، فهل يمكن أن يقال: يؤخذ من الحديث وجوب الإعادة ما دام الوقت قائماً. والحديث ليس فيه دليل؛ وذلك لأن المسيء في صلاته لم يمتثل الأمر الشرعي، بخلاف المتيمم الذي صلى بتيممه فقد كان ممتثلاً أمر ربه، بقوله {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬1)، فيكف يطالب بالإعادة، ثم إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين ردده ليعيد الصلاة ربما لم يكن لأجل الإعادة، فقد تكون الصلاة من قبيل النافلة، وكان بإمكانه تعليمه من أول مرة، وإنما ردده ليستشعر قدر حاجته إلى معرفة الصواب، وهذا الذي دفعه لأن يقول: "والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا، فعلمني " (¬2)، ولم ينقل أنه حين علمه الصواب رجع فصلى. الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأقوال والأدلة نجد أن القول بعدم إعادة الصلاة هو أقوى الأقوال، لقوة دليله وضعف أدلة المخالفين، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث: خروج الوقت
الفصل الثالث: خروج الوقت تكلمنا في شروط التيمم للصلاة اشتراط دخول وقت الصلاة عند الجمهور، وأنه لا يصح التيمم قبل دخول الوقت، والآن نتناول تأثير خروج وقت الصلاة على صحة التيمم، فإذا تيمم للصلاة، فهل يبطل التيمم بخروج الوقت، في هذا خلاف بين أهل العلم، فقيل: لا يبطل التيمم خروج الوقت، فإذا تيمم له أن يصلي ما لم يحدث أو يجد الماء، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يبطل التيمم بخروج الوقت، وهو المشهور مذهب الحنابلة (¬2). وأما مذهب المالكية والشافعية وإن لم ينصوا على أن خروج الوقت مبطل للتيمم إلا أنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك، حيث منعوا صلاة فريضتين بتيمم واحد (¬3)، واشترط المالكية الموالاة بين التيمم والصلاة، فإن وجد فاصل ¬
طويل بين التيمم والصلاة بطل تيممه، وهذا القول أبلغ من اعتبار خروج الوقت مبطلاً للتيمم (¬1). وسبب الخلاف بين الجمهور وبين الحنفية في المسألة اختلافهم في التيمم، هل هو رافع للحدث، أو مبيح لفعل المأمور مع قيام الحدث؟. يقول الكاساني الحنفي رحمه الله تعالى: "قال أصحابنا: إن التيمم بدل مطلق، وليس ببدل ضروري، وعنوا به أن الحدث يرتفع بالتيمم إلى وقت وجود الماء في حق الصلاة المؤادة، لا أنه يباح له الصلاة مع قيام الحدث، وقال الشافعي: التيمم بدل ضروري، وعنى به أن يباح له الصلاة مع قيام الحدث حقيقة للضرورة كطهارة المستحاضة «ثم قال:» وعلى هذا الأصل يبنى التيمم قبل دخول الوقت، أنه جائز عندنا، وعند الشافعي لا يجوز؛ لأنه بدل مطلق عند عدم الماء، فيجوز قبل دخول الوقت وبعده، وعنده بدل ضروري، فتتقدر بدليته بقدر الضرورة، ولا ضرورة قبل دخول الوقت، وعلى هذا يبنى أنه إذا تيمم في الوقت يجوز له أن يصلي ما شاء من الفرائض والنوافل ما لم يجد الماء أو يحدث عندنا، وعنده لا يجوز له أن يؤدي به فرضاً آخر غير ما تيمم لأجله" (¬2). ¬
وقد بنى الحنابلة دليلهم على أمرين: الأول: أن التيمم طهارته طهارة ضرورة، فتقدر بقدرها. وأنه يبيح فعل الصلاة، ولا يرفع الحدث. وقد ناقشت في مسألة مستقلة: هل التيمم يرفع الحدث، أو يبيح فعل المأمور مع قيام الحدث في مسألة مستقلة، وذكرنا أدلة الخلاف، والراجح فيها، فأغنى عن إعادته هنا، كما ناقشت في مسألة مستقلة: فيما إذا تيمم للصلاة فرضاً كانت أو نفلاً، هل له أن يصلي به فريضة أو نافلة أخرى، أو يجب أن يتيمم لكل صلاة؟ وذكرت أدلة الأقوال مع مناقشتها وبيان الراجح فأغنى عن إعادته هنا أيضاً. وقد تبين لنا من كل هذه المسائل أن التيمم بدل عن طهارة الماء، وأنه يرفع الحدث، وأن له أن يصلي به ما شاء من الفرائض والنوافل، سواء تيمم قبل الوقت، أو تيمم في الوقت وخرج عليه الوقت، وأن خروج الوقت ليس بناقض له. الأمر الثاني: القياس على طهارة المستحاضة، فكما أن المستحاضة طهارتها طهارة ضرورة، وقد أمرت أن تتوضأ لكل صلاة، فكذلك المتيمم يجب عليه أن يتطهر لوقت كل صلاة عند الحنابلة، أو لكل صلاة كما عند الشافعية والمالكية. ودليل المستحاضة عندهم: (1473 - 105) ما رواه البخاري من طريق أبي معاوية، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت:
جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا؛ إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (¬1). [زيادة قال هشام: قال أبي، الراجح أنها موقوفة على عروة، ورفعها غير محفوظ] (¬2). ويجاب بأمور: الأول: أن أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة موقوف على عروة. ثانياً: أن المرفوع من الأحاديث بأمر المستحاضة لكل صلاة، لا يثبت منها شيء. ¬
قال ابن رجب: " أحاديث الوضوء لكل صلاة قد رويت من وجوه متعددة، وهي مضطربة ومعللة " (¬1). ولهذا لم يذهب مالك بوجوب الوضوء على المستحاضة، قال ابن عبد البر: " والوضوء عليها - أي على المستحاضة - عند مالك على الاستحباب دون الوجوب، وقد احتج بعض أصحابنا على سقوط الوضوء بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فإذا ذهب قدرها فاغتسلي وصلي " ولم يذكر وضوءاً، قال: " وممن قال بأن الوضوء على المستحاضة غير واجب ربيعة وعكرمة ومالك وأيوب وطائفة " (¬2). ثالثاً: لو أخذتم بالقياس على وجوب الوضوء على المستحاضة، للزم الحنابلة القول بوجوب الوضوء لكل صلاة، كما هو مذهب الشافعية والمالكية، وذلك لأن الآثار الواردة في ذلك توجب على المستحاضة الوضوء لكل صلاة، وليس الوضوء لوقت كل صلاة، وبينهما فرق (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وإذا لم يجب الوضوء على المستحاضة لكل صلاة، كان القول ببطلان التيمم بخروج الوقت قياساً على المستحاضة قياس غير صحيح، وبهذا يتبين أن القول ببطلان التيمم بخروج الوقت قول ضعيف، والله أعلم. وبهذه المسألة نكون قد أنيهنا مبطلات التيمم، وبه نكون قد أنهينا الكلام على التيمم، بل وعلى طهارة الحدث من وضوء وغسل وبدلهما، وهو التيمم، فلله الحمد أولاً وآخراً، اللهم كما يسرت هذا البحث بفضلك ومَنِّك وكرمك، من غير حول مني ولا قوة إلا بك سبحانك، فتقبله مني، واجعله خالصاً لوجهك، لا أبتغي به إلا رضاك، ودفع سخطك، اللهم كفر به زلاتي، وارفع به درجاتي، وصحح به نياتي، واستر به عيوبي، اللهم إني أعوذ بك أن أقصد به أو بغيره من أعمال الآخرة شيئاً من حظ الدنيا مما يحبط به عملي، ويوجب غضبك عليَّ، اللهم ارزقني شكر نعمتك التي أنعمت علي، وأن أعمل صالحاً ترضاه، اللهم علمني ما ينفعني، وانفعني بما علمتني، واجعله حجة لي، ولا تجعله حجة علي، آمين آمين، اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آله وسلم.
[النجاسة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد،، لما وفق الله سبحانه وتعالى من إتمام البحث في طهارة الحدث، الأصغر والأكبر - فانتهيت من كتاب الوضوء: فرائضه وسننه ونواقضه والمسح على الحائل في ثلاثة مجلدات، وانتهيت من كتاب الغسل في مجلد كبير، ومن كتاب التيمم في مجلد مستقل، وكل هذه المباحث تعنى في طهارة الحدث، سواء بالماء، أو ببدله: التراب - ناسب أن أنتقل بحول الله وقوته إلى طهارة أخرى، وهي الطهارة من الخبث، (النجاسة) وهذا يستلزم أن نتعرف على الأعيان النجسة ونحرر خلاف العلماء فيها، ثم نتطرق إلى كيفية الطهارة الشرعية منها، ولا حاجة إلى ذكر منهج البحث، لأن هذا قد تم التنبيه عليه في الكتب السابقة، وستكون خطة البحث على النحو التالي إن شاء الله تعالى. خطة البحث: مقدمة الكتاب: وتشتمل على ثلاثة مباحث. المبحث الأول: في تعريف النجاسة. المبحث الثاني: الأصل في الأشياء الطهارة. المبحث الثالث: في أقسام النجاسات. في الأعيان النجسة: ويشتمل على أربعة أبواب. الباب الأول: فيما فيه حياة حيوانية الفصل الأول: في طهارة بني آدم.
المبحث الأول: في طهارة المسلم. المبحث الثاني: في طهارة المشرك. المبحث الثالث: في طهارة الميت من بني آدم. الفصل الثاني: في الحيوان حال الحياة. المبحث الأول: في حيوان مأكول اللحم. المبحث الثاني: في الجلالة. المبحث الثالث: في الحيوان محرم الأكل. الفرع الأول: فيما ليس له نفس سائلة. الفرع الثاني: في الحيوان الذي له نفس سائلة. المسألة الأولى: في الهر وما دونه في الخلقة. المسألة الثانية: في الحيوان المركوب كالحمار والبغل. المسألة الثالثة: في نجاسة الكلب. المسألة الرابعة: في نجاسة الخنزير. المسألة الخامسة: في نجاسة سباع البهائم والطير. الباب الثاني: في فضلات الحيوان الفصل الأول: في البول والغائط والروث المبحث الأول: في بول الآدمي وعذرته الفرع الأول: في بول الصبي. الفرع الثاني: ذكر العلة التي أوجبت التفريق بين بول الغلام والجارية.
الفرع الثالث: في البول والغائط من الآدمي الكبير. المبحث الثاني: في بول وروث الحيوان. الفرع الأول: في بول ورث الحيوان المأكول. الفرع الثاني: في بول وروث الحيوان غير المأكول. الفصل الثاني: من المني والمذي والودي من الحيوان. المبحث الأول: في مني الإنسان. الفرع الأول: في المني الخارج بعد الاستجمار. الفرع الثاني: في طهارة ماء المرأة. المبحث الثاني: في مني الحيوان. المبحث الثالث: في المذي. الفرع الأول: في مذي الإنسان. الفرع الثاني: في مذي الحيوان غير الآدمي. المبحث الرابع: في نجاسة الودي. الفصل الثالث: في حكم الدم. المبحث الأول: في نجاسة دم الحيض. المبحث الثاني: في نجاسة دم الإنسان من عرق ونحوه. المبحث الثالث: في دم الشهيد. المبحث الرابع: علقة الحيوان الطاهر. المبحث الخامس: في دم القلب واللحم والباقي في العروق بعد الذبح من الحيوان المأكول. المبحث السادس: في دم الكبد والطحال.
المبحث السابع: في دم السمك. الفصل الرابع: في القيء. الفصل الخامس: في حكم القلس. الفصل السادس: في رطوبة فرج المرأة. الفصل السابع: في اللبن. المبحث الأول: في طهارة لبن الآدمي الحي. المبحث الثاني: في طهارة لبن الآدمي الميت. المبحث الثالث: في لبن البهيمة المأكولة حال الحياة أو بعد التذكية الشرعية. المبحث الرابع: في لبن البهيمة المأكولة الميتة. الفصل الثامن: في القيح والصديد. الفصل التاسع: في بيض الحيوان. المبحث الأول: في بيض مأكول اللحم. المبحث الثاني: في بيض غير مأكول اللحم. المبحث الثالث: في البيض الفاسد. المبحث الرابع: سلق البيض بماء نجس. الباب الثالث: في الآسار. الفصل الأول: في سؤر الآدمي. الفصل الثاني: في طهارة سؤر الحيوان مأكول اللحم.
الفصل الثالث: في طهارة سؤر الحيوان غير مأكول اللحم. المبحث الأول: في سؤر الهرة وما دونها في الخلقة. المبحث الثاني: في طهارة سؤر البغل والحمار. المبحث الثالث: في سؤر سباع البهائم والطير. المبحث الرابع: في سؤر الخنزير. المبحث الخامس: في سؤر الكلب. الباب الرابع: في أحكام الميتة. الفصل الأول: في الميتة الطاهرة. المبحث الأول: في ميتة الآدمي. المبحث الثاني: في ميتة ما لا نفس له سائلة. المبحث الثالث: في ميتة البحر. الفصل الثاني: في الميتة النجسة. الفصل الثالث: في أجزاء الميتة. المبحث الأول: في عظم الميتة وقرنها وحافرها. المبحث الثاني: في شعر الميتة وريشها ووبرها. المبحث الثالث: في جلد الميتة. المبحث الرابع: في عصب الحيوان. المبحث الخامس: في لبن الميتة. الفرع الأول: في لبن الآدمي الميت. الفرع الثاني: في لبن البهيمة الميتة المأكولة اللحم. المبحث السادس: في بيض الحيوان الميت. المبحث السابع: في أنفحة الميتة.
الباب الخامس: في الجمادات. الفصل الأول: في طهارة الخمر. الفصل الثاني: في حكم الطيب الموجود فيه كحول. الفصل الثالث: في الحشيشة المسكرة. الباب السادس: في حكم الطهارة من النجاسة. الفصل الأول: في حكم إزالة النجاسة. الفصل الثاني: في الصلاة مع التلبس بالنجاسة. الفصل الثالث: هل التطهر من النجاسة على الفور أم على التراخي. الفصل الرابع: في اشتراط النية في إزالة النجاسة. الفصل الخامس: فيما يعفى عنه من النجاسات. مبحث: المعفو عنه هل هو طاهر حقيقة أم حكماً. الفصل السادس: في مذاهب العلماء في العفو عن النجاسات. الفصل السابع: فيما يحرم استعماله في إزالة النجاسة. المبحث الأول: إزالة النجاسة بالكتب الشرعية. المبحث الثاني: في إزالة النجاسة بالأطعمة. المبحث الثالث: إزالة النجاسة بالعظام والروث. الباب السابع: في كيفية إزالة النجاسة. الفصل الأول: في إزالة النجاسة بالماء.
المبحث الأول: في مشروعية إزالة النجاسة بالماء. المبحث الثاني: هل يتعين الماء لإزالة النجاسة. المبحث الثالث: هل يجب تكرار الغسل في إزالة النجاسة. المبحث الرابع: في بقاء لون أو رائحة النجاسة بعد التطهير. المبحث الخامس: إذا أمكن إزالة اللون أو الرائحة بإضافة مطهر مع الماء. المبحث السادس: في اشتراط عصر الثياب النجسة عند غسل النجاسة. المبحث السابع: في حكم الحت والقرص. المبحث الثامن: في كيفية تطهير نجاسة المذي. المبحث التاسع: في الكلام على غسالة النجاسة. الفصل الثاني: في كيفية التطهير بالنضح. المبحث الأول: في تطهير بول الذكر بالنضح. المبحث الثاني: في تطهير المذي يصيب الثوب. الفصل الثالث: في كيفية تطهير النجاسة بغير الماء. المبحث الأول: في كيفية التطهير بالمسح. الفرع الأول: تطهير الأشياء الصقيلة كالسيف والمرآة والسكين بالمسح. الفرع الثاني: في مسح البول والغائط بالحجارة. الفرع الثالث: في إزالة النجاسة بالمسح، هل هو مطهر حقيقة أو حكماً. الفرع الرابع: في وجوب تكرار المسح في إزالة النجاسة. المبحث الثاني: في التطهير بالدلك.
المبحث الثالث: في التطهير بالجفاف. المبحث الرابع: في التطهير بالاستحالة. الفصل الرابع: في كيفية تطهير المائع المتنجس. المبحث الأول: في كيفية تطهير الماء المتنجس. الفرع الأول: أن يزول تغير الماء الكثير بنفسه. الفرع الثاني: أن يزول تغير الماء بإضافة ماء آخر عليه. الفرع الثالث: أن يزول تغير الماء النجس بإضافة تراب أو طين. الفرع الرابع: أن يزول تغير الماء النجس عن طريق النزح. المبحث الثاني: في تطهير المائعات سوى الماء. الفصل الخامس: في كيفية تطهير الأرض المتنجسة. الفصل السادس: في كيفية تطهير بعض النجاسات المخصوصة. المبحث الأول: في كيفية التطهير من ولوغ الكلب. الفرع الأول: في عدد الغسلات من نجاسة الكلب الفرع الثاني: في وضع الصابون والأشنان بدلاً من التراب. الفرع الثالث: في تعفير الإناء بتراب نجس. الفرع الرابع: في كيفية الطهارة من بول الكلب ورجيعه. الفرع الخامس: هل تقوم الغسلة الثامنة مقام التراب. الفرع السادس: في صفة التطهير بالتراب. المبحث الثاني: في كيفية التطهير من نجاسة الخنزير.
هذا ما يسر الله سبحانه وتعالى دراسته من أحكام النجاسات، سائلاً المولى عز وجل بأسمائه وصفاته الحسنى كما تفضل علي بإنجازه، أن يمن علي بقبوله، وأن يجعله من عملي الصالح في حياتي وبعد موتي، وأن يرزق القبول من لدن طلبة العلم لينتفعوا به، وأن يجعل نيتي فيه التقرب إلى الله سبحانه وتعالى وحده، وخدمة ديني، وأن يرفع به الجهل عني، وعن إخواني من طلبة العلم، وأن يكون سبباً في التجاوز عن ذنوبي يوم العرض على الله سبحانه وتعالى، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. وكتبه أبو عمر دبيان بن محمد الدبيان السعودية - القصيم - بريدة.
مقدمة الكتاب
مقدمة الكتاب المبحث الأول تعريف النجاسة قدم الفقهاء عدة تعريفات للنجاسة، وهم في ذلك يعرفون النجاسة تارة، ويعرفون حكم النجاسة تارة أخرى بقولهم: النجاسة وصف يمنع من كذا وكذا، وهناك فرق بين تعريف عينها، وبين تعريف حكمها، وقد اخترت من كل مذهب تعريفاً وقمت بشرحه وبيان محترزاته، والله الموفق. تعريف الحنفية للنجاسة: قالوا: النجاسة: عين مستقذرة شرعاً (¬1). فقولهم: " عين " خرج به الوصف، فإنه معنى من المعاني. وقولهم: " مُستقذرة شرعاً " خرج به ما استقذر طبعاً، كالمخاط والبصاق، فإنهما مستقذران في عرف الناس وطبيعتهم، وإن كانا طاهرين شرعاً؛ وذلك لأن استقذارهم بالطبع والعرف، وليس بالشرع. تعريف المالكية للنجاسة: قالوا: صفة حكمية توجب لموصوفها منع جواز استباحة الصلاة به أو فيه (¬2). ¬
تعريف الشافعية
وهذا تعريف النجاسة بحكمها، وما سبق تعريف للنجس، وبعض الأصوليين يمنعون تعريف الشيء بحكمه، فكونها تمنع استباحة الصلاة به، إن كانت محمولة أو فيه إن كانت في المكان، هذا حكم النجاسة، وليس تعريفاً لماهية النجاسة. وقد قال بعضهم: وعندهم من جملة المردودِ ... أن تدخل الأحكام في الحدودِ ثم قد يعترض عليه باعتراض آخر: وهو الصلاة في الدار المغصوبة وكذلك الثوب المغصوب، فإنه قد قام به وصف يمنع من استباحة الصلاة فيه إن كان بالمكان، أو به، إن كان بالثوب، ولا يقال بنجاستهما، والله أعلم. تعريف الشافعية: قال المتولي: " حدها: كل عين حرم تناولها على الإطلاق مع إمكان التناول لا لحرمتها، زاد النووي: أو استقذارها أو ضررها في بدن أو عقل، والله أعلم " (¬1). قال: وقولنا: (على الإطلاق) احتراز من السموم التي هي نبات, فإنها لا يحرم تناولها على الإطلاق, بل يباح القليل منها، وإنما يحرم الكثير الذي فيه ضرر. قال: وقولنا: (مع إمكان التناول) احتراز من الأشياء الصلبة; لأنه لا يمكن تناولها, وقولنا: (لا لحرمتها) احتراز من الآدمي. ¬
تعريف الحنابلة
وما دفع النووي إلى هذه الزيادة قوله: وهذا الذي حدد به المتولي ليس محققاً فإنه يدخل فيه التراب والحشيش المسكر والمخاط والمني وكلها طاهرة مع أنها محرمة. وفي المني وجه أنه يحل أكله, فينبغي أن يضم إليها " لا لحرمتها أو استقذارها أو ضررها في بدن أو عقل والله أعلم ". وقال الزركشي في المنثور: واعلم أن ذا حد للنجس لا للنجاسة؛ فإن النجاسة حكم شرعي فكيف تفسر بالأعيان, وقال صاحب الإقليد: رسموها بحكمها الذي لا يعرف إلا بعد معرفتها لكل عين حرمت لا لمضرتها ولا تعلق حق الغير بها أو كل ما يبطل بملاقاته الصلاة (¬1). وعرف النجاسة بعض الشافعية بأنها: مستقذر يمنع من صحة الصلاة حيث لا مرخص (¬2). تعريف الحنابلة: قال المرداوي: " حد النجاسة كل عين حرم تناولها مع إمكانه , لا لحرمتها, ولا لاستقذارها , ولا لضرر بها في بدن أو عقل ". قاله في المطلع (¬3). قلت: هذا التعريف متفق مع التعريف الذي ارتضاه النووي من الشافعية. هذه تقريباً أفضل التعريفات التي قدمها الفقهاء، والمتأمل لها يجد أن الفقهاء جعلوا علة النجاسة: ¬
العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي
إما راجعاً إلى الاستقذار شرعاً، كالتعريف المختار عند الحنفية. أو راجعاً إلى تحريم التناول، كالتعريف المختار عند الشافعية والحنابلة. والحق أن الحكم للشيء بأنه نجس هو حكم متلقى من الشارع، لا مكان للاجتهاد في عين هل هي نجسة أو طاهرة، وذلك أن النجاسة على الصحيح معدودة لا محدودة. العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي: هناك وجه شبه بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي للنجس. فالنجس في لغة العرب: ضد النظافة والطهارة، فكل شيء يستقذر فهو نجس، وفي الشرع النجاسة: مستقذر مخصوص كالبول ونحوه. فالمخاط والبصاق مثلاً قذر لغة، وليس قذراً شرعاً، والبول قذر لغة وشرعاً. قال في المصباح المنير: نَجِسَ الشَّيْءُ نَجَسًا فَهُوَ نَجِسٌ مِنْ بَابِ تَعِبَ إذَا كَانَ قَذِرًا غَيْرَ نَظِيفٍ. وَنَجَسَ يَنْجُسُ مِنْ بَابِ قَتَلَ لُغَةٌ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَنَجُسَ خِلاَفُ طَهُرَ، وَمَشَاهِيرُ الْكُتُبِ سَاكِتَةٌ عَنْ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْقَذَرَ قَدْ يَكُونُ نَجَاسَةً فَهُوَ مُوَافِقٌ لِهَذَا وَالاسْمُ النَّجَاسَةُ وَثَوْبٌ نَجِسٌ بِالْكَسْرِ اسْمُ فَاعِلٍ وَبِالْفَتْحِ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ، وَقَوْمٌ أَنْجَاسٌ، وَتَنَجَّسَ الشَّيْءُ، وَنَجَّسْتُهُ. وَالنَّجَاسَةُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ: قَذَرٌ مَخْصُوصٌ، وَهُوَ مَا يَمْنَعُ جِنْسُهُ الصَّلاةَ كَالْبَوْلِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ (¬1). ¬
المبحث الثاني الأصل في الأشياء الطهارة
المبحث الثاني الأصل في الأشياء الطهارة هذا أصل عظيم من أصول الشريعة، يحتاج إليه الفقيه في كثير من الأعيان المختلف في طهارتها. قال ابن حزم: " من ادعى نجاسة أو تحريماً لم يصدق إلا بدليل من نص قرآن أو سنة صحيحة" (¬1). وقد دل على هذا أدلة كثيرة منها: من الكتاب قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} (¬2). قال الكاساني: أباح الانتفاع بالأشياء كلها, ولا يباح الانتفاع إلا بالطاهر (¬3). وقال في مغني المحتاج: " اعلم أن الأعيان جماد وحيوان, فالجماد كله طاهر; لأنه خلق لمنافع العباد, ولو من بعض الوجوه. قال تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} وإنما يحصل الانتفاع أو يكمل بالطهارة إلا ما نص الشارع على نجاسته " (¬4). وقال تعالى: {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} (¬5). ¬
وجه الدلالة من الآية: أن الله سبحانه وتعالى بين لنا أنه قد فصل لنا ما حرم علينا: والتفصيل: هو التبيين، ومعنى هذا أنه بيَّن المحرمات، فما لم يبيِّن تحريمه فليس بمحرم، وما ليس بمحرم فهو حلال، وكل حلال لنا فهو طاهر. وقد ذكر ابن تيمية: أن الطاهر ما حل ملابسته ومباشرته وحمله في الصلاة، والنجس بخلافه (¬1). وقال القرافي: والطهارة ترجع للإباحة (¬2). (1473 - 1) وأما الآثار، فمنها ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن داود بن صبيح، حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا محمد يعني ابن شريك المكي، عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذراً، فبعث الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو وتلا {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً} (¬3)، إلى آخر الآية (¬4). [إسناده صحيح] (¬5). ¬
وأما الإجماع، فقد قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: " الفقهاء كلهم اتفقوا على أن الأصل في الأعيان الطهارة، وأن النجاسات محصاة مستقصاة، وما خرج عن الضبط والحصر فهو طاهر، كما يقولون فيما ينقض الوضوء ويوجب الغسل، وما لا يحل نكاحه وشبه ذلك " (¬1). ¬
وقال أيضاً: " الأصل الجامع: طهارة جميع الأعيان حتى تتبين نجاستها، فكل ما لم يبين لنا أنه نجس فهو طاهر " (¬1). وأما البراءة الأصلية: قال الشوكاني: حق استصحاب البراءة الأصلية، وأصالة الطهارة أن يطالب من زعم بنجاسة عين من الأعيان بالدليل، فإن نهض به كما في نجاسة بول الآدمي وغائطه والروثة فذاك، وإن عجز عنه، أو جاء بما لا تقوم به الحجة، فالواجب علينا الوقوف على ما يقتضيه الأصل والبراءة" (¬2). وقال الشوكاني: " الحكم بنجاسة شيء يستلزم تكليف العباد بحكم، والأصل البراءة من ذلك، ولا سيما في الأمور التي تعم بها البلوى" (¬3). وبناء على هذه القاعدة الجليلة المهمة التي سنحتاج إليها كثيراً في بحثنا هذا، وذلك أنه إذا وقع نزاع في شيء، هل هو طاهر أو نجس؟ نطالب من قال بالنجاسة بالدليل من الكتاب، أو من السنة، أو من الإجماع، أو من القياس الصحيح، أو من قول صحابي لم يخالف، فإن أثبت لنا حجته، وإلا حكم للشيء بالطهارة، ولا نحتاج إلى دليل على طهارة هذه العين، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث أقسام النجاسات
المبحث الثالث أقسام النجاسات لما كان الكلام على تقسيم النجاسة إنما هو اصطلاح فقهي، فقد اختلفت المذاهب في تقسيم النجاسات، فالحنفية: يقسمون النجاسة: إلى حقيقية وحكمية. فالحقيقية: هي نجاسة الخبث، ويقسمونها إلى مرئية كالدم، وغير مرئية كالبول إذا جف مثلاً. والحكمية: هي نجاسة الحدث. وهذا بناء على مذهبهم في الحدث وأنه نوع من النجاسة، ولذلك فالماء المستعمل في رفع الحدث نجس عندهم على قول في مذهبهم كما بيناه سابقاً (¬1). كما يقسم الحنفية النجاسة إلى مغلظة ومخففة: فالمغلظة عند أبي حنيفة: ما ورد فيها نص لم يعارض بنص آخر، فإن عورض بنص آخر فمخففة. مثاله: دم الحيض نجس مغلظ لورود النص على نجاسته، ولم يعارض بنص آخر. بينما بول ما يؤكل لحمه نجس مخفف؛ لأن حديث " استنزهوا من البول" (¬2)، يدل على نجاسته، وحديث العرنيين، حيث أذن لهم بشرب أبوال ¬
الإبل يدل على طهارته، فلما عورض بنص آخر دل على أن نجاسته مخففة. وذهب أبو يوسف ومحمد إلى أن النجاسة المغلظة ما أجمع على نجاسته، والمخففة ما اختلف الأئمة في نجاسته. فروث ما يؤكل لحمه مغلظة عند أبي حنيفة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - " إنها ركس" (¬1)، ولم يعارض بنص آخر. والروث عند صاحبيه مخفف لقول مالك وأحمد بطهارته (¬2). وذهب الشافعية والحنابلة إلى تقسيم النجاسة باعتبار كيفية تطهيرها إلى ثلاثة أقسام: أ - مغلظة: وهي نجاسة الكلب والخنزير وما تولد منهما، فتحتاج إلى التسبيع والتتريب، بخلاف غيرها من النجاسات. ب ـ مخففة: وهي طهارة بول الرضيع الذكر، ويكفي في طهارتها النضح. جـ - متوسطة: وهي سائر النجاسات. كما قسم الشافعية والحنابلة النجاسة إلى قسمين: نجس العين: وهي النجاسة التي لا تطهر بحال إلا الخمر، فتطهر بالتخلل. ونجاسة حكمية: وهي النجاسة الطارئة على محل نجس (وهو ما يسمى بالمتنجس). وعلى هذا فتكون النجاسة إما نجساً أو متنجساً، فالنجس لا يطهر بحال، والمتنجس ما يمكن تطهيره (¬3). ¬
وقال النووي: الحكمية: هي التي تيقن وجودها ولا تحس كالبول إذا جف على المحل، ولم يوجد له رائحة ولا أثر، فيكفي إجراء الماء على المحل مرة. وأما العينية: فلا بد من محاولة إزالة ما وجد منها من طعم ولون وريح (¬1). وهذه التقاسم هي تقاسيم اصطلاحية كما سبق، تارة ترجع إلى ذات النجاسة، وتارة ترجع إلى كيفية تطهيرها، ولا مشاحة في الاصطلاح، والله أعلم. ¬
الباب الأول فيما فيه حياة حيوانية
الباب الأول فيما فيه حياة حيوانية الفصل الأول في طهارة بني آدم المبحث الأول في طهارة المسلم المحدث المسلم إذا كان متطهراً من الحدث الأصغر والأكبر فهو طاهر بلا خلاف بين أهل العلم (¬1). وإن كان محدثاً، سواء كان محدثاً حدثاً أكبر: كالجنب والحائض، أو حدثاً أصغر كما لو نام أو بال أو تغوط ونحوها، فقد اختلف فيه أهل العلم: فقيل: هو طاهر، وهو مذهب الجمهور (¬2)، وقول في مذهب الحنفية (¬3). ¬
دليل الجمهور
وقيل: إنه نجس نجاسة حكمية، وهو قول في مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يجب اعتزال الحائض، روي هذا عن ابن عباس (¬2)، ولا يثبت عنه، وروي عن عبيدة السلماني (¬3)، وهو قول شاذ. دليل الجمهور: الدليل الأول: لو كان المحدث نجساً لما صح حمله في الصلاة، وقد جاء في حديث أبي قتادة في الصحيحين: " أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي، وهو حامل أمامة بنت زينب " (¬4). الدليل الثاني: (1474 - 2) ما رواه البخاري من طريق حميد، عن بكر، عن أبي رافع، عن أبي هريرة قال: لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا جنب، فأخذ بيدي فمشيت معه حتى قعد فانسللت، فأتيت الرحل، فاغتسلت، ثم جئت وهو قاعد فقال: أين كنت يا أبا هر. فقلت له: فقال: سبحان الله، يا أبا هر إن المؤمن لا ينجس (¬5). ¬
الدليل الثالث
وقوله: إن المؤمن لا ينجس: يحتمل معنيين: الأول: إن المؤمن لا ينجس بهذا - أي بالحدث - وذلك أن أبا هريرة إنما كره جلوسه مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكونه جنباً، فقال له: إن المؤمن لا ينجس أي بهذا، وإن كان المؤمن قد تلحقه النجاسة الطارئة كغيره، فإذا أصاب بدنه نجاسة تنجس. فيكون الحديث دليلاً على طهارة بدن الجنب. المعنى الثاني: إن المؤمن لا ينجس أي طاهر بإيمانه، وهي طهارة معنوية، خاصة أن الحكم كان على وصف الإيمان، فيكون الإيمان مؤثراً في الحكم، فيكون المعنى: المؤمن طاهر بإيمانه. كقوله - صلى الله عليه وسلم -: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف (¬1). أي المؤمن القوي في إيمانه خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف في إيمانه، وليس المراد ما يستدل به أهل الرياضة على قوة الأبدان، فإن قوة البدن لا يتعلق بها مدح ولا ذم إلا حيث استعملت في طاعة الله سبحانه وتعالى، ولذلك كان ابن مسعود دقيق الساق، وهو من أفضل الصحابة. وحديث أبي هريرة في طهارة الجنب، وهو حدث أكبر، وأما طهارة الحائض فنذكره في الأدلة التالية. الدليل الثالث: (1475 - 3) ما رواه مسلم، من طريق ثابت بن عبيد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬
الدليل الرابع
ناوليني الخمرة من المسجد. قالت: فقلت: إني حائض. فقال: إن حيضتك ليست في يدك (¬1). ففي هذا الحديث دلالة على أنه لا ينجس من الحائض إلا موضع الأذى، فكما أن حيضتها ليست في يدها، فهي ليست في شيء من جسمها إلا موضع خروج الأذى، وهكذا سائر الأحداث. والله أعلم الدليل الرابع: (1476 - 4) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب، عن عمرة، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلي رأسه من المسجد، وهو مجاور، فأغسله وأنا حائض. ورواه البخاري أيضاً (¬2). قال الحافظ: وهو دال على أن ذات الحائض طاهرة، وعلى أن حيضها لا يمنع ملامستها (¬3). والحيض حدث، فدل على أن المسلم المحدث طاهر. الدليل الخامس: (1477 - 5) ما رواه مسلم، من طريق المقدام بن شريح عن أبيه، عن عائشة، قالت: كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على موضع فيِّ فيشرب، وأتعرق العرق، وأنا حائض، ثم أناوله النبي ¬
الدليل السادس
- صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على موضع فيّ. ولم يذكر زهير فيشرب (¬1). قال القرطبي: قولها: " أتعرق العرْق ": أي العظم الذي عليه اللحم، وجمعه عراق، وأتعرقه: آكل ما عليه من اللحم، وهذه الأحاديث متفقة الدلالة على أن الحائض لا ينجس منها شيء، ولا يجتنب إلا موضع الأذى فحسب" (¬2). الدليل السادس: (1478 - 6) ما رواه مسلم، قال حدثني زهير بن حرب، حدثنا عبد الرحمن ابن مهدي، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} (¬3)، فقال - صلى الله عليه وسلم -: اصنعوا كل شيء إلا النكاح فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير، وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أنه لم يجد عليهما (¬4). ¬
الدليل السابع
الدليل السابع: الإجماع: قال ابن المنذر رحمه الله: "وأجمعوا على أن عرق الجنب طاهر وكذلك الحائض " (¬1). وإذا كان عرقهما طاهرين، وهو خارج من جسدهما، كان جسدهما طاهراً. وقال النووي: قال العلماء: لا تكره مضاجعة الحائض، ولا قبلتها، ولا الاستمتاع بها فيما فوق السرة وتحت الركبة، ولا يكره وضع يدها في شيء من المائعات، ولا يكره غسلها رأس زوجها، أو غيره من محارمها، وترجيله، ولا يكره طبخها وعجنها، وغير ذلك من الصنائع، وسؤرها وعرقها طاهران. وكل هذا متفق عليه، وقد نقل الإمام أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري في كتابه في مذاهب العلماء إجماع المسلمين على هذا كله ودلائله من السنة ظاهرة مشهورة (¬2). وقال ابن تيمية: " وأبدان الجنب من الرجال والنساء طاهرة"، ثم قال: وهذا متفق عليه بين الأئمة أن بدن الجنب طاهر, وعرقه طاهر, والثوب الذي يكون فيه عرقه طاهر, ولو سقط الجنب في دهن أو مائع لم ينجسه, بلا نزاع بين الأئمة (¬3). وإذا ثبتت طهارة المحدث حدثاً أكبر، كان المحدث حدثاً أصغر طاهراً من باب أولى. ¬
دليل من قال: المحدث نجس نجاسة حكمية
دليل من قال: المحدث نجس نجاسة حكمية: الدليل الأول: قالوا: إن استعمال الماء لرفع الحدث يسمى طهارة، قال تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬1). والطهارة لا تكون إلا عن نجاسة؛ إذ تطهير الطاهر لا يعقل (¬2). ويجاب عنه: أولاً: سمي طهارة؛ لأنه يطهر العبد من الذنوب، لا أنه طهره من نجاسة حلت فيه، ولذلك لما اعتبر أبو هريرة حدثه نجاسة بين له - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " إن المؤمن لا ينجس ". متفق عليه، وقد يقال: سمي طهارة باعتبار اللغة، فإن الطهارة في اللغة النظافة وإزالة ما يستقذر وهذا الفعل متضمن لذلك. ثانياً: تجديد الوضوء يسمى طهارة شرعية مع أنه متطهر. الدليل الثاني: (1479 - 7) ما رواه مسلم، من طريق ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولاً (¬3). ¬
دليل من قال: يجب اعتزال الحائض حال الحيض
فلولا أن الجنب يؤثر في طهورية الماء لما نهى عنه، فهذا دليل على أن بدنه نجس. وأجيب: بأنه لم يتعرض رسول - صلى الله عليه وسلم - لحكم الماء، ولم يقل عليه الصلاة والسلام: إنه أصبح نجساً بمجرد الاغتسال فيه، فالحديث ليس فيه إلا النهي عن الاغتسال في الماء الدائم، حالة كون المغتسل جنباً، فإن قيل: ما الحكمة من النهي عن الاغتسال في الماء الدائم؟ يقال: إن الطباع مجبولة على كراهة استعمال الماء الدائم الذي يغتسل فيه من الجنابة، وقد يكون في بدنه شيء من المذي فيستقذر. دليل من قال: يجب اعتزال الحائض حال الحيض: الدليل الأول: قوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض} (¬1). واعتزال النساء: اعتزال لجميع بدنها. ومن باشرها لا يصدق عليه أنه اعتزلها. وأجيب: بأن الذي يوضح القرآن هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد بعثه الله سبحانه وتعالى ليبين للناس ما نزل إليهم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس عند مسلم (¬2)، وقد ذكرته بطوله: " اصنعوا كل شيء إلا النكاح ". ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1480 - 8) أخرج عبد الرزاق (¬1)، وأحمد (¬2)، وأبو داود (¬3)، والنسائي (¬4)، وابن جرير الطبري (¬5)، والبيهقي (¬6)، واللفظ للبيهقي، رووه كلهم من طريق الزهري، عن حبيب مولى عروة بن الزبير، أن ندبة مولاة ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته، أنها أرسلتها ميمونة إلى عبد الله بن عباس في رسالة، فدخلت عليه فإذا فراشه معزول عن فراش امرأته، فرجعت إلى ميمونة فبلغتها رسالتها، ثم ذكرت ذلك. فقالت لها ميمونة: ارجعي إلى امرأته فسليها عن ذلك، فرجعت إليها، فسألتها عن ذلك، فأخبرتها أنها إذا طمثت عزل فراشه عبد الله عنها، فأرسلت ميمونة إلى عبد الله بن عباس، فتغيظت عليه، وقالت: أترغب عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوالله إن كانت المرأة من أزواجه لتأتزر بالثوب ما يبلغ أنصاف فخذيها، ثم يباشرها بسائر جسده. [إسناده ضعيف] (¬7). وعلى فرض صحته فإنه لا يتوقع من ابن عباس رضي الله عنهما أن تبلغه ¬
سنة المصطفى ثم يبقى على رأيه المخالف لفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل والمخالف لقوله. فكونه لم يعترض على ميمونة دليل منه على التسليم والقبول لما أخبرته، وإذا رجحنا رجوعه عنه لم يبق قولاً له. والله أعلم. وممن رأى هذا الرأي عبيدة السلماني: (1481 - 9) فقد أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره: من طريقين، عن محمد ابن سيرين، قال: قلت لعبيدة السلماني: ما يحل لي من امرأتي إذا كانت حائضاً، قال: الفراش واحد، واللحاف شتى (¬1). [إسناده صحيح]. وهذا موقوف عليه، ولا حجة في قول أحد مع قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفعله، وقول عبيدة لا يخرق الإجماع المؤيد بالسنة الصحيحة الصريحة ما دام أن الأمر لم يثبت عن ابن عباس. بل الثابت عن ابن عباس خلافه. (1482 - 10) فقد روى ابن جرير الطبري في تفسيره: من طريق محمد بن عمرو، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث قال: قال ابن عباس: إذا جعلت الحائضُ ثوباً أو ما يكف الأذى، فلا بأس أن يباشر جلدها زوجها (¬2). [إسناده حسن لغيره] (¬3). ¬
قال النووي: " وأما ما حكي عن عبيدة السلماني وغيره، من أنه لا يباشر شيئاً منها بشيء منه فشاذ منكر غير معروف، ولا مقبول، ولو صح عنه لكان مردوداً بالأحاديث الصحيحة المشهورة، المذكورة في الصحيحين وغيرها من مباشرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فوق الإزار، وإذنه في ذلك بإجماع المسلمين قبل المخالف وبعده " اهـ (¬1). وقال الشوكاني: " وأما ما يروى عن ابن عباس، وعبيدة السلماني، أنه يجب على الرجل أن يعتزل فراش امرأته إذا حاضت فليس بشيء " (¬2). فالراجح: طهارة المسلم سواء كان محدثاً أو غير محدث، وسواء كان حدثه أكبر أم أصغر، وأما طهارته حال الممات فإننا سوف نتعرض له في باب مستقل عند الكلام على الميتة. ¬
المبحث الثاني في طهارة المشرك
المبحث الثاني في طهارة المشرك اختلف الفقهاء في بدن المشرك، هل هو طاهر أو نجس؟ فقيل: بدنه طاهر، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: بدنه نجس مطلقاً، وهو قول في مذهب المالكية (¬5)، وإليه ذهب ابن حزم رحمه الله تعالى (¬6). وقيل: المشرك طاهر حياً، ونجس ميتاً، وهو قول في مذهب المالكية (¬7). ¬
دليل من قال: إن بدن المشرك طاهر
دليل من قال: إن بدن المشرك طاهر: الدليل الأول: قوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} (¬1). وجه الاستدلال: يلزم من حل طعامهم لنا مع مباشرتهم لها طهارة أبدانهم، كما أباح لنا نكاح نسائهم، ويلزم من المعاشرة الزوجية مباشرة كل واحد من الزوجين للآخر، وفي هذا لا يسلم من إصابة عرقهن وريقهن، فدل على طهارة أجسادهن. اعتراض على الاستدلال: اعترض ابن حزم على هذا الاستدلال بقوله: فإن قيل: قد أبيح لنا نكاح الكتابيات ووطؤهن, قلنا نعم, فأي دليل في هذا على أن لعابها وعرقها ودمعها طاهر؟ فإن قيل: إنه لا يقدر على التحفظ من ذلك. قلنا: هذا خطأ, بل يفعل فيما مسه من لعابها وعرقها مثل الذي يفعل إذا مسه بولها أو دمها أو مائية فرجها ولا فرق, ولا حرج في ذلك, ثم هب أنه لو صح لهم ذلك في نساء أهل الكتاب, من أين لهم طهارة رجالهم أو طهارة النساء والرجال من غير أهل الكتاب؟ فإن قالوا: قلنا ذلك قياسا على أهل الكتاب. قلنا: القياس كله باطل, ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل, لأن أول بطلانه أن علتهم في طهارة الكتابيات جواز نكاحهن, وهذه العلة معدومة بإقرارهم في غير الكتابيات. والقياس عندهم لا يجوز إلا بعلة جامعة بين الحكمين, وهذه ¬
الدليل الثاني
علة مفرقة لا جامعة وبالله تعالى التوفيق. جواب على الاعتراض: يمكن الرد على ابن حزم رحمه الله بأنه إذا كانت المرأة من أهل الكتاب طاهرة، كان الرجل طاهراً ولا فرق، ولو سلم اعتراض ابن حزم على هذا الدليل فما جوابه عن أكل طعام أهل الكتاب، فإنهم يباشرونه بأيديهم، ويطبخونه بمياههم، وفي آنيتهم، ومن غير فرق بين طعام الرجل وطعام المرأة. (1483 - 11) فقد أخرج البخاري بسنده من حديث أبي هريرة في قصة وضع السم للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم؟ قالوا: نعم. قال: هل وضعتم في هذه الشاة سماً؟ قالوا: نعم. قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذباً نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك (¬1). (1484 - 12) وروى مسلم بإسناده من طريق عبد الله بن مغفل، قال: أصبت جراباً من شحم يوم خيبر قال: فالتزمته، فقلت: لا أعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً. قال: فالتفت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متبسماً، ورواه البخاري واللفظ لمسلم (¬2). الدليل الثاني: (1485 - 13) ما رواه البخاري من طريق سعيد بن أبي سعيد، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خيلا قبل نجد ¬
الدليل الثالث
فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد. الحديث قطعة من حديث طويل. ورواه مسلم أيضاً (¬1). وجه الاستدلال: لو كان الكافر نجس العين لما ربط ثمامة في المسجد وهو مشرك، فدل على طهارة بدن المشرك. اعتراض وجواب: اعترض على هذا الحديث بأنه كان قبل النهي عن دخول المشركين المسجد في قوله تعالى: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} (¬2)، فتكون الآية ناسخة للحكم الوارد في الحديث. ويجاب: بأن النهي عن دخول المسجد الحرام لا يشمل النهي عن دخول غيره من المساجد، وهذا النهي ليس خاصاً في مسجد الكعبة، بل ينهى عن دخول الحرم كله، وإن كان باقي الحرم قد يتبول فيه الإنسان ويتغوط، فهذا نهي خاص عن الحرم كله لا عن المسجد، فلا يقاس عليه غيره من البقاع إلا ما ورد الدليل بذلك. الدليل الثالث: (2486 - 14) ما أخرجه البخاري من حديث عمران بن حصين الطويل، وقد جاء فيه: ¬
الدليل الرابع
أن النبي وأصحابه شربوا من مزادة امرأة مشركة، وأن أحد الصحابة كان مجنباً فاغتسل من ذلك الماء. والحديث في صحيح مسلم دون قصة اغتسال الجنب (¬1). الدليل الرابع: (1487 - 15) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم. الحديث (¬2). [اختلف في سماع الحسن من عثمان، كما اختلف في وصله وإرساله، والراجح إرساله] (¬3). ¬
الدليل الخامس
وجه الاستدلال به، كالاستدلال بحديث ثمامة. الدليل الخامس: لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه توقي الكفار، وقد كانوا معهم في مكة قبل الهجرة، كما لم ينقل توقيهم لأهل الكتاب في المدينة، ولو كانوا أنجاساً لنقل توقيهم لهم، وغسل ما أصابهم منهم. دليل من قال بنجاسة المشرك. الدليل الأول: قوله تعالى: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} (¬1). ¬
الدليل الثاني
وجه الاستدلال: نهى الله سبحانه وتعالى عن دخول المشركين المسجد الحرام، وذكر العلة في ذلك، وهو أنهم نجس، فدل على نجاستهم نجاسة عينية، وإذا ورد لفظ نجس في الشرع حمل ذلك على الحقيقة الشرعية. وأجيب: بأن الحكم معلق على وصف، وهو الشرك، والشرك نجاسة معنوية، كما أن الإيمان طهارة معنوية في قوله: " إن المؤمن لا ينجس " (¬1)، وحمل المعنى على الحقيقة الشرعية هو الأصل، لكن إذا وردت قرينة تمنع من إرادة الحقيقة الشرعية لم يحمل عليها، فلما أذن في نكاح نساء أهل الكتاب، وأباح لنا طعامهم، علم أن الحقيقة الشرعية غير مرداة، فحملنا الآية على النجاسة المعنوية، والله أعلم. الدليل الثاني: (1488 - 16) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا حيوة، قال: أخبرني ربيعة بن يزيد الدمشقي، عن أبي إدريس، عن أبي ثعلبة الخشني قال: قلت: يا نبي الله إنا بأرض قوم من أهل الكتاب، أفنأكل في آنيتهم، وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم وبكلبي المعلم، فما يصلح لي؟ قال: أما ما ذكرت من أهل الكتاب، فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت ¬
اسم الله فكل وما صدت بكلبك غير معلم فأدركت ذكاته فكل (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأذن باستعمالها إلا بعد غسلها، فدل ذلك على نجاستها، وإذا كانت آنيتهم نجسة فمن باب أولى أن تكون أبدانهم نجسة كذلك. وأجيب بجوابين: الأول: لو كانت العلة النجاسة لأمر بغسلها مباشرة، فالنهي عن استعمالها مع وجود غيرها مطلق، سواء تيقنا طهارتها أم لا، والأصل في النهي المنع، لكن لما قال سبحانه وتعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} (¬2)، ومعلوم أن طعامهم مصنوع بأيديهم وأوانيهم، وأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - طعام أهل الكتاب في أحاديث صحيحة، فدل على أن الغسل من باب الاحتياط والاستحباب. الجواب الثاني: أن حديث أبي ثعلبة الخشني في قوم كانوا يأكلون في آنيتهم الميتة والخنزير، ويشربون فيها الخمر، ولذا أمر بغسلها إن لم يوجد غيرها، أما من يعلم أنهم لا يأكلون فيها الميتة ولا يشربون فيها الخمر فآنيتهم كآنية المسلمين. (1489 - 17) ويدل على هذا ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، ¬
الدليل الثالث
أن أبا ثعلبة الخشني قال: يا رسول الله إنى بأرضٍ أهلها أهل الكتاب، يأكلون لحم الخنزير، ويشربون الخمر، فكيف بآنيتهم وقدورهم؟ فقال: دعوها ما وجدتم منها بداً، فإذا لم تجدوا منها بداً فارحضوها بالماء، أو قال: اغسلوها ثم اطبخوا فيها وكلوا. قال: وأحسبنه قال: واشربوا (¬1). [أبو قلابة لم يسمع من أبي ثعلبة الخشني، واختلف في ذكر زيادة لحم الخنزير وشرب الخمر، والحديث في الصحيحين وليس فيه هذه الزيادة] (¬2). الدليل الثالث: (1490 - 18) ما رواه البخاري من طريق حميد، عن بكر، عن أبي رافع، عن أبي هريرة قال: لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا جنب، فأخذ بيدي فمشيت معه حتى قعد فانسللت، فأتيت الرحل، فاغتسلت، ثم جئت وهو قاعد فقال: أين كنت يا أبا هر؟ فقلت له، فقال: سبحان الله، يا أبا هر إن المؤمن لا ينجس (¬3). مفهومه: إن المشرك نجس. قلت: لا حاجة إلى الاستدلال بمفهوم الحديث، وعندنا منطوق الآية الكريمة: " إنما المشركون نجس " وقد أجبت عن الآية، وما كان جواباً عن الآية كان جواباً عن مفهوم حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ¬
دليل من قال: إن المشرك ينجس بالموت
دليل من قال: إن المشرك ينجس بالموت: لقد عقد فصل مستقل في حكم ميتة الآدمي، وذكر فيه أدلة كل قول، كما سيأتي في الباب الثالث إن شاء الله تعالى. والراجح أن بدن المشرك طاهر، وأن نجاسته نجاسة معنوية، وذلك لما يلي: أ - قوة أدلة هذا القول في مقابل ضعف أدلة القولين الآخرين. ب - سلامة أدلة هذا القول من المناقشة، وما نوقش منها فقد أمكن الجواب عنه، بينما نوقشت أدلة القولين الآخرين مناقشات مؤثرة دون إمكان الجواب المقنع عن ذلك، والله أعلم.
المبحث الثالث في الميت من بني آدم
المبحث الثالث في الميت من بني آدم اختلف العلماء في ميتة الآدمي، فقيل: نجس مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وقول عند الشافعية (¬2)، وقول عند المالكية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: طاهر مطلقاً، وهو الراجح في مذهب الشافعية (¬5)، والمالكية (¬6)، والمشهور عند الحنابلة (¬7). ¬
وقيل: المسلم الميت طاهر، والكافر الميت نجس، وهو قول في مذهب المالكية (¬1)، وقول عند الحنابلة (¬2)، واختيار ابن حزم (¬3). وقد ذكر أدلة كل قول في باب مستقل في حكم الميتة، فانظر الباب الرابع من هذا الكتاب، ورجحنا طهارة الميت مطلقاً، سواء كان مسلماً أم كافراً، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني في الحيوان حال الحياة
الفصل الثاني في الحيوان حال الحياة المبحث الأول في حيوان مأكول اللحم. الحيوان مأكول اللحم، إما أن يكون حياًّ، أو فارقته الحياة عن طريق التذكية الشرعية، وإما أن يكون ميتة، فإن كان حياً فهو طاهر بالإجماع. قال ابن حزم: وكل ما يؤكل لحمه فلا خلاف فيه أنه طاهر، قال تعالى: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} (¬1)، فكل حلال طيب، والطيب لا يكون نجساً بل هو طاهر (¬2). وإن كان الحيوان ميتة، وكان من حيوان البر، وكان له نفس سائلة، فإنه نجس بالإجماع أيضاً. وسيأتي تفصيل ذلك في باب مستقل عن الميتة وأنواعها إن شاء الله تعالى. ¬
المبحث الثاني في الجلالة
المبحث الثاني في الجلالة الفرع الأول: في تعريف الجلالة اختلف أهل العلم في تعريف الجلالة على أقوال: فقيل: ما كان علفها النجاسة، ولم يخلط بغيره، وأنتن لحمها من ذلك. قال السرخسي: تفسير الجلالة التي تعتاد أكل الجيف ولا تخلط، فيتغير لحمها, ويكون لحمها منتناً، فحرم الأكل; لأنه من الخبائث, والعمل عليها لتأذي الناس بنتنها, وأما ما يخلط فيتناول الجيف وغير الجيف على وجه لا يظهر أثر ذلك من لحمه, فلا بأس بأكله, والعمل عليه، حتى ذكر في النوادر: لو أن جدياً غذي بلبن خنزير فلا بأس بأكله; لأنه لم يتغير لحمه، وما غذي به صار مستهلكاً، ولم يبق له أثر, وعلى هذا نقول: لا بأس بأكل الدجاجة، وإن كانت تقع على الجيف; لأنها تخلط, ولا يتغير لحمها ولا ينتن (¬1). وقيل: الجلالة ما كان أغلب علفها النجاسة، وهو قول في مذهب الحنفية (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3)، وهو مذهب الحنابلة (¬4). ¬
وقال الكاساني من الحنفية: يكره أكل لحوم الإبل الجلالة، وهي التي الأغلب من أكلها النجاسة (¬1). وقيل: الجلالة: ما ظهر فيها أثر النجاسة من ريح ونتن، وهو قول في مذهب الحنفية (¬2)، ومذهب الشافعية (¬3). وهذا القول هو أقرب الأقوال؛ لأن النجاسة إذا لم يظهر لها أثر، وقد استحالت إلى مادة أخرى، فإن الاستحالة مؤثرة، فتعطى حكم ما استحالت إليه، إلا أنه في الحالة التي يظهر فيها أثر للنجاسة فإن هذا دليل على التغير بالنجاسة، فإذا كان الماء الذي خلق طهوراً، ويدفع النجاسة عن غيره فإذا تغير بالنجاسة حكمنا له بالنجاسة، فما بالك بغير الماء، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني: في حكم لحم الجلالة وركوبها وشرب لبنها
الفرع الثاني: في حكم لحم الجلالة وركوبها وشرب لبنها اختلف أهل العلم على أقوال، فقيل: يكره كراهة تنزيه، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والصحيح من قولي الشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). وقيل: لا بأس بذلك، وهو مذهب المالكية (¬4)، وإليه ذهب الحسن البصري (¬5). وقيل: يحرم، وهو قول في مذهب الشافعي (¬6)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬7)، واختاره ابن حزم (¬8). ¬
دليل من قال بالكراهة أو التحريم
دليل من قال بالكراهة أو التحريم: الدليل الأول: (1491 - 19) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى، عن هشام، حدثنا قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبن شاة الجلالة، وعن المجثمة، وعن الشرب من في السقاء (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1492 - 20) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا سهل بن بكار حدثنا وهيب عن ابن طاوس عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وعن الجلالة عن ركوبها وأكل لحمها (¬1). [رواه وهيب عن ابن طاووس، فوصله، ورواه معمر عن ابن طاووس معضلاً، وهو المحفوظ] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1493 - 21) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا أحمد بن أبي سريج، أخبرني عبد الله بن جهم، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن أيوب السختياني، عن نافع، ¬
عن ابن عمر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها أو يشرب من ألبانها (¬1). [إسناده حسن وعمرو بن أبي قيس قد توبع في أيوب] (¬2). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (1494 - 22) رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا شبابة، حدثنا مغيرة بن مسلم، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلالة أن يؤكل لحمها، أو يشرب لبنها (¬1). [إسناده حسن إن شاء الله] (¬2). دليل من قال: لا بأس بالجلالة ركوباً وحلباً ولحماً. الدليل الأول: إذا اعتبرنا أن الاستحالة مؤثرة في تحول العين النجسة إلى طاهر، كالخمرة تتحول إلى خل ونحوها، فكذلك هذه النجاسة التي أكلتها الدابة قد تحولت إلى عين طاهرة، فلا يبقى لها حكم، والله أعلم. الدليل الثاني: أن النجاسة في مقرها لا حكم لها، فهذا البول والغائط من الإنسان ما دام في جوفه لا يحكم لمن يحمله بالنجاسة، فكذلك النجاسة التي أكلتها هذه الدابة لا يحكم لها بالنجاسة ما دامت في معدنها، وبالتالي لا يمكن أن تتنجس الدابة الطاهرة بعذرة في جوفها. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: تنجس الدابة لما تحمل في معدتها من نجاسة إنما هو تنجس بالمجاورة، والماء إذا تروح بريح نجسة حكمنا له بالطهارة كما حكي ذلك إجماعاً (¬1)، فكذلك تنجس الدابة إنما هو عن مجاورة النجاسة، فلا يحكم لها بالنجاسة. الدليل الرابع: قالوا: إن المسلم قد يبتلى بشرب الخمر، والكافر يشربه ويأكل الخنزير، ولا يكون ظاهرهما نجساً؛ إذ لو تنجسا ما طهرهما الاغتسال، ويلزم من قولهم: إن الجلالة نجسة أن تكون نجسة قبل أكل النجاسة؛ لأنها متولدة من المني، والمني من الدم، والدم عندهم نجس. الدليل الخامس: استدل بعضهم بقوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس} (¬2). ولم تذكر الجلالة، وهذا الاستدلال فيه نظر؛ لأن ما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكمه حكم ما نهى عنه الله سبحانه وتعالى، وقد تكون الآية خرجت على سبب فيما كان يحرمه أهل الجاهلية مما حكاه الله عنهم، وقد حرم الله أيضاً المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، وحرم الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وهو زيادة على آية {قل لا أجد فيما ¬
الراجح من الخلاف
أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه} (¬1). الراجح من الخلاف. بعض أدلة المالكية فيه قوة، ولكن لا مجال للنظر وفي المسألة أثر صحيح، خاصة حديث ابن عباس فإن رجاله رجال الصحيح، لكن يقال: قوة أدلة المالكية تجعل الباحث يحمل الأحاديث على الكراهة بدلا من حملها على التحريم، فنقول: يكره أكل لحوم الجلالة ما دامت النجاسة لها أثر في لحمها ونتنها؛ لأن النهي من الشارع مشترك بين التحريم والكراهة، والأصل فيه التحريم إلا لقرينة، ومن القرائن أن يكون النهي من أجل الآداب لا من أجل العبادة، والطعام له أثر على الإنسان والحيوان، فإن الإنسان إذا أكل بعض الأكل وجد ريحه في عرقه كالحلبة والثوم، فما بالك إذا أنتن من أكل النجاسة، وكذلك الدابة تأكل الطعام الطيب فيظهر في لبنها، ويخلط لها الأكل الرديء فيظهر أيضاً في جودة لبنها، ومع ذلك لا يمكن أن يقال: إن لبن الحيوان نجس إذا ظهر فيه ريح النجاسة، لكن الكراهة لها وجه قوي جداً. ومتى يحل أكل الجلالة؟ يحل أكلها إذا ذهب عنها ريح النجاسة، وبعضهم لم يقيده بمدة معينة، وإنما علقه على ذهاب النتن والقذر. وبعضهم قدره بثلاثة أيام، وقد روي في ذلك أثر صحيح عن ابن عمر رضي الله عنه. (1495 - 23) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ¬
عمرو بن ميمون، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثاً (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬
وهذا أحسن ما ورد في حبس الجلالة. وقال في بدائع الصنائع: والأفضل أن تحبس الدجاج حتى يذهب ما في بطنها من النجاسة لما روي " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحبس الدجاج ثلاثة أيام ثم يأكله " وذلك على طريق التنزه وهو رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة عليهما الرحمة أنها تحبس ثلاثة أيام كأنه ذهب إلى ذلك للخبر ولما ذكرنا أن ما في جوفها من النجاسة يزول في هذه المدة ظاهرا أوغالباً (¬1). وقال الحافظ: وأخرج البيهقي بسند فيه نظر عن عبد الله بن عمرو مرفوعا أنها لا تؤكل حتى تعلف أربعين يوماً. وبعضهم حرمها مطلقاً إذا تغذت على النجاسة، ولو علفت بعد ذلك بالحلال، كابن حزم رحمه الله، قال: ولا يحل أكل لحوم الجلالة , ولا شرب ألبانها , ولا ما تصرف منها; لأنه منها وبعضها, ولا يحل ركوبها (¬2). ثم قال: روينا عن ابن عمر أنه كان إذا أراد أكلها حبسها ثلاثا حتى يطيب بطنها. قال أبو محمد: هذا لا يلزم لأنه إن كان حبسها من أجل ما في قانصتها مما أكلت فالذي في القانصة لا يحل أكله جملة؛ لأنه رجيع , وإن كان ¬
من أجل استحالة المحرمات التي أكلت فلا يستحيل لحمها في ثلاثة أيام, ولا في ثلاثة أشهر بل قد صار ما تغذت به من ذلك لحما من لحمها, ولو حرم من ذلك لحرم من الثمار والزرع ما ينبت على الزبل - وهذا خطأ. وقد قدمنا أن الحرام إذا استحالت صفاته واسمه بطل حكمه الذي علق على ذلك الاسم وبالله تعالى التوفيق (¬1). فكأن ابن حزم لا يرى علة في تحريم الجلالة إلا الاتباع فقط، وهو لا يرى الاستدلال بقول الصحابي رضي الله عنه، وهي مسألة خلافية، والجمهور على الاستدلال به، وهو الحق. فعلى هذا يكون القول الراجح أن الجلالة يكره أكل لحمها ما دام النتن قد ظهر في لحمها، فإذا ذهب النتن جاز أكلها، والثلاثة أيام غالباً ما يكون كافياً في إزالة النتن منها إذا حبست وعلفت طعاماً طيباً، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في الحيوان محرم الأكل
المبحث الثالث في الحيوان محرم الأكل الفرع الأول: فيما ليس له نفس سائلة تعريف الحيوان الذي لا نفس له سائلة (النفس): هو الدم، فما لا نفس له: أي لا دم له. جاء في المصباح المنير: " النفس: وهو الدم، ومنه قولهم: " لا نفس له سائلة: أي: لادم له يجري، وسمي الدم نفساً؛ لأن النفس التي هي اسم لجملة الحيوان، قوامها بالدم. والنفساء من هذا " اهـ (¬1). (1496 - 24) روى البخاري، قال: حدثنا المكي بن إبراهيم، قال: حدثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، أن زينب بنت أم سلمة حدثته، أن أم سلمة حدثتها، قالت: بينا أنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مضطجعة في خميصة إذ حِضْتُ، فانسللت، فأخذت ثياب حيضتي، قال: أنفست؟ قلت: نعم. فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة. ورواه مسلم (¬2). قال في الفتح: قال الخطابي: أصل هذه الكلمة من النفس وهو الدم (¬3). قال ابن عبد البر: قوله: " نفست " لعلك أصبت بالدم، يعني الحيضة، ¬
والنفس: الدم. ألا ترى إلى قول إبراهيم النخعي، وهو عربي فصيح، كل ما لا نفس له سائلة يموت في الماء لا يفسده. يعني: دماً سائلاً (¬1). وقيل: ما ليس فيه عظم. (1497 - 25) روى عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، في الجعل والزنبور وأشباهه إذا سقط في الماء أو وقع في الطعام والشراب: قال يؤكل ويشرب ويتوضأ منه وما يكون في الماء مما ليس فيه عظم فلا بأس به (¬2). والأول أصح من حيث اللغة والشرع. ¬
خلاف العلماء في الحيوان الذي لا دم له يجري
خلاف العلماء في الحيوان الذي لا دم له يجري قيل: هو طاهر مطلقاً، سواء تولد من شيء طاهر أو من شيء نجس، وسواء مات فيما تولد منه، أو مات في غيره، وسواء كان الميت مأكولاً أو غير مأكول. وهذا هو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: هو نجس، لكن إن تولد من شيء طاهر، ومات فيما تولد منه، لم ينجسه، كدود التمر والتين والجبن يموت فيها، وإن أخرج ومات في غيره، نجسه، وهو قول في مذهب الشافعية (¬5). وقيل: إن تولد من شيء طاهر، فهو طاهر مطلقاً، سواء مات فيما تولد منه أم لا، وإن تولد من شيء نجس، كصراصير الكنف، فهو نجس، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬6). ¬
دليل من قال بطهارة ما لا نفس له سائلة مطلقا
دليل من قال بطهارة ما لا نفس له سائلة مطلقاً. الدليل الأول: أن الله سبحانه وتعالى إنما حرم الدم المسفوح في قوله تعالى {أو دماً مسفوحاً} (¬1)، وما لا نفس له سائلة ليس له دم مسفوح، فيكون طاهر الدم، فلا ينجس بالموت. الدليل الثاني: قوله تعالى عن النحل {يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس} (¬2). قال الجصاص: فيه بيان طهارة العسل ومعلوم أنه لا يخلو من النحل الميت وفراخه فيه, وحكم الله تعالى مع ذلك بطهارته فأخبر عما فيه من الشفاء للناس, فدل ذلك على أن ما لا دم له لا يفسد ما يموت فيه (¬3). الدليل الثالث: (1498 - 26) ما رواه البخاري، من طريق عتبة بن مسلم مولى بني تيم، عن عبيد بن حنين مولى بني زريق، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء (¬4). ¬
وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري، (1499 - 27) رواه أحمد رحمه الله من طريق ابن أبي ذئب، قال: حدثني سعيد بن خالد، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا وقع الذباب في طعام أحدكم فامقلوه (¬1). [إسناده حسن] (¬2). وجه الاستدلال: قال ابن القيم: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمقله: وهو غمسه في الطعام، ومعلوم أنه يموت من ذلك، ولاسيما إذا كان الطعام حاراً، فلو كان ينجسه لكان أمراً ¬
الدليل الرابع
بإفساد الطعام، وهو - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر بإصلاحه، ثم عدي هذا الحكم إلى كل ما لا نفس له سائلة كالنملة والزنبور والعنكبوت وأشباه ذلك إذ الحكم يعم بعموم علته، وينتفي بانتفاء سببه، فلما كان سبب التنجس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته، وكان ذلك مفقوداً في ما لا دم له سائل انتفى الحكم بالتنجس لانتفاء علته (¬1). الدليل الرابع: لو حكمنا بنجاسة الماء الذي يقع فيه الذباب أو نحوه من الحشرات التي لا نفس لها سائلة لوقع الناس في الحرج؛ لأنه يتعذر صون الأواني عنها، والحرج مرفوع عن هذه الأمة، {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (¬2). الدليل الخامس: (1500 - 28) ما رواه الدارقطني، من طريق بقية، حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن بشر ابن منصور، عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا سلمان كل طعام وشراب وقعت فيه دابة ليس لها دم، فماتت فيه، فهو حلال أكله وشربه ووضوءه. قال الدارقطني: لم يروه غير بقية، عن سعيد الزبيدي، وهو ضعيف (¬3). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (1501 - 29) ما رواه عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن منبوذ، عن أمه، أنها كانت تسافر مع ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: فكنا نأتي الغدير فيه الجعلان أمواتاً، فنأخذ منه الماء. يعني: فيشربونه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
دليل من قال: بنجاسة ما لا نفس له سائلة
دليل من قال: بنجاسة ما لا نفس له سائلة. الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} (¬1)، وهذا ميتة. وقال تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة} (¬2). وهذا عام يشمل كل ميتة، سواء كان له نفس سائلة أم لا. وأجيب: أنتم لا تأخذون بعموم هذا اللفظ، فهذا شعر الميتة إذا جز حال الحياة لا تقولون بنجاسته، وهو جزء من الميتة، وهذا جلد الميتة يطهره الدباغ، وهو جزء من الميتة، فكونه يخرج من هذا العموم الذباب ونحوه مما لا دم له ليس بمستنكر، فيكون قد خص من هذا العموم ما لا دم له، كما خص غيره من الجلود إذا دبغت ونحوها. الدليل الثاني: (1502 - 30) من السنة، ما رواه البخاري من طريق الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أنه سمع ابن عباس يحدثه عن ميمونة، أن فأرة وقعت في سمن فماتت فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها فقال: ألقوها وما حولها وكلوه (¬3). ¬
وجه الاستدلال: أنه تنجس ما حول الفأرة حين ماتت، وهذا دليل على نجاسة الميتة، وهو عام في كل ميتة، ولا يخرج منه شيء إلا بدليل. قال ابن حزم: العجب من تفريق أبي حنيفة ومالك بين ما لا دم له يموت في الماء وفي المائعات، وبين ما له دم يموت فيها، وهذا فرق لم يأت به قط قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة, ولا قول صاحب، ولا قياس ولا معقول, والعجب من تحديدهم ذلك بما له دم، وبالعيان ندري أن البرغوث له دم والذباب له دم. فإن قالوا: أردنا ما له دم سائل, قيل: وهذا زائد في العجب ومن أين لكم هذا التقسيم بين الدماء في الميتات؟ وأنتم مجمعون معنا ومع جميع أهل الإسلام على أن كل ميتة فهي حرام, وبذلك جاء القرآن, والبرغوث الميت والذباب الميت والعقرب الميت والخنفساء الميت حرام بلا خلاف من أحد, فمن أين وقع لكم هذا التفريق بين أصناف الميتات المحرمات؟ فقال بعضهم: قد أجمع المسلمون على أكل الباقلاء المطبوخ وفيه الدقش الميت, وعلى أكل العسل وفيه النحل الميت وعلى أكل الخل وفيه الدود الميت, وعلى أكل الجبن والتين كذلك, وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمقل الذباب في الطعام. قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: إن كان الإجماع صح بذلك كما ادعيتم, وكان في الحديث المذكور دليل على جواز أكل الطعام يموت فيه الذباب كما زعمتم, فإن وجه العمل في ذلك أحد وجهين: إما أن تقتصروا على ما صح به الإجماع من ذلك وجاء به الخبر خاصة. ويكون ما عدا ذلك بخلافه, إذ أصلكم أن ما لاقى الطاهرات من الأنجاس فإنه ينجسها, وما خرج عن أصله عندكم فإنكم لا
ترون القياس عليه سائغا أو تقيسوا على الذباب كل طائر, وعلى الدقش كل حيوان ذي أرجل, وعلى الدود كل منساب. ومن أين وقع لكم أن تقيسوا على ذلك ما لا دم له؟ فأخطأتم مرتين: إحداهما أن الذباب له دم, والثانية اقتصاركم بالقياس على ما لا دم له, دون أن تقيسوا على الذباب كل ذي جناحين أو كل ذي روح. فإن قالوا: قسنا ما عدا ذلك على حديث الفأر في السمن. قيل لهم: ومن أين لكم عموم القياس على ذلك الخبر؟ فهلا قستم على الفأر كل ذي ذنب طويل, أو كل حشرة من غير السباع وهذا ما لا انفصال لهم منه أصلاً، والعجب كله من حكمهم: أن ما كان له دم سائل فهو النجس, فيقال لهم: فأي فرق بين تحريم الله تعالى الميتة وبين تحريم الله تعالى الدم؟ فمن أين جعلتم النجاسة للدم دون الميتة؟ وأغرب ذلك أن الميتة لا دم لها بعد الموت فظهر فساد قولهم بكل وجه (¬1). والجواب على ما أثاره ابن حزم، أن يقال: أولاً: ليس كل دم حرام، وإنما النص جاء في الدم المسفوح، فقال تعالى: {أو دماً مسفوحاً}. (1503 - 31) ثانياً: لا شك أن تحريم الميتة كان من أسبابها انحباس الدم، ولذلك روى البخاري في صحيحه من طريق سعيد بن مسروق، عن عباية بن رفاعة، عن جده أنه قال: يا رسول الله ليس لنا مدى فقال ما أنهر الدم وذكر ¬
اسم الله فكل ليس الظفر والسن أما الظفر فمدى الحبشة وأما السن فعظم. فقوله: ما أنهر الدم، دليل على أن انحباس الدم وعدم إنهاره مؤثر في حل الذبيحة. ثالثاً: جاء في حديث ابن عباس في مسلم: " إذا دبغ الإهاب فقد طهر" (¬1). فالإهاب لما كان متصلاً برطوبة النجاسة ودمها كان نجساً، فإذا دبغ قطعت عنه هذه النجاسات، فأصبح طاهراً، فما بالك بالحيوان الذي ليس فيه دم أصلاً. وقد ذكر ابن تيمية أن علة نجاسة الميتة، إنما هو لاحتباس الدم فيها، فما لا نفس له سائلة، ليس فيه دم سائل، فإذا مات لم يكن فيه دم يحتبس فيه، فلا ينجس، فالعظم ونحوه أولى بعدم التنجس من هذا، فإن العظم ليس فيه دم سائل، ولا كان متحركاً بالإرادة إلا على وجه التبع، فإذا كان الحيوان الكامل الإحساس، المتحرك بالإرادة، لا ينجس لكونه ليس فيه دم سائل، فكيف ينجس العظم الذي ليس فيه دم سائل. والذي يوضح هذا أكثر أن الله سبحانه وتعالى حرم علينا الدم المسفوح، قال سبحانه وتعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس} الآية (¬2). وعفا عن غير الدم المسفوح، مع أنه من جنس الدم، والله سبحانه وتعالى حرم ما مات حتف أنفه، أو بسبب غير جارح محدد، فحرم المنخنقة والموقوذة ¬
دليل من قال: يشترط أن يكون متولدا من طاهر
والمتردية والنطيحة، والفرق بينهما إنما هو في سفح الدم، فدل على أن سبب التنجس هو احتقان الدم واحتباسه، ثم قال: ولا يعارض هذا بتحريم تذكية المرتد والمجوسي، ولو سفح الدم؛ لأن التحريم تارة يكون لاحتقان الدم، كما هو الحال في المتردية والنطيحة، وما صيد بعرض المعراض، وتارة تكون لفساد التذكية، كذكاة المجوسي والمشرك (¬1). دليل من قال: يشترط أن يكون متولداً من طاهر. هذا المذهب يرى أن الاستحالة لا تطهر إلا ما ورد فيه النص، كالخمر تنقلب خلاً، فإذا تولد من نجس، كان أصله نجساً، وما كان أصله نجساً فهو نجس، فيعطى المستحيل حكم ما استحال منه. فإذا احترقت النجاسة وصارت رماداً، أو وقع الخنزير في الملاحة، وصار ملحاً، أو تكثف البخار المتصاعد من ماء نجس، فتحول إلى رطوبة، فإن كل هذا لا يحول الأعيان النجسة إلى طاهرة، فكذلك إذا تولد ما لا نفس له سائلة من النجاسات صارت عينه نجسة. والصحيح أن الاستحالة مؤثرة، فالاستحالة تقلب الطيب إلى خبيث، كالغذاء ينقلب إلى عذرة، وتقلب الخبيث إلى طيب، كاللبن من دم الحيض، وعلى القول بنجاسة الخمر فإنها إذا انقلبت خلاً بنفسها حكمتم بطهارتها وهكذا. قال ابن حزم: وإذا أحرقت العذرة أو الميتة أو تغيرت فصارت رماداً أو تراباً, فكل ذلك طاهر, ويتيمم بذلك التراب, برهان ذلك أن الأحكام إنما ¬
الراجح
هي على ما حكم الله تعالى بها فيه مما يقع عليه ذلك الاسم الذي به خاطبنا الله عز وجل, فإذا سقط ذلك الاسم فقد سقط ذلك الحكم, وأنه غير الذي حكم الله تعالى فيه. والعذرة غير التراب وغير الرماد, وكذلك الخمر غير الخل, والإنسان غير الدم الذي منه خلق, والميتة غير التراب (¬1). الراجح: الراجح قول من قال بطهارة ما لا دم له سائل، لأن الاستدلال بنجاسته بناء على أنه ميتة غير مستقيم، لأن هناك من أجزاء الميتة ما هو طاهر مطلقاً كالشعر، وهناك ما هو طاهر بالدباغ كالجلد، وحديث غمس الذباب ظاهر في الطهارة، وما كان مثل الذباب كان في حكمه، لأن الشرع لا يفرق بين متماثلين، وأثر الدم في نجاسة الميتة وطهارتها ظاهر، حيث اشترط في حل الذبيحة أن تكون الآلة مما تنهر الدم، وحرمت الموقوذة والمتردية لانحباس الدم فيها، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني في لحيوان الذي له نفس سائلة
الفرع الثاني في لحيوان الذي له نفس سائلة المسألة الأولى: في الهرة اختلف العلماء في حكم الهرة من حيث الطهارة والنجاسة،. فقيل: إن الهرة عينها نجسة، ولكن سقطت نجاسة سؤرها لعلة التطواف علينا، وبقيت الكراهة لإمكان التحرز منه، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: هي طاهرة، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ¬
دليل الحنفية
دليل الحنفية: الدليل الأول: (1504 - 32) ما رواه الترمذي في سننه، قال: حدثنا سوار بن عبد الله العنبري، حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أيوب يحدث، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات أولاهن أو أخراهن بالتراب، وإذا ولغت فيه الهرة غسل مرة. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، ثم قال: وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا ولم يذكر فيه إذا ولغت فيه الهرة غسل مرة (¬1). [المحفوظ أن غسل الإناء من ولوغ الهر موقوف على أبي هريرة، فلا حجة فيه فيما عارض المرفوع من حديث أبي قتادة] (¬2). ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني: (1505 - 33) ما رواه الطحاوي، قال: حدثنا أبو بكرة، ثنا أبو عاصم، عن قرة بن خالد، قال: ثنا محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين. قرة شك (¬1). [أخطأ فيه أبو عاصم في رفعه، والمحفوظ في رواية قرة كونه موقوفاً على أبي هريرة] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1506 - 34) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا عيسى بن المسيب، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الهر سبع (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
دليل الجمهور
دليل الجمهور: (1507 - 35) ما رواه مالك، عن إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة، عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك - وكانت تحت ابن أبي قتادة الأنصاري- أنها أخبرتها: أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا، فجاءت هرة لتشرب ¬
منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ قالت: فقلت: نعم، فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنها ليست بنجس؛ إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
فاشتمل الحديث على حكمين: الأول: طهارة عينها، بقوله: إنها ليست بنجس. الثاني: طهارة سؤرها. ولا يلزم من طهارة الثاني طهارة الأول، لأنه قد يقال: إنه عفي عن السؤر لعلة التطواف، لكن لما قال: إنها ليست بنجس علمنا طهارة عينها، والله أعلم. إلا أن الحنابلة أخذوا من طهارة الهرة أن ما كان مثلها فما دون في الخلقة فهو طاهر، وكأن الحكم علق في حجم الحيوان، وليس لعلة التطواف، والحديث صريح بأنها أعطيت الهرة حكم الطهارة لمشقة التطواف لا غير، ولم ينظر إلى حجم الهرة، فقد يقاس على الهرة كل حيوان محرم الأكل يشق التحرز منه، سواء كان في حجم الهرة أو أكبر أو أصغر، لأن الحجم لا يؤثر ¬
في الطهارة والنجاسة، وقد يحكم على حيوان أصغر حجماً من الهرة بأنه نجس، إذا كان محرم الأكل، ولم يشق التحرز منه. فتعليق الحكم بحجم الحيوان فيه محذوران: الأول: إهمال العلة التي نص عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -: وهي علة التطواف. الثاني: إعمال علة لم ينص عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو حجم الهرة. وعليه فالمشقة هي علة الحكم لا غير، والله أعلم.
المسألة الثانية: في الحيوان المركوب كالحمار والبغل
المسألة الثانية: في الحيوان المركوب كالحمار والبغل اختلف العلماء في الحمار والبغل: فتوقف الحنفية فيهما (¬1). وقيل: إنهما طاهران، وإليه ذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4)، اختارها ابن قدامة رحمه الله (¬5). وقيل: الحمار والبغل نجسان، وهو المشهور في مذهب الحنابلة (¬6). دليل الجمهور: الدليل الأول: الأصل في الأعيان الطهارة، ولا يحكم بنجاسة شيء إلا بدليل صحيح صريح، ولا دليل هنا. الدليل الثاني: قوله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} (¬7). ¬
الدليل الثالث
فذكر الله سبحانه وتعالى هذه الحيوانات في مقام الامتنان على عباده، في حل ركوبها واتخاذها زينة، ولو كانت نجسة لما أباحها لهم. الدليل الثالث: أن الحمار والبغل كانت تركب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا بد أن يصيب الراكبَ شيء من عرقها ولعابها، ولو كانت نجسة لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولنقل توقي الصحابة لذلك. الدليل الرابع: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حكم بطهارة الهرة لكونها من الطوافين علينا كما تقدم ذكر الدليل وتخريجه، والحمار والبغل يشتركان في هذه العلة، خاصة قبل ظهور السيارات وانتشارها، فقد كانت مركوب عامة الناس، ولا زالت مركوب كثير من الناس في المجتمعات الإسلامية الفقيرة، ويستعملها الرعاة في بواديهم، وإذا وجدت العلة وجد الحكم. دليل من قال بنجاسة الحمار والبغل: الدليل الأول: (1508 - 36) ما رواه البخاري من طريق محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال صبحنا خيبر بكرة، وفيه: فأصبنا من لحوم الحمر فنادى منادي النبي - صلى الله عليه وسلم - إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس (¬1). ¬
الدليل الثاني
وأجيب: بأن الخلاف ليس في لحوم الحمر الأهلية وإنما في أبدانها حال الحياة، الضمير في قوله: " فإنها رجس " عائد إلى اللحوم، وليس إلى الحمر، ونجاسة اللحوم لا يستلزم نجاسة الحيوان حال الحياة، لأن الحمار لا تحله التذكية، فإذا ذبح كان ميتة، ونجاسة الميتة معلوم من الشرع بالضرروة. ولذلك قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما قال لما قيل له: يا رسول الله أكلت الحمر، ولذلك أكفئت القدور بعد أن طبخت. ويحتمل أن قوله: إنها رجس: أي حرام، فلم يتعرض الحديث للنجاسة، كما في قوله تعالى في الخمر والميسر والأنصاب والأزلام إنها رجس، أي حرام، وإلا فالميسر لا يقال: إنه نجس، وكذلك الأنصاب والأزلام، والجواب الأول أقوى؛ لأن الغالب في إطلاق لفظة " ركس " على الحيوان إنما يراد بها أنه نجس، وإن كانت تطلق على غير المأكول والمشروب ويراد بها الحرام أحياناً، والله أعلم. الدليل الثاني: قالوا: إنه حيوان حرم أكله لا لحرمته، مع إمكان التحرز منه غالباً أشبه الكلب في النجاسة. وأجيب: بأن الكلب ورد فيه نص على نجاسة سؤره، ووجوب غسل الإناء من ولوغه سبعاً، وحرم اقتناؤه إلا لحاجة، بخلاف الحمار فإنه يجوز اقتناؤه للزينة، ولم يرد نص في غسل الإناء من ولوغه، ولم نؤمر بغسل ما أصاب ثيابنا من عرقه ولعابه، فأين وجه الشبه بين المقيس والمقيس عليه.
وأما القول بأنه يمكن التحرز منه في الغالب ففيه نظر، إذ لا يمكن لراكبه التحرز من عرقه فبدنه يلامس بدن الراكب، فيعرق بدن الحمار خاصة في البلاد الحارة، فيصيب ثياب الراكب وبدنه ولا بد. ذكر ما أوجب للحنفية التوقف في البغل والحمار: حيث كان التوقف في المسألة لا يعتبر دليلاً، لم أقدم ذكر أدلة الحنفية كالعادة حين ذكر الأدلة؛ لأن التوقف ليس من أدلة الشرع، والمتوقف هو ملتبس عليه الأمر، فلم يحرر في المسألة قولاً فضلاً أن يحرر دليلاً، وما أوجب لهم التوقف هو تعارض الأدلة عندهم في طهارة سؤره، وفي حكم لحمه، فجاء عندهم ما يقتضي نجاسة سؤره، وما يقتضي طهارته، وجاء عندهم ما يقتضي تحريم لحمه، وما يقتضي إباحة أكلها، فلما تعارضت الأدلة توقفوا، وجعلوا سؤرهما مشكوكاً فيه: يقول السرخسي: " أما سؤر الحمار فطاهر عند الشافعي رحمه الله تعالى, وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، فإنه كان يقول الحمار يعلف القت والتبن، فسؤره طاهر. وعندنا مشكوك فيه غير متيقن بطهارته, ولا بنجاسته؛ فإن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول: إنه رجس، فيتعارض قوله وقول ابن عباس رضي الله عنهما, وكذلك الأخبار تعارضت في أكل لحمه فروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر " وروي أن أبجر بن غالب رضي الله عنه قال: لم يبق لي من مالي إلا حميرات فقال عليه الصلاة والسلام " كل من سمين مالك " (¬1)، وكذلك اعتبار سؤره بعرقه يدل على طهارته, واعتباره بلبنه يدل على نجاسته, ولأن الأصل ¬
الذي أشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهرة موجود في الحمار; لأنه يخالط الناس لكنه دون ما في الهرة فإنه لا يدخل المضايق فلوجود أصل البلوى لا نقول بنجاسته, ولكون البلوى فيه متقاعداً لا نقول بطهارته فيبقى مشكوكاً فيه, وأدلة الشرع أمارات لا يجوز أن تتعارض, والحكم فيها الوقف (¬1). وهذه الأدلة التي ساقها السرخسي ليست متكافئة، حتى يقال: بالتعارض، فأثر ابن عباس لم يعارض الحديث المرفوع في النهي عن لحوم الحمر الأهلية، فإننا نقول بطهارة سؤرها، وتحريم لحمها، ولا تعارض. وأما الأحاديث التي ساقها، فيقال: الحديث الضعيف لا يعارض به الحديث المتفق على صحته، فالنهي عن لحوم الحمر الأهلية ثابت في حديث متفق على صحته، كما خرجته في أدلة القول الأول. وحديث " كل من سمين مالك " حديث مضطرب، لا يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (1509 - 37) فقد رواه أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا شعبة، عن عبيد بن الحسن، قال: سمعت عبد الله بن معقل يحدث عن عبد الله بن بسر، عن ناس من مزينة الظاهرة، أن أبجر - أو ابن أبجر - سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله لم يبق لي مال إلا حمري، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أطعم أهلك من سمين مالك، فإنما كرهت لهم جوال (¬2) القرية (¬3). [الحديث فيه اضطراب كثير] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وذكر الطحاوي عن بعضهم جواباً عن هذا الحديث، فقال: ¬
قد يجوز أن يكون الحمر التي أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - أكلها في هذا الحديث كانت وحشية، ويكون قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: فإنما كرهت لكم جوال القرية على الأهلية (¬1). وجواباً آخر: أنه جاء في الحديث قيل للنبي: - صلى الله عليه وسلم -: إنه قد أصابتنا سنة، وإن سمين مالنا في الحمير، فقال: كلوا من سمين مالكم، فأخبر أن ما كان أباح لهم من ذلك كان في عام سنة فيكون إنما أباحه لهم في حال الضرورة وقد تحل في حال الضرورة الميتة، فليس في هذا الحديث دليل على حكم لحوم الحمر الأهلية في غير حال الضرورة، وقد جاءت الآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجيئا متواترا في نهيه عن أكل لحوم الحمر الأهلية (¬2). وهذا جواب قوي لو كان حديث ابن الأبجر صحيحاً، أما إذا كان ضعفه بيناً فلا حاجة لتلمس الجواب عن دليل لا يقوم بنفسه لضعفه، والله أعلم. ¬
المسألة الثالثة: في نجاسة الكلب
المسألة الثالثة: في نجاسة الكلب اختلف الفقهاء في نجاسة عين الكلب، وسيأتي الكلام على سؤره في باب مستقل إن شاء الله تعالى. فقيل: إن الكلب طاهر العين، وهو قول أبي حنيفة (¬1)، ومذهب المالكية (¬2)، وقول الزهري (¬3)، واختاره داود الظاهري (¬4). وقيل: إن الكلب نجس العين، معلمه وغير معلمه، وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬5)، والمعتمد في مذهب الشافعية (¬6)، والحنابلة (¬7). ¬
دليل من قال بطهارة عين الكلب
دليل من قال بطهارة عين الكلب. الدليل الأول: من الكتاب قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} (¬1). وجه الاستدلال: أباح الله سبحانه وتعالى الأكل مما أمسكت الكلاب، ولم يأمرنا بغسل المكان الذي أمسكته معه، مع أنه لا يخلو من التلوث بريق الكلب، ولو كان نجساً لأمرنا بغسله، ولنقل عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم غسله. وأجيب: بأن الحنابلة يوجبون غسل ما أصاب فم الكلب من الصيد، قال البهوتي: ويجب غسل ما أصاب فم الكلب؛ لأنه موضع أصابته نجاسة، فوجب غسله كغيره من الثياب والأواني " (¬2). وقال النووي في المجموع: لنا خلاف معروف في وجوب غسل ما أصاب الكلب، فإن لم نوجبه فهو معفو عنه للحاجة والمشقة في غسله بخلاف الإناء (¬3). وبناء عليه فهناك قول في مذهب الشافعية وهو المشهور من مذهب الحنابلة بوجوب غسل ما أصابه فم الكلب، وإذا قلنا بالوجوب فلا طريق إلى إلزامنا بعدم الغسل. ¬
الدليل الثاني
ورد عليهم: بأن اعتراض المالكية والحنفية بعدم وجود أمر من الشارع بغسل ما أصاب فم الكلب، وهذا حق، فليس هناك أمر، أما كونه يوجد قول بوجوب الغسل فهذا لم نتعرض له، ولم ندع أن المسألة إجماع، إلا أن يقال: عدم الأمر اكتفاء بعموم أدلة تطهير المتنجس. ويمكن أن يجاب عن هذا بأن الآية دليل عام على جواز أكل صيد الكلب المعلم للحاجة إلى ذلك، وليس في الآية ما يدل على طهارة الكلب، بل قد وردت أدلة أخرى بينت نجاسة الكلب، كحديث: " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم ... " وغيره من الأحاديث، فهذا دليل خاص تحمل عليه الأدلة العامة، كالآية ونحوها، والله أعلم. الدليل الثاني: (1510 - 38) ما رواه البخاري في صحيحه: قال: وقال أحمد بن شبيب، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني حمزة بن عبد الله، عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك (¬1). وأجيب بعدة أجوبة: الأول: أن هذا كان في بداية الإسلام، وقبل الأمر بالغسل من ولوغ الكلب. ¬
جواب ثالث
وهذا الجواب قائم على الظن، ولا يعلم التاريخ حقيقة، بل إن الأمر بقتل الكلاب كان متقدماً ثم نسخ، فلو عكس قائل المسألة وقال: إن التغليظ في نجاسة الكلب كان ذلك حين كان المسلم مأموراً بقتلها، فلما نسخ القتل خفف الأمر، لو قيل به كان أوجه من هذه الدعوى. الثاني: أن بول الكلاب لا خلاف في نجاسته، فكيف تستدلون على طهارتها بما قام الإجماع على نجاسته. وأجيب: بأن حكاية الإجماع فيه نظر، فقد ذكر الحافظ في الفتح أن ابن وهب يرى أن جميع الأبوال طاهرة عدا بول الآدمي، كما أن هناك قولاً بجواز أكل لحم الكلاب، ويرى أن بول ما يؤكل لحمه طاهر، وهذا القول يخرق دعوى الإجماع (¬1). جواب ثالث: أن النجاسة كونها لم تغسل؛ لأن النجاسة قد تطهرها الشمس، وهو ما يسمى عند بعض الفقهاء التطهير بالاستحالة، خاصة أن بلاد الحجاز بلاد حارة، فإذا أذهبت الحرارة لون النجاسة وريحها وطعمها طهر المحل. وهذا الجواب أقواها في نظري، والله أعلم. وهناك أدلة أخرى استدلوا بها على طهارة الكلاب، منها أدلتهم في طهارة سؤر السباع، وسوف نذكرها في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى، فانظرها غير مأمور. ¬
دليل من قال بنجاسة الكلاب
دليل من قال بنجاسة الكلاب. الدليل الأول: (1511 - 39) قال مسلم: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب (¬1). فقوله: " طهور إناء أحدكم " والطهور لا يكون إلا من حدث أو نجاسة، ولا يتصور وجود الحدث على الإناء، فدل على نجاسته. (1512 - 40) وروى مسلم من طريق علي بن مسهر، عن الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه، ثم ليغسله سبع مرار (¬2). وأجيب: بأن الأمر بغسكمل الإناء من ولوغ الكلب إنما هو للتعبد، وليس للنجاسة، يؤيد ذلك أمور: الأول: أمر بغسل الإناء مع أن الماء لم يتغير، وإنما ينجس الماء بالتغير بالنجاسة، فإذا وقعت نجاسة في الماء ولم تغيره لم ينجس على الصحيح من أقوال أهل العلم، وهذا دليل على أن الأمر بغسلها إنما هو للتعبد. ¬
ثانياً: اعتبار العدد في غسل نجاسة الكلب، مع أن دم الحيض أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغسله بدون عدد كما في حديث أسماء المتفق عليه، فالأصل في النجاسة أن تغسل حتى تذهب عين النجاسة، فإذا ذهبت ذهب حكمها، فلما اعتبر العدد في غسل نجاسة الكلب، دل على أن الغسل للتعبد. ثالثاً: استعمال التراب مع الماء على خلاف القياس في سائر النجاسات، كل هذا يدل على أن الأمر بغسلها إنما هو تعبدي. رابعاً: أن قوله: " طهور إناء أحدكم " لا يدل على أن الإناء تنجس، قال ابن العربي: فإن قيل: " روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعاً، والطهارة تقابل النجاسة، قلنا: لا يصح ما ذكرتم، بل يرد على المحل النجس وعلى الطاهر، قال الله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يقبل الله صلاة بغير طهور" (¬2). وليس هناك نجاسة، وقال في السواك في الفم: " السواك مطهرة للفم " وقال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} (¬3)، وحقيقة المسألة أن لفظ النجاسة يقتضي الطهارة، وأما لفظ الطهارة فلا يقتضي النجاسة (¬4). وأجيب: أولاً: أن قوله "طهور إناء أحدكم " دليل على ثبوت النجاسة؛ إذ الطاهر ليس بحاجة إلى تطهير. ¬
ثانياً: أن قوله: " فليرقه " دليل على أن الماء تنجس، وإلا لما أمر بإفساد الماء وإراقته، وإذا ثبتت نجاسة لعابه، فعرقه وبوله ومنيه وسائر بدنه نجس من باب أولى؛ لأن فم الكلب أطهر ما فيه.، والحق أن زيادة فليرقه في الحديث لا يثبتها أهل الحديث، ويرونها لفظة شاذة (¬1)، ولكن يكفي قوله: " طهور إناء أحدكم " لإثبات نجاسة لعابه، فكذلك عرقه وبوله ومنيه وسائر بدنه. ¬
الدليل الثاني
ثالثاً: أما الجواب عن القول بأن الماء لا ينجس إلا بالتغير، فنقول: هذه مسألة خلافية، وإن كنا نعتقد أن الصحيح أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، وإذا حكمنا بنجاسة الماء في ولوغ الكلب لم يلزم منه أن نقول بنجاسة كل ماء قليل حلت فيه نجاسة ولو لم يتغير؛ لأن الكلاب خصت ببعض الأحكام من دون سائر النجاسات، فمنها التسبيع، ومنها التتريب، فلا يقاس الأخف على الأغلظ. على أنه قد يقال: لا نسلم عدم التغير؛ لأن لعاب الكلب له لزوجة قد لا تتحلل في الماء فتظهر على شيء منه، فيكون هذا نوعاً من تغير الماء عن طبيعته بالنجاسة، فينجس والله أعلم. وأما قول ابن العربي رحمه الله تعالى: إن لفظ الطهارة لا يقتضي النجاسة فليس بصواب، لأننا نقول: الطهارة إما أن تكون عن حدث وإما أن تكون عن نجاسة، والأمر بتطهير الجنب إنما هو عن حدث، وأما غسل الإناء فلا يمكن أن يحمل على طهارة الحدث، فيكون المقصود به طهارة الخبث، وأما حديث " السواك مطهرة " فالمقصود به الطهارة اللغوية: وهي النظافة، وآية الصدقة المقصود بها الطهارة من الذنوب، فهي طهارة معنوية. الدليل الثاني: (1513 - 41) ما رواه أحمد، من طريق عيسى يعني: ابن المسيب، حدثني أبو زرعة عن أبي هريرة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي دار قوم من الأنصار، ودونهم دار قال: فشق ذلك عليهم فقالوا: يا رسول الله سبحان الله تأتي دار فلان،
الدليل الثالث
ولا تأتي دارنا قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لأن في داركم كلباً، قالوا: فإن في دارهم سنوراً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن السنور سبع (¬1). [إسناده ضعيف وسبق تخريجه في طهارة الهر] (¬2). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فرق بين الهر والكلب، فدل على نجاسة الكلب كما دل على طهارة الهر. وأجيب بأن الحديث ضعيف، ولم يذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث أن الهر طاهر حتى يقال بالمفهوم، فيقال: " مفهومه أن الكلب نجس) وإنما قال: الهر سبع، والسبع قد يكون طاهراً وقد يكون نجساً، وهذه مسألة سوف أبحثها في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى. الدليل الثالث: (1514 - 42) ما رواه مسلم في صحيحه من طريق ابن شهاب، عن ابن السباق، أن عبد الله بن عباس، قال: أخبرتني ميمونة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصبح يوما واجماً، فقالت ميمونة: يا رسول الله لقد استنكرت هيئتك منذ اليوم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن جبريل كان وعدني أن يلقاني الليلة فلم يلقني، أما والله ما أخلفني قال: فظل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومه ذلك على ذلك ثم وقع في نفسه جرو كلب تحت فسطاط لنا، فأمر به فأخرج، ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل فقال له: قد كنت وعدتني أن تلقاني البارحة، قال: أجل، ولكنا ¬
لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة، فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ، فأمر بقتل الكلاب حتى إنه يأمر بقتل كلب الحائط الصغير، ويترك كلب الحائط الكبير. وجه الاستدلال: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نضح مكان الكلب، ولو كان محله طاهراً لما نضحه؛ لأن فيه إضاعة للمال. والنضح هنا المقصود به الغسل. قال ابن الأثير: قد يرد النضح بمعنى الغسل والإزالة، ومنه الحديث: نضح الدم عن جبينه (¬1). قال السيوطي في شرحه للحديث: ينضح الدم بكسر الضاد أي يغسله ويزيله (¬2). وقال الطحاوي: فقد يجوز أن يكون أراد بالنضح الغسل؛ لأن النضح قد يسمى غسلاً. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأعرف مدينة ينضح البحر بجانبها يعني يضرب البحر بجانبها. (¬3) اهـ. ¬
الراجح
وأجيب: لو سلم أن النضح مكان الكلب المقصود به الغسل، لكان ذلك مجرد فعل، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب. ويرد عليه: بأن جبريل لا يخلف وعده وهو واجب عليه من أجل أمر مستحب، بل لأجل أمر واجب. وقد يقال: سلمنا أن خروج الكلب من البيت كان واجباً لدخول الملائكة، ولذلك من اقتنى كلباً من غير حاجة نقص من أجره كل يوم قيراط، لكن النضح لم يدل الحديث على وجوبه، فربما كان خروج الكلب كافياً، ولكن الرسول إنما نضحه طلباً للكمال، وطلب الكمال ليس فيه إضاعة للمال، فتأمل. الراجح: بعد استعراض أدلة الأقوال نجد أن القول بنجاسة الكلب قول قوي ¬
جداً، ونجاسة لسان الكلب ظاهرة في السنة الصحيحة، ولا يوجد فرق بين لسان الكلب وبين سائر أعضائه، بل إن لسان الكلب قد يكون أطهر من سائر أعضائه، فإذا حكمنا بنجاسة فم الكلب حكمنا بنجاسة سائر الأعضاء ولا بد، والله أعلم.
المسألة الرابعة: في نجاسة الخنزير
المسألة الرابعة: في نجاسة الخنزير اختلف العلماء في نجاسة الخنزير، فقيل: الخنزير نجس نجاسة عينية، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، وقول في مذهب المالكية (¬2)، ومذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). وقيل: إن عينه طاهر، بناء على أن كل حيوان حي، فهو طاهر، وهو المعتمد في مذهب المالكية (¬5)، ورجحه الشوكاني (¬6). دليل من قال بنجاسة الخنزير. الدليل الأول: قال تعالى: {أو لحم خنزير فإنه رجس} (¬7). والرجس: يأتي بمعنى النجس. ¬
قال الجصاص: واللحم وإن كان مخصوصاً بالذكر فإن المراد جميع أجزائه, وإنما خص اللحم بالذكر؛ لأنه أعظم منفعته وما يبتغى منه, كما نص على تحريم قتل الصيد على المحرم والمراد حظر جميع أفعاله في الصيد, وخص القتل بالذكر؛ لأنه أعظم ما يقصد به الصيد. وكقوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} (¬1) فخص البيع بالنهي; لأنه كان أعظم ما يبتغون من منافعهم، والمعني جميع الأمور الشاغلة عن الصلاة. وإنما نص على البيع تأكيدا للنهي عن الاشتغال عن الصلاة, كذلك خص لحم الخنزير بالنهي تأكيداً لحكم تحريمه وحظراً لسائر أجزائه , فدل على أن المراد بذلك جميع أجزائه وإن كان النص خاصا في لحمه (¬2). اعتراض وجواب: حمل الشوكاني رحمه الله تعالى قوله " فإنه رجس " على الحرام، وتحريم أكل لحم الخنزير إجماع لا خلاف فيه. وأجيب: بأن حمله على الحرام فيه بعدٌ؛ لأنه يؤدي إلى التكرار وينافي البلاغة القرآنية، فيكون تقدير الآية: قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه حرام " فيبعد أن يكون صدر الآية وآخرها على تكرار التحريم، بل قوله تعالى: " فإنه رجس" تعليل للتحريم، وليس تكراراً له. ¬
الدليل الثاني
والصحيح أن قوله " رجس " دليل على النجاسة، لكن هل هو دليل على نجاسة الخنزير أو على نجاسة لحمه عند إرادة أكله، فالهر لحمه رجس، وكذا الحمار لحمه رجس كما جاء في الحديث (¬1)، وذلك لا يتضمن حال الحياة، لأن الخنزير إذا فارقته الحياة فهو ميتة، سواء مات حتف أنفه، أو مات عن طريق التذكية؛ لأن التذكية لا تعمل فيه الحل، وهو محرم الأكل، ولو قال: " أو خنزير فإنه رجس " لكان في الآية دليل على نجاسة عين الخنزير، والله أعلم. الدليل الثاني: (1515 - 43) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، أن أبا ثعلبة الخشني قال: يا رسول الله إني بأرضٍ أهلها أهل الكتاب، يأكلون لحم الخنزير، ويشربون الخمر، فكيف بآنيتهم وقدورهم؟ فقال: دعوها ما وجدتم منها بداً، فإذا لم تجدوا منها بداً فارحضوها بالماء، أو قال: اغسلوها ثم اطبخوا فيها وكلوا. قال: وأحسبه قال: واشربوا (¬2). [أبو قلابة لم يسمع من أبي ثعلبة الخشني، واختلف في ذكر زيادة لحم الخنزير وشرب الخمر، والحديث في الصحيحين وليس فيه هذه الزيادة] (¬3). وجه الاستدلال: أنه أمر بغسلها في الماء حين كان أهلها يطبخون في آنيتهم الخنزير، وهذا شأن النجاسات. ¬
الدليل الثالث
اعتراض: قال الشوكاني: إن غسل الآنية المراد منه إزالة أثر الحرام لا أثر النجاسة. ولا أرى حاجة إلى تأويل الشوكاني، ولو ذهب إلى طهارة عين الخنزير، لأن نجاسة لحم الخنزير لا تعني نجاسة الخنزير حال الحياة، وبينهما فرق. الدليل الثالث: قال النووي: نقل ابن المنذر في كتاب الإجماع إجماع العلماء على نجاسة الخنزير، وهو أولى ما يحتج به لو ثبت الإجماع, ولكن مذهب مالك طهارة الخنزير ما دام حياً (¬1). الدليل الرابع: الخنزير أولى بالنجاسة من الكلب؛ لأنه يحرم اقتناؤه بخلاف الكلاب فإنه مباح للحاجة، ويجب قتله من غير ضرر، ومنصوص على تحريمه. وقولنا: من غير ضرر: احتراز من العقرب، فإنه يباح قتلها، وهي طاهرة، ولكن من أجل دفع ضررها (¬2). وأجيب: بأنه لا يلزم من تحريم الأكل والاقتناء لزوم النجاسة، فالتحريم أعم من النجاسة، فقد يكون الشيء محرم الأكل وهو طاهر، كالسم ونحوه، كما أنه قد يحرم الاقتناء مع الطهارة كالتماثيل والأزلام ونحوها. ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (1516 - 44) ما رواه مسلم، من طريق سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه (¬1). فشبه اللعب بها بغمس اليد في هذه النجاسات. لكن قد يجاب عنه بما قاله النووي في شرحه لصحيح مسلم، قال: ومعنى "صبغ يده في لحم الخنزير ودمه في حال أكله منهما" وهو تشبيه لتحريمه بتحريم أكلهما. والله أعلم. يعني: وليس لمجرد تلوث اليد بهذه القاذروات، وتحريم الأكل مجمع عليه، والنزاع في طهارة عينه حال الحياة، والله أعلم. الدليل الثالث: كل حيوان محرم الأكل الأصل فيه النجاسة مطلقاً حال الحياة وحال الممات، ولكن استثني ما يشق التحرز منه لعلة التطواف، وبقي ما عداه على النجاسة، أرأيت إلى الهر، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين حكم بطهارتها، لم يقل: إنه لا يوجد دليل يقتضي النجاسة، ولم ير كونها حية كافياً في كونها طاهرة، بل إن التعليل يفهم منه الحكم بالنجاسة لولا وجود هذه العلة، فإنه قال: إنها من الطوافين عليكم، يعني: رفع الحكم بنجاسته دفعاً للحرج والمشقة علينا، لوجود علة التطواف، ومشقة التحرز منها، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فلو ¬
دليل من قال بالطهارة
كان جنس الهر لا يطوف علينا، وتوحش لكان مقتضى التعليل أن يعود الحكم عليها بالنجاسة، والله أعلم. وهذا أقوى دليل في نظري على الحكم بنجاسة كل حيوان محرم الأكل. وقد يجاب عنه: بأن يقال: إن قوله: " إنها من الطوافين عليكم " تعليل لكون الله سبحانه وتعالى خلقها طاهرة، أي كيف تكون نجسة، وهي من الطوافين عليكم؟ فلأجل ذلك لم يخلقها الله تعالى نجسة، ولا يستفاد من ذلك العكس، أن ما لم يكن طوافاً كان نجساً؛ لأن هذا يقتضي أن الأصل هو النجاسة، ومعلوم أن النجاسة حكم شرعي ناقل عن الأصل: الذي هو الطهارة. دليل من قال بالطهارة. الدليل الأول: قالوا: الأصل في الأشياء الطهارة، ولا نحكم بنجاسة عين إلا لدليل صحيح صريح يقتضي النجاسة، ولا دليل هنا. قال النووي رحمه الله مع أنه يتبنى مذهب الشافعية، قال: ليس لنا دليل واضح على نجاسة الخنزير في حياته (¬1). وهذا من تمام عدله وإنصافه. الدليل الثاني: إن تحريم أكل لحم الخنزير لا يقتضي نجاسته حال الحياة، فالحمار والبغل والهر محرمة الأكل، ومع ذلك هي طاهرة على الصحيح. ¬
الراجح بين القولين
الراجح بين القولين: أرى أن القول بالنجاسة أقوى من حيث الدليل والتعليل، وتوجيه طهارة الهر واضح في أن كل حيوان محرم الأكل فهو نجس إلا ما يشق التحرز منه فإنه طاهر حال الحياة، والله أعلم.
المسألة الخامسة: في نجاسة سباع البهائم والطير
المسألة الخامسة: في نجاسة سباع البهائم والطير اختلف الفقهاء في نجاسة سباع البهائم والطير، فقيل: إنها نجسة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: إنها طاهرة، وهو مذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4). دليل من قال بالنجاسة: الدليل الأول: (1517 - 45) ما رواه مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد، عن محمد ابن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أن عمر بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضاً، فقال عمرو بن العاص: لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض، هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب ¬
الحوض، لا تخبرنا؛ فإنا نرد على السباع وترد علينا (¬1). [رجاله ثقات إلا أن إسناده منقطع] (¬2). وجه الاستدلال: لولا أنه كان إذا أخبر بورود السباع يتعذر عليهم استعماله لما نهاه عن ذلك. وأجيب: بأن الأثر ضعيف أولاً. وثانياً: ليس فيه دلالة، فإن قول عمر: فإنا نرد على السباع وترد علينا صريح أنه لا يؤثر ورود السباع على الماء حتى مع العلم بورودها، ولو قال: لا تخبره، فإنا لم نكلف السؤال، عملاً بالأصل لكان الاستدلال له وجه. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1518 - 46) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله، عن ابن عمر، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث (¬1). [إسناده صحيح إن شاء الله] (¬2). وجه الاستدلال: لو لم يكن ولوغ السباع مؤثراً في طهارة الماء لما قال: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، فإن مفهومه إذا كان الماء دون القلتين فقد يحمل الخبث من ولوغ السباع والدواب، والله أعلم. وأجيب: بأن السباع والدواب منها ما هو نجس كالكلب، فالكلب داخل في لفظ السباع كما أنه داخل في لفظ الدواب، ومنها ما هو طاهر، فلا يدل على نجاسة كل السباع، وإذا كان الكلب من جملة ما ينوب الماء لم يكن الحديث دالاً على نجاسة كل سبع، وإنما يدل على نجاسة السباع النجاسة التي من جملتها الكلب. ثانياً: ورد في بعض ألفاظ الحديث: وما ينوبه من الكلاب والدواب. ¬
الدليل الثالث
ثالثاً: أن كلمة ينوبه لا تعني فقط الاقتصار على الولوغ، فقد تبول فيه أيضاً، وبولها غير ريقها، والله أعلم. الدليل الثالث: (1519 - 47) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ثعلبة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، ورواه مسلم (¬1). الدليل الرابع: (1520 - 48) ما ورواه مسلم، قال: حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير (¬2). وجه الاستدلال: أن الحديث دال على أن هذه السباع من البهائم والطير محرمة الأكل، وكل ما كان محرم الأكل لا لحرمتها، وأمكن التحرز منها كانت نجسة. الدليل الخامس: ما قلناه سابقاً في نجاسة الخنزير، نعيده هنا: فالهر، حين حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بطهارتها، لم يقل: إنه لا يوجد دليل يقتضي النجاسة، ولم ير في كونها ¬
دليل من قال بطهارة سباع البهائم والطير
حية كافياً لاعتبارها طاهرة، بل إن التعليل يفهم منه الحكم بالنجاسة لولا وجود هذه العلة، فإنه قال: إنها من الطوافين عليكم. يعني: رفع الحكم بنجاسته دفعاً للحرج والمشقة علينا، لوجود علة التطواف، ومشقة التحرز منها، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فلو كان جنس الهر لا يطوف علينا، وتوحش لكان مقتضى التعليل أن يعود الحكم عليها بالنجاسة، وإذا كانت هذه السباع يمكن التحرز منها كانت نجسة ولا بد. دليل من قال بطهارة سباع البهائم والطير. الدليل الأول: الأصل في الأشياء الطهارة، ولا ننتقل عنه إلا بدليل صحيح صريح. وأجيب: بأننا سقنا الأدلة على نجاستها، وهذا يكفي في النقل عن أصل الإباحة. الدليل الثاني: (1521 - 49) ما رواه ابن ماجه، من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع والكلاب والحمر وعن الطهارة منها فقال: لها ما حملت في بطونها ولنا ما غبر طهور (¬1). [ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1522 - 50) ما وراه الداقطني من طريق أيوب بن خالد الحراني، حدثنا محمد بن علوان، عن نافع، عن ابن عمر، قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، فسار ليلاً، فمروا على رجل جالس عند مقراة له، فقال عمر: ياصاحب المقراة أولغت السباع الليلة في مقراتك؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا صاحب ¬
الدليل الرابع
المقراة لا تخبره، هذا متكلف، لها ما حملت في بطونها، ولنا ما بقي شراب طهور (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الرابع: (1523 - 51) ما رواه الشافعي في الأم عن إبراهيم بن محمد. ورواه عن سعيد بن سالم عن ابن أبي حبيبة أو أبي حبيبة (شك الربيع)، كلاهما (إبراهيم وابن أبي حبيبة) عن داود بن الحصين، عن أبيه، ¬
عن جابر، قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: وبما أفضلت السباع كلها (¬1). [ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (1524 - 52) ما رواه أبو عبيد في كتاب الطهور (¬1)، ومن طريقه ابن المنذر (¬2)، عن ابن أبي عدي، عن حبيب بن شهاب، عن أبيه، قال: قلت لأبي هريرة: أرأيت السؤر في الحوض يصدر عنها الإبل، فتردها السباع وتلغ فيها الكلاب ويشرب منها الحمار، هل أتطهر منه؟ فقال: لا يحرم الماء شيء. [إسناده صحيح]. وجه الاستدلال: طهارة سؤرها دليل على طهارة عينها. وأجيب: الحديث ليس في مسألتنا، بل يتحدث عن تأثير النجاسة تقع في الماء الكثير هل تضره أم لا؟ ولم يقل أبو هريرة: إن هذه الأشياء طاهرة، وإنما قال: لا يحرم الماء شيء. بل إن السؤال دليل على أنها نجسة، وإنما لم تؤثر في الماء لكثرته، ولعدم تغيره بها، والاستدلال بها على طهارتها كالاستدلال به على طهارة الميتة والكلاب والحيضة حين سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن، فقال: إن الماء طهور لا ينجسه شيء، فإذا كان الحديث لا يدل على طهارة هذه الأشياء الواقعة في بئر بضاعة، فلا يدل أثر أبي هريرة على طهارة سؤر السباع، والله أعلم. ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: أن السباع كالأسد والصقر ونحوها حيوانات يجوز بيعها والانتفاع بها من غير ضرورة، فكانت طاهراً كالشاة (¬1). وأجيب: أن اشتراط الطهارة في المبيع شرط مختلف فيه بين الفقهاء بعد اتفاقهم على تحريم بيع الميتة، واختلفوا في العلة هل هي النجاسة، فيحرم بيع كل نجس؟ أو لأن الميتة ليست مالاً، وما يجوز بيعه يشترط أن يكون مالاً، فهذا القرد والحمار يجيز الحنابلة بيعه مع أنه نجس عندهم، فليس كل ما جاز بيعه حكمنا بطهارته. الراجح والله أعلم: نجاسة هذه الحيوانات إلا ما كان يشق التحرز منها فهو طاهر لعلة التطواف، بصرف النظر عن حجمه هل هو أكبر من الهر خلقة أو مثله أو دونه؟ والله أعلم. ¬
الباب الثاني في فضلات الحيوان
الباب الثاني في فضلات الحيوان الفصل الأول في البول والغائط والروث المبحث الأول في بول الآدمي وعذرته الفرع الأول في بول الصبي والجارية اختلف العلماء هل بول الصبي الذي لم يأكل الطعام طاهر أو نجس؟. فقيل: نجس، وهو قول العامة (¬1). وقيل: طاهر، وهو مذهب داود الظاهري (¬2)، واختاره بعض الحنابلة (¬3)، ¬
ونصره الشوكاني (¬1). وأما الاختلاف في كيفية تطهيره فسوف يأتي ذكره إن شاء الله تعالى في باب كيفية إزالة النجاسة. دليل من قال بطهارته: الدليل الأول: (1525 - 53) ما وراه البخاري، من طريق ابن شهاب، عن عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة، عن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأجلسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه، ولم يغسله. ورواه مسلم أيضاً (¬2). الدليل الثاني: (1526 - 54) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالصبيان، فيدعو لهم، فأتي بصبي، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فأتبعه إياه ولم يغسله. ورواه مسلم (¬3). فهذان الحديثان دليلان على أنه يكفي في بول الصبي النضح، وأن الغسل غير واجب لقوله في الحديث: ولم يغسله. ¬
وهذا النضح خاص في بول الصبي، وأما الجارية فيجب غسله، (1527 - 55) لما رواه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن مهدي حدثني يحيى بن الوليد، حدثني محل بن خليفة، حدثني أبو السمح، قال: كنت أخدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان إذا أراد أن يغتسل قال: ولني قفاك، فأوليه قفاي، فأستره به، فأتي بحسن أو حسين رضي الله عنهما، فبال على صدره، فجئت أغسله فقال: يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام (¬1). [إسناده حسن] (¬2). فأخذوا من الاكتفاء بنضح بول الصبي أن بوله طاهر، إذ لو كان نجساً لوجب غسله كبول الجارية، بل وكغيره من النجاسات. والصحيح أنه نجس، فالأمر بنضحه وبإتباع الماء إياه دليل على نجاسته، ولو كان البول طاهراً لم يكن هناك حاجة إلى تطهيره؛ إذ الطاهر لا يطهر. قال القرطبي في " المفهم ": والعجب ممن يستدل برش بول الصبي، أو بالأمر بنضحه على طهارته، وليس فيه ما يدل على ذلك؛ وغاية دلالته على التخفيف في نوع طهارته، إذ قد رخص في نضحه ورشه وعفا عن غسله تخفيفاً خص هذا التخفيف الذكر دون الأنثى لملازمتهم حمل الذكران لفرط فرحهم بهم لمحبتهم لهم - واللَّه أعلم - (¬3). ¬
ولو أخذنا بقاعدة، أن كل ما ثبت التخفيف في طهارته كان طاهراً لقلنا: بطهارة النعل الذي تصيبه النجاسة، فإن طهارته الدلك بالتراب، ومع ذلك هو نجس قبل الدلك، ولا يجب غسل النعل منها. ولقلنا بطهارة ذيل المرأة إذا أصابته نجاسة، فإن تطهيره بأن يمر على مكان طاهر، فيطهره ما بعده، ولا يجب غسله، وهو نجس قبل أن يمر على مكان طاهر، وهكذا، فليس التخفيف في طهارة بعض الأماكن دليلا على طهارتها، بل هي نجسة، وإن خفف الشارع في تطهيرها، وهذا هو الراجح، والله أعلم.
الفرع الثاني ذكر العلة التي أوجبت التفريق بين بول الغلام والجارية
الفرع الثاني ذكر العلة التي أوجبت التفريق بين بول الغلام والجارية من المقطوع به أن الشارع لا يفرق بين متماثلين، ولا يجمع بين متفرقين، فإذا فرق الشارع بين متشابهين فإن هناك علة أوجبت مثل ذلك، وقد تعلم العلة، وقد لا تعلم، والعقول قاصرة عن إدراك علل جميع الأحكام، فالله سبحانه وتعالى حكيم، ولا يأمر ولا ينهى إلا لحكمة، وإن كان طلب العلة ينبغي أن يكون مقصوراً على ما يفيد من تعدي الحكم إلى غيره مما يلحقه القياس، وإلا فالتسليم للنص الشرعي هو طريق المؤمنين {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة} (¬1)، {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله أن يقولوا سمعنا وأطعنا} (¬2). ولا يعارض المؤمن النص بعقله فيهلك، ويكون حاله كحال إبليس الذي قال معترضاً على أمر ربه {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} (¬3). وقد اختلف العلماء في تلمس تلك العلة فمنهم من أرجع ذلك إلى طبيعة بول الأنثى، وأنه يختلف عن بول الذكر فيرى بعضهم أن بول الأنثى أنتن رائحة وأثقل من بول الذكر، ولذلك أمر بغسله دون بول الغلام. ¬
(1528 - 56) ومما يدخل في هذا ما ذكره أبو الحسن بن سلمة قال: حدثنا أحمد بن موسى بن معقل، حدثنا أبو اليمان المصري قال: سألت الشافعي عن حديث النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: يرش من بول الغلام، ويغسل من بول الجارية، والماءان جميعاً واحد؟ قال: لأن بول الغلام من الماء والطين، وبول الجارية من اللحم والدم، ثم قال لي: فهمت؟ أو قال: لقنتَ؟ قال: قلت: لا، قال: إن اللَّه تعالى لما خلق آدم خلقت حواء من ضلعه القصير، فصار بول الغلام من الماء والطين، وصار بول الجارية من اللحم والدم، قال: قال لي: فهمت؟ قلت: نعم. قال: نفعك اللَّه به. رواه أبو الحسن بن سلمة في زوائده على ابن ماجه، كما في " سنن ابن ماجه " (¬1). - ومنهم من أرجع ذلك إلى طريقة خروج البول فبول الغلام يخرج بقوة فينتشر فيشق غسله ولذلك تسومح فيه، أما بول الأنثى فيكون مجتمعاً فيسهل غسله. ومنهم من أرجع ذلك إلى أن نفوس الناس تميل إلى الغلمان، فتحمله أكثر من غيره، فيكثر منهم التبول، ويشق عليهم غسله. والأخيران قريبان؛ لأن العلة فيهما المشقة، وهي معتبرة شرعاً في تخفيف النجاسة، بل وفي العفو عنها كلياً، كما سيأتي أمثلة ذلك إن شاء الله تعالى عند الكلام على النجاسة المعفو عنها. ¬
الفرع الثالث في البول والغائط من الآدمي الكبير
الفرع الثالث في البول والغائط من الآدمي الكبير أجمع المسلمون على نجاسة بول وغائط الآدمي الكبير، ونقل الإجماع خلق من أهل العلم. قال الطحاوي: " فنظرنا في ذلك، فإذا لحوم بني آدم كل قد أجمع على أنها لحوم طاهرة، وأن أبوالهم حرام نجسة .... (¬1) اهـ وقال العيني: بول الآدمي الكبير فحكمه أنه نجس مغلظ بإجماع المسلمين من أهل الحل والعقد (¬2). وقال ابن رشد: " وأما أنواع النجاسات فإن العلماء اتفقوا من أعيانها على أربعة، ثم ذكر منها: وعلى بول ابن آدم ورجيعه" (¬3). وقال ابن جزي: " وأما الأبوال والرجيع فذلك من ابن آدم نجس إجماعاً" وقال أيضاً: النجاسات المجمع عليها في المذاهب، ثم ذكر منها: بول ابن آدم ورجيعه" (¬4). وقال النووي: وأما بول الآدمي الكبير فنجس بإجماع المسلمين، نقل الإجماع فيها ابن المنذر وأصحابنا وغيرهم (¬5). ¬
وقال العراقي: فيه نجاسة بول الآدمي, وهو إجماع من العلماء إلا ما حكي عن داود في بول الصبي الذي لم يطعم أنه ليس بنجس للحديث الصحيح فنضحه ولم يغسله, وهو مردود بالإجماع فقد حكى بعض أصحابنا الإجماع أيضا في نجاسة بول الصبي (¬1). وقال ابن المنذر: أجمعوا على إثبات نجاسة البول (¬2). ونقل الإجماع كذلك في كتابه العظيم الأوسط (¬3). وقال الزركشي: " نجس بلا نزاع، وهو البول والغائط " (¬4). وقال الصنعاني في سبل السلام: والحديث فيه دلالة على نجاسة بول الآدمي، وهو إجماع (¬5). وقال الشوكاني: واستدل بحديث الباب على نجاسة بول الآدمي، وهو مجمع عليه (¬6). وانظر للاستزادة كتاب إجماعات ابن عبد البر في العبادات (¬7). ¬
المبحث الثاني في بول وروث الحيوان
المبحث الثاني في بول وروث الحيوان الفرع الأول في بول وروث الحيوان المأكول اختلف العلماء في بول الحيوان المأكول وروثه، فقيل: هو طاهر مطلقاً، وهو مذهب المالكية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: نجس مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: إن بول الحيوان نجس، وأما بول الطير، فإن كان يذرق في الهواء كالعصافير والحمام والخفافيش فهو طاهر، وإن كان لا يذرق في الهواء كالدجاج والبط فهو نجس. وهذا مذهب الحنفية (¬5). وقيل: بطهارة الأبوال كلها عدا بول الآدمي، وهو مذهب داود الظاهري (¬6). ¬
دليل من قال بالطهارة
دليل من قال بالطهارة. الدليل الأول: الأصل في الأشياء الطهارة حتى يأتي دليل من القرآن أو من السنة أو من الإجماع على نجاستها، ومن ادعى النجاسة فعليه الدليل، خاصة ونحن نعلم أن الصحابة كانوا أصحاب إبل وغنم فالحاجة داعية إلى بيان حكمها لو كانت نجسة، وليست البلوى في ولوغ الكلب في الأواني أكثر من البلوى في أبوال المواشى وروثها، فلما لم يأت بيان بأنها نجسة علم أنها طاهرة. قال ابن تيمية رحمه الله: وبول ما أكل لحمه وروثه طاهر, لم يذهب أحد من الصحابة إلى تنجسه، بل القول بنجاسته قول محدث لا سلف له من الصحابة (¬1). الدليل الثاني: (1529 - 57) ما رواه مسلم من طريق جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة، أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ. قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم فتوضأ من لحوم الإبل. قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم. قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا. وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن في الصلاة في مرابض الغنم، ومرابض الغنم لا تخلو من البول والروث، فدل على طهارتها. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1530 - 58) ما رواه البخاري، حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس بن مالك قال قدم أناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلقاح وأن يشربوا من أبوالها وألبانها. الحديث والحديث رواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: كون النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالشرب من أبوال الإبل، ولم يأمرهم بغسل الأواني منها، ولو كانت نجسة ما أذن لهم بالشرب، ولأمرهم بغسل الأواني منها. وهذا نص صريح في محل النزاع. الدليل الرابع: (1531 - 59) ما رواه البخاري قال: حدثنا أحمد بن صالح ويحيى بن سليمان، قالا: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله ابن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن. ورواه مسلم (¬2). وجه الاستدلال: إدخال البعير المسجد، والطواف عليه دليل على طهارة بوله، حيث لا ¬
الدليل الخامس
يؤمن بول البعير في أثناء الطواف، ولو كان نجساً لم يعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد للنجاسة. الدليل الخامس: (1532 - 60) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، عن داود، عن عامر قال: سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن، قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود، فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل. قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء. قال: فقلنا: يا رسول الله فقدناك، فطلبناك، فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن قال: فانطلق بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما طعام إخوانكم (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن نستنجي بالروث؛ لأنه علف دواب إخواننا من الجن، ومعلوم أنه إنما نهى عن ذلك لئلا ننجسه عليهم، فلو كان البعر في نفسه نجساً لم يكن الاستنجاء به ينجسه، ولم يكن هناك فرق بين البعر ¬
الدليل السادس
والمستنجى به، ثم إن البعر لو كان نجساً لم يصلح أن يكون علفاً لقوم مؤمنين، فإنها تصير بذلك جلالة، ولو جاز أن تصير جلالة لجاز أن تعلف رجيع الإنس ورجيع الدواب، فلا فرق حينئذ، وكونه شَرَطَ في طعام الجن طهارة العظم، بقوله: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه، فكذلك لا بد أن يَشْرِط في علف دوابهم نحو ذلك من الطهارة (¬1). الدليل السادس: (1533 - 61) ما رواه ابن خزيمة في صحيحه، قال: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عتبة بن أبي عتبة، عن نافع بن جبير، عن عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا من شأن ساعة العسرة، فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل ينحر بعيره، فيعصر فرثه، فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيراً، فادع لنا فقال: أتحب ذلك؟ قال: نعم، فرفع يده فلم يرجعهما حتى قالت السماء، فأظلمت، ثم سكبت فملأوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جازت العسكر (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). ¬
الدليل السابع
وجه الاستدلال: قال ابن خزيمة: لو كان ماء الفرث إذا عصر نجساً لم يجز للمرء أن يجعله على كبده، فينجس بعض بدنه، وهو غير واجد لماء طاهر يغسل موضع النجس منه، فأما شرب الماء النجس عند خوف التلف إن لم يشرب ذلك الماء فجائز إحياء للنفس بشرب ماء نجس، إذ الله عز وجل قد أباح عند الاضطرار إحياء النفس بأكل الميتة والدم ولحم الخنزير إذا خيف التلف إن لم يأكل ذلك. والميتة والدم ولحم الخنزير نجس محرم على المستغني عنه، مباح للمضطر إليه لإحياء النفس بأكله، فكذلك جائز للمضطر إلى الماء النجس أن يحيي نفسه بشرب ماء نجس إذا خاف التلف على نفسه بترك شربه، فأما أن يجعل ماء نجسا على بعض بدنه، والعلم محيط أنه إن لم يجعل ذلك الماء النجس على بدنه لم يخف التلف على نفسه، ولا كان في إمساس ذلك الماء النجس بعض بدنه إحياء نفسه بذلك، ولا عنده ماء طاهر يغسل ما نجس من بدنه بذلك الماء، فهذا غير جائز ولا واسع لأحد فعله (¬1). الدليل السابع: كان الحَبُّ في عهد الصحابة ومن بعدهم يداس في البيادر عن طريق الدواب، ولا بد أن يصيب الحبوب شيء من أبوالها وأرواثها، ولم ينقل عن ¬
الدليل الثامن
النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن صحابته، ولا عن غيرهم أنهم كانوا يغسلون الحب بعد الفراغ من دياسها، فلو كانت نجسة لوجب غسلها، ولنقل الأمر بذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما لم يأمر بغسلها علم أن أبوالها طاهرة. قال ابن تيمية حاكياً عن عهد الصحابة: " فإنا نتيقن أن الأرض كانت تزرع، ونتيقن أن الحب لا يداس إلا بالدواب، ونتيقن أنه لا بد أن تبول على البيدر الذي يبقى أياماً ويطول دياسها له، فهذه كلها مقدمات يقينية (¬1). الدليل الثامن: إجماع المسلمين على اتخاذ الحمام في المسجد الحرام من غير نكير، فهذا دليل على طهارتها؛ خاصة أن الله سبحانه وتعالى قد أمر بتطهير المسجد بقوله تعالى: {وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} (¬2). الدليل التاسع: (1534 - 62) ما رواه الدارقطني في سننه، من طريق سوار بن مصعب، عن مطرف بن طريف، عن أبي الجهم، عن البراء، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس ببول ما أكل لحمه (¬3). [ضعيف جداً] (¬4). ¬
دليل من قال بالنجاسة
دليل من قال بالنجاسة: الدليل الأول: (1535 - 63) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مر بقبرين يعذبان فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول. الحديث والحديث رواه مسلم بنحوه (¬1). وجه الاستدلال: قوله: " لا يستتر من البول " فـ" أل " في البول عام لجميع الأبوال، سواء جعلنا أل للجنس أو للاستغراق. وعلى فرض الاختصاص ببول الإنسان فإن سائر الأبوال تلحق به قياساً. قال الخطابي: " في الحديث دلالة على أن الأبوال كلها نجسة مجتنبة من مأكول اللحم وغير مأكوله، لورود اللفظ به مطلقاً على سبيل العموم. ¬
الدليل الثاني
وأجيب: بأن اللام في كلمة (البول) للعهد الذهني، أي بول نفسه، وقد نص أهل المعرفة باللسان أنه لا يصار إلى تعريف الجنس إلا إذا لم يكن ثم شيء معهود، فإن كان هناك شيء معهود لم يحمل على الجنس، والدليل على أن المقصود به بوله هو عدة أدلة: الأول: ما جاء في الصحيحين في رواية أخرى للحديث " أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله" الثاني أن الحديث قد أخرجه النسائي من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن طاووس، عن ابن عباس بلفظ: " لا يستبرئ من بوله" (¬1). وإسناده في غاية الصحة. والاستبراء: طلب البراءة من البول، وهو أن يستفرغ بقية البول، وينقي موضعه ومجراه، حتى يبرئهما منه: أي يبينه عنهما كما يبرأ من الدين والمرض، والاستبراء استنقاء الذكر عن البول (¬2). الدليل الثاني: (1536 - 64) ما رواه عبد بن حميد، قال: خبرنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، ¬
الدليل الثالث
عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن عامة عذاب القبر في البول فتنزهوا من البول (¬1). [ضعيف] (¬2). الدليل الثالث: (1537 - 65) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبي صالح، ¬
عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أكثر عذاب القبر من البول (¬1). [رجاله ثقات ورجح أبو حاتم الرازي والدراقطني وقفه، وهو مما لا يدرك بالرأي] (¬2). ¬
الدليل الرابع
وجه الاستدلال: استنزهوا من البول عام في كل بول، وكما قلنا في توجيه حديث ابن عباس نقوله هنا. الجواب عن هذا الاستدلال: أولاً: الأحاديث ضعيفة، وهذا الحكم يريحنا من الجواب عنها. ثانياً: أن المقصود به بول الإنسان، كما قدمنا في حديث ابن عباس. ثالثاً: أن البول الذي يصيب الإنسان، ويكون عامة عذاب القبر منه إنما هو بوله هو، وهو الذي يتعرض له كثيراً في كل يوم، بل ربما في اليوم عدة مرات، وأما بول غيره فيندر أن يصيب أحداً من الناس، فكيف يكون عامة عذاب القبر من شيء لا يكاد يصيب أحداً من الناس، فتعين حمله على بول نفسه، والله أعلم. الدليل الرابع: (1538 - 66) ما رواه البخاري من طريق أبي إسحاق، قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا ركس (¬1). ¬
الدليل الخامس
فإن قيل: ليس في الحديث دليل على النجاسة، وإنما فيه ترك الاستنجاء بالروث، ولا يلزم من ذلك النجاسة، كما لم يلزم من ترك الاستنجاء بالعظم والمحترمات كونها نجسة. فالجواب: أن الاعتماد على نجاستها ليس لترك الاستنجاء فيها، ولكن لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنها ركس. والركس له معنيان: أحدهما: الركس بمعنى الرجيع. والمعنى الآخر: الركس: بمعنى النجس. ولا ينبغي أن يحمل على أنه مجرد إخبار بأن الروث رجيع، فإن ذلك إخبار بالمعلوم، فيؤدي إلى الحمل عليه خلو الكلام من الفائدة، فوجب حمله على ما ذكرنا بأن معنى الركس: النجس. وأجيب: بأن النهي عن الاستنجاء بالروث مركب من علتين، تنزل كل علة على محل: فالروث إن كان نجساً فإنه لا يستنجى به؛ لأنه نجس، ونحن لا نقول: إن كل روث طاهر. وعليه يحمل كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: إنها ركس. وإن كان الروث طاهراً كما هو الحال هنا، فإنه لا يستنجى به؛ لا لأنه لا يطهر، ولكن لأنه طعام دواب إخواننا من الجن كما جاء في الحديث، وذكرناه في أدلة القول الأول. الدليل الخامس: قال تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} (¬1). ¬
الدليل السادس
ومعلوم أن الطباع الكريمة تستخبثه، وتحريم الشيء لا لكرامته واحترامه تنجيس له شرعاً. وتعقب: أولاً: الحكم على الشيء بأن هذا طيب أو خبيث ليس مرده إلى الطباع، وإنما مرده إلى الشرع؛ لأن الطباع قد تستقبح ما هو طيب، وتستطيب ما هو خبيث، والشرع عندنا لم يحكم على هذا بأنه خبيث، بدليل أنه أذن في شربها، والصلاة في مرابض الغنم، وهي لا تخلو من بولها وروثها. ثم إن كراهة الشيء طبعاً لا تقتضي نجاسته، فهذه النخامة مستقذرة طبعاً، وهي طاهرة. ثانياً: قوله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} (¬1)، فكل ما هو محرم، فهو خبيث، وليس كل محرم نجساً، فالخبث والنجاسة غير متلازمتين، قال تعالى عن المال الردئ {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} (¬2)، والخبث هنا في الشيء الطاهر. وقال تعالى: {ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة} (¬3)، والكلام ليس فيه ما هو نجس بالمعنى الاصطلاحي. الدليل السادس: القياس على بول الآدمي ورجيعه، فإذا كان بول الآدمي نجساً بالإجماع فكذلك بول الحيوان بجامع أن كلاً منهما قد استحال إلى فساد ونتن. ¬
الدليل السابع
وأجيب: بأن هذا قياس مع الفارق، حيث أذن الشارع في شرب أبوال الإبل دون بول الآدمي، وأذن بالصلاة في مرابض الغنم، ولم يأذن في الصلاة في موضع فيها بول آدمي أو رجيعه، وقياس بول ما يؤكل لحمه على بول ما لا يؤكل قياس مع الفارق، وهو قياس مصادم للنص فلا عبرة به. الدليل السابع: القياس على نجاسة القيء بجامع أن كلاً منهما قد استحال إلى نتن وفساد في الباطن. وأجيب: لا نسلم لكم بنجاسة القيء، ولا يوجد دليل على نجاسته، وإذا لم يسلم لكم الأصل لم يسلم لكم الفرع، وسوف يعقد إن شاء الله تعالى فصل خاص في حكم القيء. الدليل الثامن: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في معاطن الإبل، وهذا يدل على نجاستها. وقد ذكر نص الحديث في أدلة القول الأول. وأجيب: أولاً: بأنه لو كان النهي عن الصلاة في معاطن الإبل من أجل النجاسة ما صلى عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان يصلي النافلة على بعيره. (1539 - 67) فقد روى الشيخان من طريق مالك، عن أبي بكر بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب،
عن سعيد بن يسار، أنه قال: كنت أسير مع عبد الله بن عمر بطريق مكة، فقال سعيد: فلما خشيت الصبح نزلت فأوترت، ثم لحقته، فقال عبد الله بن عمر: أين كنت؟ فقلت: خشيت الصبح، فنزلت، فأوترت، فقال عبد الله: أليس لك في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة؟ فقلت: بلى والله. قال: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر على البعير (¬1). ثانياً: يقابل النهي هذا بإذنه في الصلاة في مرابض الغنم، فيقال: إن العلة ليست النجاسة، ولو كانت العلة هي النجاسة لم يكن هناك فرق بين بول الإبل والغنم، ولكن العلة شيء آخر: فقيل: إن الحكم تعبدي، فتكون علته مخفية عنا. وقيل: إنه يخشى إنْ صلى في مباركها أن تأوي إلى هذه المبارك، وهو يصلي، فتشوش عليه صلاته؛ لأنها كبيرة الجسم، ولأن من طبعها النفار المفضي إلى تشويش قلب المصلي، ولذلك ورد في الحديث أن الإبل خلقت من الشياطين. (1540 - 68) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، أخبرنا يونس، عن الحسن، عن عبد الله بن مغفل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل؛ فإنها خلقت من الشياطين (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). ¬
قال ابن حبان في صحيحه: لو كان الزجر عن الصلاة في أعطان الإبل ¬
الدليل التاسع
لأجل أنها خلقت من الشياطين لم يصل - صلى الله عليه وسلم - على البعير؛ إذ محال أن لا تجوز الصلاة في المواضع التي قد يكون فيها الشيطان ثم تجوز الصلاة على الشيطان نفسه، بل معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنها خلقت من الشياطين: أراد به أن معها الشياطين على سبيل المجاورة والقرب (¬1). وقال ابن حبان في موضع آخر من صحيحه: قوله - صلى الله عليه وسلم -: فإنها خلقت من الشياطين: أراد به أن معها الشياطين، وهكذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: فليدرأه ما استطاع فإن أبى فليقاتله؛ فإنه شيطان، ثم قال في خبر صدقة بن يسار، عن ابن عمر: فليقاتله؛ فإن معه القرين (¬2). وقيل: معناه أن من طبعها الشيطنة، وليس معناه أن مادة خلقها الشيطنة، فهو كقوله تعالى: {خلق الإنسان من عجل} (¬3)، يعني: طبيعته هكذا، فهي لا تكاد تهدأ، ولا تقر في العطن، بل تثور، فربما قطعت على المصلي صلاته، وشوشت عليه خشوعه، وهذه هي الشيطنة المذكورة في الحديث. ولذلك لما صلى عليها أمن من شرها، بخلاف الصلاة في مباركها، فقد تأتي إليه مجتمعة في حالة من النفار فتفسد عليه صلاته. وعلى كل حال فليس في نهيه عن الصلاة في معاطن الإبل دليل على نجاسة بولها وروثها. الدليل التاسع: (1541 - 69) ما رواه أبو يعلى، من طريق ثابت بن حماد أبو زيد، حدثنا علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، ¬
دليل الحنفية في التفريق بين ما يذرق في الهواء وبين غيره
عن عمار، قال: مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أسقي ناقة لي فتنخمت، فأصابت نخامتي ثوبي، فأقبلت أغسل ثوبي من الركوة التي بين يدي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا عمار ما نخامتك ولا دموع عينيك إلا بمنزلة الماء الذي في ركوتك، إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني من الماء الأعظم والدم والقيء (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). فقوله: " إنما تغسل ثوبك من البول " مطلق، فيشمل كل بول. والحديث ضعيف، فلا داعي للجواب عنه، ولو صح لم يسلم لهم الاستدلال به، كما قدمناه في حديث ابن عباس " أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ". دليل الحنفية في التفريق بين ما يذرق في الهواء وبين غيره. الحنفية ذهبوا إلى ما ذهب إليه الشافعية في نجاسة الأبوال كلها من الحيوان، إلا أنهم خالفوهم في بعض الطيور، فقسموا الطيور إلى قسمين: طير يذرق في الهواء كالعصافير والحمام فذرقه طاهر. وطير لا يذرق في الهواء كالدجاج والبط، فذرقه نجس. واستدلوا بطهارة ما يذرق في الهواء بوجود الحمام في المسجد الحرام، مع الأمر بتطهير المساجد من البول والقذر: قال تعالى: {وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} (¬3). ¬
دليل داود على طهارة الأبوال كلها عدا بول الآدمي
(1542 - 70) وروى مسلم في صحيحه من طريق عكرمة بن عمار، حدثنا إسحق بن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك وهو عم إسحق، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ولأن فضلات ما يطير في الهواء لا رائحة له، بخلاف ذرق الدجاج ونحوها مما لا يطير فإنه منتن. ولأن الذي يذرق في الهواء يشق التحرز منه، فلا يمكن صيانة الثياب عنه، فيكون طاهراً دفعاً للحرج والمشقة. دليل داود على طهارة الأبوال كلها عدا بول الآدمي. الدليل الأول: الأصل في الأشياء الطهارة، ولا نعدل عنه إلا بدليل من نص أو إجماع، ولا يوجد ما يدل على نجاسة الأبوال، فتبقى طاهرة. ونوزع في هذا: أما الأصل فصحيح، وأما دعوى أنه لا يوجد دليل على نجاسة بعض الأبوال فغير مسلم، بل هناك أدلة كثيرة تدل على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه، منها ما ذكرنا في قوله عن الروث: إنها ركس. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1543 - 71) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن أبان، عن أنس، قال: لا بأس ببول ذات الكرش (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الراجح من الخلاف: القول بطهارة بول ما يؤكل لحمه هو أقوى الأقوال، وأوسطها، بين قول من يرى طهارة جميع الأبوال عدا بول الآدمي، وقول من يرى نجاسة كل الأبوال. ولا يمكن أن يباح لحمه، ثم يكون بوله نجساً. ولا يمكن أن يكون الكلب والخنزير أطهر بولاً من الإنسان، وأن يكون ريق الكلب نجساً، وبوله طاهراً، وبوله أخبث من ريقه، لذا أجد مذهب المالكية والحنابلة أقوى الأقوال في هذه المسألة، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني في بول وروث الحيوان غير المأكول
الفرع الثاني في بول وروث الحيوان غير المأكول اختلف العلماء في بول وروث الحيوان غير المأكول عدا الآدمي، فقيل: نجس، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). وقيل: طاهر، وهو مذهب داود الظاهري (¬2)، والشعبي (¬3)، والبخاري (¬4)، رحمهم الله جميعاً. دليل من قال بنجاسة البول والروث. الدليل الأول: قالوا: إن لحم هذا الحيوان خبيث، فكذلك بوله (¬5). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: إذا كان الحيوان الطاهر الحلال الأكل إذا أكل العذرة حبس كما في الجلالة، فما بالك بحيوان قد خبث لحمه بنفسه، وليس عن طريق أكل العذرة المستحيلة إلى شيء آخر، ألا يكون نجساً من باب أولى. الدليل الثالث: إذا كان ريق الكلب نجساً، ويغسل منه الإناء سبعاً، فما بالك ببوله الذي هو أخبث وأنتن من ريقه، وقد سبقت هذه الأحاديث في نجاسة الكلب. الدليل الرابع: (1544 - 72) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله، عن ابن عمر، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث (¬1). [إسناده صحيح إن شاء الله، وسبق تخريجه] (¬2). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قضى بهذا الحديث الصحيح أن الماء الكثير لا يتأثر بسؤر السباع والدواب، ومفهومه أن الماء القليل قد يتأثر بسؤر السباع والدواب، وإذا كان هذا في سؤرها: أي بقية شرابها، فما بالك ببولها وروثها، فإنه أشد خبثاً ونتناً من ريقها. ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (1545 - 72) ما رواه مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة، عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك - وكانت تحت ابن أبي قتادة الأنصاري- أنها أخبرتها: أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا، فجاءت هرة لتشرب منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ قالت: فقلت: نعم، فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنها ليست بنجس؛ إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات (¬1). [إسناده صحيح، وسبق تخريجه] (¬2). وجه الاستدلال: لما علل طهارة الهرة بأنها من الطوافين علينا، علم أن المقتضي لنجاستها قائم، وهو كونها محرمة، لكن عارضه مشقة التحرز منها، فطهرت لذلك دفعاً للحرج، ومعنى ذلك أن الهرة لو لم تكن طوافة علينا لكان سؤرها نجساً، وإذا كان هذا في سؤرها، فما بالك في بولها، فإنه أشد نجاسة من سؤرها. الدليل السادس: قد ثبت عندنا أن الروث نوعان: روث ما يؤكل لحمه، وهذا طاهر، لأدلة كثيرة ذكرناها في مسألة (بول مأكول اللحم)، وروث نجس، وهو روث ما لا يؤكل لحمه، ¬
دليل من قال بالطهارة
(1546 - 74) لما رواه البخاري من طريق أبي إسحاق، قال: ليس أبو عبيدة ذكره ولكن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا ركس (¬1). دليل من قال بالطهارة. الدليل الأول: الأصل في الأشياء الطهارة حتى يأتي نص من كتاب أو سنة أو إجماع، ولا نص ولا إجماع في تنجيس غير بول الآدمي. وأجيب: قد قدمنا الأدلة على نجاسة سؤر الكلب، وعلى نجاسة سؤر الهرة لولا علة التطواف، وقدمنا أن الماء القليل قد يتأثر بسؤر الدواب والسباع، مع أن ريقها أطهر من بولها، وكل هذه الأدلة صحيحة ظاهرة في نجاسة بول هذه الحيوانات، والله أعلم. الدليل الثاني: (1547 - 75) ما رواه البخاري في صحيحه: قال: وقال أحمد بن شبيب، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني حمزة بن عبد الله، ¬
الدليل الثالث
عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك (¬1). وأجيب: بأن بوله لن يكون أطهر من ريقه، وقد حكمنا على ريقه بالنجاسة كما في الحديث المتفق على صحته في غسل الإناء من ولوغ الكلب، ولكن عدم تطهير المكان من بول الكلب إما لكون الشمس حارة في بلاد الحجاز، فكانت تطهر الأرض بالاستحالة، فإذا أذهبت الشمس النجاسة لوناً وطعماً وريحاً فقد طهر المكان، وربما كان مرور الكلاب ليس في موضع مصلى المسلمين، بل في مؤخرة المسجد، فكان الأمر لا يتطلب المبادرة إلى تطهيره بالماء، بل يترك حتى تطهره الشمس. وقد يقال: إن هذا الأمر كان في أول الإسلام، خاصة أن في بعض ألفاظه أن ابن عمر كان شاباً عزباً، وكان ينام في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد تزوج ابن عمر في حياته - صلى الله عليه وسلم - كما في قصة طلاق ابن عمر للمرأة الحائض في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، والحديث في الصحيحين. الدليل الثالث: (1548 - 76) روى البخاري تعليقاً، قال: صلى أبو موسى في دار البريد والسرقين والبرية إلى جنبه فقال هاهنا وثم سواء (¬2). ¬
وجه الاستدلال: أن أبا موسى صلى على السرقين في دار البريد، وكانت تربط فيها الدواب ذوات الحوافر من خيل وبغال وحمير، ولو كان نجساً لما صلى عليه. وأجيب: أولاً: أن هذه الدواب التي ترد إلى البريد طاهرة، لأنها إما خيل وإبل فأكلها حلال، فكذلك بولها، وإما بغال وحمر فهي طاهرة لمشقة التحرز منها ¬
الترجيح
كما قدمنا بحثه في مسألة مستقلة. ثانياً: قد يكون أبو موسى صلى بحائل. وهذا الاحتمال الأصل عدمه، ثم ظاهر اللفظ يأباه بقوله: صَلَّى على سرقين، ظاهره أنه مباشر له. ثالثاً: على فرض أن يكون صلى على سرجين نجس، فهو فعل صاحبي قد خالفه غيره من الصحابة كابن عمر وغيره فلا يكون حجة، وقد قدمنا أدلة مرفوعة على نجاسة هذه الأبوال، وإنما يصار إلى الاستدلال برأي الصحابي بشرطين: الأول: ألا يخالف نصاً من كتاب أو سنة مرفوعة. الثاني: ألا يخالفه غيره من الصحابة، فإن خالفه غيره ذهبنا إلى الترجيح بينهما بحسب ما تقتضيه الأدلة والقواعد الشرعية. رابعاً: قال بعضهم: لعل أبا موسى كان لا يرى الطهارة من النجاسة شرطاً أو واجباً في صحة الصلاة، وهو قول في مذهب المالكية. الترجيح: الراجح والله أعلم بالصواب، مذهب القائلين بنجاسة أبوال البهائم الحية غير المأكولة، وذلك لقوة أدلتهم وسلامتها من الاعتراضات القادحة.
الفصل الثاني في المني والمذي والودي من الحيوان
الفصل الثاني في المني والمذي والودي من الحيوان المبحث الأول في مني الإنسان اختلف العلماء في مني الإنسان هل هو طاهر أم نجس، فقيل: المني نجس، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). ¬
وقيل: المني طاهر، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2)، ورجحه ابن حزم (¬3)، وابن تيمية (¬4). وسبب اختلاف العلماء في هذه المسألة اختلافهم في تفسير ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا من غسل المني رطباً، وفركه يابساً. فأخذ الحنابلة والشافعية من الاكتفاء بفركه يابساً دليلاً على طهارته، إذ لو كان نجساً لوجب غسله خاصة أن المني سائل ثخين، ويتشرب جزء منه الثوب، ولو كان المني نجساً لجاء الأمر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغسله، خاصة أن ¬
دليل من قال: إن المني نجس
البلوى فيه شديدة في الأبدان والثياب والفرش وغيرها، فلما لم يأمرهم - صلى الله عليه وسلم - بغسل ما أصابهم، وكان الثابت عنه مجرد فعل، وأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - المجردة لا تدل على الوجوب بل تدل على الاستحباب، علم أن المني طاهر. وأخذ الحنفية من فركه يابساً وغسله رطباً دليلاً على نجاسته، فإن النجاسة قد تزول بالفرك كما تطهر النعلين بدلكهما في التراب، وذيل المرأة بمروره بتراب طاهر بعده، وهكذا. ورجح المالكية أحاديث الغسل على أحاديث الفرك، ولم يروا أن النجاسة تزال بالفرك، بل لا بد من غسلها بالماء، وإليك أدلة كل فريق. دليل من قال: إن المني نجس. الدليل الأول: (1549 - 77) ما رواه أبو يعلى من طريق ثابت بن حماد أبو زيد، حدثنا علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن عمار، قال: مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أسقي ناقة لي فتنخمت، فأصابت نخامتي ثوبي، فأقبلت أغسل ثوبي من الركوة التي بين يدي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا عمار ما نخامتك ولا دموع عينيك إلا بمنزلة الماء الذي في ركوتك، إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني من الماء الأعظم والدم والقيء (¬1). [إسناده ضعيف جداً] (¬2). ¬
الدليل الثاني
وجه الاستدلال: قوله: " إنما يغسل الثوب من كذا وكذا "، وذكر منها المني، وهذا دليل على نجاسته، وقد ساقه مساق الحصر. وأجيب: بأن الحديث ضعيف جداً، والضعيف لا يثبت به حكم شرعي، ثم إنه مخالف لفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يفركه يابساً من ثوبه، كما ثبت في الحديث الصحيح وسوف يأتي ذكره قريباً إن شاء الله تعالى. الدليل الثاني: (1550 - 78) ما رواه مالك في الموطأ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أنه اعتمر مع عمر بن الخطاب في ركب فيهم عمرو بن العاص، وأن عمر بن الخطاب عرس ببعض الطريق قريباً من بعض المياه، فاحتلم عمر، وقد كاد أن يصبح فلم يجد مع الركب ماء، فركب حتى جاء الماء، فجعل يغسل ما رأى من ذلك الاحتلام حتى أسفر، فقال له عمرو بن العاص: أصبحت ومعنا ثياب، فدع ثوبك يغسل. فقال عمر: واعجباً لك يا عمرو بن العاصي، لئن كنت تجد ثياباً أفكل الناس يجد ثياباً، والله لو فعلتها لكانت سنة، بل أغسل ما رأيت، وأنضح ما لم أر (¬1). [إسناده منقطع] (¬2). ¬
وجه الاستدلال: قال الباجي: قوله " فجعل يغسل ما رأى من الاحتلام حتى أسفر" يريد أنه تتبع ما كان في ثوبه من المني حتى أسفر الصبح، ورأى أن تطهير ثوبه الذي هو فرض، أولى من مبادرة أول الوقت الذي هو أفضل، وهذا يدل على نجاسة المني؛ لأن اشتغاله به وتتبعه له حتى ذهب أكثر الوقت وخيف عليه من ضيقه، وأنكر عليه عمرو بن العاص التأخير، وأمره باستبدال الثوب دليل على نجاسة الثوب عندهم، ولو لم يكن نجساً عندهم لما اشتغل عمر بغسله، ولو اشتغل به لقيل له: تشتغل عن الصلاة بإزالة ما لم تلزم إزالته (¬1). وأجيب: أولاً: أن قوله " فاحتلم عمر وقد كاد أن يصبح " ظاهر أن عمر قد رأى ذلك منه قبل أن يصبح، ثم إن قوله: " حتى أسفر " ليس فيه دليل على تأخير الصلاة كثيراً، وكون أمير المؤمنين رضي الله عنه حريصاً أن ينظف ثوبه من المني غير مستغرب، فإن المني مستقذر طبعاً، لا سيما في الثوب الذي يبدو به أمام الناس، فليس فيه دليل على أن عمر يرى نجاسة المني. ثانياً: كونه يغسل أثر الاحتلام ليس نصاً في أنه يغسل المني فقط، فأثر الاحتلام قد يكون منياً مصحوباً بمذي، والمذي نجس. ثالثاً: على فرض أن يكون عمر بن الخطاب يرى نجاسته، وهذا من باب التنزل، فإنه قد خالفه غيره من الصحابة ممن لا يرى وجوب غسله، كعائشة رضي الله عنها، وابن عباس كما سيأتي عنه قريباً إن شاء الله تعالى، فإذا ¬
الدليل الثالث
اختلف الصحابة رجعنا إلى السنة، لقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فروده إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} (¬1)، فوجدنا أن السنة لم تحكم عليه بالنجاسة، كما سيأتي ذكر أدلة القول الثاني إن شاء الله تعالى. الدليل الثالث: استدل فقهاء الحنفية بما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعائشة: إذا وجدت المني رطباً فاغسليه، وإذا وجدته يابساً فحتيه. [لا أصل له] (¬2). الدليل الرابع: (1551 - 79) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا عمرو بن ميمون الجزري، عن سليمان بن يسار، عن عائشة قالت: كنت أغسل الجنابة من ثوب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه. ورواه مسلم بنحوه (¬3). وجه الاستدلال: قالوا: إن غسل المني دليل على نجاسته، لأن الطاهر لا يطهر، ولا يقال: ¬
الدليل الخامس
إن غسله للنظافة؛ لأن الأصل في الغسل أنه للنجاسة، إذ هي المأمور بغسلها، ولأن في غسله إتلافاً للماء، وإتعاباً للغاسل من غير ضرورة. وتعقب هذا من وجوه: الأول: أن عائشة رضي الله عنها كانت تفركه يابساً، ولا تغسله، فلو كان نجساً لما اكتفت بفركه، ولوجب غسله كالمذي. ثانياً: هذا الأمر مجرد فعل من عائشة، وفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - المجرد لا يدل على الوجوب، فكيف بفعل غيره. ثالثاً: إن الثوب قد يغسل من المخاط والبصاق وكل ما يستقذر، ولا يكون هذا كافياً في الدلالة على نجاسته، وقد حث الإسلام على النظافة، فقد يتلف الماء في إزالة ما هو طاهر كغسل الثوب لإزالة الأوساخ ونحوها، وكما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في إزالة النخامة من المسجد وتطييب محلها (¬1). الدليل الخامس: (1552 - 80) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا خالد ابن عبد الله، عن خالد، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، أن رجلاً نزل بعائشة، فأصبح يغسل ثوبه، فقالت عائشة: إنما كان يجزئك إن رأيته أن تغسل مكانه، فإن لم تر نضحت حوله، ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركاً فيصلي فيه. وجه الاستدلال: قال القرطبي: وهذا من عائشة يدل على أن المني نجس، وأنه لا يجزئ فيه إلا غسله، فإنها قالت: إنما: وهي من حروف الحصر، ويؤيد هذا ويوضحه ¬
قولها: فإن لم تر نضحت حوله، فإن النضح إنما مشروعيته حيث تحققت النجاسة، وشك في الإصابة، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث أصبح يغسل جنابة من ثوبه، فقال: أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أر (¬1). فإن قيل: ألم تقل: ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركاً، فيصلي فيه، ألا يدل هذا على طهارته؟ قيل: لا يدل؛ لأن النجاسة تزال بأي مزيل، والفرك في حق النجاسة اليابسة كاف في تطهيرها، كما كانت طهارة النعل بدلكه في الأرض، وسنذكره إن شاء الله في أدلة القول الثاني. فالجواب: أن المني سائل ثخين، ويتشرب جزء منه الثوب كالبول والمذي بخلاف النعل إذا علق به سرجين يابس فدلك زالت النجاسة بالكلية، فلو كان نجساً لما اقتصر على فركه، ولذلك فإن فالمالكية (¬2)، وهي رواية الحسن عن أبي حنيفة (¬3)، ¬
الدليل السادس
واختارها أبو يوسف (¬1) لا يرون إزالته بالفرك، بل يوجبون الماء في تطهيره. الدليل السادس: قالوا: إن المني فضلة مستحيلة عن الغذاء، يخرج من مخرج البول، فكانت نجسة كالبول، ولا يرد علينا البصاق والمخاط والدمع والعرق؛ لأنها لا تخرج ¬
الدليل السابع
من مخرج البول (¬1). ألا ترى أن الفضلات الخارجة من أعالي البدن ليست نجسة، وفي أسافله تكون نجسة. وأجيب: بأن حكمك بالنجاسة إما أن يكون للاستحالة عن الغذاء، أو للخروج من مخرج البول، أو لمجموع الأمرين: فالأول باطل؛ إذ مجرد استحالة الفضله عن الغذاء لا يوجب الحكم بنجاستها، كالدمع والمخاط والبصاق. وإن كان لخروجه من مخرج البول، فهذا إنما يفيدك أنه متنجس لنجاسة مجراه، لا أنه نجس العين وهذا فاسد أيضاً؛ فإن المجرى والمقر الباطن لا يحكم عليه بالنجاسة، وإنما يحكم بالنجاسة بعد الخروج والانفصال، ويحكم بنجاسة المنفصل لخبث عينه لا لمجراه ومقره، وقد علم بهذا بطلان الاستناد إلى مجموع الأمرين (¬2). ثم إن قياسه على جميع الخارجات بجامع إشتراكهن في المخرج ليس دليلا شرعياً، وهو منقوض بالدبر، فإنه مخرج الريح الطاهر، ومخرج الغائط النجس، وبالفم فانه مخرج النخامة والبصاق الطاهرين، ومخرج القيء النجس على قول. الدليل السابع: قالوا: إن المني خارج من البدن يجب الاغتسال بخروجه، فكان نجساً كدم الحيض، ولأن الأحداث الموجبة للطهارة نجسة كالبول والغائط والمذي. ¬
الدليل الثامن
وأجيب: لا نسلم أن الأحداث الموجبة للطهارة كلها نجسة، فالريح طاهرة، ومع ذلك هي حدث إجماعاً، ولم يوجب كونها حدثاً أن يستنجى منها، ولا أن تغسل الثياب والأبدان بسببها. ولو غيب ذكره في الفرج الحلال دون إنزال وجب عليه الغسل بينما لو غيب ذكره في دم خنزير أو عذرة، لم يجب عليه غسل. فدل على إن إيجاب الغسل ليس معناه نجاسة المني، وإلا لوجب الغسل من البول والغائط، للإجماع على نجاستهما. الدليل الثامن: قياس المني على المذي، قال الباجي: دليلنا من جهة القياس أنه مائع تثيره الشهوة، فوجب أن يكون نجساً كالمذي (¬1). وأجيب: بأن المني غير المذي، فالأول يتكون منه الولد الذي هو أصل الإنسان، والمذي بخلافه. وكون الجامع بين المني والمذي هو الشهوة قياس لا يصح؛ وذلك لأن الشهوة ليست هي مناط التنجيس حتى تكون علة في إلحاق الفرع بالأصل. الدليل التاسع: قال ابن تيمية: الاستنجاء من المني فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على الدوام، ولا أعلم إخلالهم به بحال (¬2). اهـ ¬
(1553 - 81) والدليل على الاستنجاء من المني ما رواه البخاري، من طريق الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة، فغسل فرجه بيده، ثم دلك بها الحائط، ثم غسلها، ثم توضأ وضوءه للصلاة، فلما فرغ من غسله غسل رجليه. رواه البخاري ومسلم واللفظ للأول (¬1). ويجاب عنه: أن الاستنجاء من المني ليس كالاستنجاء من البول، وذلك أن المني يوجب غسل البشرة كلها، ومن ذلك رأس الذكر، فإن أخر غسل الذكر إلى آخر الغسل ربما أوجب هذا مس ذكره، فانتقض وضوءه، فكان غسله في بداية غسله للجنابة ليس غسلاً من نجاسة، وإنما هو رفع للحدث عن ذلك الموضع من البدن، والدليل أن الاستنجاء منه ليس كالاستنجاء من البول أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يتحرز منه، فربما تلوث ثوبه به، وربما صلى بذلك الثوب، ورأته عائشة ففركته، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يصلي، وسوف نذكر ذلك إن شاء الله ¬
دليل من قال بطهارة المني
تعالى ونخرجه في أدلة القول الثاني. دليل من قال بطهارة المني. الدليل الأول: الأصل في الأعيان الطهارة، ولا يقال بنجاسة شيء حتى يأتي دليل صحيح صريح سالم من المعارضة، ولا دليل على نجاسة المني. الدليل الثاني: قالوا: لو كان المني نجساً لجاء الأمر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغسله، خاصة أن البلوى فيه شديدة في الأبدان والثياب والفرش وغيرها، فلما لم يأمرهم - صلى الله عليه وسلم - بغسل ما أصابهم علم أن المني طاهر، إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحائض أن تغسل ما أصاب ثوبها من دم الحيض، مع أن البلوى في المني أكثر وأشد، وأمر بغسل المذي أيضاً، ولم يأمر بغسل المني، فعلم أن غسله ليس واجباً، وأن عينه ليست نجسة. الدليل الثالث: (1554 - 82) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أحمد بن جواس الحنفي أبو عاصم، حدثنا أبو الأحوص، عن شبيب بن غرقدة، عن عبد الله بن شهاب الخولاني، قال: كنت نازلاً على عائشة، فاحتلمت في ثوبي، فغمستهما في الماء، فرأتني جارية لعائشة، فأخبرتها، فبعثت إلي عائشة، فقالت: ما حملك على ما صنعت بثوبيك؟ قال: قلت: رأيت ما يرى النائم في منامه. قالت: هل رأيت فيهما شيئاً؟ قلت: لا. قالت: فلو رأيت شيئاً غسلته، لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يابساً بظفري. وجه الاستدلال: أن عائشة كانت تفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركاً، وهذا دليل على طهارته؛ إذ لو كان نجساً لوجب غسله كسائر النجاسات. وأجيب عنه: أولاً: ثبت في طهارة النعل الدلك بالتراب، وكان ذلك طهارة له (¬1). فإذا كان الدلك في النعل لم يدل على طهارة الأذى الذي في النعل، لم يكن دلك المني دليلاً على طهارة المني. نعم يصح الاستدلال على طهارة المني لو أن عائشة تركت المني على ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم تغسله رطباً، ولم تفركه يابساً، أو اكتفت بفركه، وهو رطب، أما ما دامت تغسله رطباً، ¬
الدليل الرابع
وتفركه يابساً فليس فيه دليل على طهارته، والله أعلم. ورد هذا: بأن المني سائل، وليس جامداً كالعذرة اليابسة، فدلك العذرة طهارة للنعل، لأنه لن يترك أثراً من تلك النجاسة، ولكن سلت المني من الثوب، حالة كونه رطباً، أو فركه حالة كونه يابساً لن يطهر الثوب من المني تماماً وهذا شأن الأعيان الطاهرة، وليست النجسة، وقد قدمنا مثل هذا الكلام. ثانياً: قولكم: إن الفرك خاص بمنيه - صلى الله عليه وسلم -، ومنيه طاهر كسائر فضلاته عليه الصلاة والسلام. يقال: لا نسلم أنه من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفضلاته - صلى الله عليه وسلم - كسائر المسلمين، ولا يقدح هذا في ذاته الشريفة، فهو بشر كسائر البشر إلا أنه يوحى إليه {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي} (¬1)، وكان يستنجي من البول والغائط، فنص على بشريته - صلى الله عليه وسلم -، وأكدها بقوله: " مثلكم " والفرق بينه وبين غيره ما ذكره تعالى بقوله: "يوحى إلي ". وعلى تقدير كونه من الخصائص، فإن منيه كان من جماع، فيخالط مني المرأة، فلو كان نجساً لم يكتف فيه بالفرك (¬2). الدليل الرابع: بأنه ورد أن النبي كان يسلت المني من ثوبه، وهو رطب، من غير غسل، ¬
الدليل الخامس
وهذا يدل على طهارته؛ لأن سلت الرطب لا يزيل العين بالكلية، بخلاف ما قد يقال في فرك اليابس. (1555 - 83) فقد روى أحمد من طريق عكرمة بن عمار، عن عبد الله ابن عبيد بن عمير، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر، ثم يصلي فيه، ويحته من ثوبه يابساً ثم يصلي فيه. [إسناده حسن إن شاء الله] (¬1). الدليل الخامس: ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما صلى، وهو في ثوبه، فتحته عائشة من ثوبه، وهو في الصلاة، وهذا فيه إشارة إلى أن إزالته من باب الاستقذار، لأنه لم يكن يتفقد ثوبه قبل صلاته. (1556 - 84) فقد روى ابن خزيمة، قال: حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا إسحاق، يعني: الأزرق، قال: حدثنا محمد بن قيس، عن محارب بن دثار، عن عائشة، أنها كانت تحت المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يصلي (¬2). [رجاله ثقات]. الدليل السادس: قالوا: كل ما لا يمكن الاحتراز عن ملابسته معفو عنه، ومعلوم أن المني ¬
الدليل السابع
يصيب أبدان الناس وثيابهم وفرشهم بغير اختيارهم أكثر مما يلغ الهر في آنيتهم، فهو طواف الفضلات، بل قد يتمكن الإنسان من الاحتراز من البصاق والمخاط المصيب ثيابه، ولا يقدر على الاحتراز من مني الاحتلام والجماع، وهذه المشقة الظاهرة توجب طهارته لو كان المقتضي للتنجيس قائماً، ألا ترى أن الشارع خفف في النجاسة المعتادة فاجتزأ فيها بالجامد مع أن إيجاب الاستنجاء عند وجود الماء أهون من إيجاب غسل الثياب من المني لا سيما في الشتاء في حق الفقير، ومن ليس له إلا ثوب واحد (¬1). الدليل السابع: (1557 - 85) ما رواه الشافعي، قال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار وابن جريج، كلاهما يخبر عن عطاء، عن ابن عباس أنه قال في المني يصيب الثوب: أمطه عنك. قال أحدهما: بعود أو إذخرة، وإنما هو بمنزلة البصاق أو المخاط (¬2). [إسناده صحيح، وروي مرفوعاً ولم يصح] (¬3). ¬
الدليل الثامن
الدليل الثامن: قال الشافعي في الأم: بدأ الله جل وعز خلق آدم من ماء وطين، وجعلهما معاً طهارة، وبدأ خلق ولده من ماء دافق، فكان في ابتدائه خلق آدم من الطهارتين اللتين هما الطهارة دلالة أن لا يبدأ خلق غيره إلا من طاهر لا من نجس. وأجيب: بأن قولكم إن المنى مبدأ خلق البشر، فكان طاهراً كالتراب غريب، فالتراب وضع طهوراً ومساعداً للطهور في الولوغ، ويرفع الحدث أو حكمه، فأين ما يتطهر به إلى ما يتطهر منه؟ على أن الاستحالات تعمل عملها، فأين الثواني من المبادىء، وهل الخمر إلا ابنة العنب، والمني إلا المتولد من الأغذية ¬
الراجح من الخلاف
في المعدة ذات الإحالة لها إلى النجاسة، ثم إلى الدم، ثم إلى المني (¬1). ورد هذا الجواب: أما كون المني يتطهر منه، فقد أجبنا على هذا، وأن هذا لا يقتضي تنجيسه. وأما اعتبار الإحالة، فهذا صحيح، وهو حجة عليكم، فالاستحالة تقلب الطيب إلى خبيث، كالغذاء ينقلب إلى عذرة، وتقلب الخبيث إلى طيب، كاللبن من دم الحيض، فلو اعتبرنا الإحالة لحكمنا بطهارة المني، فإن كان المني قد استحال من الدم، فالدم على الصحيح طاهر، وسوف نذكر الخلاف فيه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وإن كان قد استحال من البول والغائط، فأين الغائط النتن من المني ذو الرائحة الطيبة، فلو أعطينا الاستحالة حكمها لحكمنا بطهارة المني، والله أعلم. الراجح من الخلاف. القول بطهارة المني قول قوي جداً، ويكفي حجة لهذا القول أن الشارع لم يأت منه أمر بغسله، ولو كان نجساً لجاء الأمر بغسله، والتوقي منه كما جاء الأمر بالاستتار من البول، وغسل دم الحيض، وغسل المذي، وغيرها من سائر النجاسات، ولا مع من قال بنجاسته إلا مجرد أن عائشة كانت تغسله من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتفركه إذا كان يابساً، ولو كان الفاعل هو النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ذلك حجة على نجاسة المني؛ لأن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - المجردة لا تقتضي الوجوب، والله أعلم. ¬
الفرع الأول في المني الخارج بعد الاستجمار
الفرع الأول في المني الخارج بعد الاستجمار إذا خرج المني، وقد سبقه استجمار، فاختلف العلماء القائلون بطهارة المني هل يبقى المني طاهراً أم يتنجس؛ لاختلاطه بأثر البول المتبقي بعد الاستجمار؟. فقيل: يتنجس، وإليه ذهب الشافعية (¬1). وقيل: لا يؤثر ذلك، ويبقى المني طاهراً، وهو مذهب الحنابلة (¬2). دليل من قال بنجاسته: هذا القول مركب من مقدمة ونتيجة. المقدمة: أن الاستجمار لا يطهر المحل، وإنما يخفف النجاسة، فأثر النجاسة الباقية على المحل معفو عنها. النتيجة: إذا اختلط أثر البول بالمني الخارج تنجس المني، ولو كان الالتقاء في الباطن لم يضر، أما في الخارج فإنه يُنَجِس المني. وحتى القائلون بنجاسة المني كالحنفية يرون أن طهارته بالفرك إذا كان يابساً، فإذا سبقه استجمار تعين الماء في تطهيره، ولا يجزئ الفرك، ولو كان يابساً للعلة نفسها. وقال في الدر المختار: ويطهر مني يابس بفرك إن طهر رأس حشفة كأن كان مستنجياً بماء (¬3). اهـ ¬
دليل الحنابلة
قال ابن عابدين في حاشيته شرحاً لهذا النص: " قوله: إن طهر رأس حشفة. قيل: هو مقيد أيضاً بما إذا لم يسبقه مذي، فإن سبقه فلا يطهر إلا بالغسل. وعن هذا قال شمس الأئمة الحلواني: مسألة المني مشكلة؛ لأن كل فحل يمذي ثم يمني إلا أن يقال: إنه مغلوب بالمني، مستهلك فيه، فيجعل تبعاً. وهذا ظاهر، فإنه إذا كان كل فحل كذلك، وقد طهره الشرع بالفرك يابساً يلزم أنه اعتبر مستهلكاً للضرورة، بخلاف ما إذا بال فلم يستنج حتى أمنى لعدم الملجئ. ثم قال: وقوله: كأن كان مستنجياً بماء: أي بعد البول، واحترز عن الاستنجاء بالحجر؛ لأنه مقلل للنجاسة لا قالع لها. (¬1) اهـ وعليه فمذهب الحنفية يكفي فرك المني من رأس الحشفة بشرط أن يكون قد استنجى بماء، فإن كان استنجاؤه بحجر، فيجب غسل المني. والله أعلم. والعجيب: أن الحنفية لا يرون الاستنجاء واجباً إذا لم يتجاوز الخارج موضعه المعتاد، فكيف أوجبوا غسل المني من رأس الحشفة إذا كان قد استجمر!! دليل الحنابلة: أن غالب الصحابة كانوا يستجمرون بالحجارة، حتى إن بعضهم أنكر استعمال الماء في إزالة النجاسة، وقد قدمنا ذلك في كتاب الاستنجاء، ومع ذلك لم يأمرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغسل المني، ولو كان غسله واجباً لبينه - صلى الله عليه وسلم - لأمته. كما أن الصحيح أن الاستجمار مطهر، وأما أثر الاستنجاء، ¬
الراجح من الخلاف
فقيل: نجس، معفو عن يسيره. وقيل: طاهر (¬1). وحكي الإجماع على أنه معفو عنه. قال ابن قدامة: وقد عفي عن النجاسات المغلظة لأجل محلها في ثلاثة مواضع: أحدها: محل الاستنجاء، فعفي فيه عن أثر الاستجمار بعد الإنقاء واستيفاء العدد بغير خلاف نعلمه. واختلف أصحابنا في طهارته، فذهب أبو عبد الله بن حامد وأبو حفص بن المسلمة إلى طهارته، وهو ظاهر كلام أحمد، فإنه قال في المستجمر يعرق في سراويله: لا بأس به، ولو كان نجساً لنجسه. ثم قال: وقال أصحابنا المتأخرون: لا يطهر المحل، بل هو نجس. اهـ أي نجس معفو عنه (¬2). وقال البهوتي: وأثر الاستجمار نجس؛ لأنه بقية الخارج من السبيل، يعفى عن يسيره بعد الإنقاء واستيفاء العدد، بغير خلاف نعلمه (¬3). وقد ذكرنا الأدلة على أن الاستجمار مطهر على الصحيح في كتاب الاستنجاء. الراجح من الخلاف: بعد استعراض أدلة الفريقين نرى أن ما ذهب إليه الحنابلة من أن المني طاهر، ولو اختلط في أثر الاستجمار أقوى حجة، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني في طهارة ماء المرأة
الفرع الثاني في طهارة ماء المرأة اختلف العلماء القائلون بطهارة مني الرجل، اختلفوا في حكم مني المرأة. فقيل: إن ماءها طاهر كالرجل، وهو الراجح في مذهب الشافعية (¬1)، ومذهب الحنابلة (¬2). والأدلة على طهارته هي الأدلة على طهارة مني الرجل وقد سبق ذكرها في المسألة السابقة. وقيل: إن ماءها نجس، وهو قول في مذهب الشافعية والحنابلة (¬3)؛ لأن رطوبة فرجها نجسة. والصواب الأول، وسوف يأتي الكلام على رطوبة فرج المرأة، ولو قدر أن رطوبة فرج المرأة نجسة فإن اختلاط الماء في الباطن لا يضر. ¬
المبحث الثاني في مني الحيوان
المبحث الثاني في مني الحيوان اختلف العلماء في مني الحيوان فقيل: نجس مطلقاً من غير فرق بين مأكوله وغير مأكوله، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والقول المعتمد في مذهب المالكية (¬2)، وقول للشافعية (¬3). وقيل: بنجاسة مني الكلب والخنزير أو فرع أحدهما، وطهارته من سائر الحيوانات مطلقاً، وهو الأصح عند الشافعية (¬4). وقيل: إن كان المني من مأكول اللحم فهو طاهر، وإن كان من محرم الأكل فهو نجس. وهذا قول في مذهب المالكية (¬5)، وقول في مذهب الشافعية (¬6)، والمشهور في مذهب الحنابلة (¬7). ¬
دليل من قال بنجاسة مني الحيوان مطلقا
دليل من قال بنجاسة مني الحيوان مطلقاً. الدليل الأول: كل دليل استدلوا به على نجاسة مني الآدمي استدلوا به على نجاسة مني الحيوان، وقد سبقت أدلة الحنفية والمالكية على نجاسة مني الآدمي في مسألة مستقلة. الدليل الثاني: أن هذا المني نجس لأنه يجري مجرى البول. وقد أجبنا على هذا الدليل في مسألة مني الآدمي. الدليل الثالث: أن أصله من الدم، والدم نجس، فيكون نجساً تبعاً لأصله. وقد أجيب عن هذا في الأدلة السابقة. دليل من قال بطهارة مني كل حيوان عدا الكلب والخنزير: لما كان مذهب الشافعية طهارة كل حيوان عدا الكلب والخنزير جعلوا منيه تبعاً لبدنه، فما كان من حيوان طاهر عندهم كان منيه كذلك، وما كان من حيوان نجس عندهم كان منيه نجساً. والشافعية لم يجعلوا حكم المني حكم البول؛ لأنهم يقولون بنجاسة البول مطلقاً من كل حيوان وطير، وإنما جعلوا العبرة لبدن الحيوان. دليل من فرق بين مني الحيوان المأكول وغير المأكول. الدليل الأول: قالوا: إن الحيوان المأكول بوله طاهر فكذلك منيه.
الدليل الثاني
لكن يشكل على هذا أنهم حكموا على بول الآدمي بالنجاسة، وحكموا على منيه بأنه طاهر، فإن كان المني تبعاً للبول فلماذا قالوا بطهارة مني الآدمي. الدليل الثاني: القياس على لبن الحيوان، فمادام أن لبن الحيوان المأكول طاهر، فكذلك منيه. الذي يظهر لي أن المني تبعاً لحكم الحيوان، فإذا كان الحيوان طاهراً في الحياة فإن منيه طاهر، لأن المني فضلة كسائر فضلاته، فإذا حكمنا بالطهارة لعرق الحيوان وريقه فكذلك منيه لا يخرج عن سائر فضلاته. وإن حكمنا لعرقه وريقه بالنجاسة كان منيه أولى بهذا الحكم. ولأن كل حيوان منيه أصل له، فإذا كان طاهراً حال حياته، فيلزم أن يكون منيه كذلك، والله أعلم. وقد حكمنا بالطهارة لكل حيوان حلال الأكل. كما حكمنا بالطهارة لكل حيوان يشق التحرز منه كالبغل والحمار والهر ونحوها. وقد حكمنا بالنجاسة لكل حيوان محرم الأكل كالكلب والخنزير وسباع البهائم والطير، والله أعلم.
المبحث الثالث في المذي
المبحث الثالث في المذي اختلف أهل العلم في نجاسة المذي، فقيل: نجس، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة. وقيل: المذي طاهر، وهو رواية عن أحمد (¬4). دليل من قال: إن المذي نجس. الدليل الأول: (1558 - 86) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع وأبو معاوية وهشيم، عن الأعمش، عن منذر بن يعلى -ويكنى أبا يعلى- عن ابن الحنفية، عن علي قال كنت رجلا مذاء، وكنت أستحيي أن أسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال يغسل ذكره ويتوضأ، ورواه البخاري بنحوه (¬5). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1559 - 87) ما رواه أحمد، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني سعيد بن عبيد بن السباق، عن أبيه، عن سهل بن حنيف قال: كنت ألقى من المذي شدة، فكنت أكثر الاغتسال منه، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك؟ فقال: إنما يجزئك منه الوضوء. فقلت: كيف بما يصيب ثوبي؟ فقال يكفيك أن تأخذ كفا من ماء فتمسح بها من ثوبك حيث ترى أنه أصاب (¬1). [إسناده حسن] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1560 - 88) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا إبراهيم بن موسى، قال: أخبرنا عبد الله بن وهب، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن حزام بن حكيم، عن عمه عبد الله بن سعد الأنصاري، قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عما يوجب الغسل، وعن الماء يكون بعد الماء؟ فقال: ذلك المذي، وكل فحل يمذي، فتغسل من ذلك فرجك وإنثييك، وتوضأ وضوءك للصلاة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (1561 - 89) ما رواه ابن ماجه، من طريق مصعب بن شيبة، عن أبي حبيب بن يعلى ابن منية، عن ابن عباس أنه أتى أبي بن كعب ومعه عمر، فخرج عليهما، فقال: إني وجدت مذياً، فغسلت ذكري، وتوضأت، فقال عمر: أو يجزئ ذلك؟ قال: نعم قال: أسمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (1562 - 90) روى عبد الرزاق، عن الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال في المذي والودي والمني: من المني الغسل، ومن المذي والودي الوضوء، يغسل حشفته ويتوضأ (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل السادس: حكى الإجماع على نجاسته، وعلى وجوب الوضوء. قال ابن عبد البر: وأما المذي المعهود المتعارف عليه، وهو الخارج عند ملاعبة الرجل أهله لما يجده من اللذة، أو لطول عزبة، فعلى هذا المعنى خرج السؤال في حديث علي هذا، وعليه وقع الجواب، وهو موضع إجماع لا ¬
دليل من قال بطهارته
خلاف بين المسلمين في إيجاب الوضوء منه، وإيجاب غسله لنجاسته (¬1). وقال النووي: أجمعت الأمة على نجاسة المذي والودي (¬2). وسبق لنا أن الإمام أحمد في رواية عنه يرى أن المذي طاهر، فالخلاف محفوظ. دليل من قال بطهارته: الدليل الأول: قالوا: إن المذي خارج بسبب الشهوة، فيكون طاهراً (¬3). وكأن هذا القول قاسه على المني، ولو صح القياس لوجب فيه الغسل، فلما لم يجب فيه الغسل علم أن قياسه على المني لا وجه له. الدليل الثاني: (1563 - 91) ما رواه عبد الرزاق، قال: عن ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب، عن عمر، قال: إني لأجد المذي على فخذي ينحدر وأنا على المنبر ما أبالي بذلك (¬4). [إسناده منقطع] (¬5) ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: ربما يؤخذ من كونه ورد في بعض الأحاديث النضح في طهارته ربما يفهم بعضهم منه أن ذلك دليل على طهارته، كما قالوه في بول الصبي الذي لم يأكل الطعام، وليس في ذلك ما يدل على طهارته؛ لأنه لو كان طاهراً لما وجب في حقه النضح، مع أن النضح مختلف فيه، هل المقصود به الغسل، أو مجرد الرش، وهل ذلك على البدن أم في الثياب خاصة، وسوف يأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى في كيفية تطهير النجاسات في باب مستقل بلغنا الله إياه بمنه وكرمه ورحمته. ¬
المبحث الرابع في نجاسة الودي
المبحث الرابع في نجاسة الودي اختلف العلماء في حكم الودي، فقيل: الودي نجس، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). وقيل: طاهر، وهي رواية عن أحمد (¬2). الدليل على نجاسة الودي: الدليل الأول: (1564 - 92) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن الركين، عن حصين بن قبيصة الفزاري، ¬
الدليل الثاني
عن علي قال: كنت رجلا مذاء، وكانت تحتي بنت رسول الله صلىالله عليه وسلم، فكنت أستحي أن أسأله، فأمرت رجلاً فسأله فقال: إذا رأيت المذي فتوضأ، واغسل ذكرك، وإذا رأيت الودي فضخ الماء فاغتسل (¬1). [رجاله ثقات إلا أن ذكر الودي فيه غير محفوظ] (¬2). الدليل الثاني: (1565 - 93) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: المني والودي والمذي، فأما المني ففيه الغسل، وأما المذي والودي ففيهما الوضوء، ويغسل ذكره (¬3). [إسناده صحيح] (¬4). دليل من قال: إن الودي طاهر. قالوا: لا نعلم في الكتاب، ولا في السنة المرفوعة نصاً بأن الودي نجس، وإذا كان كذلك فالأصل طهارته، ولا يكفي في كونه يخرج من مخرج البول ¬
حتى يعطى حكمه، فهذا المني يخرج من نفس المخرج، ومع ذلك فهو طاهر، وإذا كان يخرج عقب البول، كان الاستنجاء منه بسبب البول، لا بسببه. قلت: لا شك أن أكثر الأقوال على أن الودي يخرج عقب البول، لكن قال بعض الفقهاء: إن خروج الودي بعد البول غالب لا دائم، فقد يخرج بعد حمل شيء ثقيل، وقد يخرج وحده بلا سبب (¬1). ¬
فرع مذي الحيوان غير الآدمي
فرع مذي الحيوان غير الآدمي المذي تبع للبول، فماكان بوله نجساً كان مذيه نجساً، وما كان بوله طاهراً فإن مذيه لن يكون أخبث من بوله، فحكمهما واحد. فالإنسان حين كان بوله نجساً بالإجماع كان مذيه نجساً، وكذلك الودي منه. وينبغي أن يكون حكم المذي من الحيوان حكم البول، وقد فصلنا مسألة بول الحيوان في مسألة مستقلة.
الفصل الثالث في حكم الدم
الفصل الثالث في حكم الدم المبحث الأول في نجاسة دم الحيض نقل الإجماع على نجاسة دم الحيض بعض الفقهاء، وإليك النقول عن بعضهم. قال النووي بعد أن ساق حديث أسماء في الأمر بغسل دم الحيض، قال: " والدلائل على نجاسة الدم متظاهرة، ولا أعلم فيه خلافاً عن أحد من المسلمين إلا ما حكاه صاحب الحاوي عن بعض المتكلمين أنه قال: هو طاهر، لكن المتكلمين لا يعتد بهم في الإجماع والخلاف على المذهب الصحيح الذي عليه جمهور أهل الأصول من أصحابنا وغيرهم ... الخ كلامه رحمه الله (¬1). قال الشوكاني: "واعلم أن دم الحيض نجس بإجماع المسلمين كما قال النووي" (¬2). مستند الإجماع على نجاسة دم الحيض. مستند الإجماع أدلة كثيرة، نسوق منها ما يلي: الدليل الأول: (1566 - 94) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن هشام، قال: حدثتني فاطمة عن أسماء، قالت: جاءت ¬
امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب، كيف تصنع. قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه، وتصلي فيه. ورواه مسلم (¬1). قال الحافظ رحمه الله: (تحته): أي تحكه. كذا رواه ابن خزيمة، والمراد بذلك إزالة عينه. (ثم تقرصه): أي تدلك موضع الدم بأطراف أصابعها، ليتحلل بذلك، ويخرج ما تشربه الثوب منه. (وتنضحه) قال الخطابي: أي تغسله. وقال القرطبي: المراد به الرش؛ لأن غسل الدم استفيد من قوله: " تقرصه بالماء ". وأما النضح فهو لما شكت فيه من الثوب. قال الحافظ: فعلى هذا فالضمير في قوله: تنضحه يعود على الثوب، بخلاف تحته. فإنه يعود على الدم، فيلزم منه اختلاف الضمائر، وهو على خلاف الأصل. ثم إن الرش على المشكوك فيه لا يفيد شيئاً؛ لأنه إن كان طاهراً فلا حاجة إليه، وإن كان متنجساً لم يطهر بذلك. فالأحسن ما قاله الخطابي (¬2). قلت: النضح يأتي في اللغة بمعنى الغسل، كما يأتي بمعنى الرش. قال ابن الأثير: قد يرد النضح بمعنى الغسل والإزالة، ومنه الحديث: نضح الدم عن جبينه (¬3). (1567 - 95) قلت: الحديث قد رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع ومحمد بن بشر، عن الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه، قال: ¬
الدليل الثاني
كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه، فهو ينضح الدم عن جبينه (¬1). قال السيوطي في شرحه للحديث ينضح الدم بكسر الضاد أي يغسله ويزيله (¬2). وقال الطحاوي: فقد يجوز أن يكون أراد بالنضح الغسل؛ لأن النضح قد يسمى غسلاً، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأعرف مدينة ينضح البحر بجانبها يعني يضرب البحر بجانبها. (¬3) اهـ. الدليل الثاني: (1568 - 96) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا إنما ذلك عرق وليس بحيض فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (¬4). وجه الاستدلال من الحديث: قوله: " فاغسلي عنك الدم " أمر، والأصل فيه الوجوب إلا لقرينة صارفة، ولا قرينة هنا. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1569 - 97) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أصبغ، قال: أخبرني ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن عبد الرحمن بن القاسم، حدثه عن أبيه، عن عائشة قالت: كانت إحدانا تحيض، ثم تقترص الدم من ثوبها عند طهرها فتغسله، وتنضح على سائره، ثم تصلي فيه (¬1). الدليل الرابع: (1570 - 98) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني ثابت أبو المقدام، قال: حدثني عدي بن دينار، قال: سمعت أم قيس بنت محصن قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثوب يصيبه دم الحيض. قال: حكيه بضلع (¬2) واغسليه بالماء والند وسدر. ¬
الدليل الخامس
[إسناده صحيح] (¬1). قال السندي: حكيه بضلع بكسر معجمة وفتح لام: أي بعود وفي الأصل واحد أضلاع الحيوان أريد به العود لشبهه به، وقد تسكن اللام تخفيفا. قال الخطابي: وإنما أمر بحكه لينقلع المتجسد منه، اللاصق بالثوب، ثم يتبعه الماء ليزيل الأثر، وزيادة السدر للمبالغة، وإلا فالماء يكفي، وذكر الماء لأنه المعتاد ولا يلزم منه أن غيره من المائعات لا تجزى كيف ولو كان لبيان اللازم لوجب السدر أيضاً، ولا قائل به (¬2). الدليل الخامس: (1571 - 99) ما رواه أحمد، قال: ثنا حسن، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا حيي بن عبد الله، أن أبا عبد الرحمن الحبلي حدثه، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنها طرقتها الحيضة من الليل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فأشارت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثوب، وفيه دم فأشار إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة اغسليه، فغسلت موضع الدم ثم أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الثوب فصلى فيه (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المبحث الثاني في نجاسة دم الإنسان من عرق ونحوه
المبحث الثاني في نجاسة دم الإنسان من عرق ونحوه اختلف العلماء في نجاسة الدم، فقيل: إنه نجس، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1)، إلا أنهم يرون العفو عن يسيره، على خلاف بينهم في مقدار اليسير: فقيل: المرجع في تقدير القليل والكثير إلى العرف، فما اعتبره الناس كثيراً فهو كثير، وما عده الناس قليلاً فهو قليل، وهو قول في مذهب الحنفية (¬2)، وقول في مذهب الحنابلة (¬3). ¬
وقيل: القليل: ما دون الدرهم، والكثير ما زاد عنه، وحقيقة الدرهم عند الحنفية هو الدرهم المالي (¬1)، وعند المالكية الدرهم البغلي (¬2). وقيل: كل شخص بحسبه، فما فحش بنفسه فهو كثير، والقليل: ما لم يفحش، فيكون التقدير راجعاً إلى الشخص نفسه، وهذا هو الأصل المروي عن أبي حنيفة (¬3)، ونص عليه الإمام أحمد (¬4). وفيه أقوال أخرى في تقدير القليل والكثير لا دليل عليها، سنتعرض لها إن شاء الله تعالى في باب العفو عن النجاسات. وقيل: دم العرق من الإنسان طاهر، اختاره بعض المتكلمين (¬5)، ورحجه الشوكاني (¬6). ¬
دليل من قال بنجاسة الدم المسفوح
دليل من قال بنجاسة الدم المسفوح. الدليل الأول: الإجماع على نجاسة دم الآدمي حكاه جماعة منهم الإمام أحمد وابن عبد البر كما في التمهيد، والنووي في المجموع وغيرهم. قال أحمد لما سئل عن الدم: الدم والقيح عندك سواء؟ قال: الدم لم يختلف الناس فيه، والقيح قد اختلف الناس فيه" (¬1). وقال ابن حزم في كتابه مراتب الإجماع: واتفقوا على أن الكثير من أي دم كان حاشا دم السمك، وما لا يسيل دمه نجس" (¬2). قال النووي: والدلائل على نجاسة الدم متظاهرة، ولا أعلم فيه خلافاً عن أحد من المسلمين، إلا ما حكاه صاحب الحاوي عن بعض المتكلمين، أنه قال: هو طاهر، ولكن المتكلمين لا يعتد بهم في الإجماع. الخ كلامه رحمه الله (¬3). وقال القرطبي: اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس (¬4). اهـ وقال ابن حجر: والدم نجس اتفاقاً (¬5). اهـ الدليل الثاني: قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه إلا ¬
الدليل الثالث
أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به} (¬1). وأجيب: أولاً: تحريم الأكل لا يستلزم النجاسة، لأن الآية نصت على تحريم الأكل بقوله: على طاعم يطعمه. ثانياً: الرجس، قد يراد به النجاسة المعنوية، قال تعالى: {إنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجس أهل البيت} (¬2). وقال تعالى عن المنافقين {فأعرضوا عنهم إنهم رجس} (¬3). الدليل الثالث: (1572 - 100) ما رواه البخاري في صحيحه، من طريق هشام، قال: حدثتني فاطمة، عن أسماء، قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب كيف تصنع؟ قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه وتصلي فيه، ورواه مسلم (¬4). فهذا صريح في نجاسة دم الحيض، وتدخل سائر الدماء قياساً عليه. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (1573 - 101) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي، ورواه مسلم (¬1). فقوله: (فاغسلي عنك الدم) فيه الأمر بغسله، ولو لم يكن نجساً لم يجب غسله. وأجيب: بأن الغسل بمثابة الاستنجاء من الدم الذي حكم له بأنه حيض حال إقباله وإدباره، فلم يتوجه الأمر بغسل دم الاستحاضة، والله أعلم. أدلة من قال: إن الدم طاهر. استدلوا بأدلة كثيرة، منها: الدليل الأول: أن الصحابة أهل جهاد، والمجاهدون تكثر فيهم الجراح، فلم يوجد أمر من الشارع لهم بغسله، ولو كان نجساً لجاء الدليل الصريح على وجوب غسله، فلما لم يأت دليل صحيح صريح على وجوب غسله علم من ذلك طهارته. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن الشهيد يدفن بدمه، ولا يغسل، ولو كان نجساً لوجب غسله، وقولهم: إن العلة أنه يبعث يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك، أو قولهم: إنه أثر عبادة كل ذلك ليس كافياً في ترك النجاسة على بدن المسلم، فالدم يوم القيامة ليس هو الدم الذي يدفن على ثيابه، لأن الله ينشئه نشأة أخرى، وأثر العبادة لا يجعلنا نترك الميت متضمخاً بالنجاسة، وإذا ثبتت طهارة دم الشهيد فغيره من الدماء طاهر قياس عليه. الدليل الثالث: أن الرسول لم ينزه المسجد من أن يجلس فيه الجريح والمستحاضة، وهما أصحاب جرح ينزف، وهذا مظنة تلويث المسجد بالدم، فلو كان نجساً لجاء الأمر بالنهي عن دخول المسجد، كما منعت الحائض، بل منع من هو أقل من هذا مما يؤذي، كما منع من دخول المسجد من أكل كراثاً أو بصلاً، مع الإجماع على طهارتهما. (1574 - 102) فقد روى البخاري في صحيحه، من طريق هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: أصيب سعد يوم الخندق في الأكحل، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلم يرعهم وفي المسجد خيمة من بني غفار إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دماً فمات فيها، ورواه مسلم بنحوه (¬1). ¬
الدليل الرابع
(1575 - 103) وروى البخاري من طريق خالد، عن عكرمة، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكف معه بعض نسائه، وهي مستحاضة ترى الدم، فربما وضعت الطست تحتها من الدم، وزعم أن عائشة رأت ماء العصفر فقالت: كأن هذا شيء كانت فلانة تجده (¬1). وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه مسلم: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). فإذا كان القذر لا يصلح للمسجد، وأقر الرسول - صلى الله عليه وسلم - المكلوم والمستحاضة في دخول المسجد مع أن الدم منهما قد ينزف، لم يكن هذا من المستخبث شرعاً. الدليل الرابع: جواز وطء المستحاضة ودمها ينزل، فلو كان الدم نجساً لحرم الجماع كما حرم حال الحيض في قوله تعالى: {قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} فدم الاستحاضة ليس أذى، فلا يمنع من الجماع، ولا من التلطخ به. الدليل الخامس: أن الآدمي ميتته طاهرة، فيكون دمه طاهراً كالسمك. قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: إن المؤمن لا ينجس. ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (1576 - 104) ما رواه أحمد، من طريق محمد بن إسحاق، حدثني صدقة بن يسار، عن عقيل بن جابر، عن جابر بن عبد الله، قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة ذات الرقاع، فأصيبت امرأة من المشركين، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قافلاً، وجاء زوجها وكان غائبا، فحلف أن لا ينتهي حتى يهريق دماً في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فخرج يتبع أثر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - منزلاً، فقال: من رجل يكلؤنا ليلتنا هذه؟ فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فقالا: نحن يا رسول الله. قال: فكونوا بفم الشعب، قال: وكانوا نزلوا إلى شعب من الوادي، فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب، قال الأنصاري للمهاجري: أي الليل أحب إليك أن أكفيكه أوله أو آخره؟ قال: اكفني أوله، فاضطجع المهاجري فنام وقام الأنصاري يصلي، وأتى الرجل فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئة القوم، فرماه بسهم، فوضعه فيه فنزعه فوضعه، وثبت قائماً، ثم رماه بسهم آخر، فوضعه فيه، فنزعه فوضعه، وثبت قائماً، ثم عاد له بثالث فوضعه فيه فنزعه فوضعه، ثم ركع وسجد، ثم أهب صاحبه، فقال: اجلس فقد أوتيت، فوثب، فلما رآهما الرجل عرف أن قد نذروا به، فهرب فلما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء، قال: سبحان الله ألا أهببتني؟ قال: كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها، فلما تابع الرمي ركعت، فأريتك، وايم الله لولا أن أضيع ثغراً
الدليل السابع
أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها (¬1). [الحديث ضعيف الإسناد منكر المتن] (¬2). الدليل السابع: من الآثار (1577 - 105) ما رواه ابن أبي شيبة، ومن طريقه أخرجه البيهقي، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن التيمي، ¬
عن بكر، قال: رأيت ابن عمر عصر بثرة في وجهه، فخرج شيء من دمه، فحكه بين أصبعيه، ثم صلى ولم يتوضأ (¬1). [وسنده صحيح]. (1578 - 106) ومنها ما رواه عبد الرزاق (¬2)، وابن المنذر (¬3)، من طريق الثوري وابن عيينة، عن عطاء بن السائب، قال: رأيت عبد الله بن أبي أوفى بزق دماً ثم قام فصلى. [سنده حسن]. وعطاء لا يضر اختلاطه لأن الراوي عنه الثوري، وهو ممن سمع منه قبل اختلاطه. (1579 - 107) ومنها ما رواه عبد الرزاق (¬4)، ومن طريقه ابن المنذر (¬5)، من طريق جعفر بن رقان، عن ميمون بن مهران قال: رأيت أبا هريرة رضي الله عنه أدخل أصبعه في أنفه، فخرج فيها دم، ففته بأصبعه، ثم صلى ولم يتوضأ. والراجح فيه أن إسناده منقطع، فقد رواه ابن أبي شيبة (¬6)، من طريق شعبة، عن غيلان بن جامع، عن ميمون بن مهران قال: أنبأني من رأى أبا هريرة فذكره. ¬
والقول بأن هذه الآثار كان الدم فيها يسيراً فعفي عنه، هي في الحقيقة دعوى في محل النزاع، فلا فرق بين قليل الدم وكثيره في النجاسة، كما لا فرق بين قليل البول وكثيره في الحدث. (1580 - 108) ويعارض هذا ما رواه ابن أبي شيبة من طريق خالد ومنصور، عن ابن سيرين، عن يحيى ابن الجزار، أن ابن مسعود صلى وعلى بطنه فرث ودم، قال: فلم يعد الصلاة. [وسنده صحيح] (¬1). هذا فيما يتعلق بالخلاف في طهارة الدم، والذي نفسي تميل إليه رجحان طهارة الدم من الإنسان، للأدلة الكثيرة الصحيحة على طهارته، وما نقل من إجماع يعتذر لهم بأن المراد إجماع أهل المذهب الذين نقل عنهم هذا الرأي، أو يقال: إن بعض من ينقل الإجماع يتابع بعضهم بعضاً، وعلى كل فالذي لا شك فيه أن القول بالنجاسة هو قول عامة أهل العلم، إلا أن الصواب لا يدرك بكثرة الرجال، وإنما حسب قربه أو بعده من الأدلة الشرعية، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في دم الشهيد
المبحث الثالث في دم الشهيد اختلف الفقهاء في دم الشهيد إذا لم ينفصل عن صاحبه، فقيل بطهارته، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: إنه نجس، وهو مذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، وقول في مذهب الحنابلة (¬5). دليل من قال بطهارته: الدليل الأول: (1581 - 109) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو الوليد، حدثنا ليث، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، ¬
الدليل الثاني
عن جابر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ادفنوهم في دمائهم يعني يوم أحد ولم يغسلهم (¬1). وجه الاستدلال: أنه لو كان الدم نجساً لأمر بإزالته عن بدن الميت، فلما أمر بدفنهم بدمائهم دل ذلك على طهارته. قلت: هذا دليل على طهارة الدم مطلقاً، دم الشهيد وغيره سواء؛ لأن الحكم بالنجاسة هو حكم وضعي، أكثر من كونه حكماً تكليفياً، فلو كان الدم نجساً لكان نجساً على الشهيد وعلى غيره، فالخبيث لا يمكن أن يكون طيباً إلا إذا تغيرت عينه باستحالة ونحوها، فلما لم يأمر بغسلها دل على طهارة دم الإنسان مطلقاً. الدليل الثاني: (1582 - 110) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله - والله أعلم بمن يكلم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم والريح ريح المسك. وأخرجه مسلم بنحوه (¬2). وجه الاستدلال: حيث شبه لون ريح دم الشهيد بريح المسك، والمسك طاهر، فالدم إذاً على الشهيد طاهر أيضاً. ¬
دليل من قال بنجاسته
وأجيب: بأن هذا الحكم يوم القيامة، وأحوال الآخرة تختلف عن أحوال الدنيا، والدم الذي رائحته ريح المسك ليس هو الدم الذي على الميت، فهو دم آخر، فقد جاء في رواية مسلم " إلا جاء يوم القيامة، وجرحه يثعب، اللون لون الدم، والريح ريح المسك ". نعم يؤخذ من الحديث فضل المطعون في سبيل الله. دليل من قال بنجاسته: قالوا: إنه دم مسفوح، فيكون نجساً كسائر الدماء، وعدم غسله من الشهيد لا لكونه طاهراً، وإنما عدم غسله للنص، ولأنه أثر ناتج عن عبادة، وأثر العبادة له فضل، كما جاء في خلوف فم الصائم ونحوه. (1583 - 111) ما رواه البخاري، قال: حدثني عبد الله بن محمد، حدثنا هشام، أخبرنا، معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. والحديث في مسلم (¬1). ¬
الراجح
الراجح: سبق أن رجحنا طهارة دم الإنسان مطلقاً إلا دم الحيض، وعدم غسل دم الشهيد دليل على صحة هذا الاختيار، لا أنه مستثنى كما رأى بعض الفقهاء رحمهم الله جميعاً؛ إذ أن دم الشهيد في الدنيا كسائر الدماء من حيث الحكم، وإنما يفارق غيره من الدماء يوم القيامة فقط، والله أعلم. ¬
المبحث الرابع في علقة الحيوان الطاهر
المبحث الرابع في علقة الحيوان الطاهر اختلف العلماء في العلقة تخرج من الحيوان الطاهر، فقيل: إنها نجسة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، ووجه في مذهب الشافعية (¬2)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬3). وقيل بطهارتها، وهو وجه في مذهب الشافعية صححه النووي (¬4)، واختاره بعض الحنابلة (¬5). ¬
دليل من قال بالنجاسة
دليل من قال بالنجاسة: القياس على دم الحيض، بجامع أن كلاً منهما دم خارج من الفرج. وأجيب: بأن القياس على دم الحيض قياس مع الفارق، حيث إن الحيض يتعلق به أحكام من ترك الصلاة والصيام، بخلاف العلقة. دليل من قال بالطهارة: الدليل الأول: لا يوجد دليل على نجاسة العلقة، والأصل في الأعيان الطهارة. الدليل الثاني: أن العلقة أصلها مني، وهو طاهر على الصحيح كما قدمنا. وإن كان هذا الدليل يمكن مناقشته، بأن المني قد تحول إلى دم، فالعين الثانية صارت غير الأولى. الدليل الثالث: العلقة وإن كانت دماً، إلا أنها ليست دماً مسفوحاً، فهي تشبه دم الكبد والطحال ونحوها، فتكون طاهرة.
المبحث الخامس في دم القلب واللحم والدم الباقي في العروق من الحيوان المأكول بعد الذبح
المبحث الخامس في دم القلب واللحم والدم الباقي في العروق من الحيوان المأكول بعد الذبح اختلف العلماء في هذا الدم، فقيل: طاهر، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: نجس، ولكنه معفو عنه، وهو مذهب الشافعية (¬4). ولا فرق كبير بين القولين، سواء قلنا: إنه طاهر أصلاً، أو قلنا: إنه نجس عفي عنه، لأن المحصلة النهائية أنه لا حكم له من حيث وجوب غسله. ¬
الدليل الأول
الدليل على طهارة دم العروق: الدليل الأول: قوله تعالى {أو دماً مسفوحاً فإنه رجس} (¬1)، فنصت الآية على تحريم الدم المسفوح، وهذا غير مسفوح. الدليل الثاني: الإجماع، قال ابن تيمية: وقد ثبت أنهم يضعون اللحم بالقدر، فيبقى الدم في الماء مخلوطاً، وهذا لا أعلم بين العلماء خلافاً في العفو عنه (¬2). ومن قال بالعفو عنه، هل كان يرى العفو بسبب كونه دماً يسيراً، فلو كان كثيراً فإنه لا يعفى عنه؟ أو كان يرى العفو لمشقة التحرز، فيكون طاهراً سواء كان الدم يسيراً أم لا؟ محل تأمل. قال ابن العربي: قال الإمام الحافظ: الصحيح أن الدم إذا كان مفرداً حرم منه كل شيء, وإن خالط اللحم جاز; لأنه لا يمكن الاحتراز منه, وإنما حرم الدم بالقصد إليه (¬3). وقال في الجوهرة النيرة: أما الذي يبقى في اللحم بعد الذكاة فهو طاهر، وعن أبي يوسف أنه معفو عنه في الأكل, ولو احمرت منه القدر, وليس بمعفو عنه في الثياب والأبدان; لأنه لا يمكن الاحتراز منه في الأكل، ويمكن في غيره (¬4). ¬
والظاهر من التعليلات المذكورة ضمن كلام العلماء المنقول آنفاً: أن الدم المخالط لغيره من اللحم والعروق طاهر لمشقة التحرز منه، وبناء على ذلك يكون طاهراً قليله وكثيره عند من أطلق، ولم يقيده بقليل ولا كثير كابن العربي ومن نحا نحوه، والله أعلم.
المبحث السادس دم الكبد والطحال
المبحث السادس دم الكبد والطحال الكبد والطحال من الحيوان الطاهر طاهران بالإجماع، نقل الإجماع النووي وغيره (¬1). وقال المرداوي: الكبد والطحال، وهما دمان، ولا خلاف في طهارتهما، وقداختلف العلماء في الدم المتحلب من الكبد والطحال. فقيل: إنه دم طاهر، وإليه ذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والحنابلة (¬4)، والشافعية في أحد الوجهين (¬5). وقيل: إنه دم نجس، وإليه ذهب الشافعية في القول الراجح عندهم (¬6). دليل الجمهور: (1584 - 112) أن الكبد والطحال مأكولان، كما جاء في أثر ابن ¬
عمر، رواه الشافعي في مسنده (¬1)، وأحمد (¬2)، وعبد بن حميد في المنتخب (¬3)، وابن ماجه (¬4)، وابن حبان في المجروحين (¬5)، والدارقطني (¬6)، والبيهقي (¬7)، من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه زيد بن أسلم، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالكبد والطحال. [الراجح وقفه على ابن عمر، وقول الصحابي أحل لنا كذا في حكم المرفوع] (¬8). ¬
دليل الشافعية على النجاسة
وإذا كانت الكبد والطحال حلال الأكل، مع أنهما دمان، دل ذلك على طهارتهما، إذ لا يؤكل إلا ما كان طاهراً، فكذلك ما تحلب منهما لا بد أن يكون طاهراً. الدليل الثاني: أن المحرم هو الدم المسفوح، ودم الكبد والطحال ليس مسفوحاً، فيكون طاهراً. دليل الشافعية على النجاسة: أن الدم المتحلب من الكبد والطحال دم مسفوح، فحقه أن يكون نجساً، لكن عفا عنه الشرع. ¬
المبحث السابع في دم السمك
المبحث السابع في دم السمك اختلف القائلون بنجاسة الدم المسفوح، في حكم دم السمك، فقيل: إنه طاهر، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2)، وقول في مذهب المالكية (¬3)، ووجه في مذهب الشافعية (¬4). وقيل: نجس، اختاره أبو يوسف من الحنفية (¬5)، وهو قول في مذهب المالكية (¬6)، والوجه المعتمد في مذهب الشافعية (¬7)، واختيار ابن حزم (¬8). ¬
دليل من قال بطهارته
دليل من قال بطهارته: (1585 - 113) حديث ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالكبد والطحال. [سبق تخريجه والراجح وقفه، وله حكم الرفع] (¬1). وجه الاستدلال: قال أبو بكر الجصاص: لما أباح السمك بما فيه من الدم من غير إراقة دمه, وقد تلقى المسلمون هذا الخبر بالقبول في إباحة السمك من غير إراقة دمه, وجب تخصيص الآية (يعني: قوله تعالى: أو دماً مسفوحاً) في إباحة دم السمك; إذ لو كان محظوراً لما حل دون إراقة دمه كالشاة وسائر الحيوان ذوات الدماء, والله أعلم (¬2). الدليل الثاني: قالوا: إن دم السمك ليس بدم في الحقيقة، وذلك لأن الدم يسود إذا شمس، ودم السمك يَبْيَضَّ، ولأن طبع الدم حار، وطبع الماء بارد، فلو كان للسمك دم لم يدم سكونه في الماء (¬3). ¬
دليل من قال بنجاسته
دليل من قال بنجاسته: الدليل الأول: قال تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم} (¬1)، وهذا عام في كل دم، ومنه دم السمك. الدليل الثاني: قالوا: إن دم السمك داخل في عموم قوله تعالى: {أو دماً مسفوحاً فإنه رجس} (¬2). الدليل الثالث: من جهة القياس، أن دم السمك دم سائل، فوجب أن يكون نجساً كسائر الدماء. وأجيب: بأن الاستدلال بالعام أو المطلق غير صحيح؛ لأن الخاص مقدم على العام، وقد دل الدليل على جواز أكل ميتة السمك، مع أن الدم منحبس فيها، وقد أجاز الشافعية أكل السمك الميت، فكيف يكون الدم طاهراً إذا كان محبوساً في ميتته، ويكون نجساً إذا خرج منها؟ فهذا دليل على ضعف قولهم. ¬
الفصل الرابع في حكم القيء
الفصل الرابع في حكم القيء إذا خرج القيء إلى الفم، ففيه أقوال: فقيل: نجس مطلقاً، تغير أو لم يتغير، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والمعتمد عند الشافعية (¬2). وعبر ابن حزم بالتحريم، بدلاً من النجاسة، فقال: القيء حرام يجب اجتنابه من كل مسلم وكافر (¬3). وقيل: طاهر مطلقاً تغير أو لم يتغير، وهو قول الشوكاني (¬4). وقيل: إن خرج غير متغير فهو طاهر، وإن تغير ولو بحموضة فهو نجس، ولو لم يشبه أوصاف العذرة، وهذا اختيار الحسن من الحنفية (¬5)، والمالكية (¬6)، ¬
دليل من قال بنجاسته مطلقا
وقول في مذهب الشافعية (¬1). وقيل: لا ينجس القيء إلا إذا أشبه أحد أوصاف العذرة، اختاره من المالكية ابن رشد، والقاضي عياض (¬2). وقيل: قيء ما يؤكل لحمه طاهر، وأما غيره فنجس مطلقاً، وهو مذهب الحنابلة (¬3). هذا مجمل الخلاف في مسألة القيء. دليل من قال بنجاسته مطلقاً: الدليل الأول: (1586 - 114) ما رواه أبو يعلى من طريق ثابت بن حماد أبي زيد، حدثنا علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، ¬
الدليل الثاني
عن عمار، قال: مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أسقي ناقة لي فتنخمت، فأصابت نخامتي ثوبي، فأقبلت أغسل ثوبي من الركوة التي بين يدي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا عمار ما نخامتك ولا دموع عينيك إلا بمنزلة الماء الذي في ركوتك، إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني من الماء الأعظم والدم والقيء (¬1). [إسناده ضعيف جداً، وسبق تخريجه] (¬2). الدليل الثاني: أنه طعام مستخبث مستقذر لا يجوز الانتفاع به بوجه من الوجوه، فكان نجساً كالبول. وأجيب: بأن الاستقذار الشرعي دليل على النجاسة، ولا يوجد هنا، وأما استقذار الطبائع فلا يكفي للتنجيس، فإن الناس قد يستقذرون أشياء كثيرة، وهي طاهرة كالبصاق والنخامة ونحوهما. الدليل الثالث: قالوا: إن القيء ينقض الوضوء، وهذا دليل على نجاسته كالبول والغائط. والدليل على أن فيه الوضوء، (1587 - 115) ما رواه البيهقي في الخلافيات، من طريق سهل بن عفان السجزي، ثنا الجارود بن يزيد، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، ¬
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يعاد الوضوء من إقطار البول، والدم السائل، والقيء، ومن دسعة يملأ بها الفم، والنوم المضطجع، وقهقهة الرجل في الصلاة، ومن خروج الدم (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). (1588 - 116) ومنها ما رواه الدارقطني من طريق سوار بن مصعب، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: القلس حدث (¬3). قال الدارقطني: سوار متروك، ولم يروه عن زيد غيره. (1589 - 117) ومنها ما رواه أحمد، قال: حدثنا إسماعيل، أنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن يعيش بن الوليد بن هشام، عن معدان أو معدان، عن أبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قاء، فأفطر قال: فلقيت ثوبان في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألته عن ذلك فقال: أنا صببت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءه. [سبق تخريجه في كتاب الوضوء] (¬4). (1590 - 118) ومنها ما رواه ابن ماجه، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا الهيثم بن خارجة، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، ¬
عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ، ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
وهناك آثار عن بعض الصحابة في الوضوء من القيء والقلس ذكرناها في كتاب الوضوء، فارجع إليها إن شئت. وجه الشاهد من هذه الأحاديث: أن الخارج من البدن من غير السبيلين لا ينقض الوضوء إلا إذا كان نجساً، فحين توضأ من القيء، كان ذلك دليلاً على نجاسته. وأجيب: بأن القيء مختلف في نقضه للوضوء، وقد سبق بيان القول الراجح فيه في كتاب الوضوء، وعلى التسليم بأنه ينقض الوضوء، فهل ثبت أنه لا ينقض الوضوء إلا الشيء النجس، فهذه الريح تنقض الوضوء إجماعاً، وهي طاهرة. وأما الجواب عن حديث ثوبان، وقوله رضي الله عنه: أنا صببت عليه وضوءه، فمن وجهين: ¬
دليل من قال بطهارته مطلقا
الأول: أن الوضوء مجرد فعل من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، أقصى ما يدل عليه الفعل إذا كان على وجه التعبد أن يكون ذلك مستحباً، ولذلك لما تيمم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لرد السلام لم يقل أحد بوجوب التيمم لرد السلام. الثاني: أن الوضوء قد يكون بعد القيء من أجل النظافة، وإزالة القذر الذي يبقى في الفم، أو في البدن وربما في الأنف، لا من أجل كون القيء ناقضاً للوضوء، فلا نستطيع أن نحكم على من تطهر بموجب الكتاب والسنة أن نحكم عليه بفساد عبادته إلا بدليل صريح على أن عبادته أصبحت باطلة، فما صح بموجب الكتاب والسنة لا يبطل إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، أو قول صحابي لا مخالف له من الصحابة. دليل من قال بطهارته مطلقاً: الدليل الأول: الأصل في الأشياء الطهارة، ولا ننتقل عن هذا الأصل إلا بدليل شرعي صحيح، وحديث عمار لا تقوم به حجة، وهو ضعيف جداً، كما سبق بيانه عند تخريج الحديث. الدليل الثاني: أن هذا القيء مما تبتلى به الأمهات، ويكثر من الأطفال، فلو كان نجساً لقامت الحاجة إلى بيانه بدليل صحيح صريح، لأننا نعلم أن كل حكم شرعي تحتاج إليه الأمة، ويكثر وقوعه وتكراره لا بد أن تأتي فيه الأدلة صحيحة صريحة بما تقوم به الحجة على الخلق، ويحفظ به الشرع عن رب العالمين، فلا يمكن أن يكون القيء نجساً، وهو لا تكاد تسلم أم من التلوث به، ثم مع ذلك لا يأتي في نجاسته إلا حديث ضعيف جداً، فهذا مما يجعل الباحث يجزم بطهارته.
دليل من قال: ينجس إن تغير وإلا فطاهر
دليل من قال: ينجس إن تغير وإلا فطاهر: اعتبر الطعام عيناً طاهرة تغير بنجاسة، وكل شيء طاهر تغير بشيء نجس، تنجس حكماً، وإن لم يتغير وخرج على هيئة الطعام، فالطعام ما زال طاهراً حيث لم يتغير بالنجاسة. ويجاب عنه: بأن تغير الطعام إنما هو بسائل المعدة، والتي تسهله للهضم، وهذا السائل ليس بنجس حتى يحكم عليه بالنجاسة إذا غير أوصاف الطعام، فالصحيح أن الطعام طاهر، تغير بشيء طاهر، فلا يخرجه عن حكمه. دليل من قال: ينجس إن أشبه العذرة وإلا فطاهر: هذا القول يختلف عن القول الذي قبله، لأن القول الذي قبله يرى أن الطعام طاهر تغير بنجس فتنجس. وهذا القول يعتبر الطعام نفسه نجساً، لأنه استحال إلى ما يشبه العذرة، والاستحالة لها حكمها، فكما أن الخبيث إذا استحال إلى طاهر أصبح طاهراً كما في الخمرة تتحول إلى خل، فكذلك الطيب إذا استحال إلى خبيث أخذ حكم الخبيث، كالطعام يتحول إلى عذرة. دليل من قال: ينجس إن كان من حيوان لا يؤكل لحمه: رأى أن القيء من الحيوان المأكول لا يمكن أن يكون أخبث من بوله، فإذا كان من حيوان بوله طاهر، كان طاهراً، وإن كان من حيوان ذاته نجس، أُعْطِي حكم بول هذا الحيوان.
الراجح
الراجح: الذي أطمئن له أن قيء الحيوان ليس تبعاً لبوله، وإنما هو تبع لذاته، فإن كان من حيوان طاهر كالإنسان والحمار والبغل والهر فهو طاهر، وإن كان من حيوان نجس كالكلب، والخنزير ونحوهما فهو نجس؛ لاختلاطه بالنجاسة، فإن ريق الكلب نجس، فما بالك بسائل معدته، وبناء على ذلك يكون القول بنجاسة القيء مطلقاً قول ضعيف، وذلك لعدم الدليل المعتمد على نجاسته، فيبقى طاهراً على الأصل، والله أعلم.
الفصل الخامس حكم القلس
الفصل الخامس حكم القلس اختلف العلماء في القلس، هل هو طاهر أم نجس. فقيل: إن القلس نجس، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: القلس حكمه حكم القيء في التفصيل، وهذا مذهب المالكية (¬3). وقيل: القلس طاهر مطلقاً، اختاره ابن رشد من المالكية (¬4). ¬
وقيل: القلس تبع لذات صاحبه، فإن كان من حيوان طاهر، فهو طاهر، وإن كان من نجس، فهو نجس، وهذا اختيار ابن حزم (¬1). والأدلة في القلس هي الأدلة نفسها المذكورة في حكم القيء سواء بسواء، فارجع إليها إن شئت. وما رجح هناك فهو الراجح هنا، وهو أن القلس من الحيوان الطاهر طاهر، ومن الحيوان النجس نجس تبعاً لذاته، وللأدلة والتعليلات ذاتها؛ لأن القلس قيء أو فرع عنه، وبالتالي فإنه يأخذ حكمه تماماً، والله أعلم. ¬
الفصل السادس في رطوبة الفرج
الفصل السادس في رطوبة الفرج إن كانت رطوبة الفرج من حيوان نجس، فهي نجسة تبعاً لذات الحيوان. وإن كانت رطوبة الفرج من حيوان طاهر، فهي قسمان: أن تكون الرطوبة من ظاهر الفرج، فهي طاهرة. وقد نقل الإجماع على طهارتها ابن عابدين في حاشيته، فقال: وأما رطوبة الفرج الخارج، فطاهرة اتفاقاً (¬1). وقال أيضاً: " مطلب في رطوبة الفرج، قوله: الفرج: أي الداخل، أما الخارج فرطوبته طاهرة اتفاقاً (¬2). ولأن رطوبة الفرج الظاهرة بمنزلة رطوبة الأنف والفم والعرق الخارج من البدن. وإن كانت من باطن الفرج ففيها خلاف بين أهل العلم، فقيل: إن رطوبة الفرج طاهرة، وهو مذهب أبي حنيفة (¬3)، وقول في مذهب الشافعية، رجحه النووي وغيره (¬4)، والمشهور من مذهب ¬
الحنابلة (¬1)، رحجه ابن قدامة (¬2). وقيل: إن رطوبة الفرج نجسة، اختاره أبو يوسف ومحمد من الحنفية (¬3)، وقول في مذهب الشافعية (¬4)، وقول في مذهب الحنابلة (¬5). وقيل: إن رطوبة الفرج إن كانت من مباح الأكل فطاهرة، وإن كانت من غيره كالآدمي فنجسة، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬6). ¬
دليل من قال بطهارة رطوبة الفرج
وقيل: ما أصاب منه في حال الجماع فهو نجس، وإلا فطاهر، اختاره القاضي من الحنابلة (¬1). دليل من قال بطهارة رطوبة الفرج: الدليل الأول: عدم الدليل المقتضي للنجاسة، والأصل في الأشياء الطهارة، ولو كانت رطوبة الفرج نجسة لنقل إلينا تحرز الرسول - صلى الله عليه وسلم - من إصابة الرطوبة لثيابه، ولنقل إلينا غسله ما أصابه منها، ولجاء الأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته بالتحرز منها، والتطهر منها إذا لحق الثوب شيء من ذلك، فلما لم يأت شيء من هذا علم أن الرطوبة طاهرة. الدليل الثاني: قال ابن مفلح الصغير: كانت عائشة تفرك المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما كان من جماع؛ لأن الأنبياء لا يحتلمون (¬2)، وهو يصيب الرطوبة، فلو حكمنا بنجاسته لحكمنا بنجاسة منيها؛ لأنه يلاقي رطوبته بخروجه منه (¬3). وقال ابن قدامة: لو حكمنا بنجاسة فرج المرأة لحكمنا بنجاسة منيها؛ لأنه يخرج من فرجها، فيتنجس برطوبته (¬4). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: القول بنجاسة رطوبة فرج المرأة فيه حرج شديد، لأن في التحرز منه مشقة كبيرة، أكثر من المشقة في التحرز من ولوغ الهرة ونحوها، فلو كانت الرطوبة نجسة العين لخفف ذلك من أجل المشقة، فكيف والأدلة على نجاستها ليست صريحة في الباب. دليل من قال: رطوبة الفرج نجسة: الدليل الأول: (1591 - 119) مارواه البخاري من طريق هشام بن عروة، قال: أخبرني أبي، قال: أخبرني أبو أيوب، قال أخبرني: أبي بن كعب، أنه قال: يا رسول الله إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل. قال: يغسل ما مس المرأة منه ثم يتوضأ ويصلي. قال ابن حجر: قوله: " يغسل ما مس المرأة منه " أي يغسل الرجل العضو الذي مس فرج المرأة من أعضائه، وهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم؛ لأن المراد رطوبة فرجها. ورواه مسلم بنحوه (¬1). الدليل الثاني: (1592 - 120) ما رواه البخاري من طريق يحيى، عن أبي سلمة، أن عطاء بن يسار أخبره، أن زيد بن خالد أخبره، ¬
أنه سأل عثمان بن عفان رضي الله عنه قلت: أرأيت إذا جامع فلم يمن؟ قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره. قال عثمان: سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألت عن ذلك علياً والزبير وطلحة وأبي بن كعب رضي الله عنهم فأمروه بذلك (¬1). وجه الاستدلال: قال النووي: هذان الحديثان (يعني: حديث أبي بن كعب وعثمان) في جواز الصلاة بالوضوء بلا غسل منسوخان كما سبق في باب ما يوجب الغسل. وأما الأمر بغسل الذكر وما أصابه منها فثابت غير منسوخ، وهو ظاهر في الحكم بنجاسة رطوبة الفرج. واعترض على هذا التوجيه بجوابين: الأول: قالوا: إن غسل الذكر من الجماع مستحب، وليس بواجب. الثاني: قالوا: إن الوضوء وغسل الذكر عند الإكسال منسوخان بأحاديث إيجاب الغسل (¬2)، فالحكم الشرعي الأول في أول الإسلام كان في الإيلاج واجبان: الوضوء، وغسل الذكر. والحكم المتأخر: هو إيحاب غسل البدن، فنسخ الحكم الأول برمته، واستقر الحكم الثاني. والحقيقة أن كلام النووي عندي أقوى، وعند التأمل ليس فيه نسخ للحكم الأول، بل زيادة عليه. ¬
الدليل الثالث
فمن وجب عليه غسل بدنه كله فقد غسل في ذلك ذكره ضمناً من باب أولى، فلم ينسخ الحكم بغسل العضو. ومن وجب عليه الغسل دخل في ذلك الوضوء، فالوضوء وغسل الذكر دخلا تبعاً لوجوب الغسل. لكن لفظ مسلم " يغسل ما أصابه من المرأة " ولفظ البخاري " يغسل ما مس المرأةَ منه " فالمغسول في اللفظ الأول يختلف عن المغسول في اللفظ الثاني، فالمغسول في قوله: "يغسل ما أصابه من المرأة " هو رطوبة فرج المرأة، سواء على العضو أو على البدن أو عليهما. والمغسول في لفظ البخاري " يغسل ما مس المرأة منه " هو ذكره؛ لأنه هو الذي مس المرأة منه. فإن أخذنا بلفظ البخاري: وهو غسل الذكر " فلم ينسخ، لأنه داخل في وجوب غسل البدن. وإن أخذنا لفظ مسلم " يغسل ما أصابه من المرأة " فهل نسخ هذا الحكم أم لا؟ الأولى والله أعلم حمل لفظ مسلم على لفظ البخاري، وأن المقصود من اللفظين غسل الذكر، لا سيما أنه ورد في الصحيحين اللفظ الصريح في ذلك، قال: " في الرجل يأتي أهله ثم لا ينزل، قال: يغسل ذكره ويتوضأ. الدليل الثالث: أن هذه الرطوبة في الفرج، ولا يخلق منه الولد فأشبه المذي (¬1). ¬
الدليل الرابع
وأجيب: بأنه ليس كل شيء في الفرج لا يخلق منه الولد فهو يشبه المذي، لأن الفرج يطلق على القبل والدبر كما هو معلوم، ومع ذلك هذه الريح في الفرج، ولا يخلق منها الولد، وهي طاهرة. الدليل الرابع: قالوا: إنه عرق متولد من مكان النجاسة (¬1). اعتراض عليه: لا نسلم أن فرجها نجس، لأنه لو كان نجسا لحكمنا بنجاسة منيها لخروجه من الفرج. دليل من قال بطهارتها إن كانت من مباحة الأكل: قاس رطوبة فرجها على بولها، فإذا كان بول ما يؤكل لحمه طاهراً -كما قدمنا في مسألة مستقلة- فرطوبة فرجها تأخذ حكمه، إلا المتغذي على النجاسة فهو في حكم الجلالة عنده، والجلالة بولها نجس عندهم، وقد نوقشت في مسألة مستقلة، أو كان ذلك بعد الحيض، فإنه يتنجس بدم الحيض. دليل من قال: ما أصاب منه في حال الجماع فنجس: لأن حال الجماع مظنة تلوثه بالمذي، فيتنجس لمخالطته النجاسة. والراجح القول بالطهارة من الحيوان الطاهر، لأنه بمنزلة العرق، خاصة من الإنسان ومن الحيوان حلال الأكل، أما الأول فلعدم الدليل المقتضي ¬
للنجاسة كما قدمنا، وأما الثاني فلأن بوله طاهر على الصحيح، فكذلك رطوبة فرجه من باب أولى، ولأن من قال بالنجاسة ليس له دليل يعتمد عليه، والله أعلم.
الفصل السابع في اللبن
الفصل السابع في اللبن المبحث الأول في طهارة لبن الآدمي الحي إن كان لبن المرأة من امرأة مسلمة حال الحياة فهو طاهر بالإجماع، لأن ما جاز تناوله كان ذلك دليلاً على طهارته. وإن كان من امرأة كافرة كان الخلاف فيه مبنياً على طهارة الكافر، فمن رآى أن الكافر طاهر، كان لبن المرأة الكافرة طاهراً، ومن رأى أنه نجس، كان لبن المرأة نجساً، تبعاً لعينه كرأي ابن حزم (¬1)، وقد تقدم الخلاف في عين الكافر، هل هو طاهر أم نجس؟ ورجحنا طهارة عينه، وأن نجاسته نجاسة معنوية. ¬
المبحث الثاني في طهارة لبن الآدمي الميت
المبحث الثاني في طهارة لبن الآدمي الميت اختلف العلماء في لبن المرأة الميتة، فقيل: إنه نجس، وهو قول في مذهب المالكية (¬1)، وقول في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: لبنها طاهر، وهو المعتمد في مذهب المالكية (¬3)، والمذهب عند الشافعية (¬4). وقد ذكرت أدلة هذه المسألة في باب أحكام الميتة (¬5). ¬
المبحث الثالث في لبن البهيمة المأكولة حال الحياة أو بعد التذكية الشرعية
المبحث الثالث في لبن البهيمة المأكولة حال الحياة أو بعد التذكية الشرعية لا خلاف بين العلماء في طهارة لبنها. قال النووي: الألبان أربعة أقسام: أحدها: لبن مأكول اللحم كالإبل والبقر والغنم والخيل والظباء وغيرها من الصيود وغيرها , وهذا طاهر بنص القرآن والأحاديث الصحيحة والإجماع. اهـ فأما القرآن فلقوله تعالى: {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه ممن بين فرث ودم لبنا خالصا سائغاً للشاربين} (¬1). قال الكاساني: خرجت الآية مخرج الامتنان، والمنة في موضع النعمة تدل على الطهارة (¬2). (1593 - 121) وقد روى البخاري، من طريق يونس، عن ابن شهاب، قال ابن المسيب: قال أبو هريرة: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن، فنظر إليهما، فأخذ اللبن. قال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة لو أخذت الخمر غوت أمتك (¬3). قال الشيرازي: إذا ذبح حيوان يؤكل لم ينجس بالذبح شيء من أجزائه, ويجوز الانتفاع بجلده وشعره وعظمه ما لم يكن عليها نجاسة; لأنه جزء طاهر ¬
من حيوان طاهر مأكول، فجاز الانتفاع به بعد الذكاة كاللحم. قال النووي في شرح هذه العبارة: هذا الذي ذكره متفق عليه , وقوله: "من حيوان مأكول " احتراز من أجزاء غير المأكول، فإنه لا يجوز الانتفاع بها بمجرد الذكاة (¬1). قلت: ومن ذلك اللبن، فإنه طاهر بعد التذكية، كما أنه طاهر قبلها. والله أعلم. ¬
المبحث الرابع في لبن البهيمة المأكولة الميتة
المبحث الرابع في لبن البهيمة المأكولة الميتة اختلف أهل العلم في لبن البهيمة الميتة المأكولة اللحم، فقيل: إنه طاهر، وهذا قول أبي حنيفة (¬1)، ورواية عن الإمام أحمد (¬2)، واختيار داود الظاهري (¬3)، ورجحه ابن تيمية (¬4). وقيل: نجس، اختاره أبو يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬5)، وهو مذهب المالكية (¬6)، والشافعية (¬7)،والمشهور من مذهب الحنابلة (¬8). وانظر أدلة كل قول في الباب الرابع في أحكام الميتة (¬9). ¬
الفصل الثامن في القيح والصديد
الفصل الثامن في القيح والصديد إن خرج القيح والصديد من الحيوان حالة كونه نجساً فهي نجسة، سواء كان نجساً حياً وميتاً، أو كان نجساً ميتاً، وخرجت منه في هذه الحالة. وإن خرج القيح والصديد من حيوان حال طهارته، فهل تكون هذه الأشياء طاهرة بناء على طهارة الحيوان، أو تكون نجسة؟ هذه مسألة اختلف فيها أهل العلم. فقيل: إنها نجسة، وهو رأي الأئمة الأربعة (¬1). وقيل: إنها طاهرة، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2)، رجحه ابن حزم (¬3)، واختاره الشوكاني (¬4). ¬
دليل الجمهور على نجاسة القيح والصديد
دليل الجمهور على نجاسة القيح والصديد: هذا القول مبني على القول بنجاسة الدم، وأن القيح والصديد أصلهما دمان استحالا إلى نتن وفساد، فيكون لهما حكم أصلهما. وقد ساق النووي الإجماع على نجاسة القيح، فقال: القيح نجس بلا خلاف، وكذا ماء القروح المتغير نجس بالاتفاق (¬1). والخلاف محفوظ كما قدمنا في عرض الأقوال في طهارة القيح، وأنه قول في مذهب الحنابلة، رجحه ابن حزم. دليل من قال بطهارة القيح والصديد: الدليل الأول: الأصل في الأعيان الطهارة، ولا نحكم بنجاسة شيء حتى يقوم دليل من الشرع صحيح صريح على النجاسة، ولا يوجد دليل على نجاسة القيح والصديد. الدليل الثاني: إذا كان الحيوان طاهراً، كان بعضه طاهراً كذلك، ومنه القيح والصديد، الدليل الثالث: القياس على نجاسة الدم أو لكونه استحال إلى نتن وفساد غير مسلم من ثلاثة وجوه: الأول: أن الدم طاهر على الصحيح، وإذا كان الأصل طاهراً كان الفرع طاهراً كذلك. ¬
الوجه الثاني: أن القيح والصديد ليسا بمنزلة الدم حتى عند القائلين بالنجاسة، قال ابن قدامة: القيح والصديد كالدم فيما ذكرناه، وأسهل وأخف منه حكماً عند أبي عبد الله لوقوع الاختلاف فيه، فإنه روي عن ابن عمر والحسن أنهم لم يروا القيح والصديد كالدم، وقال أبو مجلز في الصديد لا شيء فيه، إنما ذكر الله الدم المسفوح (¬1). الوجه الثالث: القول بأنهما استحالا إلى نتن وفساد غير كاف للحكم بالنجاسة، فهذا الطعام واللحم إذا ترك قد يلحقه نتن وفساد، ولا يحكم عليه بالنجاسة. الراجح القول بطهارة القيح والصديد، لعدم وجود دليل صحيح يقتضي نجاسة هذه الأشياء، فتبقى على الأصل، وهو الطهارة حتى يثبت الدليل على نجاستها، والله أعلم. ¬
الفصل التاسع في بيض الحيوان
الفصل التاسع في بيض الحيوان المبحث الأول في بيض مأكول اللحم إن خرج البيض من حيوان مأكول في حال حياته, أو بعد تذكيته شرعاً, أو بعد موته, وهو مما لا يحتاج إلى التذكية كالسمك, فبيضه طاهر مأكول إجماعاً, إلا إذا فسد، وسوف يأتي معنى الفساد في البيض في بحث مستقل إن شاء الله تعالى. نقل الإجماع على ذلك النووي رحمه الله تعالى، حيث قال: البيض من مأكول اللحم طاهر بالإجماع (¬1). وإذا انفصلت البيضة من حيوان مأكول بعد موته دون تذكية شرعية، وهو مما يحتاج إلى التذكية، وكانت البيضة لم تتغير، فاختلف العلماء فيها: فقيل: إنها طاهرة مطلقاً، سواء صلب قشرها أم لا، وهو مذهب الحنفية (¬2)، واختاره بعض الشافعية (¬3)، وابن عقيل من الحنابلة (¬4). ¬
وقيل: إنها نجسة مطلقاً سواء صلب قشرها أم لا، وهذا مذهب المالكية (¬1). وقيل: إن صلب قشرها فهي طاهرة، وإلا كانت نجسة، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، واختاره ابن حزم (¬4). وانظر أدلة كل قول في الباب الرابع من أحكام الميتة (¬5). ¬
المبحث الثاني بيض غير مأكول اللحم
المبحث الثاني بيض غير مأكول اللحم اختلف العلماء في البيض غير مأكول اللحم، فقيل: إنه طاهر، وهو مذهب المالكية (¬1)، وأصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: إنه نجس، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: إن بيضه تبع لأصله، فإن كان أصله طاهراً كان بيضه طاهراً، وإن كان أصله نجساً كان بيضه كذلك (¬5). ¬
دليل من قال بالطهارة
دليل من قال بالطهارة: ذهب إلى عدم الدليل المقتضي للنجاسة، والأصل في الأعيان الطهارة، وفرق بين الطهارة وبين إباحة الأكل، فليس كل محرم الأكل يكون نجساً، وإن كان كل نجس محرم الأكل، ومن ادعى نجاسة شيء فعليه الدليل. دليل من قال بالنجاسة: قال: ما دام أن لحمه محرم الأكل، فكذلك ما نتج منه، كاللبن والبيض ونحوهما، وتحريم الأكل من غير ضرر أو تكريم دليل على النجاسة. دليل من قال: إن البيض تبع لأصله: هذا القول قاس البيض على الحيوان، فإن كانت من حيوان نجس، كان بيضه نجساً، وإن كانت من حيوان طاهر كان بيضه طاهراً قياساً على أصله. والذي يبدو أن القول بقياس البيض على أصله قول فيه قوة، جرياً على قاعدة: التابع تابع، ولأن البيض مستخلص من الحيوان، فهو جزء منه، فيكون حكمه تبعاً لأصله، والله أعلم.
المبحث الثالث في البيض الفاسد
المبحث الثالث في البيض الفاسد البيض تارة يتغير بعفن، وتارة يصير دماً. فإن تغير بعفن، فقيل: إنه طاهر، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: نجس، وهو مذهب المالكية (¬2). وإن تغير بأن صارت البيضة دماً، فقيل: إنها نجسة، وهو مذهب الجمهور (¬3). وقيل: إنها طاهرة، إذا قال أهل المعرفة: إنها صالحة للتخلق، وهذا مذهب الشافعية (¬4)، ووجه في مذهب الحنابلة (¬5). ¬
دليل الجمهور
دليل الجمهور: أن الدم المسفوح نجس، وهذا منه، ولذلك نص المالكية لو أن الدم مجرد نقطة لم تنجس البيضة؛ لأن النقطة ليس من الدم المسفوح، فيفهم منه: أنه إذا كان أكثر من ذلك كان نجساً. ودليل من قال بالطهارة: قال: إن هذا التغير من جنس اللحم إذا تغيرت رائحته، فلا يحكم له بالنجاسة، وهذا أقرب القولين، والله أعلم.
المبحث الرابع سلق البيض بماء نجس
المبحث الرابع سلق البيض بماء نجس إذا سلق البيض بماء نجس، فقيل: لا يضره، وهذا مذهب الجمهور (¬1). وقيل: لا يحل أكله، وهو مذهب المالكية (¬2). دليل الجمهور: قالوا: إذا سلق البيض بالماء النجس، فإنه بمنزلة الماء المسخن بالنجاسة، فإذا كان ذلك لا يضر الماء، فكذلك لا يضر البيض. ودليل المالكية: إن البيض يتأثر بالماء، ويتعذر تطهيره منه، لسريان الماء النجس في مسامه. الراجح من القولين: ينبني على ما إذا كان لقشرة البيض مسام أو لا، فإن ثبت أن لها مساماً فلا شك في نجاسة البيض حينئذ، لمخالطة ما بداخلها للنجاسة، وإن لم يثبت لها مسام كما هو الظاهر فليست نجسة، وذلك لأن السائل الذي بداخلها قد تجمد بفعل الحرارة، فلم تصل إليه النجاسة، والله أعلم. ¬
الباب الثالث: في الآسار
الباب الثالث: في الآسار الفصل الأول في سؤر الآدمي ذهب الأئمة الأربعة وغيرهم إلى طهارة سؤر الآدمي مطلقاً، سواء كان محدثاً أم غير محدث، وسواء كان رجلاً أم امرأة، واستثنى بعضهم سؤر الآدمي حال شرب الخمر، أما لو مكث قدر ما يغسل فمه بلعابه، فلا بأس بسؤره (¬1)، واشترط ابن حزم في طهارة سؤر الآدمي الكافر عدم ظهور أثر لعاب ¬
الأدلة على طهارة سؤر الآدمي
الكافر فيه، فإن ظهر تنجس السؤر؛ لأنه يرى نجاسة بدن الكافر وقد ذكرنا أدلته في مسألة مستقلة. الأدلة على طهارة سؤر الآدمي: الدليل الأول: عدم الدليل على نجاسة سؤر الآدمي، والأصل في الأشياء الطهارة. الدليل الثاني: إذا كان بدن الآدمي طاهراً، فكذلك سؤره؛ لأن سوره متحلب من بدنه، وقد تقدم ذكر الأدلة على أن بدن الآدمي طاهر في فصل مستقل. الدليل الثالث: (1594 - 122) ما رواه البخاري، من طريق الزهري، قال: حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه، أنها حُلِبَت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاةٌ داجن، وهي في دار أنس بن مالك، وشيب لبنها بماء من البئر التي في دار أنس، فأعطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القدح، فشرب منه حتى إذا نزع القدح من فيه، وعلى يساره أبو بكر وعن يمينه أعرابي فقال عمر - وخاف أن يعطيه الأعرابي- أعط أبا بكر يا رسول الله عندك، فأعطاه الأعرابي الذي على يمينه ثم قال: الأيمن فالأيمن. ورواه مسلم بنحوه (¬1). فإن قيل: هذا سؤر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس سؤره كسؤر غيره، قيل: إن قوله - صلى الله عليه وسلم -: الأيمن فالأيمن دليل على طهارة السؤر، ولو من غيره - صلى الله عليه وسلم -، ثم إن الأصل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كغيره في الطهارة والنجاسة على الصحيح. ¬
وأصرح منه ما رواه البخاري، قال: حدثني أبو نعيم بنحو من نصف هذا الحديث، حدثنا عمر بن ذر، حدثنا مجاهد، أن أبا هريرة كان يقول: آلله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر فلم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: يا أبا هر. قلت: لبيك يا رسول الله. قال: الحق، ومضى، فتبعته فدخل، فاستأذن، فأذن لي، فدخل فوجد لبناً في قدح، فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة. قال: أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بد، فأتيتهم، فدعوتهم، فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت. قال: يا أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: خذ فأعطهم، قال: فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل، فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي
الدليل على طهارة سؤر المحدث
القدح فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح حتى انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح، فوضعه على يده فنظر إلي، فتبسم، فقال: أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت. قلت: صدقت يا رسول الله، قال: اقعد، فاشرب، فقعدت، فشربت فقال: اشرب، فشربت، فما زال يقول: اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً. قال: فأرني فأعطيته القدح، فحمد الله وسمى، وشرب الفضلة (¬1). وجه الشاهد من الحديث: أن الصحابة رضي الله عنهم شرب بعضهم من سؤر بعض، ولو كان سؤر الآدمي نجساً لم يتناوله، ولم يشرب منه - صلى الله عليه وسلم -. وأما الدليل على طهارة سؤر المحدث: (1595 - 123) فهو ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير ابن حرب، قالا: حدثنا وكيع، عن مسعر وسفيان، عن المقدام بن شريح عن أبيه، عن عائشة، قالت: كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على موضع فيِّ فيشرب، وأتعرق العرق، وأنا حائض، ثم أناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على موضع فيّ. ولم يذكر زهير فيشرب (¬2). قال القرطبي: قولها: " أتعرق العرْق ": أي العظم الذي عليه اللحم، ¬
وجمعه عراق، وأتعرقه: آكل ما عليه من اللحم، وهذه الأحاديث متفقة الدلالة على أن الحائض لا ينجس منها شيء، ولا يجتنب إلا موضع الأذى منها فحسب" (¬1). وأما طهارة سؤر الكافر، فقد أباح الله لنا نكاح نساء أهل الكتاب، ومعاشرة الرجل للمرأة يقتضي منه أن يخالط ريقه ريقها، وأن يمس بدنه بدنها، وكذلك أباح الله لنا طعام أهل الكتاب، وقد ذبحوه في أيديهم، وطبخوه في آنيتهم، فإذا كانت أبدانهم طاهرة فكذلك سؤرهم، وقد سبق في فصل مستقل طهارة أبدان الكفار في أول الكتاب. ¬
الفصل الثاني في طهارة سؤر الحيوان المأكول اللحم
الفصل الثاني في طهارة سؤر الحيوان المأكول اللحم ذهب الأئمة الأربعة إلى طهارة سؤر ما يؤكل لحمه (¬1). واستدلوا: الدليل الأول: الإجماع، فقد أجمع الفقهاء على طهارة سؤر ما يؤكل لحمه (¬2). الدليل الثاني: أن لعاب الحيوان متحلب من لحمه، ولحمه طاهر فيكون سؤره طاهراً أيضاً، لأن ملاقاة الطاهر للطاهر لا توجب تنجيسه. ¬
الفصل الثالث في طهارة سؤر الحيوان غير مأكول اللحم
الفصل الثالث في طهارة سؤر الحيوان غير مأكول اللحم اختلف العلماء في هذه المسألة اختلافاً كثيراً، ولم يطردوا القول في الحيوانات غير المأكولة لاختلافهم في طهارتها، وذلك لأن الحيوانات غير المأكولة منها ما هو طاهر في الحياة، ومنها ما هو نجس متفق على نجاسته، ومنها ما هو مختلف في نجاسته، ولذلك سوف نعرض لذكر هذه الحيوانات على سبيل التفصيل، ويمكن لنا أن نقسم الحيوانات غير المأكولة إلى أقسام عدة، منها: - سؤر الهرة. وسؤر الحمار والبغل. وسؤر سباع البهائم والطير. وسؤر الخنزير. وسؤر الكلب، هذه أهم التقسيمات للحيوانات غير المأكولة.
المبحث الأول في سؤر الهرة وما دونها في الخلقة
المبحث الأول في سؤر الهرة وما دونها في الخلقة. ذهب الحنفية إلى أن سؤر الهرة وحشرات البيوت كالفأرة والحية طهور مكروه (¬1). وذهب الأئمة الثلاثة إلى طهارة سؤرها بلا كراهة (¬2). وقيل: يغسل الإناء من ولوغ الهرة، قال به أبو هريرة (¬3)، وسعيد بن ¬
دليل من قال: يكره سؤر الهرة
المسيب (¬1)، ومحمد بن سيرين (¬2)، وعطاء (¬3)، وقتادة (¬4)، والحسن (¬5) رضي الله عنهم جميعاً. دليل من قال: يكره سؤر الهرة: يرى الحنفية أن الهرة عينها نجسة، لكن سقطت نجاسة سؤرها لعلة التطواف، وبقيت الكراهة لإمكان التحرز منه. دليل من قال بطهارة سؤرها: (1596 - 124) ما وراه مالك، عن إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة، عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك - وكانت تحت ابن أبي قتادة الأنصاري- أنها أخبرتها: ¬
دليل من قال: يغسل الإناء من ولوغ الهر
أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا، فجاءت هرة لتشرب منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ قالت: فقلت: نعم، فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنها ليست بنجس؛ إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الثاني: (1597 - 125) ما رواه إسحاق بن راهوية في مسنده (¬3)، قال: أخبرنا عبد العزيز بن محمد، نا داود بن صالح التمار، عن أمه، عن عائشة أنها قالت في الهرة: إنما هي من الطوافين عليكم، ولقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بفضلها. [إسناده ضعيف، واختلف في وقفه ورفعه] (¬4). دليل من قال: يغسل الإناء من ولوغ الهر: (1598 - 126) ما رواه الترمذي في سننه، قال: حدثنا سوار بن عبد الله العنبري، حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أيوب يحدث، عن محمد ابن سيرين، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات أولاهن أو أخراهن بالتراب وإذا ولغت فيه الهرة غسل مرة. ¬
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، ثم قال: وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا ولم يذكر فيه إذا ولغت فيه الهرة غسل مرة (¬1). [المحفوظ أن الأمر بغسل الإناء من ولوغ الهر موقوف على أبي هريرة] (¬2). الدليل الثاني: (1599 - 127) ما رواه الطحاوي، قال: حدثنا أبو بكرة، ثنا أبو عاصم، عن قرة بن خالد، قال: ثنا محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين. قرة شك (¬3). [أخطأ فيه أبو عاصم في رفعه، والمحفوظ في رواية قرة كونه موقوفاً على أبي هريرة] (¬4) الدليل الثالث: (1600 - 128) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا عيسى ابن المسيب، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الهر سبع (¬5). [إسناده ضعيف] (¬6). ¬
الراجح
وإذا كان الهر سبعاً، فإن غسل الإناء منه واجب. الراجح: إذا كنا قد رجحنا طهارة عين الهرة، كما في الكلام على ذوات الحيوان، فإننا نطهر سؤره كذلك، وحديث أبي قتادة نص في الموضوع في المسألتين: في طهارة عينه، وفي طهارة سؤره، حيث قال: إنها ليست بنجس، فنفى النجاسة عن ذاتها وجعله ذلك علة في الوضوء من سؤرها.
المبحث الثاني في طهارة سؤر البغل والحمار
المبحث الثاني في طهارة سؤر البغل والحمار اختلف العلماء في طهارة سؤر الحمار والبغل، فقيل: مشكوك فيه، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، وبناء عليه يكون استعمال سؤرهما مكروهاً. وقيل: سؤرهما طاهر، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4). وقيل: نجس، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5). وهذه الأقوال مبنية على اختلاف الفقهاء في ذواتهما، فمن ذهب إلى نجاسة عين الحمار والبغل ذهب إلى نجاسة سؤره، ومن رأى طهارتهما في حال الحياة ذهب إلى طهارة سؤرهما، ومن توقف في أعيانهما كالحنفية لاختلاف الأدلة رأى أن سؤرهما مشكوك فيه، وقد ذكرنا أدلة كل فريق في هذه المسألة - أعني الخلاف في ذواتهما - وذكرنا الراجح فيما سبق، فلا داعي لإعادته في هذا الباب. ¬
ويزاد على ما لم يذكر هناك ما نذكره هنا في مناقشة الحنفية في ذهابهم إلى أنه مشكوك فيه. فالقول بأن هناك شيئاً من أحكام الشريعة مشكوكاً فيه غير صحيح، ولا يجوز القول به ولا اعتقاده؛ لأن الشك إنما هو أمر عارض يعتري المجتهد عند تعارض الأدلة، وما يكون مشكوكاً فيه عند مجتهد لا يكون مشكوكاً فيه عند آخر؛ لأن الشك في الشيء هو عجز عن الوصول إلى الحكم الشرعي قطعياً كان أو ظنياً، والتوقف وإن صح أن يكون من آحاد المجتهدين لقصور أو تقصير، لكن لا يصح كونه مذهباً يدعى إليه وإلى تبنيه من أتباع المذهب الحنفي، بل يجب على غيرهم من علماء المذهب الحنفي الاجتهاد في الوصول إلى الحكم الشرعي، واختلاف الصحابة في شيء لا يوجب الشك في طهارة الشيء، فليس كل ما اختلف فيه الصحابة يكون حكمه مشكوكاً فيه، وإلا أدى الأمر إلى الشك في كثير من الأحكام الشرعية؛ لأن الأمور التي اختلف فيها الصحابة أكثر من الأمور التي اتفقوا عليها، بل يجب النظر في خلافهم، والأخذ بما هو أقرب إلى الكتاب والسنة وقواعد الشرع. ثم إن الأحكام الشرعية جميعها قد بينها الله سبحانه وتعالى بياناً واضحاً، كما قال تعالى: {وأنرلنا إليك الكتاب تبياناً لكل شيء} ولكن هذا البيان لم يعلمه كل أحد، والخلاف إنما هو ناشئ عن اختلاف الأفهام، فالقصور والتقصير إنما هو من قبل البشر، لا من قبل التشريع قطعاً.
المبحث الثالث في سؤر سباع البهائم والطير
المبحث الثالث في سؤر سباع البهائم والطير اختلف العلماء في سؤر سباع البهائم والطير، فقيل: سؤر سباع الطير طاهر، وسؤر سباع البهائم نجس، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: سؤرهما طاهر، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3). وقيل: سؤرهما نجس، وهو مذهب الحنابلة (¬4). وهذا الخلاف راجع إلى الخلاف في أعيانها هل هي طاهرة أم نجسة، وقد ذكرنا أدلة كل قول في مسألة مستقلة، إلا أن هنا كلاماً يزاد على ما ذكر، وهو وجه التفريق عند الحنفية بين سباع الطير، وبين سباع البهائم، مع أن ذواتها نجسة عندهم، قالوا في وجه التفريق: إن القياس نجاسة سؤرها على نجاسة لحمها، ولكن ترك هذا القياس للاستحسان، وذلك أن سباع الطير تشرب بمنقارها، وهو عظم جاف، بخلاف سباع البهائم التي تشرب بلسانها، والذي يكون فيه رطوبة من لعابها، وهو نجس، وسباع الطير تنقض من علو لتشرب من الأواني، وفي الحكم بتنجيس آسارها حرج شديد، والحرج مرفوع عن هذه الأمة، والله أعلم. ¬
الراجح: قد سبق فيما مضى ترجيح أن أعيان السباع نجسة، ولكن هذا لا يكفي للحكم بنجاسة سؤرها؛ لأن نجاسة سؤرها مبني على مسألة أخرى، وهي إذا وقعت نجاسة في الماء، فهل ينجس بمجرد وقوع النجاسة، أو يشترط للحكم بالنجاسة أن يتغير أحد أوصاف الماء: طعمه أو لونه أو ريحه؟. فالعلماء متفقون على أن الماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره فإنه طهور، وقد نقل الإجماع على ذلك ابن الهمام من الحنفية (¬1)، وابن رشد، من المالكية (¬2)، وابن المنذر من الشافعية (¬3)، وعبد الرحمن بن قدامة من الحنابلة (¬4). وطوائف من العلماء، منهم: الطبري (¬5)، وابن حزم (¬6)، وابن تيمية (¬7)، ¬
وابن قدامة (¬1)، وابن دقيق العيد (¬2)، والزركشي (¬3)، وابن رجب (¬4)، والعراقي في طرح التثريب (¬5)، وابن عبد الهادي (¬6)، والشوكاني (¬7)، وغيرهم. واتفقوا كذلك على أن الماء إذا تغير بالنجاسة فإنه ينجس مطلقاً كثيراً كان أو قليلاً. وممن نقل الإجماع على ذلك الطحاوي (¬8)، وابن نجيم (¬9) من الحنفية. وأبو الوليد ابن رشد من المالكية (¬10). وقال الشافعي رحمه الله: وما قلت من أنه إذا تغير طعم الماء أو ريحه، أو لونه، كان نجساً، يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه لا يثبت مثله أهل الحديث، ¬
وهو قول العامة، لا أعلم بينهم فيه اختلافاً (¬1)، ونقله النووي أيضاً (¬2). وقال ابن تيمية: إذا وقع في الماء نجاسة، فغيرته، تنجس اتفاقاً (¬3). وقد نقل الإجماع طوائف من العلماء منهم: ابن عبد البر (¬4)، وأبو العباس بن سريج (¬5)، وابن جرير الطبري (¬6)، وابن المنذر (¬7)، وابن حبان (¬8)، والقاضي عياض (¬9)، وابن القطان الفاسي (¬10)، وابن ¬
الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره
دقيق العيد (¬1)، وابن الفاكهاني (¬2)، وابن الملقن (¬3)، وابن مفلح (¬4)، وغيرهم (¬5). ومن النظر: أن الله سبحانه وتعالى حرم استعمال النجاسة، والماء المتغير بالنجاسة إذا استعمل فقد استعملت النجاسة، لظهور أثرها في الماء من لون أو طعم أو رائحة، والله أعلم. واختلفوا في الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره: فالجمهور على أن الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة فإن الماء ينجس مطلقاً، تغير الماء أو لم يتغير، على خلاف بينهم في حد الماء الكثير والقليل. وذهب مالك في رواية المدنيين عنه (¬6)، وراية عن أحمد (¬7) إلى أن الماء لا ينجس إلا إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه بالنجاسة، وهو الراجح للأدلة التالية. ¬
الدليل الأول
الدليل الأول: قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬1). وهذا الماء الذي ولغت فيه السباع ولم تغيره باق على صفته التي خلقها الله عليها، لا في لونه ولا في طعمه ولا في رائحته، فكيف يحرم الوضوء منه، ونعدل إلى التيمم مع وجوده؟ الدليل الثاني: (1601 - 129) ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا عبد العزيز بن مسلم، قال: ثنا مطرف، عن خالد بن أبي نوف، عن سليط بن أيوب (¬2)، عن ابن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتوضأ من بئر بضاعة، فقلت: يا رسول الله توضأ منها وهى يلقى فيها ما يلقى من النتن؟ فقال: إن الماء لا ينجسه شيء (¬3). [صحيح بشواهده وسبق تخريجه] (¬4). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حكم أن الماء طهور لا ينجسه شىء، وهذا يشمل القليل والكثير، ولغت فيه السباع أم لا؟ بقى ما تغير بالنجاسة فإنه نجس بالإجماع، وما عداه فهو طهور. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: الأصل في الماء أنه طهور، ولا ننتقل عن هذا الأصل إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع أو قول صاحب لا مخالف له، والفرق بين الماء النجس والماء الطهور: هو أنه يوجد في الماء النجس صفات يحكم من خلالها بنجاسته، فإذا لم يظهر في الماء أثر النجاسة لا في لونه، ولا في طعمه، ولا في رائحته، فكيف نحكم عليه بأنه نجس (¬1). الدليل الرابع: معلوم أنه إذا استحال الشيء بالشيء حتى لا يرى له ظهور يحكم له بالعدم، وعلى هذا فلو وقعت قطرة من لبن امرأة في ماء، فاستهلكت، وشربه الرضيع خمس رضعات فأكثر لم تنتشر الحرمة، ولو كانت قطرة خمر فاستهلكت في الماء البتة لم يجلد بشربه، فكذلك لو كانت قطرة بول لم تغير الماء يبقى الماء على أصله (¬2). الدليل الخامس: (1602 - 130) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن أبا هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعوه، وأهريقوا على بوله سجلاً من ماء، أو ذنوباً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين (¬3). ¬
وجه الاستدلال: قالوا: نعلم قطعاً أن بول الأعرابي باق في موضعه، وإن صب ذلك الماء عليه، وإنما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بطهارة ذلك الموضع لغلبة الماء له، واستغراقه عليه، واستهلاك أجزائه لأجزاء البول لغلبته عليه. وقال الباجي: وهو حجة على أبي حنيفة والشافعي وغيرهما، في قولهم: إن قليل الماء ينجسه قليل النجاسة، وإن لم تغيره، وهذا مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أرفع المواضع التي يجب تطهيرها، وقد حكم النبي فيه - صلى الله عليه وسلم - بصب دلو من ماء على ما نجس بالبول، ولا معنى له إلا تطهيره للمصلين فيه (¬1). قلت: ولا ينفكون منه بالتفريق بين ورود النجاسة على الماء، وورود الماء على النجاسة؛ لأن هذا التفريق لم يقم عليه دليل، ولا أثر له في الحكم الشرعي. (1603 - 131) وأما الجواب عما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد ابن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله، عن ابن عمر، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث (¬2). [إسناده صحيح إن شاء الله] (¬3). ¬
قالوا في وجه الاستدلال: من الحديث: إن قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، مفهومه أنه إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث، فلو كان الماء لا ينجس إلا بالتغير لم يكن للتحديد بالقلتين فائدة؛ لأن الماء إذا تغير بالنجاسة نجس، ولو كان مائة قلة. فالجواب عن هذا من وجهين: الوجه الأول: أن يقال عندنا منطوق ومفهوم، والمنطوق مقدم علىالمفهوم. فحديث: "الماء طهور لا ينجسه شيء" منطوقه يشمل القليل والكثير. وحديث: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث" منطوقه موافق لحديث:"إن الماء طهور لا ينجسه شىء" لأن منطوقه أن الماء إذا بلغ قلتين لم ينجسه شيء. ومفهومه: أن الماء إذا كان دون القلتين فإنه ينجس، وهذا المفهوم معارض لمنطوق حديث أبي سعيد، فيقدم المنطوق على المفهوم، فنأخذ من حديث القلتين منطوقه فقط، ولا نأخذ مفهومه؛ لأنه يعارض منطوق حديث أبي سعيد. قال ابن المنذر في الأوسط للتدليل على هذه القاعدة: ونظير ذلك قوله تعالى {حافظوا على الصلوات} الآية (¬1)، فأمر بالمحافظة على الصلوات، والصلوات داخلة في جملة قوله: {حافظوا على الصلوات} (¬2)، ثم خص ¬
الوسطى بالأمر بالمحافظة عليها، فقال: {والصلاة الوسطى} (¬1)، فلم تكن خصوصية الوسطى بالأمر بالمحافظة عليها مخرجاً سائر الصلوات من الأمر العام الذي أمر بالمحافظة على الصلوات " اهـ (¬2). فكأن ابن المنذر يقول مفهوم {والصلاة الوسطى} (¬3) الآية، لم يؤخذ ويعارض به منطوق حافظوا على الصلوات. أو نقول بتعبير آخر: إذا ذكر عموم، ثم ذكر فرد من أفراد العموم يوافق العموم في الحكم، فإن هذا الفرد لا يعتبر مخصصاً ولا مقيداً للعموم. مثال ذلك: إذا قلنا: أكرم طلبة العلم، فهذا لفظ يفيد عموم الطلبة، ثم قلنا: أكرم زيداً، وكان زيد من طلبة العلم، فإنه لا يفهم منه تخصيص الإكرام لزيد وحده. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الماء طهور لا ينجسه شىء" هذا عام يشمل القليل والكثير، ثم أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحديث القلتين، أن الماء الكثير لا ينجس، فهو فرد من أفراد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الماء طهور لا ينجسه شيء" فلا يقتضي تخصيصه ولا تقييده. الوجه الثاني: أن يقال: إن الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يعطي حكماً أغلبياً وليس حكماً مطرداً. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: في حديث ابن عمر: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث " هل معنى ذلك أنه لا ينجس أبداً؟. الجواب: لا. إذ لو تغير بالنجاسة لنجس إجماعاً، ولكن معنى لم يحمل الخبث: أي غالباً لا يتغير بالنجاسة. ¬
الراجح
ومفهومه: إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث أي في الغالب أيضاً، وليس مطلقاً، وكيف نعرف أنه حمل الخبث أو لم يحمل؟ الجواب: نعرف ذلك بالتغير، فالغالب أن الماء إذا كان دون القلتين أنه يتغير بالنجاسة فإن لم يتغير عرفنا أنه لم يحمل الخبث. فإذا كان منطوق الحديث يحمل على الغالب بالإجماع، فكذلك مفهوم الحديث ينبغي أن يحمل على الغالب من باب أولى؛ لأن المفهوم أضعف من المنطوق (¬1). فالراجح أن الماء إذا كان سؤراً من سباع، وهو بقية شرابها، ولم يتغير بهذا اللعاب، ولم يظهر للعاب به أثر فإنه طهور، وقد تعرضنا لهذه المسألة مع ذكر أدلة كل قول بشيء من البسط في ما يقارب أربعين صفحة تجده في مباحث المياه، مما أغنى عن إعادته هنا، والله الموفق. ¬
المبحث الرابع في سؤر الخنزير
المبحث الرابع في سؤر الخنزير اختلف العلماء في سؤر الخنزير، فذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وقول في مذهب المالكية (¬4) إلى أنه نجس. وقيل: طاهر، وهو مذهب المالكية (¬5). وهذا الخلاف راجع إلى الخلاف في ذات الخنزير، هل هو طاهر أو نجس، وقد ذكرنا أدلة كل قول في مسألة مستقلة، إلا أن نجاسة عينه لا يلزم منها نجاسة سؤره؛ لأن نجاسة سؤره مبني على مسألة أخرى، وهي إذا وقعت نجاسة في الماء، فهل ينجس بمجرد وقوع النجاسة، أو يشترط للحكم بالنجاسة أن يتغير أحد أوصاف الماء: طعمه أو لونه أو ريحه؟. ¬
وقد فصلنا هذا الخلاف في سؤر السباع فانظره، وعليه فالراجح أنه إن ظهر أثر للعاب في الماء كان السؤر نجساً، وإن لم يكن له أثر، فالماء باق على خلقته التي خلقه الله عليها، لا يمكن أن يحكم بنجاسته إلا إذا ظهر أثر النجاسة من لون أو طعم أو رائحة، والله أعلم.
المبحث الخامس في سؤر الكلب
المبحث الخامس في سؤر الكلب اختلف العلماء في سؤر الكلب. فقيل: إنه نجس، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: سؤره طاهر، وهو مذهب المالكية (¬4). دليل الجمهور: الدليل الأول: (1604 - 132) ما رواه مسلم، قال: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب. ورواه مسلم من طريق علي بن مسهر، عن الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح، ¬
دليل المالكية على طهارة سؤره
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه، ثم ليغسله سبع مرار. وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب، وجعله طهارة لهذا الإناء، كما أمر بإراقة سؤره، ولم يفرق بين ما تغير وما لم يتغير. دليل المالكية على طهارة سؤره: الدليل الأول: من الكتاب قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} (¬1). وجه الاستدلال: أباح الله سبحانه وتعالى الأكل مما أمسكت الكلاب، ولم يأمرنا بغسل المكان الذي أمسكته معه، مع أنه لا يخلو من التلوث بريق الكلب، ولو كان نجساً لأمرنا بغسله، ولنقل عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم غسله. الدليل الثاني: (1605 - 133) ما رواه البخاري في صحيحه: قال: وقال أحمد بن شبيب، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني حمزة بن عبد الله، عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك (¬2). ¬
وقد أجبنا عن هذه الأدلة في ذكر الخلاف في عين الكلب، هل عينه طاهرة أم نجسة، فارجع إليه إن شئت. الجواب عن حديث الولوغ. فيمكن أن يجاب بأحد جوابين. أولاً: زيادة " فليرقه " زيادة شاذة (¬1). ومع الحكم بشذوذ " فليرقه "، فإن المعنى يقتضي تنجس الماء ولو لم يتغير، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل الإناء، وجعل ذلك طهارة للإناء. فقوله - صلى الله عليه وسلم -: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب. ومعلوم أن نجاسة الإناء إنما جاءت من نجاسة الماء؛ لأن الولوغ إنما وقع على الماء، فتنجس الإناء لنجاسة الماء؛ ولأن النجاسة لو كانت للإناء وحده لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يغسل من الإناء جهة الولوغ فقط، فلما أمر بغسل الإناء ¬
الراجح
كله، علم أن النجاسة إنما سرت عن طريق الماء المتنجس. فإن قال قائل: إذاً كيف حكمتم على الأمر بالإراقة بالشذوذ؟ فالجواب: لا يلزم من الحكم بنجاسة الماء الحكم بوجوب إراقته؛ لأن الماء إذا تنجس لا يكون نجس العين، إذ يمكن تطهيره، وإذا أمكن تطهيره أمكن الانتفاع به بخلاف ما إذا أوجبنا إراقته. ولا يعني ذلك إذا حكمنا بنجاسة الماء أن نقول بنجاسة كل ماء قليل حلت فيه نجاسة ولو لم يتغير؛ لأن الكلاب خصت ببعض الأحكام من دون سائر النجاسات، فمنها التسبيع، ومنها التتريب، فلا يقاس الأخف على الأغلظ. على أنه قد يقال: لا نسلم عدم التغير؛ لأن لعاب الكلب له لزوجة قد لا تتحلل في الماء فتظهر على شيء منه، فيكون هذا نوعاً من تغير الماء عن طبيعته بالنجاسة، فينجس والله أعلم. ف الراجح أن سؤر الكلب نجس، خاصة إذا وقع الولوغ في الآنية، لأن الحديث إنما جاء نصاً في الآنية: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، وأما إذا ولغ في البرك والمستنقعات الكبيرة فإن ذلك لا يضر الماء، لأن الماء في هذه الحال كثير، وقد كانت مياه المسلمين في الفلاة يردها السباع والكلاب، ولم ينقل أنهم كانوا يجتنبون ذلك، والله أعلم.
الباب الرابع في أحكام الميتة
الباب الرابع في أحكام الميتة الفصل الأول الميتة الطاهرة المبحث الأول في ميتة الآدمي اختلف العلماء في ميتة الآدمي، فقيل: نجس مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (¬1)، وقول عند الشافعية (¬2)، ¬
وقول عند المالكية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: طاهر مطلقاً، وهو الراجح في مذهب الشافعية (¬3)، والمالكية (¬4)، ¬
والمشهور عند الحنابلة (¬1). وقيل: المسلم الميت طاهر، والكافر الميت نجس، وهو قول في مذهب المالكية (¬2)، وقول عند الحنابلة (¬3)، وهو اختيار ابن حزم (¬4). ¬
دليل من قال: إن ميتة الآدمي طاهرة
دليل من قال: إن ميتة الآدمي طاهرة: الدليل الأول: (1606 - 134) ما رواه البخاري من طريق حميد، عن بكر، عن أبي رافع، عن أبي هريرة قال: لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا جنب، فأخذ بيدي فمشيت معه حتى قعد فانسللت، فأتيت الرحل، فاغتسلت، ثم جئت وهو قاعد فقال: أين كنت يا أبا هر. فقلت له: فقال: سبحان الله، ياأبا هر إن المؤمن لا ينجس (¬1). وجه الاستدلال: قوله: إن المؤمن لا ينجس. هذا مطلق، وهو يشمل حال الحياة وحال الموت. الدليل الثاني: (1607 - 135) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس: لا تنجسوا موتاكم؛ فإن المؤمن ليس بنجس حياً ولا ميتاً (¬2). ورواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم (¬3). [إسناده صحيح] ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: قوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} (¬1). وجه الاستدلال: أن التكريم يقتضي بأن لا يحكم عليه بالنجاسة سواء في حال الحياة أو في حال الموت. ويمكن يجاب عنه: بأن هذا الدليل ليس فيه دلالة واضحة على طهارة الميت، كما أن الحكم على بوله وغائطه ومذيه بأنه نجس، لا ينافي تكريم الله له،، فكذلك الحكم على بدنه بأنه نجس حال الموت لا ينافي التكريم، وقد يكون المراد من التكريم هو ما أعطاه الله لهذا المخلوق من عقل، وسخر له ما في السموات والأرض وغير ذلك من نعم الله على بني آدم. الدليل الرابع: يشرع للميت الغسل قبل الدفن، ولو كان نجس العين لما طهره الغسل، ولم يكن لمشروعيته فائدة، وهذا ما ينزه عنه الشارع. وأجيب: بأنه لو كان طاهراً لم يؤمر بغسله كسائر الأعيان الطاهرة. ورد هذا: بأن الغسل هو بمنزلة رفع الحدث من الحي، فكما أن المسلم الحي طاهر، سواء كان محدثاً أو غير محدث، فكذلك الميت، والطهارة من الحدث ليست ¬
الدليل الخامس
طهارة عن نجاسة، وذلك لأن غسل الأعضاء المخصوصة في الوضوء لا دخل لها في مخرج البول والغائط والريح وسائر الأحداث، وإنما هي طهارة تعبدية. الدليل الخامس: (1608 - 136) ما روه مسلم، قال: حدثني علي بن حجر السعدي وإسحق بن إبراهيم الحنظلي واللفظ لإسحق، عن عبد العزيز بن محمد عن عبد الواحد بن حمزة، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، أن عائشة أمرت أن يمر بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه، فأنكر الناس ذلك عليها فقالت: ما أسرع ما نسي الناس، ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد (¬1). وجه الاستدلال: كون المسلمين إلى يومنا هذا يصلون على موتاهم في المساجد، دليل على طهارة الميت، ولو كان الموت يجعل الآدمي نجساً ما صلي على الميت في المسجد، مع الأمر بحفظ المساجد عن النجاسات، بل وعن القاذورات ولو كانت طاهرة كالبصاق والنخامة ونحوهما. دليل من قال: إن الميت نجس مطلقاً: الدليل الأول: إذا كان الحيوان الطاهر المأكول اللحم إذا مات من غير تذكية أصبح نجساً بالإجماع، فكذلك بدن الآدمي، فإن طهارته حال الحياة لا تمنع من نجاسته إذا مات، لكونه حيواناً له نفس سائلة. ¬
الدليل الثاني
وأجيب: بأن هذا القياس في مقابل النص، فيكون قياساً فاسداً، فقد دلت النصوص على طهارة المسلم حياً وميتاً كما ذكرناها في أدلة القول الأول، فيكون الآدمي مخصوصاً من الحيوان الذي له نفس سائلة، وينجس بالموت. كما يمكن أن يقال: بأن هذا قياس مع الفارق، حيث إن الحيوان حلال الأكل خلقه الله ليكون مائدة تؤكل، ويفتقر عند التذكية إلى ذكر اسم الله عليه ليكون طاهراً حلالاً، بخلاف الآدمي فلا يحل أكله حياً ولا ميتاً كما هو معلوم، وإذا ثبت الفارق سقط القياس، والله أعلم. الدليل الثاني: (1609 - 137) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، عن منصور، عن عطاء أن حبشياً وقع في زمزم، فمات، قال: فأمر ابن الزبير أن ينزف ماء زمزم، قال: فجعل الماء لا ينقطع، قال: فنظروا فإذا عين تنبع من قبل الحجر الأسود، قال: فقال ابن الزبير: حسبكم (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الثالث: (1610 - 138) ما رواه ابن أبي شيبة، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، ¬
الدليل الرابع
عن ابن عباس: أن زنجياً وقع في ماء زمزم، فأنزل إليه رجلاً فأخرجه، ثم قال: انزفوا ما فيها من ماء، ثم قال للذي في البئر: ضع دلوك من قبل العين التي تلي البيت أو الركن؛ فإنها من عيون الجنة (¬1). [قتادة لم يسمع من ابن عباس] (¬2). الدليل الرابع: (1611 - 139) ما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار من طريق جابر، عن أبي الطفيل، قال: وقع غلام في ماء زمزم، فنزفت أي نزح ماؤها (¬3). [إسناده ضعيف جداً] (¬4). ¬
وجه الاستدلال من هذه الآثار: لو لم يكن الآدمي ينجس بالموت لما نجس ماء زمزم بموت الآدمي فيه، ولما كان هناك حاجة إلى نزحه. ويجاب عن هذا من وجهين: أولاً: هناك من يضعف قصة وقوع الزنجي في بئر زمزم، وإلى هذا ذهب سفيان بن عيينة رحمه الله. فقد روى البيهقي بإسناده عن سفيان قوله: أنا بمكة منذ سبعين سنة لم أر أحداً صغيراً ولا كبيراً يعرف حديث الزنجي الذي قالوا: إنه مات في زمزم، وما سمعت أحداً يقول: ينزح زمزم (¬1). ثانياً: هذه الآثار إن صحت فهي موقوفة على صحابي، وفعل الصحابي حجة إذا لم يخالف المرفوع، وهنا قد خالف ما رواه أحمد، (1612 - 140) قال أحمد في مسنده: حدثنا أبو أسامة، حدثنا الوليد ابن كثير، عن محمد بن كعب، عن عبيد الله بن عبد الله - وقال أبو أسامة مرة: عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع بن خديج - عن أبي سعيد الخدري، قال: قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض، والنتن، ولحوم الكلاب؟ قال: إن الماء طهور لا ينجسه شيء (¬2). [حديث صحيح بشواهده] (¬3) ¬
(1613 - 141) وروى أحمد أيضاً، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الماء لا ينجسه شيء " (¬1). [سبق تخريجه] (¬2). بل إن فعل ابن عباس بالأمر بنزح البئر على التسليم بصحته عنه معارض بما صح عن ابن عباس نفسه، (1614 - 142) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس: لا تنجسوا موتاكم؛ فإن المؤمن ليس بنجس حياً ولا ميتاً (¬3). وهذا نص صريح بأن الموت لا ينجس المؤمن، وإذا كان الموت ليس من أسباب النجاسة في حق المؤمنين، لم يكن من أسبابها في حق غيرهم، لأن الشيء لا يمكن أن يكون إذا لحق زيداً لم ينجسه، وإذا لحق عمراً نجسه، بل الحكم يكون شاملاً لعموم الناس على صورة واحدة. ثالثاً: ربما نزح البئر لسبب آخر غير وقوع الجثة في البئر، فإنه يبعد أن يسقط أحد في بئر ويسلم من الجروح، وقد يغير الدم لون الماء وطعمه، ومعلوم أن الدم يحرم شربه، فنزحت من أجل ذلك، أو لإجل استقذار الماء. (1615 - 143) ويؤيد ذلك ما رواه البخاري، من طريق ابن شهاب، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، ¬
دليل من قال: إن الكافر الميت نجس بخلاف المؤمن
عن ميمونة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة سقطت في سمن، فقال: ألقوها وما حولها، فاطرحوه، وكلوا سمنكم (¬1). فإذا كان هذا في الفأرة الميتة وهي بلا شك نجسة، وفي إناء السمن، وهو إناء صغير ليس كالبئر، والسمن ليس كالماء في دفعه للنجاسة، ومع ذلك لم ينجس السمن كله، فما بالك بالبئر والذي غالباً ما يكون الماء فيه كثيراً، ومع الآدمي وهو على الصحيح عين طاهرة، فإنه بلا شك يكون طاهراً، وأن الأمر بنزح الماء إنما هو للاستقذار أو لحرمة شرب الدم وقد تغير الماء به، والله أعلم. رابعاً: أنكم تقولون بنزح البئر مطلقاً، تغير الماء أو لم يتغير، مع أن الماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره فهو ماء طهور بالإجماع كما نقلنا الإجماع على ذلك عند الكلام على سؤر الخنزير فلماذا أخرجتم البئر من هذا الإجماع، وما الحاجة إلى نزحه، وبئر زمزم من الماء الكثير، وليس من الماء القليل. دليل من قال: إن الكافر الميت نجس بخلاف المؤمن: الدليل الأول: استدلوا بعموم قوله تعالى: {إنما المشركون نجس} (¬2). فهذا مطلق يشمل حال الحياة وحال الموت. الدليل الثاني: مفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " سبحان الله إن المؤمن لا ينجس ". معناه: أن غير المؤمن نجس. ¬
الراجح من الخلاف
وقد أجبنا على هذه الأدلة في الكلام على طهارة الكافر في حال الحياة، ولا يوجد دليل على نجاسته في حال الوفاة، وترك غسله والصلاة عليه؛ لأنه ليس من أهل العبادة، وليس هذا راجعاً إلى نجاسته. الراجح من الخلاف: بعد استعراض أدلة الأقوال تبين لنا أن القول بطهارة بني آدم أرجح من غيرها، وذلك لقوة أدلتهم، وسلامتها من الاعتراض، على خلاف أدلة بقية الأقوال، فإنها لا تكاد تسلم من الاعتراضات، والله أعلم.
المبحث الثاني في ميتة ما لا نفس له (دم)
المبحث الثاني في ميتة ما لا نفس له (دم) اختلف العلماء في الحيوان الذي لا دم له، كالصراصير والجراد ونحوهما: فقيل: هو طاهر مطلقاً، سواء تولد من شيء طاهر أو من شيء نجس، وهذا هو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وقول في مذهب الشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: هو نجس، لكن إن تولد من شيء طاهر، ومات فيما تولد منه، لم ينجسه، كدود التمر والتين والجبن يموت فيها، وإن أخرج ومات في غيره، نجسه، وهو قول في مذهب الشافعية (¬5). وقيل: إن تولد من شيء طاهر، فهو طاهر مطلقاً، سواء مات فيما تولد منه أم لا، وإن تولد من شيء نجس، كصراصير الكنف، فهو نجس، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (¬6). وسبق أن عرضت أدلة الأقوال في ذكر الخلاف في هذا الحيوان حال الحياة، والأدلة على طهارته حال موته هي الأدلة ذاتها على طهارته في حال موته، فانظرها مشكوراً. ¬
المبحث الثالث في ميتة البحر
المبحث الثالث في ميتة البحر اختلف العلماء في ميتة البحر، فقيل: إن إباحة الأكل إنما تختص بالسمك دون سائر ميتات البحر، بشرط أن يكون موت السمك بسبب ظاهر، كانحسار الماء أو نبذه له، أو ضرب صياد ونحو ذلك، فإن مات السمك حتف أنفه بغير سبب ظاهر وطفا، فإنه يكره أكله، وأما الطهارة فجميع ميتات البحر طاهرة، فلم يعلقوا حكم الأكل بالطهارة، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: إن مات في البحر ما لا نفس له سائلة فهو طاهر، وإن مات ما له نفس سائلة فهو نجس، وهذا منسوب إلى أبي يوسف من الحنفية (¬2). وقيل: بإباحة جميع ميتات البحر، مما لا يعيش إلا في الماء، وهذا مذهب الجمهور، إلا أن بعضهم استثنى كلب وإنسان وخنزير الماء (¬3). ¬
دليل الحنفية على اقتصار الإباحة على ميتة السمك خاصة
وقيل: إن ميتة البحر نجسة مطلقاً، سواء مات في البر أو في البحر، اختاره ابن نافع من المالكية (¬1). وقيل: ما مات في البحر فهو طاهر، وما مات في البر فهو نجس، وهذا ختيار ابن قاسم من المالكية (¬2). فمذهب الحنفية أضيق المذاهب فيما يتعلق بالأكل، ومن أوسع المذاهب فيما يتعلق بالطهارة. دليل الحنفية على اقتصار الإباحة على ميتة السمك خاصة: الدليل الأول: جاء النص من كتاب الله بتحريم الميتة مطلقاً في قوله تعالى: {إنما حرم عليكم الميتة والدم} (¬3). واستثني الحديث من الميتات ميتة السمك والجراد، فدل على أن ميتة غير السمك والجراد ليست حلالاً. (1616 - 144) فقد روى أحمد (¬4) من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه زيد بن أسلم، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما ¬
الدليل الثاني
الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالكبد والطحال. [سبق تخريجه] (¬1). الدليل الثاني: استدلوا بعموم قوله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} (¬2). وجه الاستدلال: بأن ميتة البحر فيما عدا السمك تعافه الطباع السليمة، وما عافته فهو خبيث. وأجيب: بأن الحكم على الشيء بأنه خبيث يحتاج إلى حكم شرعي، وليس مرد ذلك إلى الطباع، ولا يوجد دليل شرعي يقضي بأن ميتة ما سوى السمك من الخبائث، بل يوجد دليل على أنها من الطيبات، كما سأذكره في أدلة القول الثاني إن شاء الله تعالى. الدليل الثالث: (1617 - 145) ما رواه أحمد، من طريق ابن أبي ذئب، عن سعيد بن خالد، عن سعيد ابن المسيب، عن عبد الرحمن بن عثمان قال: ذكر طبيب الدواء عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر الضفدع تكون في الدواء، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتلها (¬3). [إسناده أرجو أن يكون حسناً] (¬4). ¬
الدليل على أن السمك الطافي الذي مات حتف أنفه حرام
وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حرم قتل الضفدع، وهو يستلزم تحريم أكلها، وهذا حيوان غير السمك. وأجيب: بأن الضفدع ليس من حيوان البحر خاصة، بل هو يعيش في البحر كما يعيش في الماء، وعليه فالحديث ليس في محل النزاع. وأما الدليل على أن السمك الطافي الذي مات حتف أنفه حرام: (1618 - 146) فهو ما رواه أبو داود من طريق يحيى بن سليم الطائفي، قال: ثنا إسماعيل ابن أمية، عن أبي الزبير، ¬
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه (¬1). [إسناده ضعيف، واختلف في وقفه ورفعه] (¬2). ¬
دليل من قال: يباح حيوان البحر كله
دليل من قال: يباح حيوان البحر كله: الدليل الأول: قال تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه} (¬1). قال ابن عباس: طعامه ميتته (¬2). وأجيب: بأن المقصود من قوله: " أحل لكم صيد البحر " هو فعل الصيد، وهو الاصطياد؛ لأنه هو الصيد حقيقة لا المصيد؛ لأنه مفعول فعل الصيد، وقوله: وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً المراد منه الاصطياد من المحرم، لا أكل الصيد؛ لأن ذلك مباح للمحرم إذا لم يصطده بنفسه ولا غيره بأمره، فثبت أنه لا دليل في الآية على إباحة الأكل، بل خرجت للفصل بين الاصطياد في البحر وبين الاصطياد في البر للمحرم (¬3). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1619 - 147) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن مالك، عن صفوان بن سليم، عن سعيد بن سلمة من آل ابن الأزرق، عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في ماء البحر: هو الطهور ماؤه الحلال ميتته (¬1). [الحديث صحيح وسبق تخريجه] (¬2). فقوله: " الحل ميتته " يشمل جميع ميتات البحر سواء كان سَمَكاً أو غيره. الدليل الثالث: (1620 - 148) ما رواه البخاري، قال: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو، أنه سمع جابراً - رضي الله عنه - يقول: غزونا جيش الخبط، وأُمِّر أبو عبيدة، فجعنا جوعاً شديداً، فألقى البحر حوتاً ميتاً لم نر مثله يقال له العنبر، فأكلنا منه نصف شهر، فأخذ أبو عبيدة عظماً من عظامه، فمر الراكب تحته، فأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول: قال أبو عبيدة: كلوا، فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: كلوا رزقاً أخرجه الله أطعمونا إن كان معكم، فأتاه بعضهم فأكله (¬3). ¬
وأجاب الحنفية عنه بجوابين: الأول: أن الحوت نوع من السمك. الثاني: أن أكل ذلك الميت كان في حال ضرورة ومخمصة، وهي حال تباح فيها أكل الميتة مطلقاً. ورد عليهم: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: كلوا رزقاً أخرجه الله، فقوله " كلوا " تعبير عن المستقبل، ثم إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكل منه، وهو في المدينة، وليس في حال الضرورة والمخمصة.
الفصل الثاني في الميتة النجسة
الفصل الثاني في الميتة النجسة أجمع العلماء على نجاسة الحيوان البري الذي له نفس سائلة إذا مات حتف أنفه بغير ذكاة، أو بذكاة غير معتبرة شرعاً. قال ابن رشد: " وأما أنواع النجاسات فإن العلماء قد اتفقوا في أعيانها على أربعة: ميتة الحيوان ذي الدم الذي ليس بمائي ... " (¬1). وقال ابن قدامة: لا يختلف المذهب في نجاسة الميتة قبل الدبغ , ولا نعلم أحدا خالف فيه (¬2). وقد شذ الشوكاني فذهب إلى طهارة الميتة، ولا أعلم أحداً سبقه إلى هذا القول (¬3). دليل الجمهور على نجاسة الميتة: الدليل الأول: قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إليَّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خِنْزير فإنه رجس} (¬4). ¬
الدليل الثاني
وقد رد الشوكاني هذا الاستدلال بقوله: إن الضمير راجع إلى أقرب مذكور، وهو لحم الخنزير، لإفراد الضمير بقوله: " فإنه رجس " وهذا الجواب ضعيف، وقد يجاب بجواب أقوى من هذا بأن يقال: إن الآية سيقت لبيان تحريم الأكل، بقوله: " على طاعم يطعمه " ولا نزاع في تحريم أكل الميتة. وأما القول: بأنه رجس، فالرجس هو الشيء المستقذر، وليس نصاً في النجاسة. وهذا يقال لو كان هذا هو الدليل الوحيد في نجاسة الميتة، ويكفي في نجاسته ما حكي من إجماع على نجاستها. الدليل الثاني: (1621 - 149) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح، وهو بمكة: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا، هو حرام، ثم قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه. ورواه مسلم (¬1). فالعلة في تحريم بيع الميتة عند جمهور الفقهاء: هو كونها نجسة، وخالف في ذلك الحنفية، فقالوا: إن العلة كونها ليست مالاً. ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1622 - 150) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا سليمان ابن بلال، عن زيد بن أسلم، أن عبد الرحمن بن وعلة أخبره، عن عبد الله بن عباس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا دبغ الإهاب فقد طهر (¬1). فإذا كان الجلد قبل الدبغ نجساً كان ذلك دليلاً على نجاسة لحم الميتة وذلك لأن نجاسة الجلد إنما هو لاتصاله بشحم ولحم الميتة، فإذا دبغ قطع منه ما تعلق به من شحم ولحم ورطوبة، فبقي لحم المينة نجساً لعدم إمكان دبغه، قال ابن تيمية: فالميتة ثلاثة أقسام: منها ما هو طاهر مطلقاً، كالشعر إذا جز، سواء جز في حال الحياة، أو بعد الموت. ومنها ما لا يطهر بحال كاللحم، والدم المسفوح. ومنه ما يحكم بنجاسته ما دام متصلاً برطوبة النجاسة ودمها، فإذا دبغ قطعت عنه هذه النجاسات، فأصبح طاهراً. ونجاسة الجلد قبل الدباغ كنجاسة الثوب، فإذا دبغ قطعت عنه النجاسة (¬2). الدليل الرابع: الإجماع، وقد نقلته عن ابن رشد، وعن ابن قدامة في رأس المسألة ولم يخالف إلا الشوكاني كما سبق. ¬
دليل الشوكاني على طهارة الميتة
دليل الشوكاني على طهارة الميتة: الدليل الأول: الأصل في الأعيان الطهارة، ولا ننتقل عن هذا الأصل إلا بدليل صحيح صريح. ويجاب: بأن هذا أصل عظيم، وهو مسلم، ولكننا لا نسلم أن الميتة لم يأت فيها دليل على النجاسة، بل وردت أدلة من الأثر ومن النظر على نجاستها كما سبق، والله أعلم. الدليل الثاني: (1623 - 151) ما رواه البخاري، قال: حدثنا سعيد بن عفير، حدثنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، حدثني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال وجد النبي - صلى الله عليه وسلم - شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - هلا انتفعتم بجلدها؟ قالوا: إنها ميتة. قال: إنما حرم أكلها، ورواه مسلم (¬1). فقوله: " إنما حرم أكلها " دليل على أنه لا يحرم من الميتة إلا الأكل. وأجيب: بأن هذا الحديث دليل على جواز الانتفاع بالنجاسات على وجه لا يتعدى، وليس فيه دليل على الطهارة، ولو أخذنا بظاهر الحصر لقلنا بجواز بيع الميتة، وقد جاء حديث جابر المتفق عليه في النهي عن بيع الميتة، وهو غير الأكل، وبالتالي ليس في الحديث دليل على طهارة أو نجاسة الميتة. ¬
الراجح من الخلاف
الراجح من الخلاف. أن الميتة نجسة، ولم أقف على قول لأحد قال بطهارة الميتة قبل الشوكاني، وقد حكي الإجماع على نجاستها، وعلى تحريم أكلها، والله أعلم.
الفصل الثالث في أجزاء الميتة
الفصل الثالث في أجزاء الميتة المبحث الأول في عظم الميتة وقرنها وحافرها عظم الحيوان المأكول اللحم المذكى طاهر إجماعاً، كما أن عظم الآدمي طاهر تبع لذاته على الصحيح، ولكن لا يجوز استعماله ولو من كافر لكرامة المؤمن، وتحريم المثلة في الكافر (¬1). وأما عظم الحيوان غير المذكى، سواء كان من مأكول اللحم أم غير مأكول اللحم فقد اختلف العلماء في طهارته على النحو التالي: فقيل: إن عظام هذا الحيوان طاهرة، وهو مذهب الحنفية، ورجحه ابن تيمية (¬2) إلا أن الحنفية يستثنون أمرين: الأول: عظم الخنزير. الثاني: ما أبين من الحي فهو عندهم كميتته، فيحكمون بنجاسة السن والأذن وغيرهما في حق غير صاحبها، أما في حق صاحبها فطاهرة (¬3). ¬
وقيل: إن العظم له حكم ميتته، فما كانت ميتته طاهرة فعظمه طاهر، وما كانت ميتته نجسة فعظمه نجس، وهو المشهور من مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). ¬
وقيل: لا يجوز بيع العظام، ويجوز الانتفاع بها، وهو اختيار ابن حزم (¬1). وقال بعضهم: إن العظام نجسة، تطهر بالدباغ، ودباغها غليها، اختاره بعض المالكية (¬2). وسبب اختلافهم في عظام الميتة، اختلافهم في نجاسة الميتة هل هو بسبب احتقان الدم فيها، ولذلك الحيوان الذي لا دم له لا ينجس بالموت، فكذلك العظام من باب أولى؛ لأنه لا دم فيها، وهذا جلد الميتة إذا دبغ وانقطعت عنه الرطوبة النجسة أصبح طاهراً، فالعظام من باب أولى؛ إذ لا رطوبة فيها أصلاً. أو أن الموت هو سبب النجاسة، والعظام جزء من الميتة فتنجس بالموت؟ وهل النمو والتغذية في هذه العظام من خصائص الحياة الحيوانية، فيدخله الموت، أو أن الموت خاص في الحس والحركة المستقلة، وليس في العظام شيء من ذلك، وبالتالي لا يلحقها الموت؟. وقد سبق ذكر هذه المسألة في بحث مستقل، وذكر أدلة كل قول، والجواب عن أدلة القول المرجوح، وسبق أيضاً رجحان طهارة عظام الميتة مما أغنى عن إعادته في هذا الكتاب (¬3). ¬
المبحث الثاني في شعر الميتة وريشها ووبرها
المبحث الثاني في شعر الميتة وريشها ووبرها إذا كان هذا الشعر والوبر قد جُزَّ من حيوان طاهر، وهو حي، فإنه طاهر بالإجماع (¬1)، أما إذا كان الشعر والوبر والصوف من حيوان ميت، فقد اختلف العلماء في ذلك: فقيل: إذا جز الشعر والوبر والصوف والريش من الحيوان فهو طاهر، سواء كان من حيوان طاهر أم نجس، وهو مذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، ورواية عن أحمد (¬4)، إلا أن الحنفية استثنوا شعر الخنزير فقط. ¬
وقيل: إن كان الحيوان طاهراً في الحياة ولو كان غير مأكول، فشعره طاهر، وإن كان الحيوان نجساً فالشعر تبع له، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: إن الشعر والوبر والصوف من الميتة نجس إلا شعر الآدمي، وهو المشهور مذهب الشافعية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3). وقيل: صوف الميتة وشعرها ووبرها نجس قبل الدباغ طاهر بعده، وهو اختيار ابن حزم (¬4). واشترط من قال بطهارته أن يجز جزاً. قال ابن نجيم: شعر الميتة إنما يكون طاهراً إذا كان محلوقاً، أو مجزوزاً، وإن كان منتوفاً فهو نجس (¬5). وقال الدردير: والمقصود بالجز: ما يقابل النتف، فيشمل الحلق والإزالة بالنورة، فلو جزت بعد النتف، فالأصل الذي فيه أجزاء الجلد نجس، والباقي طاهر (¬6). ¬
وقد ذكرنا أدلة كل قول في بحث مستقل، في كتابي أحكام الطهارة (أحكام المياه والآنية) (¬1) فأغنى عن إعادته هنا. وقد ترجح لي أن رأي الحنفية والمالكية أقوى من حيث الدليل، وأن الشعر لا تدخله الحياة الحيوانية، والحياة النباتية لا تكفي لتنجيسه إذا فارقها، وأنه لا فرق بين شعر الحيوان الطاهر بالحياة والحيوان النجس، ومن استثنى شعر الكلب أو الخنزير إن كان في ذلك إجماع فالدليل الإجماع، وإن لم يصح في المسألة إجماع فلا فرق بين شعره وشعر غيره، وبهذا يتبن لنا أن الميتة ثلاثة أقسام: نجس مطلقاً لا يطهر بحال، وهو اللحم والدم. وطاهر مطلقاً، وهو الشعر والوبر والصوف إذا جز جزاً. وطاهر بشرط الدباغ، وهو الجلد. وهناك قول آخر لم أذكره لأنه راجع إلى أحد الأقوال السابقة، وهو أن الشعر طاهر بعد الغسل، وهو مروي عن عطاء والحسن والأوزاعي كما ذكر ذلك عنهما ابن قدامة والنووي، وهذا المذهب يرجع إلى قول من قال بطهارة الشعر؛ لأن الشعر والوبر والصوف لو كان نجس العين لما طهره الغسل. والله أعلم. ¬
المبحث الثالث في جلد الميتة
المبحث الثالث في جلد الميتة اختلف العلماء في جلد الميتة، هل هو نجس أو متنجس يمكن أن يطهر بالدباغ ونحوه، وهل يباح الانتفاع به قبل الدبغ أو بعده؟ فأقول: اختلف العلماء على قولين: فقيل: إن جلد الميتة نجس، وليس متنجساً، وعلى هذا لا يمكن أن يطهره الدباغ، وقبل الدبغ لا ينتفع بالجلد مطلقاً، وهو مذهب مالك (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وأما بعد الدبغ فيباح استعماله في يابس عندهما، وفي الماء عند المالكية (¬3). وقيل: إن جلد الميتة متنجس، وليس بنجس، وعلى هذا يمكن أن يطهره الدباغ على خلاف بينهم في عين الجلود التي يطهرها الدباغ. فقيل: الدباغ يطهر جميع الجلود، إلا جلد الإنسان والخنزير، وهو مذهب الحنفية (¬4). ¬
وقيل: الدباغ يطهر جميع جلود الميتة بما في ذلك جلود ما لا يؤكل لحمه، إلا الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما، وهو مذهب الشافعية (¬1). وقيل: الدباغ لا يطهر إلا ما تحله الذكاة، وهو رواية عن مالك (¬2)، واختاره أبو ثور (¬3)، ورجحه بعض الحنابلة كالمجد وابن رزين وابن عبد القوي (¬4)، وابن تيمية (¬5). وقيل: الدباغ يطهر كل حيوان طاهر في الحياة، وهو رواية عن أحمد، واختارها بعض أصحابه، وهو رواية ثانية عن ابن تيمية (¬6). وقيل: الدباغ يطهر جميع الجلود حتى جلد الكلب والخنزير، وهو ¬
مذهب الظاهرية (¬1). فتلخص لنا من هذا الخلاف ما يلي: قيل: الدباغ لا يطهر مطلقاً. وقيل: يطهر مطلقاً. وقيل: يطهر جميع الجلود إلا الكلب والخنزير والإنسان. وقيل: يطهر ما تحله الذكاة. وقيل: يطهر ما كان طاهراً في الحياة، وإن كان محرماً أكله كالهرة ونحوها. وأما الانتفاع بالجلود، فقيل: يباح الانتفاع بالجلود مطلقا، سواء دبغت أم لا (¬2). وقيل: يباح الانتفاع بها بشرط الدبغ. وقيل: يباح الانتفاع بها في يابس، وقيل: في يابس وماء. وقد ذكرت أدلة كل قول في بحث مطول في أكثر من أربعين صفحة تقريباً، يرجع إليها في كتابنا أحكام الطهارة، في باب الآنية. ¬
المبحث الرابع في عصب الحيوان الميت
المبحث الرابع في عصب الحيوان الميت اختلف العلماء في عصب الحيوان الميت، فقيل: إنه طاهر، إلا من الخنزير فإنه نجس، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: إنه نجس، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، وقول في مذهب الحنفية (¬5). دليل الحنفية على طهارة عصب الميتة: الدليل الأول: قالوا: إن علة نجاسة الميتة، إنما هو لاحتباس الدم فيها، ولذلك كان ما لا نفس له سائلة، إذا مات لم ينجس؛ لأنه لم يكن فيه دم يحتبس فيه، فالعصب ونحوه أولى بعدم التنجس من هذا، فإن العصب ليس فيه دم سائل، ولا كان ¬
الدليل الثاني
متحركاً بالإرادة إلا على وجه التبع، فإذا كان الحيوان الكامل الإحساس المتحرك بالإرادة، لا ينجس لكونه ليس فيه دم سائل، فكيف ينجس العصب الذي ليس فيه دم سائل أصلاً؟! (¬1). الدليل الثاني: قالوا: إن هذه الأشياء ليست بميتة، فليست داخلة في عموم تحريم الميتة؛ لأن الميتة من الحيوان في عرف الشارع اسم لما زالت حياته، ولا حياة في هذه الأشياء، وما لا تحله الحياة لا يحله الموت. فإن قيل: إنها داخلة في الميتة؛ لأنها تحس وتتألم. قيل لهم: أنتم لم تأخذوا في عموم اللفظ، فإن ما لا نفس له سائلة كالذباب والعقرب لا ينجس عند جماهير العلماء، مع أنه ميتة (¬2). الدليل الثالث: أن طهارة العصب أولى من طهارة الجلد بالدباغ، فهذا الجلد جزء من الميتة، فيه الدم كسائر أجزائها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الدباغ طهارة له؛ لأن الدباغ ينشف رطوبته، فدل على أن سبب التنجس هو الرطوبات، والعصب ليس فيه رطوبة سائلة، فهو أولى بالطهارة من الجلد (¬3). الدليل الرابع: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه قال ¬
دليل الجمهور على نجاسة العصب
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الميتة: إنما حرم أكلها. (¬1)، وقد سبق الحديث بتمامه. فهذا دليل على جواز الانتفاع بعصب الميتة، ولا يلزم من تحريم أكل الميتة نجاستها، فالأكل شيء، والنجاسة شيء آخر، فلا تلازم بينهما. وقد يقال: ولا يلزم من جواز الانتفاع بعصب الميتة طهارته، فباب الانتفاع أوسع من باب الطهارة، فهذا الكلب نجس، ويجوز الانتفاع به بالصيد والحراسة ونحوهما. دليل الجمهور على نجاسة العصب: الدليل الأول: قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} (¬2)، والعصب جزء من الميتة. الدليل الثاني: (1624 - 152) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم، قال: أتانا كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنا غلام، أن لا تنتفعوا بإهاب ميتة، ولا عصب (¬3). [رجاله ثقات، إلا أن عبد الله بن عكيم لم يثبت له سماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو مرسل، وقد اختلف في إسناده اختلافاً كثيراً] (¬4). ¬
الراجح
الراجح: بعد استعراض أدلة الفريقين يتبين لي أن العصب طاهر، وأن تحريم الأكل لا يلزم منه النجاسة، وأنه يجوز الانتفاع به، شأنه شأن العظم والظفر والقرن والحافر ونحوها، والله أعلم. ¬
المبحث الخامس فيما قطع من البهيمة وهي حية
المبحث الخامس (*) فيما قطع من البهيمة وهي حية إذا انفصل من الحيوان عضو حال الحياة فما حكم هذا المنفصل؟ هل يعتبر طاهراً أو نجساً؟. وقبل الجواب على هذا نشير إلى أننا تكلمنا عن الشعر والصوف والوبر والعظم والقرن والظفر، وذكرنا خلاف العلماء في هذا، فلا نريد أن نعيد الكلام على ذلك، وإنما المقصود فيما انفصل من الحيوان غير هذه، كالكرش والأمعاء والشحم والأذن والأنف واليد والرجل ونحوها تنفصل بلا تذكية شرعية. فهذه الأشياء إذا انفصلت من الحي فلها حكم ميتته، فإن كانت ميتته طاهرة إجماعاً كانت هذه الأجزاء طاهرة إجماعاً، وإن كانت ميتته نجسة اتفاقاً كانت منه نجسة كذلك، وإن كانت ميتته مختلفاً فيها كان الخلاف في أجزائها كذلك، فمن رجح طهارة ميتته حكم بطهارتها، ومن رجح نجاسة ميتته رجح نجاستها، وهكذا. فالسمك والجراد مجمع على طهارة ميتتهما، فالعضو المبان منهما حال الحياة طاهر. والعجب أن النووي قد ساق خلافاً في العضو المبان من السمك مع الاتفاق على طهارة ميتته (¬1). ¬
وما أجمع على نجاسة ميتته مما له نفس سائلة غير الآدمي والسمك كالإبل والغنم والبقر فإن العضو المبان منها نجس، وحكي الإجماع على نجاسته (¬1). قال النووي: العضو المنفصل من حيوان حي - كألية الشاة وسنام البعير وذنب البقرة والأذن واليد وغير ذلك- نجس بالإجماع (¬2). وما اختلف في نجاسة ميتته - كالآدمي وما لا نفس له سائلة - فما انفصل منه حال الحياة يكون على الخلاف (¬3). ¬
الدليل على أن المنفصل له حكم ميتته
وقد سبق الحديث عن الميتة وطهارتها بشيء من التفصيل، فليرجع إليه. الدليل على أن المنفصل له حكم ميتته. (1625 - 153) فقد روى أحمد، قال: حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الرحمن - يعني: ابن عبد الله بن دينار- عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي واقد الليثي قال: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، والناس يجبون أسنمة الإبل، ويقطعون أليات الغنم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما قطع من البهيمة وهي حية، فهي ميتة (¬1). [الراجح أنه مرسل] (¬2) ¬
المبحث الخامس في لبن الميتة
المبحث الخامس في لبن الميتة الفرع الأول في لبن الآدمي الميت اختلف العلماء في لبن المرأة الميتة، فقيل: إنه نجس، وهو قول في مذهب المالكية (¬1)، وقول في مذهب الشافعية (¬2). وقيل: لبنها طاهر، وهو المعتمد في مذهب المالكية (¬3)، وهو مذهب الشافعية (¬4). ¬
دليل من قال: إن لبن المرأة الميتة نجس
دليل من قال: إن لبن المرأة الميتة نجس. هذا القول مبني على قول ضعيف، وهو أن الآدمي ينجس بالموت، وإذا نجس الظرف تنجس المظروف، وإذا لم تصح المقدمة لم تصح النتيجة، فالصحيح أن الآدمي طاهر حياً وميتاً، وهي مسألة خلافية، انظر أدلتها في باب أحكام الميتة.
الفرع الثاني في لبن البهيمة الميتة المأكولة اللحم
الفرع الثاني في لبن البهيمة الميتة المأكولة اللحم اختلف أهل العلم في لبن البهيمة الميتة المأكولة اللحم، فقيل: إنه طاهر، وهذا قول أبي حنيفة (¬1)، ورواية عن الإمام أحمد (¬2)، واختيار داود الظاهري (¬3)، ورجحه ابن تيمية (¬4). وقيل: نجس، اختاره أبو يوسف، ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬5)، وهو مذهب المالكية (¬6)، والشافعية (¬7)،والمشهور من مذهب الحنابلة (¬8). ¬
دليل من قال بالطهارة
دليل من قال بالطهارة: الدليل الأول: قال تعالى: {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين} (¬1). وجه الاستدلال: فالآية عامة في سائر الألبان، ومن قيده في حال الحياة فعليه الدليل. الدليل الثاني: قالوا: اللبن لا يجوز أن يلحقه حكم الموت; لأنه لا حياة فيه. ويدل عليه أنه يؤخذ منها وهي حية فيؤكل, فلو كان مما يلحقه حكم الموت لم يحل إلا بذكاة الأصل، كسائر أعضاء الشاة. اهـ وهذا معنى قول السرخسي: لو كان اللبن يتنجس بالموت لتنجس بالحلب أيضا (يعني: ولو كان من بهيمة حية) فإن ما أبين من الحي ميت, فإذا جاز أن يحلب اللبن , فيشرب عرفنا أنه لا حياة فيه , فلا يتنجس بالموت. وسوف يناقش - إن شاء الله تعالى - في مسألة مستقلة (حكم ما أبين من الحي). الدليل الثالث: قياس لبن الميتة على أنفحتها، فإذا كانت الأنفحة طاهرة، وهي مأخوذة من وعاء نجس، فكذلك اللبن طاهر، ولو أخذ من وعاء نجس. قال ابن تيمية: الصحابة لما فتحوا العراق أكلوا جبن المجوس، وكان هذا ¬
دليل من قال بالنجاسة
ظاهراً شائعاً بينهم، وما ينقل عن بعضهم من كراهة ذلك ففيه نظر؛ فإنه من نقل بعض الحجازيين، وفيه نظر، وأهل العراق كانوا أعلم بهذا؛ فإن المجوس كانوا ببلادهم، ولم يكونوا بأرض الحجاز (¬1). وفي طهارة الأنفحة خلاف، وسوف تناقش الآثار الواردة في طهارة الأنفحة في فصل مستقل - إن شاء الله تعالى - فانظره في بابه. دليل من قال بالنجاسة: الدليل الأول: قال تعالى: {حرمت عليكم الميتة} (¬2). وهذا عام في جميع أجزاء الميتة، ومنه لبنها. وأجيب: بأن اللبن ليس جزءاً من الميتة، وقد تبين أنه إذا انفصل عنها في حال الحياة جاز شربه إجماعاً، ولو كان جزءاً منها لأعطي حكم ميتته، ثم إن أجزاء الميتة ليست على درجة واحدة، فمنه الشعر والوبر والصوف، فهذا طاهر على الصحيح. ومنه الجلد، فهذا يطهر بالدباغ. ومنه اللحم فهذا محرم الأكل، وحكي الإجماع على نجاسته. الدليل الثاني: أنه لبن طاهر في ذاته، ولكنه تنجس لنجاسة الوعاء، فهو بمنزلة لبن طاهر ¬
صب في قصعة نجسة. قال ابن تيمية: واللبن والإنفحة لم يموتا، وإنما نجسهما من نجسهما لكونهما في وعاء نجس، فالتنجس مبني على مقدمتين: على أن المائع لاقى وعاء نجساً، وعلى أنه إذا كان كذلك صار نجساً (¬1). وأجيب: قال أبو بكر الجصاص: إن قيل: ما الفرق بينه وبين ما لو حلب من شاة حية ثم جعل في وعاء نجس وبين ما إذا كان في ضرع الميتة؟ قيل: الفرق بينهما أن موضع الخلقة لا ينجس ما جاوره بما حدث فيه خلقة. والدليل على ذلك اتفاق المسلمين على جواز أكل اللحم بما فيه من العروق مع مجاورة الدم لدواخلها من غير تطهير ولا غسل لذلك, فدل ذلك على أن موضع الخلقة لا ينجس بالمجاورة لما خلق فيه. ودليل آخر, وهو قوله: {من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين} (¬2)، فهذا إخبار بخروجه من بين فرث ودم، وهما نجسان مع الحكم بطهارته, ولم تكن مجاورته لهما موجبة لتنجيسه; لأنه موضع الخلقة, كذلك كونه في ضرع ميتة لا يوجب تنجيسه (¬3). وقال مثله ابن تيمية، قال: هذا القول مبني على مقدمتين: على أن المائع لاقى وعاء نجساً، وعلى أنه إذا كان كذلك صار نجساً. فيقال: لا نسلم أن المائع ينجس بملاقاة النجاسة، وقد تقدم أن السنة ¬
الراجح
دلت على طهارته، لا على نجاسته. ويقال ثانياً: إن الملاقاة في الباطن لا حكم لها، كما في قوله سبحانه وتعالى: {نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين} (¬1)، ولهذا يجوز حمل الصبي الصغير في الصلاة مع ما في بطنه (¬2). الراجح والله أعلم القول بالطهارة، لكن إن كان فيه أدنى تغير من طعم أو لون أو رائحة خبيثة، فهو نجس، وإن كان باقياً على خلقته فهو طاهر، وإن قال الأطباء إن مثله يضر بالصحة لتلوثه بالميكروبات والجراثيم حرم تناوله ولو حكمنا بطهارته، لأجل الضرر، لا لأجل تنجيسه، والله أعلم. ¬
المبحث السادس في بيض الحيوان الميت
المبحث السادس في بيض الحيوان الميت إذا انفصلت البيضة من حيوان مأكول بعد موته، بغير تذكية شرعية، وهو مما يحتاج إلى التذكية، وكانت البيضة لم تتغير فاختلف العلماء فيها: فقيل: إنها طاهرة مطلقاً، سواء صلب قشرها أم لا، وهو مذهب الحنفية (¬1)، واختاره بعض الشافعية (¬2)، وابن عقيل من الحنابلة (¬3). وقيل: إنها نجسة مطلقاً، سواء صلب قشرها أم لا، وهذا مذهب المالكية (¬4). وقيل: إن صلب قشرها فهي طاهرة، وإلا كانت نجسة، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6)، واختاره ابن حزم (¬7). ¬
دليل من قال بالطهارة مطلقا
دليل من قال بالطهارة مطلقاً: الدليل الأول: أن البيض لا تحله الحياة، فلا ينجس بموت الحيوان، مثله مثل لبن الميتة وإنفحتها، وقد قدمنا أن الراجح طهارتها، فكذلك البيضة. الدليل الثاني: أن البيض هذا لو أخذ، واستخرج منه فرخه، كان الحيوان طاهراً إجماعاً، فهذا دليل على طهارة البيض. الدليل الثالث: أن البيض هو الأصل الذي يخلق منه الحيوان، وهو طاهر، فكذا أصله. الدليل الرابع: أن البيض محمي بغشاء رقيق، وهذا الغشاء بمثابة الجلد، يمنع من تسرب النجاسة إلى البيض. الدليل الخامس: أن البيضة تؤخذ من الطائر حال حياته، وهي طاهرة إجماعاً كما قدمنا، فلو كانت جزءاً منه كان لها حكم ميتته، لحديث ما أبين من حي فهو كميتته (¬1). دليل من قال بالنجاسة مطلقاً: أن البيضة جزء من الميتة، والميتة نجسة، فكذلك بيضها. ¬
الراجح من الخلاف
وأجيب: بأن البيض ليس جزءاً من الميتة، بل هو منفصل عنها، وعلى التسليم فليس كل أجزاء الميتة نجسة، فهذا الشعر من الميتة طاهر، ولا ينجس بالموت، وكذلك عظم الميتة على الصحيح وقرنها، وكذلك جلدها إذا دبغ، وهذا الأشياء تتكون منها الميتة، فما بالك بالبيض الذي هو بمنزلة الجنين من الميتة لا ينجس بنجاسة الأم، فلو خرج الجنين من الميتة حياً كان طاهراً، فكذلك البيضة إذا خرجت ولم تكن فاسدة فهي طاهرة، والله أعلم. دليل من قال: إن صلب قشرها فهي طاهرة، وإلا فهي نجسة: قالوا: إذا تصلب قشر البيضة منع من تسرب النجاسة إليها، بخلاف غير المتصلب، فإنه لا يمنع من التأثر بالنجاسة. وأجيب: على التسليم بهذا، فإننا نعرف أن النجاسة قد تسربت إليها أو لم تتسرب بالفساد، فإذا خرجت البيضة غير فاسدة جزمنا أن النجاسة لم تتسرب إليها، إذ لو تسربت إليها لم تبق البيضة على حالتها لم تتغير، بل لو تسرب إليها سائل طاهر لغير البيضة، فكيف إذا تسرب إليها شيء نجس؟. الراجح من الخلاف: بعد استعراض الأدلة يظهر أن القول بطهارة البيضة أرجح من حيث قوة الاستدلال، والحكم بالنجاسة يحتاج إلى دليل صحيح سالم من المعارضة، والله أعلم.
المبحث السابع في إنفحة الميتة
المبحث السابع في إنفحة الميتة اختلف العلماء في أنفحة الميتة إذا أخذت من حيوان رضيع، فقيل: إنها طاهرة، وهو مذهب أبي حنيفة (¬1)، ورواية في مذهب الحنابلة (¬2)، رجحها ابن تيمية (¬3). وقيل: إنها نجسة، وهو مذهب المالكية (¬4)، والشافعية (¬5)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬6). وقيل: إن كانت جامدة فلا بأس، وإن كانت مائعة فإنها مكروهة، وهذا اختيار أبي يوسف، ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬7). ¬
دليل من قال بالطهارة
دليل من قال بالطهارة: الدليل الأول: كل دليل ساقه الفقهاء على طهارة لبن الميتة فإنه دليل على هذه المسألة، إذ لا فرق بينهما، فكما أن لبن الميتة سائل في وعاء نجس، فكذا الأنفحة، فمن رأى طهارة لبن الميتة رأى طهارة الأنفحة، والعكس بالعكس، ويضاف إلى هذه الأدلة أدلة خاصة في الأنفحة. الدليل الثاني: (1626 - 154) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن عمرو بن شرحبيل، قال: ذكرنا الجبن عند عمر فقلنا: إنه يصنع فيه أنافيح الميتة، فقال: سموا عليه وكلوه. [وهذا سند في غاية الصحة]. الدليل الثالث: (1627 - 155) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا الفضيل بن دكين، عن عمرو بن عثمان، عن موسى بن طلحة. قال: سمعته يذكر أن طلحة كان يضع السكين ويذكر اسم الله، ويقطع، ويأكل (¬1). [سنده صحيح]. ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (1628 - 156) ما روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جحش، عن معاوية بن قرة، عن الحسن بن علي أنه سئل عن الجبن فقال: لا بأس به ضع السكين واذكر اسم الله وكل (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل الخامس: (1629 - 157) روى الترمذي، قال: حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري، حدثنا سيف بن هارون البرجمي، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن السمن والجبن والفراء؟ فقال: الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفى عنه (¬3). [إسناده ضعيف مرفوعاً، والمعروف أنه موقوف على سلمان] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل السادس
وكونه موقوفاً، لا يعني أنه لا يستدل به. فهذا عمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله، والحسن بن علي، وسلمان كلهم يرون طهارة الأنفحة، فإذا لم نجد في السنة المرفوعة حكماً فإنا لا نتجاوز ما اختاره الصحابة رضي الله عنهم، فسبيلهم سبيل المؤمنين. قال ابن تيمية في الفتاوى: ويدل لذلك أن سلمان الفارسي كان هو نائب عمر بن الخطاب على المدائن، وكان يدعو الفرس إلى الإسلام. وقد ثبت عنه أنه سئل عن شئ من السمن والجبن والفراء؟ فقال: الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفى عنه" (¬1). اهـ الدليل السادس: (1630 - 158) روى أبو داود، قال: حدثنا يحيى بن موسى البلخي، قال: ثنا إبراهيم بن عيينة، عن عمرو بن منصور، عن الشعبي، عن ابن عمر قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بجبنة في تبوك، فدعا بسكين، ¬
فسمى وقطع (¬1). [انفرد إبراهيم بن عيينة برفعه، وخالفه من هو أوثق منه فأرسله] (¬2). ¬
الدليل السابع
الدليل السابع: (1631 - 159) ما رواه البيهقي من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، عن تملك، عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجبن: كلوا واذكروا اسم الله عليه (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الثامن
الدليل الثامن: (1632 - 160) ما رواه البيهقي من طريق مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن أبي بكر بن المنكدر، قال: سألت امرأة منا عائشة عن أكل الجبن، فقالت عائشة: إن لم تأكليه، فأعطنيه آكل (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). دليل من قال بالنجاسة: الدليل الأول: كل دليل ساقوه على نجاسة لبن الميتة فإنهم يسوقونه دليلاً هنا، بجامع أن ¬
الدليل الثاني
كلاً منهما سائل في وعاء نجس، فيتنجس به، أو لأن الله حرم الميتة، وهذا منها، وقد سبق الجواب عن ذلك في الحديث عن حكم لبن الميتة، ويضاف إلى ما سبق أدلة خاصة في إنفحة الميتة. الدليل الثاني: (1633 - 161) ما رواه البيهقي من طريق سفيان الثوري، حدثني إبراهيم العقيلي، حدثني عمي ثور بن قدامة، قال: جاءنا كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لا تأكلوا من الجبن إلا ما صنع أهل الكتاب (¬1). [إسناده فيه لين، وقد ثبت عن عمر خلافه بسند صحيح] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1634 - 162) ما رواه البيهقي من طريق شعبة وسفيان، عن منصور، عن عبيد بن أبي الجعد، عن قيس بن سكن، قال: قال عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه: كلوا الجبن ما صنع المسلمون وأهل الكتاب (¬1). [إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬2). الدليل الرابع: (1635 - 163) ما رواه البيهقي من طريق علي بن عباس، ثنا محمد ابن بشار، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن قتادة، عن علي البارقي، أنه سأل ابن عمر عن الجبن، فقال: كل ما صنع ¬
الدليل الخامس
المسلمون وأهل الكتاب (¬1). [إسناده حسن إن شاء الله تعالى] (¬2). وكون ابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهم لا يأكلون إلا ما صنع المسلمون وأهل الكتاب ذلك لأن السخال والعجول تذبح لتؤخذ منها الإنفحة التي يصلح بها الجبن، فإذا كانت من ذبائح أهل الأوثان أو المجوس لم تحل ذبيحتهم، فكان الصحابيان لا يريان طهارة الإنفحة من الميتة إذا جاءت من قبل أناس لا تحل ذبيحتهم. الدليل الخامس: (1636 - 164) ما رواه البيهقي من طريق أبان بن أبي عياش، عن أنس، قال: كنا نأكل الجبن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعده لا نسأل عنه، وكان أنس لا يأكل إلا ما صنع المسلمون وأهل الكتاب (¬3). [الحديث ضعيف جداً] (¬4). ¬
دليل من فرق بين الجامد والمائع
دليل من فرق بين الجامد والمائع: لعلهم رأوا أن المائع قد يتأثر بمخالطته النجاسة، التي هي كرش الميتة، بخلاف الجامد فإن النجاسة لا تمازجه، وبالتالي يحافظ على طهارته، والله أعلم. الراجح من الخلاف. كما رجحنا طهارة لبن الميتة، فإننا نرجح هنا طهارة الإنفحة للسبب نفسه، ويكفي أن الحل هو قول عامة الصحابة، وقد ضعف ابن تيمية ما نقل عن بعض الصحابة من التحريم، وقال: والأظهر أن جبنهم حلال، وأن إنفحة الميتة ولبنها طاهر، وذلك لأن الصحابة لما فتحوا بلاد العراق أكلوا جبن المجوس، وكان هذا ظاهراً شائعاً بينهم، وما ينقل عن بعضهم من كراهة ذلك ففيه نظر، فإنه من نقل بعض الحجازيين وفيه نظر. وأهل العراق كانوا أعلم بهذا، فإن المجوس كانوا ببلادهم ولم يكونوا بأرض الحجاز (¬1). وحتى على القول بنجاسة الإنفحة، فإنها مستهلكة في الجبن، ولا يظهر لها طعم أو لون أو رائحة، فإن الكمية اليسيرة من الإنفحة تستخدم في كميات كبيرة من الجبن، والشيء إذا استهلك في الأعيان الطاهرة، ولم يظهر له أثر من طعم أو لون أو رائحة لم يكن له حكم، ولو خالط الأعيان الطاهرة، والله أعلم. ¬
الباب الخامس: في الجمادات
الباب الخامس: في الجمادات الفصل الأول في طهارة الخمر اختلف العلماء في الخمرة، هل هي طاهرة أم نجسة؟. فقيل: إنها نجسة نجاسة حسية، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1)، واختيار ابن حزم (¬2)، ورجحه ابن تيمية (¬3). وقيل: الخمرة طاهرة، وإليه ذهب ربيعة الرأي (¬4)، والمزني من أصحاب ¬
دليل من قال: إن الخمر نجسة
الشافعي (¬1)، وداود الظاهري (¬2)، ورجحه الشوكاني (¬3)، والصنعاني (¬4). دليل من قال: إن الخمر نجسة. الدليل الأول: قال تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} (¬5). وجه الاستدلال: أن الله تعالى وصف الخمر بأنها رجس، والرجس في عرف الشرع هو النجس نجاسة عينية. وأجيب: بأن الرجس في الآية لا يراد به النجاسة الحسية، لما يأتي: أولاً: أن الله سبحانه وتعالى قرن الخمر بالميسر والأنصاب والأزلام، وإذا كانت هذه الأشياء ليست نجسة نجاسة حسية، فكذلك الخمرة، ولو كانت كلمة رجس نصاً في النجاسة الحسية لكانت هذه الأشياء نجسة نجاسة حسية، فلما لم تدل على نجاسة تلك الأشياء، لم تدل على نجاسة ¬
الخمرة (¬1). ثانياً: أن الرجس هنا وصف بقوله: " من عمل الشيطان " فهو رجس عملي، أي معنوي، وليس رجساً حسياً، ولذلك قال القرطبي: من عمل الشيطان: أي بحمله وتزيينه. ثالثاً: الرجس في كلام الشارع أكثر ما جاء في النجاسة المعنوية، قال تعالى: {إنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجس أهل البيت} (¬2)، وقال تعالى: {ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون} (¬3)، وقال تعالى: {كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون} (¬4)، وقال سبحانه: {قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب} (¬5)، وقال سبحانه: {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم} (¬6)، وقال سبحانه: {فأعرضوا ¬
عنهم إنهم رجس} (¬1)، وقال: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} (¬2)، فإذا كان الأكثر في كلام الشارع إطلاق الرجس على النجاسة المعنوية، كما مر معنا في الآيات السابقة، والميسر والأنصاب والأزلام يراد بها النجاسة المعنوية، والخبر هنا إخبار عن الأربعة الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، فالقول بأن الرجس في الخمر وحده فقط دليل على النجاسة الحسية، وعلى غيره مما قرن معه يراد به النجاسة المعنوية فيه نوع تحكم لا دليل عليه. ولذلك لم ير النووي - وهو ممن يرى نجاسة الخمر - في الآية نصاً على نجاسة الخمر، حيث يقول رحمه الله: " ولا يظهر من الآية دلالة ظاهرة لأن الرجس عند أهل اللغة القذر ولا يلزم من ذلك النجاسة، وكذا الأمر بالاجتناب لا يلزم منه النجاسة" (¬3). (1637 - 165) رابعاً: ساق ابن جرير الطبري من طريق عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: رجس من عمل الشيطان، يقول: سخط (¬4). [إسناده ضعيف] (¬5). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1638 - 166) ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، أن أبا ثعلبة الخشني قال: يا رسول الله إنى بأرضٍ أهلها أهل الكتاب، يأكلون لحم الخنزير، ويشربون الخمر، فكيف بآنيتهم وقدورهم؟ فقال: دعوها ما وجدتم منها بداً، فإذا لم تجدوا منها بداً فارحضوها بالماء، أو قال: اغسلوها ثم اطبخوا فيها وكلوا. قال: وأحسبنه قال: واشربوا (¬1). [أبو قلابة لم يسمع من أبي ثعلبة، واختلف في ذكر زيادة لحم الخنزير وشرب الخمر، والحديث في الصحيحين، وليس فيه زيادة شرب الخمر وأكل لحم الخنزير] (¬2). وأجيب: أولاً: أن هذا الحديث في الصحيحين، وليس فيه ذكر هذه الزيادة. ثانياً: لو كانت العلة النجاسة لأمر بغسلها مباشرة، فالنهي عن استعمالها مع وجود غيرها مطلق، سواء تيقنا طهارتها أم لا، والأصل في النهي المنع، ¬
الدليل الثالث
لكن لما قال سبحانه وتعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} (¬1)، ومعلوم أن طعامهم مصنوع بأيديهم وأوانيهم، وأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - طعام أهل الكتاب في أحاديث صحيحة، فدل على أن الغسل من باب الاحتياط والاستحباب. ثالثاً: أننا لو تنزلنا وقلنا بوجوب غسل الأواني، فإن غسل الأواني من أثر الخمر ليس فيه دليل على النجاسة؛ وإنما لكون الخمر والخنزير يحرم تناولهما، فخشية الوقوع في المحرم أمر بغسل الأواني منهما. الدليل الثالث: قوله تعالى: {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} (¬2)، وجه الاستدلال: قال الشنقيطي: وصفه شراب أهل الجنة بأنه طهور، يفهم منه أن خمر الدنيا ليست كذلك، ومما يؤيد هذا أن كل الأوصاف التي مدح الله تعالى بها خمر الآخرة منفية عن خمر الدنيا، كقوله تعالى {لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون} (¬3)، وقوله تعالى: {لا يصدعون عنها ولا ينزفون} (¬4)، بخلاف خمر الدنيا، ففيها غول يغتال العقول، وأهلها يصدعون أي يلحقهم الصداع (¬5). ¬
الدليل الرابع
وأجيب بأجوبة منها: الأول: أن قوله تعالى: {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} (¬1)، لا يوجد نص بأن المقصود به خمر الآخرة، وإنما هو شراب مخصوص يشربه المؤمنون، فيطهرهم من الذنوب وعن خسائس الصفات، كالغل والحسد، فجاءوا الله بقلب سليم، ودخلوا الجنة بصفات التسليم، وقيل لهم حينئذ سلام عليكم طبتم فادخولها خالدين (¬2). ثانياً: على التسليم بأن المراد به في قوله تعالى {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} أن المراد به خمر الآخرة، فإن هذا لا يعني أن خمر الدنيا نجس، فلو أخذنا بالمفهوم - على ضعفه- فإنه يعني أن خمر الدنيا ليست بطهور، وما كان غير طهور لا يعني أنه نجس، بل قد يعني كونه طاهراً، ومعلوم أن الطهور غير الطاهر. الدليل الرابع: قالوا: إن الخمر عين يحرم تناولها من غير ضرر فيها، فأشبهت الدم، يعني في النجاسة (¬3). ورده النووي بقوله: هذا لا دلالة فيه لوجهين: أحدهما: أنه منتقض بالمني والمخاط وغيرهما، يعني أنه يحرم تناولهما من غير ضرر فيهما، وهما طاهران. ¬
الدليل الخامس
والثاني: أن العلة في منع تناولهما مختلفة فلا يصح القياس ; لأن المنع من الدم لكونه مستخبثاً, والمنع من الخمر لكونها سببا للعداوة والبغضاء وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة كما صرحت به الآية الكريمة. قلت: والعجب كيف يقال: إنه لا ضرر فيه، مع أن العقل والنقل دالان على أضرار الخمر، وأي ضرر أكبر من كونه يصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، هذا مع ما يقع بسببه من العدواة والبغضاء بين المسلمين، فضلاً عما قد يؤول إليه الأمر من مضاره التي لا تحصى، فقد يؤدي إلى إهلاك الحرث والنسل والمال والعيال،، وخسارة الدنيا والآخرة، كما هو معلوم، نسأل الله العافية. هذه أضراره الدينية، وأضرراه البدنية قد تكلم فيه الأطباء، بما لا مجال لذكره هنا. الدليل الخامس: أن الخمرة نجسة تغليظاً وزجراً عنها، قياساً على الكلب، نقله النووي عن الغزالي، واستحسنه (¬1). وأجيب: بأن هذا الدليل ليس من أدلة الشرع المتفق عليها ولا المختلف فيها، والكلب ليست نجاسته من باب الزجر والتغليظ، ولو قلنا: بأن الزجر والتغليظ سبب في النجاسة لنجسنا كثيراً من المحرمات مما لم يقل أحد بنجاستها، كنجاسة التماثيل والأصنام، لكونها من أشد المحرمات. ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: إن النصوص الشرعية حرمت وجوه الانتفاع بالخمر، فأمرت بإراقتها، ومنعت من التداوي بها، وحرمت بيعها، ومنع من تخليلها، وكل هذه الأمور جاءت فيها نصوص صحيحة صريحة، فلو كانت طاهرة العين لأبيح التداوي بها أو الانتفاع بأي وجه من الوجوه، وكل هذا دليل على نجاستها. وإليك النصوص الشرعية التي تؤكد هذه الأحكام. (1639 - 167) منها ما رواه البخاري من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح وهو بمكة: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا هو حرام، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه. ورواه مسلم (¬1). (1640 - 168) ومنها، ما رواه مسلم من طريق زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن وعلة رجل من أهل مصر، أنه سأل عبد الله بن عباس عما يعصر من العنب؟ فقال ابن عباس: إن رجلا أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - راوية خمر؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل علمت أن الله قد حرمها؟ قال: لا، فسار إنساناً، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬
بم ساررته؟ فقال: أمرته ببيعها. فقال: إن الذي حرم شربها حرم بيعها. قال ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها (¬1). (1641 - 169) ومنها ما رواه البخاري من طريق ثابت، عن أنس رضي الله عنه: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يومئذ الفضيخ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منادياً ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فخرجت فهرقتها فجرت في سكك المدينة. الحديث، والحديث رواه مسلم (¬2). (1642 - 170) ومنها: ما روه مسلم من طريق شعبة، عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل، عن أبيه وائل الحضرمي، أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر؟ فنهاه أو كره أن يصنعها فقال: إنما أصنعها للدواء. فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء (¬3). (1643 - 171) ومنها ما رواه مسلم من طريق عبد الرحمن، عن سفيان، عن السدي، عن يحيى بن عباد، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الخمر تتخذ خلاً؟ فقال: لا. وأجيب: تحريم بيعها لا يلزم منه نجاستها، فقد قرن تحريم بيع الخمر بتحريم بيع الأصنام، والأصنام ليست نجسة، فالنهي عن بيع الخمر جاء معللاً في ¬
دليل من قال: إن الخمر طاهرة
الحديث: إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، ولم يقل: إن الله إذا حرم شيئاً اقتضى نجاسته، وسائر وجوه الانتفاع بها محرم لا لنجاستها، ولأن هناك أشياء نجسة، ولا يحرم الانتفاع بها، ولذلك جاء في الحديث: أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس، قال: لا. هو حرام. أي البيع، فجواز الانتفاع بشحوم الميتة لا يسوغ صحة البيع، ولو كانت النجاسة دليلاً على تحريم الانتفاع بها ما جاز الاستصباح بشحوم الميتة وطلي السفن بها ودهن الجلود وغير ذلك من وجوه الانتفاع. وهذا الكلب نجس، ويباح الانتفاع به في صيد وحراسة ونحوهما. دليل من قال: إن الخمر طاهرة: الدليل الأول: النجاسة حكم شرعي يحتاج إلى دليل شرعي، ولم يرد في الشرع نص يقتضي النجاسة الحسية للخمر، والأصل في الأشياء الطهارة، والخمر طاهرة قبل تحريمها، فكذلك بعد تحريمها، والتحريم وحده لا يقتضي النجاسة، ألا ترى إلى السم، فإنه محرم الأكل، ومع ذلك ليس بنجس، وهي مصنوعة من أشياء طاهرة كالعنب ونحوه، وكونه يتخمر ويشتد ويغلي فهذا لا يقتضي النجاسة، فإن اللحم قد ينتن وتتغير رائحته، ومع ذلك لا يقال عنه: إنه نجس. الدليل الثاني: (1644 - 172) ما رواه البخاري من طريق ثابت، عن أنس رضي الله عنه، قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منادياً ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. قال:
فقال لي أبو طلحة: أخرج فأهرقها، فخرجت فهرقتها، فجرت في سكك المدينة. الحديث، والحديث رواه مسلم (¬1). وحديث ابن عباس في مسلم في قصة الرجل الذي أهدى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راوية خمر، فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتحريمها، فأراقها بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ذهب ما فيها. وسبق ذكره بتمامه. وجه الاستدلال: لو كان الصحابة يعتقدون نجاستها لتحروا لإراقتها أماكن النجاسات، ولنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن إراقتها في الشوراع كما نهاهم عن التخلي في الطريق والظل، (1645 - 173) فقد روى مسلم من طريق العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اتقوا اللعانين قالوا وما اللعانان يا رسول الله قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم (¬2). وأجيب عن هذا الاستدلال: قال القرطبي: إن الصحابة أراقوا هذا؛ لأنه لم يكن لهم سروب ولا آبار يريقونها فيها، إذ الغالب من أحوالهم أنهم لم يكن لهم كنف في بيوتهم، وقالت عائشة رضي الله عنها إنهم كانوا يتقذرون من اتخاذ الكنف في البيوت، ¬
ونقلها إلى خارج المدينة فيه كلفة ومشقة ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور، وأيضاً فإنه يمكن التحرز منها، فإن طرق المدينة واسعة، ولم يكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهراً يعم الطرق كلها، وإنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرز عنها، هذا مع ما يحصل في ذلك من فائدة شهرة إراقتها في طرق المدينة ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من إتلافها، وأنه لا ينتفع بها، وتتابع الناس وتوافقوا على ذلك، والله أعلم (¬1). ويمكن أن يتعقب هذا: أولاً: قولهم إن الخمر كانت يسيرة، وجرت في مواضع يسيرة، ويمكن التحرز منها. هذا خلاف الحديث السابق، من قول الصحابي: حتى جرت في سكك المدينة، فظاهره أنها جرت في جميع سكك المدينة، وأقل ما يدل عليه أنها جرت في غالب سكك المدينة. ثانياً: قوله: يمكن التحرز منها، فإن التحرز من بول الإنسان في الطريق أهون من التحرز من الخمرة التي جرت في غالب سكك المدينة، ومع ذلك لم يكن هذا مبرراً لأن يؤذن في التبول في الطريق. ثالثاً: قوله: إن نقل الخمر خارج المدينة يلحقهم مشقة كبيرة، فهل كانت المدينة كبيرة جداً؟ بحيث يلحقهم تلك المشقة، وهذا الفعل لن يتكرر، بل إن المشقة تلحقهم في تحري البول خارج المدينة أكثر من نقل الخمر مرة واحدة والتخلص منها؛ لأن البول قد يفاجئ الإنسان وهو في الطريق، ويتكرر ¬
الدليل الثالث
في اليوم عدة مرات، ومع ذلك لا يؤذن له بالبول في طريق الناس، مع كون البول يسيراً، ويمكن التحرز منه. رابعاً: قوله: إن في إرقاتها في طرق المدينة فائدة من كونه يشتهر ليشيع العمل، فيقال: ألا يشيع العلم حتى تراق في طرق المدينة، ألا تحصل هذه الفائدة لو أريقت في الأماكن التي لا تطرق من جوانب الطريق، والأماكن الخالية في المدينة، مع نزول آيات القرآن في تحريمها، وشدة عناية الصحابة بقراءة كتاب الله وتعلم ما فيه. الدليل الثالث: لم يأت نص من السنة بغسل الأواني من أثر الخمر، فالرجل الذي أهدى للرسول - صلى الله عليه وسلم - راوية خمر لم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بتطهير راويته منها، بل اكتفى بإراقتها فقط. وقد كان المسلمون قبل تحريم الخمر تكون في أوانيهم، وربما أصابت شيئاً من أبدانهم وثيابهم، فلما نزل تحريمها وأراقوها لم ينقل أن أحداً منهم غسل شيئاً من ذلك من بدنه أو من ثيابه أو من آنيته، ولو كانت نجسة لفعلوا ولأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. الراجح من الخلاف: بعد استعراض أدلة الفريقين، أرى أن القول بالطهارة أقوى من حيث الأثر ومن حيث النظر، والقول بالنجاسة وإن كان قول الأكثر إلا أن هذا غير كاف في الحكم بالنجاسة، ويكفي القائلين بالطهارة الجواب عن أدلة القائلين بالنجاسة، فإن الأصل في الأعيان الطهارة، ومن ذهب إلى طهارة عين فإنه لا يطالب بالدليل، بل يكفيه الدليل السلبي، وهو عدم
وجود دليل على النجاسة، وإنما يطالب بالجواب عن أدلة القائلين بالنجاسة، وقد فعلوا، فكيف إذا كان القائلون بطهارة الخمر معهم دليل إيجابي على طهارته. ثم إن أصل تكوين الخمرة مواد طاهرة، فكيف تنجست، وهي لم تؤكل ولم تشرب، غاية ما في الأمر أنها تغيرت، وهذا لا يقتضي نجاستها، والله أعلم.
الفصل الثاني في حكم الطيب الموجود فيه كحول
الفصل الثاني في حكم الطيب الموجود فيه كحول اختلف العلماء في طهارة الكحول، فقيل: نجس، وهو اختيار الشنقيطي رحمه الله تعالى (¬1). وقيل: طاهر. وهو يلزم كل من قال بطهارة الخمر، وقد سبق بيان من قال بهذا القول في مسألة مستقلة. دليل من قال بالنجاسة: الدليل الأول: هذه العطور ثبت أنها مسكرة، ويشربها بعض الفقراء بديلاً عن الخمر، أو في المواضع التي يمنع فيها بيع الخمر، وإذا كانت مسكرة، كانت (1646 - 174) خمراً بمقتضى النص النبوي، فقد روى مسلم، من طريق حماد بن زيد، حدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات، وهو يدمنها لم يتب، لم يشربها في الآخرة (¬2). فقوله " كل مسكر" من ألفاظ العموم، فيشمل كل مسكر، سواء كان من العطور أو عصير العنب أو غيرهما. (1647 - 175) وروى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا إسحاق بن ¬
الدليل الثاني
إبراهيم الحنظلي، أخبرنا عيسى وابن إدريس، عن أبي حيان، عن الشعبي، عن ابن عمر، قال: سمعت عمر رضي الله عنه على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل. فقوله رضي الله عنه: الخمر ما خامر العقل، دليل على أنه ليس خاصاً بنوع معين. وإذا ثبت الإسكار في الطيب، ثبت له حكم الخمر، وذلك: في تحريم بيعه وشرائه، كما في حديث: إن الله حرم بيع الخمر. الحديث متفق عليه وسبق تخريجه في حكم الخمر. وحرم الانتفاع بها بأي وجه من الوجوه، ومن ذلك تحريم تخليلها، كما جاء في الحديث الصحيح، وتحريم التداوي بها، ووجب إراقتها، وكل هذه الأحكام ثبتت في أحاديث في الصحيحين أو في أحدهما ذكرناها في الخلاف في بيع الخمر، فالخمر لا يعتبر مالاً حتى يمكن أن يصح بيعه وشراؤه، ووجب التخلص منه. الدليل الثاني: إن الله سبحانه وتعالى قال في الخمر " فاجتنبوه لعلكم تفلحون " وهو أبلغ من النهي عن شربه، واستعماله في الأبدان والثياب مخالف للأمر الرباني. الدليل الثالث: كل دليل استدل به على نجاسة الخمر، يستدل به هنا على نجاسة هذه العطور.
دليل من قال بطهارة العطور ونحوها
دليل من قال بطهارة العطور ونحوها: الدليل الأول: كل دليل سيق على طهارة الخمر يساق هنا، وقد ذكرتها على وجه التفصيل في حكم الخمر فارجع إليها إن شئت. الدليل الثاني: أكثر القائلين بنجاسة الخمر يرى طهارة الحشيشة، مع أن نسبة الكحول الموجودة فيها ربما أكثر من العطور، وكونه صلباً أو سائلاً لايكفي لاختلاف الحكم، ولا يغير في حقيقته شيئاً. الدليل الثالث: الكحول يتكون في كثير من المأكولات، وجميع ما نخمره مثل الخمير والخبز والكعك والبسكويت .... بل إن الكحول يتكون داخل أمعائنا بفعل البكتريا، فهذا دليل أن الكحول ليس نجساً. وإذا علمنا أن الكحول المستخدم من الكولونيا وغيرها لا يستخرج من الخمر أبداً ... ، وإنما يصنع بطرق كيماوية منها تحويل غاز الإيثان إلى الكحول الإيثيلي أو الإيثانول كما يسمى علمياً، فإنه ليس نجساً، بل طهور لأنه مصنوع من مواد ليست نجسة (¬1). الدليل الرابع: على فرض أن الكحول نجس، فالتلبس بالنجاسة ليس حراماً إلا إذا كان يريد فعل عبادة يشترط لفعلها الطهارة، ولذلك صرح الشافعية بأن الاستجمار لا يجب على الفور، بل يجوز تأخيره حتى يريد الطهارة أو ¬
الدليل الخامس
الصلاة (¬1)، وقاسوا إزالة النجاسة على بقية شروط الصلاة، فإذا دخل وقت الصلاة وجب الاستنجاء وجوباً موسعاً بسعة الوقت، ومضيقاً بضيقه كبقية الشروط (¬2). (1648 - 176) ولما رواه البخاري في صحيحه: وقال أحمد بن شبيب، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني حمزة بن عبد الله، عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك (¬3). وقد استدل به أبو داود في السنن على أن الأرض تطهر إذا لاقتها النجاسة بالجفاف، لقوله " فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك " فإذا نفي الرش كان نفي صب الماء من باب الأولى، فلولا أن الجفاف يفيد تطهير الأرض ما تركوا ذلك الدليل الخامس: الطيب يغاير الخمر؛ لأن الطيب في أصله وضع للتطيب به لا للسكر، والخمر إنما وضع للسكر، فحرم بيعه وشرؤه، وإخراج الطيب عن أصله الذي ¬
الدليل السادس
وضع له لفعل شواذ من الناس لا يقتضي القول بتحريم بيعه مطلقاً، لكن من اشتراه ليسكر به حرم منه هذا الفعل، كشراء العنب لمن يريد عصره خمراً، والقول بتحريم بيع العطور يلزم منه القول بتحريم زراعة العنب وبيعه مطلقاً، ولا قائل به، وهكذا يلزم منه تحريم سائر الأشياء المباحة التي قد تستعمل فيما حرم الله. الدليل السادس: الكحول سائل، سرعان ما يتطاير ويتحول إلى غاز (بخار)، وهذا البخار يعتبر طاهراً ولو كان أصله نجساً، كما أن الخمر إذا تحول إلى خل أصبح طاهراً عندكم. الراجح من الخلاف. بعد استعراض أدلة الفريقين يتبين لي طهارة الكحول كما سبق ترجيح طهارة الخمرة في المسألة التي قبل هذه، ولكن مع ذلك إذا ثبت أن الكثير من هذه الأطياب مسكرة، فينبغي للمسلم أن يجتنبها تحقيقاً لقوله تعالى: {فاجتنبوه لعلكم تفلحون} (¬1)، والله أعلم. ¬
الفصل الثالث في الحشيشة المسكرة
الفصل الثالث في الحشيشة المسكرة تقدم لنا الخلاف في حكم الخمر، وقد عرفنا أن علة النجاسة عند القائلين بها كونه مسكراً مائعاً، وبقي لنا حكم الحشيشة المسكرة، وهي ذات جامدة، فهل تكون نجسة أو يحكم لها بالطهارة، في ذلك خلاف: فقيل: إن الحشيشة طاهرة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة، قال في غاية المطلب: وهو المشهور (¬4). وقيل: نجسة، اختاره بعض الشافعية (¬5)، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬6)، اختاره ابن تيمية (¬7)، قال في الإنصاف: نجسة على الصحيح (¬8). ¬
دليل من قال طاهرة
وقيل: نجسة إن أميعت، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬1). دليل من قال طاهرة: الدليل الأول: ما سبق وذكر في طهارة الخمر، فكل دليل سقناه على طهارة الخمر فهو دليل يساق هنا على طهارة الحشيشة، بل هي أولى بالطهارة من الخمر. الدليل الثاني: الإجماع، فقد حكى الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرحه لفروع ابن الحاجب الإجماع على أنها ليست نجسة. وكذلك نقل الإجماع القرافي في القواعد (¬2). دليل من قال بالنجاسة: قال: إن علة النجاسة في الخمر هي الإسكار، وهي موجودة في الحشيشة، فيكون الحكم واحداً لا فرق بين الخمر والحشيشة، وعليه فكل دليل ذكر في نجاسة الخمر يصلح أن يكون دليلاً على نجاسة الحشيشة. دليل من قال: إن ميعت نجست: رأى هذا أن الخمر نجاسته مركبة من أمرين: 1 - كونه مسكراً. وكونه مائعاً، فإذا فقد واحدة من هذين حكم بطهارته، والحشيشة وإن كانت ¬
الراجح من الخلاف
مسكرة، إلا أنها جامدة، والجامد عنده سبب في الطهارة. وكونه جامداً أو سائلاً ليس علة في الطهارة ولا في النجاسة، فإن الطاهرات والنجاسات منها الجامد ومنها السائل، وهذا القول أضعف الأقوال. الراجح من الخلاف: سبق أن رجحنا طهارة الخمر، والحشيشة مختلف فيها هل هي مسكرة أو مخدرة، على قولين لأهل العلم، فمن رأى أنها مخدرة لم ير نجاستها، ومن قال: إنها مسكرة، اختلف في نجاستها، والقائلون بالنجاسة ألحقوها بالخمرة، وقد ذكرت الخلاف في نجاسة الخمرة، وبيان القول الراجح في المسألة التي قبل هذه، والله أعلم.
الباب السادس: في حكم الطهارة من النجاسة
الباب السادس: في حكم الطهارة من النجاسة الفصل الأول في حكم إزالة النجاسة لما تبين حكم الأعيان النجسة من الإنسان والحيوان والجماد، ومن الحي والميت، ومن المائع والجامد، ناسب معرفة حكم إزالة النجاسة، فأقول: يختلف حكم إزالة النجاسة من مسألة إلى أخرى، فهناك عبادات تصح ولو كان الإنسان متلبساً بالنجاسة، فكون العبد يذكر الله لا يجب لذلك الطهارة من النجاسة، فيمكن للإنسان أن يذكر الله على أي حال من أحواله. (1649 - 177) وقد روى مسلم من طريق البهي، عن عروة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه (¬1). وهذه الحائض قد اجتمع في حقها عدم الطهارة من الحدث والخبث، ومع ذلك لم تمنع من ذكر الله. ¬
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة حين حاضت: "افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري" (¬1). وقوله: " افعلي ما يفعل الحاج " دخل فيه جميع ما يفعله الحجاج من ذكر الله، فهي تقف بعرفة، وتدعو هناك وتذكر الله، وتقف في المشعر الحرام وتذكر الله هناك، وترمي الجمرات، وتذكر الله بعد رمي الجمرة الأولى والوسطى، فهي ليست ممنوعة من ذكر الله. (1650 - 178) وروى البخاري، قال رحمه الله: حدثنا محمد، حدثنا عمر بن حفص، قال: حدثنا أبي، عن عاصم، عن حفصة، عن أم عطية قالت: كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد، حتى تخرج البكر من خدرها، حتى تخرج الحيض، فيكن خلف الناس، فيكبرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته. وهو في مسلم، دون قوله: ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته (¬2). كما أنه يصح وضوء الرجل ولو كانت هناك نجاسة على بدنه، فطهارة الخبث لا علاقة لها بطهارة الحدث، وإنما يكون الإنسان مطلوباً أن يتخلى عن النجاسة إذا كان يريد أن يؤدي عبادة من شرطها أو من واجبها الطهارة من الخبث كالصلاة، وبالتالي يستطيع المسلم أن يمس المصحف ولو كان بدنه أو ثوبه فيه نجاسة ما دام أنه قد توضأ؛ ويستطيع أن يلبس خفيه؛ لأن الطهارة من الخبث ليست شرطاً في مس المصحف، ولا شرطاً في لبس الخف. ¬
وهناك عبادات تجب لها الطهارة من النجاسة قبل التلبس بها وبعض الفقهاء يرى الطهارة شرطاً لصحة العبادة، وذلك في طهارة الثوب والبدن والبقعة في الصلاة، وهذا ما سوف يخصص له فصل مستقل إن شاء الله تعالى.
الفصل الثاني في الصلاة مع التلبس بالنجاسة
الفصل الثاني في الصلاة مع التلبس بالنجاسة إذا صلى المصلي، وهو متلبس بالنجاسة، عالماً بها، قادراً على إزالتها، فما حكم ذلك، وهل تصح صلاته؟ اختلف أهل العلم في هذه المسألة، فقيل: إن الطهارة من الخبث شرط في صحة الصلاة، ومن صلى، وهو متلبس بالنجاسة، عالماً بها قادراً على إزالتها، فصلاته باطلة. وهذا مذهب الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وقول في مذهب المالكية (¬4). وقيل: الطهارة من الخبث سنة، اختاره بعض المالكية (¬5). ¬
وقيل: إن صلى بالنجاسة ناسياً أو جاهلاً أو مضطراً أعاد صلاته في الوقت، وإن صلى عالماً متعمداً غير مضطر أعاد أبداً، وهذا القول هو رواية ابن القاسم، عن مالك رحمه الله (¬1). وقيل: تجب الطهارة من النجاسة، فإن صلى بالنجاسة عالماً متعمداً فصلاته صحيحة مع الإثم، ويعيد ما دام في الوقت وهو قول في مذهب المالكية (¬2)، اختاره الشوكاني (¬3). ¬
دليل من قال: إن الطهارة من النجاسة شرط لصحة الصلاة
فبهذه الأقوال يتبين لنا أن الأقوال كالتالي. الأول: أن الطهارة من النجاسة شرط لصحة الصلاة، واختلفوا هل تسقط مع الجهل والنسيان أو لا تسقط على قولين. الثاني: أنها سنة، ويستحب له أن يعيد الصلاة ما دام في الوقت. الثالث: أن الطهارة واجبة للصلاة، وتصح الصلاة بدونها مع الإثم. دليل من قال: إن الطهارة من النجاسة شرط لصحة الصلاة. الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى: {وثيابك فطهر} (¬1). أمر الله سبحانه وتعالى بطهارة الثياب، والمقصود فيه في الصلاة، لأن طهارتها خارج الصلاة ليست واجبة إجماعاً. وأجيب بجوابين: الأول: أن المراد بالثياب غير اللباس، وإنما المقصود بالثياب القلب، وتطهيره من الشرك، خاصة أن هذه الآية أول ما نزل من القرآن، فهي قد نزلت قبل الأمر بالصلاة والوضوء. ولو حملنا الآية على طهارة الثياب الظاهرة، فإن الآية فيها الأمر بتطهير الثياب، وهو مطلق، ليس فيه أن ذلك خاص بالصلاة، فهل تقولون بوجوب طهارة الثياب من النجاسة مطلقاً ولو خارج الصلاة؟ فإن قلتم ذلك، فإن الإجماع منعقد على أنه لا يجب على الإنسان الطهارة من الخبث إلا حال ¬
الصلاة (¬1)، وإن قلتم إن الآية مقيدة بالصلاة فقط، قلنا: لكم، إن الصلاة وقت نزول الآية لم تكن معلومة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإنما علمه جبريل كيفية الصلاة بعد أن فرضها الله عليه ليلة الإسراء. وقد جاء في اللغة ما يدل على إطلاق الثياب على غير اللباس: يقال: فلان طاهر الثياب، إذا لم يكن دنس الأخلاق قال امرؤ القيس: ثياب بني عوف طهارى نقية. وقوله تعالى: {وثيابك فطهر} (¬2)، معناه: وقلبك فطهر، وعليه قول عنترة: فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم أي شككت قلبه. وقيل: معنى وثيابك فطهر: أي نفسك. وقيل: معناه لا تكن غادراً، فتدنس ثيابك؛ فإن الغادر دنس الثياب. قال ابن سيده: ويقال للغادر: دنس الثياب. وقيل: معناه: وثيابك فقصر؛ فإن تقصير الثياب طهر؛ لأن الثوب إذا انجر على الأرض لم يؤمن أن تصيبه نجاسة، وقصره يبعده من النجاسة. وقيل معنى قوله: وثيابك فطهر، يقول: عملك فأصلح، وروى عكرمة، عن ابن عباس في قوله عز وجل: {وثيابك فطهر} (¬3)، يقول: لا تلبس ثيابك على معصية، ولا على فجور وكفر، وأنشد قول غيلان: ¬
إني بحمد الله لا ثوب غادر لبست ولا من خزية أتقنعا (¬1). واللفظ إذا منع مانع من حمله على ظاهره، وكان للتأويل وجه في اللغة العربية لم يمنع من حمله عليه، فالأصل في لفظ " الثياب " هو إطلاقها على اللباس الظاهر، لكن منع من ذلك ما سبق أن ذكرناه من كون الآية نزلت قبل فرض الصلاة والوضوء. الوجه الثاني: سلمنا أن المراد بالثياب اللفظ الحقيقي، وهو اللباس الظاهر، فإن غاية ما يستفاد من الآية الوجوب، والوجوب لا يستلزم الشرطية؛ لأن كون الشيء شرطاً: حكمٌ شرعيٌ وضعيٌ، لا يثبت إلا بتصريح الشارع بأنه شرط، أو بتعليق الفعل به بأداة الشرط، أوبنفي الفعل بدونه نفياً متوجهاً إلى الصحة لا إلى الكمال، أو بنفي الثمرة ولا يثبت بمجرد الأمر به. فلم يأت من الشارع قوله: لا صلاة إلا بالطهارة من الخبث، أو من لم يتطهر من الخبث فلا صلاة له. أو لا يقبل الله صلاة أحدكم إلا بالتطهر من الخبث، كما قال في الطهارة من الحدث: " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " (¬2)، وما دام أنه لم يأت ما يفيد الشرطية فلا يصح القول بالشرطية. ورد هذا الوجه: بأن قولكم: إن الآية نزلت قبل الأمر بالصلاة، وفي هذا دليل على أن المراد القلب، فغير صحيح، لجواز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - خص بذلك في أول ¬
الإسلام، وفرض عليه دون أمته، ثم ورد الأمر بذلك لأمته. وجواب ثان: وهو أن شرع من قبلنا شرع لنا، فيحتمل أن يكون قد اتبع في الصلاة شرع من قبله من النبيين، فأوجب ذلك اتباعهم، وتأخر الأمر به بنص شرعنا عن ذلك الوقت. اهـ والذي يرجح أن المراد بالثياب اللباس الظاهر أننا لو حملنا الثياب على ترك المعاصي لكان في سياق الآيات تكرار، فإن قوله: وثيابك فطهر والرجز فاهجر؛ فإن هجر الرجز من معانيه هجر المعاصي، فتكون هذه قرينة على أن المراد بالثياب اللفظ الحقيقي المتبادر إلى الذهن، وهو طهارة اللباس الظاهر. وهذا الكلام جيد، إلا أن التعميم بعد التخصيص، والتخصيص بعد التعميم كلاهما وارد في كتاب الله، فمن الأول قوله تعالى: {فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير} (¬1). فإن جبريل من الملائكة، فذكر الله سبحانه وتعالى عموم الملائكة بعد تخصيص جبريل بالذكر، وهذا منه. ومثال التخصيص بعد التعميم، قوله تعالى: {من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} (¬2). فهنا ذكر الملائكة على سبيل العموم ثم خص بالذكر جبريل وميكال، ومثله قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} (¬3)، ¬
وليس هذا على وجه التكرار، بل لمزيد عناية واهتمام. والقول بأن شرع من قبلنا شرع لنا فنكون مخاطبين بطهارة الثياب من النجاسة، هذا القول بعيد عن الصواب، فإن الصحابة لم ينقل عنهم أنهم كانوا يصلون على طريقة أهل الكتاب، ولم يكلفوا بالصلاة إلا بعد الإسراء، وهل يقول أحد: بأن أول الإسلام كان المسلمون مخاطبين في تعلم ديانة أهل الكتاب أو غيرها من الديانات؛ لأن شرع من قبلهم شرع لهم، ما دام أنه لم يأت في شرعهم ما ينفيه، وأن الإنسان لو لم يقم بمثل هذا لكان مفرطاً، أو نقول: إن الأصل براءة الذمة حتى يأتي الخطاب المكلف من الشارع، كما قال سبحانه {قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس} (¬1)، ولم يعمل بقوله تعالى {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم} (¬2) الآية. وأما قولكم: إنه يجوز أن يكون الرسول قد خص بالتكليف في الطهارة من الثياب وفي الصلاة، فإن كان الأمر من باب التجويز العقلي فهذا جائز، وإن كان من باب الدعوى فأين الدليل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد كلف بالصلاة دون سائر أمته في أول الإسلام؟ والله أعلم. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني على أن الطهارة شرط لصحة الصلاة: (1651 - 179) ما رواه البخاري، من طريق هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها قالت: سألت امرأة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة كيف تصنع؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة، فلتقرصه، ثم لتنضحه بماء، ثم لتصلي فيه (¬1). وجه الاستدلال: فكونه - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل الثوب من دم الحيض قبل الصلاة فيه، دليل على امتناع الصلاة وعدم صحتها في الثوب المتنجس بدم الحيض، وإذا كان وجود دم الحيض مانعاً من صحة الصلاة فيه، فكذلك سائر النجاسات. وأجيب: بأن حديث أسماء غاية ما فيه الدلالة على الوجوب، والوجوب لا يستلزم الشرطية. الدليل الثالث: (1652 - 180) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحائط من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يعذبان، وما ¬
الدليل الرابع
يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة. الحديث ورواه مسلم بنحوه (¬1). وجه الاستدلال: أن العذاب على عدم الاستتار من البول يدل على أن التلبس بالنجاسات في الصلاة من الكبائر، وأن التنزه عن النجاسات من أوكد الواجبات، ويبعد أن تكون صلاته صحيحة ثم يعذب في قبره، فالذي يظهر أن صلاته غير صحيحة مع عدم التنزه من البول، وهذا مفيد لمعنى الشرطية. وأجيب عن هذا الدليل: بما أجيب به عن الأدلة السابقة، بأن الحديث دال على تأثيم من صلى في النجاسة، وليس فيه دليل على وجوب إعادة الصلاة على من صلى متلبساً بالنجاسة، والوجوب لا يفيد معنى الشرطية، والعذاب على ترك الواجب لا يفيد بطلان الصلاة، لأن من ترك الواجب فقد استحق العقاب بخلاف المندوب. الدليل الرابع: (1653 - 181) ما رواه الدارقطني من طريق روح بن غطيف، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: تعاد الصلاة من قدر الدرهم من الدم. قال الدارقطني: لم يروه عن الزهري غير روح بن غطيف، وهو متروك الحديث (¬2). ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (1654 - 182) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا المقرئ، حدثنا يحيى بن أيوب، عن زيد بن جبيرة، عن داود بن الحصين، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يصلى في سبعة مواطن في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي معاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل السادس
ويغني عنه حديث صب الماء على بول الأعرابي حين بال في المسجد، فإنه دليل على وجوب تطهير المسجد عن النجاسات، ووجوب طهارة بقعة المصلي، وليس فيه دليل على أن الطهارة شرط. الدليل السادس: القياس على الطهارة من الحدث، فإذا كانت الطهارة من الحدث شرطاً، فإن الطهارة من الخبث كذلك، لأنها إحدى الطهارتين. وأجيب: بأن هناك فرقاً بين الطهارة من الحدث والطهارة من الخبث، فلا يصح القياس مع وجود الفارق، فمن ذلك: أولا: طهارة الحدث من باب فعل المأمور، وأما طهارة الخبث فمن باب ترك المحظور. ثانياً: طهارة الحدث تشترط لها النية على الصحيح خلافاً للحنفية، بخلاف طهارة الخبث فهي من باب التروك لا تشترط لها النية كترك الزنا والخمر ونحوها. ¬
دليل من قال: إن الطهارة من النجاسة واجبة، وليست بشرط
وقد حكى جماعة الإجماع على أن طهارة الخبث لا تجتاج إلى نية، منهم القرطبي في تفسيره (¬1)، وابن بشير وابن عبد السلام من المالكية (¬2)، والبغوي، وصاحب الحاوي من الشافعية (¬3). ثالثاً: طهارة الحدث طهارة تعبدية محضة غير معقولة المعنى، فبدن المحدث وعرقه وريقه طاهر، وأما طهارة الخبث فإنها طهارة معللة بوجود النجاسة الحسية. رابعاً: طهارة الحدث الصغرى تختص بأعضاء مخصوصة، ربما ليس لها علاقة بالحدث، فالحدث: الذي هو البول والغائط موجب لغسل الأعضاء الأربعة الطاهرة، بينما طهارة الخبث تتعلق بعين النجاسة أين ما وجدت. خامساً: طهارة الحدث لا تسقط بالجهل والنسيان على الصحيح، بخلاف طهارة الخبث. دليل من قال: إن الطهارة من النجاسة واجبة، وليست بشرط: أدلتهم هي أدلة القول الأول، إلا أنهم لا يرون في هذه الأدلة ما يقتضي الحكم بالشرطية، وأن الحكم بالشرطية يحتاج إلى نص بنفي القبول أو نفي الصحة عن الفعل، ولم يوجد، فبقيت هذه الأدلة دالة على وجوب التخلي من النجاسة حال الصلاة. ¬
دليل من قال: الطهارة من النجاسة سنة
دليل من قال: الطهارة من النجاسة سنة: الدليل الأول: (1655 - 183) ما رواه أحمد، قال: ثنا يزيد، أنا حماد بن سلمة، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى، فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا. قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعله فلينظر فيها فإن رأى بها خبثاً فليمسه بالأرض ثم ليصل فيهما (¬1). [الحديث إسناده صحيح] (¬2). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنى على صلاته رغم أنه كان متلبساً بالنجاسة، ولو كانت الطهارة من النجاسة واجبة أو شرطاً لاستأنف الصلاة. وأجيب: بأن الحديث دليل على صحة صلاة من صلى وفي ثوبه نجاسة، ولم يكن عالماً بها فصلاته صحيحة، وليس فيه ما يدل على أن التخلي عن النجاسة مستحب، وليس بواجب. الدليل الثاني: (1656 - 184) ما رواه البخاري من طريق أبي إسحاق، قال: حدثني عمرو بن ميمون، ¬
أن عبد الله بن مسعود حدثه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض، أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم، فجاء به، فنظر حتى إذا سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وضعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر لا أغني شيئا لو كان لي منعة قال فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجد لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمة، فطرحت عن ظهره، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه ثم قال: اللهم عليك بقريش ثلاث مرات. الحديث (¬1). وجه الاستدلال: أن هذا السلى نجس، لأنه من ذبيحة أهل الأوثان، ولا يخلو من دم. وأجيب: بأن الأمر لعله كان قبل أن يتعبد باجتناب النجاسة في لباسه؛ لأن هذا الفعل كان بمكة قبل ظهور الإسلام، والأمر باجتناب النجاسة متأخر. وهذا الجواب جائز، إلا أن غير المقبول أنه عندما كان الكلام على قوله تعالى: {وثيابك فطهر} قالوا: من الجائز أن يكون المسلمون مكلفين في شريعة من قبلهم باجتناب النجاسة، أو أن الرسول قد خص في هذا الواجب قبل الأمة، وعندما كان الدليل عليهم قالوا: إن هذا كان قبل أن تفرض الصلاة، وقبل أن يكون اجتناب النجاسة واجباً، فهذا نوع من التناقض! ¬
الراجح من أقوال أهل العلم
الراجح من أقوال أهل العلم: بعد استعراض الأدلة نجد أن القول بأن اجتناب النجاسة في الصلاة واجب قول وسط بين قولين: القول بالشرطية، والقول بالاستحباب، وقد دلت الأدلة على وجوب اجتناب النجاسة، ولم يأت في الأدلة ما يدل على بطلان الصلاة إذا صلى وهو متلبس بالنجاسة، فيكون القول بالوجوب هو القول الراجح، والله أعلم.
الفصل الثالث هل التطهر من النجاسة على الفور أم على التراخي
الفصل الثالث هل التطهر من النجاسة على الفور أم على التراخي إزالة النجاسة تارة تكون على الفور، وتارة تكون على التراخي، فمثلاً إزالة النجاسة عن الكتب المحترمة، كالكتب السماوية، وكتب أهل العلم واجبة على الفور، لأن بقاءها على هذه الحال من المنكرات، (1657 - 185) بدليل ما رواه مسلم، من طريق قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة. فقال: قد ترك ما هنالك. فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (¬1). فقوله: " من رأى منكم منكراً فليغيره " أي على الفور. قال النووي: إزالة النجاسة التي لم يعص بالتلطخ بها في بدنه ليس على الفور , وإنما تجب عند إرادة الصلاة ونحوها، لكن يستحب تعجيل إزالتها (¬2). فقوله: " التي لم يعص بالتلطخ بها " دليل على أن النجاسة إذا كان التلطخ بها معصية فإزالتها على الفور كما لو وقعت النجاسة على كتب محترمة شرعاً. ¬
استدلوا بأدلة منها
وأما إذا كانت إزالة النجاسة واجبة للصلاة، فلا يجب إزالتها على الفور، بل يجوز تأخير ذلك حتى يريد الطهارة أو الصلاة (¬1)، ويستجب تعجيلها. واستدلوا بأدلة منها: الدليل الأول: قياس إزالة النجاسة على بقية شروط الصلاة، فإذا دخل وقت الصلاة وجب الاستنجاء وجوباً موسعاً بسعة الوقت، ومضيقاً بضيقه كبقية الشروط (¬2). الدليل الثاني: (1658 - 186) ما رواه البخاري في صحيحه: وقال أحمد بن شبيب، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني حمزة بن عبد الله، عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك (¬3). واستدل به أبو داود في السنن على أن الأرض تطهر إذا لاقتها النجاسة بالجفاف، لقوله " فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك " فإذا نفي الرش كان نفي صب الماء من باب الأولى، فلولا أن الجفاف يفيد تطهير الأرض ما تركوا ذلك بغير تطهير. ¬
الدليل على استحباب تعجيل إزالة النجاسة
وأما الدليل على استحباب تعجيل إزالة النجاسة: (1659 - 187) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال حدثنا همام، أخبرنا إسحاق، عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى أعرابياً يبول في المسجد، فقال: دعوه حتى إذا فرغ دعا بماء فصبه عليه، ورواه مسلم (¬1). ¬
الفصل الرابع في اشتراط النية في إزالة النجاسة
الفصل الرابع في اشتراط النية في إزالة النجاسة اتفق الجمهور على أن الطهارة من الخبث لا تشترط له نية (¬1). وخالف أكثر المالكية فاشترطوا النية في طهارة الاستنجاء من المذي خاصة، وهو المعتمد في المذهب (¬2). وقال القرافي: تشترط النية في إزالة كل النجاسات، وهو قول شاذ (¬3). ¬
دليل الجمهور على عدم اشتراط النية
دليل الجمهور على عدم اشتراط النية: الدليل الأول: الإجماع. حكى جماعة الإجماع على أن طهارة الخبث لا تجتاج إلى نية، منهم القرطبي في تفسيره (¬1)، وابن بشير وابن عبد السلام من المالكية (¬2)، والبغوي، وصاحب الحاوي من الشافعية (¬3). الدليل الثاني: قالوا: إن الطهارة من الخبث من باب التروك، وهو لا يحتاج إلى نية كترك الزنا والخمر، فلو أن المطر نزل على ثوب نجس، فزالت النجاسة طهر الثوب ولو لم ينو؛ لأن النجاسة عين خبيثة متى زالت زال حكمها. دليل المالكية على اشتراط النية: (1660 - 188) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا زائدة، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن، عن علي قال كنت رجلا مذاء فأمرت رجلا أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته فسأل فقال توضأ واغسل ذكرك (¬4). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: اغسل ذكرك، حقيقة في جميع الذكر، فهو مفرد مضاف، فيعم جميع الذكر، فيغسل مخرج الذكر من أجل النجاسة، أما بقية الذكر فالراجح عندهم أن غسله تعبدي غير معقول المعنى، وهذا سبب اشتراط النية. ¬
وأجيب: بما قاله بعضهم: إن غَسْل الذكر إنما هو من أجل قطع مادة المذي، فهو كغسل النجاسات، لا يفتقر إلى نية (¬1). والراجح قول الجمهور، وأن طهارة الخبث لا تفتقر إلى نية، وقد بينا في مسألة كيفية التطهير من المذي أن الواجب هو غسل رأس الحشفة فقط، وهو ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما بسند صحيح، ومن غسل رأس حشفته، فقد صح أنه غسل ذكره، فقد يطلق غسل البعض على الكل في لغة العرب، وليس في السنة دليل على وجوب تعميم الذكر بالغسل، وإذا صح هذا لم تكن الطهارة من الاستنجاء استثناء من إزالة النجاسة، فتفتقر إلى نية، بل غسل النجاسات كلها لا يحتاج إلى نية، والله أعلم. ¬
الفصل الخامس في ما يعفى عنه من النجاسات
الفصل الخامس في ما يعفى عنه من النجاسات يتفق الفقهاء على القول بالعفو في بعض أحكام النجاسة، ويختلفون في سبب هذا العفو، فبعضهم يرى أن قليل النجاسة معفو عنها بخلاف كثير النجاسة، ويستدلون على ذلك بالعفو عن أثر الاستجمار بعد الإنقاء والعدد، وبعضهم يقسم النجاسة إلى مغلظة ومخففة، والمغلظة يعفى فيها عن قدر الدرهم والمخففة يعفى عنها بمقدار ربع الثوب، وهكذا، وحتى يمكن وضع ضابط تقريبي للعفو عن النجاسة يمكن لنا أن نرجع سبب العفو من حيث الجملة إلى أمور منها: الأول: الاضطرار، وتعريف الاضطرار: " هي الحالة الملجئة لتناول الممنوع شرعاً " (¬1)، كالاضطرار إلى أكل النجاسة (الميتة) أو الاضطرار إلى لبس الثوب النجس في الصلاة لستر العورة المغلظة، ونحو ذلك. الثاني: مشقة الاحتراز من النجاسة، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الهر " إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات " فلعلة التطواف نفى عنها النجاسة. ويقاس على الهرة البغل والحمار والفأرة؛ لمشقة الاحتراز منها، فيعفى عن سؤرها وعرقها. ¬
ومما يصعب الاحتراز منه العفو عما يصيب القدم من النجاسة والاكتفاء بدلكها بالتراب، حيث يتكرر مرور الناس في الطرقات، وهي لا تخلو من النجاسات التي تعلق بأقدامهم، وقد تكون هذه الطرقات موحلة. وقد يتنجس ذيل المرأة ويتأثر بهذه النجاسات فكان يكفي في ذلك مروره على تراب طاهر بعده. الثالث: عموم البلوى، وذلك في الاستنجاء، فإن الاستنجاء مما تعم به البلوى، ويضطر كل أحد إليه في كل وقت وكل مكان، ولا يمكن تأخيره فلو كلف إزالته بالماء شق وتعذر ذلك في كثير من الأوقات ووقع الحرج. الرابع: عسر الإزالة، فلا يكلف الإنسان إزالة لون النجاسة وريحها إذا عسر عليه ذلك، ويكفي إزالة عينها. الخامس: كون الشيء يسيراً، فالشريعة تعفو عن الشيء الحقير غالباً في جوانب كثيرة من الشريعة، وليس فقط في باب النجاسة، كالعفو عن دم البراغيث، والبول الذي ترشش على الثوب بقدر رؤوس الإبر، وظهور شيء يسير من العورة أثناء الصلاة، والعمل الأجنبي القليل في الصلاة لا يبطلها، والغرر اليسير في البيوع. فإذا عرفنا الضوابط التقريبية للعفو عن النجاسة بقي الأمر معلقاً على تحقيق المناط، هل هذه النجاسة داخلة في عفو الشارع عنها لكثرة وقوعها وتكرره ولوجود المشقة في الاحتراز منها أو للاضطرار إلى فعلها، أو ليست كذلك فلا يعفى عنها؟ وكما قسنا الفأرة والحمار على الهرة لعلة التطواف،
نقيس غيرها عليها، فما ظهر فيه مشقة من التحرز منه خففنا طهارته، وكما قسنا من به سلس بول على المستحاضة في الصلاة في كونه لا عبرة بحدثه ويصلي ولو كان البول نازلاً، وكونه يؤذن له في الجمع بين الصلوات، وهكذا إذا ظهر لنا في نجاسة ما مشقة أو تكرار أو عموم بلوى أو اضطرار أو كونها نجاسة يسيرة عفونا عن ذلك قياساً لما ليس فيه نص على ما فيه نص، والله أعلم.
مبحث طهارة المعفو عنه حقيقة أو حكمية؟
مبحث طهارة المعفو عنه حقيقة أو حكمية؟ اختلف العلماء في المعفو عنه، هل يصبح طاهر العين بعد العفو عنه، أو أن حكم النجاسة سقط مع قيامها، ويتبين أثر الخلاف بين القولين إذا قلنا: إن الهر قد حكمت السنة بطهارته لعلة التطواف ومشقة الاحتراز، فإذا ذهبت علة التطواف، وكان الهر متوحشاً وليس طوافاً فهل يرجع إلى أصله من النجاسة، أو يكون طاهراً مطلقاً، اختلف العلماء في هذا؟. فقيل: إن المعفو عنه طاهر حقيقة، وهو قول في مذهب الحنفية (¬1)، وقول في مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: إنه نجس، وإنما سقط حكم النجاسة، وهذا قول في مذهب الحنفية (¬3)، ومذهب المالكية (¬4)، والشافعية (¬5)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬6). ¬
دليل من قال: إنه طاهر
دليل من قال: إنه طاهر: (1661 - 189) استدلوا بما وراه مالك من طريق حميدة بنت عبيد بن رفاعة، عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك - وكانت تحت ابن أبي قتادة الأنصاري- أنها أخبرتها: أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا، فجاءت هرة لتشرب منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ قالت: فقلت: نعم، فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنها ليست بنجس؛ إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). وجه الاستدلال: أنه نفى - صلى الله عليه وسلم - عن الهر النجاسة، مع تعليله طهارتها بعلة التطواف، أي مشقة التحرز منها، فلو كانت الهرة نجسة معفواً عنها لم يقل عليه الصلاة والسلام: إنها ليست بنجس. دليل من قال: إنها نجسة: قالوا: الميتة نجسة، لكن أبيحت للمضطر للعذر، وهذا لا يحولها إلى عين طاهرة، ولذلك إذا زال العذر رجع التحريم. ولأن المستجمر في الحجارة يبقى بعده أثر من النجاسة في المحل، لا يزيله إلا الماء، وهذا الأثر عينه نجسة؛ لأنه جزء من الغائط، فكيف يكون ¬
المحل طاهراً حقيقة والنجاسة لا تزال عليه؟ وإنما عفي عن حكمها تخفيفاً من الله سبحانه وتعالى، وتيسيراً على المكلف، فالحمد لله على تيسيره ومنه. وسواء رجحنا هذا أو ذاك، فالذي يعنينا من النجاسات هو حكمها، فإذا سقط حكم النجاسة، وعفي عنها، سواء قلنا بعد ذلك: إن العين نجسة أو طاهرة لم يكن للخلاف أثر، والله أعلم.
الفصل السادس في مذاهب العلماء في العفو عن النجاسات
الفصل السادس في مذاهب العلماء في العفو عن النجاسات في معرض ذكر النجاسة المعفو عنها في كل مذهب لا حاجة لنا في بيان أن بعض الأعيان المعتبرة في بعض المذهب نجسة، هي في راجح الأمر من الأعيان الطاهرة؛ أو العكس؛ لأنه يفترض أننا قد حرر فيما سبق الراجح في كل الأعيان المختلف في طهارتها، سواء كان من إنسان أو حيوان أو جماد في الأبواب التي قبل هذا الفصل، وإنما أوردنا في هذا الفصل سرد النجاسات المعفو عنها في كل مذهب، فإن أردت أن تعرف هل النجاسة المذكورة في هذا المذهب هي حقاً من الأعيان النجسة أو الطاهرة فارجع إلى باب ذكر الأعيان النجسة، وراجع خلاف العلماء ومعرفة الراجح. القول الأول: مذهب الحنفية: ذهب الحنفية إلى العفو عن قليل النجاسة مطلقاً في حق المصلي في بدنه وثوبه وبقعته، إلا أن تقديرهم للقليل يختلف من نجاسة إلى أخرى، فتقدير القليل في النجاسة المخففة: هو ما لم يفحش. وتقدير القليل في النجاسة المغلظة: هو قدر الدرهم (¬1). ¬
ويستدلون بأدلة منها: أولاً: أن الاستنجاء والاستجمار ليس بواجب عندهم، ومعنى هذا أنه يعفى عن غسل النجاسة من بول أو غائط في مكانه المعتاد. وقد نوقشت هذه المسألة في باب مستقل في كتاب أحكام الطهارة " آداب الخلاء " وترجح أن الاستنجاء أو الاستجمار واجب. ويستدلون أيضاً بالعفو عن الأثر المتبقي بعد الاستجمار، وهو أثر لا يزيله إلا الماء، ومع ذلك عفي عنه، وهو دليل على العفو عن قليل النجاسة. ويعفى عن النجاسة الكثيرة إن كانت في بقعة المصلي في موضع اليدين والركبتين؛ لأن وضعهما في حال السجود ليس بركن، ولا يعفى عن كثير النجاسة في موضع قدم المصلي لأن القيام ركن. وأما في موضع السجود فاختلف في العفو عن النجاسة الكثيرة على قولين. فقيل: لا يعفى؛ لأن الجبهة أكبر من الدرهم. وقيل: يعفى؛ لأن فرض السجود يؤدى بقدر أرنبة الأنف، وهي أقل من الدرهم. والتفريق بين الركن والواجب تفريق بلا دليل كما يعفى عن النجاسة المنتضحة كرؤوس الإبر، وإن كثرت بشرط ألا ¬
القول الثاني: مذهب المالكية
ترى، فإن رؤيت وكان بحال لو جمعت بلغت أكثر من الدرهم وجبت إزالتها. وكالبول المنتضح والدم على ثوب القصاب كما يعفى عن النجاسة الكثيرة إذا كانت مختلطة في طين الشوارع وكانت طرق المصلي لا تنفك عنها النجاسات غالباً لكن ما لم ير عين النجاسة فإن رأى عين النجاسة فلا يعفى إلا عن قليلها كما سبق. كما يعفى عن بعر الإبل والغنم إذا وقع في البئر ما لم يكثر كثرة فاحشة أو يتفتت فيتلون به الماء. كما يعفى عن ذرق ما لا يؤكل لحمه من الطيور، كالبازي والصقر وإن كثر؛ لأنها تذرق في الهواء، فيصعب الاحتراز منها (¬1). القول الثاني: مذهب المالكية: يعفى في مذهب المالكية عما يعسر الاحتراز عنه من النجاسات كحدث مستنكح (أي ملازم كثيراً) وكبلل باسور وكثوب مرضعة أو جسدها إذا اجتهدت في درء البول أو الغائط بأن تنحيه عنها حال البول فإذا أصابها شيء بعد التحفظ عفي عنه، ومثل المرضع: الكناف، أي الذي ينزح الكنف، والجزار، فيعفى عما أصابهما بعد التحفظ، فإن لم يتحفظا فلا عفو. - ويعفى عما دون قدر الدرهم البغلي عن عين أو أثر من دم مطلقاً منه ومن غيره ولو دم حيض أو خنزير في ثوب أو بدن أو مكان. - ويعفى عن يسير الدم والقيح والصديد، فمثله مثل الدم من كل وجه. - ويعفى عن أثر موضع الحجامة إذا كان يتضرر بالغسل فلا يجب غسله، ¬
ولكن إن كان زائداً عن قدر الدرهم مسح حتى يبرأ، وإن كان أقل من الدرهم البغلي عفي عنه بلا مسح، ويستمر العفو إلى أن يبرأ ذلك الموضع. - ويعفى عما أصاب النعل والخفاف من أرواث الدواب وأبوالها، بموضع يطرقه الدواب كثيراً، فإن أصابت الثياب فلا عفو، وإن كانت النجاسة من غير أرواث الدواب وأبوالها فلا عفو أيضاً، ولا بد من غسله (¬1). - كما يعفى عن الدم المباح في الصقيل كالسيف والسكين والمرآة وإن لم يمسحه لئلا يفسد. ¬
القول الثالث: مذهب الشافعية
- ويعفى عن أثر الدمل الواحد ومثله الجرح الواحد ما لم ينك أي يعصر أو يقشر بلا حاجة، فإن عصره أو قشره بلا حاجة لم يعف عما زاد عن الدرهم، وإن عصره أو قشره لحاجة عفي عنه ولو كثر. وإن كثرت الدمامل فيعفى عنها مطلقاً، ولو عصرها أو قشرها لاضطراره لذلك كالحكة والجرب. - كما يعفى عن أثر ذباب وناموس يحملها على أعضائه، ثم يحطها على الثوب أو البدن. - يعفى عن طين الشوارع المتنجس، سواء كان الطين لسبب المطر أو الرش أو نحوهما، بشرط أن يكون الطين طرياً يخشى منه الإصابة، وأن لا تغلب النجاسة على الطين يقيناً أو ظناً، وأن لا يصيب الإنسان عين النجاسة غير المختلطة. - ويعفى عما يعلق من غبار النجس بذيل المرأة إذا أطالته للستر وليس للخيلاء، وكذا ما يعلق برجل مبلولة من نجاسة يابسة إذا مر عليها، وليس العفو عنهما مترتباً بمرورهما على ما يطهرهما (¬1). هذا جل ما يعفى عنه من النجاسات في مذهب المالكية، وهو كما سبق يرجع إلى الضوابط التي ذكرت سابقاً من مشقة التحرز وعموم البلوى والاضطرار ويسير النجاسة. القول الثالث: مذهب الشافعية: - يعفى عن أثر استجمار بمحله، وفي الأصح أنه يعفى عنه ولو عرق محل الأثر وانتشر؛ لعسر الاحتزار منه (¬2). ¬
- ويعفى عن شعر الحيوان المركوب النجس، ولو كان كثيراً؛ لمشقة الاحتراز عنه (¬1). - ويعفى عن قليل بول الخفاش، وونيم الذباب، وبول وروث الزنابير والبعوض، وروث السمك في الماء ونحوها؛ لمشقة الاحتراز (¬2). - أما دم القمل والبراغيث والبق والقردان وغيرهما مما لا نفس له سائلة فقد اتفق أصحاب الشافعية على أنه يعفى عن قليله, وفي كثيره وجهان مشهوران أصحهما العفو عنه. قال صاحب البيان هذا قول عامة أصحابنا. وأما دم الشخص نفسه، فضربان: أحدهما: ما يخرج من بثرة من دم وقيح وصديد، فله حكم دم البراغيث بالاتفاق , يعفى عن قليله قطعاً, وفي كثيره الوجهان: أصحهما العفو. الضرب الثاني: ما يخرج منه لا من البثرات، بل من الدماميل والقروح وموضع الفصد والحجامة وغيرها. وفيه طريقان: أحدهما: أنه كدم البراغيث والبثرات فيعفى عن قليله، وفي كثيره الوجهان قال الرافعي: هذا مقتضى كلام الأكثرين. والثاني: وهو الأصح اختاره إمام الحرمين وسائر العراقيين أنه كدم الأجنبي. أي فلا يعفى عنه. وإذا عصر هو البثرة أو الدمل أو قتل البرغوث عفي عن قليله فقط دون كثيره (¬3). ¬
- وإذا تيقن نجاسة طين الشوارع فلا خلاف في العفو عن القليل الذي يلحق ثياب الطارقين. أما إذا غلب على الظن نجاسة طين الشوارع، فهناك قولان، الأول: يحكم بنجاسته، والثاني: بطهارته، بناء على تعارض الأصل والظاهر (¬1). - كما يعفى عن ميتة ما لا نفس له سائلة إذا وقع في الماء شرط أن يكون الواقع قليلاً، وألا يغير الماء، وهذا مبني على مذهب الشافعية القائل بنجاسة ميتة ما لا نفس له سائلة (¬2). - يعفى عن القليل من دخان وغبار النجاسة، وقليل دخان السرجين (¬3). - يعفى عن النجاسة التي لا يدركها البصر المعتدل، كنقطة خمر لا تبصر لقلتها، أما من كان بصره حاداً فأبصر تلك النجاسة فلا عبرة برؤيته (¬4). وقد قسم السيوطي النجاسات المعفو عنها في مذهب الشافعية أقساماً تارة باعتبار مقدارها، وتارة باعتبار محلها، وننقله بحروفه، نظراً لأن التقسيم يعين الطالب على الحفظ: قال السيوطي: النجاسات أقسام: أحدها: ما يعفى عن قليله وكثيره في الثوب والبدن. وهو: دم البراغيث والقمل والبعوض والبثرات والصديد والدماميل والقروح وموضع الفصد والحجامة، ولذلك شرطان: ¬
أحدهما: أن لا يكون بفعله, فلو قتل برغوثاً، فتلوث به وكثر، لم يعف عنه. والآخر: أن لا يتفاحش بالإهمال؛ فإن للناس عادة في غسل الثياب, فلو تركه سنة مثلا، وهو متراكم لم يعف عنه. الثاني: ما يعفى عن قليله دون كثيره. وهو دم الأجنبي، وطين الشارع المتيقن نجاسته. الثالث: ما يعفى عن أثره دون عينه. وهو أثر الاستنجاء, وبقاء ريح أو لون، عسر زواله. الرابع: ما لا يعفى عن عينه ولا أثره، وهو ما عدا ذلك. تقسيم ثان لما يعفى عنه من النجاسة. أحدها: ما يعفى عنه في الماء والثوب، وهو ما لا يدركه الطرف، وغبار النجس الجاف، وقليل الدخان والشعر، وفم الهرة والصبيان. ومثل الماء: المائع، ومثل الثوب: البدن. الثاني: ما يعفى عنه في الماء والمائع دون الثوب والبدن، وهو الميتة التي لا دم لها سائل ومنفذ الطير وروث السمك في الحب والدود الناشئ في المائع. الثالث: عكسه , وهو: الدم اليسير وطين الشارع ودود القز إذا مات فيه لا يجب غسله، صرح به الحموي، وصرح القاضي حسين بخلافه. الرابع: ما يعفى عنه في المكان فقط, وهو ذرق الطيور في المساجد والمطاف، كما أوضحته في البيوع، ويلحق به ما في جوف السمك الصغار على القول بالعفو عنه؛ لعسر تتبعها وهو الراجح. ثم أتبع ذلك السيوطي بوضع عنوان آخر، فقال:
القول الرابع: مذهب الحنابلة
الصور التي استثني فيها الكلب والخنزير من العفو. الأولى: الدم اليسير من كل حيوان يعفى عنه إلا منهما، ذكره في البيان قال في شرح المهذب: ولم أر لغيره تصريحا بموافقته ولا مخالفته، قال الإسنوي: وقد وافقه الشيخ نصر المقدسي في المقصود. الثانية: يعفى عن الشعر اليسير إلا منهما، ذكره في الاستقصاء. الثالثة: يعفى عن النجاسة التي يدركها الطرف إلا منهما، ذكره في الخادم بحثاً. الرابعة: الدباغ يطهر كل جلد إلا جلدهما بلا خلاف عندنا. الخامسة: يعفى عن لون النجاسة أو ريحها إذا عسر زواله إلا منهما، ذكره في الخادم بحثاً. السادسة: قال في الخادم: ينبغي استثناء نجاسة دخان نجاسة الكلب والخنزير؛ لغلظهما, فلا يعفى عن قليلها (¬1). اهـ القول الرابع: مذهب الحنابلة: لا تختلف الرواية في مذهب أحمد أنه يعفى عن أثر الاستجمار بعد الإنقاء والعدد. كما يعفى عن يسير الدم والقيح والصديد في غير مائع ومطعوم من حيوان طاهر في الحياة، سواء كان من مأكول اللحم أو من غيره كالهر، بشرط أن يكون من غير السبيلين، فإن وقع في مائع أو مطعوم أو كان من حيوان نجس كالكلب والخنزير أو خرج من أحد السبيلين فلا يعفى عن شيء من ذلك. ¬
وأما القيء فلا يعفى عن يسيره على الصحيح من المذهب. وفيه قول ثان بأنه يعفى عن يسيره. كما أن ريق الحمار والبغل وعرقهما على القول بنجاستهما لا يعفى عن يسيره على الصحيح من المذهب. وفيه رواية ثانية أنه يعفى عن يسيره. كما أن ريق سباع البهائم - غير الكلب والخنزير - والطير وعرقها على القول بنجاسته لا يعفى عن يسيره على الصحيح من المذهب. وقيل: يعفى عن يسيره. كما أن بول الخفاش وكذا الخشاف وكذا الخطاف نجس، فلا يعفى عنه على الصحيح من المذهب. وعنه يعفى عن يسيره. ولا يعفى عن يسير بول كل بهيم نجس أو طاهر لا يؤكل، وينجس بموته على الصحيح من المذهب. وأما النبيذ النجس، فلا يعفى عن يسيره على الصحيح من المذهب. وعنه يعفى عن يسيره. ويعفى عن دم البق والقمل والبراغيث والذباب ونحوها على القول بنجاستها، وقد تقدم أن الراجح فيها الطهارة. ومنها يسير النجاسة إذا كانت على أسفل الخف والحذاء بعد الدلك يعفى عنها على القول بنجاسته، وقطع به الأصحاب. ومنها يسير سلس البول مع كمال التحفظ يعفى عنه، قال الناظم: وظاهر كلام الأكثر عدم العفو، وعلى قياسه يسير دم الاستحاضة.
ومنها يسير دخان النجاسة وغبارها وبخارها يعفى عنه ما لم تظهر له صفة على الصحيح من المذهب. قال جماعة: يعفى عنه ما لم يتكاثف، وقيل: ما لم يجتمع منه شيء ويظهر له صفة، وقيل: أو تعذر أو تعسر الاحتراز منه. وقيل: لا يعفى عن يسير ذلك. ومنها يسير نجاسة الجلالة قبل حبسها لا يعفى عنه على الصحيح من المذهب، وقيل: يعفى عنه (¬1). هذا جل ما يعفى عنه وما لا يعفى في مذهب الحنابلة، وكما قلنا: إن الشأن في هذا الفصل هو تحرير المذاهب دون تعرض لمناقشتها؛ وذلك لأنه سبق أن تحرير الأعيان النجسة والطاهرة، والراجح فيها في أبواب وفصول ومباحث متقدمة، وأما الراجح في العفو فكما سبق محاولة ضبط ذلك من خلال ضوابط جامعة، فكل نجس يسير عرفاً فهو معفو عنه على الصحيح، دون تفريق بين البول وبين الدم النجس، وسواء كان من الإنسان أو من الحيوان، وسواء تعلقت النجاسة في البدن أو في الثوب أو في المكان. ويقاس ما لم يرد فيه نص بالعفو على ما ورد فيه النص، إذا اتحدا في العلة. كما أن كل ما يشق التحرز منه فهو عفو من غير فرق، {وما جعل ¬
عليكم في الدين من حرج} (¬1)، وقال: {يريد الله أن يخفف عنكم} (¬2)، {يريد الله بكم اليسرى ولا يريد بكم العسر} (¬3). كما أن الضرورة تبيح تعاطي النجاسات، سواء في ستر العورة أو في أكل الميتة أو في غيرها. كما أن كل ما تعم به البلوى فإنه مدعاة للتخفيف، وفقاً للقاعدة الشرعية المشقة تجلب التيسير، هذه هي الضوابط الشرعية في العفو عن النجاسة، ويبقى على طالب العلم تحقيق المناط، في تنزيل هذه الضوابط على الأعيان، والله أعلم. ¬
الفصل السابع في ما يحرم استعماله في إزالة النجاسة
الفصل السابع في ما يحرم استعماله في إزالة النجاسة المبحث الأول إزالة النجاسة بالكتب الشرعية إزالة النجاسة بالمصحف الشريف كفر بالله وإلحاد به. قال النووي: لو استنجى بشيء من أوراق المصحف والعياذ بالله عالماً صار كافراً مرتداً. وأما إزالة النجاسة بالكتب الشرعية، فقد تكلم العلماء عن الاستنجاء به، ونهوا عن ذلك، وهل هو على التحريم أو الكراهة خلاف؟ فقيل: يكره، ويجزئ، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يحرم ويجزئ، وهو مذهب المالكية (¬2). وقيل: يحرم ولا يجزئ، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬3) ¬
والحنابلة (¬1). تعليل الكراهة أو المنع: قالوا: إن الكتب الشرعية يجب احترامها، لما فيه من علم محترم، وإزالة النجاسة بها إهانة لها، وهذا منهي عنه. ولأن الكتب الشرعية تعتبر من المال، فلها قيمة شرعاً، وإزالة النجاسة بها إفساد لهذا المال، وإفساد الأموال منهي عنه. ولأن الكتب الشرعية لا تخلو من أسماء الله سبحانه وتعالى، ومن أحاديث شريفة يجب توقيرها، ولا يجوز إهانتها. وقياساً على النهي عن الاستنجاء بالعظم والروث؛ لأنه طعام إخواننا من الجن وطعام دوابهم، فإذا كان زاد الأبدان منهياً عنه، فكذلك زاد الأرواح من العلوم الشرعية. والكراهة التي عند الحنفية لا يبعد أن تكون كراهة تحريم، لا كراهة تنزيه، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في إزالة النجاسة بالأطعمة
المبحث الثاني في إزالة النجاسة بالأطعمة نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الاستنجاء بالعظم والروث؛ لأنه طعام الجن وطعام دوابهم، فالنهي عن طعام الإنس وطعام دوابهم من باب أولى، والاستنجاء نوع من إزالة النجاسة عن البدن. وكما أنه إذا نهي عن الاستنجاء بها نهي عن التبول عليها من باب أولى. (1662 - 190) فقد روى مسلم، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، عن داود، عن عامر قال: سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن، قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود، فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل. قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء. قال: فقلنا: يا رسول الله فقدناك، فطلبناك، فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن، قال: فانطلق بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما طعام إخوانكم (¬1). ¬
ولهذا ذهب الأئمة الأربعة (¬1) إلى تحريم الاستنجاء بالطعام. وإذا خالف واستنجى أجزأه إذا حصل الإنقاء عند الحنفية والمالكية. وقيل: لا يجزئ في مذهب الشافعية والحنابلة. ومثل طعام الآدمي طعام البهيمة فلا يستنجي به (¬2). ولأن الاستنجاء بالطعام مناف لشكر النعمة وتعظيمها، وعدم امتهانها، وقد ينتفع بها حيوان أو طير أو غيرهما من دواب الأرض. وأجاز بعض الفقهاء إزالة النجاسة ببعض الأطعمة إذا اضطر إلى ذلك كما لو لم يكن هناك ماء، أو كان يفسد الماء المحل المتنجس. ¬
(1663 - 191) واستدل لذلك بما ما رواه أحمد من طريق محمد بن إسحاق، حدثني سليمان بن سحيم، عن أمية بنت أبي الصلت، عن امرأة من بني غفار، قالت: أردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حقيبة رحله. قالت: فوالله لنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصبح فأناخ، ونزلت عن حقيبة رحله وإذا بها دم مني، فكانت أول حيضة حضتها، قالت: فتقبضت إلى الناقة واستحييت، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي ورأى الدم، قال: ما لك؟ لعلك نفست؟ قالت: قلت: نعم، قال: فأصلحي من نفسك، وخذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحاً، ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم، ثم عودي لمركبك. الحديث (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). وجه الاستدلال: استعمال الملح في إزالة دم الحيض، والملح مطعوم. قال الخطابي تعليقاً على هذا الحديث: فيه من الفقه أنه استعمل الملح في غسل الثياب وتنقيته من الدم، والملح مطعوم، فعلى هذا يجوز غسل الثياب بالعسل إذا كان ثوباً من إبريسم يفسده الصابون، وبالخل إذا أصابه الحبر ونحوه، ويجوز على هذا التدلك بالنخالة، وغسل الأيدي بدقيق الباقلى والبطيخ ونحو ذلك من الأشياء التي لها قوة الجلاء. وحدثونا عن يونس بن عبد الأعلى قال: دخلت الحمام بمصر، فرأيت الشافعي يتدلك بالنخالة " (¬3). ¬
وأجاز الحنفية (¬1) وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2)، إزالة النجاسة بالخل، والخل قد قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -: نعم الإدام الخل (¬3). وقال النووي: اتفق أصحابنا على تحريم الاستنجاء بجميع المطعومات كالخبز واللحم والعظم وغيرها, وأما الثمار والفواكه فقسمها الماوردي تقسيماً حسناً، فقال: منها ما يؤكل رطباً لا يابساً, كاليقطين فلا يجوز الاستنجاء به رطباً، ويجوز يابساً إذا كان مزيلاً. ومنها ما يؤكل رطباً ويابساً وهو أقسام: أحدها: مأكول الظاهر والباطن، كالتين والتفاح والسفرجل وغيرها, فلا يجوز الاستنجاء بشيء منه رطباً ولا يابساً. والثاني: ما يؤكل ظاهره دون باطنه، كالخوخ والمشمش وكل ذي نوى فلا يجوز بظاهره, ويجوز بنواه المنفصل. والثالث: ما له قشر ومأكوله في جوفه كالرمان, فلا يجوز الاستنجاء بلبه, وأما قشره فله أحوال: أحدها: لا يؤكل رطبا ولا يابساً كالرمان، فيجوز الاستنجاء بالقشر, وكذا لو استنجى برمانة فيها حبها جاز إذا كانت مزيلة. والثاني: يؤكل قشره رطباً ويابساً كالبطيخ، فلا يجوز رطباً ولا يابساً. ¬
والثالث: يؤكل رطباً لا يابساً كاللوز والباقلاء, فيجوز بقشره يابساً لا رطباً. ثم قال: وقال البغوي: إن استنجى بما مأكوله في جوفه كالجوز واللوز اليابس كره وأجزأه, فإن انفصل القشر جاز الاستنجاء به بلا كراهة, والله أعلم (¬1). والصحيح أن إزالة النجاسة بالأطعمة إن كان مع وجود الماء، واستوى الماء وغيره في النظافة، فأقل أحواله أن يكون مكروهاً، والقول بالتحريم وجيه جدًّا؛ لأن في ذلك إفساداً للطعام وامتهاناً له، وقد يأكله حيوان أو دواب الأرض، وليس هذا الصنيع من شكر النعمة، فإن احتاج له في زيادة تنظيف أو قلع لون النجاسة أو نحوها، أو كان الماء غير متوفر، فإنه والله أعلم قد يباح في ذلك قدر الحاجة، قال ابن تيمية: لا يجوز استعمال الأطعمة والأشربة في إزالة النجاسة لغير حاجة (¬2). ¬
المبحث الثالث في إزالة النجاسة بالعظام والروث
المبحث الثالث في إزالة النجاسة بالعظام والروث منع الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2) الاستنجاء بالعظام والروث وهو نوع من إزالة النجاسة عن البدن، واختاره ابن حزم من الظاهرية (¬3). وقيل: يستنجي بهما، وهو اختيار أشهب من المالكية (¬4). وقيل: لا يستنجي بهما، وإن خالف وأزال النجاسة أجزأه، وهو مذهب الحنفية (¬5)، والمالكية (¬6)، وابن تيمية من الحنابلة (¬7). ¬
(1664 - 192) والصحيح أنه لا يجوز الاستنجاء بالعظم والروث لما رواه البخاري، من طريق أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة، فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا ركس (¬1). (1665 - 193) ولما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، قال: أخبرني جدي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه كان يحمل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها فقال: من هذا؟ فقال: أنا أبو هريرة. فقال: ابغني أحجاراً أستنفض بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعت إلى جنبه، ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت، فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نصيبين، ونعم الجن، فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعاماً (¬2). فإن كان العظم والروث طاهرين، فعلة النهي أنهما طعام إخواننا من الجن، وطعام دوابهم. ¬
وإن كان العظم والروث نجسين، فالعلة ماذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فألقى الروثة وقال: هذا ركس (¬1). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: هذا ركس: أي نجس. وقد بسطنا الكلام على أدلة الأقوال في المسألة في كتابي أحكام الطهارة (آداب الخلاء) فأغنى عن إعادته كاملاً هنا. ¬
الباب السابع: في كيفية إزالة النجاسة
الباب السابع: في كيفية إزالة النجاسة الفصل الأول في إزالة النجاسة بالماء المبحث الأول في مشروعية إزالة النجاسة بالماء يجوز إزالة النجاسة بالماء، وهو مذهب الأئمة الأربعة في ذهابهم إلى مشروعية الاستنجاء بالماء (¬1). ولا أعلم أحداً منع من إزالة النجاسة بالماء إلا ما رود عن بعض السلف من النهي عن الاستنجاء بالماء، والاكتفاء عنه بالاستجمار ¬
بالحجارة. وهو مرجوح (¬1). ¬
دليل من قال: يجوز إزالة النجاسة بالماء
دليل من قال: يجوز إزالة النجاسة بالماء: الدليل الأول: (1666 - 194) ما رواه البخاري من طريق هشام، قال: حدثتني فاطمة، عن أسماء، قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب كيف تصنع؟ قال: تحته ثم تقرصه بالماء وتنضحه وتصلي فيه (¬1). الدليل الثاني: (1667 - 195) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس بن مالك، أن أعرابياً بال في المسجد، فقاموا إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تزرموه، ثم دعا بدلو من ماء، فصب عليه، ورواه مسلم (¬2). الدليل الثالث: (1668 - 196) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن عطاء بن أبي ميمونة، سمع أنس بن مالك يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل الخلاء، فأحمل أنا وغلام إداوة من ماء وعنزة يستنجي بالماء (¬3). ¬
دليل من قال: لا يستنجي بالماء
دليل من قال: لا يستنجي بالماء: استدل من منع الاستنجاء بالماء بأدلة منها: أولاً: قالوا: إن الماء مطعوم، فيجب تكريمه، والاستنجاء به إهانة له. وثانياً: أن في الاستنجاء بالماء تلفاً للماء. ¬
وثالثاً: أنه يبقى في اليد نتن بعد الاستنجاء. وللجواب على هذا أن يقال: أما دعوى أنه يبقى في اليد نتن بعد الاستنجاء، فممكن علاجها بتنظيف اليد بعده بالصابون ونحوه، وغاية ما فيه تفضيل الحجارة على الماء، مع أن الماء أبلغ في التطهير. وأما دعوى أنه تلف للمال، فقد كان إتلافه في مقابل منفعة، وليس بدون مقابل، وبذل المال في مقابل أمر واجب، وهو طهارة المحل، لا يعتبر إتلافاً. وأما دعوى أن الماء مطعوم، ويجب صونه، فكما ثبت في تطهير دم الحيض بالماء، وهو في الصحيحين، وبول الأعرابي بالماء، وهو في الصحيحين كذلك، فدل على أن ذلك لا يعتبر امتهاناً للماء، وقد أنزل الله الماء مطهراً {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} (¬1)، فامتن الله علينا بكونه مطهراً لنا من النجاسات والأحداث، والماء النازل من السماء ماء عذب، فهذا تعليل في مقابل النص، فيطرح. ¬
المبحث الثاني هل يتعين الماء لإزالة النجاسة
المبحث الثاني هل يتعين الماء لإزالة النجاسة. اختلف العلماء في هذه المسألة. فقيل: لا تزال النجاسة إلا بالماء الطهور. وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، ومحمد وزفر من الحنفية (¬4). وقيل: النجاسة تزال بأي مائع مزيل، ولا يتعين الماء. وهو المشهور من مذهب الحنفية (¬5)، واختيار ابن تيمية (¬6). ¬
وقيل: إن نص الشارع على تطهيره بالماء كنجاسة دم الحيض والمذي لم يجز العدول إلى غيره. وإن نص الشارع على غير الماء كطهارة النعلين، فيجوز الاقتصار عليه. ويجوز العدول إلى الماء؛ لأن الماء أقوى من غيره بالتطهير. وإن كان الشارع لم ينص على مادة التطهير، وجب الاقتصار على الماء فقط. وهذا القول اختيار الشوكاني رحمه الله (¬1). وسبب الاختلاف بين الفقهاء: اختلافهم في فهم الأدلة الواردة في هذا الباب، فقد أرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى تطهير دم الحيض وبول الأعرابي والمذي والكلب يلغ في الإناء وآنية أهل الكتاب إذا لم يوجد غيرها ونحو ذلك إلى تطهيرها بالماء في أحاديث صحيحة، وكل هذه الأحاديث قد ذكرت في مسائل سابقة متفرقة، فأخذ منها الجمهور أن النجاسة لا تزال إلا بالماء. وقاس عليه الحنفية كل مائع مزيل للنجاسة. ¬
وورد الاستجمار بالحجارة، وهي إزالة للنجاسة بغير الماء، كما ثبت طهارة النعل بدلكها بالتراب، وذيل المرأة يمر بالمكان النجس يطهره ما بعده من التراب الطهور، والهرة تأكل الفأرة يطهره ريقها، والخمر يتخلل فيطهر بنفسه بدون أن يضاف إليه ماء طهور، والمسلم يشرب الخمر فيطهر الريق فمه على القول بنجاسة الخمرة، فأخذ منها بعض العلماء جواز إزالة النجاسة بكل مزيل، سواء كان مائعاً أو جامداً. وأجاب الجمهور عن الاستجمار بالحجارة بأنه خاص في موضعه لعموم البلوى فيه، فإذا تجاوز الخارج موضع العادة تعين الماء عند الجمهور (¬1)، وتعين المائع المزيل عند الحنفية (¬2)، ولا يوجد دليل على أن إزالة النجاسة بالأحجار خاص بالاستجمار، والقياس يقتضي جواز إزالة النجاسة بالحجارة في أي موضع على البدن. كما حملوا تطهير النعل بالدلك على نجاسة يابسة لا تتعدى، فإذا دلكها بالتراب سقطت وأما المحل فلم يتنجس أصلاً، وبعضهم يرى أن النعل نجس نجاسة معفواً عنها تخفيفاً من الشارع، وسيأتي تفصيل الكلام فيه إن شاء الله تعالى، ومثله ذيل المرأة. ¬
وقد بحثت هذه المسألة بشيء من التفصيل في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية وترجح أن النجاسة متى زالت بأي مزيل فقد زال حكمها، فأغنى عن إعادته هنا (¬1). ¬
المبحث الثالث هل يجب تكرار الغسل في إزالة النجاسة
المبحث الثالث هل يجب تكرار الغسل في إزالة النجاسة اختلف العلماء في وجوب تكرار غسل النجاسة بالماء، فقيل: إن كانت النجاسة مرئية كالدم يكفي فيها غسلة واحدة تذهب بعينها، وإن كانت غير مرئية وجب غسلها ثلاثاً، وذلك مثل نجاسة ولوغ الكلب ونحوها، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: لا يجب العدد في غسل النجاسات مطلقاً ما عدا الكلب، وهو مذهب مالك (¬2)، والشافعية، إلا أن الشافعية ألحقوا الخنزير بالكلب (¬3). وسوف يأتي الخلاف في كيفية التطهير من نجاسة الكلب والخنزير إن شاء الله تعالى. وقيل: يجب غسل جميع النجاسات سبعاً، إلا نجاسة بول الصبي الذي لم يأكل الطعام، والنجاسة التي على الأرض، وهو مذهب الحنابلة (¬4). وسبب اختلاف الفقهاء في وجوب العدد: أن العدد ورد في غسل بعض ¬
دليل من قال لا يشترط التكرار في غسل النجاسات
النجاسات كغسل نجاسة الكلب، فإن النص ورد في غسلها سبعاً، كما ورد العدد في غسل اليدين من القيام من نوم الليل، وفهم منه بعض العلماء أن الغسل إنما هو لمظنة النجاسة، فقالوا: إذا كان العدد ورد في النجاسة المظنونة، فكيف بالنجاسة المتيقنة، كما ورد العدد في الاستجمار بالحجارة، فأخذ منه الحنابلة الأمر بغسل النجاسات سبعاً، وأخذ الحنفية الأمر بغسلها ثلاثاً في النجاسة غير المرئية، وورد في غسل دم الحيض بدون عدد، فأخذ منه العلماء أن النجاسة تزال بدون عدد، ويكفي فيه غسلة تذهب بعين النجاسة، وهذا هو الراجح، وأنه يكفي في غسل النجاسات غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة، فإن لم تذهب كرر ذلك حتى تذهب. والله أعلم. وهذه أدلة كل قول فيما ذهب إليه. دليل من قال لا يشترط التكرار في غسل النجاسات: الدليل الأول: (1669 - 197) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن هشام، قال: حدثتني فاطمة عن أسماء، قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب، كيف تصنع. قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه، وتصلي فيه. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر عدداً في غسل نجاسة دم الحيض، والمقام مقام ¬
الدليل الثاني
بيان، وجواب عن سؤال كيف يطهر الثوب، وقد أرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى حته، وقرصه، وغسله، مع أن الحت ليس بواجب مع الغسل، فدل على أن التكرار ليس بواجب. الدليل الثاني: (1670 - 198) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا إنما ذلك عرق وليس بحيض فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. قال وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرها بغسل الدم، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " واغسلي عنك الدم، ثم صلي ". ولو كان العدد معتبراً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثالث: (1671 - 199) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني ثابت أبو المقدام، قال: حدثني عدى بن دينار، قال: سمعت أم قيس بنت محصن قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ¬
الدليل الرابع
الثوب يصيبه دم الحيض. قال: حكيه بضلع، واغسليه بالماء والند وسدر. [إسناده صحيح] (¬1). وجه الاستدلال: الاستدلال بهذا الحديث كالاستدلال بالذي قبله، وقد ذكر السدر مع كونه ليس وجباً، فكيف يترك ذكر العدد مع وجوبه. الدليل الرابع: (1672 - 200) ما رواه أحمد، قال: حدثنا سريج بن النعمان، قال: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا ثور بن يزيد، عن حصين الحبراني، عن أبي سعد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج عليه. ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أكل فما تخلل فليلفظ، ومن أكل بلسانه فليبتلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً فليستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج (¬2). [إسناده ضعيف، يرويه مجهول، عن مجهول] (¬3). ¬
الدليل الخامس
وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر عدداً في الاستجمار، والإيتار يصدق على الواحد. وهذا الحديث ليس فيه دليل: أولاً: لأنه ضعيف، والضعيف لا حجة فيه. ثانياً: سبق لنا في كتاب آداب الخلاء وجوب الاستجمار بثلاثة أحجار، وهو خاص في الاستجمار؛ لأن إزالة النجاسة بالأحجار يختلف عن إزالتها بالماء، فالحجر لا يقلع النجاسة بالمرة، بل لا بد أن يبقى معه أثر لا يزيله إلا الماء، إلا أنه معفو عنه في هذه الحال. الدليل الخامس: من النظر، قالوا: النجاسة عين محسوسة، ووجوب غسلها معلل ببقائها، فإذا زالت من الغسلة الأولى ارتفع حكمها. والله أعلم. دليل الحنابلة على وجوب غسل النجاسات سبعاً: الدليل الأول: (1673 - 201) قال ابن قدامة رحمه الله: روي عن ابن عمر أنه قال: أمرنا بغسل الأنجاس سبعاٌ (¬1). والجواب على هذا من وجهين. الأول: أن هذا الأثر لا يعرف مسنداً في كتب الحديث، إنما ذكره الحنابلة في كتبهم الفقهية، فلا حجة فيه. الثاني: على فرض صحته قد روي ما يدل على أنه منسوخ. ¬
(1674 - 202) فقد روى أحمد، قال:، ثنا حسين بن محمد، ثنا أيوب بن جابر، عن عبد الله - يعنى ابن عصمة -، عن ابن عمر قال: كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرار، والغسل من البول سبع مرار، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل حتى جعلت الصلاة خمساً، والغسل من الجنابة مرة، والغسل من البول مرة (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1675 - 203) قالوا: ثبت الأمر بغسل نجاسة الكلب سبعاً، كما رواه البخاري من حديث أبي هريرة، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا. ورواه مسلم (¬1). وغيرها من النجاسات تقاس على نجاسة الكلب. وأجيب: بأن نجاسة الكلب مغلظة، لا يمكن قياس النجاسة العادية على النجاسة المغلظة. أرأيت نجاسة دم الحيض مع أنه مجمع على نجاسته، كما قدمنا إلا أنه لم يرد فيه تكرار الغسل، ولم يرد ذكر التراب في تطهير شيء من النجاسات إلا نجاسة الكلب، والرواية التي فيها ذكر التراب رواها مسلم في صحيحه، (1676 - 204) من طريق محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب (¬2). دليل الحنفية على التفريق بين النجاسة المرئية وبين النجاسة غير المرئية: قالوا: بأن النجاسة إذا كانت مرئية كالدم ونحوه فطهارتها زوال عينها، ¬
ولا عبرة فيه بالعدد؛ لأن النجاسة في العين، فإذا زالت العين زالت النجاسة، وإن بقيت بقيت. وأما إن كانت النجاسة غير مرئية فإنه يجب غسلها ثلاث مرات. والدليل على ذلك: (1677 - 205) ما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار، قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق، قال ثنا أبو نعيم: قال ثنا عبد السلام بن حرب، عن عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هريرة، في الإناء يلغ فيه الكلب أو الهر قال: يغسل ثلاث مرار (¬1). [المحفوظ من حديث أبي هريرة الأمر بغسله سبعاً مرفوعاً وموقوفاً، ورواية عبد الملك عن عطاء متكلم فيها] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
قال الطحاوي: " فلما كان أبو هريرة قد رأى أن الثلاثة يطهر الإناء من ولوغ الكلب فيه، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ذكرنا ثبت بذلك نسخ السبع؛ لأنا نحسن الظن به، فلا نتوهم عليه أنه يترك ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا إلى مثله، وإلا سقطت عدالته، فلم يقبل قوله ولا روايته " (¬1). قلت: الصحابي لا يتعمد مخالفة ما روى، ولكن قد يخالف ما يروي وليس بمعصوم، فقد ينسى ما روى، وقد يظن من عام أنه خاص، أو من مطلق أنه مقيد، أو العكس. وقال البيهقي منتقداً الطحاوي فيما قال: " استدل به ـ يعني الطحاوي على نسخ السبع على حسن الظن بأبي هريرة بأنه لا يخالف النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عنه، وهلا أخذ بالأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في السبع، وبما روينا من ¬
فتيا أبي هريرة بالسبع، وبما روينا عن عبد الله بن المغفل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). الدليل الثاني للحنفية: (1678 - 206) ما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر البكراوي، قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده (¬2). وجه الاستدلال: قال الطحاوي: " كانوا يتغوطون أي: يقضون حاجتهم ويبولون ولا يستنجون بالماء، فأمرهم بذلك إذا قاموا من نومهم؛ لأنهم لا يدرون أين باتت أيديهم من أبدانهم، وقد يجوز أن يكون كانت في موضع قد مسحوه من البول أو الغائط فيعرقون، فتنجس بذلك أيديهم، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بغسلها ثلاثاً، وكان ذلك طهارتها من الغائط أو البول إن كان أصابها، فلما كان ذلك يطهر من البول والغائط وهما أغلظ النجاسات كان أحرى أن يطهر بما دون ذلك من النجاسات " (¬3). قلت: لا يمكن أن يجعل تطهير الكلب النجس بمنزلة ما ورد في غسل اليدين الطاهرتين، والعلة في غسل اليدين ثلاثاً ليست النجاسة كما توهم الطحاوي؛ لأن العلة لو كانت النجاسة لكان حكم اليدين حكم نجاسة دم ¬
الراجح من أقوال أهل العلم
الحيض، وأنتم لا تشترطون عدداً في نجاسة دم الحيض، بل يكفي فيها غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة، بل لو كانت على يده نجاسة مرئية كان عليه أن يغسلها غسلة واحدة، وإذا كانت على يده نجاسة متوهمة كان عليه أن يغسلها ثلاثاً، فهذا من غريب الفقه. قال البيهقي في المعرفة: " زعم الطحاوي أنه تتبع الآثار، ثم روى الأحاديث الصحيحة في ولوغ الكلب، وترك القول بالعدد في تطهير الإناء منه، واستعمال التراب فيه. وجعل نظير ذلك الأحاديث التي وردت في غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، وهو يوجب غسل الإناء من الولوغ، ولا يوجب غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، فكيف يشتبهان؟ " (¬1). الراجح من أقوال أهل العلم: أن النجاسة لا يشترط في إزالتها عدد معين، وإنما يغسلها حتى تذهب عينها، فإذا ذهبت فقد زال حكمها، إلا في طهارة الكلب فيجب غسلها سبعاً أولاهن بالتراب، وفي الاستجمار بالحجارة لا بد من ثلاثة أحجار مع الإنقاء والله أعلم. ¬
المبحث الرابع في بقاء لون أو رائحة النجاسة بعد التطهير
المبحث الرابع في بقاء لون أو رائحة النجاسة بعد التطهير إذا غسل المحل المتنجس، فإن بقي طعم النجاسة فهو ما زال نجساً بلا خلاف، حكاه النووي في المجموع (¬1)، وعلل ذلك: بأن بقاء الطعم يدل على بقاء جزء من النجاسة. وحكى صاحب الإنصاف خلافاً للحنابلة في الطعم (¬2). وإن بقي اللون أو الرائحة أو هما معاً فقد اختلف العلماء، فقيل: لا يضر بقاء أحدهما أو بقاؤهما معاً إذا شق إزالتهما، وهو مذهب الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، والحنابلة (¬5). وقيل: إن بقي اللون والرائحة معاً فإن المحل لم يطهر، وأما إن بقي أحدهما وشقت إزالته فلا يضر، وهذا هو القول المعتمد عند الشافعية (¬6). ¬
دليل من قال: لا يضر بقاء اللون والرائحة معا
وقيل: يعفى عن اللون دون الريح، اختاره بعض الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). دليل من قال: لا يضر بقاء اللون والرائحة معاً: الدليل الأول: (1679 - 207) ما رواه أحمد، قال: حدثنا موسى بن داود الضبي، حدثنا ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن عيسى بن طلحة، عن أبي هريرة، أن خولة بنت يسار أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حج أو عمرة فقالت: يا رسول الله ليس لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيه قال: فإذا طهرت فاغسلي موضع الدم، ثم صلي فيه قالت: يا رسول الله إن لم يخرج أثره قال: يكفيك الماء ولا يضرك أثره (¬3). [إسناده ضعيف] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: أن الله سبحانه وتعالى أمر بتطهير النجاسات بالماء وحده، كما في غسل دم الحيض، ومعلوم أن الماء وحده ليس من شأنه إزالة أثر النجاسة، فلو كانت إزالة الأثر مشترطة لأرشد الشارع إلى مطهر آخر، كما أرشد في تطهير ولوغ الكلب إلى التراب مثلاً. الدليل الثالث: (1680 - 208) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: ¬
الدليل الرابع
قالت عائشة: ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم قالت بريقها، فقصعته بظفرها (¬1). وجه الاستدلال: أن الريق وحده لا يمكن أن يذهب بلون النجاسة، ولا يقطع رائحتها، وهذا دليل على أن ذهاب اللون والرائحة ليس بشرط، خاصة إذا كان يتعسر إزالتهما. الدليل الرابع: (1681 - 209) ما رواه البيهقي من طريق شعبة، عن يزيد الرشك، عن معاذة، قالت: سألت عائشة رضي الله عنها عن الدم يكون في الثوب، فأغسله، فلا يذهب أثره، فقالت: الماء طهور. [إسناده صحيح] (¬2). الدليل الخامس: أن في اشتراط ذهاب اللون والرائحة فيه كلفة ومشقة، والحرج مرفوع عن هذه الأمة. الدليل السادس: أن اللون والرائحة عرض، وليس عيناً، وبالتالي لا يضر بقاؤهما مع تعسر إزالتهما. ¬
الدليل السابع
الدليل السابع: إذا باشر المستنجي الاستنجاء بيده فإنه مهما غسل يده فإنه يبقى فيها شيء من رائحة النجاسة، ولو كانت إزالة رائحة النجاسة شرطاً لأوجب الشارع على المستنجي إزالة هذه الرائحة من يده، أو عدم مباشرة إزالتها بيده، ومع ذلك كان الصحابة يستنجون بالماء، ويباشرون ذلك بأيديهم، ولم يكن هناك مطهرات معطرة تذهب برائحة النجاسة، ولم يأت في الشرع ما يوجب ذلك، فدل على أن بقاء رائحة النجاسة ليس مؤثراً في طهارة المحل. دليل من قال: يشترط إزالة اللون والرائحة: قالوا: ما دام أن لون النجاسة أو رائحتها باقية فهذا دليل على وجودها، وإذا كانت النجاسة موجودة فالمحل نجس؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. وأجيب: لا نسلم أن النجاسة موجودة مع بقاء اللون، لأن اللون كما قلنا عرض، فهذا الحناء يوجد لونه على البدن أو على الشعر ولا يمنع وصول الماء، ولو كان الحناء موجوداً لمنع وصول الماء، وعلى التسليم بأنه موجود فإنه معفو عنه، للمشقة في إزالته، ولا يكلف الله نفساً إلى وسعها. دليل من فرق بين الرائحة واللون: قالوا: إنما قلنا يعفى عن اللون دون الريح، لأن المشقة في إزالة اللون ظاهرة، والمشقة مرفوعة، بخلاف الريح فلا يشق إزالتها. والحقيقة لو أن هذا القول عكس الحكم لكان ربما يكون له وجه، لأن
القول الراجح
اللون دليل على بقاء النجاسة بخلاف الريح، والفقهاء دائماً يخففون مسألة الريح، ولذلك قالوا لو تروح الماء بنجاسة مجاورة فهو طهور، بخلاف ما لو تغير لونه من النجاسة فإنه نجس، وهذا دليل على التفريق بين اللون والرائحة، وأن اللون أشد تأثيراً من الرائحة، والله أعلم. القول الراجح: بعد استعراض أدلة الفريقين نجد أن قول الجمهور أقوى من حيث الدلالة، وأن اللون والرائحة إذا شق إزالتهما فإن ذلك لا يؤثر على طهارة المحل، والله أعلم.
المبحث الخامس إذا أمكن إزالة اللون أو الرائحة بإضافة مطهر مع الماء
المبحث الخامس إذا أمكن إزالة اللون أو الرائحة بإضافة مطهر مع الماء فقيل: لا يجب الاستعانة بغير الماء، وهو مذهب الجمهور (¬1). وقيل: يستحب، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقال ابن مفلح: يتوجه احتمال أنه يجب، وكلام أحمد يحتمله (¬3). واختاره بعض الحنابلة في التراب (¬4). دليل من قال لا يجب الاستعانة بغير الماء: الدليل الأول: الأدلة التي سيقت في المسألة التي قبل هذه، من كون اللون والرائحة لا تجب إزالتهما مع المشقة. الدليل الثاني: أن النصوص أرشدت إلى غسل النجاسة بالماء، وبعض النجاسات كدم ¬
الدليل الثالث
الحيض لا يزيل الماء لون النجاسة، فلو كانت الإزالة واجبة لأرشد الشارع إلى مطهر آخر، فلما اكتفى بالماء علم أن إضافة غير الماء ليس بواجب. الدليل الثالث: أرشد الشارع إلى إضافة التراب في تطهير ولوغ الكلب، ولم يرشد إلى ذلك في طهارة دم الحيض، مع كون الدم له لون يلصق بالثياب، بخلاف ريق الكلب، فلو كانت الإضافة واجبة في سائر النجاسات لأرشد إليها الشارع كما أرشد إليها في طهارة ولوغ الكلب، وما كان ربك نسياً. دليل من استحب إضافة مطهر أخر إلى الماء لإزالة لون النجاسة: الدليل الأول: (1682 - 210) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني ثابت أبو المقدام، قال: حدثني عدى بن دينار، قال: سمعت أم قيس بنت محصن قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثوب يصيبه دم الحيض. قال: حكيه بضلع، واغسليه بالماء والند وسدر. [إسناده صحيح] (¬1). وإنما لم نقل: إن الأمر للوجوب؛ لأنه قد ورد حديث أسماء في الاقتصار على الماء، وهو متفق عليه. الدليل الثاني: (1683 - 211) ما رواه أحمد من طريق محمد بن إسحاق، حدثني ¬
سليمان بن سحيم، عن أمية بنت أبي الصلت، عن امرأة من بني غفار - وقد سماها لي - قالت: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نسوة من بني غفار، فقلنا له: يا رسول الله قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا - وهو يسير إلى خيبر - فنداوي الجرحى، ونعين المسلمين بما استطعنا، فقال: على بركة الله. قالت: فخرجنا معه، وكنت جارية حديثة، فأردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حقيبة رحله، قالت: فوالله لنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصبح فأناخ، ونزلت عن حقيبة رحله وإذا بها دم مني، فكانت أول حيضة حضتها، قالت: فتقبضت إلى الناقة واستحييت، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي، ورأى الدم، قال: ما لك؟ لعلك نفست؟ قالت: قلت: نعم، قال: فأصلحي من نفسك، وخذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحاً، ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم، ثم عودي لمركبك. الحديث (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). ¬
الدليل الثالث
الدليل الثالث: (1684 - 212) ما رواه أبو داود، من طريق عبد الوارث، حدثتني أم الحسن يعني جدة أبي بكر العدوي، عن معاذة قالت: سألت عائشة رضي الله عنها عن الحائض يصيب ثوبها الدم، قالت: تغسله، فإن لم يذهب أثره فلتغيره بشيء من صفرة، قالت: ولقد كنت أحيض عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث حيض جميعاً لا أغسل لي ثوباً (¬1). [إسناده ضعيف، ورواه الدارمي بإسناد صحيح] (¬2). ¬
دليل من قال بوجوب إضافة شيء إلى الماء إذا أمكن إزالة لون النجاسة
دليل من قال بوجوب إضافة شيء إلى الماء إذا أمكن إزالة لون النجاسة: هذا القول لم يثبت عندي، وإنما ساقه ابن مفلح احتمالاً، فإن ثبت فلعل دليله، أنه مبني على وجوب إزالة لون النجاسة مع إمكان ذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والله أعلم. الراجح: بعد استعراض أدلة الأقوال، نجد أن القول الوسط، وهو استحباب إزالة اللون بمادة أخرى إذا لم يذهب بالماء أقوى، لقوة أدلته وتعليلاته، ويكفي أنه مذهب لأم المؤمنين رضي الله عنها عائشة الصديقة بنت الصديق، والله أعلم. ¬
المبحث السادس في اشتراط عصر الثياب النجسة عند غسل النجاسة
المبحث السادس في اشتراط عصر الثياب النجسة عند غسل النجاسة اختلف العلماء في اشتراط العصر في الأشياء التي تتشرب النجاسة كالثياب ونحوها، فقيل: يشترط العصر، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: لا يشترط عصرها، وهو مذهب المالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، واختيار أبي يوسف من الحنفية (¬5). ¬
دليل من قال يشترط العصر
دليل من قال يشترط العصر. الدليل الأول: (1685 - 213) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن هشام، قال: حدثتني فاطمة، عن أسماء، قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب كيف تصنع؟ قال: تحته ثم تقرصه بالماء وتنضحه وتصلي فيه (¬1). وجه الاستدلال: قوله " ثم تقرصه " قال ابن حجر: أي تدلك موضع الدم بأطراف أصابعها ليتحلل بذلك، ويخرج ما تشربه الثوب منه (¬2). وأجيب: بأن الحت والقرص ليس واجباً، وسوف يأتي إن شاء الله تعالى بحث ذلك في مسألة مستقلة. الدليل الثاني: قالوا: إن الثياب تتشرب النجاسة، ومرور الماء على الثياب دون عصرها لا يستخرج أجزاء النجاسة من الثوب، ولهذا اشترطنا العصر في الثياب. الدليل الثالث: أن غسالة النجاسة نجسة، وإذا كانت نجسة كان وجودها في الثوب سبباً في بقائه نجساً، فيجب إخراجها من الثوب حتى يمكن الحكم له بالطهارة. ¬
دليل من قال: لا يشترط العصر
دليل من قال: لا يشترط العصر: الدليل الأول: (1686 - 214) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال حدثنا همام، أخبرنا إسحاق، عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى أعرابياً يبول في المسجد، فقال: دعوه حتى إذا فرغ دعا بماء فصبه عليه، ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: معلوم أن الأرض تتشرب النجاسة، ومع ذلك اكتفى بصب الماء عليها، فإن قيل: إن الأرض لا يمكن عصرها. قيل: يمكن نقل غسالة النجاسة، بل يمكن حفر الأرض المتنجسة قبل تطهيرها، فلما لم يأمر بنقل غسالة النجاسة مع إمكانه علم أن المحل طهر بمجرد صب الماء عليه، فدل على أن عصر الثوب لإخراج غسالة النجاسة ليس شرطاً في الطهارة، والتفريق بين الأرض والثياب تفريق بغير دليل، بل قياس الثياب على الأرض هو الفقه، والله أعلم. الدليل الثاني: (1687 - 215) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصبي، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فأتبعه إياه. ورواه مسلم (¬2). ¬
الدليل الثالث
وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أتبع البول الماء، ولم يعصر الثوب. الدليل الثالث: الأصل عدم وجوب العصر، ولم يأت في الشرع ما يرشد إلى عصر الثياب حين غسلها، ولو كان العصر واجباً لجاء الأمر به، كما جاء في حت الدم وقرصه بالماء، ومن غسل ثوبه حتى ذهبت عين النجاسة وطعمها وريحها فقد طهر الثوب، وفعل ما أمر به. الدليل الرابع: لم يقم دليل على أن غسالة النجاسة نجسة، وإذا انفصل الماء عن المحل ولم يتغير بالنجاسة فهو طهور، وإذا كان ذلك كذلك لم يكن إخراج الغسالة إخراجاً للنجاسة حتى يجب إخراجه بالعصر، وسوف تبحث غسالة النجاسة في بحث مستقل من هذا الباب إن شاء الله تعالى. وهذا القول هو الراجح.
المبحث السابع في حكم الحت والقرص
المبحث السابع في حكم الحت والقرص اختلف العلماء في حكم الحت والقرص، فقيل: يستحب، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2). وقيل: يجب إن لم تذهب النجاسة بدونهما، ولم يتضرر المحل بهما، وهو قول في مذهب الشافعية (¬3)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬4). دليل من قال بالاستحباب: (1688 - 216) ما رواه البخاري، من طريق مالك عن هشام، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء، قالت: سألت أمرأة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة كيف تصنع؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه ثم لتنضحه بماء، ثم لتصل فيه. وفي رواية: قال: تحته ثم تقرصه بالماء وتنضحه وتصلي فيه (¬5). وجه الاستدلال: بين الرسول في الثوب الذي أصابته نجاسة الدم أنها تحته ثم تدلكه بالماء، ¬
دليل من قال بالوجوب
ثم تغسله، ثم تصلي فيه، وهذا على وجه الاستحباب، لأن غسل الدم كاف في طهارته، ولأن المطلوب إزالة النجاسة، فكيف زالت فقد زال حكمها، ولم يتعين الحت والقرص في إزالتها، فلو غسلت الدم حتى زالت عين النجاسة بدون حت وقرص فقد حصل المطلوب وطهر الثوب. دليل من قال بالوجوب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: فلتقرصه أمر منه - صلى الله عليه وسلم -، والأصل في الأمر الوجوب حتى يوجد صارف يصرفه عن ذلك. والراجح، والله أعلم أن زوال عين النجاسة إن توقف على الحت، ولم يذهب بالغسل فإنه واجب لا لذاته، وإنما لأن إزالة النجاسة واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإن زال عين النجاسة بمجرد مرور الماء على الثوب فقد حصل المطلوب، والله أعلم.
المبحث الثامن في كيفية تطهير المذي
المبحث الثامن في كيفية تطهير المذي لما كان المذي قد نص على تطهيره بالماء ناسب ذكر كيفية تطهيره في باب كيفية إزالة النجاسة بالماء، وقد اختلف الفقهاء في الطهارة من المذي، هل يتعين الماء، أو تكفي الحجارة؟ فقيل: يتعين الماء وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، على خلاف بينهم هل يجب غسل موضع الحشفة فقط كما هو مذهب الحنفية (¬5)، والشافعية (¬6)، ونسبه النووي للجمهور (¬7)، ورجحه ابن عبد البر (¬8). ¬
أو يجب غسل الذكر كله، وعليه أكثر أصحاب مالك (¬1)، وهو رواية عن أحمد (¬2). أو يجب غسل الذكر كله مع الأنثيين، كما هو مذهب الحنابلة، وذكروه من المفردات (¬3)، وهو مذهب ابن حزم (¬4). وقيل: يجزئ الاستجمار، وهو قول في مذهب الشافعية (¬5). وقيل: المذي طاهر، وهو رواية عن أحمد (¬6). وسبب اختلاف الفقهاء اختلافهم في الأحاديث الواردة في ذلك: فمن أوجب غسل الذكر كله، أخذه من حديث علي المتفق عليه، وفيه: "يغسل ذكره ويتوضأ " هذا لفظ مسلم، ورواه البخاري بنحوه (¬7). فقوله: "يغسل ذكره ": حقيقة في جميع الذكر، فهو مفرد مضاف، ¬
فيعم جميع الذكر. ومن قال: يغسل موضع الحشفة: قالوا: إن من غسل مخرج المذي من الذكر فقد غسل ذكره، فإيجاب غسل الذكر كله لا دليل عليه من الشرع. وقد صح عن ابن عباس أنه يقول: تارة: "يغسل ذكره" وتارة يقول: "يغسل حشفته" فدل على أن مراده بقوله: " اغسل ذكرك" أي الحشفة، وفهم الصحابي أولى من فهم غيره؛ لأنه عربي قح لم تدخل لسانه العجمة، وهو ممن روى عن علي حديث غسل الذكر من المذي، فلو كان يقتضي ذلك غسل الذكر كله لكان ابن عباس أولى بفهم ذلك من غيره. وقياساً على البول فإن الإنسان لا يغسل فيه الذكر كله. ومن رأى أن الاستجمار لا يكفي استدل بقوله في الحديث: " يغسل ذكره " فهذا دليل على أن الاستجمار لا يكفي، قال ابن عبد البر: وليس في أحاديث المذي على كثرتها ذكر الاستجمار (¬1). وأما من قال: يغسل أنثييه: فاستدل بحديث علي، ففي رواية منه، قال: يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ (¬2). وهذه الزيادة لا تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ضعفها أحمد في سؤالات أبي داود (¬3). ¬
وأما من قال: إن الاستجمار يكفي، فقد قاسه على البول: وقد عرضنا أدلة كل قول، والجواب عنها في بحث طويل، فأغنى عن إعادته هنا (¬1). ¬
المبحث التاسع في الكلام على غسالة النجاسة
المبحث التاسع في الكلام على غسالة النجاسة الماء المستعمل في إزالة النجاسة قبل أن ينفصل عن المحل فإنه طهور مطلقاً تغير أو لم يتغير؛ لأننا لو قلنا ينجس بمجرد الملاقاة ما طهر المحل أبداً، ولم يمكنا في هذه الحال تطهير النجاسات إلا بالماء الكثير وهذا فيه حرج (¬1). وأما إذا انفصل عن المحل فلا يخلو إما أن يتغير بالنجاسة أو لا. فإن تغير الماء بالنجاسة، فهو نجس بالإجماع، وقد نقلناه عن جماعة من علماء المذاهب في مسألة سؤر سباع البهائم فانظره هناك. وإن كان الماء المنفصل لم يتغير، وهو ماء قليل، فقد اختلف العلماء في حكمه بناء على اختلافهم في وجوب تكرار الغسل، فبعضهم يرى وجوب تكرار غسل النجاسة ثلاثاً، وبعضهم سبعاً، وبعضهم يرى أنه يكفي غسل النجاسة مرة واحدة ما لم تكن نجاسة كلب، وقد ذكرنا أدلة كل قول في مسألة سابقة، وترجح أن العدد لا يشترط في غسل النجاسات إلا نجاسة الكلب للنص عليها من الشارع. وقد اختلف العلماء في الماء المنفصل عند تطهير هذا المحل المتنجس، وهو ما يسمى بغسالة النجاسة، إذا انفصل عن المحل، وهو لم يتغير هل يكون نجساً أو طاهراً أو طهورا؟. فقيل: الماء المنفصل من غسل النجاسة الحقيقية من الغسلة الأولى حتى ¬
الغسلة الثالثة نجس، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: الماء المنفصل طهور ما لم يتغير بالنجاسة، وهو مذهب المالكية (¬2)، وهو الراجح. وقيل: يكون طاهراً غير مطهر، وهو الأصح عند الشافعية (¬3). ¬
دليل الحنفية على نجاسة الغسلات الثلاث
وقيل: المنفصل من الغسلة الأولى حتى الغسلة السادسة نجس، حتى ولو زالت عين النجاسة في الغسلة الأولى، والمنفصل من الغسلة السابعة طاهر، غير مطهر، والمنفصل من الغسلة الثامنة طهور. وهذا المشهور من مذهب الحنابلة (¬1). دليل الحنفية على نجاسة الغسلات الثلاث: قولهم مبني على وجوب غسل النجاسات ثلاث مرات، وقد ذكرنا أدلتهم على وجوب الغسلات الثلاث في مسألة سابقة، وبناء على هذا قالوا: إن الماء المنفصل في الغسلة الأولى والثانية انفصل والمحل نجس فتنجس، وأما الغسلة الثالثة فنجسة، وإن كان المحل قد طهر بناء على أن الماء قد استعمل في إزالة نجاسة، فالماء عندهم ينجس إذا استعمل في الطهارة سواء في طهارة الحدث أم في طهارة الخبث، وسبق تحرير مذهبهم في الماء المستعمل في طهارة الحدث، وأجبنا عليه (¬2). ¬
دليل الحنابلة في غسالة النجاسة
الدليل الثاني على نجاسة الغسالة: (1689 - 217) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا جرير- يعني: ابن حازم- قال: سمعت عبد الملك- يعني: ابن عمير- يحدث عن عبد الله بن معقل بن مقرن قال: صلى أعرابي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه القصة - يعني: قصة بول الأعرابي في المسجد- قال فيه: وقال: يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -: خذوا ما بال عليه من التراب، فألقوه، وأهريقوا على مكانه ماء (¬1). قال أبو داود: وهو مرسل ابن معقل لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -. [ضعيف، وزيادة خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه زيادة منكرة والحديث في الصحيحين وليس فيه هذه الزيادة] (¬2). وجه الاستدلال: لولا أن الغسالة نجسة لما احتاج إلى نقلها قبل غسلها. دليل الحنابلة في غسالة النجاسة: يرى الحنابلة أن الماء المنفصل من الغسلة الأولى حتى الغسلة السادسة نجس، لأن الماء قد انفصل والمحل نجس، حتى ولو ذهبت عين النجاسة، فالمحل نجس حكماً، والتعليل عندهم: أنه ماء قليل لاقى نجاسة، فينجس ولو لم يتغير (¬3). ¬
دليل الشافعية على كون الماء طاهرا
وأما الماء المنفصل من الغسلة السابعة فإنه طاهر، ولماذا لا يكون طهوراً؟ قالوا: لأنه أثر في المحل، فحصل به إزالة حكم النجاسة. ولماذا لا يكون نجساً؟ قالوا: لأنه انفصل عن محل طاهر؛ لأن المحل يطهر عندهم في الغسلة السابعة، إذا ذهبت عين النجاسة. أما المنفصل من الغسلة الثامنة فهو طهور؛ لأن المحل قد طهر من الغسلة السابعة، فلم يتأثر الماء. والقول بوجوب غسل النجاسات ثلاثاً عند الحنفية أو سبعاً عند الحنابلة قول ضعيف، إلا في ولوغ الكلب حيث ثبت العدد في غسل الإناء من ولوغه سبعاً، وقد بُسِطَت أدلة كل قول في العدد المعتبر في غسل النجاسة في مسألة مستقلة. دليل الشافعية على كون الماء طاهراً: الدليل الأول: إذا كان الماء المستعمل في رفع الحدث يكون طاهراً، وهو لم يستعمل في إزالة النجاسة، فكيف بالمستعمل في إزالة النجاسة؟ والدليل على أن الماء المستعمل في رفع الحدث يكون طاهراً (1690 - 218) ما رواه مسلم في صحيحه من طريق ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم، وهو جنب. فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولا (¬1). ¬
الدليل الثاني
وجه الاستدلال: قالوا: لما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الاغتسال في الماء الدائم دل ذلك على أن الاغتسال يؤثر في الماء، ولو كان لا يؤثر لما نهى عنه، فالمراد من نهيه حتى لا يصير الماء مستعملاً (¬1). وأجيب: أولاً: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعلل بأن الماء يكون مستعملاً، ولم يذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - قط بأن الماء يكون مستعملاً، فهذا الكلام زيادة على حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما أن الحديث نص في الماء الدائم، وهو يشمل ما فوق القلتين وما دون القلتين، وأنتم قلتم بأنه لا يكون مستعملاً إلا إذا كان دون القلتين. فهذه مخالفة ثانية للحديث. الدليل الثاني: قولهم: إن الماء المستعمل ليس ماء مطلقاً، بل هو مقيد بكونه ماء مستعملاً، والذي يرفع الحدث هو الماء المطلق، كما في قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (¬2) (¬3). وأجيب: بأن لفظ (ماء) في قوله تعالى {فلم تجدوا ماء} نكرة في سياق النفي، فتعم كل ماء، سواء كان مستعملاً أو غيره، وسواء كان متغيراً أم لم يتغير، ما ¬
دليل المالكية على أن غسالة النجاسة طاهرة مطهرة
دام أنه يسمى ماء، نعم خرج الماء النجس للإجماع على أنه لا يجوز التطهر به، وبقي ما عداه. والصحيح أن إثبات قسم من الماء يكون طاهراً غير مطهر قول ضعيف، وقد تبين في مبحث أقسام المياه، أن الماء قسمان: طهور، ونجس. ولا يوجد قسم الطاهر (¬1)، والله أعلم. دليل المالكية على أن غسالة النجاسة طاهرة مطهرة. استدل المالكية على أن غسالة النجاسة من الماء الطهور إذا لم تتغير بعدة أدلته، منها: الدليل الأول: (1691 - 219) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس بن مالك، أن أعرابياً بال في المسجد، فقاموا إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تزرموه، ثم دعا بدلو من ماء، فصب عليه، ورواه مسلم (¬2). وجه الاستدلال: أن الماء الذي غسل به بول الأعرابي لو كان نجساً لم يقض النبي - صلى الله عليه وسلم - بطهارة ذلك المحل، ولأمر أن يصب عليه الماء ثانية وثالثة، فصح أن المغسول به النجاسة طاهر مطهر (¬3). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1692 - 220) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أُتِي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصبي، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فأتبعه إياه. ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال من هذا الحديث كالاستدلال من الحديث الذي قبله، فإن قيل في الحديث الأول: إن النجاسة كانت على الأرض، فالحديث الثاني النجاسة على ثوب، وهذا دليل على أنه لا فرق بينهما. الدليل الثالث: قالوا من جهة المعنى: الماء المنفصل عن المحل المغسول هو من جملة الماء الباقي في المحل المغسول، فالمنفصل بعض المتصل، والماء الباقي في المحل المغسول طهور بإجماع، فوجب أن يكون المنفصل عنه مثله (¬2). الدليل الرابع: إذا غلب الماء على النجاسة ولم يظهر فيه شيء منها فقد طهرها، ولا تضره ممازجته لها إذا غلب عليها، سواء كان الماء قليلاً أم كثيراً، فقد جعل الله الماء طهوراً، وأنزله علينا ليطهرنا به، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "الماء لا ينجسه شيء " يعني: إلا ما غلب عليه من النجاسة فغيره، ومعلوم أنه لا يطهر نجاسة حتى يمازجها، فإن غلب عليها ولم يظهر فيه شيء منها، فالحكم له، وإن غلبته ¬
النجاسة فالحكم لها إذا ظهر في الماء شيء منها (¬1). وقد أجمع العلماء على طهارة الخمر إذا صارت خلاً من غير صانع، لاستهلاك ما كان يخامر العقل منها بطريان التحليل عليه، فلأن تطهر النجاسة، ويزول حكمها باستهلاك الماء لها أولى وأحرى (¬2). وهذا القول هو الراجح، لدليل النقل والعقل، والله أعلم. ¬
الفصل الثاني في كيفية التطهير بالنضح
الفصل الثاني في كيفية التطهير بالنضح المبحث الأول في تطهير بول الرضيع الذكر بالنضح اختلف العلماء في بول الصبي والجارية هل حكمهما واحد أو لا؟. فقيل: يجب غسلهما معاً، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2). وقيل: بول الجارية يغسل، وبول الغلام ينضح، وهو مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، وبه قال الحسن البصري (¬5)، والزهري (¬6)، وجماعة من أهل الحديث. وقيل: يكفي النضح فيهما ما لم يطعما، فإذا طعما وجب غسلهما، وهذا القول مروي عن الحسن البصري، وسفيان، وأحد قولي الأوزاعي (¬7). ¬
دليل من قال لا فرق بين بول الصبي والجارية في وجوب الغسل
وقيل: ينضح بول الذكر مطلقاً، كبيراً كان أم صغيراً، ويغسل بول الأنثى، وهو اختيار ابن حزم رحمه الله تعالى (¬1). دليل من قال لا فرق بين بول الصبي والجارية في وجوب الغسل: الدليل الأول: (1693 - 221) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالصبيان، فيدعو لهم، وإنه أتي بصبي، فبال عليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صبوا عليه الماء صباً (¬2). [انفرد أبو معاوية عن هشام بقوله: صبوا عليه الماء صباً، وحديث أبي معاوية عن هشام في بعضها كلام] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وجه الاستدلال: أنه أمر بصب الماء على نجاسة بول الصبي صباً، وهذا دليل على أنه لا يكفي النضح، بل لا بد من الغسل، ألا ترى لو أن رجلاً أصاب ثوبه عذرة، فأتبعها الماء حتى ذهب بها، أن ثوبه قد طهر. وأجيب: أولاً: تفرد أبو معاوية بهذا اللفظ، عن هشام، وسائر الرواة عن هشام لم يذكروا ما ذكره أبو معاوية. ثانياً: أن الحديث نص في قوله: " ولم يغسله " فإتباع الماء بدون غسل وبدون أن يتقاطر الماء إن كنتم تسمون هذا غسلاً فالخلاف معكم لفظي، وإن كنتم تشترطون مع إتباع الماء أن يتقاطر وأن يعصر الثوب حتى يخرج منه الماء، فالحديث لم يدل عليه، بل صرح بنفيه. ثالثاً: على فرض صحة لفظ أبي معاوية فليس فيها ما يدل على وجوب الغسل، فإن مكاثرة المحل بالماء دون أن يصل إلى حد السيلان لا ينافي ذلك الصب، ولا يسمى غسلاً عندنا، فليس صب الماء مرادفاً للغسل، حتى يؤخذ من لفظ " صبوا " أن يكون هذا بمعنى الغسل، ولذلك جاء اللفظ صريحاً بقولهم " ولم يغسله " فلو كان الصب يعني الغسل لكان قوله " ولم يغسله " تناقضاً في الحديث، كما لو قال: غسله ولم يغسله، وهذا واضح بين. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني لمن قال بوجوب الغسل. الأحاديث العامة الآمرة بوجوب الغسل من البول، منها: (1694 - 222) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحائط من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة. الحديث ورواه مسلم بنحوه (¬1). (1695 - 223) ومنها: ما رواه أبو يعلى، قال: حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا ثابت بن حماد أبو زيد، حدثنا علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن عمار، قال: مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أسقي ناقة لي فتنخمت، فأصابت نخامتي ثوبي، فأقبلت أغسل ثوبي من الركوة التي بين يدي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا عمار ما نخامتك ولا دموع عينيك إلا بمنزلة الماء الذي في ركوتك، إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني من الماء الأعظم والدم والقيء (¬2). [إسناده ضعيف جداً] (¬3). ¬
الدليل الثالث
وأجيب: أما حديث ابن عباس فهو في بول الكبير؛ لأنه في حق المكلف، وهو لا يكلف إلا وهو كبير، وأحاديث التفريق هي في بول الصبي، فلا يقضي الحديث العام على الحديث الخاص، وإنما الخاص مقدم على العام. وأما حديث عمار فهو ضعيف جداً كما بينا، ومع ذلك لو صح لم يكن فيه دلالة، وكان الجواب عنه كالجواب عن حديث ابن عباس، والله أعلم. الدليل الثالث: قالوا: لا فرق بين بول الغلام والجارية بعد سن الرضاع، فكيف يفرق بينهما قبله (¬1). وأجيب: بأن هذا النظر نظر فاسد؛ لأنه في مقابلة النص، فلا يقبل. دليل من قال بالتفريق بين بول الجارية وبول الغلام. الدليل الأول: (1696 - 224) ما ورواه البخاري، من طريق ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأجلسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه، ولم يغسله. ورواه مسلم أيضاً (¬2). ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: (1697 - 225) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالصبيان، فيدعو لهم، فأتي بصبي، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فأتبعه إياه ولم يغسله. ورواه مسلم (¬1). فهذان الحديثان دليلان على أنه يكفي في بول الصبي النضح، وأن الغسل غير واجب، وأما الأدلة على التفريق بينه وبين الجارية فسوف نذكره في بقية أدلة هذا القول، فمنها. الدليل الثالث: (1698 - 226) ما رواه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن مهدي، حدثني يحيى بن الوليد، حدثني محل بن خليفة، حدثني أبو السمح، قال: كنت أخدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان إذا أراد أن يغتسل قال: ولني قفاك، فأوليه قفاي، فأستره به، فأتي بحسن أو حسين رضي الله عنهما، فبال على صدره، فجئت أغسله فقال: يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام (¬2). [إسناده حسن] (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الرابع
الدليل الرابع: (1699 - 227) ما رواه أحمد، قال: حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن أبي الأسود الديلي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: في الرضيع ينضح بول الغلام، ويغسل بول الجارية. قال قتادة: وهذا ما لم يطعما الطعام، فإذا طعما غسلا جميعاً (¬1). [رفعه هشام الدستوائي، عن قتادة، ورواه غيره عن قتادة موقوفاً على علي، وهو المحفوظ] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: (1700 - 228) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، حدثنا وهيب، قال: حدثنا أيوب، عن صالح أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن أم الفضل، قالت: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إني رأيت في منامي أن في بيتي أو حجرتي عضواً من أعضائك، قال: تلد فاطمة إن شاء الله غلاماً، فتكفلينه، فولدت فاطمة حسناً، فدفعته إليها، فأرضعته بلبن قثم، وأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً أزوره، فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوضعه على صدره، فبال على صدره، فأصاب البول إزاره، فزخخت بيدي على كتفيه، فقال: أوجعت ابني أصلحك الله -أو قال: رحمك الله- فقلت: أعطني إزارك أغسله، فقال: إنما يغسل بول الجارية، ويصب على بول الغلام (¬1). [رجاله كلهم ثقات] (¬2). ¬
الدليل السادس
الدليل السادس: (1701 - 229) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أبو بكر الحنفي، قال: حدثنا أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أم كرز الخزاعية قالت: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بغلام، فبال عليه، فأمر به ¬
الدليل السابع
فنضح، وأتي بجارية فبالت عليه، فأمر به فغسل (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). الدليل السابع: (1702 - 230) ما رواه أبو داود، من طريق يونس، عن الحسن، عن أمه، أنها أبصرت أم سلمة تصب الماء على بول الغلام ما لم يطعم فإذا طعم غسلته وكانت تغسل بول الجارية (¬3). [إسناده حسن] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الدليل الثامن
الدليل الثامن: (1703 - 231) ما رواه أحمد بن منيع في مسنده، قال: حدثنا ابن علية، ثنا عمارة بن أبي حفصة، عن أبي مجلز، عن حسن بن علي، أو أن حسين بن علي، قال: حدثتنا امرأة من أهلي، قالت: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستلقياً على ظهره يلاعب صبياً على صدره، إذ بال فقامت لتأخذه، وتضربه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: دعيه، إيتوني بكوز من ماء، فنضح الماء على البول حتى تفايض الماء على البول، فقال - صلى الله عليه وسلم -: هكذا يصنع بالبول، ينضح من الذكر، ويغسل من الأنثى (¬1). [رجاله ثقات إلا أن ابن معين يرى أن رواية أبي مجلز عن الحسن مرسلة] (¬2). اعتراض وجواب: ¬
اعترض الحنفية على هذا الاستدلال بقولهم: إن النضح الوارد في الحديث المقصود به الغسل، فإن النضح قد يطلق على الغسل. (1704 - 232) فقد روى مسلم في صحيحه، قال: عن علي بن أبي طالب أرسلنا المقداد بن الأسود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن المذي يخرج من الإنسان كيف يفعل به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: توضأ، وانضح فرجك (¬1). وقد رواه البخاري بلفظ: توضأ، واغسل ذكرك (¬2). وفي رواية لمسلم: " يغسل ذكره ويتوضأ " (¬3). فأطلق النضح على الغسل. وأجيب: لا إشكال في إطلاق النضح على الغسل وعلى الرش، وهو مشترك بينهما، وإذا جاءت قرينة تعين أن المراد من النضح الرش تعين، وامتنع حمله على الغسل، فلما قال في الحديث: ينضح بول الغلام، ويغسل بول الجارية، امتنع حمل النضح على الغسل، ولو حملنا على الغسل كان كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التفريق بين بول الغلام والجارية لغواً لا فائدة منه. قال ابن دقيق العيد: " ورد في بعض الأحاديث التفرقة بين بول الصبي والصبية، فإن الموجبين للغسل لا يفرقون بينهما، ولما فرق في الحديث بين النضح في الصبي والغسل في الصبية كان ذلك قوياً في النضح غير الغسل" (¬4). ¬
دليل من قال يكفي النضح فيهما
دليل من قال يكفي النضح فيهما: قالوا: إن حكمهما بعد أن يطعما واحد وهو الغسل، فكذلك حكمهما قبل أن يطعما واحد وهو الاكتفاء بالرش، وهذا القول من أضعف ما قيل في المسألة، فلم يأخذ بالعموم في وجوب غسل الأبوال كلها من غير فرق بين بول الصبي والجارية، ولم يأخذ بأحاديث الباب في استثناء بول الغلام الذي لم يأكل الطعام، فأخذ ببعض الأحاديث الواردة في الغلام قبل أن يطعم، وألغى نص هذه الأحاديث في التفريق بين الغلام والجارية. دليل ابن حزم على التفريق بين بول الذكر مطلقاً وبول الأنثى. لعله نظر إلى ظاهر الأحاديث، فوجد أن التفريق بين الغلام والجارية ثابت، والغلام في اللغة العربية الأصل فيه أنه يطلق على الصغير طعم أو لم يطعم، وقال الأزهري: سمعت العرب تقول للمولود حين يولد ذكراً غلام، وسمعتهم يقولون للكهل: غلام، وهو فاش في كلامهم (¬1). اهـ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالأحاديث المرفوعة لم تذكر قيد الإطعام. فهذا حديث أبي السمح قال: يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام. وحديث أم الفضل: إنما يغسل بول الجارية، ويصب على بول الغلام. فعموم الأحاديث القولية لم تشترط الإطعام. والأحاديث التي اشترطت عدم الإطعام إما موقوفة كما في أثر علي رضي الله عنه، وأثر أم سلمة، وابن حزم لا يحتج بقول الصحابي، وإما ضعيفة، وإما حكاية فعل لم يقصد فيها التقييد، كما في حديث أم قيس بنت ¬
محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام، فهذا بيان واقع، ولم يقصد تقييد الحكم الشرعي فيها، ولهذا ذهب ابن حزم إلى التفريق بين بول الذكر وبين بول الأنثى، فالذكر صغيراً كان أو كبيراً ينضح بوله، والأنثى يغسل. ويجاب على ابن حزم. أولاً: فهم الصحابة رضوان الله عليهم بأن المقصود بالغلام الذي لم يطعم حجة على فهم غيرهم، نظراً لقربهم من الوحي، وملازمتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهم أعلم الناس بمراد الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ثانياً: عندنا أحاديث عامة في وجوب التنزه من البول، ووجوب غسله، كحديث ابن عباس، وحديث بول الأعرابي في المسجد، وهو متفق عليه، وعندنا أحاديث تستثني من ذلك بول الصبي الذي لم يطعم، فيكفي في طهارته النضح، فيبقى الحكم خاصاً بها، ويبقي ما عداه على وجوب غسله، والخاص دائماً مقدم على العام، والله أعلم.
المبحث الثاني في تطهير المذي يصيب الثوب
المبحث الثاني في تطهير المذي يصيب الثوب علمنا كيفية تطهير المذي من البدن، وتبين أن الجمهور يرون وجوب غسله بالماء، على خلاف بينهم، هل يجب غسل رأس الحشفة من الذكر، أو يجب غسل الذكر كله، أو يجب غسل الذكر مع الأنثيين، واختلف العلماء في المذي يصيب الثوب، فقيل: لا بد من غسله، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، وقول في مذهب الحنابلة (¬4). وقيل: يكفي فيه النضح، وهو رواية عن أحمد، وأحد القولين للإمام إسحاق (¬5)، ورجحه ابن تيمية، وابن القيم (¬6). دليل من قال: يجب غسل المذي: (1705 - 233) ما رواه مسلم من طريق الأعمش، عن منذر بن يعلى ويكنى أبا يعلى، عن ابن الحنفية، ¬
دليل من قال: يكفي فيه النضح
عن علي قال: كنت رجلا مذاء، وكنت أستحيي أن أسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته، فأمرت المقداد بن الأسود، فسأله، فقال: يغسل ذكره ويتوضأ. ورواه البخاري بنحوه (¬1). والثوب مقيس على البدن، فإذا كان البدن يجب غسل المذي منه، فكذلك يجب في الثوب، والله أعلم. دليل من قال: يكفي فيه النضح. (1706 - 234) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن إسحاق، عن سعيد بن السباق، عن أبيه، عن سهل بن حنيف، قال: كنت ألقى من المذي شدة، فكنت أكثر الغسل منه، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنما يكفيك من ذلك الوضوء. قال: قلت: يا رسول الله فكيف ما يصيب ثوبي؟ قال: إنما يكفيك كف ماء تنضح به من ثوبك حيث ترى أنه أصاب (¬2). [سبق تخريجه] (¬3). وأجيب عن ذلك: بأن المراد بالنضح هو الغسل؛ لأن النضح لفظ مشترك بين الغسل وبين الرش، وإذا كان يجب غسل المذي من الذكر، وتَعَرُض الذكر للمذي أكثر من تعرض الثياب؛ لأنه يخرج أصلاً منه، ومع ذلك نص على غسله، فكذلك الثوب يجب فيه الغسل، لأن البلوى بالبدن أكثر منه بالثوب. ¬
الدليل على أن النضح يراد به الغسل
والدليل على أن النضح يراد به الغسل: (1707 - 235) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: عن علي بن أبي طالب أرسلنا المقداد بن الأسود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن المذي يخرج من الإنسان كيف يفعل به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: توضأ، وانضح فرجك (¬1). وقد رواه البخاري بلفظ: توضأ، واغسل ذكرك (¬2). وفي رواية لمسلم: " يغسل ذكره ويتوضأ " (¬3). فأطلق النضح على الغسل. (1708 - 236) وروى البخاري من طريق هشام، قال: حدثتني فاطمة عن أسماء، قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب، كيف تصنع. قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه، وتصلي فيه. ورواه مسلم (¬4). قال الحافظ: (تنضحه) قال الخطابي: أي تغسله. وقال القرطبي: المراد به الرش؛ لأن غسل الدم استفيد من قوله:"تقرصه بالماء ". وأما النضح فهو لما شكت فيه من الثوب. قال الحافظ: فعلى هذا فالضمير في قوله: تنضحه يعود على الثوب، بخلاف تحته فإنه يعود على الدم، فيلزم منه اختلاف الضمائر، وهو على خلاف الأصل، ثم إن الرش على المشكوك فيه لا يفيد شيئاً؛ لأنه إن كان ¬
الراجح
طاهراً فلا حاجة إليه، وإن كان متنجساً لم يطهر بذلك، فالأحسن ما قاله الخطابي (¬1). وقال ابن الأثير: قد يَرِد النضح بمعنى الغسل والإزالة، ومنه الحديث: نضح الدم عن جبينه (¬2). (1709 - 237) قلت: الحديث قد رواه مسلم من طريق الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه، قال: كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه، فهو ينضح الدم عن جبينه (¬3). قال السيوطي في شرحه للحديث: ينضح الدم بكسر الضاد أي يغسله ويزيله (¬4). الراجح: أن المذي يجب غسله، سواء كان على الثوب أو على البدن، ويكفي في غسله كف من ماء؛ لأن المذي عادة يكون يسيراً، فيكفيه الماء اليسير، ولفظ النضح مع كونه يراد به الغسل في اللغة، فهو من مفردات محمد بن إسحاق، فإن حملنا النضح على الغسل حسنا حديثه، حيث لم ينفرد بوجوب الغسل، ¬
فحديث علي في الصحيحين نص في وجوب الغسل، وإن حملنا النضح على الرش ضعفنا حديث محمد بن إسحاق؛ لأن الحديث إذا كان أصلاً في الباب، فلا نقبل ما ينفرد به الصدوق، وهذه قاعدة مهمة يغفل عنها بعض المتأخرين ممن له عناية بالتصحيح والتضعيف، وقد نبه عليها ابن رجب في كتابه العظيم شرح علل الترمذي، والله أعلم.
الفصل الثالث في كيفية تطهير النجاسة بغير الماء
الفصل الثالث في كيفية تطهير النجاسة بغير الماء المبحث الأول في التطهير بالمسح الفرع الأول في تطهير الأشياء الصقيلة كالسيف والمرآة والسكين بالمسح اختلف العلماء في تطهير الأشياء الصقيلة هل تطهر بالمسح، أم لا بد من غسلها؟ فقيل: يطهرها المسح مطلقاً، وهو مذهب الحنفية (¬1). وقيل: يعفى عن الشيء الصقيل من دم مباح إن خشي عليه الفساد، وهل يعفى عنه بدون مسح، أو بعد المسح؟ قولان في مذهب المالكية والمعتمد الأول (¬2). ¬
دليل من قال: المسح مطهر للأشياء الصقيلة
وقيل: لا يطهر المسح مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). دليل من قال: المسح مطهر للأشياء الصقيلة. الدليل الأول: أن أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقاتلون الكفار بسيوفهم، فيصيبها الدم، ومع ذلك يصلون، وهي معهم حاملون لها، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمرهم بغسلها، ولو كان غسلها واجباً لأمرهم به - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثاني: أن الأجسام الصقيلة ليس فيها مسام فلا تدخلها النجاسة، فإذا مسحت رجعت كما كانت قبل إصابتها للنجاسة، وهذا هو المطلوب في الطهارة. الدليل الثالث: أن النجاسة عين خبيثة، فمتى زالت فقد زال حكمها. ¬
دليل من قال: لا بد من غسلها
دليل من قال: لا بد من غسلها. يرى أصحاب هذا القول أن النجاسة لا تزال إلا بالماء المطلق، وقد نوقشت أدلته مع بيان الجواب عليها في بحث مستقل تحت عنوان: هل يتعين الماء لإزالة النجاسة؟ فارجع إليه غير مأمور.
الفرع الثاني في مسح البول والغائط بالحجارة
الفرع الثاني في مسح البول والغائط بالحجارة اختلف العلماء في جواز الاستجمار بالحجارة: فقيل: يجوز الاستجمار بالحجارة، ولو مع وجود الماء والقدرة عليه، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬1)، مع أن الحجر قد لا ينقي المحل، فلا بد أن يبقى به أثر لا يزيله إلا الماء، وهذا من تيسير الشريعة، ومن التخفيف الذي وضعه الله سبحانه وتعالى عن عباده، خاصة أن الإنسان قد يحتاج إلى قضاء حاجته في مكان لا يوجد فيه ماء، فكان من سعة الله على عباده أن يسر لهم إزالتها بأي مزيل من أجحار ونحوها. وقيل: لا يجوز الاستجمار بالحجارة إلا لمن عدم الماء، وادَّعى أن العمل بالاستجمار قد ترك العمل به، اختاره ابن حبيب من المالكية (¬2). ¬
وقد سبق ذكرنا أدلة كل قول، ومناقشتها وتبين أن الراجح منها جواز استعمال الحجارة في إزالة النجاسة، بل تجوز بكل مزيل، سواء كان مائعاً أو جامداً، فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً (¬1). ¬
الفرع الثالث في إزالة النجاسة بالمسح وهل هو مطهر حقيقة أو حكما
الفرع الثالث في إزالة النجاسة بالمسح وهل هو مطهر حقيقة أو حكماً معلوم أن الاستجمار - وهو إزالة للنجاسة بالمسح - يبقى بعده أثر لا يزيله إلا الماء، فهل الاستجمار والحالة هذه مطهر، أو أن المحل ييقى نجساً معفواً عنه، في هذا اختلف العلماء. فقيل: طهارة الاستجمار طهارة حكمية، أي يبيح للمسلم فعل الصلاة، وليس رافعاً للنجاسة، فالمحل نجس معفو عنه. وهذا مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، وقول في مذهب الحنفية (¬3)، الحنابلة (¬4). وقيل: الاستجمار طهارته طهارة حقيقية، وهو القول الثاني في مذهب الحنفية (¬5)، والحنابلة (¬6). ¬
الدليل على أن الاستنجاء مطهر
الدليل على أن الاستنجاء مطهر. (1710 - 238) ما رواه الدارقطني، من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب، نا سلمة بن رجاء، عن الحسن بن فرات القزاز، عن أبيه، عن أبي حازم الأشجعي، عن أبي هريرة، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يستنجى بروث أو عظم، وقال: إنهما لا يطهران (¬1). [إسناده ضعيف] (¬2). وجه الاستدلال: قوله: عن العظم والروث إنهما لا يطهران، معنى ذلك أن غيرهما مطهر مما يزيل النجاسة من حجر ونحوه، والله أعلم. الدليل الثاني: أن النجاسة تزال بأي مزيل، ولا يتعين الماء في إزالتها، فكيف زالت زال حكمها، وقد نوقشت هذه المسألة في باب مستقل، فإذا استنجى الإنسان، وأزال عين النجاسة فقد طهر المحل، والدليل على أن الماء لا يتعين في إزالة النجاسة: أحاديث كثيرة في تطهير ذيل المرأة بالتراب (¬3)، وتطهير النعل بدلكه في التراب (¬4)، فإذا كانت النعل تطهر بالتراب، وكان التراب لها طهوراً، وكان ¬
دليل من قال: إن الاستجمار غير مطهر
ذيل المرأة يطهره ما بعده من التراب الطيب، وكان الريق ربما طهر الثوب يصيبه شيء من دم الحيض (¬1)، فكذلك مكان البول والغائط يطهره الأحجار ونحوها، والله أعلم. دليل من قال: إن الاستجمار غير مطهر. قالوا: إن الأصل في إزالة النجاسة هو الماء - وقد ذكرنا الأدلة على هذا في مسألة مستقلة: تحت عنوان: هل يتعين الماء لإزالة النجاسة - ولكن لما كان البول والغائط يتكرران، وقد ينزلان بالإنسان وليس معه ماء خفف عنه في إزالتها، فاكتفي بالأحجار ونحوها عن الماء، ومعلوم أن الحجر لا يزيل النجاسة بالكلية، بل يبقى معه أثر لا يزيله إلا الماء، فهذا دليل على أن المحل نجس لبقاء جزء من النجاسة على المحل، وقد حكي الإجماع على أنه معفو عنه. قال ابن قدامة: وقد عفي عن النجاسات المغلظة لأجل محلها في ثلاثة مواضع: أحدها: محل الاستنجاء، فعفي فيه عن أثر الاستجمار بعد الإنقاء واستيفاء العدد بغير خلاف نعلمه (¬2). وكونه معفواً عنه دليل على أن الطهارة حكمية وليست حقيقية. الراجح من أقوال أهل العلم: أن الاستجمار مطهر، وتطهير كل نجاسة بحسبها، فتطهير مكان البول ¬
والغائط يكون بالحجارة، وذلك أن يرجع الحجر نظيفاً لا شيء عليه من النجاسة، وتطهير ذيل المرأة بمروره على تراب طاهر، وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: يطهره ما بعده، وتطهير النعل بدلكها في التراب، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: فإن التراب له طهور، ولا معنى لكلمة يطهره إلا أنه الطهارة الشرعية، وأما من حمله على الطهارة اللغوية - وهو النظافة - فلم يكن مصيباً؛ لأننا لا نحمله على الحقيقة اللغوية إلا إذا تعذر حمله على الحقيقة الشرعية، وهو هنا لم يتعذر، وقد سبق في بحث مستقل طهارة النعلين وذيل المرأة وذكر هناك خلاف العلماء فيهما، ورجحنا طهارتهما طهارة شرعية بما أرشد إليه الشارع من دلك النعل ومرور ذيل المرأة على مكان طاهر، والله أعلم.
الفرع الرابع في وجوب تكرار المسح في إزالة النجاسة
الفرع الرابع في وجوب تكرار المسح في إزالة النجاسة علمنا عند الكلام على كيفية التطهير بالماء: خلاف العلماء في وجوب العدد في إزالة النجاسة، وفي هذه المسألة نبحث وجوب العدد في التطهير بالمسح، فقد اختلف العلماء في وجوب العدد في إزالة النجاسة بالحجارة، فقيل: لا يجب العدد، بل المعتبر الإنقاء، فكيف حصل أجزأ، وهو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2). وقيل: لا بد من ثلاثة أحجار، فأكثر، وهو مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، واختيار ابن حزم (¬5). وقد ذكرت أدلة كل قول مع الراجح في كتاب أحكام الطهارة آداب الخلاء فأغنى عن إعادته هنا (¬6). ¬
المبحث الثاني في التطهير بالدلك
المبحث الثاني في التطهير بالدلك اختلف العلماء في التطهير بالدلك إلى أقوال: الأول: مذهب الحنفية: ذهب الحنفية إلى أن الدلك مطهر للنعل والخفاف خاصة، فلا يطهر بالدلك البدن مطلقاً، ولا يطهر الثوب بالدلك إلا في المني خاصة، ويشترطون أن تكون النجاسة لها جرم، فإن كانت بولاً لم يطهرها الدلك، ولا بد من الغسل، وهل يشترط في الجرم أن يكون جافاً؟. فيه قولان: أحدهما قول أبي حنيفة حيث ذهب إلى اشتراط أن يكون جرم النجاسة جافاً، فإن كان رطباً تعين الغسل. وذهب أبو يوسف إلى عدم اشتراط الجفاف (¬1). القول الثاني: مذهب المالكية: التفريق بين ذيل المرأة والنعل. فإذا أصاب الذيل نجاسة فإنه لا يطهرها إلا الماء، وحمل حديث أم سلمة على القشب اليابس يعلق بالثوب ثم ينظفه ما بعده، وليس هذا من باب تطهير النجاسة، وإنما هو من باب التنظيف (¬2). ¬
وأما في النعل والخفاف فإن الدلك يطهر النعل من أرواث الدواب وأبوالها فقط يابسة كانت أو رطبة، فإن كانت النجاسة من غير أرواث الدواب وأبوالها، فإنه لا يعفى عنه، ولا بد من غسله (¬1). وهل الدلك في هذه الحالة مطهر أو يقال: إنه معفو عنه للمشقة، رجح ابن جزي الأول، ورجح خليل في مختصره وشراحه الثاني (¬2). ¬
الثالث: مذهب الشافعية
القول الثالث: مذهب الشافعية: يجب غسل ذيل المرأة وأسفل الخف مطلقاً، وهو قول الشافعي في الجديد (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). ¬
وفي القديم للشافعي: التفريق بين ذيل المرأة والخف، فيغسل الأول ويعفى عن نجاسة تصيب أسف النعل بعد دلكها وهي يابسة (¬1). فتلخص لنا من هذا الخلاف أقوال: الأول: أن الدلك يطهر مطلقاً، في الرطب واليابس، في نعل المرأة وفي ذيلها. الثاني: أن الدلك لا يطهر مطلقاً. الثالث: أن الدلك يطهر النجاسة الجافة دون الرطبة. الرابع: أن الدلك يطهر الخف والنعل فقط دون ذيل المرأة. وبعض هذه الأقوال ذكرناها في الحاشية، ولم نذكرها في المتن؛ لأنها أقوال في بعض ¬
المذاهب ليست مشهورة، فلينتبه لهذا. وأما أدلة هذه المسألة فهي ترجع إلى مسألة بحثناها في فصل مستقل: وهي: هل يتعين الماء لإزالة النجاسة، أو أن النجاسة تزال بأي مزيل كان؟ فمن رأى أن النجاسة لا يزيلها إلا الماء المطلق منع إزالة النجاسة بالدلك، وأجاب عن حديث ذيل المرأة بما نقله ابن عبد البر في التمهيد، بأن المقصود به النجاسة اليابسة التي تعلق بالثوب، وهي نجاسة لا تتعدى، فالفرك يسقط النجاسة، والمحل لم يتنجس أصلاً، وقد نقلنا كلامه عند عرض الأقوال. واعترض على هذا التفسير: بأن القشب اليابس لا يعلق بالثوب، وأي شيء يبقى حتى يقول - صلى الله عليه وسلم -: يطهره ما بعده. وأجيب: بأن القشب قد يكون له غبار يعلق بالثوب، فإذا مر على ما بعده طهره (¬1). أو يقال: المراد يطهره الطهارة اللغوية، وليست الطهارة الشرعية (¬2). وهذا الجواب ليس بسديد؛ لأن غبار النجاسة ليس بنجس، ولم يقم دليل على أن الغبار منه ما هو طاهر ومنه ما هو نجس. وأما حمل اللفظ على الطهارة اللغوية: أي النظافة، فالطهارة إذا جاءت من الشارع فهي على حقيقتها الشرعية، فالأصل في كلام الشارع حمله على الحقيقة الشرعية حتى يمنع من ذلك مانع، ولم يوجد مانع يمنع من ذلك. ومن أجاز إزالة النجاسة بأي مزيل قالع للنجاسة أجاز إزالة النجاسة بالدلك. ¬
ومن اشترط أن تكون النجاسة يابسة: رأى أن هناك إجماعاً أن النجاسة الرطبة على الخف لا يكفي في تطهيرها الدلك، كما نقله النووي عن الخطابي ونقلناه عن النووي (¬1)، والحقيقة أن المسألة ليس فيها إجماع، والأحاديث مطلقة، تشمل الرطب واليابس، بل إن الحديث نص في الرطب. (1711 - 239) فقد روى أحمد، قال: ثنا أبو كامل، ثنا زهير ـ يعنى ابن معاوية ـ ثنا عبد الله بن عيسى، عن موسى بن عبد الله، قال: وكان رجل صدق، عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: قلت: يا رسول الله إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة فكيف نصنع إذا مطرنا؟ قال: أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ قالت: قلت: بلى قال: فهذه بهذه (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). ¬
ومن قيد النجاسة بأن تكون في أرواث الدواب وأبوالها خاصة نظر إلى أن هذا النوع من النجاسة يشق الاحتراز منه، ويكثر في الطرقات فعفي عنها، وخفف في طهارتها بخلاف غيرها من النجاسات. وما سبق ترجيحه هناك بأن النجاسة أياً كانت تزال بأي مزيل فهو الراجح هنا، والله أعلم. ¬
المبحث الثالث التطهير بالجفاف
المبحث الثالث التطهير بالجفاف إذا أصابت النجاسة أرضاً، فتركت حتى جفت، إما بفعل الشمس أو بفعل الريح أو بغيرهما، فذهبت عين النجاسة ولونها وريحها، فهل هذا كاف في طهارتها، أو لا بد من غسل النجاسة؟ فقيل: إن الجفاف يطهر الأرض في حق الصلاة فقط، ولا يجوز التيمم بها، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقيل: لا تطهر الأرض بالجفاف، بل لا بد من غسلها، وهذا مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، واختيار زفر من الحنفية (¬5). ¬
دليل من قال: إن النجاسة يطهرها الجفاف
وقيل: الجفاف مطهر مطلقاً، في حق الصلاة وفي حق التيمم وفي حق غيرهما، وهو رواية عن أحمد، نصرها ابن تيمية (¬1). دليل من قال: إن النجاسة يطهرها الجفاف: الدليل الأول: (1712 - 240) ما رواه البخاري في صحيحه، قال: وقال أحمد بن شبيب، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني حمزة بن عبد الله، عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك (¬2). استدل به أبو داود في السنن على أن الأرض تطهر إذا لاقتها النجاسة بالجفاف، لقوله " فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك " فإذا نفي الرش كان نفي صب الماء من باب الأولى، فلولا أن الجفاف يفيد تطهير الأرض ما تركوا ذلك الدليل الثاني: أن المطلوب زوال النجاسة، فإذا زالت فقد زال حكمها، والجفاف خاصة في البلاد الحارة يذهب بالنجاسة لوناً وطعماً وريحاً، وهذا هو عين المطلوب. الدليل الثالث: (1713 - 241) ما رواه ابن أبي شيبة من طريق إسماعيل الأزرق، عن ¬
دليل من قال: إن الجفاف غير مطهر
ابن الحنفية، قال: إذا جفت الأرض فقد زكت (¬1). [في إسناده إسماعيل بن سلمان الأزرق ضعيف] (¬2). دليل من قال: إن الجفاف غير مطهر: أدلة أصحاب هذا القول هي أدلتهم على أن النجاسة لا تزال إلا بالماء الطهور، وقد سبق ذكر أدلتهم والجواب عليها في مسألة: هل يتعين الماء لإزالة النجاسة؟ فانظرها مشكوراً هناك. فالراجح أن الجفاف مطهر بشرط أن يذهب معه أثر النجاسة. ¬
المبحث الرابع في التطهير بالاستحالة
المبحث الرابع في التطهير بالاستحالة قد تتحول العين النجسة إلى عين أخرى، سواء بفعل آدمي، أو بمرور الوقت، أو بغيرهما (¬1)، فإذا تغيرت هذه العين النجسة إلى عين طاهرة فهل ننظر إلى أصلها فنحكم لها بالنجاسة، أو ننظر إلى حالها الحادث، فنحكم لها بالطهارة؟. هذه المسألة محل خلاف بين العلماء، بعد اتفقاهم على طهارة الخمر إذا انقلب خلاً بنفسه على القول بنجاسة الخمر. واتفاقهم على طهارة الدم المنقلب إلى مسك، على القول بنجاسة الدم. ¬
دليل من قال: إن الاستحالة مطهرة
فقيل: إن الاستحالة مطهرة، وهو مذهب الحنفية (¬1)، ومذهب المالكية (¬2)، واختيار ابن حزم (¬3)، ورجحه ابن تيمية (¬4). وقيل: لا تأثير للاستحالة، وهو مذهب الشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6). دليل من قال: إن الاستحالة مطهرة. الدليل الأول: القياس على الخمرة تنقلب خلاً بذاتها، فقد أجمع العلماء على أن الخمر إذا تخللت من ذاتها حَلَّت وجاز تناولها بالإجماع، فكذلك سائر النجاسات إذا انقلبت إلى عين طاهرة صار لها حكم الطاهرات. قال ابن تيمية: إذا انقلبت الخمر خلا بغير قصد آدمي فإنها طاهرة حلال باتفاق الأئمة (¬7). ¬
الدليل الثاني
واعترض عليه: بأن هذا خاص بالخمرة، وذلك لأن نجاستها كانت عن طريق الاستحالة، فتكون طهارتها عن طريق الاستحالة، وأما غيرها من النجاسات فإنها نجسة العين ابتداء بدون استحالة. ورد عليهم: لا نسلم أن سائر النجاسات نجاستها ابتداء بدون استحالة، فهذا البول والغائط نجاسته عن طريق استحالة الطعام الطيب إلى خبيث، ومع ذلك تمنعون طهارته بالاستحالة، فما الفرق؟. وهذا الدم تقولون بنجاسته، وهو مستحيل من الطعام أيضاً، وهذا المني طاهر عند المالكية والحنابلة، وهو مستحيل من الدم النجس عند الأئمة الأربعة. الدليل الثاني: إذا كان الطعام الطيب إذا استحال إلى شيء خبيث كالبول والغائط أصبح له حكم البول والغائط من النجاسة، فكذلك الشيء النجس إذا استحال إلى طيب أعطي له حكم الطيب من الحل والطهارة. قال ابن حزم: ومن خالف هذا لزمه أن يحرم اللبن , لأنه دم استحال لبنا, وأن يحرم التمر والزرع المسقي بالعذرة والبول, ولزمه أن يبيح العذرة والبول, لأنهما طعام وماء حلالان، استحالا إلى اسم منصوص على تحريم المسمى به (¬1). ومعلوم أنه إذا استحال الشيء بالشيء حتى لا يرى له ظهور يحكم له بالعدم، وعلى هذا فلو وقعت قطرة من لبن امرأة في ماء، فاستهلكت فيه، ¬
الدليل الثالث
وشربه الرضيع خمس رضعات فأكثر، لم تنتشر الحرمة، ولو كانت قطرة خمر فاستهلكت في الماء البتة، لم يجلد بشربه، وهكذا، والاستهلاك بالشيء نوع من الاستحالة، ومع ذلك لم يعتبر الأصل بل اعتبر الحال. والفرق بين الأعيان الطاهرة والأعيان النجسة وجود صفات فيها، فإذا وجدت في الأعيان حكم لها بالطهارة أو بالنجاسة، فإذا لم توجد هذه الصفات التي تجعلنا نحكم للشيء بالنجاسة لم نحكم له بذلك. الدليل الثالث: (1714 - 242) ما رواه البخاري في صحيحه، قال: وقال أحمد بن شبيب، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني حمزة بن عبد الله، عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد، في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك (¬1). فهذا النوع من الطهارة، وهو ذهاب النجاسة عن طريق الشمس والريح استحالة للنجاسة بانقلابها إلى عين طاهرة. الدليل الرابع: (1715 - 243) ما رواه ابن أبي شيبة من طريق إسماعيل الأزرق، عن ابن الحنفية، قال: إذا جفت الأرض فقد زكت (¬2). [ضعيف وقد سبق تخريجه في المسألة التي قبل هذه]. ¬
الدليل الخامس
الدليل الخامس: قالو: إن المسلم قد يبتلى بشرب الخمر، والكافر يشربه ويأكل الخنزير، ولا يكون ظاهرهما نجساً؛ إذ لو تنجسا ما طهرهما الاغتسال، ويلزم من قولهم: إن الاستحالة مؤثرة أن تكون الحيوانات نجسة؛ لأنها متولدة من المني، والمني من الدم، والدم عندهم نجس. دليل من قال: إن الاستحالة غير مطهرة: الدليل الأول: (1716 - 244) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى، عن هشام، حدثنا قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبن شاة الجلالة، وعن المجثمة، وعن الشرب من في السقاء (¬1). [إسناده صحيح] (¬2). وأجيب بعدة أجوبة: الأول: بأننا إذا عرفنا الجلالة على القول الصحيح بأنها: هي الدابة التي ظهر فيها أثر النجاسة من ريح ونتن، وهو قول في مذهب الحنفية (¬3)، ¬
ومذهب الشافعية (¬1). ففي الحالة التي يظهر فيها أثر للنجاسة دليل على تغير الطاهر بالنجاسة، فإذا كان الماء الذي خلق طهوراً، ومنه تطهر الأعيان النجسة إذا تغير بالنجاسة حكمنا له بالنجاسة، فما بالك بغير الماء، فلا يكون في هذا دليل على أن الاستحالة غير مؤثرة، فإذا أكل الحيوان النجاسة ولم يظهر فيه نتنها نحكم لها بالطهارة؛ لأن النجاسة استحالت واستهلكت في العين الطاهرة، كما حكمنا للماء إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره بأنه طهور. (1717 - 245) ثانياً: روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عمرو بن ميمون، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثاً (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). ¬
الدليل الثاني
وهذا أحسن ما ورد في حبس الجلالة، فهذا دليل على أن الجلالة التي نهي عنها لتناولها النجاسة قد طهرت بالاستحالة، وذلك بحبسها فلما زال أثر النتن عن لحمها أصبحت طاهرة حلالاً بدون غسل النجاسة، وإنما عن طريق الاستحالة أيضاً. الجواب الثالث: قيل: إن النهي للكراهة، وهو ما سبق ترجيحه في الخلاف في حكم الجلالة. الجواب الرابع: قيل: إن تحريم الأكل لا يعني النجاسة، فليس كل محرم نجساً. وهذا الجواب لعله من أضعفها، فإن النهي إنما هو بسبب النجاسة لا غير. الدليل الثاني: (1718 - 246) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال حدثنا همام، أخبرنا إسحاق، عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى أعرابياً يبول في المسجد، فقال: دعوه حتى إذا فرغ دعا بماء فصبه عليه، ورواه مسلم (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بادر إلى صب الماء على النجاسة، ولو كانت الاستحالة تطهره أو تطهره الشمس أو الريح أو الجفاف لتركه عليه الصلاة والسلام، ولما أمر بصب الماء عليه. ¬
الراجح من أقوال أهل العلم
ويجاب عن هذا: بأن حديث الأعرابي مجرد فعل من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، نعم فيه دليل على استحباب المبادرة إلى إزالة النجاسة؛ لأن الماء معلوم بأنه أسرع في إزالة النجاسة من الاستحالة؛ لأن الاستحالة ربما احتاجت إلى وقت طويل كي تتحول فيه النجاسة إلى عين طاهرة؛ ولأن بقاع المساجد أحب البقاع إلى الله تعالى، وأطهرها، فيجب أن تكون هذه البقاع أطهر ما يكون وعلى أتم الاستعداد لأداء العبادة فيها بين لحظة وأخرى لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، فالماء هو أسرع وسيلة في تطهير النجاسة وإزالتها، فمن أجل ذلك بادر بصب الماء عليها، وهذا لا يعني عدم زوال النجاسة بالجفاف، والله أعلم. الراجح من أقوال أهل العلم: الراجح أن الاستحالة مؤثرة سواء في انقلاب العين الطاهرة إلى نجسة أو العكس. قال ابن القيم: على هذا الأصل فطهارة الخمر بالاستحالة على وفق القياس؛ فإنها نجاسة لوصف الخبث، فإذا زال الموجِب زال الموجَب، وهذا أصل الشريعة في مصادرها ومواردها، بل وأصل الثواب والعقاب، وعلى هذا فالقياس الصحيح تعدية ذلك إلى سائر النجاسات إذا استحالت، وقد نَبَشَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قبور المشركين من موضع مسجده، ولم ينقل التراب، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن اللبن أنه يخرج من بين فرث ودم، وقد أجمع المسلمون على أن الدابة إذا علفت بالنجاسة، ثم حبست وعلفت بالطاهرات حَّلَ لبنها ولحمها، وكذلك الزرع والثمار إذا سقيت بالماء النجس، ثم سقيت بالطاهر
حَلَّت؛ لاستحالة وصف الخبث وتبدله بالطيب، وعكس هذا أن الطيِّب إذا استحال إلى خبيث صار نجساً، كالماء والطعام إذا استحال بولاً وعذرة، فكيف أثرت الاستحالة في انقلاب الطيب خبيثاً، ولم تؤثر في انقلاب الخبيث طيباً؟ والله تعالى يخرج الطيب من الخبيث والخبيث من الطيب، ولا عبرة بالأصل، بل بوصف الشيء في نفسه (¬1). وقال ابن تيمية: ولا ينبغي أن يعبر عن ذلك بأن النجاسة طهرت بالاستحالة، فإن نفس النجس لم يطهر بل استحال، وهذا الطاهر ليس هو ذلك النجس، وإن كان مستحيلاً منه، والمادة واحدة، كما أن الماء ليس هو الزرع والهواء والحب، وتراب المقبرة ليس هو الميت، والإنسان ليس هو المني، والله تعالى يخلق أجسام العالم بعضها من بعض، ويحيل بعضها إلى بعض، وهي تبدل مع الحقائق، ليس هذا هذا (¬2). ¬
الفصل الرابع في كيفية تطهير المائع المتنجس
الفصل الرابع في كيفية تطهير المائع المتنجس المبحث الأول في كيفية تطهير الماء المتنجس اختلف العلماء في كيفية تطهير الماء، وقبل أن أذكر خلافهم ينبغي أن نعلم هل نجاسة الماء نجاسة عينية أو نجاسة حكمية؟ الصحيح أن نجاسة الماء حكمية، فهو كالثوب النجس؛ لأنه يطهر غيره فنفسه من باب أولى، وهذا مذهب الجمهور، كما سيأتي التفصيل عنهم في كيفية تطهير الماء المتنجس، وهو اختيار ابن تيمية (¬1)، وصوبه فى الإنصاف (¬2). وقيل: إن نجاسته نجاسة عينية. قال ابن مفلح فى الفروع: وهو ظاهر كلام الأصحاب، وتعقبه المرداوي في تصحيح الفروع (¬3). وفي قوله: إنها عينيه نظر، لأن الحنابلة قالوا: النجاسة العينية لايمكن تطهيرها، وهذا يمكن تطهيره (¬4). ¬
وقيل: نجاسته نجاسة مجاورة سريعة الإزالة، ولهذا يجوز بيعه (¬1). وقد ذهب أهل العلم في عصرنا كالمجمع الفقهي في رابطة العالم الإسلام إلى تطهير مياه المجاري إذا عولجت بالطرق الحديثة، وزال تغيرها بالنجاسة عن طريق الترشيح والتقطير، وتحولت بذلك إلى مياه عذبة، فلا مانع من استعمالها في الشرب وغيره، وسوف أنقل لكم نص قرار المجمع عند الكلام على كلام أهل العلم في كيفية تطهير المتنجس، وممكن أن نقسم لكم الكلام في تطهير الماء المتنجس إلى فروع. ¬
الفرع الأول أن يزول تغير الماء الكثير بنفسه
الفرع الأول أن يزول تغير الماء الكثير بنفسه إذا زال تغير الماء بنفسه فإما أن يكون كثيراً وإما أن يكون قليلاً، على خلاف بين أهل العلم في حد القليل والكثير (¬1). ¬
فإن كان كثيراً وزال تغيره بنفسه، فقيل: إن الماء يتحول إلى طهور، وهو مذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: إنه نجس، وهو قول في مذهب المالكية (¬4)، وقول في مذهب ¬
دليل من قال: إن الماء يتحول إلى طهور
الحنابلة (¬1). وقيل: إنه طاهر، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬2). دليل من قال: إن الماء يتحول إلى طهور: الدليل الأول: قالوا: إن الحكم بالنجاسة إنما هو لأجل التغير بالنجاسة، وقد زالت النجاسة، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. الدليل الثاني: إذا كان الخمر إذا تحول بنفسه إلى خل أصبح طاهراً، فكذلك الماء من باب أولى؛ لأن الماء أصلاً خلق طهوراً مطهراً، بخلاف الخمر. دليل من قال: إنه نجس: الدليل الأول: قالوا: الأصل في إزالة النجاسة هو الماء المطلق (الماء الطهور) وهذا ما لم يحصل هنا، فيبقى نجساً، ولو زال تغيره بالنجاسة. الدليل الثاني: إذا زال تغير الماء النجس فإنما طهر عن طريق الاستحالة، والاستحالة عندنا غير مطهرة. ¬
دليل من قال: يكون الماء طاهرا غير مطهر
وقد سبق بحث مستقل في طهارة الأعيان النجسة بالاستحالة، مع ذكر حجج الفريقين، فارجع إليها غير مأمور. دليل من قال: يكون الماء طاهراً غير مطهر: قالوا: لا يكون مثل هذا الماء طهوراً، وقد زالت به النجاسة، ولا يكون نجساً، وهو ماء كثير غير متغير، قاسوه على الماء القليل إذا كان آخر غسلة زالت بها النجاسة عندهم، فإنه عندهم يكون طاهراً غير مطهر. وقد ترجح في بحث سابق أن الماء قسمان: طهور ونجس، ولا يوجد قسم من المياه يكون طاهراً غير مطهر (¬1). الراجح: أن الماء إذا زال تغيره بنفسه فإنه يكون طاهراً مطهراً، وإنما حكم عليه بالنجاسة لتغيره بها، وقد زال عنه هذا الوصف، فرجع إلى أصله. هذا خلاف أهل العلم في الماء الكثير إذا زال تغيره بنفسه، وهل يختلف الحكم إذا كان الماء المتغير بنفسه قليلاً؟ الجواب: اختلف أهل العلم في الماء النجس القليل إذا زال تغيره بنفسه: فقيل: إذا وقعت في الأواني أو في الحوض الصغير نجاسة، فلهم في تطهير الماء بشرط زوال تغيره إن وجد ثلاثة أقوال: فقيل: إذا دخل فيه ماء آخر، وخرج الماء منه طهر، وإن قل إذا كان الخروج حال دخول الماء فيه؛ لأنه بمنزلة الجاري. وقيل: لا يطهر إلا بخروج ما فيه. وقيل: لا يطهر إلا بخروج ثلاثة أمثال ما كان فيه من الماء، وسائر ¬
المائعات كالماء في القلة والكثرة، وهذا مذهب الحنفية (¬1). تعليل الحنفية: أن الماء النجس إذا دخل فيه ماء آخر، وخرج الماء منه، وكان خروج الماء حال دخول الماء الجديد فيه؛ أصبح بمنزلة الماء الجاري، والماء الجاري لا ينجس إلا بالتغير. وقيل: إنه لا يمكن أن يطهر بنفسه، وهو قليل، وهو مذهب المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). لأن الماء القليل عند الشافعية والحنابلة ينجس مطلقاً إذا لاقى النجاسة ولو لم يتغير، فزوال النجاسة إنما هو شرط في تطهير الماء الكثير، وأما الماء القليل فإنه ينجس بمجرد ملاقاته للنجاسة. ويستدلون بأدلة أشهرها: (1719 - 247) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله، عن ابن عمر، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء يكون بأرض الفلاة ¬
وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث (¬1). [إسناده صحيح إن شاء الله] (¬2). وجه الاستدلال بالحديث من وجهين: الوجه الأول: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، مفهومه أنه إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث. الوجه الثاني: لو كان الماء لا ينجس إلا بالتغير لم يكن للتحديد بالقلتين فائدة؛ لأن الماء إذا تغير بالنجاسة نجس، ولو كان مائة قلة. الدليل الثاني: (1720 - 148) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، قال: أخبرنا أبو الزناد، أن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج حدثه، أنه سمع أبا هريرة، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه. ولمسلم: ثم يغتسل منه (¬3). وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن البول في الماء الدائم، وقد يتغير، وقد لا يتغير، ونهيه عن الاغتسال فيه دليل على أنه يؤثر فيه البول، ولم يشترط الرسول - صلى الله عليه وسلم - التغير. ¬
الدليل الثالث: (1721 - 249) ما رواه مسلم، قال: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب. (1722 - 250) ورواه مسلم من طريق علي بن مسهر، عن الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه، ثم ليغسله سبع مرار (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب، وجعله طهارة لهذا الإناء، كما أمر بإراقة سؤره، ولم يفرق بين ما تغير وما لم يتغير، وهذا دليل على أن النجاسة تؤثر في الماء ولو لم يتغير الماء. وإذا كان الماء القليل يحكم له بالنجاسة ولو لم يتغير لم يكن زوال تغيره بنفسه مؤثراً في طهارته. والصحيح أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، وقد سبق الكلام على هذه المسألة في بحث مستقل، وذكرت أدلة الأقوال في كتاب أحكام الطهارة، فأغنى عن إعادته هنا. ¬
الفرع الثاني أن يزول تغير الماء بإضافة ماء آخر عليه
الفرع الثاني أن يزول تغير الماء بإضافة ماء آخر عليه إذا زال تغير الماء النجس بإضافة ماء آخر، فهل يطهر؟ اختلف العلماء في ذلك، القول الأول: مذهب المالكية: ذهب المالكية إلى أن الماء يطهر مطلقاً بإضافة ماء آخر عليه، ولا يشترط أن يكون الماء المضاف قلتين، وإنما يشترط أن يزول تغيره بنفسه، وأن يكون الماء المضاف ماء مطلقاً: أي ليس ماء نجساً، ولا ماء طاهراً غير مطهر. وهذا مذهب المالكية (¬1). القول الثاني: مذهب الشافعية: قالوا: إن كان الماء قلتين فأكثر فإنه يطهر بإضافة ماء آخر عليه، سواء كان المضاف طاهراً أم نجساً، قليلاً أم كثيراً، صب عليه الماء أو نبع فيه، فإذا زال تغيره طهر. وإن كان الماء دون القلتين فيكون تطهيره بأن يزول تغيره بإضافة ماء آخر عليه حتى يبلغ قلتين، حتى ولو كان المضاف نجساً، ما دام أنه إذا بلغ الماء قلتين فقد زال تغيره، فإنه يطهر. وأما إذا أضيف إليه ماء دون القلتين، ففيه وجهان عندهم: الأول: يكون طاهراً غير مطهر. ¬
القول الثالث: مذهب الحنابلة
لماذا كان طاهراً، وقد لاقى النجاسة، وهو قليل؟ قالوا: لأن الماء القليل إنما ينجس بالنجاسة إذا وردت عليه، أما إذا ورد الماء على النجاسة كما هو الحال هنا فلا ينجس. ولماذا إذاً لا يكون طهوراً؟ قالوا: لأنه ماء استعمل فى إزالة النجاسة. الوجه الثاني: قالوا لا يطهر، لأنه ماء استعمل في إزالة النجاسة، فيبقى نجساً (¬1). القول الثالث: مذهب الحنابلة. أن يكون الماء دون القلتين، وفي هذه الحال إما أن تكون نجاسته بالتغير، أو بالملاقاة ولو لم يتغير. فيشترط لتطهير الماء المتنجس بالملاقاة شرط واحد، هو أن تضيف إليه قلتين من الماء الطهور، وبالتالي يصبح طهوراً فإن أضفت إليه دون القلتين لم يطهر. التعليل: لأن الماء القليل لا يدفع النجاسة عن نفسه، فكيف يدفعها عن غيره؟ لقوله - صلى الله عليه وسلم - فى حديث ابن عمر: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث (¬2). لوقال قائل: لنفرض أن الماء المتنجس بالملاقاة قلة واحدة، فأضفت إليها قلة أخرى، حتى أصبح الماء قلتين، فهل يطهر؟. أكثر الأصحاب على أنه لا يطهر، وهو المشهور من المذهب، وحكى بعضهم وجهاً بالتطهير، وصوبه صاحب الإنصاف. ¬
وإن كانت نجاسة الماء القليل أو الكثير بالتغير ففي هذه الحالة تضيف إليه قلتين من الماء الطهور، ثم تنظر هل زال التغير أم بقي؟ فإن زال فقد طهر، وإن لم يزل فإنك تضيف إليه حتى يذهب تغيره. أما إذا أضفت إليه دون القلتين فإن الماء يكون نجساً، حتى ولو زال تغيره، وهذا هو المذهب. وقيل: إنه يكون طهوراً حتى على قواعد المذهب، أو القائلين بالنجاسة ولو لم يتغير، قالوا: لأن الماء إنما ينجس بالنجاسة إذا كانت واردة عليه وهنا قد ورد الماء على النجاسة. ولو قلنا بنجاسة الماء هنا لقلنا بنجاسة الماء إذا صب على ثوب نجس، إلا أن يكون قلتين، ولما كان الدلو مطهراً لبول الأعرابي، لأنه بالتأكيد ليس قلتين ولا حتى قلة، بل إن هذا أولى من تطهير الخمر القليل الذي استحال إلى خل فطهر. وهذه الطريقة في تطهير الماء عند الحنابلة رحمهم الله إذا كان تنجيس الماء بالتغير، سواء كان قليلاً أم كثيراً، ما لم تكن النجاسة بول آدمي أو عذرته المائعة، فإن كانت النجاسة بول آدمي أو عذرته المائعة وكانت النجاسة لم تغير الماء، وكان لا يشق نزحه، فإن تطهيره بإضافة ما يشق نزحه، فيطهر بذلك. وإن كانت نجاسة الماء بالتغير، فإنه يضيف إليه ما يشق نزحه، بشرط زوال التغير، فإن زالت فقد طهر، وإلا فيضيف إليه حتى يزول أثر النجاسة (¬1). ¬
وهذا التفريق بين نجاسة بول الآدمي وعذرته المائعة، وبين غيرها من النجاسات من المسائل التي انفرد بها المذهب الحنبلي. تلخص لنا مما سبق: أن التطهير بالإضافة عند العلماء يشترط له شروط: الأول: أن يكون الماء المضاف طهوراً، وهذا شرط عند المالكية، والحنابلة، وليس بشرط عند الشافعية، إذ لا مانع أن تضيف عندهم ماء نجساً إذا كان بإضافته سوف يزول تغير الماء بالنجاسة. الثاني: أن يكون المضاف كثيراً - قلتان فأكثر - وهذا شرط للحنابلة، وليس بشرط عند المالكية، والشافعية. الثالث: أن يبلغ الماء قلتين بعد الإضافة، وليس بشرط عند المالكية، وأما الحنابلة فلا يكفي هذا عندهم؛ لأنهم يشترطون أن يكون المضاف نفسه قلتين. والراجح أن الماء إذا زال تغيره بإضافة ماء عليه طهر، سواء كان المضاف قليلاً أم كثيراً، وسواء كان طهوراً أم نجساً، ما دام أنه قد زال تغيره بعد الإضافة، لأن الحكم عليه بالنجاسة إنما كان من أجل تغيره بالنجاسة، وقد زال، فيرجع إلى أصله، وهو أن الماء طهور. وقد ذكرنا أن المجمع الفقهي الإسلامي رجح طهارة مياه المجاري إذا عولجت وذهب تغيرها بالنجاسة، وهذا أوان الوفاء بما وعدنا به من نقل نص القرار، يقول القرار: صدر قرار من مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشرة، المنعقدة في مكة المكرمة يوم الأحد 13 رجب 1409 هـ منه: " وبعد مراجعة المختصين بالتنقية بالطرق الكيماوية وما قرروه من أن التنقية تتم بإزالة النجاسة منه على مراحل: وهي الترسيب
والتهوية وقتل الجراثيم وتعقيمه بالكلور، بحيث لا يبقى للنجاسة أثر في طعمه ولونه وريحه، وهم مسلمون عدول موثوق بصدقهم وأمانتهم، قرر المجمع ما يأتي: أن ماء المجاري إذا نقي بالطرق المذكورة أو ما يماثلها ولم يبق للنجاسة أثر في طعمه ولا في لونه ولا في ريحه، صار طهوراً، يجوز رفع الحدث وإزالة النجاسة به، بناء على القاعدة الفقهية التي تقرر أن الماء الكثير الذي وقعت فيه نجاسة يطهر بزوال هذه النجاسة منه إذا لم يبق لها أثر فيه، والله أعلم. اهـ
الفرع الثالث أن يزول تغير الماء النجس بإضافة تراب أو طين
الفرع الثالث أن يزول تغير الماء النجس بإضافة تراب أو طين اختلف العلماء في حكم الماء النجس يضاف إليه التراب أو الطين فيزول تغيره، هل يطهر بذلك؟ فقيل: يطهر بشرط أن لا يتغير الماء بالتراب والطين، وهذا مذهب المالكية (¬1)، وعليه أكثر الشافعية (¬2). وقيل: إذا زالت النجاسة طهر مطلقاً، سواء كان الماء كدراً بما ألقي فيه، أو كان صافياً، وهو قول في مذهب الشافعية (¬3)، واختاره ابن عقيل من الحنابلة (¬4). وقيل: لا يطهر مطلقاً، أي سواء تكدر بما ألقي فيه أم لا، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬5). دليل من قال: إن الماء يطهر بإضافة التراب مطلقاً: الدليل الأول: قال: إن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وإذا كنا حكمنا له ¬
الدليل الثاني
بالنجاسة لأنه متغير بها، فنحكم له بالطهارة إذا زالت هذه النجاسة. الدليل الثاني: إن النجاسة تزال بأي مزيل كان، سواء عن طريق إضافة ماء أو نزحه أو إضافة تراب أو غيره، ولا يتعين الماء لإزالة النجاسة، وقد قدمنا قرار مجمع الفقه الإسلامي أن المعالجة الكيمائية عن طريق التقطير والترشيح والتعقيم مطهر للماء النجس إذا زال تغيره بالنجاسة. الدليل الثالث: أن التراب أحد الطهورين، فهو يطهر النعل كما تقدم، ويطهر ذيل المرأة، ويطهر الأواني من ولوغ الكلاب بإضافته إلى الماء، ويطهر التراب أيضاً مكان البول والغائط، بل إن التراب خاصة يرفع الحدث عند فقد الماء، كما يرفع الخبث، فإذا زال تغير الماء النجس بسبب التراب فقد طهر. ولا يخفى قوة هذا التعليل في تطهير التراب للنجاسة الواقعة في الماء وغيره. دليل من قال: إن التراب لا يطهر مطلقاً: هذا القول يرى أن النجاسة لا تزال إلا بالماء المطلق، وقد تقدمت أدلته كاملة والجواب عنها في بحث: هل يتعين الماء لإزالة النجاسة، وترجح هناك أن النجاسة تزال بأي مزيل كان. دليل من اشترط أن لا يتكدر الماء بالتراب: قالوا: مع تكدر الماء بالتراب لا نستطيع أن نجزم بأن النجاسة قد زالت، فقد تكون اختفت بسبب التكدر، ولو كان الماء صافياً لأمكن الجزم ببقاء
الراجح من الأقوال
النجاسة أو زوالها، وما دام أننا لا نستطيع أن نجزم بذهاب النجاسة، فالأصل بقاء النجاسة، استصحاباً للحال، والله أعلم. الراجح من الأقوال: هو القول بأن إضافة التراب تطهر مطلقاً بشرط زوال النجاسة، وكما عُلِلَ سابقاً: بأن بقاء النجاسة سبب في الحكم للماء بالنجاسة، وذهابها بأي طريقة كانت سبب بالحكم له بالطهارة، وأن النجاسة تزال بأي مزيل كان، والله أعلم.
الفرع الرابع أن يزول تغير الماء النجس عن طريق النزح
الفرع الرابع أن يزول تغير الماء النجس عن طريق النزح اختلف العلماء في تطهير الماء عن طريق نزح النجاسة أو نزح بعض الماء حتى يزول التغير، فهل مثل هذا النزح يطهر الماء أو لا؟. فالحنفية يفرقون بين هذه المسألة وبين المسائل التي قبلها، وذلك لأن النزح غالباً ما يكون لماء البئر، ومسائل البئر عندهم على خلاف القياس، بينما الجمهور يطردون قواعدهم السابقة بين الماء الكثير والماء القليل، وحين كان التفصيل في مذهب الحنفية متشعباً أحببت أن أفصل كل مذهب وأدلته قبل الانتقال إلى القول الثاني، وهكذا. القول الأول: مذهب الحنفية: يختلف الحكم عند الحنفية باختلاف البئر، وباختلاف حجم الحيوان، وهل أخرج الحيوان من البئر ميتاً أو حياً، فيمكن لنا نقسيم البئر إلى ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يكون البئر ليس معيناً - أي ليس في داخلها عين تنبع - والحيوان قد مات في البئر أو وقع فيه ميتاً، وكان الحيوان لم ينتفخ ولم يتفسخ، فالحكم على النحو التالي: الأول: أن يكون الحيوان بحجم الفأرة والعصفور، فينزح منه عشرون دلواً. ويستدلون لذلك بما يروى عن أنس أنه قال في الفأرة إذا ماتت في البئر، وأخرجت من ساعتها ينزح منها عشرون دلواً. [ولم أقف عليه] (¬1). ¬
الثاني: - أن يكون الحيوان بحجم الدجاجة والسنور، فينزح منها أربعون دلواً إلى خمسين. (1723 - 251) ويستدلون لذلك بما يروى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: في الدجاجة إذا ماتت في البئر ينزح منها أربعون دلواً. [ولم أقف عليه] (¬1). الثالث: أن تكون النجاسة بحجم الشاة، أو تكون آدمياً، أو كلباً، فإنه ينزح ماء البئر كله. ويستدلون بأدلة منها: (1724 - 252) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، عن منصور، عن عطاء أن حبشياً وقع في زمزم، فمات، قال: فأمر ابن الزبير أن ينزف ماء زمزم، قال: فجعل الماء لا ينقطع، قال: فنظروا فإذا عين تنبع من قبل الحجر الأسود، قال: فقال ابن الزبير: حسبكم (¬2). [إسناده صحيح] (¬3). الدليل الثالث: (1725 - 253) ما رواه ابن أبي شيبة، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، ¬
عن ابن عباس أن زنجياً وقع في ماء زمزم، فأنزل إليه رجلاً فأخرجه، ثم قال: انزفوا ما فيها من ماء، ثم قال للذي في البئر: ضع دلوك من قبل العين التي تلي البيت أو الركن؛ فإنها من عيون الجنة (¬1). [قتادة لم يسمع من ابن عباس] (¬2). الدليل الرابع: (1726 - 254) ما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار من طريق جابر، عن أبي الطفيل، قال: وقع غلام في ماء زمزم، فنزفت أي نزح ماؤها (¬3). [إسناده ضعيف جداً] (¬4). الحالة الثانية: أن يكون البئر ليس مَعِيناً، والنجاسة لا جرم لها، كالبول وكالدابة تتفسخ بعد سقوطها، فهذا يجب نزح البئر كله. الحالة الثالثة: أن يخرج الحيوان حياً، وليس ميتاً، فينظر: فإن كان الحيوان خنزيراً فإن البئر تنزح كلها قولاً واحداً في مذهب الحنفية. ¬
وإن كان الحيوان كلباً، ففيه خلاف مبني على اختلافهم في نجاسة عين الكلب، وقد تقدم تحرير مذهبهم. وإن كان الحيوان غيرهما، فإن النزح يتوقف على حكم سؤره، فإن كان سؤره نجساً كالسباع، فإن البئر تنزح كلها، وإن كان سؤره مكروهاً استحب النزح، ويلحق به ما كان سؤره مشكوكاً فيه. على خلاف بينهم في القدر المستحب نزحه، فمن قائل باستحباب نزح البئر كلها، ومنهم من قدره بعدد من الدلاء. وأما الحيوانات التي سؤرها ليس بنجس، فإن كان عليها نجاسة حقيقية نزح البئر كله، وأما إن كان الحيوان ليس بنجس فلا ينزح البئر، إلا أنه يستحب أن ينزح من وقوع البقر والغنم؛ لعدم خلو أفخاذها وأرجلها من النجاسة. الحالة الرابعة: أن يكون البئر معيناً، كلما نزح منها دلو جاء مكانه آخر، فإذا وقعت فيه نجاسة فقد اختلفوا في مقدار ما ينزح منه، فقيل: ينزح منها مائتا دلو، وهو رواية عن محمد بن الحسن. وقيل: ينزح منها مائة دلو، وهو رواية عن أبي حنيفة. وقيل: ينزح منها حتى يغلبهم الماء، ولم يقدِّر حداً للغلبة. وأجيب عن هذا بعدة أجوبة. الجواب الأول: هناك من يضعف قصة وقوع الزنجي في بئر زمزم، وإلى هذا ذهب الشافعي وسفيان بن عيينة رحمه الله والنووي وغيرهم.
فقد روى البيهقي بإسناده عن سفيان قوله: أنا بمكة منذ سبعين سنة، لم أر أحداً صغيراً ولا كبيراً يعرف حديث الزنجي الذي قالوا: إنه مات في زمزم، وما سمعت أحداً يقول: ينزح زمزم (¬1). قال النووي: فهذا سفيان كبير أهل مكة، قد لقي خلائق من أصحاب ابن عباس وسمعهم , فكيف يتوهم بعد هذا صحة هذه القضية التي من شأنها إذا وقعت أن تشيع في الناس لا سيما أهل مكة، ولا سيما أصحاب ابن عباس وحاضروها؟ وكيف يصل هذا إلى أهل الكوفة ويجهله أهل مكة؟ (¬2). وقال أيضاً: إن هذا الذي زعموه باطل لا أصل له , قال الشافعي: لقيت جماعة من شيوخ مكة فسألتهم عن هذا، فقالوا: ما سمعنا هذا (¬3). ورد هذا الاعتراض: بأنه لا يلزم من عدم سماع سفيان لهذا الخبر عدم وقوعه، ثم إن الرواي مثبت، وسفيان نافٍ، والمثبت مقدَّم على النافي، خاصة إذا كان النافي لم يشهد الأمر الذي نفاه، ولم يعاصره، ولا يشترط لقبول الحديث أن يكون راويه من أهل مكة، وقد انتشر الصحابة في الأمصار، فما يبعد أن ينفرد أهل الكوفة أو غيرهم عن مدني أو مكي، والله أعلم. الجواب الثاني: هذه الآثار إن صحت فهي موقوفة على صحابي، وفعل الصحابي حجة إذا لم يخالف المرفوع، وهنا قد خالف السنة المرفوعة، ¬
(1727 - 255) فقد روى أحمد، قال: حدثنا أبو أسامة، حدثنا الوليد ابن كثير، عن محمد بن كعب، عن عبيد الله بن عبد الله - وقال أبو أسامة مرة: عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع بن خديج - عن أبي سعيد الخدري، قال: قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض، والنتن، ولحوم الكلاب؟ قال: إن الماء طهور لا ينجسه شيء (¬1). [حديث صحيح بشواهده] (¬2) (1728 - 256) وروى أحمد، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الماء لا ينجسه شيء " (¬3). [سبق تخريجه] (¬4). الجواب الثالث: أن فعل ابن عباس بالأمر بنزح البئر على التسليم بصحته عنه معارض بما صح عن ابن عباس نفسه، (1729 - 257) فقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس: لا تنجسوا موتاكم؛ فإن المؤمن ليس بنجس حياً ولا ميتاً (¬5). ¬
وهذا نص صريح بأن الموت لا ينجس المؤمن، وإذا كان كذلك لم يكن سقوطه في البئر سبباً في تنجيس البئر. الجواب الرابع: ربما نزح البئر لسبب آخر غير وقوع الجثة في البئر، فإنه يبعد أن يسقط أحد في بئر ويسلم من الجروح، فقد يكون دمه غلب على الماء، فغير لون الماء وطعمه، ومعلوم أن الدم يحرم شربه، فنزحت من أجل ذلك. (1730 - 258) ويؤيد ذلك ما رواه البخاري، من طريق ابن شهاب، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة سقطت في سمن، فقال: ألقوها وما حولها، فاطرحوه، وكلوا سمنكم (¬1). فإذا كان هذا في الفأرة الميتة وهي بلا شك نجسة، وفي إناء السمن، وهو إناء صغير ليس كالبئر، والسمن ليس كالماء في دفعه للنجاسة، ومع ذلك لم ينجس السمن كله، فما بالك بالبئر والذي غالباً ما يكون الماء فيه كثيراً، ومع الآدمي وهو على الصحيح عين طاهرة. الجواب الخامس: أنكم تقولون بنزح البئر مطلقاً، تغير الماء أو لم يتغير، مع أن الماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره فهو ماء طهور بالإجماع، فما الحاجة إلى نزحه، وبئر زمزم من الماء الكثير، وليس من الماء القليل. وقد نقل الحنفية عن محمد قوله: " اجتمع رأيي ورأي أبي يوسف أن ماء البئر في حكم الماء الجاري؛ لأنه ينبع من أسفله، ويؤخذ من أعلاه، فلا ينجس ¬
القول الثاني: مذهب المالكية في التطهير بالنزح
بوقوع النجاسة فيه، كحوض الحمام إذا كان يصب فيه من جانب، ويغترف فيه من جانب آخر فإنه لا ينجس بإدخال اليد النجسة فيه، ثم قلنا: وما علينا لو أمرنا بنزح بعض الدلاء، ولا نخالف السلف؟ فتركنا القياس الظاهر بالخبر والأثر " (¬1). فيقال: هل تركتم قول ابن عباس لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بئر بضاعة، وما دمتم أنكم قد صرحتم بأن قولكم هذا خلاف القياس، فهل يوجد في الشرع شيء خلاف القياس، أو أن أحكام الشريعة مطردة منتظمة، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً. وقد تركت أقوالاً وتفريعات وتفاصيل لا طائل من ذكرها، وهي أقوال مرجوحة، وأخشى أن نفسد على القارئ فهمه لهذه الأقوال مع تداخلها، وكثرة تفريعاتها، وهي أقوال ضعيفة جداً مخالفة للسنة المرفوعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أسلفنا، والله أعلم. القول الثاني: مذهب المالكية في التطهير بالنزح: في المذهب المالكي قولان في الماء إذا زال تغيره بالنزح، فقيل: يعود طهوراً؛ وإنما زال حكم النجاسة لزوال عينها. وقيل: يستمر نجساً، ووجهه: أن النجاسة لا تزال إلا بالماء المطلق (¬2). ¬
القول الثالث: مذهب الشافعية والحنابلة
القول الثالث: مذهب الشافعية والحنابلة: أن الماء إذا نزح منه وزالت النجاسة وبقي بعد النزح قلتين فأكثر غير متغير فإنه يطهر، ولم يشترطوا مقداراً للنزح، وإنما ينزح منه حتى يزول تغيره بالنجاسة، ويبقى بعد النزح ماء كثير. فإن بقي بعد النزح ماء قليل دون القلتين لم يطهر بالنزح، لأن الماء القليل عندهم ينجس ولو لم يتغير، وقد سبق ذكر أدلة هذه المسألة في الماء الراكد تقع فيه نجاسة ولم تغيره (¬1). ويضيف المتقدمون من الحنابلة تفصيلاً آخر، وهو إن كانت النجاسة بول آدمي أو عذرته المائعة فلا بد أن يبقى بعد النزح ماء يشق نزحه، وهو غير متغير بالنجاسة، وأما المتأخرون من الحنابلة فلا يفرقون بين نجاسة بول الآدمي وعذرته المائعة، وبين غيرها من النجاسات. الراجح من أقوال أهل العلم: الراجح أن الماء ينجس بالتغير ويطهر بزوال ذلك، فإذا زالت النجاسة، فلم يبق لها أثر من طعم أو لون أو رائحة فقد طهر الماء، والله أعلم. ¬
المبحث الثاني في تطهير المائعات سوى الماء
المبحث الثاني في تطهير المائعات سوى الماء إذا وقعت نجاسة في شيء جامد فإنه يكفي في تطهيره أن يلقي النجاسة وما حولها، ويكون الباقي طاهراً لعدم تعدي النجاسة إلى باقيه. وأما إذا وقعت نجاسة في مائع غير الماء كالزيت والخل واللبن، فمتى نحكم له بالنجاسة؟ وهل يمكن تطهيره؟ اختلف الفقهاء في ذلك، فقيل: إذا خالطت النجاسة مائعاً غير الماء فإنه يتنجس بملاقاة النجاسة، من غير فرق بين القليل والكثير، وبين المتغير وغير المتغير، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ¬
وقيل: حكمه حكم الماء، لا تنجس منه القلتان فما فوق إلا بالتغير، وهو قول في مذهب الحنابلة. وقيل: بالتفرقة بين المائع المائي كالخل ونحوه، وغيره، فالمائع الذي يشبه الماء حكمه حكم الماء، وغير الماء كالزيوت والأدهان فتنجس بملاقاة النجاسة، قل أو كثر، تغير أم لم يتغير، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬1). وقيل: المائعات إذا وقعت فيها نجاسة لا تنجس إلا إذا تغير طعمها أو لونها أو ريحها بسبب النجاسة، إلا السمن الذائب تقع فيه الفأرة، فإنه يتنجس مطلقاً، سواء ماتت فيه، أو خرجت وهي حية، وهذا اختيار ابن حزم (¬2). هذه الأقوال في حكم المائع إذا خالطته نجاسة، وأما خلافهم في إمكان تطهير ذلك المائع الذي وقعت فيه نجاسة، فقيل: إنه يمكن تطهير جميع المائعات إذا وقعت فيها نجاسة، وهو مذهب الحنفية (¬3)، واختاره ابن القاسم وابن العربي من المالكية (¬4)، وابن سريج من الشافعية (¬5). وقيل: لا يطهر البتة، وهو مذهب الجمهور من المالكية (¬6)، والشافعية (¬7)، ¬
دليل من قال: إن المائع إذا وقعت فيه نجاسة لا يمكن تطهيره
والحنابلة (¬1). وقيل: يمكن تطهير الزيت، ولا يمكن تطهير غيره من المائعات، وذلك لأن الماء لا يخالط الزيت، بخلاف غيره، وهو قول في مذهب المالكية (¬2)، والحنابلة (¬3). دليل من قال: إن المائع إذا وقعت فيه نجاسة لا يمكن تطهيره: (1731 - 259) ما رواه أحمد، قال: ثنا محمد بن جعفر، ثنا معمر، أنا ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فأرة وقعت في سمن، فماتت قال: إن كان جامداً فخذوها وما حولها ثم كلوا ما بقي، وإن كان مائعاً فلا تأكلوه (¬4). وجه الاستدلال: لو كان يمكن تطهيره لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما أمر بإراقته، ولم يفرق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحكم بين القليل والكثير، ولم يستفصل هل تغير أم لم يتغير، فدل على أنه لا فرق. وأجيب: أولاً: الحديث أخطأ فيه معمر سنداً ومتناً (¬5). ¬
ثانياً: أن ابن عباس لا يفرق بين السمن الجامد والمائع، قال الحافظ ابن حجر: قد أخرج أحمد، عن إسماعيل بن علية، عن عمارة ابن أبي حفصة، عن عكرمة، عن ابن عباس، سئل عن فأرة ماتت في سمن؟ قال: تؤخذ الفأرة وما حولها، فقلت: إن أثرها كان في السمن كله، قال: إنما كانت وهي حية، وإنما ماتت حيث وجدت. ورجاله رجال الصحيح، وأخرجه أحمد من وجه آخر، وقال فيه: عن جَرِّ فيه ¬
زيت، وقع فيه جرذ، وفيه: أليس جال في الجَرِّ كله؟ قال: وإنما جال وفيه الروح، ثم استقر حيث مات. اهـ (¬1). (1732 - 260) ثالثاً: أن البخاري قد روى في صحيحه، قال: حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله، عن يونس، عن الزهري، عن الدابة تموت في الزيت والسمن، وهو جامد أو غير جامد، الفأرة أو غيرها، قال: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بفأرة ماتت في سمن، فأمر بما قرب منها فطرح، ثم أكل. فهذا الزهري الذي مدار الحديث عليه، قد أفتى في المائع والجامد بأن تلقى الفأرة، وما قرب منها، ويؤكل، فلو كان عنده هذا التفصيل الذي رواه معمر لكان أفتى به. ولا يقال: ربما نسي ما روى؛ لأن الزهري كان من أحفظ الناس في عصره، فاحتمال نسيانه بعيد (¬2). الدليل الثاني: من النظر، قالوا: إن المائعات سوى الماء لا تدفع النجاسة عن غيرها، فلا تدفعها عن نفسها، بخلاف الماء الذي يدفع النجاسة عن غيره، فيدفعها أيضاً عن نفسه. وقد سبق لنا في النجاسة أنها تزال بأي مزيل قالع للنجاسة، فلا مانع أن ¬
دليل من قال: يمكن تطهيره
تزال النجاسة بالخل مثلاً أو بغيره من السوائل المزيلة للنجاسة. الدليل الثالث: أن النجاسة إذا وقعت في الجامد فإنها تجاور موضعاً واحداً، وهو الجزء الذي وقعت فيه النجاسة، بخلاف المائع، فإنها تجاوره كله، إذ تنتقل من مكان إلى آخر، فيتنجس بها. دليل من قال: يمكن تطهيره: (1733 - 261) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك، عن ابن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة سقطت في سمن، فقال: ألقوها وما حولها، فاطرحوه، وكلوا سمنكم (¬1). وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجابهم جواباً عاماً مطلقاً، بأن يلقوها وما حولها، وأن يأكلوا سمنهم، ولم يستفصلهم هل كان مائعاً أو جامداً، وترك الاستفصال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، مع أن الغالب في سمن الحجاز أن يكون ذائباً لشدة الحرارة، والغالب على السمن أنه لا يبلغ قلتين، مع أنه لم يستفصل هل كان قليلاً أم كثيراً. الدليل الثاني: الفرق بين المائع النجس والمائع الطاهر صفات جعلت هذا نجساً، وهذا طاهراً، فإذا لم يظهر في المائع أثر النجاسة لا في اللون، ولا في الطعم، ولا في ¬
الراجح من الخلاف
الرائحة، فكيف نحكم عليه بأنه نجس؟ وما الفرق إذاً بينه وبين المائع الطاهر. الدليل الثالث: أن في تنجيس المائعات حرجاً ومشقة، فهنالك القناطير المقنطرة من الدهون التي تكون في معاصر الزيتون وغيرها، ففي تنجيسها بوقوع قليل النجاسة فيها حرج شديد. وأما طرق تطهير المائعات النجسة كالدهن مثلاً فمنها الطريقة النبوية التي أرشد إليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذلك بأن تلقى النجاسة وما حولها، وينتفع بالباقي. ومنها طرق أخرى يذكرها بعض الفقهاء: فعند الحنفية يطهر بما يطهر به الماء، وقد ذكرنا مذهب الحنفية في تطهير الماء، وذلك بإجرائه مع جنسه مختلطاً به، أو يخلط إن كان قليلاً مع الماء حتى يفيض من الإناء، وكذلك يطهر بالاستحالة، وذلك بصنعه صابوناً (¬1). وذكر النووي في المجموع صفة التطهير فقال: " التطهير بالغسل. بأن يجعل في إناء ويصب عليه الماء ويكاثر به ويحرك بخشبة ونحوها تحريكاً يغلب على الظن أنه وصل إلى أجزائه، ثم يترك حتى يعلو الدهن، ثم يفتح أسفل الإناء، فيخرج الماء، ويطهر الدهن، وهذا الوجه قول ابن سريج " (¬2). الراجح من الخلاف. بعد استعراض الأدلة نجد أن القول الراجح هو القول: بأن المائع لا ينجس إلا بالتغير، حيث لا يوجد دليل على نجاسة المائع بملاقاة النجاسة، لا دليل أثري، ولا دليل نظري، فالقول بنجاسة المائع مطلقاً فيه حرج ومشقة وإفساد للمال دون أن يكون هناك دليل يقضي بالنجاسة، وإن تغير هذا المائع ¬
بالنجاسة فهو نجس، وطهارته أن يذهب تغيره بأي مزيل كان، والله أعلم.
الفصل الخامس في كيفية تطهير الأرض المتنجسة
الفصل الخامس في كيفية تطهير الأرض المتنجسة اختلف الفقهاء في كيفية تطهير الأرض المتنجسة، فقيل: إن كانت الأرض رخوة، فيصب عليها الماء حتى يتخللها، ويكون تخلله قائماً مقام العصر. وإن كانت الأرض صلبة، فإن كانت مستوية فتطهيرها يكون بحفر جزء منها، ونقل ترابه، ولا ينفعها الغسل، وإن كانت غير مستوية، فيحفر في أسفلها حفرة، ويصب الماء عليها حتى يستقر في الحفيرة ثلاث مرات، وهذا هو مذهب الحنفية رحمهم الله (¬1). وقيل: الاكتفاء بصب الماء على الأرض مطلقاً، وهو مذهب المالكية (¬2). وقيل: إن كانت النجاسة لها جرم مختلط بأجزاء الأرض، فلا بد من إزالة التراب الذي اختلطت به النجاسة، وإن كانت النجاسة لا جرم لها كالبول مثلاً فيكفي مكاثرة الأرض المتنجسة بالماء حتى يغمرها، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). ¬
دليل من قال بوجوب حفر الأرض
دليل من قال بوجوب حفر الأرض: الدليل الأول: (1734 - 262) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا جرير- يعني: ابن حازم- قال: سمعت عبد الملك- يعني: ابن عمير- يحدث عن عبد الله بن معقل بن مقرن قال: صلى أعرابي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه القصة - يعني: قصة بول الأعرابي في المسجد- قال فيه: وقال: يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -: خذوا ما بال عليه من التراب، فألقوه، وأهريقوا على مكانه ماء (¬1). قال أبو داود: وهو مرسل ابن معقل لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -. [ضعيف، وزيادة خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه زيادة منكرة، والحديث في الصحيحين وليس فيه هذه الزيادة] (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
قال الحافظ ابن حجر: " واحتجوا فيه - يعني الحنفية - بحديث جاء من ثلاث طرق، أحدها موصول عن ابن مسعود، أخرجه الطحاوي لكن إسناده ضعيف. قاله أحمد وغيره، والآخران مرسلان، أخرج أحدهما أبو داود من طريق عبد الله بن معقل، والآخر من طريق سعيد بن منصور، ومن طريق طاووس، ورواتهما ثقات، وهو يلزم من يحتج بالمرسل مطلقاً، وكذا من يحتج به إذا اعتضد، والشافعي إنما يعتضد عنده إذا كان من رواية كبار التابعين، وكان من أرسل إذا سمى لا يسمي إلا ثقة، وذلك مفقود في المرسلين المذكورين على ما هو ظاهر من سنديهما، والله أعلم (¬1). اهـ والراجح: أنه لا يحتج بهما في كل حال، حتى على فرض أن يقوي بعضهما بعضاً، فإننا نحكم بشذوذها؛ لأن الحديث في الصحيحين وفي غيرهما من رواية الثقات، لم يذكروا إلا مجرد صب الماء على البول، ولم يذكروا الحفر، ولو كان الحفر ثابتاً لنقل لأهميته. " ولو كان نقل التراب واجباً في التطهير لاكتفي به، فإن الأمر بصب الماء حينئذ يكون زيادة تكليف وتعب من غير منفعة تعود إلى المقصود، وهو تطهير الأرض " (¬2). ¬
دليل من قال: يكفي صب الماء على الأرض حتى يذهب بالنجاسة
دليل من قال: يكفي صب الماء على الأرض حتى يذهب بالنجاسة. (1735 - 263) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن أبا هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعوه، وأهريقوا على بوله سجلاً من ماء، أو ذنوباً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين (¬1). (1736 - 264) وروى مسلم، قال: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا عمر بن يونس الحنفي، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا إسحق بن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك -وهو عم إسحق- قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مه مه. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تزرموه، دعوه، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه، فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فأمر رجلا من القوم، فجاء بدلو من ماء، فشنه عليه. ورواه البخاري دون قوله: إن هذه المساجد ..... الخ (¬2). ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث صحيح أنه نقل التراب، أو أنه نقل غسالة الماء، الدليل الثاني: من النظر قالوا: إذا غلب الماء على النجاسة ولم يظهر فيه شيء منها فقد ¬
الراجح من أقوال أهل العلم
طهرها، ولا تضره ممازجته لها إذا غلب عليها، سواء كان الماء قليلاً أم كثيراً، فقد جعل الله الماء طهوراً، وأنزله علينا ليطهرنا به، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " الماء لا ينجسه شيء " يعني: إلا ما غلب عليه من النجاسة فغيره، ومعلوم أنه لا يطهر نجاسة حتى يمازجها، فإن غلب عليها ولم يظهر فيه شيء منها، فالحكم له، وإن غلبته النجاسة فالحكم لها إذا ظهر في الماء شيء منها (¬1). وقد أجمع العلماء على طهارة الخمر، إذا صارت خلاً من غير صانع، لاستهلاك ما كان يخامر العقل منها بطريان التحليل عليه، فلأن تطهر النجاسة، ويزول حكمها باستهلاك الماء لها أولى وأحرى (¬2). الراجح من أقوال أهل العلم: أن حفر الأرض ليس بواجب، وأنه يكفي صب الماء على النجاسة حتى تتحلل، وتستهلك في الماء، ويغلب عليها، ويذهب عينها وطعمها ولونها وريحها، وأن غسالة النجاسة طاهرة، وقد ذكرنا حكم غسالة النجاسة في حكم مستقل. ¬
الفصل السادس في كيفية تطهير بعض النجاسات المخصوصة
الفصل السادس في كيفية تطهير بعض النجاسات المخصوصة المبحث الأول في كيفية التطهير من ولوغ الكلب الفرع الأول في عدد الغسلات من نجاسة الكلب سبق لنا الخلاف في عين الكلب، وهل هو حيوان طاهر أو نجس، وذكرنا قولين في المسألة: أحدهما: أن الكلب طاهر العين، وهو قول أبي حنيفة (¬1)، ومذهب المالكية (¬2)، ¬
وقول الزهري (¬1)، واختاره داود الظاهري (¬2). والثاني: أن الكلب نجس العين، معلمه وغير معلمه، وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية (¬3)، والمعتمد في مذهب الشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). وقد ذكرنا أدلة الفريقين، ورجحنا أن الكلب عينه نجسة. وقد اختلف القائلون بنجاسة الكلب، في كيفية تطهير الأواني من ولوغه، فقيل: يجب غسل النجاسة ثلاث مرات، من غير فرق بين نجاسة الكلب وبين غيره من النجاسات غير المرئية (¬6). وقيل: يندب غسل الإناء تعبداً من ولوغ الكلب سبع مرات، ولا يستحب التتريب، كما يندب إراقة الماء الذي في الإناء دون الأحواض ولا يجب، ولا يراق الطعام الذي ولغ فيه الكلب، وهذا مذهب المالكية، وإنما ¬
قالوا: إن غسله تعبدي لأنهم يرون طهارة عين الكلب (¬1). وقول الحنفية والمالكية أنه يغسل بدون إضافة التراب. وقيل: يجب غسل الإناء سبع مرات، إحداهن بالتراب، وهو مذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). وقيل: يجب غسله ثمان مرات، إحداهن بالتراب، وهو قول في مذهب الحنابلة (¬4). ¬
دليل الحنفية على وجوب الغسل ثلاث مرات
دليل الحنفية على وجوب الغسل ثلاث مرات: الدليل الأول: (1737 - 265) ما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار، قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق، قال ثنا أبو نعيم: قال ثنا عبد السلام بن حرب، عن عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هريرة، في الإناء يلغ فيه الكلب أو الهر قال: يغسل ثلاث مرات (¬1). [متنه منكر؛ لمخالفته المرفوع، ومخالفته ما صح عن أبي هريرة من الغسل سبعا] (¬2). ¬
قال الطحاوي: " لما كان أبو هريرة قد رأى أن الثلاثة يطهر الإناء من ولوغ الكلب فيه وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ذكرنا ثبت بذلك نسخ السبع؛ لأنا نحسن الظن به فلا نتوهم عليه أنه يترك ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا إلى مثله، وإلا سقطت عدالته فلم يقبل قوله ولا روايته ". والجواب على ذلك من وجوه: الأول: الصحابي لا يتعمد مخالفة ما روى، ولكن قد يخالفه خطأ، وليس بمعصوم، فقد ينسى ما روى، وقد يظن من عام أنه خاص، أو من مطلق أنه مقيد، أو العكس. الثاني: ليس عندنا أن فعل أبي هريرة كان متأخراً عن حديث الأمر بغسل الإناء سبعاً حتى يمكن أن نجزم بالنسخ، الثالث: فعل الصحابي لا ينسخ الحديث المرفوع؛ لأن الوحي معصوم بخلاف فعل الصحابي. الرابع: قد ثبت عن أبي هريرة أنه قال: يغسل سبع مرات موقوفاً عليه، وهذا أصح إسناداً، فلماذا يأخذ الحنفية برواية الثلاث، ولا يأخذون برواية السبع، مع أنه اجتمع في رواية السبع قوة الإسناد، وقوة المتن، وموافقة الموقوف للمرفوع، فهي أولى من رواية الأخذ بالثلاث. (1738 - 266) فقد روى ابن المنذر من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، ¬
الدليل على عدم التتريب
قال: إذا ولغ الكلب فاغسلوه سبع مرات، أولاهن بالتراب (¬1). [إسناده صحيح، بل قال ابن حجر: إسناده من أصح الأسانيد]. قال الحافظ: " ثبت أنه أفتى ـ يعني أبا هريرة ـ بالغسل سبعاً. ورواية من روى عنه موافقة فتياه أرجح ممن روى عنه مخالفتها من حيث الإسناد، ومن حيث النظر. أما النظر فظاهر، وأما الإسناد فالموافقة وردت من رواية حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين عنه، وهذا من أصح الأسانيد. وأما المخالفة فمن رواية عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء عنه. وهو دون الأولى في القوة بكثير ... الخ (¬2). وأما الدليل على عدم التتريب. أولاً: أن أكثر الرواة الذين رووا الحديث عن أبي هريرة لم يذكروا التراب، وهم خلق كثير، وانفرد بذكرها ابن سيرين رحمه الله تعالى عن أبي ¬
هريرة، وقد تجنب البخاري في صحيحه الرواية التي فيها ذكر التراب للاختلاف في ذكرها، فلعله لا يرى صحة هذه اللفظة. قال البيهقي: لم يروه ثقة غير ابن سيرين عن أبي هريرة، يعني بذكر التراب (¬1). ثانياً: الاضطراب في ذكرها، فبعض الروايات تقول: " أولاهن " وبعضها " أخراهن" وبعضها: " إحداهن " وبعضها: السابعة، وبعضها الثامنة، ¬
فهذا الاضطراب يوجب طرح هذه اللفظة، فيكون اجتمع في هذه اللفظة علتان: التفرد والاضطراب، وهما من علل الحديث. قال القرطبي: هذه الزيادة مضطربة، ولهذا لم يأخذ بها مالك، ولا أحد من أصحابه (¬1). والجواب عن هذا: أولاً: قد يقال: ابن سيرين إمام في الحفظ، وله عناية في الألفاظ، وكون مثله ينفرد بلفظة فهو دليل على كونها محفوظة، وقد رواها مسلم في صحيحه، وهذا لا يشفي؛ لأن الإمام قد يخطئ وليس بمعصوم. ثانياً: وقد يقال أيضاً: إن ابن سيرين لم ينفرد بها، فقد تابعه فيها غيره، فقد رواه الدارقطني (¬2) من طريق خالد بن يحيى الهلالي (¬3)، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة ويونس عن الحسن، عن أبي هريرة. فقال فيه: الأولى بالتراب (¬4). ¬
كما أخرجه النسائي من طريق معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن خلاس، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، وفيه ذكر التراب (¬1). إلا أن هذا الطريق في النفس منه شيء، أولاً: انفرد به معاذ بن هشام، وهو صدوق ربما وهم، ولم يتابع في هذا الإسناد، ولذلك قال البيهقي في سننه: هذا حديث غريب إن حفظه معاذ بن هشام، عن أبيه فهو حسن؛ لأن التراب في هذا الحديث لم يروه ثقة غير ابن سيرين، عن أبي هريرة، وإنما رواه غير هشام عن قتادة، عن ابن سيرين كما تقدم. اهـ ثانياً: أن سعيد بن أبي عروبة وأبان بن يزيد وسعيد بن بشير والحكم بن عبد الملك رووا الحديث عن قتادة، فقالوا: عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، وخالفوا معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة (¬2)، فرجعت رواية قتادة والله أعلم إلى رواية ابن سيرين (¬3)، خاصة أن الراوي عن ابن أبي عروبة عبدة بن ¬
سليمان، وهو من أصحاب سعيد القدماء، وكذلك أبان بن يزيد، وقد أشار البيهقي إلى هذا فيما نقلناه عنه قبل قليل. كما أن هناك شاهداً آخر على إضافة التراب إلى الماء من حديث عبد الله ابن مغفل، (1739 - 267) فقد روى مسلم، من طريق شعبة، عن أبي التياح، سمع مطرف بن عبد الله يحدث، عن ابن المغفل قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب، ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب؟ ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم، وقال: إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة في التراب (¬1). وأما الجواب عن دعوى الاضطراب، في قوله: " إحداهن أو أولاهن أو أخراهن أو السابعة أو الثامنة أو بالشك الخ فالجواب ما ذكره العراقي حيث يقول: " الحديث المضطرب إنما تتساقط الروايات إذا تساوت وجوه الاضطراب، أما إذا ترجح بعض الوجوه فالحكم للرواية الراجحة، فلا يقدح فيها رواية من خالفها، كما هو معروف في علوم الحديث. ¬
وإذا تقرر ذلك فلا شك أن رواية أولاهن أرجح من سائر الروايات؛ فإنه رواها عن محمد بن سيرين ثلاثة: الأول: هشام بن حسان، قلت: وهو من أثبت أصحاب محمد. الثاني: حبيب بن الشهيد. الثالث: أيوب السختياني. وأخرجها مسلم في صحيحه من رواية هشام، فتترجح بأمرين: 1 - كثرة الرواة 2 - تخريج أحد الشيخين لها، وهما من وجوه الترجيح عند التعارض. وأما رواية أخراهن بالخاء المعجمة, والراء فلا توجد منفردة مسندة في شيء من كتب الحديث، إلا أن ابن عبد البر ذكر في التمهيد أنه رواها خلاس عن أبي هريرة (¬1)، كما سيأتي في الوجه الذي يليه إلا أنها رويت مضمومة مع أولاهن كما سيأتي. وأما رواية السابعة بالتراب فهي وإن كانت بمعناها, فإنه تفرد بها عن محمد بن سيرين قتادة، وانفرد بها أبو داود, وقد اختلف فيها على قتادة فقال إبان عنه هكذا, وهي رواية أبي داود. وقال سعيد بن بشير عن قتادة الأولى بالتراب فوافق الجماعة، رواه كذلك الدارقطني في سننه, والبيهقي من طريقه, وهذا يقتضي ترجيح رواية أولاهن لموافقته للجماعة. ¬
وأما رواية إحداهن بالحاء المهملة, والدال فليست في شيء من الكتب الستة, وإنما رواها البزار كما تقدم. وأما رواية أولاهن أو أخراهن فقد رواها الشافعي , والبيهقي من طريقه بإسناد صحيح, وفيه بحث أذكره, وهو أن قوله: أولاهن أو أخراهن لا تخلو إما أن تكون مجموعة من كلام الشارع، أو هو شك من بعض رواة الحديث؟ فإن كانت مجموعة من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو دال على التخيير بينهما، ويترجح حينئذ ما نص عليه الشافعي رحمه الله من التقييد بهما؛ وذلك لأن من جمع بينهما معه زيادة علم على من اقتصر على الأولى أو السابعة; لأن كلا منهم حفظ مرة فاقتصر عليها، وحفظ هذا الجمع بين الأولى, والأخرى فكان أولى. وإن كان ذلك شكاً من بعض الرواة فالتعارض قائم، ويرجع إلى الترجيح، فترجح الأولى كما تقدم، ومما يدل على أن ذلك شك من بعض الرواة لا من كلام الشارع: قول الترمذي في روايته " أولاهن "، أو قال: " أخراهن بالتراب" فهذا يدل على أن بعض الرواة شك فيه، فيترجح حينئذ تعيين الأولى، ولها شاهد أيضا من رواية خلاس عن أبي رافع عن أبي هريرة كما سيأتي في الوجه الذي يليه. وإذا كان ذكر الأولى أرجح ففيه حجة لما ذكر أصحابنا من كون التتريب في المرة الأولى أولى، وذكروا له معنى آخر, وهو أنه إذا قدم التتريب في الأولى فتناثر من بعض الغسلات رشاش إلى غير الموضع المتلوث بالنجاسة الكلبية لم يجب تتريبه، بخلاف ما إذا أخر، فكان هذا أرفق، لكن حمله على الأولوية متقاصر عما
دلت عليه الرواية الصحيحة، فينبغي حمله على تعيين المرة الأولى والله أعلم" (¬1). اهـ كلام العراقي رحمه الله تعالى. وقال الصنعاني: رواية أولاهن أرجح لكثرة رواتها، وبإخراج الشيخين لها، وذلك من وجوه الترجيح عند التعارض " (¬2). وهذا وهم منه رحمه الله تعالى، فإن البخاري تجنب ذكر التراب في صحيحه، كما أشرت إليه سابقاً. ومال النووي إلى صحة كل الألفاظ، فقد قال رحمه الله: قد روى البيهقي وغيره هذه الروايات كلها، وفيه دليل على أن التقيد بالأولى وغيرها ليس للاشتراط، بل المراد: إحداهن، وهو القدر المتيقن من كل الروايات ". وأما قوله في حديث عبد الله بن مغفل " وعفروه الثامنة بالتراب " وفي حديث أبي هريرة " سبعاً إحداهن بالتراب " فاختلف العلماء في الجواب عن هذا الاختلاف، فقيل: إن رواية أبي هريرة أولى، فتقدم على رواية عبد الله بن مغفل، قال البيهقي في المعرفة: " وإذا صرنا إلى الترجيح بزيادة الحفظ، فقد قال الشافعي رحمه الله: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره " (¬3). وسبب آخر في ترجيح رواية أبي هريرة على رواية عبد الله بن مغفل، بكون الإجماع على خلاف رواية ابن مغفل، فإن الأقوال: ليست ¬
إلا الغسل ثلاثاً أو سبعاً، ولم يقل أحد بغسل الإناء ثمان مرات. وأجاب الحافظ عن هذا بقوله: قال ابن دقيق العيد: وفي هذا القول نظر؛ لأنه ثبت القول بذلك عن الحسن البصري، وبه قال أحمد بن حنبل في رواية حرب الكرماني عنه (¬1)، وقيل: إن رواية ابن مغفل أولى؛ لأنه زاد الغسلة الثامنة، والزيادة مقبولة، خصوصاً من مثله، ومن أخذ بحديث عبد الله بن مغفل فقد عمل بحديث أبي هريرة، وليس العكس (¬2). وهناك من يقول: لو أخذنا بالترجيح أصلاً لم نأخذ بالقول بالتراب لأن الرواة الذين رووا الحديث عن أبي هريرة بدون ذكر التراب أكثر عدداً ممن ذكرها، وبعضهم من أخص أصحاب أبي هريرة كالأعرج وأبي صالح السمان وغيرهما. وهناك من جمع بين الروايتين، فقال: " لما كان التراب جنساً غير الماء، جعل اجتماعهما في المرة الواحدة معدوداً اثنتين. وتعقبه ابن دقيق العيد بأن قوله: وعفروه الثامنة بالتراب ظاهر في كونها غسلة مستقلة، لكن لو وقع التعفير في أوله قبل ورود الغسلات السبع كانت الغسلات ثمانية، ويكون إطلاق الغسلة على التتريب مجازاً، وهذا الجمع من مرجحات تعين التراب في الأولى " (¬3). ومما يرجح كون التراب في الأولى أن الغسل بالتراب لو جعل في ¬
دليل من قال: يستحب غسله سبعا، ولا يجب
الثامنة لاحتاج إلى غسله بالماء بعد ذلك؛ لإزالة التراب، أما على القول بغسل الأولى بالتراب فإن الماء في الغسلات التالية يزيل أثر التراب، ويكون في هذا أدعى لنظافة الإناء، والله أعلم. دليل من قال: يستحب غسله سبعاً، ولا يجب: يرى المالكية أن الأمر بغسل الإناء ليس بسبب نجاسة الكلب، فهم يرون أن عينه طاهرة، وهذا ما حملهم على القول باستحباب الغسل سبعاً، لأن الغسل لو كانت العلة فيه النجاسة، لكان المطلوب الإنقاء، وقد يحصل في مرة واحدة. ولم يوجب المالكية إراقة الماء، لأن الماء عندهم لا ينجس إلا بالتغير، ولم يتغير الماء بسبب ولوغ الكلب، فلماذا يراق عندهم وهم يرون أنه ماء باق على خلقته، وقد سبق ذكر أدلتهم على طهارة الكلب في مسألة مستقلة، والجواب عنها، فالراجح أن الكلب عينه نجسة. وأما قولهم إن الماء لا ينجس إلا بالتغير، فهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم، لكن لا يعني أننا إذا حكمنا بنجاسة الماء إذا ولغ فيه الكلب أَنْ نقول بنجاسة كل ماء قليل حلت فيه نجاسة، ولو لم يتغير؛ لأن الكلاب خصت ببعض الأحكام من دون سائر النجاسات، فمنها الأمر بغسلها سبعاً، مع أن دم الحيض مع الإجماع على نجاسته لم نؤمر بغسله سبعاً، كما في حديث أسماء المتفق عليه، ومنها الأمر بالتتريب، وبالتالي لا يمكن أن يقاس الأخف على الأغلظ. على أنه قد يقال: لا نسلم عدم تغير الماء من لعاب الكلب؛ لأن لعاب الكلب له لزوجة قد لا تتحلل في الماء، فتظهر على شيء منه، فيكون هذا
دليل من قال بوجوب الغسل سبعا مع التتريب
نوعاً من تغير الماء عن طبيعته بالنجاسة فينجس، والله أعلم. دليل من قال بوجوب الغسل سبعاً مع التتريب: (1740 - 268) ما رواه مسلم من طريق ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب (¬1). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " طهور إناء أحدكم" جعل طهارة الإناء متوقفة على الغسل سبع مرات أولاهن بالتراب، ومن نقص من هذا العدد فلم يحصل للإناء الطهور، ومعنى هذا أنه نجس، والطهارة: هي الطهارة الشرعية: لأننا لا نرجع إلى الحقيقة اللغوية إلا إذا امتنع حمل اللفظ على الحقيقة الشرعية، ولم يمنع من ذلك مانع. وكون الطهارة تتوقف على هذا الفعل دليل أن الأمر ليس تعبدياً، كما قال ذلك المالكية، إذ لو كان تعبدياً لما كان هذا الفعل طهارة للإناء، لأن الطهارة لا تكون إلا من حدث أو نجاسة، والإناء ليس محلاً لطهارة الحدث، فلم يبق إلا طهارة الخبث. وهذا القول هو الراجح من أقوال أهل العلم، والله أعلم. ¬
الفرع الثاني في وضع الصابون والأشنان بدلا من التراب
الفرع الثاني في وضع الصابون والأشنان بدلاً من التراب اختلف العلماء القائلون بإضافة التراب إلى الماء في تطهير نجاسة الكلب هل يقوم الأشنان والصابون مقام التراب؟. فقيل: لابد من التراب، ولا يقوم غيره مقامه، وهو مذهب الشافعية (¬1). وقيل: يقوم الأشنان والصابون وغيرهما من المنظفات مقام التراب، وهو مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: إذا فقد التراب أو كان التراب يفسد المحل كما لو كانت نجاسة الكلب في الثياب ونحوها أجزأ الصابون ونحوه، وإلا فلا، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬3). دليل من قال: لا بد من التراب ولا يقوم غيره مقامه: الدليل الأول: أن النص إنما ورد في التراب، ولو كان غير التراب يقوم مقامه لذكره الشارع. وقد يناقش هذا بأن أكثر المنظفات الموجودة اليوم لم تكن موجودة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والتي قد يكون فيها من قوة إزالة النجاسة وما شابهها أكثر مما يوجد في التراب. ¬
الدليل الثاني
الدليل الثاني: القياس على التيمم، فكما أن التيمم لا يكون إلا بالأرض، فكذلك هنا، فالتراب والماء بينهما علاقة في باب الطهارة، فالتراب يرفع الحدث ويزيل الخبث، والماء يرفع الحدث ويزيل الخبث، ولا يرفع الحدث مائع آخر مهما كانت قوته في التطهير. قال ابن القيم: وأما جمعها بين الماء والتراب في التطهير فلله ما أحسنه من جمع وألطفه وألصقه بالعقول السليمة والفطر المستقيمة، وقد عقد الله سبحانه وتعالى الإخاء بين الماء والتراب قدراً وشرعاً، فجمعهما الله سبحانه وتعالى حيث خلق منهما آدم وذريته، وجعل منهما حياة كل حيوان، وأخرج منهما أقوات الدواب والناس والأنعام، وكانا أعم الأشياء وجوداً، وأسهلهما تناولاً ... إلخ كلامه رحمه الله تعالى (¬1). دليل من قال: يجزئ عن التراب غيره: الدليل الأول: قالوا: إن الصابون والأشنان ونحوهما أقوى من التراب في الإزالة، ولما نص على التراب كان هذا تنبيهاً على أن غيره يقوم مقامه مما هو مثله أو أقوى منه. الدليل الثاني: قالوا: إذا كان يجوز الاستجمار بكل جامد مزيل، مع أن النص إنما ورد في الحجارة، فكذلك هنا. ¬
دليل من قال: يجزئ عند فقد التراب
دليل من قال: يجزئ عند فقد التراب: قالوا: قواعد الشريعة تدل على أن الواجبات كلها إنما تجب مع القدرة عليها، وعدم الضرر من استعمالها، فإذا عجز عن التراب أو خشي الضرر من استعماله لم يجب، والنص ورد في التراب، إشارة إلى أن الماء وحده لا يكفي في إزالة النجاسة، فإذا فقد التراب قام غيره مقامه، وكونه يغسل بالماء والصابون خيراً من كونه يغسل بالماء وحده. وهذا القول وسط بين القولين السابقين، وهو أقواها عندي، والله أعلم.
الفرع الثالث في تعفير الإناء بتراب نجس
الفرع الثالث في تعفير الإناء بتراب نجس اختلف القائلون باشتراط التراب في تطهير الإناء من ولوغ الكلب، هل يشترط أن يكون التراب طاهراً؟. فقيل: يشترط ذلك، وهو أصح الوجهين عند الشافعية (¬1)، ومذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يجزئ التراب النجس، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬3). دليل القائلين باشتراط الطهارة: قالوا: إن التراب النجس لا يمكن أن يكون سبباً في طهارة المحل، فما كان نجساً في نفسه لا يمكن أن يطهر غيره. الدليل الثاني: إذا كان يشترط في التيمم طهارة التراب، فكذلك في طهارة الخبث، لأن طهارة الخبث إحدى الطهارتين. الدليل الثالث: إذا نهي عن الاستجمار بالنجس، وهو إزالة للنجاسة عن البدن، فكذلك إزالة النجاسة عن الآنية والثياب ونحوها. ¬
الدليل على أنه لا يستجمر إلا بطاهر
والدليل على أنه لا يستجمر إلا بطاهر: (1741 - 269) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زهير، عن أبي إسحاق قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن ابن الأسود، عن أبيه أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة، فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا ركس (¬1). وجه الاستدلال: قوله: هذا ركس. فإن معنى الركس في اللغة يحتمل أمرين: الأول: الركس بمعنى: الرجيع. والثاني: الركس بمعنى: النجس. فعلل النبي - صلى الله عليه وسلم - تركه بأنه رجس. وقد قال بعضهم: ليس في الحديث دليل على اشتراط الطهارة، وإنما فيه ترك الاستنجاء بالروث، ولا يلزم من ذلك النجاسة، كما لم يلزم من تركه الاستنجاء بالعظم والمحترمات. فأجاب النووي بقوله: إن الاعتماد في الاستدلال على قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنها ركس" وليس على مجرد تركه الاستنجاء بها، قال: ولا يجوز أن يحمل على أنه مجرد إخبار بأنها رجيع، فإن ذلك إخبار بالمعلوم، فيؤدي الحمل عليه إلى خلو الكلام عن فائدة، فوجب حمل الكلام على ما ذكرناه من تفسير الركس بمعنى: النجس (¬2). ¬
دليل من قال: لا يشترط طهارة التراب
دليل من قال: لا يشترط طهارة التراب: الدليل الأول: قالوا: ليس في الحديث اشتراط طهارة التراب، وإنما الحديث فيه " التعفير بالتراب " وهذا متحقق مع التراب النجس. الدليل الثاني: على فرض أن يكون التراب نجساً، فإنه سوف يتبع بالماء الطهور، وهذا كاف في تطهيره. الدليل الثالث: قالوا من النظر: النجاسة عين خبيثة متى زالت زال حكمها، وقولكم: إن النجس لا يطهر، هل تقصدون لا يطهر حقيقة أو لا يطهر حكماً؟ فإن قلتم: لا يطهر حقيقة، فإن الحجر الذي وقع عليه بول فإنه يمكن أن يستجمر به، ويقطع النجاسة. وإن قلتم: إنه لا يطهر حكماً فلا يوجد دليل على اشتراط طهارة التراب. فالراجح أن التراب النجس ممكن أن يطهر المحل إذا أتبع بالماء، ولم يكن التراب هو الغسلة الأخيرة، وهذه المسألة راجعة إلى مسألة أخرى وهي جواز الانتفاع بالشيء النجس على وجه لا يتعدى، والله أعلم.
الفرع الرابع في كيفية الطهارة من بول الكلب ورجيعه
الفرع الرابع في كيفية الطهارة من بول الكلب ورجيعه لو بال الكلب في الإناء، فهل يجب أن يغسل سبع مرات مع التراب، أو أن هذا مقصور على الولوغ فقط؟ اختلف العلماء في هذا. فقيل: يجب التسبيع مع التراب في نجاسة الكلب مطلقاً، سواء كانت من بوله أو عَرَقِه أو ريقه أو غيرها، وهذا هو أصح الوجهين في مذهب الشافعية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). وقيل: التسبيع خاص بالولوغ فقط، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬3). وأما مذهب الحنفية والمالكية فهم لا يقولون بالتتريب أصلاً، لا في الولوغ ولا في غيره. دليل من قال: يجب التسبيع من نجاسة الكلب مطلقاً: قالوا: إذا كان ريق الكلب نجساً، ويغسل منه الإناء سبعاً، فما بالك ببوله الذي هو أخبث وأنتن من ريقه؟ دليل من قال: التسبيع خاص بالولوغ: الأصل في النجاسات أن تغسل حتى تذهب عين النجاسة، لا فرق في ¬
ذلك بين الدم والبول والسؤر النجس وغيرها من النجاسات، وسواء كانت هذه النجاسة من الإنسان أوالحيوان، وورد في النص النبوي وجوب التسبيع والتتريب من ولوغ الكلب خاصة، وما كان ربك نسياً، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أعطي جوامع الكلم، فلما خص الولوغ بهذه الأحكام دون سائر النجاسات، دل على اختصاصه بذلك، وأما بوله وروثه فحكمه حكم سائر النجاسات من بول الآدمي وغائطه وحكم دم الحيض وغيره من النجاسات، وهو الغسل حتى تذهب عين النجاسة، ومن قال بوجوب غسلها سبعاً مع التراب فعليه الدليل، وقد يكون في الريق معنى لا يوجد في البول والدم وغيرهما، والله سبحانه وتعالى أعلم بما خلق، فقد يوجد في ريق الكلب نوع من الجراثيم لا يطهره إلا التراب، كما أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن في أحد جناحي الذباب داء، وفي الآخر شفاء، مع تماثل الجناحين خِلْقَة، ومع ذلك لم يتماثلا حكماً، وكون ريق الكلب نجساً، وبوله نجساً لا يعني تماثلهما في طريقة التطهير، وانظر إلى بول الصبي وبول الجارية، فمع نجاستهما لم يتحدا في التطهير، فإذا فارقت نجاسة من النجاسات غيرها في طريقة التطهير قصرنا الحكم عليها حتى يوجد دليل صريح على تعدية الحكم إلى غيرها، ولا دليل على تعدية الحكم إلى بول الكلب وروثه وعرقه إلا القياس على ريقه، والقياس في مثل هذا ضعيف. وهذا القول هو الراجح لقوة دليله، والله أعلم.
الفرع الخامس هل تقوم الغسلة الثامنة مقام التراب
الفرع الخامس هل تقوم الغسلة الثامنة مقام التراب اختلف العلماء فيما إذا اقتصر على الماء، وغسله ثماني مرات، فهل تكفي الغسلة الثامنة عن التراب. فقيل: لا يطهر، وهو الوجه الأصح في مذهب الشافعية (¬1)، ومذهب الحنابلة (¬2). وقيل: يطهر مطلقاً، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬3). وقيل: يطهر عند عدم التراب دون وجوده، وهو وجه ثالث في مذهب الشافعية (¬4). دليل من قال: تنوب الغسلة الثامنة عن التراب: قال: إن الماء أقوى من التراب في التطهير، فإذا استبدل القوي بالأقوى قام مقامه في التطهير. دليل من قال: لا بد من التراب: إن التراب ليس غسلة مستقلة حتى يقال: إن الماء أقوى من التراب، وإنما المقارنة بين غسله بالماء وحده، أو بالماء مع التراب، ولا شك أن الجمع بين التراب والماء في الإزالة أقوى من الماء وحده، ولهذا المعنى قصد الشارع من ¬
دليل من قال: يكفي إذا فقد التراب
الجمع بينهما حصول الطهارة المستيقنة. قال ابن قدامة: " فأما الغسلة الثامنة فالصحيح أنها لا تقوم مقام التراب؛ لأنه إن كان القصد به تقوية الماء في الإزالة، فلا يحصل ذلك بالثامنة؛ لأن الجمع بينهما أبلغ في الإزالة، وإن وجب تعبداً امتنع إبداله والقياس عليه" (¬1). وقال العراقي: " وأما من قال من أصحابنا يكفي؛ لأن الماء أبلغ في التطهير من التراب فمردود؛ لأنه لا يجوز أن يستنبط من النص معنى يعود عليه بالإبطال " (¬2). دليل من قال: يكفي إذا فقد التراب: أن الواجب هو التراب، فإذا تعذر فإما أن نقول: إنه يسقط التراب إلى غير بدل، أو يسقط إلى بدل وهو الغسلة الثامنة، ولو كانت الغسلة السابعة كافية في التطهير لما أوجب التراب، فالإناء بعد غسله سبع مرات ما زال نجساً، يحتاج إلى التراب، وقد تعذر التراب فأقمنا الغسلة الثامنة مقامه، والله أعلم. الراجح والله أعلم، أن الغسلة الثامنة لا تقوم مقام التراب، ولو غسل الإناء مائة مرة، لأن الماء قد عمل عمله بغسله سبع غسلات، ولا معنى لتكرار غسله بالماء، وقد امتثل المطلوب، فالمعنى الذي في التراب ليس موجوداً في الماء مهما كان تكراره، وليس الهدف فقط هو النظافة، بل الهدف هو تطهير من نوع خاص. ¬
فالبول إذا غسلته مرة واحدة ذهبت بالنجاسة، فغسله مرة ثانية لا معنى لذلك، فالمحل قد طهر، وإذا كررت الغسل كان ذلك لمعنى لا يرجع إلى النجاسة، فإنها قد ذهبت، وإنما مبالغة في النظافة، وهو غير ذهاب النجاسة، فكذلك إذا غسلته سبع مرات، فلا معنى لوجود غسلة ثامنة أو عاشرة أو غيرهما؛ لأن الماء قد نظف المحل فيما يختص بالماء، وبقي معنى لا يذهب إلا بالتراب، وكأن التراب بمثابة التعقيم والوقاية من أمراض قد تكون موجودة في الإناء لا يذهب بها الماء، وإنما تحتاج إلى التراب لقطعها، وبالتالي إذا لم يوجد التراب فلا داعي لتكرار الماء، وإنما الانتظار حتى يتوفر التراب وإن اضطر إلى استعمال الإناء فلا حرج فيه لسقوط التراب لتعذره، وذلك لأن الواجبات إنما تجب بشرط القدرة، ولم يقدر على التراب فسقط، نعم لو كان هناك ما يقوم مقام التراب من صابون ونحوه ربما كان وجوده يضيف إلى الإناء شيئاً ليس موجوداً في الماء بخلاف تكرار الماء، والله أعلم.
الفرع السادس في صفة التطهير بالتراب
الفرع السادس في صفة التطهير بالتراب اختلف العلماء في التراب هل يكفي ذره على الإناء أو لا بد من مزجه بمائع يوصله إليه، فقيل: لا يكفي ذره، بل لا بد من مزجه بمائع يوصله إلى جميع أجزائه، وهو الأصح في مذهب الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). وقيل: يكفي ذره، وهو وجه في مذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). دليل من قال: لا يكفي ذر التراب: استدل بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث " أولاهن بالتراب " فالباء للمصاحبة أو للإلصاق، أي مصحوباً بالتراب، فكونه جعل التراب داخلاً في مسمى الغسلات، فذر التراب وحده لا يسمى غسلاً. قال ابن دقيق العيد: " قوله - صلى الله عليه وسلم - " فاغسلوه سبعاً أولاهن أو أخراهن بالتراب " قد يدل لما قاله بعض أصحاب الشافعي: أنه لا يكتفى بذر التراب على المحل، بل لا بد أن يجعله في الماء ويوصله إلى المحل ". ¬
دليل من قال: يكفي ذر التراب
دليل من قال: يكفي ذر التراب: استدل بحديث عبد الله بن مغفل " وعفروه الثامنة بالتراب " دليل على أنه يكفي التعفير بالتراب دون أن يكون مصحوباً بالماء، حيث جعل التراب مستقلاً عن الماء. والأمر في هذا واسع، فإن غسل الإناء بالتراب وحده فليدلك الإناء بالتراب حتى يكون أقوى في التطهير، وإن خلطه بالماء أجزأ كذلك، والله أعلم.
المبحث الثاني في كيفية التطهير من نجاسة الخنزير
المبحث الثاني في كيفية التطهير من نجاسة الخنزير سبق لنا خلاف العلماء في الخنزير هل هو طاهر أم نجس؟ وتبين فيما مضى أن الجمهور ذهب إلى نجاسة الخنزير (¬1). وقيل: إن عينه طاهر، بناء على أن كل حيوان حي فهو طاهر، وهو المعتمد في مذهب المالكية (¬2)، ورجحه الشوكاني (¬3). وقد سبق ذكر أدلة كل قول، ورجحت نجاسة عينه. واختلف القائلون بنجاسته، في كيفية تطهير هذه النجاسة. فقيل: لا فرق بين نجاسة الخنزير وبين غيره من سائر النجاسات، وهو مذهب الحنفية (¬4)، والقديم في مذهب الشافعي (¬5)، وقول في مذهب الحنابلة (¬6). ¬
دليل من قال: يلحق الخنزير بالكلب
وقيل: يلحق الخنزير بالكلب في وجوب التسبيع والتتريب، وهو الجديد في مذهب الشافعية (¬1)، والمشهور من مذهب الحنابلة (¬2). دليل من قال: يلحق الخنزير بالكلب: استدل بأن النص ورد في الكلب، والخنزير شر منه، لنص الشارع على تحريمه، وتحريم اقتنائه، بل إن الكلب مأذون في اتخاذ بعض أفراده ككلب الصيد والماشية والزرع بخلاف الخنزير فإنه منهي عن اتخاذه مطلقاً، وإنما السنة لم تنص على الخنزير؛ لأنهم لم يكونوا يعتادونه. دليل من قال: لا فرق بين نجاسة الخنزير وبين غيره من النجاسات: الدليل الأول: الواجب في غسل نجاسة الخنزير غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة، ولا يوجد نص من الشارع يوجب التسبيع والتتريب في نجاسة الخنزير، والأصل عدم الوجوب. الدليل الثاني: القول بأن الخنزير لم يكن معتاداً عندهم، ولذلك لم ينص على كيفية التطهير منه ليس كافياً لصحة القياس على الكلب، فإن الشريعة عامة، وبيانها للناس كافة، وكيف لا يكون معروفاً عندهم، والخنزير مذكور في كتاب الله {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ ¬
الدليل الثالث
دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} (¬1). الدليل الثالث: القياس في كيفية التطهير ليس بصحيح، خاصة إذا كان الأصل المقيس عليه قد فارق سائر النجاسات، وخص بأحكام لم يماثله غيره فيها، من وجوب العدد، وإضافة التراب، فهذه الأمور لا تدرك الحكمة منها، فيكون القياس فاسداً، والله أعلم. وهذا القول هو الراجح؛ لقوة أدلته وسلامتها من الاعتراض. ¬