مورد اللطافة في من ولي السلطنة والخلافة

ابن تغري بردي

الجزء 1

(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم) (رب يسر) الْحَمد لله الَّذِي جعل الدول مؤيدة بالخلفاء الرَّاشِدين، وَجعل مددهم شَامِلًا بِإِقَامَة الْمُلُوك والسلاطين؛ فهم ظلّ الله فِي أرضه، يأوي إِلَيْهِم كل مظلوم، والزعماء القائمون بمصالح الْأمة على أحسن أَمر محتوم، حمدا كثيرا طيبا؛ إِذْ كَانَ للحمد أَهلا، ونشكره شكر من عرف طَرِيق الطَّاعَة فألفاه سهلا. ونشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَحده لَا شريك لَهُ، شَهَادَة لَا ينقص عقد إيمَانهَا بعد توكده، وَلَا يخْفض [مجد] اتقانها بعد تشيده. ونشهد أَن مُحَمَّدًا، عَبده وَرَسُوله، الَّذِي جَاءَ بِالْحَقِّ الْمُبين، صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَأَصْحَابه وأزواجه إِلَى يَوْم الدّين. أما بعد: فقد ألفت هَذَا التأريخ الْمُخْتَصر الْمُفِيد، واقتصرت فِيهِ على ذكر الْخُلَفَاء والسلاطين من غير مزِيد. واستفحت فِيهِ بِذكر مولد سيدنَا مُحَمَّد -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وَبَعض غَزَوَاته، وَذكرت فِيهِ جمَاعَة من آله وأزواجه ووفاته. ثمَّ ابتدأت فِيهِ من خلَافَة أبي بكر الصّديق، ثمَّ من بعده خَليفَة بعد خَليفَة على التَّرْتِيب، إِلَى أَن أختم تراجمهم بخليفة وقتنا [الْقَائِم بِأَمْر الله حَمْزَة]

من غير أَن أذكر أمرا يريب، مَا خلا الْخُلَفَاء العبيدية؛ فَإِنِّي أذكرهم بعد ذَلِك، وأسلك فِي تراجمهم طَرِيق من تقدمني من مؤرخي الممالك. ثمَّ أذكر مُلُوك مصر، من أول السلاطين الأيوبية، إِلَى أَن أصل إِلَى الدولة الأشرفية. وَهَذَا نَص هَذَا الْكتاب قد بَينته أحسن تَبْيِين، ثمَّ أشرع فِي [ذكر] ذَلِك وَبِاللَّهِ أستعين.

ذكر مولد النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإختصار

(ذكر مولد النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- على سَبِيل الإختصار:) قيل: إِنَّه ولد -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- عَام الْفِيل، وَمَات أَبوهُ عبد الله بن عبد الْمطلب - وَاسم عبد الْمطلب شيبَة الْحَمد - غَرِيبا بِالْمَدِينَةِ، قدمهَا ليمتار تَمرا. وَقيل: بل مر بهَا مَرِيضا رَاجعا من الشَّام. ذكر الْحَافِظ [شمس الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد] الذَّهَبِيّ فِي تَارِيخه، قَالَ: روى مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ وَغَيره، أَن عبد الله بن عبد الْمطلب خرج من الشَّام إِلَى غَزَّة فِي عير تحمل تِجَارَات. فَلَمَّا قَفَلُوا مروا بِالْمَدِينَةِ وَعبد الله مَرِيض؛ فَقَالَ: اتخلف عَن أخوالي بني عدي بن النجار: فَأَقَامَ عِنْدهم عدَّة مُدَّة شهر؛ فَبلغ ذَلِك عبد الْمطلب؛ فَبعث [إِلَيْهِ] الْحَارِث - وَهُوَ أكبر وَلَده - فَوَجَدَهُ قد مَاتَ وَدفن فِي دَار النَّابِغَة - أحد بني النجار -، وعمره خمْسا وَعِشْرُونَ سنة - على الْأَصَح - وَعمر النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ شهرا، وَقيل: وَهُوَ فِي بطن أمه - وَهُوَ الْأَصَح -. وَقيل: بعد مولده بِشَهْر. وَولد -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- عَام الْفِيل لإثنتي عشرَة لَيْلَة خلت من شهر ربيع الأول لعشرين من نيسان.

وَقَالَ الْحَافِظ عَلَاء الدّين مغلطاى: ولد -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- بِمَكَّة، وَتسَمى بكة؛ لِأَنَّهَا تبك أَعْنَاق الْجَبَابِرَة، أَو من الإزدحام، وَقيل: مَكَّة اسْم الْمَدِينَة، وبكة اسْم الْبَيْت. وَتسَمى أَيْضا: الرَّأْس، وَصَلَاح، وَأم رحم، وكوثا، وَأم الْقرى، والحاطمة، وَالْعرش وطيبة. وَذكر ابْن دحْيَة فِي بعض تصانيفه أَن لَهَا عشْرين اسْما: [مَكَّة و] بكة وَالْبَيْت الْعَتِيق، وَالْبَيْت الْحَرَام، والأمين، والمأمون، وَأم رحم، [وَأم] [الْقرى] ، وَصَلَاح، وَالْعرش - على وزن برش - والقادس - لِأَنَّهَا تطهر من الذُّنُوب - والمقدسة، والناسة - بالنُّون - والنساسة، والباسة - بِالْبَاء -؛ لِأَنَّهَا تبس [أَي تحطم] الملحد فِيهَا. وَقيل: تخرجهم مِنْهَا، والحاطمة، وَالرَّأْس - مثل رَأس الْإِنْسَان - وكوثى - باسم بقْعَة فِيهَا

كَانَت منزل بني عبد الدَّار -، والبلدة - على [مَا ثَبت] فِي الصَّحِيحَيْنِ - وَالْبَيِّنَة - على مَا [ثَبت] أَيْضا - والكعبة؛ وَقيل: هُوَ الْبَيْت نَفسه لَا غير؛ لتكعبه وَهُوَ تربيعه، وكل بِنَاء مربع أَو مُرْتَفع كعبة. يُقَال: كَعْب ثدي الْجَارِيَة إِذا علا فِي صدرها. وَهُوَ أول بَيت وضع للنَّاس على وَجه الأَرْض بِصَرِيح الْقُرْآن [الْعَظِيم] ، وَبعده الْأَقْصَى، ومدينة مصر، والحيرة، والأبلة أشهر، انْتهى. ونعود إِلَى كَلَام الْحَافِظ مغلطاى، قَالَ: ومولده فِي الدَّار الَّتِي كَانَت لمُحَمد ابْن يُوسُف أخي الْحجَّاج. إنتهى [كَلَام مغلطاى] . وَيُقَال: بِالشعبِ، وَيُقَال: بالردم، وَيُقَال: بعسفان. وَفِي تِلْكَ السّنة انْشَقَّ إيوَان كسْرَى، وَسَقَطت مِنْهُ أَربع عشرَة شرفة، وخمدت نَار فَارس، وَلم تخمد قبل ذَلِك بِأَلف عَام، وغاضت بحيرة ساوة. وَذكر يَعْقُوب عَن ابْن عَبَّاس: أَنه ولد -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- يَوْم الأثنين، وَخرج من مَكَّة يَوْم الأثنين، [وَدخل الْمَدِينَة يَوْم الأثنين] .

وَولد لثمان عشرَة لَيْلَة من شهر ربيع الأول. وَقيل لسبع عشرَة [لَيْلَة] . وَقيل: لثمان بَقينَ مِنْهُ. وَقيل: فِي أَوله، [وَقيل] : لليلتين خلتا مِنْهُ حِين طلع الْفجْر [من] يَوْم أرسل الله الأبابيل [وَهِي الْجَمَاعَات - وَاحِدهَا إبول - وَقيل: لَا وَاحِد لَهَا] على أهل الْفِيل. وَقيل فِي وِلَادَته غير ذَلِك من الْأَقْوَال الَّتِي يضيق هَذَا الْمُخْتَصر عَن ذكرهَا. وَذكر أَن أَبْرَهَة الأشرم كَانَ بنى بِالْيمن كَنِيسَة يُقَال لَهَا الْقليس، وَأَرَادَ أَن يصرف حج النَّاس إِلَيْهَا؛ فَخرج رجل من كنَانَة فأحدث فِيهَا؛ فَغَضب أَبْرَهَة وَحلف ليسيرن إِلَى بَيت الْعَرَب فيهدمه؛ فقدموا مَكَّة يَوْم الْأَحَد لخمس لَيَال خلون من الْمحرم، وَقيل: لثلاث عشرَة.

فَلَمَّا وجهوا الْفِيل للكعبة، امْتنع من ذَلِك حَتَّى وخزوه بالأسنة، وَهُوَ لَا يَتَحَرَّك من مَكَانَهُ إِلَّا إِلَى جِهَة غير الْبَيْت؛ فَأرْسل الله عَلَيْهِم طيرا من الْبَحْر - أَمْثَال الخطاطيف والبلسان، وَقيل فِي صفتهَا غير ذَلِك - مَعَ كل طَائِر ثَلَاثَة أَحْجَار: حجر فِي منقاره، وحجران فِي رجلَيْهِ مِثَال الحمص والعدس، لَا تصيب أحدا مِنْهُم إِلَّا هلك، وَلَيْسَ كلهم أَصَابَت. وَقيل: ولد بعد الْفِيل بِشَهْر، وَقيل: بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقيل: بشهرين وَسِتَّة أَيَّام، وَقيل: بِعشْرين [سنة] ، وَقيل: بِثَلَاثِينَ [سنة] ، وَقيل: بِأَرْبَعِينَ [سنة] ، وَقيل: بسبعين [سنة] ، وَقيل غير ذَلِك، مختونا، مَسْرُورا، مَقْبُوضَة أَصَابِع يَده، مُشِيرا بالسبابة كالمسبح بهَا. وَقيل: إِن جده ختنه [يَوْم سابعه، وَقيل: جِبْرَائِيل، وَسَماهُ مُحَمَّدًا - قالته أمه - وَقيل: إِن جده سَمَّاهُ] .

وَاخْتلف فِي مُدَّة الْحمل بِهِ؛ فَقيل: تِسْعَة أشهر، وَقيل: ثَمَانِيَة، وَقيل: سَبْعَة، وَقيل: سِتَّة. وَلما شاع قبل وِلَادَته أَن نَبيا اسْمه مُحَمَّد - هَذَا إبان ظُهُوره - سمى جمَاعَة أَبْنَاءَهُم مُحَمَّدًا؛ رَجَاء أَن يكون هُوَ. مِنْهُم: مُحَمَّد بن سُفْيَان بن مجاشع، مُحَمَّد بن أحيحة بن الجلاح، مُحَمَّد بن حمْرَان، وَمُحَمّد بن مسلمة الْأنْصَارِيّ - وَفِيه نظر - مُحَمَّد بن الْبكْرِيّ، مُحَمَّد بن الْخُزَاعِيّ السّلمِيّ، مُحَمَّد بن عدي بن [ربيعَة بن سعد] الْمنْقري، مُحَمَّد الأسيدي، مُحَمَّد العقيمي، مُحَمَّد بن عتوارة اللَّيْثِيّ، مُحَمَّد بن حرماز الْعمريّ، مُحَمَّد بن خولي الْهَمدَانِي، مُحَمَّد بن يزِيد بن ربيعَة، مُحَمَّد بن أُسَامَة بن مَالك. وَأول من أَرْضَعَتْه بعد أمه ثويبة - مولاة عَمه أبي لَهب - وأرضعت مَعَه عَمه حَمْزَة، ثمَّ أَرْضَعَتْه بعْدهَا حليمة السعدية. وَلما ترعرع أحضرته إِلَى أمه.

وَلما بلغ من الْعُمر سِتّ سِنِين مَاتَت أمه [آمِنَة] وَبَقِي فِي حجر جده عبد الْمطلب. وَلما بلغ ثَمَان سِنِين وشهرين وَعشرَة أَيَّام توفّي جده عبد الْمطلب، وَقَامَ بكفالته عَمه أَبُو طَالب. وَلما بلغ ثَلَاثَة عشر سنة خرج مَعَ عَمه إِلَى الشَّام. فَلَمَّا رَآهُ بحيرا الراهب قل: هَذَا رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- أرْسلهُ رَحْمَة للْعَالمين. ثمَّ قَالَ لِعَمِّهِ: أَتُحِبُّهُ؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَارْجِع بِهِ لِئَلَّا يقْتله الْيَهُود؛ فَرجع بِهِ. ثمَّ تزوج بخديجة وَهُوَ ابْن خمس وَعشْرين سنة وشهرين وَعشرَة أَيَّام. وَلما بلغ أَرْبَعِينَ سنة بَعثه الله [تَعَالَى] إِلَى الْأسود والأحمر، نَاسِخا بِشَرِيعَتِهِ سَائِر الشَّرَائِع. وَلما بلغ خمسين سنة توفّي عَمه أَبُو طَالب، ثمَّ توفيت زَوجته خَدِيجَة بعد عَمه أبي طَالب بِثَلَاثَة أَيَّام. وَوجد النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-[عَلَيْهِمَا] كثيرا. ثمَّ هَاجر -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-[إِلَى الْمَدِينَة] من مَكَّة وعمره ثَلَاث وَخَمْسُونَ سنة، لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت من شهر ربيع الأول سنة إِحْدَى.

وَأقَام بِالْمَدِينَةِ سَبْعَة عشر شهرا يصلونَ إِلَى جِهَة بَيت الْمُقَدّس، ثمَّ تحولت الصَّلَاة إِلَى الْكَعْبَة يَوْم الثُّلَاثَاء منتصف شعْبَان، فِي صَلَاة الظّهْر، وَفرض صَوْم [شهر] رَمَضَان.

ذكر أسمائه صلى الله عليه وسلم

(ذكر أَسْمَائِهِ -[[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]]-) هُوَ: الْمُصْطَفى، الماحي، الحاشر، العاقب، المقفى، الشَّهِيد، الْمُصدق، النُّور، الْمُسلم، العَبْد، الدَّاعِي، الإِمَام، الْهَادِي، المُهَاجر، البشير، النذير، السراج، الْمُنِير، الْأمين، الذاكر، الْمُذكر، [الْعَامِل] ، الْمَنْصُور، أذن الْخَيْر، المزمل، المدثر، طه، يسن، خَاتم النَّبِيين، رؤوف، رَحِيم، الصاحب، الشَّفِيع، المشفع، المتَوَكل، الْمُبَارك، الرَّحْمَة، الْآمِر، الناهي، الطّيب، الْكَرِيم، الْمُحَلّل، الْمحرم، الْوَاضِع، الرافع، المجير، قَاسم، نَبِي التَّوْبَة، نَبِي الملحمة، عبد الله، أَحْمد، مُحَمَّد. قَالَ ابْن دحْيَة: أسماؤه تقرب من ثلثمِائة، وانْتهى بهَا بعض المتصوفة إِلَى ألف. ويكنى: أَبَا الْقَاسِم، وَأَبا إِبْرَاهِيم. وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الله - الذَّبِيح - بن عبد الْمطلب -[واسْمه شيبَة] [الْحَمد]- بن هَاشم -[واسْمه عَمْرو]- بن عبد منَاف -[واسْمه الْمُغيرَة]- بن قصي -[واسْمه زيد]- بن كلاب بن مرّة بن كَعْب بن

لؤَي بن غَالب بن فهر بن مَالك بن النَّضر بن كنَانَة بن خُزَيْمَة بن مدركة - واسْمه عَامر - بن إلْيَاس بن مُضر بن نزار بن معد بن عدنان. [وعدنان] من ولد إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم - صلى الله عَلَيْهِمَا -[وعَلى نَبينَا] [وَسلم] . وَهَذَا النّسَب بِإِجْمَاع النَّاس، لَكِن اخْتلفُوا فِيمَا بَين عدنان و [بَين] إِسْمَاعِيل من الْآبَاء؛ فَقيل: بَينهمَا: تِسْعَة آبَاء، وَقيل: سَبْعَة، [وَقيل مثل ذَلِك عَن] جمَاعَة، لَكِن اخْتلفُوا فِي أَسمَاء بعض الْآبَاء. وَقيل: بَينهمَا خَمْسَة عشر [أَبَا] ، وَقيل: بَينهمَا أَرْبَعُونَ [أَبَا] وَهُوَ بعيد. وَقد ورد ذَلِك عَن طَائِفَة من الْعَرَب. وَأما عُرْوَة بن الزبير فَقَالَ: مَا وجدنَا من يعرف مَا وَرَاء عدنان وَلَا قحطان إِلَّا تحرصا.

أسماء أعمامه وعماته

(أَسمَاء أَعْمَامه وعماته:) فالأعمام [هم] الْحَارِث، وَأَبُو طَالب - واسْمه عبد منَاف، وَقيل: اسْمه كنيته - وَهُوَ شَقِيق عبد الله -[وَالزُّبَيْر] ، وَعبد الْكَعْبَة، والمقوم - وَيُقَال هما وَاحِد - وحجل - واسْمه الْمُغيرَة - والغيداق -[وَيُقَال: هما وَاحِد - وَقثم - وَمِنْهُم من أسْقطه - ونزار، وَأَبُو لَهب - واسْمه عبد الْعُزَّى]-، وكنى بذلك لجماله وَصَارَ فِي الآخر لمَاله. وعماته: صَفِيَّة، وعاتكة، وأروى - أسلمن، وَفِي ذَلِك خلاف إِلَّا صَفِيَّة - وَأُمَيْمَة، [وبره] ، وَأم حَكِيم. وَسبب تَسْمِيَة عبد الله بالذبيح: أَن أَبَاهُ أَمر فِي مَنَامه بِحَفر زَمْزَم - وَسميت زَمْزَم لِأَنَّهَا زمت بِالتُّرَابِ، وَقيل: لزمزمة [المَاء] فِيهَا - فمنعته قُرَيْش من ذَلِك. وَلم يكن لعبد الْمطلب يَوْم ذَاك من الْوَلَد إِلَّا الْحَارِث؛ فَنَذر عبد الْمطلب لَئِن ولد لَهُ عشرَة لينحرن أحدهم عِنْد الْكَعْبَة لله. فَلَمَّا بلغُوا ذَلِك ضرب عَلَيْهِم القداح؛ فَخرج الْقدح على عبد الله - وَهُوَ أَصْغَر بنيه - قَالَه ابْن إِسْحَاق.

وَالصَّوَاب: بني أمه، وَإِلَّا فحمزة وَالْعَبَّاس كَانَا أَصْغَر مِنْهُ. فَلَمَّا جَاءَ الْقدح على عبد الله أمرت عبد الْمطلب إمرأة كاهنة بالحجاز تسمى سجَاح - وَقيل: قُطْبَة - أَن يضْرب عَلَيْهِ وعَلى إبل بِالْقداحِ، فَكَانَ عبد الْمطلب يضْرب على عشرَة بعد عشرَة، وَهِي تخرج عَلَيْهِ حَتَّى بلغت مائَة؛ فَخرجت عَلَيْهَا ثَلَاثًا؛ فنحرها عَنهُ، فَكَانَ أول من سنّ الدِّيَة [مائَة] . وَقيل: سنّ ذَلِك القلمس، وَقيل: أَبُو سيارة.

نبذة من غزواته

(نبذة من غَزَوَاته) وَلما كَانَت السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة فِي شهر رَمَضَان لسبع عشرَة لَيْلَة خلت مِنْهُ كَانَت غَزْوَة بدر، وَهِي الْغَزْوَة الْكُبْرَى الَّتِي أظهر الله فِيهَا الْإِسْلَام. قَالَ ابْن إِسْحَاق: سمع النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- أَن أَبَا سُفْيَان: [بن حَرْب] قد أقبل من الشَّام فِي عير لقريش وتجارة عَظِيمَة، فِيهَا [ثَلَاثُونَ أَو] أَرْبَعُونَ رجلا من قُرَيْش مِنْهُم: مخرمَة بن نَوْفَل وَعَمْرو بن الْعَاصِ؛ فَقَالَ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-: ((هَذِه عير قُرَيْش فِيهَا أَمْوَالهم؛ فاخرجوا إِلَيْهَا لَعَلَّ الله ينفلكموها)) ؛ فَانْتدبَ النَّاس، فخف بَعضهم وَثقل بَعضهم ظنا مِنْهُم أَن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- لَا يلقى حَربًا. واستشعر أَبُو سُفْيَان؛ فَجهز منذرا إِلَى قُرَيْش يستنفرهم إِلَى أَمْوَالهم؛ فَأَسْرعُوا الْخُرُوج، وَلم يتَخَلَّف من أَشْرَافهم أحد إِلَّا أَبَا لَهب، بعث مَكَانَهُ الْعَاصِ أَخا أبي جهل. وَكَانَت قُرَيْش تِسْعمائَة وَخمسين رجلا، فيهم مائَة فَارس. وَكَانَت عدَّة أَصْحَاب رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر رجلا، وَلم

يكن فيهم إِلَّا فرسَان: فرس لِلْمِقْدَادِ واسْمه سبْحَة -[مصدر من السباحة، وَهِي العوم]-[سمى بذلك لحسن] سيره -، وَفرس لمرثد بن أبي مرْثَد الغنوي. قيل: وَفرس للزبير. والتقى الْجَمْعَانِ. وَبعث الله تَعَالَى جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - فِي نفر من الْمَلَائِكَة؛ فَانْهَزَمَ الْمُشْركُونَ، وَقتل مِنْهُم سَبْعُونَ رجلا من صَنَادِيدهمْ، مِنْهُم: أَبُو جهل، وَشَيْبَة وَعتبَة - إبنا ربيعَة - وَأُميَّة بن خلف. وَأسر مِنْهُم سَبْعُونَ [رجلا] أَيْضا مِنْهُم: الْعَبَّاس عَم النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-. وَلم يستشهد من الْمُسلمين غير أَرْبَعَة عشر رجلا. [إنتهى ذكر غَزْوَة بدر بِاخْتِصَار] .

(وَفِي هَذِه السّنة ولد النُّعْمَان بن بشير، وَهُوَ أول مَوْلُود ولد فِي الْإِسْلَام من الْأَنْصَار. وفيهَا أَيْضا ولد عبد الله بن الزبير، وَهُوَ أول مَوْلُود ولد فِي الْإِسْلَام من الْمُهَاجِرين.

ذكر نبذة من غزوة أحد

(ذكر نبذة من غَزْوَة أحد) وَاقع نَبِي الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- فِي يَوْم السبت لإحدى عشرَة لَيْلَة مَضَت من شَوَّال سنة ثَلَاث من الْهِجْرَة. وَكَانَ من أمرهَا: أَن قُريْشًا اجْتَمعُوا فِي ثَلَاثَة آلَاف، مِنْهُم سَبْعمِائة دارع، وَفِيهِمْ مِائَتَا فَارس، وَقَائِدهمْ أَبُو سُفْيَان بن حَرْب، وَمَعَهُ [زَوجته] هِنْد فِي نسَاء مَعَهُنَّ الدفوف يضربن بهَا وينحن على قَتْلَى بدر. وَسَار إِلَيْهِم رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- فِي ألف رجل. فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الطَّرِيق رَجَعَ عبد الله بن أبي بن سلول - الْمُنَافِق - فِي ثلث النَّاس. ثمَّ التقى الْفَرِيقَانِ، وَلم يكن مَعَ أَصْحَاب رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- سوى فرسين. وَكَانَ على ميمنة الْمُشْركين خَالِد بن الْوَلِيد، وعَلى ميسرتهم عِكْرِمَة بن أبي جهل، ووقفت النِّسَاء خلفهن يضربن بِالدُّفُوفِ وينحن.

وَكَانَت راية النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- يَوْم أحد مِرْطًا أسود لعَائِشَة، وَرَايَة الْأَنْصَار يُقَال لَهَا الْعقَاب، وعَلى ميمنته عَليّ - كرم الله وَجهه -، وعَلى ميسرته الْمُنْذر بن عَمْرو السَّاعِدِيّ، وَالزُّبَيْر بن الْعَوام على الرِّجَال - وَيُقَال الْمِقْدَاد بن الْأسود -. وَكَانَ حَمْزَة [رَضِي الله عَنهُ] على الْقلب، واللواء مَعَ مُصعب بن عُمَيْر؛ فَقتل؛ فَأعْطَاهُ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- لعَلي. وَأخذ رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- سَيْفا وَقَالَ: من يَأْخُذ مني هَذَا بِحقِّهِ؛ فبسطوا أَيْديهم، وَصَارَ كل مِنْهُم يَقُول: أَنا، أَنا؛ فَقَالَ: من يَأْخُذهُ؟ {فأحجم الْقَوْم؛ فَقَالَ لَهُ أَبُو دُجَانَة [سماك] : أَنا آخذه بِحقِّهِ. قَالَ: فَأَخذه ففلق هام الْمُشْركين بِهِ. أخرجه مُسلم.} ! وَانْهَزَمَ الْمُشْركُونَ؛ فطمع الْمُسلمُونَ فِي الْغَنِيمَة؛ فاختلوا عَن مواقفهم؛ فَأتى خَالِد بن الْوَلِيد من خلف الْمُسلمين، وَوَقع الصَّارِخ

بِأَن مُحَمَّدًا قد قتل؛ فانكشف الْمُسلمُونَ، وَأصَاب الْعَدو فيهم؛ فَكَانَت عدَّة الشُّهَدَاء من الْمُسلمين سَبْعُونَ رجلا، مِنْهُم: حَمْزَة عَم النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وَمصْعَب بن عُمَيْر، وحَنْظَلَة بن [أبي] عَامر - غسيل الْمَلَائِكَة -، واليمان وَالِد حُذَيْفَة. وَوصل الْعَدو إِلَى رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وأصابته حجارتهم، وَأُصِيبَتْ رباعيته، وشج وَجهه -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- فَكَانَ يمسحه وَيَقُول: ((كَيفَ يفلح قوم فعلوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ وَهُوَ يَدعُوهُم إِلَى رَبهم)) ؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء} الْآيَة. وَشقت هِنْد بطن حَمْزَة ومضغت كبده. ثمَّ سَار الْمُشْركُونَ إِلَى مَكَّة. وَصلى رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- على عَمه حَمْزَة؛ فَكبر سبع تَكْبِيرَات، وأتى بالقتلى يوضعون إِلَى جَانِبه، فَيصَلي عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم، حَتَّى صلى عَلَيْهِ إثنين وَسبعين صَلَاة، ثمَّ أَمر بدفن حَمْزَة؛ فَدفن. وَرجع رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- إِلَى الْمَدِينَة. [إنتهى الْكَلَام فِي غَزْوَة أحد بِاخْتِصَار] .

وَفِي السّنة الرَّابِعَة من الْهِجْرَة - فِي صفر - كَانَت غَزْوَة بِئْر مَعُونَة، وَاسْتشْهدَ فِيهَا الْأَرْبَعُونَ من الْقُرَّاء مِنْهُم: عَامر بن فهَيْرَة، وَالْمُنْذر بن عَمْرو السَّاعِدِيّ - أَمِيرهمْ - والْحَارث بن الصمَّة، وَحرَام بن ملْحَان، وَنَافِع بن بديل بن وَرْقَاء الْخُزَاعِيّ. وَفِي شهر ربيع الأول مِنْهَا كَانَت غَزْوَة بني النَّضِير. [و] فِي جُمَادَى الأولى مِنْهَا أَيْضا كَانَت غَزْوَة ذَات الرّقاع. السّنة الْخَامِسَة: فِي شَوَّال مِنْهَا كَانَت غَزْوَة الخَنْدَق وحصار الْأَحْزَاب للْمُسلمين. وَفِي ذِي الْحجَّة كَانَ موت سعد بن معَاذ - سيد الْأَوْس -.

وفيهَا أَيْضا كَانَت غَزْوَة دومة الجندل. وفيهَا أَيْضا كَانَت غَزْوَة بني قُرَيْظَة. السّنة السَّادِسَة: فِي شعْبَان مِنْهَا كَانَت غَزْوَة بني المصطلق، الْتَقَوْا [عِنْد الْمُريْسِيع] وَأصَاب مِنْهُم رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- أم الْمُؤمنِينَ جوَيْرِية بنت الْحَارِث. وَفِي الرُّجُوع مِنْهَا حَدِيث الْإِفْك. السّنة السَّابِعَة: فِي الْمحرم، سَار النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وافتتح خَيْبَر فِي صفر. وَفِي وسط السّنة كَانَت غَزْوَة ذَات السلَاسِل، وأميرهم عَمْرو ابْن الْعَاصِ. وَفِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا كَانَت عمْرَة الْقَضَاء.

وفيهَا تزوج النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- بصفية بنت حييّ، وَبعدهَا بِأم حَبِيبَة، ثمَّ بميمونة بنت الْحَارِث بسرف، وَهُوَ رَاجع من الْعمرَة. السّنة الثَّامِنَة: فِيهَا كَانَت وقْعَة مُؤْتَة بالكرك فِي جُمَادَى الأولى، وَاسْتشْهدَ [فِيهَا] الْأُمَرَاء الثَّلَاثَة، وهم: زيد بن حَارِثَة - حب رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- ومولاه، وجعفر بن أبي طَالب - ذُو الجناحين -، وَعبد الله بن رَوَاحَة - أَبُو عَمْرو - أحد النُّقَبَاء لَيْلَة الْعقبَة. وَفِي شهر رَمَضَان مِنْهَا كَانَ فتح مَكَّة؛ وَأمر الْفَتْح: أَن رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- كَانَ قد تهادن مَعَ قُرَيْش؛ فَسَار [رَسُول الله]-[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- إِلَيْهِم فِي عشرَة آلَاف من الْمُسلمين، لعشر بَقينَ من شهر رَمَضَان من السّنة. وَقيل: سنة تسع. فَلَمَّا نزل قَرِيبا من مَكَّة ركب الْعَبَّاس بغلة النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وَجَاء ليعلم قُريْشًا؛ لِئَلَّا يهْلكُوا تَحت السَّيْف؛ فلقي أَبَا سُفْيَان؛ فَقَالَ لَهُ: مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: أَتَاكُم النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- فِي عشرَة آلَاف؛ فَقَالَ: وَمَا تَأْمُرنِي أفعل؟ قَالَ: أركب

خَلْفي، لأستأمن لَك رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- لِئَلَّا تهْلك؛ فَركب خَلفه، وَجَاء إِلَى النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-: وَيحك يَا أَبَا سُفْيَان {، أما آن [لَك] ، أَن تشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله؟} فَقَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَنَّك رَسُول الله، فَقَالَ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- للْعَبَّاس: أمض بِهِ إِلَى ضيق الْوَادي؛ فأره جنود الله؛ فَذهب بِهِ إِلَى ضيق الْوَادي. وَمَرَّتْ بِهِ الْقَبَائِل، وَهُوَ يسْأَل عَنْهَا قَبيلَة قَبيلَة، وَالْعَبَّاس يُخبرهُ حَتَّى مر النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- فِي كتيبته الخضراء من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار لَا يبين مِنْهُم إِلَّا حماليق الحدق؛ فَقَالَ: من هَؤُلَاءِ؟ {؛ فَقَالَ: هَذَا رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-[فِي الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار] فَقَالَ أَبُو سُفْيَان: لقد أُوتِيَ ابْن أَخِيك ملكا عَظِيما} {فَقَالَ: وَيحك} إِنَّهَا النبوه. قَالَ: صدقت. وَدخلت أُمَرَاء الْمُسلمين بِلَا قتال؛ لِأَن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- نهى عَن الْقِتَال؛ فَدخل الزبير من نَاحيَة، وَسعد بن عبَادَة من نَاحيَة، وَعلي بن أبي طَالب من نَاحيَة، وَكلهمْ لم يقاتلوا، إِلَّا خَالِد بن الْوَلِيد؛ فَإِن الْمُشْركين قَاتلُوهُ قَاتلهم. ثمَّ طَاف النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- بِالْبَيْتِ سبعا، وَجعل لَا يُشِير إِلَى صنم إِلَّا سقط. وفيهَا أَيْضا كَانَت غَزْوَة حنين، [وَكَانَت] فِي شَوَّال.

وَلما فتحت مَكَّة تجمعت هوَازن وَأهل الطَّائِف فِي مائَة وَعشْرين ألفا؛ فَخرج إِلَيْهِم رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- فِي اثْنَتَيْ عشرَة ألفا بعد أَن اسْتعْمل النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- على مَكَّة عتاب بن أسيد بن الْعيص بن أُميَّة. قَالَ الْحَافِظ [أَبُو عبد الله] الذَّهَبِيّ: قَالَ شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق: سَمِعت الْبَراء قَالَ لَهُ رجل: يَا أَبَا عمَارَة، أَفَرَرْتُم عَن رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-؟ ! قَالَ: لَكِن رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- لم يفر؛ وَذَلِكَ أَن هوَازن كَانُوا رُمَاة؛ فَلَمَّا لَقِينَاهُمْ وحملنا عَلَيْهِم انْهَزمُوا؛ فَأقبل النَّاس على الْغَنَائِم؛ فَاسْتَقْبلُوا بِالسِّهَامِ؛ فَانْهَزَمَ النَّاس؛ فَلَقَد رَأَيْت رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وَأَبُو سُفْيَان آخذ بلجام بغلته، وَالنَّبِيّ -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- يَقُول: (أَنا النَّبِي لَا كذب ... أَنا ابْن عبد الْمطلب) مُتَّفق عَلَيْهِ. من حَدِيث زُهَيْر بن مُعَاوِيَة عَن أبي إِسْحَاق. ثمَّ تراجعت الْمُسلمُونَ، وَنصر الله نبيه، وغنم الْمُسلمُونَ مِنْهُم أَمْوَالًا عَظِيمَة، قسمهَا رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-[على الْمُسلمين] وَرجع إِلَى مَكَّة، فَاعْتَمَرَ وَرجع إِلَى الْمَدِينَة. وفيهَا توفيت زَيْنَب الْكُبْرَى -[من بَنَاته] وكنيتها: أم إِمَامَة.

السّنة التَّاسِعَة: فِي [شهر] رَجَب مِنْهَا صلى رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- على النَّجَاشِيّ -[رَضِي الله عَنهُ]-. وَفِي شعْبَان مِنْهَا توفيت أم كُلْثُوم بنت النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-، وَزَوْجَة عُثْمَان بن عَفَّان -[رَضِي الله عَنهُ]-. وَفِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا توفّي عبد الله بن أبي [بن] سلول الْمُنَافِق. وفيهَا كَانَت غَزْوَة تَبُوك، ومسير خَالِد بن الْوَلِيد إِلَى دومة الجندل؛ فَأسر صَاحبهَا أكيدر - وَكَانَ نَصْرَانِيّا -. وفيهَا أَقَامَ الْحَج أَبُو بكر [الصّديق - رَضِي الله عَنهُ]-. وفيهَا قتلت فَارس ملكهم شهر برَاز بن شيرويه، وملكوا عَلَيْهِم بوزان بنت كسْرَى. السّنة الْعَاشِرَة من الْهِجْرَة: فِي شهر ربيع الأول مِنْهَا توفّي إِبْرَاهِيم إِبْنِ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وَله سنة وَنصف، وَأمه مَارِيَة الْقبْطِيَّة.

وفيهَا قدمت وُفُود الْعَرَب، وَدخل النَّاس فِي الْإِسْلَام أَفْوَاجًا. وفيهَا كَانَت حجَّة الْوَدَاع، وفيهَا كَانَ ظُهُور الْأسود الْعَنسِي المتنبئ بِالْيمن، وَغلب على صنعاء وَغَيرهَا، ثمَّ قَتله الله [تَعَالَى] [فِي أول] السّنة الْآتِيَة. سنة إِحْدَى عشرَة من الْهِجْرَة: فِيهَا كَانَت وَفَاة النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-. وَلما رَجَعَ رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- من حجَّة الْوَدَاع، أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ إِلَى أَوَاخِر صفر؛ فَمَرض -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-. فَلَمَّا اشْتَدَّ بِهِ الْمَرَض أَمر مناديا؛ فَنَادَى فِي الْمَدِينَة: أَن اجْتَمعُوا لوَصِيَّة النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-؛ فَاجْتمع كل من فِي الْمَدِينَة فِي ذكر وَأُنْثَى، وكبير وصغير، وَتركُوا أَبْوَابهم مفتحة ودكاكينهم. وَخرج -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وَهُوَ متوعك؛ فخطبهم خطْبَة وصاهم فِيهَا وَصَايَا كَثِيرَة، ثمَّ دخل بَيته -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- فَأَقَامَ بِهِ إِلَى أَن توفّي يَوْم الأثنين ثَانِي عشر ربيع الأول حِين زاغت الشَّمْس لِاثْنَتَيْ عشرَة، لَيْلَة خلت من [شهر] ربيع الأول. قَالَ السُّهيْلي: لَا يَصح أَن تكون وَفَاته يَوْم الأثنين إِلَّا فِي ثَانِي الشَّهْر، أَو ثَالِث عشره أَو رَابِع عشره، أَو خَامِس عشره؛ لإِجْمَاع

الْمُسلمين على أَن وَقْفَة عَرَفَة كَانَت يَوْم الْجُمُعَة، وَهُوَ تَاسِع ذِي الْحجَّة؛ [فَدخل ذُو الْحجَّة يَوْم الْخَمِيس] ؛ فَكَانَ الْمحرم إِمَّا الْجُمُعَة وَإِمَّا السبت [فَإِن كَانَ الْجُمُعَة؛ فقد كَانَ إِمَّا السبت وَإِمَّا الْأَحَد] ، [فَإِن كَانَ السبت] فقد كَانَ ربيع الْأَحَد أَو الأثنين] ؛ فَيكون أول صفر إِمَّا [السبت أَو] الْأَحَد أَو الأثنين؛ فعلى هَذَا لَا يكون الثَّانِي عشر من شهر ربيع الأول [يَوْم الأثنين] بِوَجْه. وَذكر [الطَّبَرِيّ عَن ابْن] الْكَلْبِيّ وَأبي مخنف أَنه توفّي فِي الثَّامِن من شهر ربيع الأول. قَالَ الطَّبَرِيّ: (وَهَذَا الْقَوْم [وَإِن كَانَ) خلاف] الْجُمْهُور؛ فَلَا يبعد أَن كَانَت الثَّلَاثَة أشهر الَّتِي قبله كلهَا كَانَت تِسْعَة وَعشْرين يَوْمًا. وَفِيمَا قَالَه نظر؛ لمتابعة أنس بن مَالك فِيمَا حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ والواقدي. وَقَالَ الْخَوَارِزْمِيّ: [توفّي] أول شهر ربيع [الأول] ، وَدفن لَيْلَة الْأَرْبَعَاء. وَقيل: لَيْلَة الثُّلَاثَاء. وَقيل: يَوْم الأثنين عِنْد الزَّوَال. قَالَه الْحَاكِم وَصَححهُ.

وَقَالَ الذَّهَبِيّ: إِذا تقرر أَن كمل الدّور فِي ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة، كَانَ فِي سِتّمائَة وَسِتِّينَ عَاما وَعِشْرُونَ دورا؛ فَإلَى سنة ثَلَاث وَسَبْعمائة من وَقت مَوته إِحْدَى وَعِشْرُونَ دورا؛ فَفِي ربيع الأول مِنْهَا كَانَ وُقُوع تشرين الأول، وَكَانَ [بعض] أيلول فِي صفر، وَكَانَ آب فِي الْمحرم، وَكَانَ [أَكثر] تموز فِي ذِي الْحجَّة؛ فحجة الْوَدَاع [كَانَت] فِي تموز. ثمَّ ذكر أَيْضا خلافًا يضيق [عَنهُ هَذَا الْمُخْتَصر] . وَكَانَت مُدَّة علته -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- اثْنَتَيْ عشرَة يَوْمًا، وَقيل: أَرْبَعَة عشر يَوْمًا، وَقيل: ثَلَاثَة عشر [يَوْمًا] ، وَقيل: عشرَة أَيَّام. وغسله عَليّ، وَالْعَبَّاس وإبنه الْفضل [يعينانه] ، وَقثم

وَأُسَامَة وشقران يصبون المَاء وأعينهم معصوبة من وَرَاء السّتْر، لحَدِيث عَليّ: لَا يغسلني أحد إِلَّا أَنْت؛ فَإِنَّهُ لَا يرى عورتي أحد إِلَّا طمست عَيناهُ. وَغسل -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وقميصه عَلَيْهِ. وَدفن - بعد أَن صلى عَلَيْهِ النَّاس أَفْوَاجًا أَفْوَاجًا - فِي بَيت عَائِشَة -[رَضِي الله عَنْهَا]-. قَالَ الذَّهَبِيّ: وَصفَة قَبره -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-[وصاحبيه أَبَا بكر وَعمر] قَالَ عَمْرو بن عُثْمَان بن هَانِئ، عَن الْقَاسِم قَالَ: قلت لعَائِشَة: اكشفي لي عَن قبر رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وصاحبيه؛ فَكشفت [لي] عَن ثَلَاثَة قُبُور، لَا مشرفة وَلَا لاطئة - مبطوحة ببطحاء الساحة الْحَمْرَاء: رَسُول الله. أَبُو بكر عمر. [أخرجه أَبُو دَاوُد هَكَذَا. وَقَالَ أَبُو بكر بن عَيَّاش عَن سُفْيَان التمار: أَنه حَدثهُ أَنه رأى قبر النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- مسنما] . أخرجه البُخَارِيّ.

ذكر أولاده صلى الله عليه وسلم

ذكر أَوْلَاده -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- رزق من خَدِيجَة أَربع ذُكُور: وهم الْقَاسِم، وَالطّيب، والطاهر، وَعبد الله. وماتوا صغَارًا. ورزق من مَارِيَة: إِبْرَاهِيم، وَمَات صَغِيرا أَيْضا. ورزق من خَدِيجَة أَيْضا أَربع بَنَات، وَهن: فَاطِمَة، وَزَيْنَب، ورقية، وَأم كُلْثُوم. والجميع مَاتُوا قبله، إِلَّا فَاطِمَة؛ فَإِنَّهَا عاشت بعده سِتَّة أشهر. وَقيل: أقل من ذَلِك.

ذكر أزوجه صلى الله عليه وسلم

(ذكر أزَوجهُ -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-) تزوج خَدِيجَة بنت خويلد -[رَضِي الله عَنْهَا]-، وَتوفيت صحبته - كَمَا تقدم -. وَعَن عَائِشَة -[رَضِي الله عَنْهَا]- قَالَت: توفيت خَدِيجَة قبل أَن تفرض الصَّلَاة، وَقيل: كَانَت وفاتها فِي شهر رَمَضَان، ودفنت بالحجون، وَقيل: إِنَّهَا عاشت خمْسا وَسِتِّينَ سنة. قَالَ الزبير: تزَوجهَا النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وَلها أَرْبَعُونَ سنة، وأقامت مَعَه أَرْبعا وَعشْرين سنة. وَتزَوج بسودة بنت زَمعَة -[رَضِي الله عَنْهَا]- وَتوفيت بعده فِي شَوَّال سنة أَربع وَخمسين بِالْمَدِينَةِ. وَتزَوج بعائشة بنت [أبي بكر] الصّديق -[رَضِي الله عَنْهُمَا]- وَتوفيت بعده فِي سَابِع عشر شهر رَمَضَان سنة سبع وَخمسين من الْهِجْرَة، ودفنت بِالبَقِيعِ. وَتزَوج بحفصة بنت عمر بن الْخطاب -[رَضِي الله عَنْهُمَا]- وَتوفيت بعده، سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين، وَقيل: سنة خمس وَأَرْبَعين. (وَتزَوج أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان صَخْر بن حَرْب -[رَضِي الله عَنْهُمَا]-، وَاسْمهَا رَملَة، وَتوفيت بعده، سنة أَربع وَأَرْبَعين، وَقيل: سنة اثْنَيْنِ وَأَرْبَعين) .

وَتزَوج أم سَلمَة بنت أبي أُميَّة -[رَضِي الله عَنْهَا]- وَاسْمهَا هِنْد، وَتوفيت بعده، سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَهِي آخر أَزوَاجه وَفَاة. وَتزَوج زَيْنَب بنت جحش -[رَضِي الله عَنْهَا]- وَتوفيت بعده، سنة عشْرين فِي ذِي الْقعدَة، وَهِي أول من توفى بعده من أَزوَاجه. وَتزَوج بجويرية بنت الْحَارِث -[رَضِي الله عَنْهَا]-، وَتوفيت بعده، سنة سِتّ وَخمسين بِالْمَدِينَةِ. وَتزَوج بصفية بنت حييّ [بن أَخطب]-[رَضِي الله عَنْهَا]-، وَتوفيت بعده، سنة خمس وَثَلَاثِينَ، وَقيل: سِتَّة وَثَلَاثِينَ. وَتزَوج بميمونة بنت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة، وَتوفيت بعده، سنة إِحْدَى وَخمسين، وَقيل: سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ، وَالْأول أصح. وَهَؤُلَاء التِّسْعَة اللَّاتِي توفى رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وَهن فِي عصمته. وَتزَوج بِزَيْنَب بنت خُزَيْمَة. وَتزَوج بفاطمة بنت الضَّحَّاك. وَتزَوج بأساف أُخْت دحْيَة الْكَلْبِيّ.

وَتزَوج بخولة بنت الْهُذيْل -[رَضِي الله عَنْهَا]-؛ فَحملت إِلَيْهِ من الشَّام؛ فَمَاتَتْ فِي الطَّرِيق. وَتزَوج بِعُمْرَة بنت يزِيد، وَطَلقهَا قبل [بنائِهِ بهَا. وَتزَوج بمليكة الليثية، وَطَلقهَا قبل] الدُّخُول بهَا. وَلم يتَزَوَّج فِيهِنَّ [الْجَمِيع] بكرا غير عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهُن أَجْمَعِينَ -.

كتابه صلى الله عليه وسلم

كِتَابه -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة، وَطَلْحَة، وَالزُّبَيْر، وَابْن أبي وَقاص، [عَامر] بن فهَيْرَة، وَعبد لله بن الأرقم، وَأبي، وثابت بن قيس، وخَالِد وَأَبَان - إبنا سعيد بن الْعَاصِ - وحَنْظَلَة الأسيد، وَأَبُو سُفْيَان وإبناه وَمُعَاوِيَة، وَزيد بن ثَابت، وشرحبيل بن حَسَنَة، والْعَلَاء [بن] الْحَضْرَمِيّ،

وخَالِد بن الْوَلِيد، وَمُحَمّد بن مسلمة، والمغيرة بن شُعْبَة، وَابْن رَوَاحَة، وَعبد الله بن عبد الله بن [أبي] سلول وَعَمْرو بن الْعَاصِ، وجهم بن سعد، وجهيم بن الصَّلْت، ومعيقيب والأرقم بن [أبي] الأرقم، وَعبد الله بن زيد بن عبد ربه، والْعَلَاء بن عقبَة، وَأَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ، وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان، وَبُرَيْدَة، وحصين بن نمير، وَعبد الله بن سعد بن أبي

سرح، وَأَبُو سَلمَة بن عبد الْأسد، وَحُوَيْطِب بن عبد الْعُزَّى، وحاطب بن عَمْرو بن خطل.

خدامه صلى الله عليه وسلم

خُدَّامه -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- [وهم] : أنس، وَهِنْد وَأَسْمَاء - إبنا حَارِثَة الأسلميان - وَرَبِيعَة بن كَعْب - صَاحب وضوئِهِ - وَابْن مَسْعُود - صَاحب نَعْلَيْه - وَعقبَة بن عَامر - يَقُود بغلته - وبلال، وَسعد - مولى أبي بكر -، وَذُو مخمر - ابْن أخي النَّجَاشِيّ -، وَبكر بن شَدَّاخٍ اللَّيْثِيّ،

وَأَبُو ذَر، [وأربد] ، وأسلع [بن شريك] ، وَالْأسود بن مَالك، وأيمن بن [أم] أَيمن - صَاحب مطهرته - وثعلبة بن عبد الرَّحْمَن، وَجَرِير الحدرجان وَسَالم، وَزعم بَعضهم أَنه أَبُو سلمى الرَّاعِي، وسابق، وسلمى، ومهاجر - مولى أم سَلمَة - ونعيم بن ربيعَة الْأَسْلَمِيّ، وَأَبُو الْحَمْرَاء هِلَال بن الْحَارِث، وَأَبُو السَّمْح أياد، وَأَبُو سَلام سَالم، وَأَبُو عُبَيْدَة، وَغُلَام من الْأَنْصَار نَحْو أنس، وَأمة الله بنت رزينة، وبركة - أم أَيمن -،

وخضرة، وَخَوْلَة - جدة حَفْص -، ورزينة - أم عليلة -، وسلمى - أم رَافع - ومارية - أم الربَاب -، ومارية - جدة الْمثنى بن صَالح -، ومَيْمُونَة بنت سعد، وَأم عَيَّاش، وَصفِيَّة. وَمن الموَالِي: أُسَامَة وَأَبوهُ زيد، وثوبان، وَأَبُو كَبْشَة - أَوْس، وَيُقَال سليم من مولدِي مَكَّة -، وشقران - واسْمه صَالح، حبشِي، وَيُقَال فَارسي -، ورباح - الَّذِي أذن لعمر فِي السّريَّة، نوبى -[وَكَذَلِكَ يسَار]- وَهُوَ الَّذِي قَتله العرنيون وَأَبُو رَافع - اسْمه أسلم -. وَجَمَاعَة أخر يزِيدُونَ على خمسين نَفرا.

وَمن الْإِمَاء: سلمى - أم رَافع -[ورضوى] ، وَأُمَيْمَة، وَرَبِيعَة - وَيُقَال: هِيَ رَيْحَانَة السّريَّة -، وسانية، ومارية، وَأُخْتهَا قيسر، وَأم ضميرَة، وغيرهن.

مؤذنو رسول الله صلى الله عليه وسلم

(مؤذنو رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-) أَفَادَ الشَّيْخ [الْمُفِيد] الْمسند زين الدّين رضوَان مستملئ الحَدِيث النَّبَوِيّ بالديار المصرية عَن شيخ الْإِسْلَام جلال الدّين [عبد الرَّحْمَن] البُلْقِينِيّ قَالَ: مؤذنو رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- سِتَّة هم: بِلَال، وَابْن أم مَكْتُوم، وَأَبُو مَحْذُورَة - واسْمه إِيَاس أَو سَمُرَة بن معير -، وَسعد الْقرظ وَزيد بن الْحَارِث الصدائي، وَعبد الْعَزِيز بن الْأَصَم. أخرجه أَحْمد [بن منيع] فِي مُسْنده، قَالَ: وَبَلغنِي عَن شَيْخي أبي زرْعَة أَن ابْن حبَان أخرجه أَيْضا فِي صَحِيحه.

الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم من بعدهم واحد بعد واحد إلى خليفة وقتنا

(الْخُلَفَاء بعد رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- ثمَّ من بعدهمْ وَاحِد بعد وَاحِد إِلَى خَليفَة وقتنا) . وَقد صنفت هَذَا الْكتاب بسببهم - رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ -. (أَبُو بكر الصّديق: خَليفَة رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-) [واسْمه عبد الله]- وَيُقَال: عَتيق بن أبي قُحَافَة - عُثْمَان بن عَامر بن عَمْرو بن كَعْب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي، الْقرشِي التَّيْمِيّ -[رَضِي الله عَنهُ]-.

توفى أَبوهُ [أَبُو] قُحَافَة بعد وَلَده أبي بكر الصّديق بِسِتَّة أشهر - فِي الْمحرم - عَن بضع وَتِسْعين سنة. وَقد أسلم أَبُو قُحَافَة يَوْم الْفَتْح؛ فَأتى بِهِ إبنه أَبُو بكر هَذَا يَقُودهُ إِلَى النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- لكبره؛ فَقَالَ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-: ((لم لَا تركت الشَّيْخ حَتَّى آتيه)) - إجلالا لأبي بكر - رَضِي الله عَنْهُمَا -. بُويِعَ [أَبُو بكر الصّديق - رَضِي لله عَنهُ -] بالخلافة بعد وَفَاة [رَسُول الله]-[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وتمت بيعَته فِيهَا بِإِجْمَاع الْمُسلمين. فَائِدَة: قيل: إِن الَّذين أطلق عَلَيْهِم خَليفَة ثَلَاثَة: آدم وَدَاوُد - عَلَيْهِمَا السَّلَام - بِلَفْظ الْقُرْآن، وَأَبُو بكر الصّديق بِإِجْمَاع الْمُسلمين. إنتهى. وَأمه - رَضِي الله عَنهُ - أم الْخَيْر، وَاسْمهَا: سلمى. قَالَ [الْحَافِظ] الذَّهَبِيّ فِي تَارِيخه: كَانَ أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - أَبيض أصفر، لطيفا، جَعدًا، مسيدق الْوَرِكَيْنِ، لَا يلبث أزاره على وركيه. وَجَاء: أَنه أتجر إِلَى بصرى غير مرّة، وَأَنه أنْفق أَمْوَاله على النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وَفِي [سَبِيل الله] .

قَالَ رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-: [مَا نَفَعَنِي مَال] ، ((مَا نَفَعَنِي مَال أبي بكر)) وَقَالَ عُرْوَة: أسلم أَبُو بكر - يَوْم أسلم - وَله أَرْبَعُونَ ألف دِينَار. وَقَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ: يَا رَسُول الله! أَي الرِّجَال أحب إِلَيْك؟ قل: ((أَبُو بكر)) . [و] قَالَ أَبُو سُفْيَان عَن جَابر قَالَ رَسُول لله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- ((لَا يبغض أَبَا بكر وَعمر مُؤمن وَلَا يحبهما مُنَافِق)) . وَقَالَ [الشّعبِيّ عَن الْحَارِث] عَن عَليّ: أَن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- نظر إِلَى أبي بكر وَعمر؛ فَقَالَ: ((هَذَانِ سيدا كهول أهل الْجنَّة من الْأَوَّلين والآخرين إِلَّا النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ، لَا تخبرهما يَا عَليّ)) . وروى نَحوه من وُجُوه. قلت: وَاسْتمرّ فِي الْخلَافَة، إِلَى أَن توفى مسموما فِي يَوْم الثُّلَاثَاء. وَقيل: لَيْلَة الْأَحَد لثمان بَقينَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث عشرَة من الْهِجْرَة النَّبَوِيَّة. وَكَانَت خِلَافَته -[رَضِي الله عَنهُ]- سنتَيْن وَثَلَاثَة أشهر وَعشرَة أَيَّام. وعهد بالخلافة من بعده إِلَى عمر [بن الْخطاب]-[رَضِي الله عَنهُ]-. وَفِي آخر أَيَّامه كَانَت وقْعَة اليرموك، وَهِي [الْوَقْعَة] الَّتِي فتح الله بهَا الشَّام. وَكَانَ الْمُتَوَلِي لَهَا خَالِد بن الْوَلِيد وَأَبُو عُبَيْدَة.

قلت: ومناقب الإِمَام كَثِيرَة تضيق المطولات عَن حصرها؛ فَكيف هَذَا الْمُخْتَصر؟ ! . وَلَيْسَ الْغَرَض هُنَا إِلَّا إِثْبَات وَفَاته وَمُدَّة خِلَافَته - رَضِي الله عَنهُ -.

خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه

( [خلَافَة] عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ -) هُوَ [الإِمَام] عمر [بن الْخطاب] بن نفَيْل بن عبد الْعُزَّى بن ريَاح - بِكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف التَّحْتَانِيَّة آخر الْحُرُوف - بن قرط رزاح بن عدي بن كَعْب بن لؤَي. أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبُو حَفْص الْقرشِي الْعَدْوى، الْفَارُوق. أحد الْعشْرَة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ، وَثَانِي الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة. وَأمه خَيْثَمَة بنت هِشَام المخزومية، أُخْت أبي جهل. أسلم عمر - رَضِي الله عَنهُ - فِي السّنة السَّادِسَة من النُّبُوَّة وَله سبع وَعِشْرُونَ سنة.

قَالَ الْحَافِظ [أَبُو عبد الله] الذَّهَبِيّ - ويروى عَن عبد الله بن كَعْب بن مَالك - قَالَ: كَانَ عمر يَأْخُذ بِيَدِهِ الْيُمْنَى أُذُنه الْيُسْرَى ويثب على فرسه؛ فَكَأَنَّمَا خلق على ظَهره. [وَعَن ابْن] عمر وَغَيره من وُجُوه جَيِّدَة، أَن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- قَالَ: ((اللَّهُمَّ أعز الْإِسْلَام بعمر بن الْخطاب)) . وَقَالَ عِكْرِمَة: لم يزل الْإِسْلَام فِي اختفاء حَتَّى أسلم عمر. وَقَالَ سعيد بن جُبَير {وَصَالح الْمُؤمنِينَ} نزلت فِي عمر خَاصَّة. وَقَالَ شهر بن حَوْشَب عَن عبد الرَّحْمَن بن غنم: أَن رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- قَالَ لَهُ أَبُو بكر وَعمر: إِن النَّاس يزيدهم حرصا على الْإِسْلَام أَن يرَوا عَلَيْك زيا حسنا من الدُّنْيَا؛ فَقَالَ: أفعل، وأيم الله لَو أنكما تتَّفقَانِ على أَمر وَاحِد مَا عصيتكما فِي مشورة أبدا. قلت: وَكَانَت خلَافَة عمر بِعَهْد من أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنْهُمَا -. وَهُوَ أول خَليفَة تسمى بأمير الْمُؤمنِينَ، وَأول من أرخ التَّارِيخ، وَدون الدَّوَاوِين، وَأول من عس بِاللَّيْلِ، وَنهى عَن بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد، وَأول من جمع النَّاس فِي صَلَاة الْجَنَائِز على أَربع تَكْبِيرَات، وَأول من حمل الدرة وَضرب بهَا.

وَفِي أَيَّامه فتح الْعرَاق جَمِيعه، وَفتح الشَّام جَمِيعه، وَفتحت مصر والأسكندرية، حَتَّى قيل: إِنَّه انتصب فِي مُدَّة خِلَافَته اثْنَا عشر ألف مِنْبَر [فِي الْإِسْلَام] . وَحكى بعض المؤرخين: أَن مصر لما فتحت توقف نيلها حَتَّى فَاتَ أَوَانه؛ فَقَالَ المصريون لعَمْرو بن الْعَاصِ: أَيهَا الْأَمِير! إِن عادتنا أَن نَأْخُذ بِنْتا من أحسن النِّسَاء؛ فنلبسها أَفْخَر الْحلِيّ [وَالْحلَل] ونغرقها تَحت المقياس حَتَّى يطلع النّيل؛ فَكتب عَمْرو بن الْعَاصِ إِلَى عمر بذلك؛ فَكتب إِلَيْهِ عمر: ((هَذَا لَا يكون فِي الْإِسْلَام، وَقد بعثت إِلَيْك رقْعَة؛ فالقها فِي النّيل)) . وَكَانَ فِيهَا: ((من عبد الله عمر إِلَى نيل مصر. أما بعد: فَإِن كنت تطلع من قبلك فَلَا حَاجَة لنا فِيك، وَإِن كَانَ الله الْوَاحِد القهار الَّذِي يطلعك؛ فنسأل الله الْوَاحِد القهار أَن يطلعك)) فألقاها فِي الْبَحْر؛ فطلع النّيل فِي لَيْلَة وَاحِدَة سِتَّة عشر ذِرَاعا. إنتهى. وَكَانَ يحمل إِلَيْهِ خراج الْعرَاق وَالشَّام و [خراج] الْيمن ومصر والأسكندرية وَمَا والاهم. وَمَعَ هَذَا كَانَ فِي ثَوْبه اثْنَتَا عشرَة رقْعَة. وَلما حج [عمر] هدم الْمنَازل الَّتِي بجوار الْبَيْت الْحَرَام، وَأعْطى ثمنهَا من بَيت المَال، وزادها فِي الْمَسْجِد الْحَرَام.

وَمَات عمر -[رَضِي الله عَنهُ]- مقتولا، طعنه أَبُو لؤلؤة فَيْرُوز - غُلَام الْمُغيرَة بن شُعْبَة - بخنجر فِي خاصرته، وَهُوَ فِي صَلَاة الصُّبْح فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء لأَرْبَع بَقينَ من ذِي الْحجَّة -. قَالَه معدان بن أبي طَلْحَة وَزيد بن أسلم، وتابعهما غير وَاحِد -. إنتهى. قلت: ودام جريحا، إِلَى أَن توفّي، وَدفن يَوْم الْأَحَد مستهل الْمحرم سنة أَربع وَعشْرين من الْهِجْرَة، وَهُوَ بن أَربع - أَو خمس - وَخمسين سنة؛ [لِأَن مولده كَانَ بعد عَام الْفِيل بِثَلَاث عشرَة سنة] . وَالأَصَح أَنه مَاتَ وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ [سنة]- فِي عمر النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وَأبي بكر الصّديق -[رَضِي الله عَنهُ]-. وَكَانَت خِلَافَته عشر سِنِين وَنصفا. وَمَات عمر وَلم يعْهَد بالخلافة لأحد، وَجعلهَا شُورَى فِي سِتَّة من الصَّحَابَة الْعشْرَة وهم: عُثْمَان، وَعلي، وَطَلْحَة، وَالزُّبَيْر، وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَسعد -[رضوَان الله عَلَيْهِم]-.

خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه

( [خلَافَة] [عُثْمَان بن عَفَّان - رَضِي الله عَنهُ -) هُوَ] عُثْمَان بن عَفَّان بن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس، أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبُو عَمْرو، وَقيل: أَبُو عبد الله، الْقرشِي الْأمَوِي. أحد السَّابِقين الْأَوَّلين، وَذُو النورين، وَصَاحب الهجرتين، وَزوج الابنتين. وَأمه أروى. بُويِعَ بالخلافة بعد موت عمر بِإِجْمَاع الصَّحَابَة على خِلَافَته. وَكَانَ مولده - رَضِي الله عَنهُ -[قبل] عَام الْفِيل بِسِتَّة أَعْوَام.

وَتزَوج رقية بنت رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- قبل المبعث؛ فَولدت لَهُ عبد الله، وَبِه كَانَ يكنى. وَهَاجَر برقية إِلَى الْحَبَشَة. وَخَلفه رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- فِي غَزْوَة بدر ليدور بهَا فِي مَرضهَا؛ فَتُوُفِّيَتْ بعد بدر بِليَال. وَضرب لَهُ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] [بِسَهْم من بدر] وآجره. ثمَّ زوجه بالبنت الْأُخْرَى أم كثلوم. قَالَ الذَّهَبِيّ: [و] عَن أبي هُرَيْرَة -[رَضِي الله عَنهُ]- أَن رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- لَقِي عُثْمَان -[رَضِي الله عَنهُ]- عِنْد بَاب الْمَسْجِد فَقَالَ: ((يَا عُثْمَان، هَذَا جِبْرِيل أَخْبرنِي أَن الله -[عز وَجل]- زَوجك أم كُلْثُوم بِمثل صدَاق رقية على مثل صحبتهَا)) . أخرجه ابْن ماجة. وروى عَطِيَّة عَن أبي سعيد قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- رَافعا يَدَيْهِ يَدْعُو لعُثْمَان.

وَعَن عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة قَالَ: جَاءَ عُثْمَان إِلَى النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- بِأَلف دِينَار حِين جهز جَيش الْعسرَة، فصبها فِي حجر النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-؛ فَجعل يقلبها بِيَدِهِ وَيَقُول: مَا ضرّ عُثْمَان بعد الْيَوْم مَا عمل. رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده. إنتهى. قلت: ودام عُثْمَان فِي الْخلَافَة، وطالت أَيَّامه، إِلَى أَن قدم عَلَيْهِ جمَاعَة من الْبَصْرَة، وَجَمَاعَة من الْكُوفَة، وَجَمَاعَة من مصر؛ لِحَرْب عُثْمَان؛ لِأَنَّهُ كَانَ لما ولي الْخلَافَة عزل نواب عمر عَن الْأَمْصَار وَولى أَقَاربه وَغَيرهم. فَلَمَّا حضر هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين إِلَى عُثْمَان كَلمُوهُ فِي أُمُور ذكرت فِي المطولات. محصول ذَلِك: أَنه لما كَانَ يَوْم الْجُمُعَة ثَارُوا عَلَيْهِ ورجموه وَهُوَ على الْمِنْبَر حَتَّى غشى [عَلَيْهِ] ، ثمَّ رجموا النَّاس [حَتَّى أخرجوهم] من الْمَسْجِد. وَحمل عُثْمَان إِلَى بَيته، وحاصروه مُدَّة أَيَّام، إِلَى أَن تسلقوا عَلَيْهِ من الدَّار الَّتِي بِجَانِب دَاره، وقتلوه وَهُوَ جَالس والمصحف بَين يَدَيْهِ، بعد أُمُور صدرت بَينهم يطول شرحها. وَكَانَ قَتله بعد عصر يَوْم الْجُمُعَة ثامن ذِي الْحجَّة سنة خمس وَثَلَاثِينَ من الْهِجْرَة، وَهُوَ ابْن اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ سنة. وَدفن بثيابه بدمائه، وَلم يغسل. رَوَاهُ عبد الله بن الإِمَام أَحْمد فِي زيادات الْمسند. وَكَانَت خِلَافَته إثنا عشر سنة إِلَّا إثنتي عشرَة يَوْمًا. [وبويع عَليّ بعده] [بالخلافة] .

خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه

( [خلَافَة] عَليّ بن أبي طَالب -[رَضِي الله عَنهُ]-) وَاسم أبي طَالب عبد منَاف [بن عبد الْمطلب - واسْمه شيبَة الْحَمد - بن هَاشم ابْن عبد منَاف] . أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبُو الْحسن وَأَبُو تُرَاب، الْقرشِي، الْهَاشِمِي. وَأمه فَاطِمَة بنت أَسد بن هَاشم بن عبد منَاف، الهاشمية، وَهِي بنت عَم أبي طَالب، كَانَت من الْمُهَاجِرَات، توفيت فِي حَيَاة رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-. بُويِعَ بالخلافة بعد قتل عُثْمَان - رَضِي الله عَنْهُمَا - بِاتِّفَاق أكَابِر الصَّحَابَة على كره مِنْهُ. وَبعد خِلَافَته بأيام كَانَت وقْعَة الْجمل، وَقتل فِيهَا طَلْحَة وَالزُّبَيْر. فَأَما طَلْحَة؛ [فَقتله مَرْوَان، رَمَاه بِسَهْم]- وَهُوَ أحد الصَّحَابَة -. وَأما الزبير؛ فَقتله ابْن جرموز بعد مُنْصَرفه من وقْعَة الْجمل.

ثمَّ خرج عَلَيْهِ مُعَاوِيَة [بن أبي سُفْيَان بِالشَّام، وَقصد الْخلَافَة لنَفسِهِ، وَسَار إِلَى حَرْب عَليّ] ، [يُوهم أهل الشَّام أَنه آخذ بثأر عُثْمَان. وَسَار عَليّ إِلَى حربه] ، [والتقوا بصفين، وَقتل مِنْهُم خلق عَظِيم. قيل: إِنَّهُم سَبْعُونَ ألف نفس. وَقد حكيت هَذِه الْوَقْعَة فِي كتب كَثِيرَة، والإضراب عَن ذكرهَا أليق. وَآخر الْحَال أَن عليا - رَضِي الله عَنهُ - رَجَعَ إِلَى الْكُوفَة، وَرجع مُعَاوِيَة] إِلَى الشَّام، ودام كل مِنْهُمَا على ذَلِك، إِلَى أَن قتل عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -[حَسْبَمَا سَنذكرُهُ] . وَأما مناقبه -[رَضِي الله عَنهُ]- فكثيرة جدا، مِنْهَا: أَن رَسُول لله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- قَالَ يَوْم خَيْبَر: ((لَأُعْطيَن الرَّايَة رجلا يحب الله وَرَسُوله وَيُحِبهُ الله وَرَسُوله يفتح الله على يَدَيْهِ)) . قَالَ عمر [بن الْخطاب]-: فَمَا أَحْبَبْت الْإِمَارَة قبل يَوْمئِذٍ. [قَالَ: فدعى عليا؛ فَدَفعهَا إِلَيْهِ] . وَورد أَن رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- خلف عليا فِي بعض مغازيه؛ فَقَالَ: يَا رَسُول الله، تخلفني مَعَ النِّسَاء وَالصبيان؟ {قَالَ: ((أما ترْضى أَن تكون مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى} إِلَّا أَنه لَا نَبِي بعدِي)) . أخرجه التِّرْمِذِيّ.

وَقَالَ الذَّهَبِيّ: ويروى عَن أنس أَن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- قَالَ لإبنته فَاطِمَة: ((قد زَوجتك أعظمهم حلما وأقدمهم سلما وَأَكْثَرهم علما)) . [وَورد أَن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- قَالَ: ((من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ)) . فِي حَدِيث صَحِيح] . وَورد أَيْضا: ((من كنت وليه)) . قَالَه يَوْم غَدِير خم. وروى أَنه أهْدى إِلَى رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-[أطيارا] ؛ فَقَسمهَا وَترك طير؛ فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ أئتني بِأحب خلقك إِلَيْك؛ فجَاء عَليّ)) . قلت: ومناقبه كَثِيرَة يضيق هَذَا الْمُخْتَصر عَن ذكرهَا -[رَضِي الله عَنهُ]-. وَأما قَتله -[رَضِي الله عَنهُ] ؛ فَإِن ثَلَاثَة أنفس من الْخَوَارِج ذكرُوا أَصْحَابهم الَّذين قتلوا؛ فاتفقوا على قتل عَليّ -[رَضِي الله عَنهُ]- و [على قتل] مُعَاوِيَة، و [على قتل] عَمْرو بن الْعَاصِ، وَأخذُوا سيوفا مَسْمُومَة، وتواعدوا أَن يَفْعَلُوا ذَلِك فِي سبع عشرَة لَيْلَة تمْضِي من شهر رَمَضَان. وسافر كل وَاحِد إِلَى وَاحِد. فَأَما عبد الرَّحْمَن بن ملجم فَإِنَّهُ ذهب إِلَى الْكُوفَة وَضرب عليا فِي جَبهته. وَأما البرك فَإِنَّهُ توجه إِلَى الشَّام وَضرب مُعَاوِيَة؛ فَجَاءَت الضَّرْبَة فِي أليته، فَلم تُؤثر. وَأما عَمْرو فَإِنَّهُ توجه إِلَى مصر وَضرب خَارِجَة فَقتله، وَهُوَ يظنّ أَنه عَمْرو بن الْعَاصِ؛ فَقَالَ عَمْرو: أردْت عمرا، وَأَرَادَ الله خَارِجَة؛ فَصَارَ مثلا.

قَالَ أَبُو عبد الله الذَّهَبِيّ: قَالَ الْحسن بن عَليّ - رَضِي الله عَنْهُمَا -: خرجت البارحة وأمير الْمُؤمنِينَ يُصَلِّي؛ فَقَالَ: يَا بني {إِنِّي بت البارحة أُوقِظ أَهلِي؛ لِأَنَّهَا لَيْلَة الْجُمُعَة صَبِيحَة بدر لسبع عشرَة من رَمَضَان؛ فملكتني عَيْنَايَ، فسنح لي رَسُول -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- فَقلت: يَا رَسُول الله} أبدلني بهم من هُوَ خير مِنْهُم، وأبدلهم [بِي] من هُوَ شَرّ مني. فجَاء ابْن التياح فآذنه بِالصَّلَاةِ؛ فَخرج وَخرجت خَلفه؛ فاعتوره رجلَانِ: أما أَحدهمَا - وَهُوَ شبيب بن بجرة الْأَشْجَعِيّ - فَضَربهُ، فَوَقَعت الضَّرْبَة فِي السدة. وَأما الآخر فأثبتها فِي رَأسه - وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن ملجم -. وَقَالَ جَعْفَر مُحَمَّد عَن أَبِيه: أَن عليا كَانَ يخرج إِلَى الصَّلَاة وَفِي يَده درة، فيوقظ النَّاس بهَا؛ فَضَربهُ ابْن ملجم؛ فمسك؛ فَقَالَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: أطعموه واسقوه؛ فَإِن عِشْت فَأَنا؛ ولي دمي فَإِن شِئْت قتلت وَإِن شِئْت عَفَوْت وَإِن مت فَاقْتُلُوهُ قتلني {وَلَا تَعْتَدوا إِن لله لَا يحب الْمُعْتَدِينَ} . وَكَانَ عبد الرَّحْمَن قد سم سَيْفه، فَمَكثَ عَليّ جريحا يَوْم الْجُمُعَة والسبت وَتُوفِّي لَيْلَة الْأَحَد لإحدى عشر لَيْلَة بقيت من شهر رَمَضَان سنة أَرْبَعِينَ [من الْهِجْرَة] . وَصلى عَلَيْهِ إبنه الْحسن، وَدفن بِالْكُوفَةِ عِنْد قصر الْإِمَارَة، وَعمي قَبره لِئَلَّا تنبشه الْخَوَارِج. وَقَالَ شريك وَغَيره: نَقله إبنه الْحسن إِلَى الْمَدِينَة.

وَذكر الْمبرد عَن مُحَمَّد بن حبيب قَالَ: أول من حول [من] قبر إِلَى قبر عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ -. وَلما دفن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أحضروا عبد الرَّحْمَن بن ملجم؛ فَاجْتمع النَّاس وَجَاءُوا بالنفط والبواري؛ فَقَالَ إبنه مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَأَخُوهُ الْحُسَيْن وَعبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب: دَعونَا نشتفي مِنْهُ؛ فَقطع عبد الله يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ؛ فَلم يجزع وَلم يتَكَلَّم، ثمَّ كحلوا عَيْنَيْهِ فَجعل يَقُول: إِنَّك لتكحل عَيْني عمك، وهذأ، وَعَيناهُ تسيلان على خَدّه. ثمَّ أَمر بِهِ؛ فعولج على لِسَانه ليقطع فجزع، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك؛ فَقَالَ: ماذاك [يجزع] ، وَلَكِنِّي أكره أَن أبقى فِي الدُّنْيَا لَا أذكر الله؛ فَقطعُوا لِسَانه، ثمَّ أَخْرجُوهُ فِي قوصرة. وَكَانَ - قبحه الله - أسمر، حسن الْوَجْه، أفلج، فِي جَبهته أثر السُّجُود؛ فألقي فِي النَّار. وَتَوَلَّى الْخلَافَة بعده إبنه [الْحسن - رَضِي الله عَنْهُمَا -] .

خلافة الحسن بن علي

( [خلَافَة] الْحسن بن عَليّ) ابْن أبي طلب بن عبد الْمطلب، أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبُو مُحَمَّد، الْهَاشِمِي الْقرشِي، السَّيِّد رَيْحَانَة رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وَابْن بنته [السيدة] فَاطِمَة. ولد فِي شعْبَان سنة ثَلَاث من الْهِجْرَة. وَقيل: فِي نصف [شهر] رَمَضَان مِنْهَا. وَله صُحْبَة وَرِوَايَة عَن أَبِيه وجده. وَكَانَ يشبه النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-. حكى أَن أَبَا بكر الصّديق رَآهُ يلْعَب؛ فَأَخذه وَحمله على عُنُقه وَقَالَ: [بِأبي، شَبيه بِالنَّبِيِّ] لَيْسَ شَبِيها بعلي. وَعلي يبتسم. وَقَالَ أُسَامَة بن زيد: كَانَ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- يأخذني وَالْحسن؛ فَيَقُول: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أحبهما فأحبهما)) .

وَعَن [أبي] سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-: ((الْحسن وَالْحُسَيْن سيدا شباب أهل الْجنَّة)) . صَححهُ التِّرْمِذِيّ. قلت: ومناقب الْحسن -[رَضِي الله عَنهُ]- كَثِيرَة يضيق هَذَا الْمُخْتَصر عَن ذكرهَا. وَكَانَ الْحسن - رَضِي الله عَنهُ - سيدا حَلِيمًا، ذَا سكينَة ووقار. وَكَانَ يكره الْفِتَن وَالسيف. بُويِعَ بالخلافة بعد وَفَاة أَبِيه، وَاجْتمعَ عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ وأحبوه حبا شَدِيدا، وألزموه بِالْمَسِيرِ لِحَرْب مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان؛ فَسَار إِلَيْهِ على كره مِنْهُ. فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الطَّرِيق اخْتلف عَلَيْهِ [بعض] أَصْحَابه؛ فتأثر من ذَلِك. ثمَّ أرسل إِلَيْهِ مُعَاوِيَة فِي أثْنَاء ذَلِك يسْأَله الصُّلْح، وَأَن يسلم لَهُ الْأَمر ويبايعه بالخلافة؛ فأذعن الْحسن لذَلِك؛ صونا لدماء الْمُسلمين؛ فشق ذَلِك على أَصْحَاب الْحسن وعَلى أَخِيه الْحُسَيْن وكادت نُفُوسهم تذْهب، حَتَّى أَنه دخل على الْحسن - رَضِي الله عَنهُ - سُفْيَان - أحد أَصْحَابه - فَقَالَ لَهُ: السَّلَام عَلَيْك يَا مذل الْمُؤمنِينَ؛ فَقَالَ الْحسن: لَا تقل ذَلِك! إِنِّي كرهت أَن أقتلكم فِي طلب الْملك. إنتهى.

قَالَ الْحَافِظ [أَبُو عبد الله] الذَّهَبِيّ: قَالَ أَبُو بكرَة رَأَيْت رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- على الْمِنْبَر وَالْحسن بن عَليّ إِلَى جَانِبه وَهُوَ يَقُول: ((إِن إبني هَذَا سيد، وَلَعَلَّ الله أَن يصلح بِهِ بَين فئتين من الْمُسلمين)) . أخرجه البُخَارِيّ. قلت: وَقد وَقع ذَلِك من الْحسن عِنْد خلعه لنَفسِهِ من الْخلَافَة ومبايعة مُعَاوِيَة - كَمَا تقدم ذكره -. وَعَن جَعْفَر الصَّادِق قَالَ: قَالَ عَليّ: يَا أهل الْكُوفَة لَا تزوجوا الْحسن؛ فَإِنَّهُ رجل مطلاق؛ فَقَالَ رجل: لتزوجنه فَمَا رَضِي أمسك وَمَا كره طلق. وَقيل: إِن الْحسن تزوج بسبعين إمرأة ويطلقهن، وَقل مَا كَانَ يُفَارِقهُ أَربع ضرائر. وَتُوفِّي الْحسن -[رَضِي الله عَنهُ]- فِي شهر ربيع الأول سنة خمسين من الْهِجْرَة بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: سنة تسع وَأَرْبَعين: [خِلَافَته سِتَّة أشهر وَعشرَة أَيَّام] .

معاوية بن أبي سفيان

مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان صَخْر بن حَرْب بن أُميَّة بن عبد شمس، الْأمَوِي الْقرشِي، أَمِير الْمُؤمنِينَ. أمه هِنْد بنت عتبَة. وكنيته: أَبُو عبد الرَّحْمَن، ولقبه: النَّاصِر لدين الله، وَقيل: النَّاصِر لحق الله، وَالثَّانِي أشهر. بُويِعَ بالخلافة بعد أَن خلع الْحسن [بن عَليّ] نَفسه من الْخلَافَة من غير إِكْرَاه - حَسْبَمَا تقدم ذكره - وَذَلِكَ لخمس بَقينَ من شهر ربيع الأول سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين من الْهِجْرَة. وَكَانَ مُعَاوِيَة - رَضِي الله عَنهُ - حَلِيمًا كَرِيمًا. وَهُوَ أول من صلى فِي الْجَامِع فِي مَقْصُورَة، وَأول من خطب قَاعِدا. وَلما حج مُعَاوِيَة خرج إِلَيْهِ الْحسن بن عَليّ؛ فَشكى إِلَيْهِ دينا؛ فَأعْطَاهُ ثَمَانِينَ ألف دِينَار. وَمن حلمه: [حكى] أَن أروى بنت الْحَارِث بن عبد الْمطلب دخلت عَلَيْهِ؛

فَقَالَ لَهَا مُعَاوِيَة: مرْحَبًا بك يَا خَالَة، كَيفَ أَنْت؟ فَقَالَت: يَا ابْن أُخْتِي، قد كفرت النِّعْمَة، وأسأت لِأَبْنِ عمك الصُّحْبَة، وتسميت بِغَيْر اسْمك، وَأخذت غير حَقك. فَقَالَ لَهَا عَمْرو بن الْعَاصِ: كفي أيتها الْعَجُوز الضَّالة؛ فَقَالَت لَهُ: وَأَنت يَا ابْن الْفَاجِرَة تَتَكَلَّم {وأمك [كَانَت] أشهر بغي مَكَّة وأرخصهن أُجْرَة} فَقَالَ لَهَا مُعَاوِيَة: يَا خَالَة: عَفا الله عَمَّا سلف هَات حَاجَتك! فَقَالَت: أُرِيد ألف دِينَار أَشْتَرِي بهَا عينا فوارة فِي أَرض خرارة تكون لفقراء بني الْحَارِث بن عبد الْمطلب [وَألْفي دِينَار أُخْرَى أزوج بهَا فُقَرَاء بني الْحَارِث] ، وَألْفي دِينَار أُخْرَى أستعين بهَا على شدَّة الزَّمَان؛ فَأمر لَهَا مُعَاوِيَة بِسِتَّة آلَاف دِينَار؛ فقبضتها وانصرفت. قَالَ الذَّهَبِيّ: وَأظْهر إِسْلَامه يَوْم الْفَتْح - يَعْنِي مُعَاوِيَة -، وَكَانَ رجلا طَويلا أبيضا جميلا، إِذا ضحك انقلبت شفته الْعليا. وَكَانَ يخضب بالصفرة. إنتهى. وَاسْتمرّ مُعَاوِيَة فِي الْخلَافَة، إِلَى أَن توفّي بِدِمَشْق فِي شهر رَجَب سنة سِتِّينَ، وَدفن بَين بَاب الْجَابِيَة وَالْبَاب الصَّغِير. وعاش مُعَاوِيَة سبعا وَسبعين سنة. وَكَانَت خِلَافَته عشْرين سنة، وعهد بالخلافة لإبنه [يزِيد] .

يزيد بن معاوية بن أبي سفيان

(يزِيد بن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان) صَخْر بن حَرْب، الْأمَوِي الْقرشِي، أَبُو خَالِد، ولقبه الْمُسْتَنْصر. وَأمه مَيْسُونُ الْكَلْبِيَّة. بُويِعَ يزِيد بالخلافة لما مَاتَ أَبوهُ مُعَاوِيَة فِي رَجَب سنة سِتِّينَ من الْهِجْرَة. وَكَانَ [يزِيد] فَاسِقًا، قَلِيل الدّين، متهتكا، غير أهل للخلافة. وَهُوَ أحد فحول شعراء قُرَيْش فِي الْإِسْلَام، وشعره مَشْهُور وَأَكْثَره فِي الخمريات. وَقد اخْتلف الْفُقَهَاء والأصوليين فِي لَعنه اخْتِلَافا كثيرا، فَمنهمْ من ذكر أقوالا كَثِيرَة، إِلَى أَن قَالَ: وَالأَصَح الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور عُلَمَاء الْإِسْلَام أَنه لَا يجوز لَعنه؛ لِأَنَّهُ من الْمُسلمين [المصليين] ، وَقد نهى النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- عَن لعن المصليين، بل يجوز [لعن] من تحقق كفره. ثمَّ قَالَ: وَقد أجَاز أَصْحَابنَا - يَعْنِي [السَّادة] الشَّافِعِيَّة - اللَّعْن على من قتل الْحُسَيْن، أَو أَمر بقتْله، أَو أجَازه، أَو رَضِي بِهِ. إنتهى.

قلت: وَقد لعن يزِيد، وَأمر بلعنه وَهُوَ لَا يدْرِي؛ لكَونه كَانَ هُوَ الَّذِي ندب ابْن مرْجَانَة عبيد الله بن زِيَاد لقتاله وحرضه على ذَلِك، وألزمه بِجمع العساكر لقِتَال الْحُسَيْن. وَلَا يشك من لَهُ ذوق وعقل صَحِيح أَن يزِيد رَضِي بقتل الْحُسَيْن وسر بِمَوْتِهِ؛ فَهُوَ مَلْعُون على كل حَال وَبِكُل طَرِيق. إنتهى. وَلما ولي الْخلَافَة عَصَتْ عَلَيْهِ أهل الْمَدِينَة؛ لعدم أَهْلِيَّته مَعَ وجود الْحُسَيْن بن عَليّ وأكابر الصَّحَابَة، فَبعث إِلَيْهِم جَيْشًا مَعَ مُسلم بن عقبَة؛ - وَمن ثمَّ سمى مُسْرِفًا -. وَأمره إِذا ظفر بهم أَن يُبِيح الْمَدِينَة للجند ثَلَاثَة أَيَّام يسفكون فِيهَا الدِّمَاء وَيَأْخُذُونَ الْأَمْوَال ويفجرون بِالنسَاء، وَإِذا فرغ من الْمَدِينَة يتَوَجَّه إِلَى مَكَّة لقِتَال عبد الله بن الزبير. فَسَار مُسلم - الْمُسَمّى بمسرف - إِلَى الْمَدِينَة؛ [فقاتله أهل الْمَدِينَة] ؛ فقهرهم وأباحها للجند ثَلَاثَة أَيَّام - كَمَا أمره يزِيد -. وَكَانَت عدَّة الْقَتْلَى بِالْمَدِينَةِ فِي هَذِه الكائنة عشرَة آلَاف إِنْسَان. قَالَه غير وَاحِد. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: إِنَّه حمل فِي هَذِه الْوَاقِعَة ألف إمرأة من غير زوج، وافتض فِيهَا ألف بكر. إنتهى. ثمَّ سَار الْجَيْش إِلَى مَكَّة وحاصر بن الزبير، وَرمى الْبَيْت الْحَرَام بالمنجنيق وَحَرقه بالنَّار.

ثمَّ خرج الْحُسَيْن بن عَليّ - رَضِي الله عَنْهُمَا - من الْمَدِينَة طَالبا الْكُوفَة وَهُوَ غير مبايع ليزِيد بن مُعَاوِيَة؛ فَبعث إِلَيْهِ عبيد لله بن زِيَاد، متولى الْكُوفَة من جِهَة يزِيد بِإِذن يزِيد جَيْشًا، مَعَ عمر [بن سعد] ؛ فأدركوا الْحُسَيْن على كربلاء؛ فأرادوا مسكه؛ فمانع عَن نَفسه؛ فقاتلوه حَتَّى قتل من أَصْحَابه جمَاعَة كَثِيرَة. وَوَقعت أُمُور آلت إِلَى قتل الْحُسَيْن وَقطع رَأسه بعد أَن رَمَاه بَعضهم بِسَهْم. ثمَّ بعد قطع رَأسه وطئوا جثته بِالْخَيْلِ. وأحضروا رَأسه ورءوس الْجَمَاعَة الَّذين قتلوا مَعَه إِلَى عبيد الله بن زِيَاد. وَقَالَ عَليّ بن زيد بن جدعَان عَن أنس قَالَ: لما قتل الْحُسَيْن جئ بِرَأْسِهِ إِلَى عبيد الله بن زِيَاد؛ فَجعل ينْكث قضيب على ثناياه وَقَالَ: كَانَ لحسن الثغر! . فَقلت: لقد رَأَيْت رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- يقبل مَوضِع قضيبك. انْتهى. ثمَّ أرسلهم عبيد الله إِلَى يزِيد بن مُعَاوِيَة. وَكَانَ الَّذِي تولى قتل الْحُسَيْن - رَضِي الله عَنهُ - شمر بن ذِي الجوشن - لَعنه الله -. وَقيل: طعنه سِنَان بن أنس النَّخعِيّ. وحز رَأسه خولي الأصبحي، وَهُوَ الْأَشْهر.

وَكَانَ قتل الْحُسَيْن فِي يَوْم الْجُمُعَة - وَهُوَ يَوْم عَاشُورَاء - من سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ من الْهِجْرَة. وَلما جِيءَ بِرَأْس الْحُسَيْن إِلَى يزِيد [بن مُعَاوِيَة] وَوضع بَين يَدَيْهِ بَكَى يزِيد وَقَالَ: ( [نفلق هاما] من رجال أحبة ... إِلَيْنَا وهم كَانُوا أعق وأظلما) ثمَّ قَالَ: أما وَالله لَو كنت أَنا صَاحبك مَا قتلتك أبدا. قلت: هَذَا الَّذِي كَانَ يسع يزِيد أَن يَقُوله فِي الْمَلأ من النَّاس؛ ليسكن مَا بِالنَّاسِ من قتل الْحُسَيْن وعتاريه. وَقد مضى أَمر الْحُسَيْن وَحصل مَقْصُوده؛ فَمَا باله وَإِظْهَار الْفَرح بقتْله، وَقد كفى أمره. وَكَانَت وَفَاة يزِيد بِدِمَشْق فِي نصف شهر زبيع الأول سنة أَربع وَسِتِّينَ. وَكَانَت خِلَافَته ثَلَاث سِنِين وَسَبْعَة أشهر وَأَيَّام. وَتَوَلَّى الْخلَافَة بعده ابْنه [مُعَاوِيَة، وَالله أعلم] .

معاوية بن يزيد بن معاوية

(مُعَاوِيَة بن يزِيد بن مُعَاوِيَة) ابْن أبي سُفْيَان: صَخْر بن حَرْب بن أُميَّة، الْأمَوِي الْقرشِي، أَبُو عبد الرَّحْمَن. وَكَانَ لقبه: الرَّاجِع إِلَى الْحق. وَأمه أم خَالِد. بُويِعَ بالخلافة لما مَاتَ أَبوهُ يزِيد. وَكَانَ شَابًّا صَالحا دينا خيرا؛ وَلِهَذَا يُقَال: يزِيد شَرّ بَين خيرين - أَي بَين وَالِده مُعَاوِيَة وَبَين ابْنه مُعَاوِيَة -. [هَذَا] ، وَلما بُويِعَ [مُعَاوِيَة] بالخلافة أَقَامَ [بهَا] أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثمَّ جمع النَّاس، وَأَرَادَ خلع نَفسه، وَقَالَ: أَيهَا النَّاس؛ ضعفت عَن أَمركُم؛ فَاخْتَارُوا للخلافة من أَحْبَبْتُم؛ فَقَالُوا: ول أَخَاك خَالِدا؛ فَقَالَ: وَالله مَا ذقت حلاوة خلافتكم، وَلَا أتقلد وزرها، ثمَّ صعد الْمِنْبَر، وَقَالَ: أَيهَا النَّاس؛ إِن جدي مُعَاوِيَة نَازع الْأَمر أَهله، وَمن هُوَ أَحَق بِهِ مِنْهُ لِقَرَابَتِهِ من رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وَهُوَ عَليّ بن أبي طَالب - وَركب بكم مَا تعلمُونَ حَتَّى أَتَتْهُ منيته؛ فَصَارَ فِي قَبره رهينا بذنوبه، وأسيرا بخطاياه. ثمَّ قلد أبي الْأَمر؛ فَكَانَ غير أهل لذَلِك، وَركب هَوَاهُ

وأخلفه الأمل وَقصر عَنهُ الْأَجَل، وَصَارَ فِي قَبره رهينا بذنوبه وأسيرا بجرمه. ثمَّ بَكَى حَتَّى جرت دُمُوعه على خديه. ثمَّ قَالَ: إِن من أعظم الْأُمُور علينا علمنَا بِسوء مصرعه وَبئسَ منقلبه، وَقد قتل عترة رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وأباح الْحرم، وَحرق الْكَعْبَة، وَمَا أَنا بالمقلد وَلَا بالمحتمل تبعاتكم؛ فشأنكم أَمركُم، وَالله لَئِن كَانَت الدُّنْيَا خيرا؛ فَلَقَد نلنا مِنْهَا حظا، وَلَئِن كَانَت شرا؛ فَكفى ذُرِّيَّة أبي سُفْيَان مَا أَصَابُوا مِنْهَا، أَلا فَليصل بِالنَّاسِ حسان بن مَالك، وشاوروا فِي خلافتكم، رحمكم الله. ثمَّ دخل منزله، وتغيب فِيهِ حَتَّى مَاتَ [فِي سنته]- رَحمَه الله [تَعَالَى]-.

عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنه

(عبد الله بن الزبير بن الْعَوام - رَضِي الله عَنهُ -) بُويِعَ بالخلافة لما بلغه خلع مُعَاوِيَة بن يزِيد بن مُعَاوِيَة بِمَكَّة وَأَرْض الْحجاز. وَقد اسْتَقر مَرْوَان بن الحكم خَليفَة بِأَرْض الشَّام، وَتمّ أمره. وَبلغ مَرْوَان بن الحكم خلَافَة عبد الله هَذَا؛ فَلم يُوَافقهُ على ذَلِك. وَاسْتمرّ الْخَلِيفَة بالحجاز وَالْعراق عبد الله بن الزبير، وبالشام ومصر مَرْوَان؛ [فَلم تطل أَيَّام مَرْوَان] وَمَات بعد أشهر - حَسْبَمَا يَأْتِي ذكره -. وتخلف [من] بعده ابْنه عبد الْملك بن مَرْوَان، وَوَقع بَينه وَبَين عبد الله إِبْنِ الزبير وأخيه مُصعب بن الزبير حروب وخطوب يطول شرحها. ودام ذَلِك بَينهم سِنِين، إِلَى أَن قتل عبد الْملك مُصعب بن الزبير مُتَوَلِّي الْعرَاق فِي وقْعَة كَانَت بَينهمَا فِي سنة إثنين وَسبعين من الْهِجْرَة. وَقتل مَعَ مُصعب ابْنه عِيسَى، وَإِبْرَاهِيم بن الأشتر، وَمُسلم بن عَمْرو الْبَاهِلِيّ.

وَكَانَ الَّذِي طعن مُصعب زَائِدَة الثَّقَفِيّ وَقَالَ: يَا ثأرات الْمُخْتَار؛ لِأَن مصعبا كَانَ [قد] قتل مُخْتَار الْكذَّاب بالعراق. وَكَانَ مُصعب رجلا جوادا، مليح الصُّورَة. ثمَّ ندب عبد الْملك الْحجَّاج بن يُوسُف الثَّقَفِيّ لقِتَال عبد الله بن الزبير [بعد أَن ولاه الْعرَاق] ؛ فَسَار الْحجَّاج بعسكره إِلَى الْحجاز، وَقَاتل عبد الله بن الزبير وحصره بحرم مَكَّة، وَنصب على الْكَعْبَة المنجنيق، وَرمى بِهِ على الْبَيْت الْعَتِيق حَتَّى هدم مِنْهُ جانبا. ودام الْقِتَال بَينهمَا أشهرا، إِلَى قتل أَصْحَاب عبد الله بن الزبير، ثمَّ أُصِيب فِي جُمَادَى الأول من سنة ثَلَاث وَسبعين؛ فَأَخذه الْحجَّاج وصلبه أشهرا، وطوف بِرَأْسِهِ، وَقتل مَعَه عبد الله بن صَفْوَان بن أُميَّة الجُمَحِي الْمَكِّيّ - وَكَانَ من الأسخياء -. وَأصَاب المنجنيق عبد الله بن مُطِيع بن الْأسود الْعَدوي - وَكَانَ ولي الْكُوفَة لعبد لله بن الزبير حَتَّى غلب عَلَيْهَا الْمُخْتَار - وَقتل مَعَه [أَيْضا] عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان بن عبيد الله التَّمِيمِي الصَّحَابِيّ.

قلت: وَعبد الله بن الزبير قرشي أسدي، وَهُوَ أول مَوْلُود ولد فِي الْإِسْلَام بِالْمَدِينَةِ من الْمُهَاجِرين - وَقد تقدم ذَلِك فِي أول هَذَا الْكتاب - وَله صُحْبَة وَرِوَايَة عَن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-[وَعَن أَبِيه وَأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان. وَهُوَ بن عمَّة رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-] وحواريه. وَيُقَال فِي حَقه: إِنَّه كَانَ فَارس الْخُلَفَاء. قَالَ الذَّهَبِيّ: قَالَ يُوسُف بن الْمَاجشون عَن الثِّقَة بِسَنَدِهِ قَالَ: قسم ابْن الزبير الدَّهْر [على] ثَلَاث لَيَال؛ فليلة: هُوَ قَائِم حَتَّى الصَّباح، وَلَيْلَة هُوَ رَاكِع حَتَّى الصَّباح، وَلَيْلَة هُوَ ساجد حَتَّى الصَّباح. وروى أَيْضا عَن طَرِيق آخر: أَنه ركع يَوْمًا [رَكْعَة] ؛ فَقَرَأَ بالبقرة وَآل عمرَان وَالنِّسَاء والمائدة، وَمَا رفع رَأسه. إنتهى.

مروان بن الحكم الأموي

( [مَرْوَان بن الحكم الْأمَوِي) هُوَ] مَرْوَان بن الحكم بن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس، الْأمَوِي الْقرشِي، أَبُو عبد الْملك. وَأمه آمِنَة بنت عَلْقَمَة. بَايع نَفسه بالخلافة بعد خلع مُعَاوِيَة بن يزِيد. وَقيل: بعد خلع خَالِد بن يزِيد. ولقب: المؤتمن بِاللَّه. وَالْحكم وَالِده هُوَ طريد النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- نَفَاهُ إِلَى الطَّائِف؛ فَأَقَامَ بِالطَّائِف حَتَّى تخلف عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - أذن لَهُ بِالْعودِ إِلَى الْمَدِينَة. وَكَانَ مولد مَرْوَان هَذَا بِمَكَّة بعد عبد الله بن الزبير بأَرْبعَة أشهر. وَلم يَصح لَهُ سَماع من النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-. وَقَالَ الذَّهَبِيّ: لَهُ رِوَايَة - إِن شَاءَ الله [تَعَالَى]-. قلت: وثب مَرْوَان على الْخلَافَة من غير عهد وَلَا مشورة.

وَقَالَ ابْن سعد: كَانُوا ينقمون على عُثْمَان تقريب مَرْوَان وتصرفه فِي الْأُمُور. وَسَار بعد قتل عُثْمَان مَعَ طَلْحَة وَالزُّبَيْر يطْلبُونَ بِدَم عُثْمَان [فِي] [يَوْم] وقْعَة الْجمل، وَقَاتل يَوْمئِذٍ مَرْوَان أَشد قتال. وَلما رأى الْهَزِيمَة عَلَيْهِم؛ رمى طَلْحَة بِسَهْم؛ فَقتله غدرا وَهُوَ فِي عسكره، والتفت إِلَى أبان بن عُثْمَان وَقَالَ لَهُ: قد كفيتك بعض قاتلي أَبِيك. وَانْهَزَمَ مَرْوَان من وقْعَة الْجمل وَقد أَصَابَته جراحات؛ فَحمل وتداوى، ثمَّ اختفى؛ فآمنه عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - وأنفذه إِلَى الْمَدِينَة؛ فَأَقَامَ بهَا حَتَّى اسْتخْلف مُعَاوِيَة قدم عَلَيْهِ. فَلَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَة أرْسلهُ يزِيد يَوْم وقْعَة الْحرَّة مَعَ مُسلم بن عقبَة وحرضه على أهل الْمَدِينَة. ثمَّ تزوج مَرْوَان بِأم خَالِد بن يزِيد بن مُعَاوِيَة بعد موت يزِيد؛ فَكَانَ مَرْوَان يجلس مَعَ خَالِد ويحادثه؛ فَدخل عَلَيْهِ خَالِد فِي بعض الْأَيَّام؛ فزبره

مَرْوَان وَقَالَ لَهُ: تَنَح يَا ابْن رطبَة الإست، وَالله مَالك عقل! ؛ فَقَامَ خَالِد عَنهُ وَدخل [إِلَى أمه] وَذكر لَهَا مقَالَته؛ فأضمرت [أمه السوء لمروان] . ثمَّ دخل عَلَيْهَا مَرْوَان؛ فَقَالَ [لَهَا] : هَل قَالَ لَك خَالِد شَيْئا؟ فأنكرت؛ فَنَامَ عِنْدهَا مَرْوَان؛ فَوَثَبت هِيَ وجواريها، فعمدت إِلَى وسَادَة فَوَضَعتهَا على وَجهه، وغمرته هِيَ والجواري حَتَّى مَاتَ. ثمَّ صرخن وقلن: مَاتَ فَجْأَة، وَذَلِكَ فِي أول شهر رَمَضَان، وَقيل: فِي ربيع الآخر سنة خمس وَسِتِّينَ بِدِمَشْق، وَقيل: إِنَّه مَاتَ فَجْأَة، وَقيل: [مَاتَ] مطعونا. وَكَانَ مَرْوَان فَقِيها، عَالما، أديبا، كَاتبا لعُثْمَان بن عَفَّان -[رَضِي الله عَنهُ -]-. [قلت: وَكَانَ هُوَ من أعظم الْأَسْبَاب فِي زَوَال دولة عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ -] . وَكَانَت خِلَافَته نَحْو تِسْعَة أشهر. وَقيل أَكثر من ذَلِك. وتخلف [من] بعده ابْنه [عبد الْملك] .

عبد الملك بن مروان

(عبد الْملك بن مَرْوَان) ابْن الحكم بن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس، الْأمَوِي الْقرشِي. أمه عَائِشَة بنت مُعَاوِيَة. بُويِعَ بالخلافة بعد موت أَبِيه - إِن كَانَ لِأَبِيهِ حق فِي الْخلَافَة -. ولقب بالموفق لأمر الله. ومولده [فِي] سنة سِتّ وَعشْرين. قَالَ ابْن سعد: وَكَانَ عابدا، ناسكا بِالْمَدِينَةِ قبل الْخلَافَة، وَشهد يَوْم الدَّار مَعَ أَبِيه وَهُوَ ابْن عشر سِنِين [وَاسْتَعْملهُ مُعَاوِيَة على الْمَدِينَة وَهُوَ ابْن سِتَّة عشر سنة] . قَالَ الذَّهَبِيّ: هَذَا لَا يُتَابع ابْن سعد عَلَيْهِ أحد من اسْتِعْمَال مُعَاوِيَة لَهُ على الْمَدِينَة. قلت: أما ولَايَة أَبِيه على الْمَدِينَة؛ فبالإجماع.

قَالَ صَالح بن دحْيَة: قَرَأت فِي كتاب صفة الْخُلَفَاء - فِي خزانَة الْمَأْمُون -: كَانَ عبد الْملك [رجلا] طَويلا، أَبيض، مقرون الحاجبين، كَبِير الْعَينَيْنِ، مشرف الْأنف، رَقِيق الْوَجْه، حسن الْجِسْم، لَيْسَ بالقصيف وَلَا البادن، أَبيض الرَّأْس واللحية. إنتهى. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّه كَانَ فَقِيها، دينا؛ فَلَمَّا أَتَتْهُ الْخلَافَة تغير عَن ذَلِك [كُله] . يُقَال: إِنَّه أَتَتْهُ الْخلَافَة والمصحف فِي حجره؛ فأطبقه وَقَالَ: هَذَا آخر الْعَهْد مِنْك. وَلما ولي الْخلَافَة استفتحها بِقِتَال مُصعب بن الزبير. والتقى مَعَه غير مرّة حَتَّى قَتله بعد سِنِين - كَمَا تقدم ذكره -. ثمَّ أرسل الْحجَّاج إِلَى عبد الله بن الزبير بِمَكَّة؛ فَتوجه [الْحجَّاج] إِلَى مَكَّة وحاصر ابْن الزبير، وَرمى الْبَيْت الْحَرَام بالمنجنيق وَأحرقهُ بالنَّار؛ فَنزلت صَاعِقَة من السَّمَاء؛ فحرقت المنجنيق وَالَّذين كَانُوا يرْمونَ [بِهِ] ؛ فأحضر الْحجَّاج منجنيقا آخر ونصبه وَرمى بِهِ وَقَالَ: أَنا أخبر بصواعق أَرض تهَامَة. ولازال على ذَلِك حَتَّى ظفر بِابْن الزبير وَقَتله - حَسْبَمَا تقدم ذكره -. قيل: إِن الْحسن الْبَصْرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - سُئِلَ عَن عبد الْملك بن مَرْوَان؛ فَقَالَ: مَا أَقُول فِي رجل الْحجَّاج؟ ! سَيِّئَة من سيئاته.

ويحكى أَن عبد الْملك كَانَ إِذا دخل عَلَيْهِ رجل يَقُول لَهُ: اعفني من ثَلَاث وَقل مَا شِئْت بعْدهَا: لَا تكذبني فَإِن الكذوب لَا رَأْي لَهُ، وَلَا تجبني فِيمَا لَا أَسأَلك عَنهُ، وَلَا تطرني فَإِنِّي أعلم بنفسي مِنْك، وَلَا تحملنِي على الرّعية. وَكَانَ عبد الْملك كثيرا مَا يجلس مَعَ أم الدَّرْدَاء؛ فَقَالَت لَهُ مرّة: بَلغنِي أَنَّك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ شربت الطلا بعد [النّسك وَالْعِبَادَة] ! قَالَ: إِي وَالله، والدماء. وَقيل: لما احْتضرَ عبد الْملك دخل [عَلَيْهِ] الْوَلِيد [وَلَده] يعودهُ، فتمثل عبد الْملك [فَقَالَ] : (كم عَائِد رجلا وَلَيْسَ يعودهُ ... أَلا ليعلم هَل يرَاهُ يَمُوت) قيل: إِن عبد الْملك رأى فِي مَنَامه كَأَنَّهُ بَال فِي محراب النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- أَربع بولات؛ فتأثر من ذَلِك، وَسَأَلَ أهل التَّعْبِير فعبروا لَهُ أَنه: يتَخَلَّف من أَوْلَاده لصلبه أَرْبَعَة؛ فَكَانَ كَذَلِك، وهم: الْوَلِيد، وَسليمَان، وَيزِيد، وَهِشَام الْآتِي ذكرهم - إِن شَاءَ الله تَعَالَى -. وَتُوفِّي عبد الْملك فِي شَوَّال سنة سِتّ وَثَمَانِينَ من الْهِجْرَة. وَكَانَت خِلَافَته إِحْدَى وَعشْرين سنة وأشهرا.

الوليد بن عبد الملك

(الْوَلِيد بن عبد الْملك) ابْن مَرْوَان بن الحكم، الْأمَوِي الْقرشِي، أَبُو الْعَبَّاس. أمه ولادَة بنت الْعَبَّاس، وَهِي أم أَخِيه سُلَيْمَان أَيْضا. بُويِعَ بالخلافة بِعَهْد من أَبِيه [عبد الْملك] لَهُ بعد مَوته، ولقب بالمنتقم بِاللَّه. وَتمّ أمره فِي الْخلَافَة، وطالت أَيَّامه. وَهُوَ الَّذِي بنى جَامع دمشق، وَأنْفق عَلَيْهِ أَمْوَالًا عَظِيمَة؛ يُقَال: إِنَّهَا كَانَت أَرْبَعمِائَة صندوق، فِي كل صندوق أَرْبَعَة عشر ألف دِينَار. أَقُول: تِلْكَ الدَّنَانِير غير دَنَانِير يَوْمنَا هَذَا. إنتهى. وَقيل: إِنَّه اجْتمع بالجامع الْمَذْكُور إثنا عشر ألف مرخم. وَهدم الْوَلِيد [هَذَا أَيْضا] [الْبيُوت] الَّتِي بجوار قبر النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وأدخلها فِي الْمَسْجِد حَتَّى صَار طوله مِائَتي ذِرَاع وَعرضه مِائَتي ذِرَاع. وَفِي أَيَّامه فتحت جَزِيرَة الأندلس، وبلاد التّرْك كلهَا، وَأكْثر بِلَاد الْهِنْد. وَكَانَ الْوَلِيد لحانا.

قَالَ الذَّهَبِيّ: روى يحيى بن يحيى الغساني أَن روح بن زنباع دخل على عبد الْملك بن مَرْوَان - وَكَانَ وزيره -؛ فَوَجَدَهُ مهموما؛ فَقَالَ: مَا بَال أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ ! قَالَ: فَكرت فِيمَن أولي الْخلَافَة بعدِي - وَكَانَ الْوَلِيد حَاضرا -؛ فَقَالَ روح: أَيْن أَنْت عَن رَيْحَانَة قُرَيْش وسيدها [الْوَلِيد. قَالَ] : الْوَلِيد لَا يتَكَلَّم بِكَلَام الْعَرَب؛ فَسمع ذَلِك الْوَلِيد؛ فَقَامَ من وقته وَجمع أَصْحَاب النَّحْو، وطين عَلَيْهِ الْبَاب سِتَّة أشهر، ثمَّ خرج أَجْهَل مِمَّا دخل. إنتهى. قلت: كَانَ أَبَوَاهُ يرفهانه؛ فَنَشَأَ بِلَا أدب. وَكَانَ إِذا مَشى يتبختر فِي مشيته. وَعَن أبي الزِّنَاد قَالَ: سَمِعت الْوَلِيد وَهُوَ على مِنْبَر النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- يَقُول: يَا أهل الْمَدِينَة - بِالضَّمِّ -. قلت: وَكَانَ الْوَلِيد جبارا متعاظما، إِلَّا أَنه كَانَ [فِيهِ محَاسِن، مِنْهَا] : الْكَرم، وَالنَّهْي عَن محارم الله [تَعَالَى] . وَرُوِيَ أَنه قَالَ: لَوْلَا أَن الله تَعَالَى ذكر آل لوط فِي الْقُرْآن مَا ظَنَنْت أَن أحدا يفعل هَذَا. قلت: كَانَ مشغوفا بحب النِّسَاء، وحكايته مَعَ زَوجته ابْنة عَمه أم الْبَنِينَ مَشْهُورَة ذكرهَا ابْن خلكان. إنتهى.

وَقَالَ عمر بن عبد الْوَاحِد الدِّمَشْقِي عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن جَابر عَن أَبِيه، قَالَ: خرج الْوَلِيد بن عبد الْملك من الْبَاب الْأَصْغَر؛ فَوجدَ رجلا عِنْد الْحَائِط، عِنْد المئذنة الشرقية يَأْكُل وَحده؛ فجَاء؛ فَوقف على رَأسه، فَإِذا هُوَ يَأْكُل خبْزًا وترابا؛ فَقَالَ: مَا شَأْنك انْفَرَدت من النَّاس؟ {قَالَ: أَحْبَبْت الْوحدَة. قَالَ: فَمَا حملك على أكل التُّرَاب} أما فِي بَيت مَال الْمُسلمين مَا يجْرِي عَلَيْك؟ ! قَالَ: بلَى، وَلَكِن رَأَيْت القنوع. قَالَ: فَرد الْوَلِيد إِلَى مَجْلِسه، ثمَّ أحضرهُ؛ فَقَالَ: إِن لَك خَبرا؛ لتخبرني بِهِ، وَإِلَّا ضربت مَا فِيهِ عَيْنَاك. قَالَ: نعم كنت جمالا وَمَعِي ثَلَاثَة أجمال موقرة طَعَاما حَتَّى أتيت مرج الصفر؛ فَقَعَدت فِي خربة أبول؛ فَرَأَيْت الْبَوْل ينصب فِي شقّ؛ فَأَتْبَعته حَتَّى كشفته؛ فَإِذا غطاء على حفيرة؛ فَنزلت فَإِذا مَال؛ فأنخت رواحلي وأفرغت أعكامي، ثمَّ أوقرتها ذَهَبا وغطيت الْموضع. فَلَمَّا سرت غير يسير وجدت معي مخلاة فِيهَا طَعَام؛ فَقلت: أَنا أترك الكسرة وآخذ الذَّهَب؛ ففرغتها وَرجعت لأملأها؛ فخفي عني الْموضع، وأتعبني الطّلب؛ فَرَجَعت إِلَى الْجمال؛ فَلم أَجدهَا وَلم أجد الطَّعَام؛ فآليت على نَفسِي أَن لَا آكل شيئ إِلَّا الْخبز بِالتُّرَابِ. فَقَالَ الْوَلِيد: كم لَك من الْعِيَال؟ فَذكر عيالا. قَالَ: يجْرِي عَلَيْك من بَيت المَال وَلَا تسْتَعْمل فِي شَيْئا؛ فَإِن هَذَا هُوَ المحروم. قَالَ ابْن جَابر: فَذكر لنا أَن الْإِبِل جَاءَت إِلَى بَيت [مَال الْمُسلمين] ؛ [فأناخت عِنْده؛ فَأَخذهَا أَمِين الْوَلِيد، فطرحها فِي بَيت المَال] . قَالَ الذَّهَبِيّ: هَذِه الْحِكَايَة رِوَايَة ثقاة، قَالَه الْكِنَانِي. إنتهى.

وَكَانَت وَفَاة الْوَلِيد فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَتِسْعين من الْهِجْرَة. وَكَانَت خِلَافَته تسع سِنِين وَثَمَانِية أشهر. وتخلف بعده أَخُوهُ سُلَيْمَان [بن عبد الْملك] بِعَهْد من أَبِيه. وَكَانَ الْوَلِيد اجْتهد فِي خلع سُلَيْمَان [هَذَا] من ولَايَة الْعَهْد وتولية وَلَده الْعَزِيز؛ فَامْتنعَ سُلَيْمَان [من ذَلِك] حَتَّى [مَاتَ الْوَلِيد] .

سليمان بن عبد الملك

(سُلَيْمَان بن عبد الْملك) ابْن مَرْوَان بن الحكم، الْقرشِي الْأمَوِي، أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبُو أَيُّوب. كَانَ من خِيَار [مُلُوك] بني أُميَّة. بُويِعَ بالخلافة بعد موت أَخِيه الْوَلِيد بِعَهْد من أَبِيه عبد الْملك فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَتِسْعين. وَكَانَت دَاره بِدِمَشْق مَوضِع سِقَايَة جيرون. وَله دَار أُخْرَى بناها [بدرابن] مُحرز؛ فَجَعلهَا دَار الْخلَافَة، وَجعل لَهَا قبَّة صفراء كالقبة الخضراء الَّتِي بدار الْخلَافَة. وَكَانَ شَابًّا فصيحا مفوها، مؤثرا للعدل، محبا للغزو. ومولده فِي سنة سِتِّينَ. وَكَانَ مليح الْوَجْه، مقرون الحاجبين، يضْرب شعره مَنْكِبَيْه.

وَلما تخلف [سُلَيْمَان] قَالَ لإبن عَمه عمر بن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان: ((يَا أَبَا حَفْص {إِنَّا ولينا مَا قد ترى وَلم يكن لنا بتدبيره علم، فَمَا رَأَيْت فِيهِ مصلحَة الْعَامَّة فَمر بِهِ)) . فَكَانَ من ذَلِك عزل عُمَّال الْحجَّاج، وَإِخْرَاج من كَانَ [فِي سجن] الْعرَاق. ثمَّ فعل أمورا كَثِيرَة حَسَنَة كَانَ يسمع من عمر فِيهَا. قيل: إِن سُلَيْمَان حج مرّة؛ فَرَأى النَّاس بِالْمَوْسِمِ؛ فَقَالَ لعمر بن عبد الْعَزِيز: أما ترى هَذَا الْخلق الَّذِي لَا يحصي عَددهمْ إِلَّا الله، وَلَا يسع رزقهم غَيره} قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ {هَؤُلَاءِ الْيَوْم رعيتك وهم غَدا أخصامك؛ فَبكى سُلَيْمَان بكاء شَدِيدا، ثمَّ قَالَ: بِاللَّه أستعين. قلت: وَكَانَ سُلَيْمَان شَدِيد الْغيرَة؛ وَهُوَ الَّذِي خصى المخنثين بِالْمَدِينَةِ. وَكَانَ كثير الْأكل؛ حج مرّة فَنزل بِالطَّائِف فَأكل سبعين رمانة، ثمَّ جَاءُوهُ بخروف مشوي وست دجاجات فأكلهم، ثمَّ جَاءُوهُ بزبيب فَأكل مِنْهُ شَيْئا كثيرا، ثمَّ نعس وانتبه فِي الْحَال؛ فَأَتَاهُ الطباخ؛ فَأخْبرهُ بِأَن الطَّعَام قد اسْتَوَى؛ فَقَالَ: أعرضه عَليّ قدرا قدرا، فَصَارَ سُلَيْمَان يَأْكُل من كل قدر اللُّقْمَة واللقمتين واللحمة واللحمتين - وَكَانَت ثَمَانُون قدرا - ثمَّ مد السماط؛ فَأكل [على] عَادَته، كَأَنَّهُ لم يَأْكُل شَيْئا} {} .

قلت: أَفَادَ بعض الْحُكَمَاء أَن الرجل لَا يَأْكُل أَكثر من سِتِّينَ لقْمَة من جوعه إِلَى شبعه؛ فَمَا يكون شَأْن هَذَا الرجل وَأَمْثَاله من الْأكلَة {} . انْتهى. وَقيل: إِن سُلَيْمَان جلس يَوْمًا فِي نبت أَخْضَر على وطاء أَخْضَر، عَلَيْهِ ثِيَاب خضر. ثمَّ نظر فِي الْمرْآة؛ فأعجبه شبابه - وَكَانَ من أجمل النَّاس - فَقَالَ: كَانَ مُحَمَّد -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- نَبيا، وَكَانَ أَبُو بكر صديقا، وَكَانَ عمر فاروقا، وَكَانَ عُثْمَان حييا، وَكَانَ مُعَاوِيَة حَلِيمًا، وَكَانَ يزِيد صبورا، وَكَانَ عبد الْملك سيوسا، وَكَانَ الْوَلِيد جبارا، وَأَنا الْملك الشَّاب؛ فَمَاتَ من جمعته، فِي يَوْم الْجُمُعَة عَاشر صفر سنة تسع وَتِسْعين. وَيُقَال: إِنَّه لبس يَوْمًا أَفْخَر مَا عِنْده، وتطيب بأفخر الطّيب، وتزين بِأَحْسَن الزِّينَة؛ فَأَعْجَبتهُ نَفسه، والتفت، فَرَأى جَارِيَة من جواريه واقفة؛ فَقَالَ لَهَا: كَيفَ تَرين؟ ؛ فَقَالَت: (أَنْت نعم الْمَتَاع لَو كنت تبقى ... غير أَن لَا بَقَاء للْإنْسَان) (أَنْت خلو من الْعُيُوب وَمِمَّا ... [يكره النَّاس] غير أَنَّك فان) فطردها، ثمَّ أحضرها؛ فَقَالَ لَهَا: مَا قلت! ؟ فَقَالَت: وَالله مَا قلت شَيْئا وَلَا رَأَيْتُك الْيَوْم؛ فتعجب النَّاس من ذَلِك. وَمَات سُلَيْمَان من جمعته - رَحمَه الله -.

قلت: وَفِي الْجُمْلَة؛ فَهُوَ [من] خِيَار [مُلُوك] بني أُميَّة؛ قرب ابْن عَمه عمر بن عبد الْعَزِيز، وَجعله ولي عَهده [بالخلافة] وَلَيْسَ لَهُ عهد فِي الْخلَافَة؛ وَإِنَّمَا الْعَهْد لِأَخِيهِ يزِيد وَهِشَام، فَأدْخل بعمر قبلهمَا. وَبَايع النَّاس على الْعَهْد وَهُوَ مَكْتُوب؛ فَقَالُوا: نُبَايِع على أَن يكون فِيهِ بني عبد الْملك؛ فَقَالَ: نعم، فَبَايعُوا على الْمَكْتُوب، وَفِيه: عمر بن عبد الْعَزِيز، ثمَّ يزِيد وَهِشَام؛ فَصحت الْبيعَة. قَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين: رحم الله سُلَيْمَان، افْتتح خِلَافَته بِإِقَامَة الصَّلَاة لمواقيتها، وختمها باستخلافه عمر بن عبد الْعَزِيز. وَكَانَ يرفق بالرعية -[رَحمَه الله]-.

عمر بن عبد العزيز

(عمر بن عبد الْعَزِيز) ابْن مَرْوَان بن الحكم، الْأمَوِي الْقرشِي، أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبُو حَفْص. بُويِعَ بالخلافة بعد موت بن عَمه سُلَيْمَان بن عبد الْملك بِعَهْد عَهده إِلَيْهِ. ولقب بالمعصوم بِاللَّه - رَضِي الله عَنهُ -. مولده بِالْمَدِينَةِ سنة سِتِّينَ - عَام توفّي مُعَاوِيَة أَو بعده بِسنة -. وَأمه أم عَاصِم بنت عَاصِم بن عمر بن الْخطاب -[رَضِي الله عَنهُ]-. قَالَ إِسْمَاعِيل الخطبي: رَأَيْت صفته فِي كتاب: كَانَ أَبيض، رَقِيق الْوَجْه، جميلا، نحيف الْجِسْم، حسن اللِّحْيَة، غائر الْعَينَيْنِ، بجبهته أثر حافر دَابَّة؛ وَلذَلِك سمي أشج بني أُميَّة، قد وخطه الشيب. قَالَ مولى عمر بن عبد الْعَزِيز: إِن [عمر] بن عبد الْعَزِيز دخل إِلَى اصطبل أَبِيه وَهُوَ غُلَام؛ فَضَربهُ فرسه فَشَجَّهُ؛ فَجعل أَبوهُ يمسح عَنهُ الدَّم وَيَقُول: إِن كنت أشج بني أُميَّة إِنَّك لسَعِيد.

وَقيل: إِن فتيانا أَتَوا عمر بن عبد الْعَزِيز؛ فَقَالُوا: إِن أَبَانَا توفّي وَترك مَالا عِنْد عمنَا حميد الأصبحي؛ فَأحْضرهُ عمر وَقَالَ لَهُ: أَنْت الْقَائِل: (حميد الَّذِي أمج دَاره ... أَخُو الْخمر والشيبة الأصلع) (أَتَاهُ المشيب على شربهَا ... فَكَانَ كَرِيمًا فَلم ينزغ) قَالَ: نعم. قَالَ عمر: مَا أَرَانِي إِلَّا حادك، أَقرَرت بشربها، وَإنَّك لم تنْزع عَنْهَا. قَالَ: أَيْن يذهب [بك] {؟ ألم تسمع قَوْله تَعَالَى: {وَالشعرَاء يتبعهُم الْغَاوُونَ ألم تَرَ أَنهم فِي كل وَاد يهيمون وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} . فَقَالَ عمر: مَا أَرَاك إِلَّا قد أقلت، وَيحك يَا حميد، كَانَ أَبوك رجلا صَالحا وَأَنت رجل سوء. فَقَالَ: أصلحك الله، وَأَيْنَ شَبيه أَبَاهُ} كَانَ أَبوك رجل سوء وَأَنت رجل صَالح. فَقَالَ عمر: إِن هَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَن أباهم توفى وَترك مَالا عنْدك. قَالَ: صدقُوا، وأحضره بِخَتْم أَبِيهِم. [ثمَّ] قَالَ: إِن أباهم [لَعَلَّه] مَاتَ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، وَكنت أنْفق عَلَيْهِم من مَالِي، وَهَذَا مَالهم. قَالَ عمر: مَا أحد أَحَق أَن يكون عِنْده مِنْك؛ فَامْتنعَ وَدفع المَال. انْتهى. قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي تَارِيخه: حَدثنَا أَحْمد بن إِبْرَاهِيم، حَدثنَا عَفَّان بن عُثْمَان [بن الحميد بن لَاحق] عَن جوَيْرِية، عَن نَافِع: بلغنَا أَن عمر قَالَ: إِن من وَلَدي رجلا بِوَجْهِهِ شين يَلِي؛ فَيمْلَأ الأَرْض عدلا. قَالَ نَافِع: فَلَا أَحْسبهُ إِلَّا عمر بن عبد الْعَزِيز.

وروى الذَّهَبِيّ بِإِسْنَاد فِي تَارِيخه عَن ريَاح بن عُبَيْدَة قَالَ: خرج علينا عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى الصَّلَاة وَشَيخ متوكئ على يَده؛ فَقلت فِي نَفسِي: إِن هَذَا الشَّيْخ جَاف. فَلَمَّا صلى وَدخل لحقته؛ فَقلت: أصلح الله الْأَمِير؛ من الشَّيْخ الَّذِي كَانَ يتكئ على يدك؟ قَالَ: رَأَيْته يَا ريَاح! ؟ قلت: نعم، قَالَ: مَا أحسبك إِلَّا رجلا صَالحا، ذَاك أخي الْخضر أَتَانِي فَأَعْلمنِي أَنِّي سألي أَمر هَذِه الْأمة وَأَنِّي سأعدل فِيهَا. قلت: وَلما ولي الْخلَافَة أبطل سبّ عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - فِي أثْنَاء الْخطب، وَجعل مَكَان ذَلِك: {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان} الْآيَة؛ فَقيل فِيهِ: (وليت فَلم تَشْتُم عليا وَلم تخف ... بريا وَلم تتبع سجية مجرم) (وَقلت فصدقت الَّذِي قلت بِالَّذِي ... فعلت فأضحى رَاضِيا كل مُسلم) وَكَانَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - عَالما، صَالحا، ورعا، زاهدا، فَقِيها.

وَلما ولي الْخلَافَة أبطل جَمِيع مَا كَانَت أَهله تستأديه من بَيت المَال، وضيق على نَفسه وعَلى آله تضييقا كثيرا حَتَّى أَنه مرض مرّة؛ فَدخل عَلَيْهِ الْأُمَرَاء يعودونه؛ فوجدوا عَلَيْهِ قَمِيصًا وسخا لَا يُسَاوِي أَرْبَعَة دَرَاهِم؛ فَقَالُوا لزوجته: لم لَا تغسليه [لَهُ] ! ؟ فَقَالَت: وَالله مَاله غَيره، وأخشى أَن أقلعه يبْقى عُريَانا. قلت: هَذَا، وخراج الأَرْض كلهَا يحمل إِلَيْهِ، مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ من الترف وَالْمَال قبل أَن يَلِي الْخلَافَة. وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْجُمُعَة لخمس بَقينَ من رَجَب سنة إِحْدَى وَمِائَة بدير سمْعَان من أَعمال حمص. وَصلى عَلَيْهِ ابْن عَمه يزِيد بن عبد الْملك الَّذِي تخلف بعده، وَهُوَ ابْن تسع وَثَلَاثِينَ سنة وَسِتَّة أشهر. وَقَالَ أَبُو عَمْرو الضَّرِير: [إِنَّه] توفى بدير سمْعَان لعشر بَقينَ من رَجَب. وَكَانَت خِلَافَته تِسْعَة وَعشْرين شهرا كَأبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنْهُمَا -. وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي تَارِيخه عَن يُوسُف بن مَاهك قَالَ: بَينا نَحن نسوى التُّرَاب على [قبر عمر بن عبد الْعَزِيز] إِذْ سقط علينا كتاب رق من السَّمَاء، فِيهِ: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. أَمَان من الله لعمر بن عبد الْعَزِيز من النَّار -[رَحمَه الله وَرَضي عَنَّا بِهِ. آمين]-.

يزيد بن عبد الملك

(يزِيد بن عبد الْملك) ابْن مَرْوَان بن الحكم بن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس، الْأمَوِي الْقرشِي، (أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبُو خَالِد. ولقبه: الْقَادِر بصنع الله. وَأمه عَاتِكَة بنت يزِيد بن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان. بُويِعَ بالخلافة بعد موت ابْن عَمه [عمر بن] عبد الْعَزِيز [بن مَرْوَان] بِعَهْد من أَبِيه، ثمَّ [من] أَخِيه سُلَيْمَان. مَعْقُود فِي تَوْلِيَة عمر بن عبد الْعَزِيز؛ لِأَن عمر لم يكن لَهُ عهد من عبد الْملك، إِلَّا أَن سُلَيْمَان أَدخل عمر فِي الْعَهْد، ثمَّ ختم بأخويه يزِيد هَذَا ثمَّ هِشَام؛ فَلَعَلَّ الله يرحم سُلَيْمَان بذلك. انْتهى. [و] مولد يزِيد [هَذَا] فِي سنة إِحْدَى - أَو إثنتين - وَسبعين من الْهِجْرَة.

وَلما تولى يزِيد الْخلَافَة أَقَامَ يسير على سيرة ابْن عَمه [عمر بن] عبد الْعَزِيز أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَهُوَ على ذَلِك. وَكَانَ [أَولا] صَاحب لَهو وطرب. وَكَانَ يحب جَارِيَته حبابة حبا شَدِيدا؛ فَقَالَت حبابة لخصي ليزِيد - كَانَ صَاحب أمره -: وَيحك {قربني مِنْهُ بِحَيْثُ يسمع كَلَامي وَلَك عشرَة آلَاف دِرْهَم؛ فَفعل. فَلَمَّا [مر يزِيد بهَا قَالَت] : (بَكَيْت الصِّبَا جهدي فَمن شَاءَ لامني ... وَمن شَاءَ آسى فِي الْبكاء وأسعدا) (أَلا لَا تلمه الْيَوْم أَن يتبلدا ... فقد منع المحزون أَن يتجلدا) وَالشعر للأحوص. فَلَمَّا سمعهما يزِيد قَالَ: وَيحك يَا خصى} قل لصَاحب الشرطة يُصَلِّي بِالنَّاسِ. وَدخل إِلَى مجْلِس أنسه وانهمك فِي اللَّذَّات إِلَى مَا سَيَأْتِي ذكره. وَقَالَ سعيد بن عفير: كَانَ يزِيد جسيما، أَبيض، مدور الْوَجْه، أفقم، لم يشب.

وَقَالَ الذَّهَبِيّ: حكى أَبُو ضَمرَة عَن مُحَمَّد بن مُوسَى بن عبد الله بن يسَار قَالَ: إِنِّي لجالس فِي مَسْجِد النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وَقد حج يزِيد بن عبد الْملك قبل أَن يكون خَليفَة؛ فَجَلَسَ مَعَ المَقْبُري وَابْن أبي العتاب؛ إِذْ جَاءَ أَبُو عبد الله القراط؛ فَوقف عَلَيْهِ؛ فَقَالَ: أَنْت يزِيد بن عبد الْملك؟ {فَالْتَفت يزِيد إِلَى الشَّيْخَيْنِ؛ فَقَالَ: أمجنون هَذَا} ؟ فَذكرُوا لَهُ فَضله وصلاحه، وَقَالُوا: هَذَا أَبُو عبد الله القراط صَاحب أبي هُرَيْرَة، حَتَّى رق لَهُ ولان؛ فَقَالَ: نعم، أَنا يزِيد؛ فَقَالَ لَهُ: مَا أجملك، إِنَّك لتشبه أَبَاك، إِن وليت من أَمر النَّاس شَيْئا فاستوص بِأَهْل الْمَدِينَة خيرا. فَأشْهد على أبي هُرَيْرَة، حَدثنِي عَن حبه [وَحب صَاحب] هَذَا الْبَيْت، وَأَشَارَ إِلَى الْحُجْرَة: إِنَّه -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- خرج إِلَى نَاحيَة من الْمَدِينَة - يُقَال لَهَا بيُوت السقيا - وَخرجت مَعَه، فَاسْتقْبل الْقبْلَة وَرفع يَدَيْهِ؛ فَقَالَ: إِبْرَاهِيم خَلِيلك دعَاك لأهل مَكَّة، وَأَنا نبيك وَرَسُولك أَدْعُوك لأهل الْمَدِينَة: اللَّهُمَّ بَارك لَهُم فِي مدهم وصاعهم وقليلهم وكثيرهم ضعْفي مَا باركت لأهل مَكَّة، اللَّهُمَّ أرزقهم من هَاهُنَا وَهَاهُنَا - وَأَشَارَ إِلَى نواحي الأَرْض كلهَا - اللَّهُمَّ من أَرَادَهُم بِسوء؛ فأذبه كَمَا يذوب الْملح فِي المَاء. ثمَّ الْتفت يزِيد إِلَى الشَّيْخَيْنِ؛ فَقَالَ: مَا تقولان؟ ! قَالَا: حَدِيث مَعْرُوف مروى. وَقيل: إِن يزِيد قَالَ يَوْمًا: وَالله إِنِّي لأشتهي أَن أَخْلو بحبابة؛ فَلَا أرى غَيرهَا؛ فَأمر ببستان لَهُ؛ فهيء، وَأمر حَاجِبه أَن لَا يُعلمهُ بِأحد.

وَدخل الْبُسْتَان، فَبينا هُوَ مَعهَا أسر شَيْء بهَا، إِذْ حذفهَا بِحَبَّة رمانة أَو بعنبة وَهِي تضحك؛ فَوَقَعت) فِي فِيهَا؛ فشرقت فَمَاتَتْ، فَوجدَ عَلَيْهَا وجدا عَظِيما. وأقامت عِنْده حَتَّى جيفت، ثمَّ دَفنهَا؛ فَلم يطق الصَّبْر عَنْهَا؛ فنبشها وأخرجها من الْقَبْر وَجعل يقلبها ويبكي. وَكَانَ قبل أَن يُخرجهَا من الْقَبْر خرج إِلَى قبرها، [أنشأ يَقُول] : (فَإِن تسل عَنْك النَّفس أَو تدع الصِّبَا ... فباليأس تسلوا عَنْك لَا بالتجلد) (وكل خَلِيل زارني فَهُوَ قَائِل ... من آجلك هَذَا هَامة الْيَوْم أَو غَد) وَلما طَال عَلَيْهِ الْأَمر ردهَا إِلَى قبرها، وَدخل إِلَى منزله فَمَا خرج مِنْهُ إِلَّا على النعش. قَالَ الْهَيْثَم بن عَمْرو الْعَبْسِي: مَاتَ يزِيد بن عبد الْملك بسواد الْأُرْدُن، مرض بِطرف من السل. وَقَالَ أَبُو مسْهر: مَاتَ بأربد. وَقَالَ غير وَاحِد: إِنَّه مَاتَ لخمس بَقينَ من شعْبَان سنة خمس وَمِائَة بعد موت جَارِيَته حبابة بسبعة عشر يَوْمًا. وَقيل: بِأَكْثَرَ. وَكَانَت خِلَافَته أَربع سِنِين وشهرا. وتخلف بعده أَخُوهُ هِشَام بن عبد الْملك.

هشام بن عبد الملك

(هِشَام بن عبد الْملك) بن مَرْوَان بن الحكم، الْأمَوِي الْقرشِي، أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبُو الْوَلِيد. أمه فَاطِمَة بنت [هِشَام بن إِسْمَاعِيل بن هِشَام بن] الْوَلِيد بن الْمُغيرَة المخزومية. بُويِعَ بالخلافة بعد موت أَخِيه يزِيد فِي شعْبَان سنة خمس وَمِائَة. ولد سنة نَيف وَسبعين، واستخلف وعمره أَربع وَثَلَاثُونَ سنة. وَكَانَت دَاره عِنْد بَاب الخواصين بِدِمَشْق - الَّتِي بَعْضهَا الْآن الْمدرسَة النورية -. وَقَالَ سعيد بن عفير: كَانَ هِشَام جميلا، أَبيض، مسمنا، أحولا، يخضب بِالسَّوَادِ. إنتهى. وَقَالَ أَبُو عُمَيْر بن النّحاس: حَدثنِي أبي قَالَ: كَانَ لَا يدْخل بَيت مَال هِشَام [مَال] حَتَّى يشْهد أَرْبَعُونَ قسَامَة: لقد أَخذ من حَقه وَلَقَد أعْطى لكل ذِي حق حَقه.

[قلت] : كَانَ حَلِيمًا، لين الْجَانِب للرعية، محببا لَهُم. قَالَ الْأَصْمَعِي: أسمع رجل مرّة هِشَام بن عبد الْملك كلَاما؛ فَقَالَ - يَعْنِي هِشَام -: يَا هَذَا {لَيْسَ لَك أَن تسمع خليفتك} وَلم يزده على ذَلِك. قَالَ: وَغَضب مرّة على رجل؛ فَقَالَ: وَالله لقد هَمَمْت أَن أضربك سَوْطًا. وَقَالَ ابْن سعد: حَدثنَا مُحَمَّد بن عمر، حَدثنَا سحيل بن مُحَمَّد قَالَ: مَا رَأَيْت أحدا من الْخُلَفَاء أكره إِلَيْهِ الدِّمَاء وَلَا أَشد عَلَيْهِ من هِشَام، وَلَقَد دَاخله من مقتل زيد بن عَليّ وَيحيى بن زيد العلويين أَمر شَدِيد، وَقَالَ: وددت أَنِّي كنت أفتديهما. قلت: كَانَا خرجا [عَلَيْهِ فقتلا] . وصلب زيد بواقعة جرت لَهُ طَوِيلَة. وَلما ظَهرت دَعْوَة العباسيين عمد عبد الله بن عَليّ بن عَبَّاس فنبش هشاما من قَبره وصلبه؛ فعد ذَلِك من غلطات عبد الله بن عَليّ. إنتهى. وَقَالَ [ابْن] عَائِشَة: قَالَ هِشَام بن عبد الْملك: مَا بَقِي عَليّ شَيْء من لذات الدُّنْيَا إِلَّا وَقد نلته، إِلَّا شَيْئا وَاحِدًا: أَخ أرفع مُؤنَة التحفظ [فِيمَا] بيني وَبَينه. وَقيل: إِن هَذَا الْبَيْت لَهُ، وَلم يحفظ لَهُ غَيره: (إِذا أَنْت لم تعص الْهوى قادك الْهوى ... إِلَى بعض مَا فِيهِ عَلَيْك مقَال)

قَالَ حَمَّاد الراوية: لما ولي هِشَام الْخلَافَة طلبني؛ فأحضرت إِلَيْهِ، فَوَجَدته جَالِسا فِي فرش قد غرق فِيهِ وَبَين يَدَيْهِ صَحْفَة من ذهب مَمْلُوءَة مسكا مذوبا بِمَاء ورد، وَهُوَ يقلبه بِيَدِهِ؛ فتفوح روائحه؛ فَسلمت عَلَيْهِ؛ فَرد عَليّ السَّلَام وَقَالَ: يَا حَمَّاد، إِنِّي ذكرت بَيْتا من الشّعْر فَمَا عرفت قَائِله [وَهُوَ هَذَا] : (ودعوا بالصبوح يَوْمًا فَجَاءَت ... قينة فِي يَمِينهَا إبريق) فَقلت: هُوَ لعدي بن زيد. قَالَ: فأنشدني القصيدة؛ فَأَنْشَدته إِيَّاهَا؛ فَقَالَ: سل حَاجَتك. وَكَانَ على رَأسه جاريتان كَأَنَّهُمَا قمران، فِي أذن كل وَاحِدَة مِنْهُمَا جوهرتان يضئ مِنْهُمَا الْمنزل؛ فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، جَارِيَة من هَاتين. فَقَالَ: هما الإثنتان لَك. وَأمر لي بِمِائَة ألف دِرْهَم؛ فأخذتهما وَالدَّرَاهِم وانصرفت. وَقَالَ حَرْمَلَة: حَدثنَا الشَّافِعِي قَالَ: لما بنى هِشَام قصره بِقِنِّسْرِينَ أحب أَن يَخْلُو [يَوْمًا] بِهِ لَا يَأْتِيهِ فِيهِ غم، فَمَا انتصف النَّهَار حَتَّى أَتَتْهُ ريشة بِدَم من بعض الثغور؛ فأوصلت إِلَيْهِ؛ فَقَالَ: وَلَا يَوْمًا وَاحِدًا {}

وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: كَانَ هِشَام [لَا يكْتب] إِلَيْهِ بِكِتَاب فِيهِ ذكر الْمَوْت. قلت: وَلذَلِك تنغص لما أَتَتْهُ الريشة بِالدَّمِ. إنتهى. قَالَ الْهَيْثَم بن عمرَان: مَاتَ هِشَام من ورم أَخذه فِي حلقه - يُقَال لَهُ: الحردون - بالرصافة. وَقَالَ غير وَاحِد: إِنَّه مَاتَ فِي شهر ربيع الآخر سنة خمس وَعشْرين، وَله أَربع وَخَمْسُونَ سنة. وَكَانَت خِلَافَته تسع عشرَة سنة وَسَبْعَة أشهر وأياما. وتخلف بعده [ابْن] أَخِيه [الْوَلِيد بن يزِيد بن عبد الْملك] .

الوليد بن يزيد

(الْوَلِيد بن يزِيد) ابْن عبد الْملك بن مَرْوَان، الْأمَوِي [الْقرشِي] ، أَبُو الْعَبَّاس، الْفَاسِق. بُويِعَ بالخلافة بعد موت عَمه هِشَام؛ لِأَن أَبَاهُ كَانَ لما احْتضرَ لم يُمكنهُ أَن يستخلفه؛ لِأَنَّهُ صبي حَدِيث السن؛ فعقد لِأَخِيهِ هِشَام بالخلافة، وَجعل وَلَده الْوَلِيد هَذَا ولي الْعَهْد من بعده. ومولده بِدِمَشْق فِي سنة تسعين. وَيُقَال: سنة إثنتين وَتِسْعين. وَأمه بنت يُوسُف الثَّقَفِيّ، أخي الْحجَّاج. وَذكر الذَّهَبِيّ بِإِسْنَاد عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: ولد لأخي أم سَلمَة ولد؛ فَسَموهُ الْوَلِيد؛ فَقَالَ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- ((سميتموه بأسماء فراعنتكم؛ لَيَكُونن فِي هَذِه الْأمة رجل يُقَال لَهُ: الْوَلِيد، لَهو أَشد [فَسَادًا] لهَذِهِ الْأمة من فِرْعَوْن لِقَوْمِهِ)) .

وَقَالَ ابْن سعد: حَدثنَا مُحَمَّد بن عمر، حَدثنَا ابْن أبي الزِّنَاد عَن أَبِيه قَالَ: كَانَ الزُّهْرِيّ يقْدَح أبدا عِنْد هِشَام بن الْوَلِيد ويعيبه، وَيذكر أمورا عَظِيمَة لَا ينْطق بهَا، حَتَّى يذكر [أَن الصّبيان] يخضبون [لَهُ] بِالْحِنَّاءِ، وَيَقُول: مَا يحل لَك إِلَّا خلعه - يَعْنِي من عهد الْخلَافَة - فَلَا يَسْتَطِيع هِشَام ذَلِك. وَلَو بَقِي الزُّهْرِيّ إِلَى أَن تملك الْوَلِيد لفتك بِهِ. وَقَالَ: حَمَّاد الرِّوَايَة: كنت يَوْمًا عِنْد الْوَلِيد؛ فَدخل عَلَيْهِ منجمان فَقَالَا: نَظرنَا فِيمَا أمرتنا فوجدناك تملك سبع سِنِين قَالَ حَمَّاد: فَأَرَدْت أَن أخدعه فَقلت كذبا: وَنحن أعلم بالآثار وضروب الْعلم؛ وَقد نَظرنَا فِي هَذَا وَالنَّاس فوجدناك تملك أَرْبَعِينَ سنة. فَأَطْرَقَ ثمَّ قَالَ: [لَا] مَا قَالَا يكسرني، [وَلَا] مَا قلت يعزني، وَالله لأجبين هَذَا المَال من حلّه جباية من يعِيش الْأَبَد، ولأصرفنه فِي حَقه صرف من يَمُوت الْغَد. وَقَالَ الْمعَافي الْجريرِي: كنت جمعت من أَخْبَار الْوَلِيد شَيْئا، وَمن شعره الَّذِي ضمنه مَا فجر بِهِ من خرقه وسخافته وخسارته وحمقه، وَمَا صرح بِهِ من الْإِلْحَاد فِي الْقُرْآن وَالْكفْر بِاللَّه تَعَالَى. وَقَالَ أَحْمد بن أبي خَيْثَمَة: حَدثنَا سُلَيْمَان بن أبي شيخ، حَدثنَا صَالح بن سُلَيْمَان، قَالَ: أَرَادَ الْوَلِيد [بن يزِيد] الْحَج

وَقَالَ: أشْرب [الْخمر] فَوق ظهر الْكَعْبَة؛ فهم قوم أَن يفتكوا بِهِ إِذا خرج، وكلموا خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي ليوافقهم؛ فَأبى. قَالُوا: أكتم علينا. قَالَ: أما هَذَا فَنعم، ثمَّ جَاءَ الْوَلِيد فَقَالَ: لَا تخرج فَإِنِّي أَخَاف عَلَيْك. قَالَ: مِمَّن؟ قَالَ: لَا أخْبرك بهم. قَالَ: إِن لم تُخبرنِي [بهم] بَعَثْتُك إِلَى يُوسُف بن عمر بك قَالَ: فَأبى: فَبعث بِي إِلَيْهِ؛ فَعَذَّبَهُ حَتَّى قَتله. قلت: وَأما مَا نقل عَنهُ من كفرياته وفسقه فشئ كثير، من ذَلِك: أَنه دخل يَوْمًا فَوجدَ ابْنَته جالسة مَعَ دادتها؛ فبرك عَلَيْهَا وأزال بَكَارَتهَا؛ فَقَالَت لَهُ الدادة. هَذَا دين الْمَجُوس {} فَأَنْشد: (من راقب النَّاس مَاتَ غما ... وفاز باللذة الجسور) وَأخذ يَوْمًا الْمُصحف ففتحه؛ فَأول مَا طلع لَهُ: {واستفتحوا وخاب كل جَبَّار عنيد} ؛ فَقَالَ: أتوعدني {ثمَّ أغلق الْمُصحف، وَلَا زَالَ يضْربهُ بالنشاب حَتَّى خرقه ومزقه. ثمَّ أنْشد [يَقُول] : (أتوعد كل جَبَّار عنيد ... فها أَنا ذَاك جَبَّار عنيد) (إِذا لاقيت رَبك يَوْم حشر ... فَقل يَا رب مزقني الْوَلِيد) } !

وَأذن الصُّبْح مرّة وَعِنْده جَارِيَة يشرب عَلَيْهَا الْخمر؛ فَقَامَ فَوَطِئَهَا، وَحلف لَا يُصَلِّي بِالنَّاسِ غَيرهَا؛ فَخرجت وَهِي جنب سكرانة؛ فصلت بِالنَّاسِ {} . وَالَّذِي أقوله أَنا فِي حق الْوَلِيد هَذَا: أَنه كَانَ فِي عقله خلل، وَإِلَّا وَإِن كَانَ زنديقا كَانَ يُمكنهُ أَن يتستر فِيمَا يَفْعَله من الْإِلْحَاد والزندقة؛ خوفًا من عواقب الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة: من قيام النَّاس عَلَيْهِ وخلعه من الْخلَافَة وَمَا أشبه ذَلِك، غير أَنه كَانَ نَاقص الْعقل مَعَ سوء اعْتِقَاد؛ فحملاه على مَا وَقع مِنْهُ. وَلما كثر فسقه وَزَاد أمره خرج عَلَيْهِ النَّاس قاطبة، ونصبوا ابْن عَمه يزِيد بن الْوَلِيد ابْن عبد الْملك، ورشحوه للخلافة، وقاتلوا الْوَلِيد. هَذَا، وَوَقع [لَهُم مَعَه] أُمُور يطول شرحها. وَلما حوصر بِالْقصرِ دنا الْوَلِيد من الْبَاب فَقَالَ: أما فِيكُم رجل شرِيف لَهُ حسب ُأكَلِّمهُ؟ {فَقَالَ لَهُ يزِيد بن عَنْبَسَة: كلمني. فَقَالَ: يَا أَخا السكاسك، ألم أَزْد فِي عطياتكم، ألم أرفع عَنْكُم الْمُؤَن، ألم أعْط فقراءكم.} ؟ فَقَالَ: مَا ننقم عَلَيْك فِي أَنْفُسنَا، وَلَكِن ننقم عَلَيْك انتهاك [مَا] حرم الله وَشرب الْخمر، وَنِكَاح أُمَّهَات أَوْلَاد أَبِيك، واستخفافك بِأَمْر الله. قَالَ: حَسبك، قد أَكْثرُوا. وَرجع إِلَى الدَّار: فَجَلَسَ وَأخذ الْمُصحف وَقَالَ: يَوْم كَيَوْم عُثْمَان. وَنشر الْمُصحف يقْرَأ فِيهِ، فعلوا الْحَائِط؛ فَكَانَ أَوَّلهمْ يزِيد بن عَنْبَسَة؛ فَنزل إِلَيْهِ وَسيف الْوَلِيد إِلَى جنبه، فَقَالَ: نح سَيْفك. قَالَ الْوَلِيد: لَو أردْت السَّيْف كَانَ لي، وَلَك حَال غير هَذَا.

فَأخذ بيد الْوَلِيد، وَهُوَ يُرِيد أَن يعتقله ويؤامر فِيهِ؛ فَنزل من الْحَائِط عشرَة؛ فَضَربهُ عبد السَّلَام اللَّخْمِيّ على رَأسه، وضربه آخر على وَجهه؛ فَتلف، وجروه بَين خَمْسَة ليخرجوه؛ فصاحت إمرأة: حزوا رَأسه؛ فقطعوها (وخاطوا الضَّرْبَة الَّتِي فِي وَجهه. وأتى النَّاس يزِيد بِالرَّأْسِ؛ فَسجدَ لله شكرا. وتخلف يزِيد [الْمَذْكُور من] بعده. وَكَانَ قَتله فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَة. وَكَانَت خِلَافَته سنة وَثَلَاثَة أشهر.

يزيد بن الوليد

يزِيد بن الْوَلِيد ابْن عبد الْملك بن مَرْوَان بن الحكم، أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبُو خَالِد، الْقرشِي الْأمَوِي، الْمَعْرُوف بالناقص. لقبه: الشاكر لأنعم الله. وَأمه شاه فرند. حكى أَن سُلَيْمَان بن أبي شيخ بن قُتَيْبَة بن مُسلم ظفر بِمَا وَرَاء النَّهر بإبنتي فَيْرُوز ابْن يزدجرد؛ فَبعث بهما إِلَى الْحجَّاج؛ فَبعث الْحجَّاج بأحديهما - وَهِي شاه فرند -[إِلَى الْوَلِيد بن عبد الْملك، فأولدها الْوَلِيد يزِيد هَذَا. وفيروز وَالِد شاه فرند]- هَذِه - ابْن بنت شيرويه بن كسْرَى. وَأم شيرويه بنت خاقَان ملك التّرْك، وَأم فَيْرُوز [الْمَذْكُور هِيَ] بنت قَيْصر عَظِيم الرّوم؛ فَلذَلِك كَانَ يزِيد هَذَا يفتخر وَيَقُول: (أَنا ابْن كسْرَى وَأبي مَرْوَان ... وَقَيْصَر جدي وجدي خاقَان)

وبويع [يزِيد] بالخلافة بعد قتل ابْن عَمه الْوَلِيد بن يزِيد فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَة، وَتمّ أمره فِي الْخلَافَة. ولقب بالناقص؛ لكَونه نقص الْجند من عطياتهم. وَقَالَ خَليفَة: حَدثنِي إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه: أَن يزِيد بن الْوَلِيد قَامَ خَطِيبًا عِنْد قتل الْوَلِيد بن يزِيد، فَقَالَ: أما بعد، إِنِّي وَالله مَا خرجت أشرا، وَلَا بطرا، وَلَا حرصا على الدُّنْيَا، وَلَا رَغْبَة فِي الْملك، وَإِنِّي لظلوم لنَفْسي إِن لم يرحمني رَبِّي، [و] لَكِن خرجت غَضبا لله ولدينه، وداعيا إِلَى كتاب الله وَسنة نبيه حِين درست معالم الْهدى، وطفئ نور أهل التَّقْوَى، وَظهر الْجَبَّار المستحل للْحُرْمَة [و] الرَّاكِب للبدعة. فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِك أشفقت إِذْ غشيكم ظلمَة لَا تقلع عَنْكُم على كَثْرَة من ذنوبكم وقسوة من قُلُوبكُمْ. وأشفقت أَن يدعوا كثيرا من النَّاس إِلَى مَا [هُوَ عَلَيْهِ] فَيُجِيبهُ؛ فاستخرت الله فِي أَمْرِي، ودعوت من أجابني من أَهلِي وَأهل ولايتي؛ فأراح الله [تَعَالَى] مِنْهُ الْبِلَاد والعباد، ولَايَة من الله، وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه. أَيهَا النَّاس: إِن لكم عِنْدِي - إِن وليت أُمُوركُم - أَن لَا أَضَع لبنة على لبنة وَلَا حجرا على حجر، وَلَا أنقل مَالا من بلد حَتَّى أَسد ثغره، وَأقسم بَين مَصَالِحه مَا يقوون بِهِ، فَإِن فضل فضل رَددته إِلَى الْبَلَد الَّذِي يَلِيهِ حَتَّى تستقيم الْمَعيشَة، وتكونوا فِيهِ سَوَاء؛ فَإِن أردتم بيعتي على الَّذِي بذلت لكم فَأَنا لكم، وَإِن ملت فَلَا بيعَة لي عَلَيْكُم. وَإِن رَأَيْتُمْ أحدا أقوى مني فَأَنا أول من يُبَايع وَيدخل فِي طَاعَته، واستغفر الله لي وَلكم.

قلت: وَيزِيد هَذَا هُوَ أول من خرج بِالسِّلَاحِ فِي الْعِيد. وَلم تطل خِلَافَته. وَمَات فِي سَابِع ذِي الْحجَّة من سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَة. فَكَانَت خِلَافَته سِتَّة أشهر نَاقِصَة. وَقيل: إِنَّه مَاتَ بعد عيد الْأَضْحَى. وَقَالَ الْهَيْثَم بن عدي: عَاشَ سِتا وَأَرْبَعين سنة. وَقَالَ الْمَدَائِنِي: عَاشَ خمْسا وَثَلَاثِينَ سنة. وَكَانَ أسمرا، نحيفا، حسن الْوَجْه. وَدفن بَين بَاب الْجَابِيَة وَالْبَاب الصَّغِير. وَيُقَال: إِنَّه مَاتَ بالطاعون. وَصلى عَلَيْهِ أَخُوهُ إِبْرَاهِيم الَّذِي اسْتخْلف بعده) .

إبراهيم بن الوليد

(إِبْرَاهِيم بن الْوَلِيد) ابْن عبد الْملك بن مَرْوَان بن الحكم أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبُو إِسْحَاق، الْأمَوِي الْقرشِي الدِّمَشْقِي. لقب بالمعتز بِاللَّه. وَأمه أم ولد. بُويِعَ بالخلافة بعد موت أَخِيه يزِيد النَّاقِص؛ فَلم يتم أمره وَلَا أطاعه أحد. وَاخْتلف عَلَيْهِ الْجند. ثمَّ تغلب عَلَيْهِ مَرْوَان بن مُحَمَّد الْحمار، وَوَقع بَينهمَا حروب آلت إِلَى نصْرَة مَرْوَان [الْحمار] وهزيمة إِبْرَاهِيم [بن الْوَلِيد] . وَتوجه إِبْرَاهِيم إِلَى الجزيرة؛ فَمَاتَ بهَا غريقا فِي سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة؛ فَكَانَت خِلَافَته شَهْرَيْن وَعشرَة أَيَّام. وَاسْتقر [مَرْوَان] بعده فِي الْخلَافَة.

مروان بن محمد

(مَرْوَان بن مُحَمَّد) ابْن مَرْوَان بن الحكم بن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس، أَبُو عبد الْملك، الْأمَوِي [الدِّمَشْقِي] الْقرشِي، أَمِير الْمُؤمنِينَ. ولقبه: الْقَائِم بِحَق الله. أمه أم ولد كردية. بُويِعَ بالخلافة بعد ابْن عَمه إِبْرَاهِيم بِحكم خلعه. كَانَ مَرْوَان هَذَا يعرف [بِمَرْوَان الْحمار] وبالجعدي أَيْضا. ونسبته بالجعدي لمؤدبه جعد بن دِرْهَم، وبالحمار لشجاعته - يُقَال: فلَان أَصْبِر من حمَار فِي الحروب؛ وَلِهَذَا لقب [بالحمار] ؛ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يفتر عَن محاربة الخارجين عَلَيْهِ -. وَكَانَ أَشْجَع بني أُميَّة، كَانَ يصل السرى بالسير، ويصبر على مكاره الحروب.

وَقيل: سمي بالحمار لِأَن الْعَرَب تسمى كل مائَة سنة حمارا؛ فَلَمَّا قَارب ملك بني أُميَّة مائَة سنة لقبوا مَرْوَان هَذَا بالحمار، وَأخذُوا ذَلِك من قَوْله تَعَالَى فِي موت حمَار الْعَزِيز: {وَانْظُر إِلَى حِمَارك} الْآيَة. [و] كَانَ مولد مَرْوَان هَذَا بالجزيرة وَأَبوهُ متوليها من قبل ابْن عَمه عبد الْملك بن مَرْوَان فِي سنة إثنتين وَسبعين [وَمِائَة] . وَقد ولي مَرْوَان الْمَذْكُور ولايات جليلة قبل أَن يَلِي الْخلَافَة، وافتتح فتوحات كَثِيرَة. وَكَانَ مَشْهُورا بالشجاعة والفروسية؛ فَلم ينْتج أمره مَعَ بني الْعَبَّاس، وَانْهَزَمَ من عبد الله بن عَليّ أقبح هزيمَة بعد خطوب وحروب تداولت بَينهم أشهرا، بل سِنِين لما ظهر أَبُو مُسلم الْخُرَاسَانِي بدعوة بني الْعَبَّاس. وَقَالَ مَنْصُور بن أبي مُزَاحم: سَمِعت الْوَزير أَبَا عبد الله يَقُول: سَأَلَني الْمَنْصُور: مَا كَانَ أشياخك الشاميون يَقُولُونَ؟ . قلت: أدركتهم يَقُولُونَ: إِن الْخَلِيفَة إِذا اسْتخْلف غفر لَهُ مَا مضى من ذنُوبه. قَالَ: إِي وَالله، وَمَا تَأَخّر، أَتَدْرِي مَا الْخَلِيفَة؟ : بِهِ تُقَام الصَّلَاة، وَبِه يحجّ الْبَيْت، ويجاهد الْعَدو. قَالَ: فعدد الْمَنْصُور من مَنَاقِب الْخَلِيفَة مَا لم أسمع أحدا ذكر مثله، وَقَالَ: وَالله لَو عرفت من حق الْخلَافَة فِي دهر بني أُميَّة مَا أعرف الْيَوْم؛ لأتيت الرجل مِنْهُم حَتَّى أُبَايِعهُ.

أَقُول: مرني مَا شِئْت، فَقَالَ لَهُ ابْنه الْمهْدي: [أ] فَكَانَ الْوَلِيد مِنْهُم؟ {فَقَالَ: قبح الله الْوَلِيد وَمن أقعده خَليفَة. قَالَ: أَفَكَانَ مَرْوَان بن مُحَمَّد مِنْهُم؟} . فَقَالَ الْمَنْصُور: لله در مَرْوَان مَا كَانَ أحزمه وأسوسه، وأعفه بِمن ألفى. قَالَ: فَلم قَتَلْتُمُوهُ؟ ! . قَالَ: لِلْأَمْرِ الَّذِي سبق فِي علم الله [تَعَالَى] . وَقَالَ خَليفَة بن خياط: وَسَار مَرْوَان لِحَرْب بني الْعَبَّاس -[يَعْنِي] لما بلغه [ظُهُور دعوتهم]-؛ فَكَانَ فِي مائَة ألف [وَخمسين ألفا] ؛ فَسَار حَتَّى نزل الزابين - دون الْموصل - فَالتقى هُوَ وَعبد الله بن عَليّ العباسي - عَم الْمَنْصُور - فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة إثنتين وَثَلَاثِينَ وَمِائَة؛ فانكسر مَرْوَان، وَقطع الجسور إِلَى الجزيرة [وَأخذ بيُوت الْأَمْوَال والكنوز؛ فَقدم الشَّام فاستولى عبد الله على الجزيرة] وَطلب الشَّام؛ وفر مِنْهُ [مَرْوَان] ، ونازل عبد الله دمشق. فَلَمَّا بلغ مَرْوَان أَخذ دمشق - وَهُوَ يَوْمئِذٍ بِأَرْض فلسطين - دخل إِلَى مصر، وَعبر النّيل، وَطلب الصَّعِيد؛ فَوجه عبد الله [بن] عَليّ أَخَاهُ صَالح بن عَليّ فِي طلب مَرْوَان - وعَلى طلائعه عَمْرو بن إِسْمَاعِيل -؛ فساق عَمْرو فِي إِثْر [مَرْوَان] ؛ فَلحقه بقرية أَبُو صير، فبيته؛ فَقتله.

وَقَالَ أَبُو معشر السندي: قتل مَرْوَان وَهُوَ إِبْنِ إثنتين وَسِتِّينَ سنة. قلت: وَكَانَ قَتله فِي ذِي الْحجَّة من سنة إثنتين وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. ويروى أَن مَرْوَان مر فِي هربه على رَاهِب فَقَالَ: يَا رَاهِب {هَل تبلغ الدُّنْيَا من الْإِنْسَان أَن تَجْعَلهُ مَمْلُوكا؟} قَالَ: نعم {قَالَ: كَيفَ؟ قَالَ: يُحِبهَا. قَالَ: فَمَا السَّبِيل إِلَى الْعتْق؟ . قَالَ: ببغضها والتخلي عَنْهَا. قَالَ: هَذَا مَا لَا يكون} . قَالَ: بل سَيكون؛ فبادر بالهرب مِنْهَا قبل أَن تبادرك. قَالَ: هَل تعرفنِي؟ . قَالَ: نعم أَنْت مَرْوَان ملك الْعَرَب، تقتل فِي السودَان وتدفن بِلَا أكفان، وَلَوْلَا أَن الْمَوْت فِي طَلَبك لدللتك على مَوضِع هربك. وَقَالَ هِشَام بن عمار: حَدثنَا عبد الْمُؤمن بن مهلهل عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ لي مَرْوَان لما أَن عظم أَمر أَصْحَاب الرَّايَات السود: لَوْلَا وحشتي لَك وأنسي بك لأحببت أَن تكون وَدِيعَة فِيمَا بيني وَبَين هَؤُلَاءِ؛ فتأخذ لي وَلَك الْأمان. قلت: وَبَلغت هَذَا الْحَال؟ ! . قَالَ: أَي وَالله. قلت: فأدلك على أحسن مِمَّا أردْت. قَالَ: [قل] . قلت: إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد فِي يدك، تخرجه من الْحَبْس وتزوجه ببنتك وتشركه فِي أَمرك؛ فَإِن كَانَ الْأَمر كَمَا تَقول انتفعت بذلك عِنْده، وَإِن لم يكن كَذَلِك كنت قد وضعت بنتك فِي كفاة. قَالَ: أَشرت وَالله بِالرَّأْيِ، وَلَكِن وَالله السَّيْف أَهْون من هَذَا. إنتهى. قلت: وأخبار مَرْوَان طَوِيلَة، وَوَقَائعه كَثِيرَة من أَوَائِل أمره إِلَى آخِره.

وَهُوَ آخر خلفاء بني أُميَّة بِدِمَشْق وبلاد الشرق. وبموته انقرضت دولة بني أُميَّة إِلَى يَوْمنَا هَذَا، سوى عبد الرَّحْمَن الدَّاخِل من بني أُميَّة الَّذِي قَامَ بالغرب، وتخلف هُوَ وَجَمَاعَة من ذُريَّته، ذكرنَا من أَمرهم نبذة فِي تاريخنا ((النُّجُوم الزاهرة فِي مُلُوك مصر والقاهرة)) ؛ فَلْينْظر هُنَاكَ.

ذكر دولة بني العباس

(ذكر دولة بني الْعَبَّاس) وأولهم السفاح: عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس بن عبد الْمطلب، أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبُو الْعَبَّاس، الْقرشِي [العباسي] . أمه رائطة الحارثية. ومولده بالحميمة من نَاحيَة البلقاء سنة ثَمَان وَمِائَة، وَنَشَأ بهَا. وبويع بِالْكُوفَةِ بعد موت أَبِيه مُحَمَّد. وَكَانَ أَبوهُ بُويِعَ بالخلافة وَلم يتم أمره. وَكَانَ السفاح هَذَا أَصْغَر من أَخِيه أبي جَعْفَر الْمَنْصُور. وَقَالَ الذَّهَبِيّ: روى عُثْمَان بن أبي شيبَة وقتيبة عَن جرير عَن الْأَعْمَش عَن عَطِيَّة - وَهُوَ ضَعِيف - عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- قَالَ: ((يخرج رجل من أهل بَيْتِي عِنْد انْقِطَاع من الزَّمَان وَظُهُور من الْفِتَن يُقَال لَهُ: السفاح؛ فَيكون إِعْطَاؤُهُ المَال حثيا)) .

وَرَوَاهُ العطاردي عَن أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش. أخرجه [الإِمَام] أَحْمد فِي مُسْنده. وَقَالَ ابْن أبي الدُّنْيَا: كَانَ السفاح أَبيض، طوَالًا، أقنى، ذَا شَعْرَة جعدة، حسن اللِّحْيَة. قلت: [وَكَانَ أَبُو مُسلم الْخُرَاسَانِي قد أَقَامَ لَهُم بالدعوة، ومهد] لَهُم الْبِلَاد وَقطع جاذرة بني أُميَّة حَتَّى [أَن السفاح كَانَ] قد أَمن من بني أُميَّة جمَاعَة تَقْدِير مائَة نفس؛ فَعظم ذَلِك على أبي مُسلم [الْخُرَاسَانِي] ؛ فَتكلم مَعَ سديف الشَّاعِر فِي أَمرهم ووعده؛ فَدخل سديف على السفاح وهم بَين يَدَيْهِ وَأنْشد: (لَا يغرنك مَا ترى من رجال ... إِن تَحت الضلوع دَاء دويا) (فضع السَّيْف وارفع الصَّوْت حَتَّى ... [لَا ترى] فَوق ظهرهَا أمويا) فَلَمَّا سمع السفاح ذَلِك تغير وَجهه وَصَاح بالخراسانية: وَيْلكُمْ، خذوهم؛ فضربوهم الخراسانية بالدبابيس إِلَى أَن سقطوا وَقد فارقوا الْحَيَاة، وفرشت النطوع عَلَيْهِم؛ ثمَّ مد السماط فَوْقهم، فَأَكَلُوا وهم يسمعُونَ أنينهم حَتَّى مَاتَ الْجَمِيع.

ثمَّ رفعوا السماط وسحبوهم بأرجلهم؛ فألقوهم فِي الطَّرِيق فأكلتهم الْكلاب؛ فَقَالَ للسفاح بعض أخصائه: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، هَذَا هُوَ جهد الْبلَاء. قَالَ: لَا جهد الْبلَاء غنى قوم افْتقر وعزيز قوم ذل، وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ مَاتُوا كراما. وَقَالَ الصولي: حَدثنَا الْقَاسِم بن إِسْمَاعِيل، حَدثنَا أَحْمد بن سعيد بن سَالم الْبَاهِلِيّ عَن أَبِيه قَالَ: حَدثنِي من حضر مجْلِس السفاح - وَهُوَ أحشد مَا يكون ببني هَاشم والشيعة ووجوه النَّاس - فَدخل عبد الله بن حسن بن حسن بن عَليّ وَمَعَهُ مصحف؛ فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أعطنا حَقنا الَّذِي جعله الله لنا فِي هَذَا الْمُصحف؛ فأشفق النَّاس من أَن يعجل السفاح [إِلَيْهِ] بشئ، فَلَا يُرِيدُونَ ذَلِك فِي شيخ بني هَاشم، أَو يَعْنِي بجوابه؛ فَيكون ذَلِك نقصا وعارا عَلَيْهِ؛ فَأقبل غير منزعج فَقَالَ: إِن جدك عليا كَانَ خيرا مني وَأَعْدل، ولي هَذَا الْأَمر فَأعْطى جديك الْحسن وَالْحُسَيْن - وَكَانَا خيرا مِنْك - شَيْئا، وَكَانَ الْوَاجِب أَن أُعْطِيك مثله؛ فَإِن كنت فعلت؛ فقد أنصفتك، وَإِن كنت زدتك، فَمَا هَذَا جزائي مِنْك. قَالَ: فَمَا رد عَلَيْهِ جَوَابا وَانْصَرف. وَعجب النَّاس من جَوَابه لَهُ. قَالَ الْهَيْثَم بن عدي وَهِشَام بن الْكَلْبِيّ، وَجَمَاعَة: عَاشَ السفاح ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ [سنة] ، وَمَات سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. وَزَاد غَيرهمَا؛ فَقَالَ: بالجدري فِي ذِي الْحجَّة. وَقَالَ خَليفَة: توفّي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَهُوَ إِبْنِ ثَمَان وَعشْرين سنة.

قلت: الأول أشهر وَأَصَح. وَوَافَقَ على القَوْل الأول أَبُو أَحْمد الْحَاكِم وَزَاد: فِي ذِي الْحجَّة. إنتهى. وَكَانَت خِلَافَته أَربع سِنِين تخمينا. وَتَوَلَّى الْخلَافَة [من] بعده أَخُوهُ [الْمَنْصُور] .

أبو جعفر المنصور

(أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور) عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس، أَمِير الْمُؤمنِينَ، الْهَاشِمِي، الْقرشِي، ثَانِي خلفاء بني الْعَبَّاس. بُويِعَ بالخلافة بعد موت أَخِيه عبد الله السفاح. أَتَتْهُ الْبيعَة بالخلافة [وَهُوَ] بِمَكَّة بِعَهْد السفاح؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي حج فِي تِلْكَ السّنة. وَحج فِيهَا أَيْضا أَبُو مُسلم الْخُرَاسَانِي، وَوَقع مِنْهُ أُمُور فِي حق الْمَنْصُور هَذَا؛ فنقمها عَلَيْهِ، وَقَتله لما تخلف. وَكَانَ [الْمَنْصُور] فِي صغره يلقب بمدرك التُّرَاب، وَبِعَبْد الله الطَّوِيل، ثمَّ لقب فِي خِلَافَته بِأبي الدوانيق لبخله. وَكَانَ الْمَنْصُور فَحل بني الْعَبَّاس هَيْبَة وشجاعة وحزما، ورأيا وجبروتا.

وَكَانَ جماعا لِلْمَالِ، تَارِكًا للهو والطرب، كَامِل الْعقل، جيد الْمُشَاركَة فِي الْعلم وَالْأَدب، فَقِيه النَّفس. وَكَانَ يرجع إِلَى عدل وديانة، وَله حَظّ من صَلَاة وَتَدين. وَكَانَ فصيحا، بليغا، مفوها، خليقا للإمارة؛ إِلَّا أَنه قتل خلقا حَتَّى استقام ملكه. وَكَانَ مولده فِي سنة خمس وَتِسْعين. وَهُوَ أسن من أَخِيه السفاح - كَمَا تقدم ذكره -. وَأمه سَلامَة البربرية. وَكَانَ الْمَنْصُور قبل الدعْوَة ضرب فِي الْآفَاق إِلَى الجزيرة وَالْعراق وأصبهان وَفَارِس. وَولي بعض كور فَارس فِي شبيبته لعاملها سُلَيْمَان بن حبيب بن الْمُهلب الْأَزْدِيّ، ثمَّ عَزله سُلَيْمَان [الْمَذْكُور] وضربه ضربا مبرحا؛ لكَونه احتجز المَال لنَفسِهِ، ثمَّ غرمه المَال. فَلَمَّا ولي الْمَنْصُور الْخلَافَة ضرب عُنُقه. وَكَانَ الْمَنْصُور بَخِيلًا، وسمى بالدوانيق لتدنيقه ومحاسبته الْعمَّال و [أهل] الضّيَاع على الدوانيق والحبات. [وَكَانَ مَعَ هَذَا رُبمَا] يُعْطي الْعَطاء الْعَظِيم.

قَالَ أَبُو إِسْحَق الثعالبي: وعَلى شهرة الْمَنْصُور بالبخل ذكر مُحَمَّد بن سَلام أَنه لم يُعْط خَليفَة قبل الْمَنْصُور عشرَة آلَاف ألف دارت بهَا الصكاك وَثبتت فِي الدَّوَاوِين؛ فَإِنَّهُ أعْطى فِي يَوْم وَاحِد [كل وَاحِد] من عمومته عشرَة آلَاف ألف دِرْهَم. قلت: وَمَعَ هَذَا الْعَطاء خلف يَوْم مَاتَ فِي بيُوت الْأَمْوَال من النَّقْد تِسْعمائَة ألف ألف دِرْهَم وَخمسين ألف ألف دِرْهَم، وَمن الأقمشة والديباج فشئ كثير إِلَى الْغَايَة. وَقَالَ الزبير: حَدثنِي مبارك الطَّبَرِيّ: سَمِعت أَبَا عبيد الله الْوَزير سمع الْمَنْصُور يَقُول: الْخَلِيفَة لَا يصلحه إِلَّا التَّقْوَى، وَالسُّلْطَان لَا يصلحه إِلَى الطَّاعَة، والرعية لَا يصلحها إِلَّا الْعدْل، وَأولى النَّاس بِالْعَفو أقدرهم بالعقوبة، وأنقص النَّاس عقلا من ظلم من هُوَ دونه. وَقَالَ أَبُو العيناء: حَدثنَا الْأَصْمَعِي: أَن الْمَنْصُور صعد الْمِنْبَر؛ فشرع فِي الْخطْبَة؛ فَقَامَ رجل فَقَالَ: ((يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أذكر من أَنْت فِي ذكره؛ فَقَالَ لَهُ: مرْحَبًا، لقد ذكرت جَلِيلًا، وخوفت عَظِيما، وَأَعُوذ بِاللَّه أَن أَن أكون مِمَّن إِذا قيل [لَهُ] : اتَّقِ الله أَخَذته الْعِزَّة بالإثم، وَالْمَوْعِظَة منا بَدَت وَمن عندنَا خرجت، [وَأَنت يَا] قَائِلهَا فأحلف بِاللَّه مَا الله أردْت، إِنَّمَا أردْت أَن يُقَال: قَامَ فَقَالَ فَعُوقِبَ فَصَبر؛ فأهون بهَا من قَائِلهَا، وابتهلها [من] الله، وَيلك! وَإِيَّاكُم معشر النَّاس وأمثالها)) . ثمَّ عَاد إِلَى خطبَته؛ فَكَأَنَّمَا يقْرَأ من كتاب. إنتهى.

قلت: والمنصور هَذَا هُوَ الَّذِي بنى مَدِينَة بَغْدَاد، و [هُوَ الَّذِي] قتل أَبَا مُسلم الْخُرَاسَانِي - واسْمه عبد الرَّحْمَن -، وَهُوَ وَالِد جَمِيع الْخُلَفَاء العباسية. وروى عمر بن [أبي] شيبَة عَن الْمَدَائِنِي وَغَيره أَن الْمَنْصُور لما احْتضرَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي قد ارتكبت الْأُمُور الْعِظَام جرْأَة مني عَلَيْك، وَقد أطعتك فِي أحب الْأَشْيَاء إِلَيْك: شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، منا مِنْك لَا منا عَلَيْك، وَمَات. وَقد كَانَ الْمَنْصُور رأى مناما يدل على قرب أَجله؛ فتهيأ وَسَار لِلْحَجِّ. قَالَ هِشَام بن عمار: حَدثنَا الْهَيْثَم بن عمرَان أَن الْمَنْصُور مَاتَ بالبطن بِمَكَّة. وَقَالَ خَليفَة والهيثم وَغَيرهمَا: عَاشَ أَرْبعا وَسِتِّينَ سنة. وَقَالَ الصولي: دفن بَين الْحجُون وبئر مَيْمُون فِي ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَة. قلت: وَكَانَت خِلَافَته إثنتين وَعشْرين سنة وَثَلَاثَة أشهر. وَكَانَ الْمَنْصُور أسمرا، نحيفا، طَويلا، مهيبا، خَفِيف العارضين، معرق الْوَجْه، رحب الْجَبْهَة، يخضب بِالسَّوَادِ، كَأَن عَيْنَيْهِ لسانان ناطقان، تخالطه أبهة الْملك بزِي النساك، تقبله الْقُلُوب، وتتبعه الْعُيُون. إنتهى. وتخلف بعده إبنه [مُحَمَّد الْمهْدي] .

المهدي

(الْمهْدي) أَبُو عبد الله [مُحَمَّد] ابْن الْخَلِيفَة أبي جَعْفَر الْمَنْصُور عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ ابْن عبد الله بن عَبَّاس العباسي (الْهَاشِمِي، أَمِير الْمُؤمنِينَ. الثَّالِث من خلفاء بني الْعَبَّاس) . بُويِعَ بالخلافة بعد موت أَبِيه [الْمَنْصُور] بِعَهْد مِنْهُ إِلَيْهِ. ومولده بإيذج فِي سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة. قَالَ الخطبي: ولد سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَة [فِي جُمَادَى الْآخِرَة] . وَأمه أم مُوسَى بنت مَنْصُور الحميرية. وَكَانَ الْمهْدي جوادا، ممدحا، مليح الشكل، محببا للرعية، شجاعا،

خصاما للزنادقة. وَكَانَ يَقُول: أدخلُوا عَليّ الْقُضَاة؛ فَلَو لم يكن ردي للمظالم إِلَّا حَيَاء مِنْهُم [لكفى] . وَكَانَ الْمهْدي لما شب ولاه أَبوهُ [على] طبرستان وَمَا يَليهَا، وعَلى الرى. وتأدب الْمهْدي وجالس الْعلمَاء وتميز. قيل: إِن أَبَاهُ الْمَنْصُور غرم أَمْوَالًا عَظِيمَة، وتحيل حَتَّى استنزل ولي الْعَهْد - ولى أَخِيه - عِيسَى بن مُوسَى عَن المنصب، وولاه للمهدي هَذَا. فَلَمَّا مَاتَ الْمَنْصُور بِظَاهِر مَكَّة - قبل الْحَج - قَامَ يَأْخُذ الْبيعَة [لَهُ] الرّبيع بن يُونُس الْحَاجِب، وأسرع بالْخبر للمهدي مَعَ مَوْلَاهُ مَنَارَة الْبَرْبَرِي وَهُوَ بِبَغْدَاد؛ فكتم الْمهْدي الْأَمر يَوْمَيْنِ، ثمَّ خطب النَّاس ونعى إِلَيْهِم الْمَنْصُور. وَأول من هَنأ الْمهْدي بالخلافة وَعَزاهُ أَبُو دلامة، وأجاد [فَقَالَ] : (عَيْنَايَ وَاحِدَة ترى مسرورة ... بأميرها جذلا وَأُخْرَى تذرف) (تبْكي وتضحك تَارَة ويسوءها ... مَا أنْكرت ويسرها مَا تعرف) (فيسوءها موت الْخَلِيفَة محرما ... ويسرها أَن قَامَ هَذَا الأرأف) (مَا إِن رَأَيْت كَمَا رَأَيْت وَلَا أرى ... شعرًا أسرحه وَآخر ينتف) (هلك الْخَلِيفَة يَا لدين مُحَمَّد ... وأتاكم من بعده من يخلف) (أهْدى لهَذَا الله فضل خلَافَة ... ولذاك جنَّات النَّعيم تزخرف)

وَكَانَ من خطْبَة الْمهْدي لما بلغه موت الْمَنْصُور قَالَ: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد دعِي فَأجَاب، وَأمر فأطاع وأعز. ثمَّ ذرفت عَيناهُ؛ فَقَالَ: قد بَكَى رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- عِنْد فِرَاق الْأَحِبَّة، وَلَقَد فَارَقت عَظِيما، وقلدت جسيما؛ فَعِنْدَ الله أحتسب أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَبِه أستعين على خلَافَة الْمُسلمين. قيل: دخل رجل على الْمهْدي فَقبل يَده وَقَالَ: يدك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ [أَحَق بالتقبيل] لعلوها بالمكارم وطهارتها من المآثم، وَإنَّك ليوسفي الْعَفو، إسماعيلي الصدْق، شعيبي الرِّفْق، فَمن أرادك بِسوء جعله الله طريد خوفك حصيد سَيْفك. ثمَّ أثنى عَلَيْهِ بالشجاعة؛ فَقَالَ الْمهْدي: وَمَا لي لَا أكون شجاعا وَمَا خفت أحدا إِلَّا الله [تَعَالَى] . وَقَالَ دَاوُد بن رشيد: سَمِعت سَالم الْحَاجِب يَقُول: هَاجَتْ ريح سَوْدَاء؛ فخفنا أَن تكون السَّاعَة؛ فطلبت الْمهْدي [فِي الإيوان] فَلم أَجِدهُ، ثمَّ سَمِعت حَرَكَة [فِي] الْبَيْت، فَإِذا هُوَ ساجد على التُّرَاب يَقُول: (اللَّهُمَّ لَا تشمت بِنَا الْأَعْدَاء من الْأُمَم، وَلَا تفجع بِنَا نَبينَا) ، اللَّهُمَّ وَإِن [كنت] أخذت الْعَامَّة بذنبي فَهَذِهِ ناصيتي بِيَدِك؛ فَمَا أتم كَلَامه حَتَّى انجلت.

وَقَالَ الْمَدَائِنِي: دخل رجل على الْمهْدي فَقَالَ: إِن الْمَنْصُور شَتَمَنِي وَقذف أُمِّي؛ فإمَّا أَمرتنِي أَن أحلله وَإِمَّا عوضتني؛ فاستغفرت لَهُ. قَالَ: وَلم شتمك؟ ! قَالَ: شتمت عدوه بِحَضْرَتِهِ؛ فَغَضب لَهُ. قَالَ: وَمن عدوه؟ قَالَ: إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن حسن. قَالَ: إِن إِبْرَاهِيم أمس بِهِ رحما وَأوجب عَلَيْهِ حَقًا؛ فَإِن كَانَ شتمك كَمَا زعمت فَعَن رَحمَه ذب وَعَن عرضه دفع، وَمَا أَسَاءَ من انتصر لإبن عَمه. قَالَ: إِنَّه كَانَ عدوا لَهُ. قَالَ: لم ينتصر للعداوة بل للرحم؛ فأسكت الرجل. فَلَمَّا [ذهب] ليولي قَالَ [لَهُ] الْمهْدي: لَعَلَّك أردْت أمرا؛ فَجعلت هَذَا ذَرِيعَة. قَالَ: نعم؛ فَتَبَسَّمَ الْمهْدي وَأمر لَهُ بِخَمْسَة آلَاف دِرْهَم. وَقَالَ الزبير: أَخْبرنِي يُونُس الْخياط قَالَ: دخل ابْن الْخياط الْمَكِّيّ الشَّاعِر على الْمهْدي - وَقد مدحه بقصيدة - فَأمر بِهِ بِخَمْسِينَ [ألف دِرْهَم] ؛ [فَلَمَّا قبضهَا] فرقها على النَّاس وَقَالَ: (لمست بكفي كَفه أَبْتَغِي الْغنى ... وَلم أدر أَن الْجُود من كَفه يعدي) (فَلَا أَنا مِنْهُ مَا أَفَادَ ذَوُو الْغنى ... أفدت وأعداني فبددت مَا عِنْدِي) فنمى الْخَبَر إِلَى الْمهْدي؛ فَأعْطَاهُ بِكُل دِرْهَم دِينَارا.

وَقيل: إِن مَرْوَان بن أبي حَفْصَة الشَّاعِر لما أنْشدهُ قصيدته السائرة الَّتِي أَولهَا: (صَحا بعد جهل واستراحت عواذله ... ) . قَالَ الْمهْدي: وَيلك كم هِيَ بَيْتا؟ قَالَ: سَبْعُونَ بَيْتا. قَالَ: لَك بهَا سَبْعُونَ ألفا. وَمِنْهَا من جملَة أبياتها: (كفاكم بعباس أبي الْفضل والدا ... فَمَا من أَب إِلَّا أَبُو الْفضل فاضله) (كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ مُحَمَّدًا ... أَبُو جَعْفَر فِي كل أَمر يحاوله) (إِلَيْك قَصرنَا النّصْف من صلواتنا ... مسيرَة شهر بعد شهر نواصله) (فَلَا نَحن نخشى أَن يخيب مسيرنا ... إِلَيْك وَلَكِن أهنأ الْبر عاجله) فَتَبَسَّمَ الْمهْدي وَقَالَ: عجلوها لَهُ. قلت: وَفِي أَيَّام الْمهْدي ظهر رجل يُقَال لَهُ الْمقنع، وَادّعى النُّبُوَّة. وَكَانَ يطلع للنَّاس قمرا يرونه من مسيرَة شَهْرَيْن، وَكَانَ يري النَّاس أَعَاجِيب كَثِيرَة من أَنْوَاع السحر، وَعمل على وَجهه وَجها من ذهب. وَاتبعهُ جمَاعَة من الْجُهَّال حَتَّى أرسل إِلَيْهِ جَيْشًا؛ فحاربوه وقتلوه. وَقيل: إِنَّه لما علم بِأَخْذِهِ قتل نَفسه. وَقَالَ الفلاس: ملك الْمهْدي إِحْدَى عشرَة سنة وشهرا وَنصف [شهر] ، وَمَات لثمان بَقينَ من الْمحرم سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة، وعاش ثَلَاثًا وَأَرْبَعين سنة، وَعقد بِالْأَمر من بعده لإبنه مُوسَى الْهَادِي والرشيد.

موسى الهادي

(مُوسَى الْهَادِي) ابْن الْمهْدي مُحَمَّد بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس، الْهَاشِمِي، الْقرشِي، العباسي. الرَّابِع من خلفاء بني الْعَبَّاس، أَبُو مُحَمَّد، أَمِير الْمُؤمنِينَ. بُويِعَ بالخلافة بعد موت أَبِيه، وَكَانَ بجرجان؛ فَأخذ لَهُ الْبيعَة أَخُوهُ ((الرشيد هَارُون)) . ومولده بِالريِّ سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَة. أمه أم ولد تسمى الخيزران وَهِي أم الرشيد أَيْضا. وَكَانَ الْهَادِي طَويلا، جسيما، أَبيض، بشفته تقلص. وَكَانَ أَبوهُ قد وكل خَادِمًا فِي الصِّبَا كلما رَآهُ مَفْتُوح الْفَم يَقُول لَهُ: مُوسَى أطبق؛ فيفيق على نَفسه وَيضم شفته. وَكَانَ فصيحا، أديبا، قَادِرًا على الْكَلَام، تعلوه هَيْبَة، وَله سطوة وشهامة. على أَنه كَانَ يتَنَاوَل الْمُسكر وَيُحب اللَّهْو والطرب.

وَكَانَ يركب حمارا فارها، وَلَا يُقيم أبهة الْخلَافَة. وَكَانَ يُجِيز على الشّعْر الجوائز السّنيَّة. قَالَ نفطويه: قيل: إِن مُوسَى الْهَادِي قَالَ لإِبْرَاهِيم الْموصِلِي: إِن أطربتني فاحتكم [مَا شِئْت] ، فغناه: أزمعت بَيْتا فَأَيْنَ لقاؤنا. الأبيات؛ فَأعْطَاهُ سَبْعمِائة ألف دِرْهَم. وَحكى مُصعب الزبيرِي عَن أَبِيه قَالَ: دخل مَرْوَان بن أبي حَفْصَة شَاعِر وقته على الْهَادِي فأنشده قصيدة مِنْهَا. (تشابه يَوْمًا بأسه ونواله ... فَمَا أحد يدْرِي لأيهما الْفضل) فَقَالَ لَهُ الْهَادِي: أَيّمَا أحب إِلَيْك؟ ثَلَاثُونَ ألفا مُعجلَة أَو مائَة ألف [دِرْهَم] تَدور فِي الدَّوَاوِين؟ فَقَالَ: تعجل الثَّلَاثُونَ وتدور الْمِائَة. قَالَ: بل تعجلان ذَلِك جَمِيعًا. وَحكى ابْن الأقيشر الشَّاعِر [أَنه] دخل عَلَيْهِ فَقَالَ [لَهُ] : أَنْشدني فِي الْخمر؛ فَقَالَ: (كميت إِذا فضت وَفِي الكاس وردة ... لَهَا فِي عِظَام الشاربين دَبِيب)

فَقَالَ الْهَادِي: وَالله لأحدنك حد الْخمر؛ فَقَالَ: وَلم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ {قَالَ: لِأَنَّك وصفتها وصف عَالم بهَا؛ فَقَالَ: أمني حَتَّى أَلحن بحجتي؛ فَقَالَ: تكلم وَأَنت آمن؛ فَقَالَ: أَجدت وصفهَا أم لم أجد؟} قَالَ: بل أَجدت. قَالَ: وَمَا يدْريك أَنِّي أَجدت؟ {إِن كنت مدحتها بطبعي دون معرفتي فقد شاركتني فِيهَا بطبعك دون معرفتك، وَإِن كنت مدحتها بالمعرفة فقد شاركتني بالمعرفة. فَضَحِك الْهَادِي وَقَالَ: نجوت مني بحيلتك، قَاتلك الله. قلت: وَلم تطل مدَّته فِي الْخلَافَة، وَمَات بقرحة أَصَابَته فِي جَوْفه. وَقيل: سمته أمه [الخيزران] لما أجمع [الْهَادِي] على قتل أَخِيه الرشيد. وَقيل: إِنَّهَا سمته بِسَبَب آخر؛ وَهُوَ أَنَّهَا كَانَت حاكمة مستبدة بالأمور الْكِبَار، وَكَانَت المواكب تَغْدُو إِلَى بَابهَا؛ فزجرهم الْهَادِي عَن ذَلِك، وكلمها بِكَلَام فج وَقَالَ: إِن وقف ببابك أَمِير لَأَضرِبَن عُنُقه، أما لَك مغزل يشغلك أَو مصحف يذكرك أَو سبْحَة؟} فَقَامَتْ من عِنْده وَهِي لَا تعقل من الْغَضَب؛ فَقيل: إِنَّه بعث إِلَيْهَا [بعد ذَلِك] بِطَعَام مَسْمُوم، فأطعمت مِنْهُ كَلْبا فانتثر لَحْمه؛ فَعمِلت على قَتله لما وعك بِأَن غموا وَجهه ببساط جَلَسُوا على جوانبه.

وَكَانَ قَصده هَلَاك الرشيد ليولي الْعَهْد لولد لَهُ صَغِير عمره عشر سِنِين. [وَقيل: إِنَّه مَاتَ بعيساباذ فِي نصف ربيع الآخر سنة سبعين] [وَمِائَة] . وَكَانَت خِلَافَته سنة وَاحِدَة وَثَلَاثَة أشهر. وعاش سِتا وَعشْرين سنة. وَخلف سبع بَنِينَ. وَتَوَلَّى [الْخلَافَة] [من] بعده [أَخُوهُ] [الرشيد] هَارُون.

الرشيد

(الرشيد) ابْن الْمهْدي مُحَمَّد بن [أبي] جَعْفَر الْمَنْصُور عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس، الْهَاشِمِي، العباسي. الْخَامِس من خلفاء بني الْعَبَّاس، أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبُو جَعْفَر. اسْتخْلف بِعَهْد من أَبِيه الْمهْدي بعد موت أَخِيه الْهَادِي [فِي] سنة سبعين وَمِائَة. وَأمه الخيزران - أم أَخِيه الْهَادِي -. ومولده بِالريِّ لما كَانَ أَبوهُ أَمِيرا عَلَيْهَا وعَلى خُرَاسَان [فِي] سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة. وَكَانَ الرشيد مليح الشكل، طَويلا، جميلا، مسمتا، فصيحا، وَله نظر فِي الْعلم وَالْأَدب. وَقد وخطه الشيب قبل مَوته. وَكَانَ أغزاه أَبوهُ أَرض الرّوم وَهُوَ ابْن خمس عشرَة سنة. وَهُوَ أجل الْخُلَفَاء وَأعظم مُلُوك بني الْعَبَّاس. وَكَانَ كثير الْحَج والغزو.

وَفِيه يَقُول الشَّاعِر: (فَمن يطْلب لقاءك أَو يردهُ ... فبالحرمين أَو أقْصَى الثغور) وَقيل: إِنَّه كَانَ يحجّ سنة ويغزو سنة. وَقَالَ نفطويه فِي تَارِيخه: حكى بعض أَصْحَاب الرشيد أَنه كَانَ يُصَلِّي فِي الْيَوْم مائَة رَكْعَة، وَلم يَتْرُكهَا إِلَّا لعِلَّة. وَكَانَ يقتفي آثَار جده أبي جَعْفَر [إِلَّا] فِي الْحِرْص. وَكَانَ الرشيد يحب الْعلم وَأَهله، ويعظم الْإِسْلَام، وَيبغض المراء [فِي الدّين] وَالْكَلَام فِي معَارض النَّص. وَكَانَ يبكي على نَفسه وإسرافه وذنوبه، سِيمَا إِذا وعظ. وَكَانَ يحب المديح ويجيز عَلَيْهِ الْأَمْوَال الجليلة. وَكَانَ راتبه فِي الصَّدَقَة من صلب مَاله فِي الْيَوْم ألف دِرْهَم. وَقيل: إِن أَبَا مُعَاوِيَة الضَّرِير دخل على الرشيد وَعِنْده رجل من وُجُوه قُرَيْش؛ فَذكر أَبُو مُعَاوِيَة حَدِيث ((احْتج آدم ومُوسَى)) ؛ فَقَالَ الْقرشِي: فَأَيْنَ لقِيه؟ ! ؛ فَغَضب الرشيد وَقَالَ: النطع وَالسيف، زنديق؛ تطعن فِي حَدِيث النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-؛ فَمَا زَالَ أَبُو مُعَاوِيَة يسكنهُ وَيَقُول: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كَانَت مِنْهُ بادرة حَتَّى سكن.

وَعَن أبي مُعَاوِيَة قَالَ: أكلت مَعَ الرشيد يَوْمًا، ثمَّ صب على يَدي رجل لَا أعرفهُ، ثمَّ قَالَ الرشيد: تَدْرِي من يصب عَلَيْك؟ قلت: لَا قَالَ: أَنا؛ إجلالا للْعلم. وَقيل: إِن ابْن السماك الْوَاعِظ دخل على الرشيد مرّة؛ فَبَالغ الرشيد فِي اكرامه واحترامه؛ فَقَالَ لَهُ ابْن السماك: تواضعك فِي شرفك أشرف من شرفك. وَكَانَ الرشيد يَأْتِي بِنَفسِهِ إِلَى الفضيل بن عِيَاض وَيسمع وعظه؛ فَقَالَ لَهُ يَوْمًا: يَا حسن الْوَجْه؛ أَنْت الْمَسْئُول عَن هَذِه الْأمة؛ فَبكى الرشيد بكاء عَظِيما. وَقَالَ مَنْصُور بن عمار: مَا رَأَيْت أغزر دمعا عِنْد الذّكر من ثَلَاثَة: الفضيل ابْن عِيَاض، والرشيد هَارُون، وَآخر. وَقَالَ عبد الرَّزَّاق بن همام: كنت مَعَ الفضيل بِمَكَّة فَمر الرشيد، فَقَالَ الفضيل: إِن النَّاس يكْرهُونَ هَذَا، وَمَا فِي الأَرْض أعز عَليّ مِنْهُ، لَو مَاتَ لرأيت أمورا عظاما. وَقَالَ الجاحظ: اجْتمع للرشيد مَا لم يجْتَمع لغيره: وزراؤه البرامكة، وقاضيه أَبُو يُوسُف، وشاعره مَرْوَان بن أبي حَفْصَة، ونديمه الْعَبَّاس بن مُحَمَّد - عَم أَبِيه - وحاجبه الْفضل بن الرّبيع - أتيه النَّاس وأعظمهم - ومغنيه إِبْرَاهِيم الْموصِلِي، وَزَوجته زبيدة. إنتهى.

وَقَالَ غَيره: فتحت فِي أَيَّام الرشيد فتوحات كثير. وَهُوَ الَّذِي فتح (هرقلة) وأحرقها وسبى أَهلهَا. وَكَانَ الرشيد يحب اللَّهْو والطرب. وَلم يتَكَلَّم فِيهِ - فِيمَا نعلم - سوى ابْن حزم الظَّاهِرِيّ، قَالَ: أرَاهُ لَا يشرب النَّبِيذ الْمُخْتَلف فِيهِ إِلَّا الْخمر الْمُتَّفق على تَحْرِيمهَا، ثمَّ جاهر جهارا قبيحا. قلت: هَذَا شَأْن ابْن حزم لَا يذكر إِلَّا المساوئ والقبائح، وَكَذَلِكَ الْخَطِيب صَاحب تَارِيخ بَغْدَاد؛ فَهَذَا كَانَ دأبهما. وَالْعجب أَنَّهُمَا يَقُولَانِ الْأَخْبَار الضعيفة فِي هَذَا الْمَعْنى حَتَّى يَقع لَهما الْقدح والثلب فِي كَائِن من كَانَ. وَلم يسلم مِنْهُمَا عَالم وَلَا شرِيف؛ فَإِن لم يجدا للرجل عَيْبا تكلما فِيهِ بِالْمَعْنَى بِمَا يُقَارب الْقدح، وَإِن عَجزا عَن ذَلِك تكلما فِيهِ برأيهما بِإِسْنَاد ملفق لَا يعبأ الله بِهِ، كَمَا وَقع للخطيب فِي حق بعض الْأَئِمَّة الْأَعْلَام وعلماء الْإِسْلَام، أَنه تكلم فِيهِ بِكَلَام كَانَ الإضراب عَنهُ أليق - إِن لَو كَانَ صَحِيحا لاسيما مُخْتَلفا كذبا -. وَقد جوزي كل [وَاحِد] مِنْهُمَا بِمَا قيل فيهمَا. فَأَما إِبْنِ حزم فَهُوَ ظاهري الْمَذْهَب سيئ الإعتقاد. وَأما أَبُو بكر الْخَطِيب فيكفيه مَا نَقله عَنهُ

الْحَافِظ الْحجَّة أَبُو الْفرج ابْن الْجَوْزِيّ فِي المنتظم من الْقدح فِي الدّين، وَأَيْضًا مَا ذكره عَنهُ الإِمَام النَّاقِد البارع [شمس الدّين] يُوسُف بن قزاغلي فِي تَارِيخه ((مرْآة الزَّمَان)) مَا نَقله عَنهُ من العظائم فِي دينه ودنياه. نسْأَل الله السَّلامَة فِي الدّين وَحسن الخاتمة. إنتهى. وَقد خرجنَا عَن الْمَقْصُود، ولنعود إِلَى ذكر الرشيد ووفاته. وَلما كَانَت سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَة خرج الرشيد إِلَى الْغَزْو؛ فَأَدْرَكته الْمنية بطوس - من أَعمال خُرَاسَان - فِي ثَالِث جُمَادَى الْآخِرَة [من] سنة ثَلَاث وَتِسْعين الْمَذْكُورَة، وَصلى عَلَيْهِ ابْنه صَالح. وَدفن بطوس وَله خمس وَأَرْبَعين سنة. [وتخلف بعده ابْنه الْأمين مُحَمَّد ابْن زبيدة] . وَكَانَت [خلَافَة الرشيد] ثَلَاثًا وَعشْرين سنة وشهرين وَخَمْسَة عشر يَوْمًا،

الأمين محمد

(الْأمين مُحَمَّد) ابْن الرشيد هَارُون بن الْمهْدي مُحَمَّد بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس، الْهَاشِمِي، الْقرشِي، العباسي، الْبَغْدَادِيّ، أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبُو عبد الله، وَقيل: أَبُو مُوسَى. كَانَ ولي عهد أَبِيه الرشيد؛ فولي الْخلَافَة بعد مَوته. وَأمه زبيدة بنت جَعْفَر بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور، الهاشمية، العباسية. وَهُوَ ثَالِث خَليفَة تخلف وَأمه هاشمية؛ فَالْأول: عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -، وَالثَّانِي: الْحسن - رَضِي الله عَنهُ - وَالثَّالِث: مُحَمَّد هَذَا. [و] كَانَ الْأمين [من] أحسن الشَّبَاب [صُورَة] : كَانَ أبيضا، طَويلا، جميلا، ذَا قُوَّة مفرطة، وبطش وشجاعة مَعْرُوفَة، وفصاحة، وأدب، وفضيلة، وبلاغة. لكنه كَانَ سيء التَّدْبِير، كثير التبذير، ضَعِيف الرَّأْي، أرعن لَا يصلح للخلافة. وَمِمَّا يحْكى عَنهُ من شدته أَنه ضرب أسدا بِيَدِهِ فَقتله، وَهَذَا شَيْء عَجِيب {}

وَأما فَصَاحَته؛ فَإِنَّهُ كتب لطاهر بن الْحُسَيْن لما انتدب لقتاله تعصبا لِلْمَأْمُونِ رقْعَة فِيهَا: يَا طَاهِر مَا قَامَ [لنا] مُنْذُ قمنا قَائِم بحقنا؛ فَكَانَ جَزَاؤُهُ عندنَا إِلَّا السَّيْف؛ فَانْظُر لنَفسك أَو دع. قَالَ: فَلم يزل طَاهِر [بعد ذَلِك] يتَبَيَّن موقع الرقعة. وَكَانَت هَذِه الرقعة فِيهَا غَايَة التخذيل؛ فَإِنَّهُ لوح فِيهَا بِأبي مُسلم الْخُرَاسَانِي وَأَمْثَاله الَّذين بذلوا نُفُوسهم فِي النصح؛ فَكَانَ مآلهم إِلَى الْقَتْل. وَسبب نكبة الْأمين [هَذَا] وخلعه وَقَتله: أَنه لما ولي الْخلَافَة فرق الْأَمْوَال، وانعكف على شرب الْخمر، ومنادمة الْفُسَّاق، وَأرْسل إِلَى الْبِلَاد فَجمع المغاني والطنازين وأجرى عَلَيْهِم الرَّوَاتِب؛ واحتجب عَن الْأُمَرَاء والأعيان. ثمَّ قسم الْأَمْوَال والجواهر فِي الخصيان وَالنِّسَاء، وَاشْترى عريب الْمُغنيَة بِمِائَة ألف دِينَار. وَطلب من عَمه إِبْرَاهِيم [بن] الْمهْدي - الْمَعْرُوف بإبن شكْلَة - جَارِيَته؛ فَأبى إِبْرَاهِيم أَن يَدْفَعهَا لَهُ؛ فَركب الْأمين إِلَى منزل عَمه [الْمَذْكُور] ؛ فَأَخذهَا مِنْهُ.

وَلما أصبح عَمه إِبْرَاهِيم جَاءَ إِلَيْهِ فِي زورق؛ فَقَالَ الْأمين: أوسقوا زورق عمي لَهُ دَرَاهِم، فأوسقوه لَهُ؛ فَوسعَ عشْرين ألف ألف دِرْهَم؛ فَقَالَ لَهُ عَمه: وصلني مِنْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ عشرُون ألف ألف دِرْهَم؛ فَقَالَ: يَا عَم، وَهل هَذِه إِلَّا خراج بعض الْكُوفَة؟ {فَلَمَّا خرج إِبْرَاهِيم قَالَ: أوسقوا زورق عمي لَهُ دَنَانِير، فأوسقوه؛ فَوسعَ ألف ألف دِينَار} قلت: أما الثَّانِيَة فعندي فِيهَا شكّ. إنتهى. وَاسْتمرّ الْأمين على ذَلِك إِلَى أَن بدا لَهُ أَن يخلع أَخِيه الْمَأْمُون من ولَايَة الْعَهْد ويولي ابْنه الصَّغِير عوضه؛ فَامْتنعَ الْمَأْمُون من ذَلِك - وَكَانَ بِالريِّ - وَأخذ فِي تسويفه من وَقت إِلَى وَقت. فَلَمَّا عزل الْأمين أَخَاهُ الْقَاسِم - الملقب بالمؤتمن - عَمَّا كَانَ الرشيد ولاه [من أَمر الشَّام] وقنسرين والثغور وَولي مَكَانَهُ خُزَيْمَة بن خازم ثمَّ دَعَا الْأمين لإبنه مُوسَى على المنابر ولقبه بالناطق بِالْحَقِّ؛ تنكر الْمَأْمُون عِنْد ذَلِك، وَوَقعت أُمُور يطول شرحها. وَلَا زَالَ أَمر الْمَأْمُون يقوى، وَأمر الْأمين يضعف، إِلَى أَن حوصر الْأمين بِبَغْدَاد من قبل طَاهِر بن الْحُسَيْن. وأعجب من هَذَا كُله أَن الْأمين فِي مبدأ أمره كَانَ أرسل لمحاربة أَخِيه الْمَأْمُون عسكرا صُحْبَة عَليّ بن عِيسَى، وَأخذ مَعَه قيد فضَّة؛ ليقيد بِهِ الْمَأْمُون بِزَعْمِهِ. فَلَمَّا توجه لقِيه طَاهِر بن الْحُسَيْن وهزمه، وَقتل عَليّ بن عِيسَى [الْمَذْكُور] فِي المعركة.

فَلَمَّا جَاءَ خَبره إِلَى الْأمين - وَكَانَ الْأمين يتصيد - فَقَالَ للَّذي أخبرهُ بِكَسْر عساكره وَقتل عَليّ بن عِيسَى: وَيلك، دَعْنِي من ذَلِك؛ فَإِن خادمي كوثر قد صَاد سمكتين، وَأَنا مَا صدت شَيْئا بعد. وَمثل هَذَا أَيْضا لما حوصر. قَالَ مُحَمَّد بن رَاشد: أَخْبرنِي إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي أَنه كَانَ مَعَ الْأمين بِمَدِينَة الْمَنْصُور فِي قصر بَاب الذَّهَب، فَخرج الْأمين لَيْلَة من الْقصر من ضيق الْحصار والضنك، فَصَارَ إِلَى الْقصر الْقَرار؛ فطلبني؛ فَأتيت؛ فَقَالَ: مَا ترى طيب هَذِه اللَّيْلَة؛ وَحسن الْقَمَر وضوءه فِي المَاء؛ فَهَل لَك فِي الشَّرَاب؟ ! قلت: شَأْنك؛ فَدَعَا برطل من النَّبِيذ فشربه، ثمَّ سقيت مثله؛ فابتدأت أغنيه من غير أَن يسألني - لعلمي بِسوء خلقه - فغنيت؛ فَقَالَ: مَا تَقول فِيمَن يطرب عَلَيْك؟ فَقلت: مَا أحوجني إِلَى ذَلِك؛ فَدَعَا بِجَارِيَة إسمها ضعفاء، فتطيرت من إسمها، ثمَّ غنت بِشعر النَّابِغَة الْجَعْدِي: (كُلَيْب لعمرى كَأَن أَكثر ناصرا ... وأيسر ذَنبا مِنْك ضرج بِالدَّمِ) فتطير [من ذَلِك] ، وَقَالَ: غَنِي غير هَذَا؛ فغنت: (أبْكِي فراقهم عَيْني فأرقها ... إِن التَّفَرُّق للأحباب بكاء) (مَا زَالَ يَغْدُو عَلَيْهِم ريب دهرهم ... حَتَّى تفانوا وريب الدَّهْر عداء) (فاليوم أبكيهم جهدي وأندبهم ... حَتَّى أؤوب وَمَا فِي مقلتي مَاء)

فَقَالَ لَهَا: لعنك الله، أما تعرفين غير هَذَا؟ {فَقَالَت: ظَنَنْت أَنَّك تحب هَذَا. ثمَّ غنت: (أما وَرب السّكُون والحرك ... إِن المنايا كَثِيرَة الشّرك) (مَا اخْتلف اللَّيْل وَالنَّهَار وَلَا ... دارت نُجُوم السَّمَاء فِي الْفلك) (إِلَّا لنقل السُّلْطَان عَن ملك ... قد زَالَ سُلْطَانه إِلَى ملك) (وَملك ذِي الْعَرْش دَائِم أبدا ... لَيْسَ بفان وَلَا بمشترك) فَقَالَ لَهَا: قومِي، لعنك الله؛ فَقَامَتْ، فتعست فِي قدح بلور لَهُ قيمَة فَكَسرته. فَقَالَ: وَيحك يَا إِبْرَاهِيم} أما ترى؟ وَالله مَا أَظن [أَمْرِي إِلَّا] قد قرب. فَقلت: يُطِيل الله عمرك ويعز ملكك؛ فَسمِعت صَوتا من دجلة: قضى الْأَمر الَّذِي فِيهِ تستفتيان؛ فَوَثَبَ الْأمين مغتما، وَرجع إِلَى مَوْضِعه بِالْمَدِينَةِ؛ فَقتل بعد لَيْلَة أَو لَيْلَتَيْنِ. قلت: كَانَ قَتله بعد أَن خلعه طَاهِر بن الْحُسَيْن بأيام. ثمَّ قَتله طَاهِر [الْمَذْكُور] صبرا فِي الْمحرم سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة بِظَاهِر بَغْدَاد، وطيف بِرَأْسِهِ. وَكَانَت خِلَافَته أَربع سِنِين وأياما. وبويع بالخلافة بعده أَخُوهُ [الْمَأْمُون]- رَحمَه الله تَعَالَى -.

المأمون

(الْمَأْمُون) ابْن عبد الله بن الرشيد هَارُون بن الْمهْدي مُحَمَّد بن [أبي] جَعْفَر الْمَنْصُور بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس بن عبد الْمطلب، أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبُو الْعَبَّاس، الْهَاشِمِي، العباسي. ولد سنة سبعين وَمِائَة، عِنْدَمَا اسْتخْلف أَبوهُ. وَأمه ولد تسمى: مراجل. مَاتَت أَيَّام نفَاسهَا بِهِ. وَسمع الحَدِيث فِي صغره، وبرع فِي الْفِقْه، والعربية، وَأَيَّام النَّاس، وَالْأَدب. وَلما كبر عني بالفلسفة وعلوم الْأَوَائِل حَتَّى مهر فيهمَا؛ فجره ذَلِك إِلَى القَوْل بِخلق [الْقُرْآن] وامتحان الْعلمَاء؛ وَلَوْلَا ذَلِك لَكَانَ أعظم بني العباسي؛ لما اشْتَمَل عَلَيْهِ من الحزم، والعزم، وَالْعقل، والحلم، وَالْعلم، والشجاعة، والسؤدد، والسماحة. قَالَ ابْن أبي الدُّنْيَا: كَانَ أَبيض، ربعَة، حسن الْوَجْه، يعلوه صفرَة، قد وخطه الشيب، أعين، طَوِيل اللِّحْيَة رقيقها، ضيق الجبين، على خَدّه خَال.

وَقَالَ الجاحظ: كَانَ أَبيض، فِيهِ صفرَة، وَكَانَ ساقاه دون [سَائِر] جسده صفراوين كَأَنَّهُمَا طليتا بالزعفران. وَقَالَ أَبُو معشر المنجم: كَانَ أمارا بِالْعَدْلِ، مَحْمُود السِّيرَة، فَقِيه النَّفس، يعد من كبار الْعلمَاء. وَعَن الرشيد قَالَ: إِنِّي لأعرف فِي عبد الله حزم الْمَنْصُور، ونسك الْمهْدي، وَعزة الْهَادِي، وَلَو أَشَاء أَن أنسبه إِلَى الرَّابِع - يَعْنِي نَفسه - نسبته، وَقد قدمت مُحَمَّدًا عَلَيْهِ، وَإِنِّي لأعْلم أَنه منقاد إِلَى هَوَاهُ، مبذر لما حوته يَدَاهُ، يُشَارك فِي رَأْيه الْإِمَاء وَالنِّسَاء، وَلَوْلَا أم جَعْفَر - يَعْنِي زبيدة - وميل بني هَاشم إِلَيْهِ؛ لقدمت [عبد الله] عَلَيْهِ - يَعْنِي فِي ولَايَة الْعَهْد بالخلافة - إنتهى. وَمن حلم الْمَأْمُون: يحْكى أَن ملاحا مر على الْمَأْمُون فَقَالَ: أتظنون أَن هَذَا ينبل فِي عَيْني وَقد قتل أَخَاهُ الْأمين: فَسَمعَهَا الْمَأْمُون؛ فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: مَا الْحِيلَة حَتَّى أنبل فِي عين هَذَا السَّيِّد الْجَلِيل. ويحكى عَن الْمَأْمُون قَالَ: لَو عرف النَّاس حبي للعفو؛ لتقربوا إِلَيّ بالجرائم، وأخاف [أَن] أوجر عَلَيْهِ - يَعْنِي لكَونه طبعا لَهُ -. وَعَن يحيى بن أَكْثَم قَالَ: كَانَ الْمَأْمُون يجلس للمناظرة فِي الْفِقْه يَوْم الثُّلَاثَاء؛ فجَاء رجل عَلَيْهِ ثِيَاب قد شمرها وَنَعله فِي يَده؛ فَوقف على طرف الْبسَاط وَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم؛ فَرد عَلَيْهِ الْمَأْمُون؛ فَقَالَ: أتأذن لي فِي الدنو؟ قَالَ: أدن وَتكلم. قَالَ: أَخْبرنِي عَن هَذَا الْمجْلس الَّذِي أَنْت فِيهِ، جلسته

باجتماع الْأمة، أم بالمغالبة والقهر؟ ! قَالَ: لَا بِهَذَا وَلَا بِهَذَا، بل كَانَ يتَوَلَّى أَمر الْمُسلمين من عقد لي ولأخي، فَلَمَّا صَار الْأَمر إِلَيّ علمت أَنِّي مُحْتَاج إِلَى اجْتِمَاع كلمة الْمُسلمين فِي الشرق والغرب على الرضاء بِي؛ فَرَأَيْت أَنِّي مَتى خليت الْأَمر اضْطربَ حَبل السَّلَام، وَخرج عَهدهم وَتَنَازَعُوا، وَبَطل الْجِهَاد وَالْحج، وانقطعت السبل؛ فَقُمْت حياطة للْمُسلمين، إِلَى أَن يجمعوا على رجل يرضون بِهِ؛ فَأسلم لَهُ الْأَمر؛ فَمَتَى اتَّفقُوا على رجل خرجت لَهُ من الْأَمر. فَقَالَ الرجل: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله [وَبَرَكَاته] . وَذهب. فَوجه الْمَأْمُون من يكْشف خَبره؛ فَرجع وَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، مضى إِلَى مَسْجِد فِيهِ خَمْسَة عشر رجلا فِي مثل هَيئته؛ فَقَالُوا لَهُ: ألقيت الرجل؟ قَالَ: نعم، وَأخْبرهمْ بِمَا جرى. قَالُوا: مَا نرى بِمَا قَالَ بَأْسا، وافترقوا؛ فَقَالَ الْمَأْمُون: كفينا مُؤنَة هَؤُلَاءِ بأيسر الْخطب. وَعَن إِسْحَاق الْموصِلِي قَالَ: كَانَ الْمَأْمُون قد سخط على الْحُسَيْن الخليع الشَّاعِر؛ لكَونه هجاه عِنْدَمَا قتل الْأمين: فَبينا أَنا ذَات يَوْم عِنْد الْمَأْمُون إِذْ دخل الْحَاجِب برقعة؛ فَاسْتَأْذن فِي إنشادها؛ فَأذن لَهُ: فَقَالَ [أبياتا مِنْهَا] : (رأى الله عبد الله خير عباده ... فملكه وَالله أعلم بِالْعَبدِ) (أَلا إِنَّمَا الْمَأْمُون للنَّاس عصمَة ... مُمَيزَة بَين الضَّلَالَة والرشد)

فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: أَحْسَنت؛ فَقَالَ: أحسن قَائِلهَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: وَمن هُوَ؟ قَالَ عبيدك الْحُسَيْن بن الضَّحَّاك؛ فَقَالَ: لَا حَيَّاهُ الله { أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِل: (فَلَا تمت الْأَشْيَاء بعد مُحَمَّد (وَلَا زَالَ شَمل الْملك فِيهَا مبددا) (وَلَا فَرح الْمَأْمُون بِالْملكِ بعده ... وَلَا زَالَ فِي الدُّنْيَا طريدا مشردا) هَذِه بِتِلْكَ، وَلَا شَيْء لَهُ عندنَا. قَالَ الْحَاجِب: فَأَيْنَ عَادَة [عَفْو] أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ . قَالَ: أما هَذِه فَنعم، إئذنوا لَهُ؛ فَدخل فَقَالَ لَهُ: هَل عرفت يَوْم قتل أخي [أَن] هاشمية هتكت؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَمَا معنى قَوْلك: (وَمِمَّا شجى قلبِي وكفكف عبرتي ... محارم من آل الرَّسُول استحلت) (ومتوكة بالخلد عَنْهَا سجوفها ... كعاب كقرن الشَّمْس حِين تبدت) (فَلَا بَات ليل الشامتين بغبطة ... وَلَا بلغت آمالهم مَا تمنت) فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ} لوعة غلبتني وروعة فاجأتني ونعمة استلبتها بعد أَن غمرتني؛ فَإِن عَاقَبت فحقك، وَإِن عَفَوْت فبفضلك؛ فَدَمَعَتْ عينا الْمَأْمُون، وَأمر لَهُ بجائزة.

وَمِمَّا ينْسب لِلْمَأْمُونِ من الشّعْر قَوْله: (لساني كتوم لأسراركم ... ودمعي نموم لسرى مذيع) (فلولا دموعي كتمت الْهوى ... وَلَوْلَا الْهوى لم يكن لي دموع) [وَكَانَت وَفَاة الْمَأْمُون فِي يَوْم ثَانِي عشر شهر رَجَب سنة ثَمَانِيَة عشر وَمِائَتَيْنِ. وَكَانَ خِلَافَته إِحْدَى وَعشْرين سنة إِلَّا سِتَّة أشهر] . وتخلف بعده أَخُوهُ [المعتصم مُحَمَّد] .

المعتصم محمد

المعتصم مُحَمَّد ابْن الرشيد هَارُون بن الْمهْدي مُحَمَّد بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن [عبد الله] بن عَبَّاس. أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبُو إِسْحَاق، الْهَاشِمِي، العباسي. بُويِعَ بالخلافة بعد موت الْمَأْمُون بِعَهْد مِنْهُ إِلَيْهِ فِي رَابِع عشر شهر رَجَب سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَتَيْنِ. وَأمه أم ولد اسْمهَا: ماردة. وَكَانَ أَبيض، أصهب الْحَيَّة طويلها، ربع الْقَامَة، مشرب اللَّوْن، ذَا شجاعة وَقُوَّة وهمة عالية؛ إِلَّا أَن كَانَ عَارِيا من الْعلم، أُمِّيا. روى الصولي عَن مُحَمَّد بن سعيد عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْهَاشِمِي قَالَ: كَانَ مَعَ المعتصم غُلَام فِي الْكتاب يتَعَلَّم مَعَه فَمَاتَ الْغُلَام؛ فَقَالَ لَهُ الرشيد - أَبوهُ -: مَاتَ غلامك يَا مُحَمَّد، قَالَ: نعم يَا سَيِّدي، واستراح من الْكتاب. فَقَالَ: وَإِن الْكتاب ليبلغ مِنْك هَذَا؟ ! دَعوه لَا تعلموه. فَكَانَ يكْتب وَيقْرَأ قِرَاءَة ضَعِيفَة.

وَمَعَ هَذَا حكى أَبُو الْفضل الرياشي قَالَ: كتب ملك الرّوم -[لَعنه الله]- إِلَى المعتصم يتهدده؛ فَأمر بجوابه؛ فَلَمَّا قرئَ عَلَيْهِ الْكتاب لم يرضه - المعتصم - وَقَالَ: أكتب: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. أما بعد؛ فقد قَرَأت كتابك وَسمعت خطابك، وَالْجَوَاب مَا ترى لَا مَا تسمع {وَسَيعْلَمُ الْكفَّار لمن عُقبى الدَّار} . وَكَانَ المعتصم من أهيب الْخُلَفَاء وأعظمهم، لَوْلَا مَا شان سؤدده بامتحان الْعلمَاء بِخلق الْقُرْآن. قلت: أَرَادَ بذلك إِظْهَار مَذْهَب أَخِيه الْمَأْمُون والإقتفاء بطريقة لَا غير. وَقَالَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم [الْموصِلِي] : دخلت على المعتصم وَعِنْده قينة تغنى؛ فَقَالَ: كَيفَ ترَاهَا؟ قلت: تبدأ الْغناء بِرِفْق وتصرفه بِرِفْق، وَتخرج من شَيْء إِلَى أحسن مِنْهُ، وَفِي صَوتهَا شجا، وشذور، أحسن من [نظم] در) على النحور. فَقَالَ: صِفَتك لَهَا أحسن مِنْهَا وَمن غنائها، خُذْهَا لَك؛ فامتنعت [من ذَلِك] ؛ لعلمي بمحبته لَهَا؛ فوصلني بِمِقْدَار قيمتهَا. ويحكى أَن المعتصم لما تجهز لغزو عمورية حكم المنجمون أَن ذَلِك الْوَقْت طالع نحس، وَأَنه يكسر؛ فَكَانَ من ظفره وَنَصره مَا هُوَ أشهر من أَن يُقَال.

وَفِي هَذَا الْمَعْنى يَقُول أَبُو تَمام الطَّائِي قصيدته البديعة: (السَّيْف أصدق إنباء من الْكتب ... فِي حَده الْحَد بَين الْجد واللعب) (وَالْعلم فِي شهب الأرماح لامعة ... بَين الْخمسين لَا فِي السَّبْعَة الشهب) (أَيْن الرِّوَايَة أم أَيْن النُّجُوم وَمَا ... صاغوه من زخرف فِيهَا وَمن كذب) وَكَانَ المعتصم يلقب بالثماني؛ فَإِنَّهُ ثامن خلفاء بني الْعَبَّاس، وَملك ثَمَانِي سِنِين وَثَمَانِية أشهر - وَزَاد بَعضهم: وَثَمَانِية أَيَّام -، وافتتح ثَمَانِيَة حصون. وَقيل: إِنَّه ولد فِي شعْبَان، وَهُوَ الثَّامِن من شهور السّنة، وَكَانَ نقش خَاتمه: الْحَمد لله، وَهِي ثَمَان حُرُوف، وبويع بالخلافة سنة ثَمَانِيَة عشر، ومولده سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة، وقهر ثَمَانِيَة أَعدَاء، ووقف بِبَابِهِ ثَمَانِيَة مُلُوك، وَخلف من الذَّهَب ثَمَانِيَة آلَاف ألف دِينَار، وَمن الدَّرَاهِم مثلهَا، وَخلف من الْجمال وَالْبِغَال ثَمَانِيَة آلَاف [رَأس] ، وَمن الْخَيل [أَيْضا] ثَمَانِيَة آلَاف رَأس، وَمن المماليك ثَمَانِيَة آلَاف مَمْلُوك، [وَمن الْجَوَارِي كَذَلِك] ، وَبنى ثَمَانِيَة قُصُور. وَكَانَ ذَا قُوَّة مفرطة، وَكَانَ إِذا غضب لَا يُبَالِي بِمن كثر أَو أقل. وَركب يَوْمًا؛ فَانْفَرد عَن جَيْشه - وَكَانَ يَوْم مطر شَدِيد -؛ فَرَأى شَيخا وَمَعَهُ حمَار وَعَلِيهِ حمل شوك، وَقد توحل الْحمار وَوَقع الْحمل؛ فَنزل المعتصم وخلص الْحمار من الوحل، وَوضع الْحمل على ظَهره، ثمَّ أدْركهُ الْجَيْش؛ فَأمر للرجل بِخَمْسَة آلَاف دِرْهَم.

وَفِي أَيَّامه أمْطرت أهل تيماء بردا، كل بردة وزن رَطْل؛ فقتلت خلقا كثيرا؛ وَسمع قَائِل يَقُول: ارْحَمْ عِبَادك، ارْحَمْ عِبَادك، وَرَأَوا أثر قدم طوله ذِرَاع وَنصف فِي عرض شبرين - غير الْأَصَابِع - وَبَين كل خطْوَة وخطوة سَبْعَة أَذْرع؛ [فتتبعوه] ؛ فَجعلُوا يسمعونه وَلَا يرَوْنَ شخصه. وَكَانَت وَفَاة المعتصم فِي يَوْم الْخَمِيس تَاسِع عشر شهر ربيع الأول سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. وَكَانَت خِلَافَته ثَمَان سِنِين وَثَمَانِية أشهر وَثَمَانِية أَيَّام - كَمَا تقدم ذكره -. وَمَات وعمره سبع وَأَرْبَعُونَ سنة وَسَبْعَة أشهر. وتخلف بعده [إبنه] [هَارُون الواثق] .

هارون الواثق

(هَارُون الواثق) بن المعتصم مُحَمَّد بن الرشيد هَارُون بن الْمهْدي مُحَمَّد بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور عبد الله بن مُحَمَّد ابْن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس، الْهَاشِمِي، العباسي، الْبَغْدَادِيّ، أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبُو جَعْفَر. بُويِعَ بالخلافة لما مَاتَ أَبوهُ المعتصم بِعَهْد مِنْهُ إِلَيْهِ. وَأمه أم ولد، رُومِية تسمى: قَرَاطِيس. ومولده لعشر بَقينَ من شعْبَان سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة. قَالَ [أَبُو بكر] الْخَطِيب: كَانَ أَحْمد بن أبي دَاوُد قد استولى على الواثق وَحمله على [تَشْدِيد المحنة] ، ودعا النَّاس إِلَى القَوْل بِخلق الْقُرْآن. قلت: وَالْمَشْهُور أَن الواثق رَجَعَ عَن ذَلِك قبل مَوته وَتَابَ مِنْهُ وَأظْهر السّنة. وَمن جملَة أَسبَاب رُجُوعه: مَا نَقله عبيد الله بن يحيى قَالَ: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن أَسْبَاط بن السكن قَالَ: حمل رجل - يَعْنِي عَن الإِمَام أَحْمد بن مُحَمَّد بن حَنْبَل - فِيمَن حمل مكبل بالحديد من بِلَاده؛ فَأدْخل؛ فَقَالَ ابْن أبي دَاوُد: تَقول

أَو أَقُول؟ قَالَ: هَذَا أول جوركم، أخرجتم النَّاس من بِلَادهمْ ودعوتموهم إِلَى شَيْء مَا قَالَه أحد {. لَا، بل أَقُول: قَالَ: قل - والواثق جَالس - فَقَالَ: أَخْبرنِي عَن هَذَا الرَّأْي الَّذِي دعوتم النَّاس إِلَيْهِ، أعلمهُ رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- فَلم يدع النَّاس إِلَيْهِ، أم شَيْء لم يُعلمهُ؟} قَالَ: علمه، قَالَ: فَكَانَ يَسعهُ [أَن] لَا يَدْعُو النَّاس إِلَيْهِ، وَأَنْتُم لَا يَسَعكُمْ. قَالَ: فَبُهِتُوا. قَالَ: فَضَحِك الواثق، وَقَامَ قَابِضا على كمه، وَدخل بَيْتا وَمد رجلَيْهِ وَهُوَ يَقُول: شَيْء وسع النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- أَن يسكت عَنهُ وَلَا يسعنا {} ؛ فَأمر أَن يعْطى [الرجل] ثلثمِائة دِينَار، وَأَن يرد إِلَى بَلَده. إنتهى. قلت: وَأمر المحنة يطول الشَّرْح فِي ذكره، أضربنا عَنهُ فِي هَذَا الْمُخْتَصر خوف الإطالة. وَكَانَ الواثق وافر الْأَدَب فصيحا. قيل: إِن جَارِيَة من جواريه غنته بِشعر العرجي: (أظلوم إِن مصابكم رجلا ... أهْدى السَّلَام تَحِيَّة ظلم) فَمن الْحَاضِرين من صوب نصب ((رجلا)) وَمِنْهُم من قَالَ: صَوَابه: ((رجل)) . فَقَالَت [الْجَارِيَة] : هَكَذَا لَقَّنَنِي الْمَازِني؛ فَطلب الْمَازِني.

فَلَمَّا مثل بَين [يَدي الواثق] قَالَ: مِمَّن الرجل {؟ ، قَالَ: من بني مَازِن. قَالَ: أَي الموازن؟ أمازن تَمِيم، أم مَازِن قيس، أم مَازِن ربيعَة؟} قَالَ: مَازِن ربيعَة. قَالَ الْمَازِني: فكلمني حِينَئِذٍ بلغَة قومِي فَقَالَ: بِاسْمِك؟ - لأَنهم يقلبون الْمِيم بَاء وَالْبَاء ميما - فَكرِهت أَن أواجهه بمكر، فَقلت: بكر يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؛ فَفطن لَهَا وأعجبته. وَقَالَ: مَا تَقول فِي هَذَا الْبَيْت؟ ، قلت: الْوَجْه النصب؛ لِأَن مصابكم مصدر بِمَعْنى: إصابتك؛ فَأخذ اليزيدي يعارضني. قلت: هُوَ بِمَنْزِلَة: ((إِن ضربك زيدا ظلم)) ؛ فالرجل مفعول مصابكم. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الْكَلَام مُعَلّق إِلَى أَن تَقول: ظلم؛ فَيتم. فأعجب الواثق وَأَعْطَانِي ألف دِينَار. إنتهى. وَحج الواثق مرّة؛ فَفرق بالحرمين أَمْوَالًا عَظِيمَة، حَتَّى لم يبْق بالحرمين فَقير. وَقيل: لما احْتضرَ الواثق جعل يردد هذَيْن الْبَيْتَيْنِ: (الْمَوْت فِيهِ جَمِيع الْخلق مُشْتَرك ... لاسوقة مِنْهُم تبقى وَلَا ملك) (مَا ضرّ أهل قَلِيل فِي تفاقرهم ... وَلَيْسَ يُغني عَن الإملاك مَا ملكوا)

ثمَّ أَمر بالبسط فطويت، وألصق خَدّه بِالْأَرْضِ وَجعل يَقُول: يَا من لَا يَزُول ملكه أرْحم من قد زَالَ ملكه. وَكَانَت وَفَاته بِمَدِينَة سر من رأى فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء لست بَقينَ من ذِي الْحجَّة من سنة إثنتين وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. وتخلف بعده أَخُوهُ [جَعْفَر المتَوَكل] .

جعفر المتوكل

(جَعْفَر المتَوَكل) ابْن المعتصم مُحَمَّد بن الرشيد هَارُون بن الْمهْدي مُحَمَّد بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور [بن] مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس. الْهَاشِمِي، العباسي، الْبَغْدَادِيّ، أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبُو الْفضل. بُويِعَ بالخلافة بعد موت أَخِيه الواثق فِي ذِي الْحجَّة سنة إثنتين وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. مولده فِي سنة خمس وَمِائَتَيْنِ، وَقيل: سنة سبع. وَأمه أم ولد، تركية تسمى: شُجَاع. وَكَانَ المتَوَكل أسمر، مليح الْعَينَيْنِ، نحيف الْجِسْم، خَفِيف العارضين، إِلَى الْقصر أقرب. وَلما اسْتخْلف أظهر السّنة وَتكلم بهَا فِي مَجْلِسه، وَكتب إِلَى الْآفَاق بِرَفْع المحنة وَإِظْهَار السّنة وَنصر أَهلهَا. وَقَالَ عَليّ بن الجهم: كَانَت للمتوكل جمة إِلَى شحمة أُذُنَيْهِ كأبيه وَعَمه.

وَكَانَ المتَوَكل فِيهِ كل الْخِصَال الْحَسَنَة، إِلَّا أَنه كَانَ ناصبيا يكره عليا - رَضِي الله عَنهُ - وَكَانَ لكراهيته [لعَلي]- رَضِي الله عَنهُ - سَببا ذَكرْنَاهُ فِي تاريخنا ((النُّجُوم الزاهرة فِي مُلُوك مصر والقاهرة)) . وَكَانَ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد التَّيْمِيّ قَاضِي الْبَصْرَة يَقُول: الْخُلَفَاء ثَلَاثَة: أَبُو بكر الصّديق يَوْم الرِّدَّة، وَعمر بن عبد الْعَزِيز فِي رد مظالم بني أُميَّة، والمتوكل فِي محو الْبدع - يَعْنِي القَوْل بِخلق الْقُرْآن -. وَقَالَ يزِيد بن مُحَمَّد المهلبي: قَالَ لي المتَوَكل: يَا مهلبي، الْخُلَفَاء كَانَت تتصعب على النَّاس ليطيعوهم، وَأَنا أَلين لَهُم ليحبوني ويطيعوني. وَكَانَ المتَوَكل كَرِيمًا، جوادا، حَتَّى قيل: إِنَّه مَا أعْطى خَليفَة [شَاعِرًا] مَا أعْطى المتَوَكل. وَفِيه يَقُول مَرْوَان بن أبي الْجنُوب: (فَأمْسك ندى كفيك عني وَلَا تزد ... فقد خفت أَن أطغى وَأَن أتجبرا) فَقَالَ: لَا أمسك حَتَّى يغرقك جودي. وَيُقَال: إِن المتَوَكل سلم عَلَيْهِ بالخلافة ثَمَانِيَة، كل وَاحِد مِنْهُم أَبوهُ خَليفَة: مَنْصُور بن الْمهْدي - عَم أَبِيه - وَالْعَبَّاس بن الْهَادِي - بن عَم أَبِيه - وَأَبُو أَحْمد بن الرشيد -[عَمه]- وَعبد الله بن الْأمين - ابْن عَمه - ومُوسَى بن الْمَأْمُون - ابْن عَمه أَيْضا - وَأحمد بن المعتصم - أَخُوهُ - وَمُحَمّد بن الواثق - ابْن أَخِيه - وَابْنه الْمُنْتَصر مُحَمَّد بن المتَوَكل هَذَا. وَهَذَا شَيْء لم يَقع لخليفة قبله.

وَكَانَ المتَوَكل بَايع [بِولَايَة الْعَهْد] وَلَده الْمُنْتَصر مُحَمَّدًا. ثمَّ إِنَّه أَرَادَ أَن يعزله ويولي وَلَده المعتز لمحبته لأمه قبيحة؛ فَسَأَلَ المتَوَكل وَلَده الْمُنْتَصر أَن ينزل عَن الْعَهْد لِأَخِيهِ المعتز؛ فَأبى [الْمُنْتَصر] ؛ فَغَضب المتَوَكل عَلَيْهِ، وَصَارَ يحضرهُ الْمجَالِس الْعَامَّة ويحط مَنْزِلَته، ويتهدده ويشتمه، ويتوعده. ثمَّ أتفق أَن التّرْك انحرفوا عَن المتَوَكل؛ لكَونه صادر وصيف التركي وبغا، فاتفق الأتراك حِينَئِذٍ مَعَ الْمُنْتَصر على قتل أَبِيه المتَوَكل، ودخلوا عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مجْلِس أنسه، وَعِنْده وزيره الْفَتْح بن خاقَان، بعد أَن مضى من اللَّيْل ثَلَاث سَاعَات، وهجم باغر وَمَعَهُ عشرَة، وَقصد السرير؛ فصاح الْفَتْح: وَيْلكُمْ مولاكم، وتهارب الغلمان والندماء على وُجُوههم. وَبَقِي الْفَتْح وَحده، والمتوكل قد غرق فِي السكر وَالنَّوْم. وَبَقِي الْفَتْح يمانعهم عَنهُ، فَضرب باغر المتَوَكل بِالسَّيْفِ على عَاتِقه؛ فَقده إِلَى خاصرته؛ فصاح المتَوَكل. ثمَّ بعج الْفَتْح آخر بِالسَّيْفِ؛ فَأخْرجهُ من ظَهره وَهُوَ صابر، ثمَّ طرح الْفَتْح نَفسه على المتَوَكل فماتا، ولفا فِي بِسَاط. وَكَانَت قتلة المتَوَكل فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثَالِث شَوَّال سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، فِي الْقصر الْجَعْفَرِي الَّذِي بناه المتَوَكل، وَدفن بِهِ هُوَ ووزيره الْفَتْح بن خاقَان.

وَكَانَت خِلَافَته أَربع عشرَة سنة وَتِسْعَة أشهر وَتِسْعَة أَيَّام. وَمَات وعمره إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سنة. وتخلف بعده ابْنه الْمُنْتَصر مُحَمَّد؛ فَلم (يتهن بالخلافة كَمَا سَيَأْتِي ذكره) .

المنتصر محمد

(الْمُنْتَصر مُحَمَّد) ابْن المتَوَكل جَعْفَر بن المعتصم مُحَمَّد بن الرشيد هَارُون بن الْمهْدي مُحَمَّد بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور. العباسي، الْهَاشِمِي، أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبُو جَعْفَر، وَقيل: أَبُو عبد الله. وبويع بالخلافة بعد قتل أَبِيه المتَوَكل. وَأمه أم وَلَده، رُومِية، أسمها: حبشية. وَكَانَ صفة الْبيعَة لَهُ أَنه: لما واطأ على قتل أَبِيه وَقتل، [وَقتل] مَعَه وزيره الْفَتْح بن خاقَان، دخل على الْمُنْتَصر قَاضِي الْقُضَاة جَعْفَر بن سُلَيْمَان الْهَاشِمِي؛ فَقَالَ لَهُ الْمُنْتَصر: بَايع؛ فَقَالَ: وَأَيْنَ أَمِير الْمُؤمنِينَ المتَوَكل على الله؟ ! فَقَالَ: قَتله الْفَتْح بن خاقَان. قَالَ: فَمَا فعل بِالْفَتْح؟ قَالَ: قَتله بغا. قَالَ القَاضِي: فَأَنت ولي الدَّم وَصَاحب الثأر؛ فَبَايعهُ وَبَايَعَهُ الْوَزير. وَكَانَ الْمُنْتَصر وافر الْعقل، رَاغِبًا فِي الْخَيْر، قَلِيل الظُّلم، محسنا للعلويين. وَقيل إِنَّه كَانَ يَقُول: يَا بغا أَيْن أبي، من قتل أبي؟ ، ويسب الأتراك وَيَقُول: هَؤُلَاءِ قتلة الْخُلَفَاء. [قلت] : وعَلى هَذَا لَا يكون الْمُنْتَصر تواطأ على قتل أَبِيه. إنتهى.

وَلما سمع بغا الصَّغِير ذَلِك من الْمُنْتَصر قَالَ للَّذين قتلوا المتَوَكل: مالكم عِنْد هَذَا رزق؛ فعملوا عَلَيْهِ، وهموا بِهِ فعجزوا عَنهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مهابا، شجاعا، فطنا؛ محترزا؛ فتحيلوا عِنْد ذَلِك -[الأتراك]- إِلَى أَن دسوا إِلَى طبيبه ابْن طيفور ثَلَاثِينَ ألف دِينَار عِنْد مَرضه؛ فَأَشَارَ بفصده؛ ففصد بريشة مَسْمُومَة؛ فَمَاتَ. فَيُقَال: إِن ابْن طيفور [الْمَذْكُور] نسي وَمرض؛ فَأمر غُلَامه بفصده؛ ففصده بِتِلْكَ الريشة؛ فَمَاتَ [أَيْضا. وَقَالَ بَعضهم: بل حصل للمنتصر مرض فِي أنثييه فَمَاتَ] بعد ثَلَاثَة أَيَّام. وَقيل: مَاتَ بالخوانيق، وَقيل: بل سم فِي كمثرائه بإبرة. وَكَانَ الْمُنْتَصر يتهم [بقتل] أَبِيه. [و] يحْكى أَنه نَام يَوْمًا ثمَّ إنتبه وَهُوَ يبكي؛ فَجَاءَتْهُ أمه فَقَالَت: مَا أبكاك يَا بني؛ لَا أبكى الله لَك عينا؟ {فَقَالَ: اذهبي عني ذهبت عني الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، رَأَيْت السَّاعَة أبي فِي النّوم وَهُوَ يَقُول: وَيحك يَا مُحَمَّد} قتلتني لأجل الْخلَافَة، وَالله لَا تمتعت بهَا إِلَّا أَيَّامًا يسيرَة، ثمَّ مصيرك إِلَى النَّار. فَلم يَعش بعد ذَلِك إِلَّا أَيَّامًا قَليلَة. وَذكر عَليّ بن يحيى المنجم: أَن الْمُنْتَصر جلس مجْلِس اللَّهْو؛ فَرَأى فِي بعض الْبسط دَائِرَة فِيهَا رَأس عَلَيْهِ تَاج وَحَوله كِتَابَة فارسية؛ فَطلب الْمُنْتَصر من يقْرَأ ذَلِك؛ فأحضر رجل؛ فَنظر فِيهَا ثمَّ قطب. فَقَالَ لَهُ الْمُنْتَصر: مَا هَذِه؟ فَقَالَ: لَا معنى لَهَا. فألح عَلَيْهِ؛ فَقَالَ فِيهَا: أَنا شيرويه بن كسْرَى بن هُرْمُز قتلت أبي: فَلم أتمتع بِالْملكِ إِلَّا سِتَّة أشهر؛ فَتغير [لذَلِك] وَجه الْمُنْتَصر وَقَامَ من جلسه.

وَحَاصِل الْأَمر: أَن الْمُنْتَصر لم يتمتع بالخلافة، وَمَات بعد سِتَّة أشهر أَو دونهَا، فَإِنَّهُ تخلف فِي شَوَّال وَمَات فِي شهر ربيع الآخر. [وَمَات] وعمره سِتا وَعِشْرُونَ سنة. وَكَانَ الْمُنْتَصر أعين، أقنى، أسمر، مليح الْوَجْه، ربعَة، كَبِير الْبَطن، مليحا، مهيبا، منصفا فِي الرّعية، مَالَتْ إِلَيْهِ الْقُلُوب مَعَ شدَّة هيبتهم لَهُ - رَحمَه الله [تَعَالَى]-. وتخلف بعده عَمه [المستعين بِاللَّه أَحْمد] .

المستعين بالله أحمد

(المستعين بِاللَّه أَحْمد) ابْن المعتصم بِاللَّه مُحَمَّد بن الرشيد هَارُون بن الْمهْدي مُحَمَّد بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور. العباسي، الْهَاشِمِي، أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبُو الْعَبَّاس. بُويِعَ بالخلافة فِي شهر ربيع الآخر سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ بعد موت الْمُنْتَصر. وَأمه أم ولد، رُومِية، تسمى: مُخَارق. ومولده فِي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. وَتمّ أمره فِي الْخلَافَة، غير أَن الْأَمر جَمِيعه كَانَ لوصيف وبغا. وَكَانَ المستعين فَاضلا، بارعا، إخباريا، دينا. وَاسْتمرّ فِي الْخلَافَة إِلَى [أول] سنة إِحْدَى وَخمسين [وَمِائَتَيْنِ] ؛ فَتَنَكَّرت لَهُ الأتراك، وقويت شوكتهم عَلَيْهِ؛ فَخرج المستعين من سامرا وَانْحَدَرَ إِلَى بَغْدَاد، فكاتبوه الأتراك يَعْتَذِرُونَ لَهُ ويسألونه الرُّجُوع؛ فَامْتنعَ؛ فقصدوا الْحَبْس وأخرجوا مِنْهُ المعتز [بِاللَّه] بن المتَوَكل، وَبَايَعُوهُ بالخلافة وأخرجوا من الْحَبْس أَيْضا [الْمُؤَيد بن المعتز] ولي الْعَهْد.

ثمَّ جهز المعتز أَخَاهُ الْمَذْكُور فِي عَسْكَر لقِتَال المستعين، واستعد المستعين. وَحَاصِل الْأَمر: أَن المستعين قهر، وخلع من الْخلَافَة فِي أول سنة إثنتين وَخمسين، ثمَّ حبس بواسط، ثمَّ نقل إِلَى قادسية سامرا، فَقتل بهَا فِي ثَالِث شَوَّال من سنة إثنتين وَخمسين [الْمَذْكُورَة] . وَقيل: ليومين بقيا من شهر رَمَضَان بعد أَن حبس أشهرا. وَقتل وَله إِحْدَى وَثَلَاثُونَ سنة. وَكَانَ الَّذِي قَتله سعيد بن صَالح الْحَاجِب، بَعثه إِلَيْهِ المعتز؛ فَلَمَّا رَآهُ المستعين تَيَقّن التّلف وَبكى وَقَالَ: ذهبت وَالله نَفسِي. فَلَمَّا قرب مِنْهُ سعيد الْمَذْكُور أَخذ يتبعهُ بِسَوْطِهِ، ثمَّ اتكاه فَقعدَ على صَدره، وَقطع رَأسه. قلت: وَهَذَا أول خَليفَة قتل صبرا، مُوَاجهَة من بني الْعَبَّاس. وَكَانَ المستعين مَرْبُوع الْقَامَة، أَحْمَر الْوَجْه، خَفِيف العارضين، بِمقدم رَأسه طول. وَكَانَ حسن الْوَجْه والجسم، بِوَجْهِهِ أثر جدري. وَكَانَ كَرِيمًا، مُسْرِفًا، مبذرا للخزائن، يفرق الْجَوَاهِر وَالثيَاب والنفائس للكائن من كَانَ.

المعتز بالله محمد

(المعتز بِاللَّه [مُحَمَّد) وَقيل: الزبير] ابْن المتَوَكل على الله جَعْفَر بن المعتصم مُحَمَّد بن الرشيد هَارُون ابْن الْمهْدي مُحَمَّد بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور. أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبُو عبد الله، الْهَاشِمِي، العباسي، الْبَغْدَادِيّ. بُويِعَ بالخلافة عِنْد خلع المستعين بِاللَّه عَمه فِي سنة إثنتين وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، [وَهُوَ ابْن تسع عشرَة سنة. وَكَانَ مولده سنة إثنتين وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ] . وَأمه أم ولد، تسمى: قبيحة؛ لجمال صورتهَا. قلت: هَذَا من أَسمَاء الأضداد. وَلم يل الْخلَافَة أحد قبله أَصْغَر مِنْهُ. وَكَانَ شَابًّا جميلا، مليح الْوَجْه، مشربا بحمرة، حسن الْجِسْم، بديع الْحسن. قَالَ عَليّ بن حَرْب الطَّائِي - وَهُوَ أحد شُيُوخ المعتز فِي الحَدِيث -: دخلت على المعتز، فَمَا رَأَيْت خَليفَة أحسن مِنْهُ.

وَلما تمّ أَمر المعتز فِي الْخلَافَة، واستهل شهر رَجَب خلع المعتز أَخَاهُ الْمُؤَيد إِبْرَاهِيم من ولَايَة الْعَهْد، وَكتب بذلك إِلَى الْآفَاق؛ فَلم يلبث الْمُؤَيد إِلَّا أَيَّامًا وَمَات؛ فخشي المعتز بِاللَّه أَن يتحدث النَّاس عَنهُ أَنه قَتله [أَو احتال] عَلَيْهِ؛ فأحضر الْقُضَاة حَتَّى شاهدوه وَلَيْسَ [بِهِ أثر] ، وَالله أعلم بموتته. على أَن المعتز كَانَ فِي ضيق وَحجر فِي خِلَافَته مَعَ الأتراك. وَاتفقَ أَن جمَاعَة مِنْهُم أَتَوْهُ وَقَالُوا: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أعطنا أرزاقنا لنقتل صَالح [بن] وصيف التركي ونستريح مِنْهُ. وَكَانَ المعتز يخَاف من صَالح [الْمَذْكُور] ؛ فَطلب من أمه قبيحة مَالا لينفقه فيهم؛ فَأَبت عَلَيْهِ وشحت نَفسهَا - وَكَانَت فِي سَعَة من المَال - وَلم يكن بَقِي فِي بيُوت المَال شَيْء؛ فَاجْتمع الأتراك حِينَئِذٍ وَاتَّفَقُوا على خلعه من الْخلَافَة. وَوَافَقَهُمْ صَالح ابْن وصيف وَمُحَمّد بن بغا؛ فلبسوا السِّلَاح، وَجَاءُوا إِلَى دَار الْخلَافَة؛ فبعثوا إِلَى المعتز أَن أخرج إِلَيْنَا؛ فَبعث يَقُول: قد شربت دَوَاء وَأَنا ضَعِيف؛ فهجم عَلَيْهِ [جمَاعَة] مِنْهُم؛ فجروه برجليه وضربوه بالدبابيس، وأقاموه فِي الشَّمْس فِي يَوْم صَائِف؛ فَبَقيَ يرفع قدما وَيَضَع أُخْرَى وهم يلطمون وَجهه وَيَقُولُونَ: اخلع نَفسك، ثمَّ أحضروا القَاضِي ابْن أبي الشَّوَارِب وَالشُّهُود وخلعوه.

ثمَّ أحضروا من بَغْدَاد [إِلَى سامرا]- وَهِي يَوْمئِذٍ دَار الْخلَافَة - مُحَمَّد ابْن الواثق - وَكَانَ المعتز قد أبعده إِلَى بَغْدَاد - فَسلم إِلَيْهِ المعتز الْخلَافَة، وَبَايَعَهُ ولقبوه: الْمُهْتَدي. ثمَّ أخذُوا المعتز بعد خمس لَيَال من خلعه وأدخلوه الْحمام؛ فَلَمَّا تغسل [عَطش] وَطلب مَاء؛ فمنعوه حَتَّى كَاد يهْلك [وَهُوَ يطْلب المَاء، ثمَّ أخرج وَهُوَ ميت] عطشا؛ فسقوه مَاء بثلج فشربه وَسقط مَيتا. وَكَانَت موتته فِي شعْبَان سنة خمس وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، وَله أَربع وَعِشْرُونَ سنة. وَقيل: ثَلَاث وَعِشْرُونَ سنة. وَكَانَت خِلَافَته أَربع سِنِين وَسِتَّة أشهر وَأَرْبَعَة [عشر يَوْمًا] . قلت: وَبعد قَتله أمسك صَالح بن وصيف وَغَيره أمه قبيحة وصادروها؛ فوجدوا عِنْدهَا ألف ألف دِينَار [عينا] ، وَنصف إِرْدَب زمرد، وَنصف أردب لُؤْلُؤ، وويبة ياقوت أَحْمَر، وَأَشْيَاء كَثِيرَة غير ذَلِك؛ فَحمل [جَمِيع] ذَلِك لإبن وصيف؛ فَقَالَ ابْن وصيف: قَاتل الله قبيحة؛ عرضت ابْنهَا للْقَتْل وَعِنْدهَا هَذِه الْأَمْوَال الْعَظِيمَة. {} ثمَّ أخرجت قبيحة [الْمَذْكُورَة] إِلَى مَكَّة على أقبح وَجه؛ فأقامت بهَا [إِلَى أَن] مَاتَت.

المهتدي بالله محمد

(الْمُهْتَدي بِاللَّه [مُحَمَّد] ) ابْن الواثق هَارُون بن المعتصم مُحَمَّد بن الرشيد هَارُون بن الْمهْدي مُحَمَّد بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور. الْهَاشِمِي، العباسي، أَمِير الْمُؤمنِينَ، الْخَلِيفَة الصَّالح، الدّين، أَبُو إِسْحَاق، وَقيل: أَبُو عبد الله. وَأمه أم ولد، رُومِية تسمى: قرب. ولد فِي خلَافَة جده سنة بضع عشرَة وَمِائَتَيْنِ. بُويِعَ بالخلافة بعد ابْن عَمه المعتز بِاللَّه فِي [الْيَوْم التَّاسِع وَالْعِشْرين] [من] [شهر] رَجَب سنة خمس وَخمسين، وَله بضع وَثَلَاثُونَ سنة. وَلما طلب لم يقبل بيعَة أحد حَتَّى أُتِي بالمعتز [بِاللَّه] ؛ فَلَمَّا رَآهُ الْمُهْتَدي [هَذَا] قَامَ لَهُ وَسلم عَلَيْهِ بالخلافة، وَجلسَ بَين يَدَيْهِ، وجئ بالشهود؛ فَشَهِدُوا على المعتز أَنه عَاجز عَن الْخلَافَة؛ فاعترف بذلك وَمد يَده وَبَايع الْمُهْتَدي [بِاللَّه هَذَا] ؛ فارتفع حِينَئِذٍ الْمُهْتَدي إِلَى صدر الْمجْلس.

وَقَالَ [الْمُهْتَدي] : لَا يجْتَمع سيفان فِي غمد. وَهَذَا من قَول أبي ذُؤَيْب: (تريدين كَيْمَا تجمعيني وخالدا ... وَهل تجمع السيفان وَيحك فِي غمد) وَكَانَ الْمُهْتَدي دينا، صَالحا، ورعا، متعبدا، عادلا، قَوِيا فِي أَمر الله، بطلا، شجاعا. لكنه لم يجد ناصرا وَلَا معينا على الْخَيْر، وَلَو وجد ناصرا لَكَانَ أَحْيَا سنة عمر بن عبد الْعَزِيز؛ فَإِنَّهُ سَار كثيرا فِي خِلَافَته على سيرته. قَالَ الْخَطِيب: لم يزل صَائِما مُنْذُ ولي الْخلَافَة، إِلَى أَن قتل. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس هَاشم بن الْقَاسِم: كنت بِحَضْرَة الْمُهْتَدي عَشِيَّة رَمَضَان؛ فَوَثَبت لأنصرف فَقَالَ: اجْلِسْ. ثمَّ أحضر بعد الصَّلَاة طبقًا وَفِيه أرغفة من الْخبز وَبَعض ملح وخل وزيت، فَقَالَ: كل؛ فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ {قد أَسْبغ الله نعمه عَلَيْك} قَالَ: صدقت، وَلَكِنِّي فَكرت فِي أَنه كَانَ فِي بني أُميَّة عمر بن عبد الْعَزِيز؛ فغرت على بني هَاشم؛ فَأخذت نَفسِي على مَا رَأَيْت. قلت: كَانَ قَصده أَن يقتفي سيرة عمر بن عبد الْعَزِيز، وَكَانَ يَقُول وَيفْعل؛ فَلم يجد معينا على ذَلِك. وَقَالَ ابْن عَرَفَة النَّحْوِيّ: حَدثنِي بعض الهاشميين أَنه وجد للمهتدي سفطا فِيهِ جُبَّة صوف وَكسَاء كَانَ يلْبسهُ فِي اللَّيْل وَيُصلي فِيهِ. وَكَانَ قد أطرح الملاهي، وَحرم الْغناء، وحسم أَصْحَاب السُّلْطَان عَن الظُّلم.

وَكَانَ شَدِيد الإشراف على أَمر الدَّوَاوِين، يجلس بِنَفسِهِ وتجلس الْكتاب بَين يَدَيْهِ؛ فيعملون الْحساب؛ فسامته الظلمَة والأتراك، وَاتَّفَقُوا على خلعه وركبوا عَلَيْهِ وحاربوه، وَكَانَ بطلا شجاعا؛ فحاربهم أَشد محاربة بأناس قَليلَة، وفر عَنهُ أَصْحَابه بعد أُمُور وَقعت بَينهم؛ فانكسر وَأسر وخلع، ثمَّ قتل شَهِيدا فِي شهر رَجَب سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. وَكَانَت خِلَافَته سنة إِلَّا خَمْسَة عشرَة يَوْمًا. وَكَانَ الْمُهْتَدي أسمرا، رَقِيقا، مليح الْوَجْه. وتخلف بعده ابْن عَمه [الْمُعْتَمد أَحْمد - رَحمَه الله تَعَالَى -] .

المعتمد على الله أحمد

(الْمُعْتَمد على الله أَحْمد) ابْن المتَوَكل [على الله] جَعْفَر بن المعتصم [بِاللَّه] مُحَمَّد بن الرشيد هَارُون بن الْمهْدي مُحَمَّد بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور. أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبُو الْعَبَّاس، الْهَاشِمِي، العباسي. ولد سنة تسع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ بسر من رأى. وَأمه أم ولد، رُومِية، اسْمهَا: فتيَان. بُويِعَ بالخلافة بعد قتل ابْن عَمه [الْمُهْتَدي] . وَتمّ أمره فِي الْخلَافَة، وطالت أَيَّامه. وَكَانَ منهمكا فِي اللَّذَّات؛ فَجعل أَخَاهُ - وَهُوَ ولي عَهده - الْمُوفق طَلْحَة على الْأُمُور. وانهمك هُوَ فِي اللَّذَّات؛ فاستولى أَخُوهُ الْمَذْكُور على جَمِيع تعلقات الْخلَافَة، وَقَوي أمره، وَصَارَ إِلَيْهِ الْحل وَالْعقد، وانقهر مَعَه الْمُعْتَمد [هَذَا] ، وَصَارَ كالمحجور عَلَيْهِ مَعَه. وَكَانَ الْمُوفق مُتَوَلِّي محاربة الزنج هُوَ وَولده أَحْمد المعتضد، وَالْمُعْتَمد هَذَا غارق فِي السكر. وَكَانَ يعربد فِي سكره على الندماء.

وَكَانَ أَخُوهُ الْمُوفق محببا للرعية والجند وَعِنْده سياسة وَمَعْرِفَة بالأمور وَالتَّدْبِير. وَكَانَ الْمُوفق يلقب بالناصر لدين الله، وَلَو أَرَادَ الْوُثُوب على الْأَمر لحصل لَهُ ذَلِك؛ لِأَنَّهُ كَانَ هُوَ صَاحب الْجَيْش والعساكر، وَإِنَّمَا لِأَخِيهِ الْمُعْتَمد [هَذَا] اسْم الْخلَافَة لَا غير. وَلم يزل الْمُوفق على مَا هُوَ عَلَيْهِ من الْأَمر وَالنَّهْي، إِلَى أَن مرض وَمَات فِي سنة ثَمَان وَسبعين وَمِائَتَيْنِ فِي حَيَاة أَخِيه الْمُعْتَمد هَذَا. وَكَانَ الْمُوفق قد حبس فِي حَيَاته وَلَده المعتضد أَحْمد؛ فَلَمَّا احْتضرَ الْمُوفق أخرجه من الْحَبْس وَجعله عوضه فِي ولَايَة الْعَهْد؛ فَكَانَ المعتضد على عَمه الْمُعْتَمد هَذَا أَشد من [أَبِيه] الْمُوفق؛ فَلم تطل أَيَّام الْمُعْتَمد بعد موت أَخِيه الْمُوفق، وَمَات فَجْأَة وَهُوَ سَكرَان [فِي تَاسِع عشر] شهر رَجَب سنة تسع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ. وَكَانَت خِلَافَته ثَلَاثًا وَعشْرين سنة، لَيْسَ لَهُ فِيهَا إِلَّا مُجَرّد الأسم [فَقَط] ، وَالْأَمر كُله لِأَخِيهِ الْمُوفق [طَلْحَة] ، ثمَّ من بعده لإبنه المعتضد أَحْمد. [والمعتضد هُوَ] الَّذِي تخلف بعد عَمه الْمُعْتَمد هَذَا.

المعتضد بالله أحمد

(المعتضد بِاللَّه أَحْمد) ابْن ولي الْعَهْد الْمُوفق [بِاللَّه] طَلْحَة بن المتَوَكل [على الله] جَعْفَر ابْن المعتصم [بِاللَّه] مُحَمَّد بن الرشيد هَارُون. الْهَاشِمِي، العباسي [أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبُو الْعَبَّاس] . بُويِعَ بالخلافة بعد موت عَمه الْمُعْتَمد. ومولده فِي سنة إثنتين وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ فِي ذِي الْقعدَة فِي أَيَّام جده. وَكَانَ المعتضد هَذَا شجاعا، مقداما، مهابا، وَهُوَ آخر من ولي الْخلَافَة بِبَغْدَاد من بني الْعَبَّاس بعظمة وَحُرْمَة ومهابة، وَمن جَاءَ بعده فهم كلا شَيْء بِالنِّسْبَةِ إِلَى المعتضد [هَذَا] . وَهُوَ الَّذِي حَارب الزنج فِي أَيَّام عَمه [الْمُعْتَمد] . وَكَانَ أَبوهُ الْمُوفق [يندبه لهَذِهِ الْمُهِمَّات] ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا بِأُمُور الرّعية، وَعَمه الْمُعْتَمد [الْخَلِيفَة] منهمك فِي اللَّذَّات.

وَهُوَ أَيْضا الَّذِي حَارب خمارويه بن أَحْمد بن طولون صَاحب مصر، وَوَقع لَهُ مَعَه حروب وخطوب، ثمَّ اصطلحا وَتزَوج المعتضد بإبنته قطر الندى بنت خمارويه الْمَذْكُور. وَكَانَ الْمُوفق قد خَافَ من وَلَده المعتضد وحبسه. فَلَمَّا اشْتَدَّ [مرض الْمُوفق] عمد غلْمَان المعتضد هَذَا إِلَيْهِ وأخرجوه من الْحَبْس بِلَا إِذن الْمُوفق، وَلَا أَخِيه الْخَلِيفَة الْمُعْتَمد. فَلَمَّا رَآهُ الْمُوفق أَيقَن بِالْمَوْتِ، ثمَّ قَالَ لَهُ: يَا وَلَدي لهَذَا الْيَوْم خبأتك. وفوض الْأُمُور إِلَيْهِ، وأوصاه بِعَمِّهِ [الْخَلِيفَة] الْمُعْتَمد. وَكَانَ ذَلِك قبل موت الْمُوفق بِثَلَاثَة أَيَّام. وَلما تخلف المعتضد أحبه النَّاس لحسن تَدْبيره وَشدَّة بأسه. وَلما تزوج المعتضد بقطر الندى بنت خمارويه -[الْمُقدم ذكرهَا]- أمهرها ألف ألف دِرْهَم. وَكَانَ المعتضد عادلا فِي الرّعية، مَعَ مهابة وسطوة وجبروت، وَشدَّة وطئة. وَكَانَ أسمرا، نحيفا، معتدل الْخلق. وَكَانَ يقدر على الْأسد وَحده. قَالَ المَسْعُودِيّ: كَانَ المعتضد قَلِيل الرَّحْمَة. قيل: إِنَّه كَانَ إِذا غضب على قَائِد أَمر [أَن] تحفر لَهُ حفيرة ويلقى فِيهَا ويطم عَلَيْهِ. قَالَ: وَكَانَ ذَا سياسة عَظِيمَة.

وَعَن [عبد الله] بن حمدون أَن المعتضد [خرج لصيد] ؛ فَنزل إِلَى جَانب مقثأة وَأَنا مَعَه؛ فصاح الناطور فَقَالَ: عَليّ بِهِ؛ فأحضر، فَسَأَلَهُ؛ فَقَالَ: ثَلَاثَة غلْمَان نزلُوا المقثأة فأخربوها؛ فجِئ بهم؛ فَضربت أَعْنَاقهم فِي المقثأة من الْغَد. فكلمني [المعتضد بعد مُدَّة] وَقَالَ: أَخْبرنِي فِيمَا يُنكر عَليّ النَّاس؟ قلت: سفك الدِّمَاء. قَالَ المعتضد: وَالله مَا سفكت دَمًا حَرَامًا مُنْذُ وليت {. قلت: فَلم قتلت أَحْمد بن الطّيب؟} قَالَ: دَعَاني إِلَى الْإِلْحَاد. قلت: فالثلاثة الَّذين نزلُوا المقثاة؟ قَالَ: وَالله مَا قَتلتهمْ، وَإِنَّمَا قتلت لصوصا [قد] قتلوا، وأوهمت بهم أَنهم هم. ثمَّ دَعَا بِصَاحِب الشرطة! فأحضرهم من الْحَبْس. قلت: هَكَذَا تكون معرفَة السُّلْطَان وتدبيره فِي رَعيته. وَعَن إِسْمَاعِيل القَاضِي قَالَ: دخلت على المعتضد وعَلى رَأسه أَحْدَاث صباح الْوُجُوه روم؛ فَنَظَرت إِلَيْهِم؛ فرآني المعتضد أتأملهم؛ فَلَمَّا أردْت الْقيام أَشَارَ إِلَيّ، ثمَّ قَالَ: أَيهَا القَاضِي، وَالله مَا حللت سراويلي على حرَام قطّ. قَالَ: وَدخلت إِلَيْهِ مرّة أُخْرَى؛ فَدفع إِلَيّ كتابا؛ فَنَظَرت فِيهِ؛ فَإِذا قد جمع فِيهِ الرُّخص من زلل الْعلمَاء؛ فَقلت: مُصَنف هَذَا زنديق. قَالَ: لم تصح

هَذِه الْأَحَادِيث؛ قلت: بلَى، وَلَكِن من أَبَاحَ الْمُسكر لم يبح الْمُتْعَة، وَمن أَبَاحَ الْمُتْعَة لم يبح الْغناء، وَمَا من عَالم إِلَّا لَهُ زلَّة، وَمن أَخذ بِكُل زلل الْعلمَاء ذهب دينه؛ فَأمر المعتضد بِالْكتاب؛ فَأحرق. وَاسْتمرّ المعتضد فِي الْخلَافَة، إِلَى أَن توفّي فِي يَوْم الأثنين لثمان بَقينَ من [شهر] ربيع الآخر سنة تسع وَثَمَانِينَ [وَمِائَتَيْنِ] . وَدفن فِي حجرَة الرخام. وَكَانَ المعتضد يُسمى: السفاح لثاني؛ لِأَنَّهُ جدد ملك بني الْعَبَّاس. وَمن عَجِيب مَا ذكر عَنهُ المَسْعُودِيّ -[إِن صَحَّ]- قَالَ: شكوا فِي [موت المعتضد] ؛ فَتقدم الطَّبِيب فجس نبضه؛ فَفتح عينه ورفس الطَّبِيب بِرجلِهِ فدحاه أذرعا، وَمَات الطَّبِيب، ثمَّ مَاتَ المعتضد من سَاعَته. وَكَانَت [خلَافَة المعتضد] تسع سِنِين وَتِسْعَة أشهر وَنصفا. وتخلف بعده [إبنه] [المكتفي عَليّ] .

المكتفي بالله علي

(المكتفي بِاللَّه عَليّ) ابْن المعتضد بِاللَّه أَحْمد بن ولي الْعَهْد الْمُوفق طَلْحَة بن جَعْفَر المتَوَكل بن المعتصم مُحَمَّد بن الرشيد هَارُون. العباسي، الْهَاشِمِي، أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبُو مُحَمَّد. ولد سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. وَأمه أم ولد تسمى: خاضع. وَكَانَ يضْرب الْمثل بحسنه فِي زَمَانه. كَانَ معتدل الْقَامَة، دري اللَّوْن، أسود الشّعْر، حسن اللِّحْيَة، جميل الصُّورَة. بُويِعَ بالخلافة بعد موت وَالِده المعتضد فِي جُمَادَى الأولى سنة تسع وَثَمَانِينَ [وَمِائَتَيْنِ] . وَأخذ لَهُ أَبوهُ الْبيعَة فِي مرض مَوته، ثمَّ نَهَضَ بأعبائها بعد مَوته الْوَزير أَبُو الْحُسَيْن الْقَاسِم بن عبيد الله. [و] فِي أَيَّام المكتفي - فِي سنة تسعين وَمِائَتَيْنِ - كَانَ بِمصْر غلاء عَظِيم حَتَّى أكل النَّاس الْميتَة، وَلم يبْق من الْعَالم إِلَّا الْقَلِيل.

وَلم تطل أَيَّامه وَمَات شَابًّا فِي ذِي الْقعدَة سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَت خِلَافَته سِتَّة أَعْوَام وَنصفا. واستخلف بعده أَخُوهُ المقتدر بتفويض المكتفي إِلَيْهِ فِي مَرضه بعد أَن سَأَلَ عَنهُ المكتفي وَصَحَّ عِنْده أَنه احْتَلَمَ؛ فبويع المقتدر وَقد دخل فِي أَربع عشرَة سنة. وَذكر أَبُو مَنْصُور الثعالبي قَالَ: حكى إِبْرَاهِيم بن نوح أَن الَّذِي خَلفه المكتفي مِمَّا جمعه هُوَ وَأَبوهُ مائَة ألف ألف دِينَار عين، وأمتعة وعقار وأواني؛ فَكَانَ من جملَة [تِلْكَ] الْأَمْتِعَة: ثَلَاثَة وَسِتُّونَ ألف ثوب ديباج.

المقتدر بالله

(المقتدر بِاللَّه) أَبُو الْفضل، جَعْفَر ابْن ولي الْعَهْد الْمُوفق طَلْحَة بن المتَوَكل جَعْفَر بن المعتصم مُحَمَّد بن الرشيد هَارُون. العباسي، الْهَاشِمِي، أَمِير الْمُؤمنِينَ. بُويِعَ بالخلافة بعد موت أَخِيه المكتفي وعمره أَربع عشرَة سنة، فِي سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ. وَأمه أم ولد تسمى: شغب. وَلما اسْتخْلف المقتدر فِي هَذِه الْمرة الأولى لم يتم أمره؛ [لصِغَر سنة] وتغلب عَلَيْهِ الْجند. وَاتفقَ جمَاعَة من الْأَعْيَان على خلعه من الْخلَافَة وتولية عبد الله بن المعتز، وكلموا ابْن المعتز [فِي ذَلِك] ؛ فأجابهم بِشَرْط أَن لَا يكون فِيهَا دم؛ فَإِنَّهُ كَانَ عَالما، فَاضلا؛ دينا، أديبا، شَاعِرًا، فَأَجَابُوهُ لذَلِك وَكَانَ رَأْسهمْ مُحَمَّد بن دَاوُد بن الْجراح، وَأَبُو الْمثنى أَحْمد بن يَعْقُوب القَاضِي، وَالْحُسَيْن بن حمدَان، وَاتَّفَقُوا على قتل المقتدر ووزيره الْعَبَّاس وفاتك.

فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْعشْرين من شهر ربيع الأول سنة سِتّ وَتِسْعين ركب الْحُسَيْن بن حمدَان والقواد، فَشد ابْن حمدَان على الْوَزير فَقتله؛ فَأنْكر عَلَيْهِ فاتك؛ فعطف على فاتك فَقتله. ثمَّ شدّ على المقتدر - وَكَانَ يلْعَب بالصوالجة - فَسمع الضجة؛ فَدخل وأغلقت الْأَبْوَاب؛ فَعَاد ابْن حمدَان وَنزل وأحضر عبد الله بن المعتز والقواد والقضاة والأعيان وَبَايَعَهُ - حَسْبَمَا يَأْتِي ذكره -. وخلع المقتدر من الْخلَافَة - وَهُوَ مُقيم بِالْحَرِيمِ دَاخل دَار الْخلَافَة -؛ فَكَانَت خلَافَة المقتدر إِلَى يَوْم خلع بإبن المعتز دون السّنة. ثمَّ أُعِيد من الْغَد ثَانِي يَوْم خلع - على مَا سَيَأْتِي ذكره، إِن شَاءَ الله تَعَالَى -.

عبد الله بن المعتز

(عبد الله بن المعتز) ابْن المتَوَكل جَعْفَر بن المعتصم [مُحَمَّد، العباسي] الْهَاشِمِي، أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبُو الْعَبَّاس، الأديب، صَاحب الشّعْر الرَّائِق والنثر الْفَائِق، والتشابيه المخرعة. ومولده فِي شعْبَان سنة تسع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ. تقدم أَن الْحُسَيْن بن حمدَان قَامَ فِي أمره مَعَ جمَاعَة من القواد، وخلع المقتدر من الْخلَافَة، وَجمع الْقُضَاة والقواد، وَبَايع عبد الله هَذَا بالخلافة ولقبه بالغالب بِاللَّه. وَقيل: بالراضي [بِاللَّه] . واستوزر مُحَمَّد بن دَاوُد الْجراح، وَجعل يمن الْخَادِم حَاجِبه؛ فَغَضب سوسن الْخَادِم، وَعَاد إِلَى دَار المقتدر وطاعته. [وَتمّ أَمر] عبد الله بن المعتز فِي ذَلِك (الْيَوْم وَهُوَ الْعشْرين من شهر ربيع الأول سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ، ونفذت الْكتب بخلافته إِلَى الأقطار. وَقَالَ الْمعَافى [بن] زَكَرِيَّا الْجريرِي) : حدثت أَن المقتدر لما خلع وبويع ابْن المعتز دخلُوا على شَيخنَا مُحَمَّد بن جرير؛ فَقَالَ: مَا الْخَبَر؟

قيل: بُويِعَ ابْن المعتز. قَالَ: فَمن رشح للوزارة؟ قيل: مُحَمَّد بن دَاوُد. قَالَ: فَمن ذكر للْقَضَاء؟ قيل: الْحُسَيْن بن الْمثنى؛ فَأَطْرَقَ ابْن جرير، ثمَّ قَالَ: هَذَا أَمر لَا يتم، قيل: وَكَيف! ؟ قَالَ: كل وَاحِد مِمَّن سميتم مُتَقَدم فِي مَعْنَاهُ على الرُّتْبَة وَالزَّمَان، مُدبر وَالدُّنْيَا مولية، وَمَا أرى [هَذَا] إِلَّا إِلَى اضمحلال، وَمَا أرى لمدته طولا. إنتهى. وَلما تخلف ابْن المعتز بعث إِلَى المقتدر يَأْمُرهُ بالإنصراف إِلَى دَار مُحَمَّد ابْن طَاهِر؛ لكَي ينْتَقل ابْن المعتز إِلَى دَار الْخلَافَة؛ فَأجَاب المقتدر، وَقد بَقِي عِنْده أنَاس قَليلَة وَبَاتُوا تِلْكَ اللَّيْلَة. وَأصْبح الْحُسَيْن بن حمدَان باكرا إِلَى دَار الْخلَافَة، وَقَاتل أعوان المقتدر؛ فقاتلوه ودفعوه عَنْهَا، ثمَّ خَرجُوا بِالسِّلَاحِ وقصدوا مَكَان ابْن المعتز. فَلَمَّا رَآهُمْ من حول ابْن المعتز أوقع الله فِي قُلُوبهم الرعب؛ فَانْهَزَمُوا بِغَيْر حَرْب؛ فَركب ابْن المعتز فرسا وَمَعَهُ وزيره ابْن دَاوُد وحاجبه يمن وَقد شهر سَيْفه؛ فَلم يتبعهُ أحد. فَلَمَّا رأى أمره فِي إدبار نزل عَن دَابَّته، وَدخل دَار ابْن الْجَصَّاص، واختفى الْوَزير وَغَيره، ونهبت دُورهمْ. وَخرج المقتدر، واستفحل أمره، وَأمْسك جمَاعَة ابْن المعتز وَمن قَامَ بنصرته وخلافته وحبسهم، ثمَّ قتل غالبهم. واستقام أَمر المقتدر، وأعيد للخلافة، ثمَّ قبض على ابْن المعتز وَابْن الْجَصَّاص، وَحبس ابْن المعتز أَيَّامًا، ثمَّ أخرج مَيتا فِي شهر ربيع الآخر [سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ] . وَكَانَ الَّذِي تولى هَلَاكه مؤنس الْخَادِم.

قيل: إِنَّه لما علم أَن مؤنسا يُرِيد هَلَاكه قَالَ أبياتا [تَقول] أَولهَا: (يَا نفس صبرا لَعَلَّ الْخَيْر عقباك ... خانتك من بعد طول الْأَمْن دنياك) وَكَانَ ابْن المعتز - رَحمَه الله - إِمَامًا، شَاعِرًا، بليغا، فصيحا، مفوها. وَكَانَت خِلَافَته يَوْمًا وَاحِدًا. وَقيل: نصف يَوْم. وَبَعْضهمْ لم يذكرهُ مَعَ الْخُلَفَاء، وَسَماهُ بالأمير، لَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. ومذهبي فِيهِ أَنه: أَمِير الْمُؤمنِينَ - وَلَو لم يل الْخلَافَة - فَإِنَّهُ كَانَ أَهلا للخلافة خليقا لَهَا - رَحمَه الله -. وَمن شعره - وَفِيه لف وَنشر أَرْبَعَة بأَرْبعَة -: (انْظُر إِلَى الْيَوْم مَا أحلى شمائله ... صحو وغيم وإبراق وإرعاد) (كَأَنَّهُ أَنْت يَا من لَا شَبيه لَهُ ... وصل وهجر وتقريب وإبعاد)

المقتدر بالله

المقتدر بِاللَّه أَبُو الْفضل، جَعْفَر. أُعِيد إِلَى الْخلَافَة [فِي صَبِيحَة] يَوْم خلعه بِعَبْد الله بن المعتز، وَقد ذكرنَا ذَلِك فِي تَرْجَمَة عبد الله بن المعتز، وَكَيْفِيَّة عوده إِلَى الْخلَافَة وظفره بِابْن المعتز وَقَتله لَهُ؛ فَكَانَ خلعه من الْخلَافَة بِابْن المعتز يَوْمًا وَاحِدًا، وَلم ينْتَقل من دَار الْخلَافَة، بل امْتنع بهَا عِنْد خلعه ومبايعة عبد الله بن المعتز، ثمَّ أصبح يمن مَعَه وَقَاتل أعوان ابْن المعتز وَهَزَمَهُمْ، وظفر بِابْن المعتز وأعيد للخلافة وَلم يُغير لقبه. وَاسْتمرّ فِي الْخلَافَة، وظفر بأعدائه وَاحِدًا بعد وَاحِد. واستوزر أَبَا الْحُسَيْن بن عَليّ بن مُحَمَّد بن الْفُرَات؛ فَسَار ابْن الْفُرَات فِي النَّاس أحسن سيرة، وكشف الْمَظَالِم، وفوض إِلَيْهِ المقتدر جَمِيع الْأُمُور؛ لصِغَر سنه. واشتغل المقتدر باللعب مَعَ الندماء والمغنين، وعاشر النِّسَاء، وَغلب أَمر الْحرم والخدم على الدولة، وأتلف الخزائن. وَمَعَ هَذَا كَانَ عِنْده بَقِيَّة، وعسكر هائل. قيل: إِنَّه لما بعث ملك الرّوم رسله إِلَيْهِ عبأ لَهُم المقتدر العساكر، وصفت الدَّار بالأسلحة وأنواع الزِّينَة. وَكَانَت جملَة الْعَسْكَر [المصفوف] حِينَئِذٍ مائَة ألف وَسِتِّينَ ألفا. ووقفت الغلمان الحجرية بالزينة والمناطق الذَّهَب، ووقف الخدم الخصيان

كَذَلِك، ووقفت الْحجاب - وَكَانُوا سَبْعمِائة [حَاجِب]-. وألقيت المراكب فِي دجلة بالنفط والدبادب، ولعبوا فِي الْبَحْر. وزينت دَار الْخلَافَة بالستور والبسط؛ فَكَانَت جملَة الستور الْمُعَلقَة ثَمَانِيَة وَثَلَاثُونَ ألف ستر، مِنْهَا ديباج مَذْهَب إثني عشر ألف [ستر] وَخَمْسمِائة. وَجُمْلَة الْبسط إثنين وَعشْرين ألف بِسَاط. وَكَانَ بدار الْخلَافَة يَوْم ذَاك مائَة سبع مَعَ مائَة سِبَاع. وَكَانَ فِي جملَة الزِّينَة شَجَرَة من ذهب وَفِضة، تشْتَمل على ثَمَانِيَة عشر غصنا، وأوراقها أَيْضا من ذهب وَفِضة، وَأَغْصَانهَا تتمايل بحركات مَوْضُوعَة، وعَلى الأغصان طيور من ذهب وَفِضة، تنفخ فِيهَا الرّيح؛ فيصفر كل طير بلغَة، وَأَشْيَاء غير ذَلِك. قلت: هَذَا بعد أَن ضعف أَمر الْخلَافَة؛ فَمَا بالك بأيام الرشيد وَمن قبله إِلَى من بعده إِلَى أَيَّام المعتضد. وَفِي أَيَّام المقتدر هَذَا قتل الحلاج: ((الْحُسَيْن بن مَنْصُور)) على الزندقة فِي سنة تسع وثلثمائة. وَكَانَ الحلاج [رجلا] صوفيا وَفِيه زهد وَله كرامات. وَاسْتمرّ المقتدر فِي الْخلَافَة إِلَى سنة سبع عشرَة وثلثمائة، ثمَّ خلع ثَانِيًا بأَخيه القاهر، [ثمَّ أُعِيد] ثَالِثا إِلَى الْخلَافَة بعد ثَلَاثَة أَيَّام.

القاهر بالله

(القاهر بِاللَّه) أَبُو مَنْصُور مُحَمَّد بن المعتضد أَحْمد بن ولي الْعَهْد [الْمُوفق طَلْحَة] ابْن المتَوَكل جَعْفَر. العباسي، الْهَاشِمِي، أَمِير الْمُؤمنِينَ. وَأمه أم ولد مغربية تسمى: فنون. بُويِعَ بالخلافة بعد أَن قبض على أَخِيه المقتدر [جَعْفَر] وعَلى أمه وخالته، وأخرجوا إِلَى دَار مؤنس. وَكَانَ القاهر هَذَا مَحْبُوسًا؛ فوصل فِي الثُّلُث الْأَخير من لَيْلَة الْخَامِس عشر من محرم سنة سبع عشرَة وثلثمائة. وَبَايَعَهُ مؤنس والأمراء، ولقبوه بالقاهر [بِاللَّه] . وَاسْتقر أَبُو عَليّ بن مقلة وزيره، وَاسْتقر الْخَادِم نازوك فِي الحجوبية والشرطة. ونهبت دَار الْخلَافَة وبغداد، فنهب لأم المقتدر - فِيمَا نهب للنَّاس - سِتّمائَة ألف دِينَار. ثمَّ أشهد المقتدر على نَفسه بِالْخلْعِ فِي يَوْم السبت، وَجلسَ القاهر فِي يَوْم الْأَحَد.

وَكتب الْوَزير عَنهُ إِلَى الأقطار، وَعمل الموكب يَوْم الأثنين؛ فامتلأت دهاليز الدَّار بالعسكر يطْلبُونَ رزق الْبيعَة - أَعنِي النَّفَقَة - ورزق سنة أَيْضا. وَلم يَأْتِ مؤنس يَوْمئِذٍ إِلَى دَار الْخلَافَة خوفًا من الْفِتْنَة؛ فارتفعت أصوات الرجالة، ثمَّ هجموا على نازوك - وَهُوَ بدار الْخلَافَة - فَقَتَلُوهُ، وصاحوا: [يَا مقتدر] ، يَا مَنْصُور؛ فتهارب من دَار الْخلَافَة الْوَزير والحجاب، ثمَّ صَارُوا إِلَى دَار مؤنس يطْلبُونَ المقتدر ليردوه إِلَى الْخلَافَة. وأغلق خدم المقتدر دَار الْخلَافَة؛ فَأَرَادَ أَبُو [الهيجاء بن] حمدَان الْخُرُوج؛ فَتعلق بِهِ الْخَلِيفَة القاهر وَقَالَ: تسلمني وَتخرج؛ فداخلته الحمية وَرجع مَعَه؛ فَقتل بعد أُمُور، وحز رَأسه. ثمَّ أخرج المقتدر، وَحضر إِلَى دَار الْخلَافَة وَجلسَ بمجلسه، فَأتوهُ بأَخيه مُحَمَّد القاهر هَذَا، وأجلس بَين يَدَيْهِ؛ فاستدناه المقتدر وَقبل جَبينه وَقَالَ لَهُ: يَا أخي أَنْت وَالله لَا ذَنْب لَك. والقاهر يبكي وَيَقُول: الله الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي نَفسِي؛ فَقَالَ المقتدر: وَالله لَا جرى عَلَيْك مني سوء أبدا؛ فطب نفسا [وقر عينا] . (وطيف بِرَأْس [أبي] ) الهيجاء وَرَأس نازوك بِبَغْدَاد. وَنُودِيَ: هَذَا جَزَاء من عصى مَوْلَاهُ وَكفر نعْمَته؛ فسكن النَّاس. وَأقَام القاهر عِنْد أَخِيه المقتدر مبجلا مُحْتَرما، إِلَى أَن أُعِيد إِلَى الْخلَافَة بعد موت [أَخِيه] [المقتدر - حَسْبَمَا يَأْتِي ذكره، إِن شَاءَ الله تَعَالَى -] .

المقتدر بالله جعفر

(المقتدر بِاللَّه جَعْفَر) أُعِيد إِلَى الْخلَافَة ثَالِث مرّة - حَسْبَمَا تقدم ذكره -. وَلما أُعِيد إِلَى الْخلَافَة كتب بذلك إِلَى سَائِر الْبِلَاد، وَتمّ أمره، ثمَّ بذل الْأَمْوَال فِي الْجند حَتَّى أنفذ الخزائن وَبَاعَ ضيَاعًا وَغَيرهَا حَتَّى تمم عطاءهم. ثمَّ فِي السّنة الْمَذْكُورَة - أَعنِي سنة سبع عشرَة وثلثمائة - سير المقتدر ركب الْحَاج مَعَ مَنْصُور الديلمي؛ فوصلوا إِلَى مَكَّة سَالِمين، فوافاهم فِي يَوْم التَّرويَة عَدو الله أَبُو طَاهِر القرمطي؛ فَقتل الحجيج فِي الْمَسْجِد الْحَرَام قتلا ذريعا فِي أَزِقَّة مَكَّة، وَفِي دَاخل الْبَيْت. وَقتل ابْن محَارب أَمِير مَكَّة، وعرى الْبَيْت، وَقلع بَابه، واقتلع الْحجر الْأسود وَأَخذه، وَطرح الْقَتْلَى فِي بِئْر زَمْزَم. ثمَّ رَجَعَ إِلَى بِلَاد هجر وَمَعَهُ الْحجر الْأسود. وَكَانَ القرمطي دخل مَكَّة بأناس قَلَائِل - نَحْو السبعمائة نفس - فَلم يطق أحد رده؛ خذلانا من الله. وَصَارَ القرمطي يَقُول بِمَكَّة عِنْد قَتله أَهلهَا: (أَنا بِاللَّه وَبِاللَّهِ أَنا ... يخلق الْخلق وأفنيهم أَنا {} )

وَكَانَ الَّذِي قتل بِمَكَّة فِي هَذِه الكائنة أَزِيد من ثَلَاثِينَ ألف إِنْسَان، وَسبي من النِّسَاء وَالصبيان مثل ذَلِك. وَكَانَت مُدَّة إِقَامَته بِمَكَّة سِتَّة أَيَّام. وَبعد عوده إِلَى هجر رَمَاه الله فِي جسده، وَطَالَ عَذَابه، وتقطعت أوصاله، وتناثر الدُّود من لَحْمه، إِلَى أَن مَاتَ. وَبَقِي الْحجر عِنْد القرامطة نَحْو عشْرين سنة. وَلما [أَخَذته القرامطة وسارت] بِهِ إِلَى هجر هلك تَحْتَهُ أَرْبَعُونَ جملا. فَلَمَّا أُعِيد بعد سِنِين إِلَى مَكَّة حمل على قعُود هزيل فسمن الْقعُود. وَلما كَانَ الْحجر عِنْدهم دفع فِيهِ بجكم التركي خمسين ألف دِينَار؛ ليَرُدهُ إِلَى مَكَانَهُ؛ فَأَبَوا وَقَالُوا: أخذناه بِأَمْر وَمَا نرده إِلَّا بِأَمْر. قلت: وَأمر القرامطة يطول الشَّرْح فِي ذكرهم - لعنهم الله [تَعَالَى]-. وَأما المقتدر؛ فَإِنَّهُ أَقَامَ فِي الْخلَافَة بعد ذَلِك، إِلَى أَن قتل فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع عشْرين شَوَّال سنة عشْرين وثلثمائة فِي حَرْب كَانَ بَينه وَبَين

مؤنس الْخَادِم؛ فتوغل المقتدر فِي وسط المعركة؛ فوافاه جمَاعَة من عَسْكَر مؤنس من البربر، فَضَربهُ رجل مِنْهُم من خَلفه ضَرْبَة سقط مِنْهَا إِلَى الأَرْض؛ فَقَالَ لَهُ: وَيلك أَنا الْخَلِيفَة؛ فَقَالَ: أَنْت الْمَطْلُوب، وذبحه بِالسَّيْفِ، وشال رَأسه على رمح. ثمَّ سلب مَا عَلَيْهِ، وَبَقِي مَكْشُوف الْعَوْرَة حَتَّى ستر بالحشيش، ثمَّ حفر لَهُ فِي الْموضع، وَدفن، وَعفى أَثَره. وأعيد [بعده] [إِلَى الْخلَافَة] القاهر ثَانِيًا. وَكَانَت خلَافَة المقتدر أَولا وَثَانِيا وثالثا خمْسا وَعشْرين سنة إِلَّا بضعَة عشر يَوْمًا. وَكَانَ النِّسَاء قد غلبن عَلَيْهِ. وَكَانَ سخيا، مبذرا، يصرف فِي كل سنة لِلْحَجِّ أَكثر من ثلثمِائة ألف دِينَار. وَكَانَ فِي دَاره أحد عشر ألف غُلَام خصيان - غير الصقالبة وَالروم والسود -. وَقَالَ الصولي: كَانَ المقتدر يفرق يَوْم عَرَفَة من الْإِبِل وَالْبَقر أَرْبَعِينَ ألف رَأس، وَمن الْغنم خمسين ألفا. وَيُقَال: إِنَّه أتلف من المَال ثَمَانِينَ ألف ألف دِينَار، حَتَّى أتلف نَفسه بِيَدِهِ من سوء تَدْبيره - رَحمَه الله [تَعَالَى]-.

القاهر بالله

(القاهر بِاللَّه) أَبُو مَنْصُور، مُحَمَّد. تخلف ثَانِيًا بعد قتل أَخِيه جَعْفَر المقتدر فِي سَابِع عشْرين شَوَّال سنة عشْرين وثلثمائة. وَلما تخلف أَسَاءَ السِّيرَة، وَقتل أَبَا السَّرَايَا نصر بن حمدَان، وَإِسْحَاق بن إِسْمَاعِيل النوبختي الَّذِي كَانَ أَشَارَ بخلافته وَغَيرهمَا؛ فنفرت الْقُلُوب مِنْهُ؛ فَاجْتمع النَّاس على الفتك بِهِ، وَأتوا باكرا النَّهَار إِلَى دَار الْخلَافَة - وَكَانَ نَائِما سكرانا إِلَى أَن طلعت الشَّمْس - فنبهوه فَلم ينتبه لشدَّة سكره. وهرب الْوَزير فِي زِيّ إمرأة، وَكَذَا سَلامَة الْحَاجِب؛ فَدَخَلُوا بِالسُّيُوفِ على القاهر؛ فأفاق من سكره وهرب إِلَى سطح حمام واستتر؛ فَأتوا مجْلِس القاهر وَفِيه عِيسَى الطَّبِيب وزيرك الْخَادِم، وَاخْتِيَار القهرمانة؛ فَسَأَلُوهُمْ عَن القاهر؛ قَالُوا: مَا نَعْرِف لَهُ خَبرا؛ فرسموا عَلَيْهِم. وَوَقع فِي أَيْديهم خَادِم للقاهر؛ فضربوه؛ فدلهم عَلَيْهِ؛ فجاؤوه وَهُوَ على السَّطْح وَبِيَدِهِ سيف مسلول؛ فَقَالُوا: انْزِلْ؛ فَامْتنعَ؛ ففوق وَاحِد مِنْهُم سَهْما وَقَالَ: انْزِلْ وَإِلَّا قتلتك؛ فَنزل إِلَيْهِم؛ فقبضوا عَلَيْهِ فِي سادس جُمَادَى الْآخِرَة من سنة إثنتين وَعشْرين وثلثمائة. ثمَّ أخرجُوا أَبَا الْعَبَّاس مُحَمَّد [بن] المقتدر وَأمه من الْحَبْس وَبَايَعُوهُ ولقبوه: الراضي بِاللَّه.

ثمَّ أرسل الراضي بِالْقَاضِي وَغَيره إِلَى الْقَاهِرَة؛ ليخلع نَفسه؛ فَأبى؛ فعادوا [إِلَى الراضي] بالْخبر، فَقَالَ لَهُم: انصرفوا ودعوني وإياه؛ فانصرفوا؛ فَأَشَارَ سِيمَا مقدم الحجرية على الراضي بمسكه؛ فأمسكه. ثمَّ أرسل الراضي [إِلَيْهِ] بسيما وظريفا؛ فدخلا [على القاهر] وأكحلاه بمسمار محمى فِي النَّار؛ فَعمى. ودام مسجونا؛ إِلَى أَن مَاتَ فِي جُمَادَى الأولى سنة تسع وَثَلَاثِينَ. وَكَانَت خِلَافَته سنة وَنصفا وإسبوعا. وَكَانَ أسمرا، ربعَة، أصهب الشّعْر، طَوِيل الْأنف. وَقَالَ مَحْمُود الْأَصْفَهَانِي: كَانَ سَبَب خلع القاهر سوء سيرته وسفكه الدِّمَاء. وَقَالَ الصولي: كَانَ أهوجا، سفاكا للدماء، قَبِيح السِّيرَة، كثير التلون والإستحالة، مدمن الْخمر، وَلَوْلَا جودة حَاجِبه سَلامَة لأهْلك الْحَرْث والنسل. وَكَانَ قد صنع حَرْبَة يحملهَا فَلَا يَطْرَحهَا حَتَّى يقتل إنْسَانا. قلت: والقاهر هَذَا [كَانَ] قد قرب المنجمين وَعمل بقَوْلهمْ - على طَرِيق أبي جَعْفَر الْمَنْصُور، وَهُوَ أول خَليفَة قربهم -. وَكَانَ عِنْده نوبخت المنجم، وَعلي بن عِيسَى الأسطرلابي.

وَهُوَ أول خَليفَة ترجمت لَهُ الْكتب السريانية والأعجمية؛ ككتاب كليلة ودمنة، وَكتاب أرسطاطاليس فِي الْمنطق، وإقليدس، وَكتب اليونان؛ فَنظر [النَّاس] فِيهَا وتعلقوا بهَا؛ فَلَمَّا رأى ذَلِك مُحَمَّد بن إِسْحَاق جمع الْمَغَازِي وَالسير.

الراضي بالله

(الراضي بِاللَّه) أَبُو الْعَبَّاس، مُحَمَّد بن المقتدر بِاللَّه جَعْفَر بن المعتضد أَحْمد بن ولي الْعَهْد، الْمُوفق طَلْحَة بن المتَوَكل جَعْفَر. الْهَاشِمِي، العباسي، أَمِير الْمُؤمنِينَ. بُويِعَ بالخلافة بعد عَمه القاهر - حَسْبَمَا تقدم ذكره - بَعْدَمَا سمل القاهر سنة إثنتين وَعشْرين وثلثمائة. ومولد الراضي فِي سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ. وَأمه أم ولد رُومِية تسمى: ظلوم. وَكَانَ الراضي قَصِيرا، أسمرا، نحيفا، فِي وَجهه طول. قلت: وَفِي أَيَّامه ضعف أَمر الْخلَافَة وانحل أمرهَا، حَتَّى لم يبْق للخلفاء من الْبِلَاد سوى بَغْدَاد وَمَا والاها. وَعظم فِي أَيَّامه أَمر الْحَنَابِلَة بِبَغْدَاد حَتَّى صَارُوا يكبسون دور الْأُمَرَاء والقواد؛ فَإِن وجدوا نبيذا أراقوه، أَو قنينة كسروها. ثمَّ اعْترضُوا على النَّاس فِي البيع وَالشِّرَاء. إنتهى.

وَقَالَ [أَبُو بكر] الْخَطِيب: وَكَانَ للراضي فَضَائِل، مِنْهَا: أَنه آخر خَليفَة لَهُ شعر مدون، [وَآخر خَليفَة انْفَرد بتدبير الجيوش، وَآخر خَليفَة خطب يَوْم الْجُمُعَة] ، وَآخر خَليفَة جَالس الندماء. وَكَانَت جوائزه وأموره على تَرْتِيب [الْخُلَفَاء] الْمُتَقَدِّمين. إنتهى. قلت: وَتُوفِّي الراضي فِي [شهر] ربيع الأول سنة تسع وَعشْرين وثلثمائة.

المتقي بالله

(المتقي بِاللَّه) أَبُو إِسْحَاق، إِبْرَاهِيم بن المقتدر بِاللَّه جَعْفَر، الْهَاشِمِي، العباسي، الْبَغْدَادِيّ، أَمِير الْمُؤمنِينَ. بُويِعَ بالخلافة لما مَاتَ أَخُوهُ الراضي. وَأمه أم ولد تسمى: خلوب. وَلما تخلف المتقي كَانَت فِي أَيَّامه حروب وَفتن وزلازل أَقَامَت تعاود النَّاس سِتَّة أشهر حَتَّى خربَتْ الْبِلَاد. وَفِي أَيَّامه أرسل ملك الرّوم يطْلب مِنْهُ منديلا زعم أَن الْمَسِيح مسح بِهِ وَجهه؛ فَصَارَت صُورَة وَجهه فِيهِ - وَكَانَ هَذَا المنديل فِي كَنِيسَة الرها -. وَأرْسل ملك الرّوم يَقُول للمتقي: إِن أرْسلت إِلَيّ هَذَا المنديل أطلقت لَك عشرَة آلَاف أَسِير من الْمُسلمين. فأحضر المتقي الْفُقَهَاء واستفتاهم؛ فَقَالُوا: أرسل هَذَا المنديل؛ فَفعل وَأطلق الأسراء.

وَأما الحروب الَّتِي كَانَت فِي أَيَّامه فكثيرة، [وَكَانَ] بَينه وَبَين توزون التركي [خطوب وحروب] يطول شرحها. وَآخر الْحَال أَنه لما كَانَ رَابِع الْمحرم سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وثلثمائة توجه المتقي من الرقة إِلَى جِهَة بَغْدَاد، وَكَانَ خرج مِنْهَا فِي حَرْب كَانَ بَينه وَبَين توزون وَغَيره؛ فَنزل المتقي بهيت وَبعث القَاضِي أَبَا الْحسن الْخرقِيّ إِلَى توزون وَابْن شيرزاد؛ فَأَعَادَ الْأَيْمَان عَلَيْهِمَا. وَخرج توزون وتقدمه [ابْن شيرزاد] ، فَالْتَقَيَا بالمتقي بَين الأنبار وهيت. وَقَالَ المَسْعُودِيّ: لما التقى توزون بالمتقي ترجل وَقبل الأَرْض؛ فَأمره المتقي بالركوب؛ فَلم يفعل، وَمَشى بَين يَدَيْهِ إِلَى المخيم الَّذِي ضربه. فَلَمَّا نزل المتقي قبض عَلَيْهِ توزون وعَلى ابْن مقلة وَمن مَعَه، ثمَّ كحل توزون المتقي؛ فصاح المتقي وَصَاح النِّسَاء؛ فَأمر توزون بِضَرْب الدبادب حول المخيم سَاعَة، ثمَّ أَدخل المتقي بَغْدَاد مسمول الْعَينَيْنِ، وَقد أَخذ مِنْهُ الْخَاتم والبردة والقضيب. وَبلغ القاهر - الَّذِي كَانَ خلع من الْخلَافَة وسمل - فَقَالَ: صرنا إثنين ونحتاج إِلَى ثَالِث - يعرض بالمستكفي الَّذِي نَصبه توزون بالْأَمْس فِي الْخلَافَة؛

[فَكَانَ كَمَا قَالَ - على مَا سَيَأْتِي ذكره - ثمَّ أحضر توزون عبد الله بن المكتفي وَبَايَعَهُ بالخلافة] ولقبه بالمستكفي بِاللَّه. وَكَانَت [خلَافَة المتقي] نَحْو أَربع سِنِين. وعاش بعد خلعه وسمله خمْسا وَعشْرين سنة. وَالْعجب أَن توزون لما فعل بالمتقي مَا فعل لم يحل عَلَيْهِ الْحول وَمَات من سنته.

المستكفي بالله

(المستكفي بِاللَّه) أَبُو الْقَاسِم، عبد الله بن المكتفي بِاللَّه عَليّ بن المعتضد أَحْمد. العباسي، الْهَاشِمِي، الْبَغْدَادِيّ، أَمِير الْمُؤمنِينَ. بُويِعَ بالخلافة بَعْدَمَا كحل المتقي فِي عشْرين صفر سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وثلثمائة، وعمره إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سنة. قَالَ ثَابت: أحضر توزون عبد الله بن المكتفي وَبَايَعَهُ بالخلافة، ولقبه: المستكفي بِاللَّه. إنتهى. قلت: أم المستكفي أم ولد تسمى: فضَّة. وَفِي أَيَّامه استولى معز الدولة أَحْمد بن بويه على الأهواز وَالْبَصْرَة وواسط؛ فَخرج إِلَيْهِ توزون؛ فَكَانَ بَينهمَا حروب [يطول شرحها] ، دَامَت أشهرا، ثمَّ مَاتَ [توزون] بالصرع فِي السّنة. وَفِي أَيَّامه كَانَ بَين الأخشيد صَاحب مصر [وَبَين] سيف الدولة صَاحب حلب حروب، وَملك الأخشيد حلب مِنْهُ، ثمَّ اصطلحا، وَتزَوج سيف الدولة ببنت أخي الأخشيد.

وَفِي سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وثلثمائة لقب المستكفي نَفسه: ((إِمَام الْحق)) ، وَدخل معز الدولة أَحْمد بن بويه بَغْدَاد - وَهُوَ أول من ملكهَا من الديلم بِإِذن المستكفي غصبا عَلَيْهِ - ودام أشهرا. ثمَّ وَقعت الوحشة بَينه وَبَين المستكفي فِي جُمَادَى الْآخِرَة [من] سنة أَربع وَثَلَاثِينَ الْمَذْكُورَة، وَدخل معز الدولة بحواشيه على الْخَلِيفَة المستكفي؛ فَوقف وَالنَّاس وقُوف على مَرَاتِبهمْ؛ فَتقدم إثنان من الديلم فطلبا من الْخَلِيفَة الرزق؛ فَمد الْخَلِيفَة يَده إِلَيْهِمَا - ظنا مِنْهُ أَنَّهُمَا يُريدَان تقبيلها - فجذباه من السرير وطرحاه إِلَى الأَرْض، وجراه بعمامته. وهجم الديلم دَار الْخلَافَة إِلَى الْحرم، ونهبوا، وقبضوا على القهرمانة وخواص الْخَلِيفَة. وَمضى معز الدولة إِلَى منزله، وَسَاقُوا المستكفي مَاشِيا إِلَيْهِ. وَلم يبْق فِي دَار الْخلَافَة شئ. وخلع المستكفي، ثمَّ سلمت يَوْمئِذٍ عَيناهُ، فَصَارَ ثَالِث خَليفَة قد سمل - كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ القاهر المسمول أَولا حَسْبَمَا تقدم -. فَكَانَت خلَافَة المستكفي سنة وَأَرْبَعَة أشهر ويومين. وَتُوفِّي بعد ذَلِك فِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ، وعمره سِتا وَأَرْبَعُونَ سنة. ثمَّ أحضر معز الدولة أَبَا الْقَاسِم الْفضل بن المقتدر [جَعْفَر] وَبَايَعُوهُ بالخلافة، ولقبوه: [الْمُطِيع بِاللَّه] .

المطيع لله

(الْمُطِيع لله) أَبُو الْقَاسِم، الْفضل بن المقتدر جَعْفَر [بن المعتضد أَحْمد بن ولي الْعَهْد الْمُوفق طَلْحَة بن المتَوَكل جَعْفَر] . الْهَاشِمِي، العباسي، الْبَغْدَادِيّ، أَمِير الْمُؤمنِينَ. بُويِعَ بالخلافة [فِي] سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وثلثمائة بعد خلع المستكفي وسمله. وَأمه أم ولد تسمى: شغلة. ومولده فِي أول سنة إِحْدَى وثلثمائة. وَتمّ أمره وطالت أَيَّامه. وَفِي أَيَّامه كَانَت بِمصْر زلازل عَظِيمَة، عاودت النَّاس أشهرا، وَخرب بِسَبَبِهَا عدَّة بِلَاد، وسكنت النَّاس الصَّحرَاء. وَفِي أَيَّامه أمْطرت بَغْدَاد حَصى، زنة كل حَصَاة رَطْل؛ فقتلت خلقا كثيرا من النَّاس وَالدَّوَاب وَالطير.

وَفِي أَيَّامه أَيْضا وَردت محَاضِر شَرْعِيَّة عَلَيْهِ أَنه: خسف بِمِائَة وَخمسين قَرْيَة من أَرض الرّيّ وَأَرْض الطالقان وَصَارَت كلهَا نَارا، وتقطعت الأَرْض، فطلع مِنْهَا دُخان عَظِيم، وقذفت الأَرْض جَمِيع مَا فِي بَطنهَا حَتَّى عِظَام الْمَوْتَى من الْقُبُور. قَالَه ابْن الْجَوْزِيّ، ثمَّ قَالَ: وَوَقع حريق [عَظِيم] بِمصْر احترقت فِيهِ: قيسارية الْعَسَل، وسوق الزياتين، وَألف وَسَبْعمائة دَار. ونادى كافور الأخشيدي: من جَاءَ بجرة مَاء فَلهُ دِرْهَم؛ فَكَانَ جملَة مَا صرف على المَاء أَرْبَعَة عشر ألف دِينَار. (وَفِي أَيَّامه حاصر الرّوم [حلب] ، وفتحوها بِالسَّيْفِ، واستولوا عَلَيْهَا، وَوَضَعُوا فِي أَهلهَا السَّيْف تِسْعَة أَيَّام، وَأخذُوا من أَهلهَا تِسْعَة عشر ألف صبي وصبية، وَأخذُوا من دَار سيف الدولة بن حمدَان ثَلَاثَة آلَاف ألف دِرْهَم، وحملوا جَمِيع مَا كَانَ فِيهَا من الْأَمْوَال، وَمَا عجزوا عَن حمله أحرقوه) . وَفِي أَيَّامه - فِي سنة تسع وَأَرْبَعين وثلثمائة - أسلم من التّرْك مِائَتَا ألف خركاة، وحضروا إِلَى دَار الْإِسْلَام بأهلهم وَأَمْوَالهمْ.

ثمَّ فِي سنة إثنتين وَخمسين وثلثمائة أرسل بطارقة الأرمن إِلَى نَاصِر الدولة بن حمدَان رجلَيْنِ ملتصقين من تَحت إبطهما، وَلَهُمَا بطْنَان وسرتان وفرجان، ومقعدان، وكل مِنْهُمَا كَامِل الْأَطْرَاف؛ فَأَرَادَ نَاصِر الدولة افصالهما؛ فأحضر الْأَطِبَّاء فسألوهما: هَل تجوعان وتعطشان مَعًا؟ قَالَا: نعم. فَقَالَ الْأَطِبَّاء: مَتى فصلناهما مَاتَا. وَذكر أَبوهُمَا أَنَّهُمَا يختصمان فِي بعض الْأَوْقَات ويقيمان مُدَّة لَا يتكلمان، ثمَّ يصطلحان. وَزَاد بَعضهم فَقَالَ: إِنَّه كَانَ أَحدهمَا يمِيل إِلَى النِّسَاء وَالْآخر إِلَى الصّبيان. ثمَّ مَاتَ الْوَاحِد؛ فربطوه بِحَبل حَتَّى انْقَطع، وَبَقِي الآخر مُدَّة [بعده] ، ثمَّ مَاتَ. وَفِي أَيَّام الْمُطِيع هَذَا دخل الْمعز أَبُو تَمِيم الْعلوِي المغربي إِلَى مصر وملكها، وَبَطل إسم الْمُطِيع من الْخطْبَة مِنْهَا وَمن أَعمالهَا. وَاسْتمرّ الْمُطِيع فِي الْخلَافَة إِلَى سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ [وثلثمائة] أظهر مَا كَانَ يستره من مَرضه وَتعذر الْحَرَكَة، وَثقل لِسَانه من الفالج الَّذِي اعتراه؛ فَدَعَاهُ الْحَاجِب عز الدولة سبكتكين إِلَى خلع نَفسه من الْخلَافَة، وَيسلم الْأَمر إِلَى وَلَده الطائع؛ فَفعل ذَلِك.

وَعقد للطائع فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَالِث عشر ذِي الْحجَّة [من] سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ [الْمَذْكُورَة] . وَاسْتمرّ الطائع فِي الْخلَافَة؛ فَكَانَت مُدَّة خلَافَة الْمُطِيع [هَذَا] تسعا وَعشْرين سنة وَأَرْبَعَة أشهر وَأَرْبَعَة وَعشْرين يَوْمًا. وَصَارَ الْمُطِيع بعد أَن خلع من الْخلَافَة يُسمى: الشَّيْخ الْفَاضِل، وَصَارَ فِي خلَافَة وَلَده مكرما، إِلَى أَن مَاتَ بعد أشهر فِي محرم سنة أَربع وَسِتِّينَ [وثلثمائة] . وَكَانَ هُوَ وَابْنه مستضعفين [مَعَ] بني بويه.

الطائع لله

(الطائع لله) أَبُو بكر، عبد الْكَرِيم بن الْمُطِيع [الْفضل] . الْهَاشِمِي، العباسي، أَمِير الْمُؤمنِينَ. بُويِعَ بالخلافة لما خلع أَبوهُ الْمُطِيع نَفسه فِي ذِي الْحجَّة سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ، واستخلف فِي حَيَاة وَالِده. وَأمه أم ولد تسمى: عتب. كَانَ [مَرْبُوع الْقَامَة] ، كَبِير الْأنف، أَبيض أشقر. وَقَالَ أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ: وَلما ولي الطائع الْخلَافَة ركب وَعَلِيهِ الْبردَة وَمَعَهُ الْجَيْش، وَبَين يَدَيْهِ سبكتكين الْحَاجِب، وَعقد لَهُ اللِّوَاء. وَقَالَ غَيره: وَفِي أَيَّام الطائع - فِي سنة خمس وَسبعين وثلثمائة - خرج طَائِر من [الْبَحْر بعمان]- ولونه أَبيض - بِقدر الْفِيل؛ فَقعدَ على تل هُنَاكَ وَصَاح بِصَوْت فصيح: قد قرب الْأَمر - ثَلَاث مَرَّات - ثمَّ غاص فِي الْبَحْر، ثمَّ طلع فِي الْيَوْم الثَّانِي وَقَالَ مثل ذَلِك، ثمَّ طلع فِي الْيَوْم الثَّالِث وَقَالَ مثل ذَلِك، ثمَّ غَابَ فَلم يطلع. إنتهى.

وَاسْتمرّ الطائع فِي الْخلَافَة إِلَى سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وثلثمائة. فَلَمَّا كَانَ [فِي] شعْبَان من السّنة خلع [الطائع] من الْخلَافَة، وَسَببه: أَن أَبَا الْحسن [بن] الْمعلم كَانَ من خَواص بهاء الدولة بن بويه؛ فحبسه الطائع؛ فجَاء بهاء الدولة إِلَى الْخَلِيفَة - وَقد جلس [الْخَلِيفَة الطائع] فِي الرواق مُتَقَلِّدًا سَيْفا - فَلَمَّا قرب بهاء الدولة قبل الأَرْض، وَجلسَ على كرْسِي على عَادَته. فَلَمَّا تمّ جُلُوسه تقدم رجال من أَصْحَاب بهاء الدولة؛ فجذبوا الطائع بحمائل سَيْفه من سَرِيره، وتكاثر عَلَيْهِ الديلم؛ فلفوه فِي كسَاء، وَحمل فِي زبزب، وأصعد إِلَى دَار المملكة - أَعنِي دَار بهاء الدولة -. وشاش الْبَلَد، وَظن أَكثر الْجند أَن الْقَبْض [على بهاء الدولة] ؛ فوقعوا فِي النهب، وشلح من حضر من الْأَشْرَاف والعدول. وَقبض على الرئيس [عَليّ] بن عبد الْعَزِيز [بن] حَاجِب النُّعْمَان فِي جمَاعَة وصودروا. ثمَّ رَجَعَ بهاء الدولة إِلَى دَاره وَأظْهر أَمر الْقَادِر بِاللَّه، وَأَنه الْخَلِيفَة، وَنُودِيَ لَهُ فِي الْأَسْوَاق. وَكتب عَن الطائع كتابا بخلع نَفسه، وَأَنه سلم الْأَمر إِلَى الْقَادِر بِاللَّه. وَشهد عَلَيْهِ الأكابر والأشراف. وعاش الطائع بعد ذَلِك، إِلَى أَن مَاتَ فِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وثلثمائة. وَكَانَت خِلَافَته نَحْو ثَمَانِي عشرَة سنة.

القادر بالله

(الْقَادِر بِاللَّه) أَبُو الْعَبَّاس، أَحْمد بن الْأَمِير إِسْحَاق بن المقتدر جَعْفَر بن المعتضد أَحْمد [بن] ولي الْعَهْد الْمُوفق طَلْحَة بن المتَوَكل جَعْفَر بن المعتصم مُحَمَّد ابْن الرشيد هَارُون. العباسي، الْهَاشِمِي، الْبَغْدَادِيّ، أَمِير الْمُؤمنِينَ. بُويِعَ بالخلافة بعد خلع الطائع، وَتمّ أمره. وَأمه أم ولد تسمى: يمن، مولاة عبد الْوَاحِد بن المقتدر. وَكَانَت دينة خيرة، توفيت سنة تسع وَتِسْعين وثلثمائة. [بُويِعَ الْقَادِر بالخلافة عِنْد قبض الطائع] فِي حادي عشر شهر رَمَضَان سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وثلثمائة. ومولده فِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وثلثمائة. وَكَانَ أَبيض، كث اللِّحْيَة طويلها، يخضب بِالسَّوَادِ. وَكَانَ من أهل السّتْر والصيانة، وَكَثْرَة الصَّدقَات، ولديه فَضِيلَة وتفقه. وصنف كتابا فِي الْأُصُول، ذكر فِيهَا فَضَائِل الصَّحَابَة، وأكفار الْمُعْتَزلَة، والقائلين بِخلق الْقُرْآن.

وَكَانَ ذَلِك الْكتاب يقْرَأ فِي كل جُمُعَة، فِي حَلقَة أَصْحَاب الحَدِيث بِجَامِع الْمهْدي بِحَضْرَة النَّاس مُدَّة خِلَافَته، وَهِي إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سنة وَثَلَاثَة أشهر. وَفِي أَيَّامه غزا يمن الدولة مَحْمُود بن سبكتكين بِلَاد الْهِنْد، وَفتح بلادا كَثِيرَة، وغنم أَمْوَالًا عَظِيمَة، أهْدى إِلَى الْقَادِر مِنْهَا هَدِيَّة جليلة، مِنْهَا: صنم [من] ذهب زنته أَرْبَعمِائَة رَطْل، وَقطعَة ياقوت أَحْمَر فِي صُورَة إمرأة زنتها سِتُّونَ مِثْقَالا، وَهِي تضئ كالقنديل. وَفِي أَيَّامه أحضر إِلَى بَغْدَاد بِرَجُل [من] يَأْجُوج وَمَأْجُوج قد ألقته الرّيح من فَوق السد، طوله ذِرَاع، ولحيته شبران، وَله أذنان عظيمان؛ فطافوا بِهِ مَدِينَة بَغْدَاد حَتَّى رَآهُ النَّاس. وطالت أَيَّام الْقَادِر، إِلَى أَن توفّي لَيْلَة الأثنين حادي عشر ذِي الْحجَّة سنة إثنتين وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة. وخلافته إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سنة [وَثَلَاثَة أشهر] . وعاش سبعا وَثَمَانِينَ سنة إِلَّا شهرا وَثَمَانِية أَيَّام. وَدفن بدار الْخلَافَة، وَصلى عَلَيْهِ وَلَده الْخَلِيفَة الْقَائِم بِأَمْر الله والخلق وَرَاءه. وَلم يزل مَدْفُونا فِي الدَّار حَتَّى نقل تابوته فِي مركب لَيْلًا إِلَى الرصافة؛ فَدفن بهَا بعد عشرَة أشهر من مَوته. وَكَانَ من أحسن الْخُلَفَاء سيرة - رَحمَه الله [تَعَالَى]-.

القائم بالله

(الْقَائِم بِاللَّه) أَبُو جَعْفَر، عبد الله بن الْقَادِر أَحْمد بن [الْأَمِير إِسْحَاق] بن المقتدر جَعْفَر ابْن المعتضد أَحْمد بن ولي الْعَهْد الْمُوفق طَلْحَة بن المتَوَكل جَعْفَر بن المعتصم مُحَمَّد بن الرشيد هَارُون بن الْمهْدي مُحَمَّد بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور [عبد الله بن مُحَمَّد] بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس. الْهَاشِمِي، العباسي، الْبَغْدَادِيّ. بُويِعَ بالخلافة [بعد وَفَاة] وَالِده الْقَادِر بِاللَّه فِي ذِي الْحجَّة سنة إثنتين وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة. وَأمه وَأم ولد تسمى: قطر. وَتمّ أمره فِي الْخلَافَة. وَوَقع فِي أَيَّام خِلَافَته فِي سنة ثَمَان وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة غلاء عَم [الدُّنْيَا كلهَا شرقا وغربا] ، حَتَّى لم يبْق من النَّاس فِي كل بلد إِلَّا الْقَلِيل. ثمَّ وَقع فِي أَيَّامه [فِي] سنة إثنتين وَثَلَاثِينَ زلازل عَظِيمَة بالقيروان وبلاد إفريقية، وَخسف بِبَعْض بِلَاد القيروان، وطلع من الْخَسْف دُخان عَظِيم

اتَّصل بالجو، وَوَقع بِبِلَاد خوزستان قِطْعَة حَدِيد من الْهَوَاء زنتها مائَة وَخَمْسُونَ [منا] ، فَكَانَ لَهَا دوِي عَظِيم سقط مِنْهَا الْحَوَامِل؛ فَأَخذهَا السُّلْطَان، وَأَرَادَ أَن يعْمل مِنْهَا سَيْفا؛ فَكَانَت الْآلَات لَا تعْمل فِيهَا، وكل آلَة ضربوها بهَا تَكَسَّرَتْ. وَوَقعت بِبِلَاد تبريز زَلْزَلَة عَظِيمَة هدمتها كلهَا حَتَّى القلعة والسور، وَمَات تَحت الرَّدْم تَقْدِير مائَة ألف إِنْسَان، وَلبس أَهلهَا المسوح، وَتَضَرَّعُوا إِلَى الله [تَعَالَى] ؛ لعظم هَذِه النَّازِلَة. وَفِي سنة سِتّ وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة أشيع بِبَغْدَاد وبالشام أَن جمَاعَة من الأكراد خَرجُوا يتصيدون؛ فَرَأَوْا فِي الْبَريَّة خيمة سَوْدَاء وسمعوا فِيهَا بكاء عَظِيما [ولطما] شَدِيدا، [وسمعوا قَائِلا] يَقُول: قد مَاتَ سيدوك ملك الْجِنّ وَأي بلد لم تبك أَهله وَلم تلطم عَلَيْهِ قلعناه من أَصله. فَكَانَت النَّاس الضُّعَفَاء الْعُقُول من الرِّجَال وَالنِّسَاء يخرجُون إِلَى الْمَقَابِر وينوحون ويلطمون. وَفِي سنة سِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة كَانَت بِمصْر وَالشَّام زلازل عَظِيمَة حَتَّى خربَتْ أَكثر الْبِلَاد، وَزَالَ الْبَحْر عَن السَّاحِل؛ فَنزل النَّاس يلتقطون مِنْهُ السّمك؛ فَرجع عَلَيْهِ الْبَحْر؛ فَغَرقُوا جَمِيعًا.

وطالت مُدَّة الْقَائِم [هَذَا] فِي الْخلَافَة، إِلَى أَن مَاتَ فِي شعْبَان سنة سبع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة؛ فَكَانَت خِلَافَته أَرْبعا وَأَرْبَعين سنة وَتِسْعَة أشهر إِلَّا خَمْسَة أَيَّام. وتخلف بعده حفيده؛ فَإِنَّهُ لم يخلف أَوْلَادًا؛ لقلَّة اجتماعه بِالنسَاء. قيل: إِنَّه كَانَ مرّة يُجَامع؛ فَرَأى [خيال نَفسه] فِي ضوء الشمعة؛ فاستقبح ذَلِك وَترك الْجِمَاع؛ فَقل نَسْله [لذَلِك] . وَمَات عَن حفيد لَهُ؛ فَتخلف.

المقتدر بالله

(المقتدر بِاللَّه) أَبُو الْقَاسِم، عبد الله بن الْأَمِير مُحَمَّد الذَّخِيرَة بن الْقَائِم عبد الله بن الْقَادِر أَحْمد بن الْأَمِير إِسْحَاق بن المقتدر جَعْفَر بن المعتضد أَحْمد ابْن ولي الْعَهْد الْمُوفق طَلْحَة بن المتَوَكل جَعْفَر بن المعتصم مُحَمَّد بن الرشيد هَارُون. العباسي، الْهَاشِمِي، الْبَغْدَادِيّ، أَمِير الْمُؤمنِينَ. بُويِعَ بالخلافة بعد موت جده الْقَائِم [بِاللَّه] فِي شعْبَان سنة سبع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة. وَولد فِي يَوْم مَاتَ أَبوهُ ذخيرة الدّين مُحَمَّد، ورباه جده الْقَائِم، وَلما كبر عهد إِلَيْهِ. وَأمه أم ولد اسْمهَا: أرجوان. وَتمّ أمره فِي الْخلَافَة، وطالت أَيَّامه وَحسنت. وَظهر فِي أَيَّامه آثَار حَسَنَة، غير أَنه ظهر فِي أَيَّامه زلازل كَثِيرَة بعدة أقاليم حَتَّى خربَتْ أَكثر الْبِلَاد، وَفَارَقت النَّاس الدّور وسكنت البراري.

ودام فِي الْخلَافَة، إِلَى أَن توفّي بِبَغْدَاد فِي الْمحرم سنة سبع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة. وَكَانَت خِلَافَته تسع عشرَة سنة وَثَمَانِية أشهر، وتخلف بعده ابْنه [المستظهر [ب] الله أَحْمد - رَحمَه الله تَعَالَى -] .

المستظهر بالله

(المستظهر بِاللَّه) أَبُو الْعَبَّاس، أَحْمد بن الْمُقْتَدِي بِاللَّه عبد الله. - قد مر [نسب هَؤُلَاءِ الْخُلَفَاء] فِي مَوَاطِن كَثِيرَة، فَلَا حَاجَة إِلَى ذكرهَا هُنَا، وَفِيمَا يَأْتِي إِلَّا لضَرُورَة -. بُويِعَ المستظهر بالخلافة يَوْم مَاتَ أَبوهُ فِي محرم سنة سبع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة. وَأمه أم ولد، تركية تسمى: الطن. قَالَ ابْن الْأَثِير: كَانَ المستظهر لين الْجَانِب، كريم الْأَخْلَاق، يُسَارع إِلَى أَعمال الْبر، وَكَانَت أَيَّامه أَيَّام سرُور للرعية، وَكَانَ حسن الْخط، جيد التوقيعات، لَا يُقَارِبه فِيهَا أحد، يدل على فضل غزير وَعلم وَاسع. إنتهى. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: كَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ، محبا للْعُلَمَاء وَالصَّالِحِينَ. وَقَالَ غَيره: كَانَ فَاضلا، أديبا شَاعِرًا.

وَمن شعره [من] قصيدة: (يَوْمًا مددت إِلَى رسم الْوَدَاع يدا ... ) وَهَذِه قصيدة طَوِيلَة طنانة. قَالَ: وَفِي أَيَّامه اجْتمع الْحجَّاج بخراسان وَالْعراق والسند والهند وَمَا وَرَاء النَّهر، وَسَارُوا إِلَى الْحَج؛ فَلَمَّا وصلوا قَرِيبا من الرّيّ أَتَاهُم الباطنية وَقت السحر وقاتلوهم وَوَضَعُوا فيهم السَّيْف؛ فَقَتَلُوهُمْ عَن آخِرهم، وَأخذُوا جَمِيع أَمْوَالهم؛ فَعظم ذَلِك على المستظهر، وَلم ينْهض بشئ لضعف شوكته ولتحكم غَيره من مُلُوك السلجوقية فِي الممالك. ثمَّ فِي أَيَّامه فِي سنة إثنتين وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة ملكت الفرنج بَيت الْمُقَدّس من بني عبيد خلفاء مصر، وَأَقَامُوا يقتلُون فِي الْمُسلمين سَبْعَة أَيَّام، وَقتلُوا فِي الْمَسْجِد الْأَقْصَى مَا يزِيد عَن سبعين ألف [نفس] من الْعلمَاء وَالصَّالِحِينَ - قَالَه غير وَاحِد - وغنموا مَالا يَقع عَلَيْهِ (الإحصاء. [قلت: كَانَ أَخذ [بَيت] ) الْمُقَدّس من سوء تَدْبِير المستعلي بِاللَّه [أَحْمد - أحد الْخُلَفَاء الفاطميين بِمصْر - فَإِنَّهُ كَانَ ضع) ف أمره، وَخَربَتْ غَالب أَعمال مصر فِي أَيَّامه وَأَيَّام غَيره من الفاطميين.

وَاسْتولى الفرنج على غَالب السواحل الشامية؛ لِأَنَّهُ كَانَ من مَدِينَة حلب إِلَى أقْصَى صَعِيد مصر مُتَعَلق بخلفاء مصر مَعَ الْحَرَمَيْنِ الشريفين، وَمَا عدا ذَلِك من بِلَاد الشرق كَانَ مَعَ خلفاء بني الْعَبَّاس هَؤُلَاءِ. وَأما خلفاء مصر؛ فَيَأْتِي ذكرهم فِي هَذَا الْكتاب بعد فرَاغ تراجم بني الْعَبَّاس على حدتهم، من أَوَّلهمْ إِلَى آخِرهم - إِن شَاءَ الله تَعَالَى -. وَمَات المستظهر فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء الثَّالِث وَالْعِشْرين من شهر ربيع الآخر سنة إثنتي عشرَة وَخَمْسمِائة. وخلافته أَربع وَعِشْرُونَ سنة وَثَلَاثَة أشهر. وتخلف بعده وَلَده [المسترشد بِاللَّه الْفضل] .

المسترشد بالله

(المسترشد بِاللَّه) [أَبُو مَنْصُور، الْفضل] بن المستظهر [بِاللَّه] أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْمُقْتَدِي بِاللَّه، أَبُو الْقَاسِم عبد الله. العباسي، الْهَاشِمِي، الْبَغْدَادِيّ، أَمِير الْمُؤمنِينَ. بُويِعَ بالخلافة بعد موت أَبِيه فِي شهر ربيع الآخر سنة إثنتي عشرَة وَخَمْسمِائة. وَأمه أم ولد تسمى: لبَابَة، ومولده فِي حُدُود سنة خمس وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة. وَكَانَ المسترشد شهما شجاعا، ذَا همة وَمَعْرِفَة وعقل. وَكَانَ دينا مشتغلا بِالْعبَادَة، سلك فِي الْخلَافَة سيرة الْقَادِر، وَقَرَأَ الْقُرْآن، وَسمع الحَدِيث، وَقَالَ الشّعْر، وَمن شعره: (أَنا الْأَشْقَر الْمَوْعُود بِي فِي الْمَلَاحِم ... وَمن يملك الدُّنْيَا بِغَيْر مُزَاحم) وَكَانَ المسترشد لما تَغَيَّرت أَحْوَال مَمْلَكَته صَار يُبَاشر الْقِتَال بِنَفسِهِ؛ فَمَاتَ قَتِيلا فِي سَابِع [عشر] ذِي الْقعدَة سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة.

وَسَببه: أَنه خرج فِي عساكره؛ [لقِتَال مَسْعُود بن مُحَمَّد شاه بن ملكشاه السلجوقي؛ فَخَالف عَلَيْهِ عسكره] ؛ فانكسر وَانْهَزَمَ؛ فَأرْسل سنجر شاه - عَم مَسْعُود الْمَذْكُور - يلوم مَسْعُود فِي قتال الْخَلِيفَة المسترشد؛ فَرجع مَسْعُود عَن قِتَاله، وَضرب لَهُ السرادق، وَطَلَبه وأنزله بِهِ. فَلَمَّا نزل المسترشد بالسرادق وصل رَسُول سنجر شاه السلجوقي إِلَى الْخَلِيفَة وَمَعَهُ سَبْعَة عشر نَفرا من الباطنية فِي زِيّ الغلمان؛ فَدَخَلُوا على الْخَلِيفَة المسترشد وضربوه بالسكاكين حَتَّى قَتَلُوهُ، وَقَطعُوا أَنفه وَأُذُنَيْهِ، وَقتلُوا من كَانَ عِنْده. وعادت العساكر فأحدقت بالسرادق، وَخرج الباطنية والسكاكين فِي أَيْديهم فِيهَا الدَّم؛ فمالت العساكر عَلَيْهِم فَقَتَلُوهُمْ، ثمَّ أحرقوهم. وغطي الْخَلِيفَة بسندسية خضراء، لفوه فِيهَا. وَدفن على حَاله بِبَاب مراغة. وعمره خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ سنة، وخلافته سبع عشرَة سنة وَثَمَانِية أشهر وأياما، واستخلف بعده ابْنه [الراشد] ، وَكَانَ بِبَغْدَاد.

الراشد بالله

الراشد بِاللَّه أَبُو جَعْفَر مَنْصُور [ابْن الْخَلِيفَة المسترشد بِاللَّه أبي مَنْصُور الْفضل] ابْن الْخَلِيفَة المستظهر بِاللَّه أَحْمد. العباسي، الْهَاشِمِي، الْبَغْدَادِيّ. بُويِعَ بالخلافة بعد قتل أَبِيه فِي ذِي الْقعدَة سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة. ومولده فِي سنة إثنتين وَخَمْسمِائة. وَأمه أم ولد حبشية. وَيُقَال: إِن الراشد هَذَا ولد مسدودا؛ فأحضر أَبوهُ المسترشد [الْأَطِبَّاء] ؛ فأشاروا أَن يفتح لَهُ مخرج بِآلَة من ذهب؛ فَفعل ذَلِك؛ فنفع. وَحكى عَن الراشد هَذَا أَيْضا: أَن وَالِده أعْطى لَهُ عدَّة جوَار وعمره أقل من تسع سنوات، وأمرهن أَن يلاعبنه. وَكَانَت فِيهِنَّ جَارِيَة حبشية؛ فَحملت من الراشد. فَلَمَّا ظهر الْحمل وَبلغ المسترشد أنكرهُ؛ الصغر سنه، وسألها؛ فَقَالَت: وَالله مَا تقدم إِلَيّ غَيره وَأَنه احْتَلَمَ؛ فَسَأَلَ المسترشد بَاقِي الْجَوَارِي؛ فَقُلْنَ كَذَلِك.

وَوضعت الْجَارِيَة صَبيا، وسمى: أَمِير الْجَيْش. وَقيل لِأَبِيهِ المسترشد: إِن صبيان تهَامَة يحتلمون لتسْع سِنِين، وَكَذَلِكَ نِسَاءَهُمْ. إنتهى. وَلم تطل خلَافَة الراشد؛ فَإِنَّهُ خرج بعد خِلَافَته بِمدَّة إِلَى الْموصل لقِتَال مَسْعُود بن مُحَمَّد شاه بن ملكشاه السلجوقي وَغَيره؛ فَلَمَّا قاربهم خذله أَصْحَابه؛ فَقبض السُّلْطَان مَسْعُود عَلَيْهِ، وخلعه من الْخلَافَة فِي يَوْم الأثنين ثامن عشر ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة. وَقَالَ صَدَقَة الْحداد الْحَنْبَلِيّ فِي تَارِيخه: إِن الْوَزير أَبَا الْقَاسِم بن طراد صدر محضرا على الراشد فِيهِ أَنْوَاع من الْكَبَائِر ارتكبها الراشد من: الْفسق والفجور، وَنِكَاح أُمَّهَات أَوْلَاد أَبِيه، وَأخذ أَمْوَال النَّاس، وَسَفك الدِّمَاء؛ وَأَنه فعل أَشْيَاء لَا [يجوز أَن] يكون مَعهَا إِمَامًا على الْمُسلمين؛ فتوقف الشُّهُود؛ فهددهم ابْن طراد وَقَالَ: علمْتُم صِحَة هَذَا؛ فَمَا الْمَانِع من إِقَامَة الشَّهَادَة؟ ! فَشَهِدُوا. وَكَانَ السُّلْطَان مَسْعُود قد جمع الْقُضَاة وَالشُّهُود والأعيان وَأخرج [لَهُم] نُسْخَة يَمِين كَانَت بَينه وَبَين الراشد أَخذهَا عَلَيْهِ بِخَطِّهِ، فِيهَا: مَتى حشدت أَو حَارَبت أَو جذبت سَيْفا فِي وَجه مَسْعُود؛ فقد خلعت نَفسِي من هَذَا الْأَمر. وفيهَا خطوط الْقُضَاة وَالشُّهُود [بذلك] ؛ فَحكم الْقُضَاة حِينَئِذٍ بخلعه؛ فَخلع وولوا المقتفي مُحَمَّد بن المستظهر عَم الراشد هَذَا. وَحبس الراشد، إِلَى أَن مَاتَ قَتِيلا فِي محبسه فِي شهر رَمَضَان سنة إثنتين وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة. وَقيل: [إِن] الَّذين قَتَلُوهُ كَانُوا جمَاعَة من الخراسانية كَانُوا بخدمته؛ فَوَثَبُوا عَلَيْهِ وقتلوه بدسيسة من مَسْعُود.

المقتفي بالله

(المقتفي بِاللَّه) أَبُو عبد الله، مُحَمَّد بن المستظهر [بِاللَّه] أَحْمد بن الْمُقْتَدِي [بِاللَّه] عبد الله بن الْأَمِير مُحَمَّد الذَّخِيرَة بن الْخَلِيفَة الْقَائِم بِاللَّه عبد [الله. العباسي] ، الْهَاشِمِي، الْبَغْدَادِيّ. بُويِعَ بالخلافة بعد خلع ابْن أَخِيه الراشد [بِاللَّه] . ومولده [فِي سنة تسع] وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة. وَأمه أم ولد، رُومِية تسمى: بغية النُّفُوس. وَقيل: نسيم. وَكَانَ المقتفي إِمَامًا عَالما فَاضلا. وَفِي أَيَّامه كَانَ بِمصْر وَالشَّام زلازل عَظِيمَة أَقَامَت تعارد النَّاس أَيَّامًا كَثِيرَة؛ حَتَّى خربَتْ أَكثر الْبِلَاد. حكى أَنَّهَا جَاءَت فِي يَوْم [وَاحِد] وَلَيْلَة وَاحِدَة تسعين مرّة.

وَفِي أَيَّامه قتلت الْعَرَب الْحجَّاج بَين مَكَّة وَالْمَدينَة، وَأخذت جَمِيع أَمْوَالهم. وَتُوفِّي المقتفي فِي يَوْم الْأَحَد ثَانِي شهر ربيع الأول سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة، وَدفن بداره بعد أَن صلى عَلَيْهِ وَلَده المستنجد يُوسُف الَّذِي تخلف بعده. وَكَانَت خِلَافَته أَرْبعا وَعشْرين سنة وَثَلَاثَة أشهر وَوَاحِد وَعشْرين يَوْمًا. وَكَانَ حسن السِّيرَة فَاضلا، أديبا، شجاعا، دمث الْأَخْلَاق، كَامِل السؤدد، خليقا للخلافة، قَلِيل الْمثل - رَحمَه الله [تَعَالَى]-.

المستنجد بالله

(المستنجد بِاللَّه) أَبُو المظفر، يُوسُف بن المقتفي بِاللَّه مُحَمَّد بن المستظهر [بِاللَّه] أَحْمد. العباسي، الْهَاشِمِي، الْبَغْدَادِيّ، أَمِير الْمُؤمنِينَ. بُويِعَ بالخلافة بعد موت أَبِيه [المقتفي] فِي سنة خمس [وَخمسين] وَخَمْسمِائة. وَأمه أم ولد كرجية تسمى: طَاوُوس، أدْركْت خِلَافَته. ومولده فِي سنة ثَمَانِي [عشرَة] وَخَمْسمِائة. قيل: إِن المستنجد [هَذَا] رأى فِي مَنَامه - فِي حَيَاة وَالِده المقتفي - كَأَن ملكا نزل من السَّمَاء؛ فَكتب فِي كَفه أَربع خاءات معجمات؛ فَلَمَّا أصبح أَوله [لَهُ] بعض المعبرين بِأَنَّهُ يَلِي الْخلَافَة فِي سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة؛ فَكَانَ كَذَلِك. وَكَانَ نقش خَاتم المستنجد: من أحب نَفسه عمل لَهَا. وَكَانَ المستنجد أسمرا، طَوِيل اللِّحْيَة، معتدل الْقَامَة، شجاعا، مهابا، عادلا فِي الرّعية، أديبا فصيحا فطنا، أَزَال الْمَظَالِم والمكوس فِي خِلَافَته. قَالَ ابْن الْأَثِير: كَانَ المستنجد فَاضلا أديبا.

وَمن شعره فِي بخيل. (فَمَا جرت من عينهَا دمعة ... حَتَّى جرت من عينه دمعة) وَكَانَت وَفَاة المستنجد فِي يَوْم السبت ثَانِي شهر ربيع الآخر سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة. وَكَانَت خِلَافَته إِحْدَى عشرَة سنة وشهرا وَاحِدًا، وتخلف [من] بعده ابْنه [المستضئ بِاللَّه حسن] .

المستضئ بالله

(المستضئ بِاللَّه) أَبُو مُحَمَّد، الْحسن بن المستنجد يُوسُف بن المتقفي بِاللَّه مُحَمَّد. أَمِير الْمُؤمنِينَ، العباسي، الْهَاشِمِي، الْبَغْدَادِيّ. بُويِعَ بالخلافة بعد موت وَالِده فِي شهر ربيع الآخر سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة. ومولده [فِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة] . وَأمه أم ولد مولدة. وَكَانَ أحسن الْخُلَفَاء سيرة؛ كَانَ إِمَامًا عادلا، شرِيف النَّفس [حسن السِّيرَة، كَرِيمًا، لَيْسَ لِلْمَالِ عِنْده قدر، حَلِيمًا] شفيقا على الرّعية، أسقط فِي أَيَّامه أَيْضا المكوس والضرائب. [وَكَانَت وَفَاته بِبَغْدَاد فِي ثَانِي ذِي الْقعدَة سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة، وَمَات عَن سِتّ وَثَلَاثِينَ سنة] ، وَكَانَت خِلَافَته تسع سِنِين. وَهُوَ الَّذِي عَادَتْ الْخطْبَة باسمه فِي الديار المصرية والبلاد الشامية والثغور.

وَاجْتمعت الْأمة فِي أَيَّامه على خَليفَة وَاحِد، وانقطعت دولة بني عبيد الفاطميين خلفاء مصر فِي أَيَّامه على يَد الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب - الْآتِي ذكره فِي مَحَله من هَذَا الْكتاب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى -. وتخلف بعده ابْنه [النَّاصِر لدين الله أَحْمد] .

الناصر لدين الله

(النَّاصِر لدين الله) [أَبُو الْعَبَّاس] ، أَحْمد بن المستضئ حسن بن المستنجد يُوسُف. العباسي، الْهَاشِمِي، الْبَغْدَادِيّ، أَمِير الْمُؤمنِينَ. بُويِعَ بالخلافة بعد موت أَبِيه المستضئ فِي أول ذِي الْقعدَة سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة. [ومولده فِي يَوْم الأثنين عَاشر شهر رَجَب سنة ثَلَاث وَخمسين وَخَمْسمِائة] . وَأمه أم ولد تركية. قَالَ الشَّيْخ شمس الدّين: وَكَانَ أَبيض اللَّوْن، تركي الْوَجْه، مليح الْعَينَيْنِ، أنور الْجَبْهَة، أقنى الْأنف، خَفِيف العارضين، أشقر اللِّحْيَة، رَقِيق المحاسن. كَانَ نقش خَاتمه: رجائي من الله عَفوه. وَلم يل الْخلَافَة من بني الْعَبَّاس قبله أطول مُدَّة مِنْهُ، إِلَّا مَا سَنذكرُهُ من خلفاء بني عبيد الْمُسْتَنْصر معد. إنتهى.

وَفِي أَيَّام النَّاصِر لدين الله [هَذَا] ظَهرت الفتوة بَغْدَاد، وَرمي البندق، وَلعب الْحمام، وتفنن النَّاس فِي ذَلِك، وَدخل فِيهِ الأجلاء ثمَّ الْمُلُوك؛ فألبسوا الْملك الْعَادِل صَاحب [مصر] ثمَّ أَوْلَاده سَرَاوِيل الفتوة، ولبسه أَيْضا الْملك شهَاب الدّين صَاحب غزنة والهند من الْخَلِيفَة النَّاصِر لدين [الله] هَذَا. ولبسه جمَاعَة أخر من الْمُلُوك. وَأما لعب الْحمام، فَخرج فِيهِ [عَن] الْحَد. يحْكى عَنهُ أَنه: لما دخلت التتار الْبِلَاد، وملكوا من وَرَاء النَّهر إِلَى الْعرَاق، وَقتلُوا تِلْكَ المقتلة الْعَظِيمَة من الْمُسلمين، الَّذِي مَا نكب الْمُسلمُونَ بأعظم مِنْهَا، دخل عَلَيْهِ الْوَزير فَقَالَ لَهُ: يَا مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ {إِن التتر قد ملكت الْبِلَاد وَقتلت الْمُسلمين. فَقَالَ لَهُ النَّاصِر [لدين الله] : دَعْنِي، أَنا فِي شَيْء أهم من ذَلِك؛ طيرتي البلقاء لي ثَلَاثَة أَيَّام مَا رَأَيْتهَا} ! قلت: وَفِي هَذِه الْحِكَايَة كِفَايَة - إِن صحت عَنهُ -. وَكَانَت وَفَاته فِي [سلخ] شهر رَمَضَان سنة إثنتين وَعشْرين وسِتمِائَة. وَكَانَت خِلَافَته سبعا وَأَرْبَعين سنة. وتخلف بعده ابْنه [الظَّاهِر] .

الظاهر بأمر الله

(الظَّاهِر بِأَمْر الله) أَبُو نصر، مُحَمَّد بن النَّاصِر لدين الله أَحْمد. العباسي، [الْهَاشِمِي] ، أَمِير الْمُؤمنِينَ. بُويِعَ بالخلافة بعد موت أَبِيه النَّاصِر [لدين الله] فِي سنة إثنتين وَعشْرين وسِتمِائَة. ومولده فِي الْمحرم سنة سبعين وَخَمْسمِائة. وَأمه أم ولد. وَكَانَ جميل الصُّورَة، أَبيض مشربا بحمرة، حُلْو الشَّمَائِل، شَدِيد الْقُوَّة. أفضت الْخلَافَة إِلَيْهِ وَله إثنتان وَخَمْسُونَ سنة إِلَّا شهرا؛ فَقيل لَهُ: أَلا تتفسح؟ ! ؛ فَقَالَ: قد فَاتَ الزَّرْع؛ فَقيل لَهُ: يُبَارك الله فِي عمرك؛ فَقَالَ: من فتح دكانا بعد الْعَصْر إيش يكْسب؟ ؛ فَكَانَ كَذَلِك. وَمَات بعد مُدَّة يسيرَة فِي ثَالِث عشر رَجَب [من] سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة. وَكَانَت خِلَافَته تِسْعَة أشهر وَنصفا. واستخلف بعده وَلَده الْمُسْتَنْصر.

وَكَانَ الظَّاهِر خيرا عادلا، قطع الظلامات والمكوس. وَكَانَ كَرِيمًا كثير الصَّدقَات. قيل: إِنَّه تصدق فِي لَيْلَة الْعِيد بِمِائَة ألف دِينَار. وَلما ولي الْخلَافَة ولى الشَّيْخ عماد الدّين بن الشَّيْخ عبد الْقَادِر الجيلي الْحَنْبَلِيّ الْقَضَاء؛ فَمَا قبل عماد الدّين إِلَّا بِشَرْط أَنه يُورث ذَوي الْأَرْحَام؛ فَقَالَ لَهُ الْخَلِيفَة: أعْط كل ذِي حق حَقه، وَاتَّقِ الله وَلَا تتق سواهُ. فَكَلمهُ القَاضِي أَيْضا فِي الأوراق الَّتِي ترفع إِلَى الْخَلِيفَة؛ وَهُوَ: أَن حراس الدروب كَانَت ترفع إِلَى الْخَلِيفَة فِي صَبِيحَة كل يَوْم مَا يكون عِنْدهم من أَحْوَال النَّاس الصَّالِحَة والطالحة؛ فَأمر الظَّاهِر بتبطيل ذَلِك، وَقَالَ: أَي فَائِدَة فِي كشف أَحْوَال النَّاس؟ فَقيل لَهُ: إِن تركت ذَلِك تفْسد الرّعية؛ فَقَالَ: نَحن ندعوا لَهُم بالإصلاح، ثمَّ أعْطى القَاضِي [الْمَذْكُور] عشرَة آلَاف دِينَار؛ لوفاء دُيُون من فِي السجون من الْفُقَرَاء.

المستنصر بالله

(الْمُسْتَنْصر بِاللَّه) أَبُو جَعْفَر، مَنْصُور بن الظَّاهِر بِأَمْر الله مُحَمَّد بن النَّاصِر لدين الله أَحْمد ابْن المستضئ بِأَمْر الله حسن بن المستنجد بِاللَّه يُوسُف. أَمِير الْمُؤمنِينَ، العباسي، الْهَاشِمِي، الْبَغْدَادِيّ. بُويِعَ بالخلافة بعد موت أَبِيه الظَّاهِر فِي شهر رَجَب سنة ثَلَاثَة وَعشْرين وسِتمِائَة. ومولده فِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة. وَأمه أم ولد تركية. وَلما ولى الْخلَافَة نشر الْعدْل فِي الرعايا وبذل الْإِنْصَاف، وَقرب أهل الْعلم وَالدّين، وَبنى الْمَسَاجِد والربط والمدارس، وَأقَام منار الدّين، وقمع المتمردين، وَنشر السّنَن، وكف الْفِتَن. وَكَانَ (أَبيض اللَّوْن) ، أشقر الشّعْر، ضخما، قَصِيرا. وَلما شَاب خضب بِالْحِنَّاءِ، ثمَّ ترك الخضاب. وَمَات فِي الْعشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة، وَقيل: فِي يَوْم الْجُمُعَة عَاشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَرْبَعِينَ وسِتمِائَة، عَن إِحْدَى وَخمسين سنة وَأَرْبَعَة أشهر وَتِسْعَة أَيَّام، وكتم مَوته.

وخطب لَهُ يَوْمئِذٍ بالجامع حَتَّى جَاءَهُ الْأَمِير شرف الدّين إقبال الشرابي الْخَادِم وَمَعَهُ جمع من الخدام، وَسلم على وَلَده المستعصم بالخلافة؛ فاستخلف [المستعصم] ، وَتمّ أمره. وَكَانَت خلَافَة الْمُسْتَنْصر تسع عشرَة سنة إِلَّا شهرا. والمستنصر هَذَا هُوَ باني الْمدرسَة المستنصرية بِبَغْدَاد الَّتِي لم يبن فِي الْإِسْلَام مثلهَا فِي كَثْرَة أوقافها (وَكَثْرَة مَا جعل فِيهَا من الْكتب) .

المستعصم بالله

(المستعصم بِاللَّه) أَبُو أَحْمد، عبد الله بن الْمُسْتَنْصر مُحَمَّد بن الظَّاهِر بِأَمْر الله مُحَمَّد. أَمِير الْمُؤمنِينَ العباسي، الْهَاشِمِي، الْبَغْدَادِيّ، آخر خلفاء بني الْعَبَّاس بِبَغْدَاد. بُويِعَ بالخلافة بعد موت أَبِيه فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَرْبَعِينَ وسِتمِائَة. وَأمه أم ولد حبشية. وَقتل فِي الْمحرم سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة. وَسبب قَتله: أَنه لما ولي الْخلَافَة لم يستوثق أمره؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَلِيل الْمعرفَة بتدبير الْملك، نَازل الهمة، مهملا للأمور المهمة، محبا لجمع الْأَمْوَال، أهمل أَمر هولاكو، وانقاد إِلَى وزيره [ابْن] العلقمي حَتَّى كَانَ فِي ذَلِك هَلَاكه وهلاك الرّعية؛ فَإِن وزيره ابْن العلقمي الرافضي كتب إِلَى هولاكو ملك التتار فِي الدس: إِنَّك تحضر إِلَى بَغْدَاد وَأَنا أسلمها [لَك]- وَكَانَ قد دَاخل [قلب] اللعين الْكفْر؛ فَكتب إِلَيْهِ هولاكو: إِن عَسَاكِر بَغْدَاد [كَثِيرَة فَإِن كنت صَادِقا فِيمَا قلته وداخلا فِي طاعتنا فرق عَسَاكِر بَغْدَاد] وَنحن نحضر. فَلَمَّا وصل كِتَابه إِلَى الْوَزير ابْن العلقمي دخل إِلَى المستعصم وَقَالَ: إِن جندك كَثِيرُونَ، وَعَلَيْك كلف كَثِيرَة، والعدو قد رَجَعَ من بِلَاد الْعَجم، وَالصَّوَاب أَنَّك تُعْطى دستورا لخمسة عشر ألف من عسكرك وتوفر معلومهم، وَعلي إِن عَاد هولاكو الْقيام بِدَفْعِهِ؛ فَأَجَابَهُ المستعصم [إِلَى ذَلِك] ؛ فَخرج الْوَزير من وقته ومحا اسْم من ذكر من الدِّيوَان، ثمَّ نفاهم من بَغْدَاد، ومنعهم من الْإِقَامَة بهَا.

ثمَّ بعد شهر فعل الْوَزير مثل فعلته [الأولى] ومحا إسم عشْرين ألف فَارس من الدِّيوَان. ثمَّ كتب إِلَى هولاكو بِمَا فعل. وَكَانَ قصد الْوَزير هَذَا بمجئ هولاكو أَشْيَاء، مِنْهَا: أَنه كَانَ رَافِضِيًّا خبيثا، وَأَرَادَ أَن ينْقل الْخلَافَة من بني الْعَبَّاس إِلَى العلويين؛ فَلم يتم لَهُ ذَلِك؛ لعظم شوكه بني الْعَبَّاس وعساكرهم؛ فأفكر أَن هولاكو إِذا قدم بَغْدَاد يقتل المستعصم وَأَتْبَاعه، ثمَّ يعود إِلَى حَال سَبيله، وَقد زَالَت شَوْكَة بني الْعَبَّاس، وَقد بَقِي هُوَ على مَا كَانَ عَلَيْهِ من العظمة [والعساكر وتدبير المملكة؛ فَيقوم عِنْد ذَلِك بدعوة العلويين الرافضة] من غير ممانع؛ لضعف العساكر ولقوته ثمَّ يضع السَّيْف فِي أهل السّنة؛ فَهَذَا كَانَ قَصده - لَعنه الله -. وَلما بلغ هولاكو مَا فعله [الْوَزير] ابْن العلقمي بِبَغْدَاد ركب فِي الْحَال وَقصد بَغْدَاد، إِلَى أَن نزل عَلَيْهَا. وَصَارَ المستعصم يَسْتَدْعِي العساكر، ويتجهز لِحَرْب هولاكو، كل ذَلِك والوزير [ابْن العلقمي] يملئ الْخَلِيفَة المفسود فِي سَائِر أَحْوَاله. هَذَا، وَقد اجْتمع أهل بَغْدَاد وتحالفوا على قتال هولاكو، وَخَرجُوا إِلَى ظَاهر بَغْدَاد، وَمَشى عَلَيْهِم هولاكو بعساكره؛ فتقاتلوا قتالا شَدِيدا، وصبر كل من الطَّائِفَتَيْنِ صبرا عَظِيما، وَكَثُرت الْجِرَاحَات والقتلى فِي الْفَرِيقَيْنِ، إِلَى أَن نصر الله تَعَالَى عَسَاكِر بَغْدَاد وانكسر [عَسْكَر] هولاكو أقبح كسرة،

وسَاق الْمُسلمُونَ خَلفهم، وأسروا مِنْهُم جمَاعَة، وعادوا بالأسرى ورءوس الْقَتْلَى إِلَى ظَاهر بَغْدَاد، ونزلوا بمخيمهم مُطْمَئِنين بهروب الْعَدو؛ فَأرْسل الْوَزير العلقمي فِي تِلْكَ اللَّيْلَة جمَاعَة من أَصْحَابه؛ فَقطعُوا شط الدجلة؛ فَخرج مَاؤُهَا على عَسَاكِر بَغْدَاد وهم نائمون؛ فغرقت مَوَاشِيهمْ وخيامهم وَأَمْوَالهمْ، وَصَارَ السعيد مِنْهُم من لَقِي فرسا يركبهَا. وَكَانَ الْوَزير قد أرسل إِلَى هولاكو يعرفهُ بِمَا فعل ويأمره بِالرُّجُوعِ إِلَى بَغْدَاد؛ فَرَجَعت عَسَاكِر هولاكو إِلَى ظَاهر بَغْدَاد؛ فَلم يَجدوا هُنَاكَ من يردهم. فَلَمَّا أصحبوا استولوا على بَغْدَاد وبذلوا فِيهَا السَّيْف، وَوَقع مِنْهُم أُمُور [يطول شرحها، لَيْسَ لذكرها] مَحل فِي هَذَا الْمُخْتَصر. وَالْمَقْصُود: أَن هولاكو استولى على بَغْدَاد، وَأخذ المستعصم أَسِيرًا -[بعد أُمُور]- ثمَّ بذل السَّيْف فِي الْمُسلمين، وَلم يرحم شَيخا كَبِيرا لكبره وَلَا صَغِيرا لصغره. وَلما أَخذ المستعصم أَسِيرًا هُوَ وَولده، وأحضر بَين يَدي هولاكو أَمر بِهِ [هولاكو] ؛ فَأخْرج من بَغْدَاد، وأنزله بمخيم صَغِير بِظَاهِر بَغْدَاد. ثمَّ [فِي] بعد عصر الْيَوْم وضع الْخَلِيفَة المستعصم وَولده فِي عَدْلَيْنِ وَأمر التتار برفسهما، إِلَى أَن مَاتَا فِي محرم سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة. ثمَّ نهبت دَار الْخلَافَة ومدينة بَغْدَاد حَتَّى لم يبْق بهَا مَا قل وَلَا مَا جلّ.

ثمَّ أحرقت بَغْدَاد بعد أَن قتل أَكثر أَهلهَا، حَتَّى قيل: إِن عدَّة من قتل فِي نوبَة هولاكو يزِيد على ألفي ألف وَثَمَانمِائَة ألف وَثَلَاثِينَ ألف إِنْسَان. وانقرضت الْخلَافَة من بَغْدَاد بقتل المستعصم هَذَا، وَبقيت الدُّنْيَا بِلَا خَليفَة سِنِين، إِلَى أَن أَقَامَ الْملك الظَّاهِر بيبرس البندقداري بعض بني الْعَبَّاس فِي الْخلَافَة - حَسْبَمَا نذكرهُ على سَبِيل الإختصار -. فَكَانَت خلَافَة المستعصم خمس عشرَة سنة وَثَمَانِية أشهر وأياما، وَتَقْدِير عمره سَبْعَة وَأَرْبَعُونَ سنة. وزالت الْخلَافَة من بَغْدَاد؛ فَقَالَ قَائِلهمْ: (خلت المنابر والأسرة مِنْهُم ... فَعَلَيْهِم حَتَّى الْمَمَات سَلام) وَأما الْوَزير العلقمي؛ فَلم يتم لَهُ مَا أرد من أَن التتار يبذلون السَّيْف مُطلقًا فِي أهل السّنة؛ فجَاء بِخِلَاف مَا أَرَادَ؛ وبذلوا السَّيْف فِي أهل السّنة والرافضة مَعًا. كل ذَلِك وَهُوَ فِي منصبه مَعَ الذل والهوان، وَهُوَ يظْهر قُوَّة النَّفس والفرح وَأَنه بلغ قَصده؛ فَلم يلبث إِلَّا أَن أمْسكهُ هولاكو بعد قتل المستعصم بأيام ووبخه بِأَلْفَاظ شنيعة، مَعْنَاهَا أَنه لم يكن لَهُ خير فِي مخدومه وَلَا فِي دينه؛ فَكيف يكون لَهُ خير فِي هولاكو؟ ! ثمَّ أَمر بِهِ هولاكو؛ فَقتل أشر قتلة فِي أَوَائِل سنة سبع وَخمسين. قلت: (إِلَى سقر، لَا دنيا وَلَا آخِرَة) .

المستنصر بالله

(الْمُسْتَنْصر بِاللَّه) أَبُو الْعَبَّاس، أَحْمد [بن] الْخَلِيفَة الظَّاهِر بِاللَّه مُحَمَّد بن النَّاصِر لدين الله [أَحْمد] بن المستضئ حسن بن المستنجد يُوسُف بن المقتفي مُحَمَّد. وَقد تقدم بَقِيَّة نسبه فِي تراجم جمَاعَة من آبَائِهِ -. بُويِعَ الْمُسْتَنْصر هَذَا بالخلافة بِالْقَاهِرَةِ. وَأمره: أَنه لما حضر إِلَى الديار المصرية فِي تَاسِع شهر رَجَب ركب السُّلْطَان [الْملك] الظَّاهِر بيبرس البندقداري؛ وَخرج إِلَى تلقيه [فِي] موكب عَظِيم، وتلقاه وأكرمه وأنزله بقلعة الْجَبَل. وَقصد السُّلْطَان إِثْبَات نسبه إِلَى الْعَبَّاس؛ وَتَقْرِيره فِي الْخلَافَة؛ لكَون الْخلَافَة كَانَت شاغرة من يَوْم قتل المستعصم بِاللَّه من سنة سِتّ وَخمسين إِلَى يَوْم تَارِيخه؛ فَعمل السُّلْطَان الموكب، وأحضر الْأُمَرَاء والقضاة وَالْعُلَمَاء وَالْفُقَهَاء والصلحاء وأعيان الصُّوفِيَّة بقاعة الأعمدة بقلعة الْجَبَل.

وَحضر السُّلْطَان وتأدب مَعَ الْمُسْتَنْصر، وَجلسَ بِغَيْر مرتبَة وَلَا كرْسِي. وَأمر بإحضار العربان الَّذين حَضَرُوا مَعَ الْمُسْتَنْصر من الْعرَاق؛ فَحَضَرُوا. وَحضر طواشي من البغاددة؛ فسألوا عَنهُ [هَل] هَذَا هُوَ الإِمَام أَحْمد ابْن الْخَلِيفَة الظَّاهِر بِأَمْر الله بن النَّاصِر لدين الله؟ ؛ فَقَالَ: نعم. وَشهد جمَاعَة بالإستفاضة وهم: جمال الدّين يحيى نَائِب الحكم بِمصْر، وَعلم الدّين بن رَشِيق، وَصدر الدّين موهوب الْجَزرِي، ونجيب [الدّين] الْحَرَّانِي، وسديد الدّين التزمنتي نَائِب الحكم بِالْقَاهِرَةِ عِنْد قَاضِي الْقُضَاة تَاج الدّين ابْن بنت الْأَعَز، فسجل على نَفسه بالثبوت. فَلَمَّا ثَبت قَامَ قَاضِي الْقُضَاة قَائِما وَأشْهد على نَفسه بِثُبُوت النِّسْبَة الشَّرِيفَة وَبَايَعَهُ؛ فتمت بيعَة الْمُسْتَنْصر بالخلافة. وَكتب [السُّلْطَان] إِلَى الْمُلُوك والنواب بِأَن يخطبوا باسمه وَاسم السُّلْطَان [الْملك] الظَّاهِر بيبرس. ثمَّ إِن الْخَلِيفَة الْمُسْتَنْصر أَخْلَع على [الْملك] الظَّاهِر بيبرس بخلعة، فلبسها السُّلْطَان وَنزل من القلعة فِي موكبه وشق الْقَاهِرَة، وَهِي: فرجية سَوْدَاء بتركيبة زركش وعمامة سَوْدَاء، وطوق ذهب، وَقيد ذهب، وَسيف بداوى.

ثمَّ كتب للسُّلْطَان تقليدا عَظِيما. فَلَمَّا تمّ ذَلِك كُله أَخذ الْملك الظَّاهِر فِي تجهيز الْمُسْتَنْصر وإرساله إِلَى بَغْدَاد؛ فرتب لَهُ الْأَمِير سَابق الدّين أتابكا، وَالسَّيِّد الشريف [نجم الدّين جَعْفَر] أستادارا، والأمير فتح الدّين بن الشهَاب أَمِير جاندار، والأمير نَاصِر الدّين صيرم أَمِير خازندار، وبلبان الشمسي وَأحمد بن أزدمر اليغموري دوادارية أَيْضا، وَالْقَاضِي كَمَال الدّين السنجاري وزيرا. وَعين لَهُ السُّلْطَان خزانَة وَسلَاح خاناه، ومماليك كبارًا وصغارا أَرْبَعِينَ مَمْلُوكا. وَأمر لَهُ بِمِائَة فرس، وَعشر قطر جمال، وَعشر قطر بغال. وَعين لَهُ البيوتات على الْعَادة، وجهز مَعَه خَمْسمِائَة فَارس. ثمَّ تجهز السُّلْطَان أَيْضا وَخرج بعساكره إِلَى دمشق، ثمَّ من دمشق جرد مَعَه الْأَمِير بلبان الرَّشِيدِيّ وسنقر الرُّومِي، ومعهما طَائِفَة كَبِيرَة من العساكر المصرية والشامية، وأوصاهما أَن يوصلا الْمُسْتَنْصر إِلَى الْفُرَات.

ثمَّ ودع السُّلْطَان الْخَلِيفَة [الْمُسْتَنْصر] . وسافر [الْمُسْتَنْصر] فِي ثَالِث ذِي الْقعدَة من سنة تسع وَخمسين وسِتمِائَة، وَسَار، إِلَى أَن نزل على الرحبة؛ فلقي عَلَيْهَا الْأَمِير عَليّ بن حَدِيثَة من آل فضل فِي أَرْبَعمِائَة فَارس؛ فرحلوا فِي خدمَة الْمُسْتَنْصر، إِلَى أَن نزل مشْهد على. ثمَّ إِنَّه تسلم عانة والحديثة، ثمَّ قصد هيت، فاتصل خَبره بقرابغا مقدم التتار بِبَغْدَاد. وَبَات الْمُسْتَنْصر لَيْلَة الْأَحَد ثَالِث الْمحرم من سنة سِتِّينَ بِجَانِب الأنبار، فَلَمَّا أصبح وصل قرابغا الْمَذْكُور بِمن مَعَه من العساكر؛ فَاقْتَتلُوا؛ فَانْكَسَرت مُقَدّمَة التتار، وَوَقع أَكْثَرهم فِي الْفُرَات. وَكَانَ قرابغا قد أكمن جمَاعَة من عسكره؛ فَخرج الكمين وأحاط بعسكر الْخَلِيفَة؛ فَقتلُوا عَسَاكِر الْخَلِيفَة، وَلم ينج مِنْهُم إِلَّا من طول الله عمره. واضمرت الْبِلَاد الْخَلِيفَة الْمُسْتَنْصر؛ فَلم يعرف لَهُ خبر إِلَى يَوْمنَا هَذَا. وَقد اختصرنا أَمر الْمُسْتَنْصر وبيعته جدا؛ لشرط هَذَا الْمُخْتَصر من غير تَطْوِيل فِيهِ.

الحاكم بأمر بالله

(الْحَاكِم بِأَمْر بِاللَّه) أَبُو الْعَبَّاس، [أَحْمد] بن مُحَمَّد بن الْحسن بن عَليّ القبي بن الراشد بِاللَّه مَنْصُور بن المسترشد الْفضل بن المستظهر أَحْمد بن الْمُقْتَدِي عبد الله ابْن الْأَمِير مُحَمَّد الذَّخِيرَة [ولي الْعَهْد] بن الْقَائِم بِاللَّه عبد الله بن الْقَادِر بِاللَّه أَحْمد بن الطائع عبد الْكَرِيم بن الْمُطِيع فضل بن المقتدر جَعْفَر بن المعتضد أَحْمد بن الْأَمِير الْمُوفق طَلْحَة - ولي الْعَهْد - ابْن المتَوَكل جَعْفَر بن المعتصم مُحَمَّد بن الرشيد هَارُون بن الْمهْدي مُحَمَّد بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله ابْن عَبَّاس بن الْمطلب. العباسي، الْهَاشِمِي، أَمِير الْمُؤمنِينَ. أول خلفاء مصر من بني الْعَبَّاس. قدم إِلَى مصر فِي يَوْم الْخَمِيس سادس عشْرين صفر سنة سِتِّينَ وسِتمِائَة؛ فأنزله الْملك الظَّاهِر بيبرس الصَّالِحِي النجمي البندقداري بالبرج الْكَبِير من قلعة الْجَبَل، ورتب لَهُ من الرَّوَاتِب مَا يَكْفِيهِ؛ فَأَقَامَ على ذَلِك إِلَى ثامن الْمحرم سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة، عقد لَهُ

[الْملك] الظَّاهِر مجْلِس الْبيعَة بالإيوان من القلعة، وَحضر الْوَزير والقضاة والأمراء وأرباب الدولة، وَقُرِئَ نسب الْحَاكِم [هَذَا] على قَاضِي الْقُضَاة، وَشهد عِنْده [جمَاعَة] فأثبته، ثمَّ مد يَده فَبَايعهُ بالخلافة، ثمَّ بَايعه السُّلْطَان، ثمَّ الْوَزير، ثمَّ الْأَعْيَان على طبقاتهم. وخطب لَهُ على الْمِنْبَر. وَكتب السُّلْطَان إِلَى النواب وَإِلَى مُلُوك الأقطار أَن يخطبوا باسمه، ثمَّ أنزلهُ السُّلْطَان [الْأَشْرَف خَلِيل بن قلاوون] إِلَى مناظر الْكَبْش؛ فأسكنه بهَا، إِلَى أَن مَاتَ فِي لَيْلَة الْجُمُعَة ثامن عشر جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَسَبْعمائة فِي سلطنة النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون الثَّانِيَة. وَدفن بجوار السيدة [نفيسة] فِي قبَّة بنيت لَهُ. وَكَانَت خِلَافَته أَرْبَعِينَ سنة. وَهُوَ أول [من دفن بِمصْر من خلفاء بني الْعَبَّاس]-[رَحْمَة الله [تَعَالَى] عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ]-.

المستكفي بالله

(المستكفي بِاللَّه) أَبُو الرّبيع، سُلَيْمَان بن الْحَاكِم بِأَمْر الله، أَبُو الْعَبَّاس، أَحْمد، أَمِير الْمُؤمنِينَ. العباسي [الْهَاشِمِي] ثَانِي خلفاء مصر. - تقدم بَقِيَّة نسبه فِي تَرْجَمَة أَبِيه الْحَاكِم -. بُويِعَ بالخلافة بِعَهْد من أَبِيه فِي جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَسَبْعمائة، وعمره عشرُون سنة. وخطب لَهُ على المنابر على الْعَادة. وَسكن بمَكَان وَالِده. وَأقَام فِي الْخلَافَة، إِلَى أَن سَافر صُحْبَة السُّلْطَان [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون إِلَى الْبِلَاد الشامية فِي نوبَة غازان. ثمَّ رَجَعَ وَأقَام بِالْقَاهِرَةِ على عَادَته إِلَى سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة، تغير عَلَيْهِ الْملك النَّاصِر بِسَبَب ذَكرْنَاهُ فِي تَرْجَمَة النَّاصِر فِي تاريخنا ((النُّجُوم الزاهرة)) . وَأمره بسكنى القلعة؛ فسكن المستكفي بقلعة الْجَبَل أَرْبَعَة أشهر وَسَبْعَة عشر يَوْمًا. ثمَّ أمره النَّاصِر بالنزول إِلَى دَاره بالكبش؛ فَنزل إِلَيْهَا، وسكنها على عَادَته مُدَّة، إِلَى أَن بلغ السُّلْطَان عَنهُ مَا غَيره عَلَيْهِ؛ فرسم لَهُ [فِي] يَوْم السبت

ثَانِي عشر ذِي الْحجَّة من سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ [الْمَذْكُورَة] بالتوجه إِلَى قوص بِالْوَجْهِ القبلي والسكن بهَا؛ فسافر وَأقَام بقوص، إِلَى أَن مَاتَ [بهَا] فِي مستهل شعْبَان سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة. [و] ورد الْخَبَر على السُّلْطَان بِمَوْتِهِ، وَأَنه عهد لوَلَده أَحْمد بِشَهَادَة أَرْبَعِينَ عدلا، وَأثبت قَاضِي قوص ذَلِك؛ فَلم يمض [الْملك] النَّاصِر عَهده لما كَانَ فِي نَفسه من المستكفي، وَطلب إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد المستمسك بن الْحَاكِم بِأَمْر الله أَحْمد فِي يَوْم الأثنين ثَالِث شهر رَمَضَان، وَاجْتمعَ الْقُضَاة بدار الْعدْل على الْعَادة، فعرفهم السُّلْطَان بِمَا أَرَادَ من إِقَامَة إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور فِي الْخلَافَة، وَأمرهمْ بمبايعته؛ فَأَجَابُوا بِعَدَمِ أَهْلِيَّته، وَأَن المستكفي قد عهد إِلَى وَلَده أَحْمد، وَاحْتَجُّوا بِمَا حكم بِهِ قَاضِي قوص؛ فَكتب السُّلْطَان بقدوم أَحْمد [الْمَذْكُور] إِلَى الْقَاهِرَة. وَأقَام الخطباء بِمصْر وَغَيرهَا نَحْو أَرْبَعَة أشهر لَا يذكرُونَ [اسْم الْخَلِيفَة فِي الْخطْبَة] . فَلَمَّا قدم أَحْمد الْمَذْكُور من قوص لم يمض السُّلْطَان عَهده، وَطلب إِبْرَاهِيم ثَانِيًا، وعرفه قبح سيرته وَمَا تشيع النَّاس عَنهُ؛ فأظهر التَّوْبَة مِنْهَا، وَالْتزم بسلوك طَرِيق الْخَيْر؛ فاستدعى السُّلْطَان الْقُضَاة وعرفهم أَنه قد أَقَامَ إِبْرَاهِيم فِي الْخلَافَة؛ فَأخذ قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين بن جمَاعَة يعرفهُ عدم أَهْلِيَّته؛ فَلم يلْتَفت السُّلْطَان إِلَى كَلَامه وَقَالَ: إِنَّه قد تَابَ والتائب من الذَّنب كمن لَا ذَنْب لَهُ؛ فَبَايعُوهُ، ولقب بالواثق.

وَكَانَت الْعَامَّة تسميه: المستعطي؛ فَإِنَّهُ كَانَ قبل ذَلِك يستعطي من النَّاس مَا يُنْفِقهُ. وَاسْتمرّ إِبْرَاهِيم فِي الْخلَافَة على رغم [الْملك] النَّاصِر، إِلَى أَن مَاتَ النَّاصِر وتسلطن وَلَده [الْملك] الْمَنْصُور أَبُو بكر فِي يَوْم الْخَمِيس حادي عشْرين من ذِي الْحجَّة من سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة. فَلَمَّا كَانَ يَوْم السبت سلخ ذِي الْحجَّة [الْمَذْكُور] طلب الْملك الْمَنْصُور الْقُضَاة والأعيان، واجتمعوا بِجَامِع القلعة للنَّظَر فِي أَمر أَحْمد [بن] المستكفي وَحضر مَعَهم الْأَمِير طاجار الدوادار؛ فاتفق الْأَمر على خلَافَة أَحْمد الْمَذْكُور لعهد أَبِيه إِلَيْهِ بِمُقْتَضى الْمَكْتُوب الثَّابِت على قَاضِي قوص؛ فبويع ولقب بالحاكم بِأَمْر الله - على لقب جده - وَكَانَ لقب بِهِ فِي حَيَاة أَبِيه - رَحمَه الله [تَعَالَى]-. وَقد اخْتلف المؤرخون فِي خلَافَة إِبْرَاهِيم هَذَا؛ فَمنهمْ من عده [فِي الْخُلَفَاء] ؛ لكَون السُّلْطَان أَقَامَهُ وَبَايَعَهُ، وَمِنْهُم من لَا عده، لكَون المستكفي كَانَ عهد لوَلَده أَحْمد الْآتِي ذكره. والناظر فِي أمره هُوَ بِالْخِيَارِ لما عَرفته من أمره؛ إِن شَاءَ أثبت، وَإِن شَاءَ نفى.

الحاكم بأمر الله

(الْحَاكِم بِأَمْر الله) أَبُو الْعَبَّاس، أَحْمد بن المستكفي سُلَيْمَان. أَمِير الْمُؤمنِينَ، العباسي، الْهَاشِمِي، الْمصْرِيّ. بُويِعَ بالخلافة - بعد وَفَاة وَالِده بقوص - فِي الْعشْرين من شعْبَان سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة. وَلما بلغ [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون موت المستكفي لم يمض خلَافَة الْحَاكِم [هَذَا] ، وَبَايع إِبْرَاهِيم، ولقبه بالواثق؛ فدام إِبْرَاهِيم على ذَلِك، إِلَى أَن مَاتَ النَّاصِر وتسلطن وَلَده الْمَنْصُور أَبُو بكر عزل إِبْرَاهِيم وَبَايع الْحَاكِم هَذَا - وَقد تقدم ذكر ذَلِك [كُله] مفصلا -. وَاسْتمرّ الْحَاكِم فِي الْخلَافَة، وَسكن بالكبش على عَادَة أَبِيه وجده، إِلَى أَن توفّي سنة أَربع وَخمسين وَسَبْعمائة، وَلم يعْهَد لأحد. وَكَانَ الْمُتَوَلِي لتدبير [المملكة بِمصْر] [يَوْمئِذٍ] الْأَمِير الْكَبِير شيخون الْعمريّ الناصري، والأمير طاز الناصري، ونائب السلطنة [يَوْم ذَاك] الْأَمِير قبلاى، وَالسُّلْطَان الْملك الصَّالح صَالح ابْن [الْملك]

النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون؛ فَجمع الْأَمِير شيخون الْأُمَرَاء والقضاة وَجَمِيع بني الْعَبَّاس، وَعقد بِسَبَب الْخلَافَة مَجْلِسا عَظِيما، وَتَكَلَّمُوا بِسَبَب من يُبَايع بالخلافة من الْجَمَاعَة، إِلَى أَن وَقع الإتفاق على أبي بكر بن المستكفي؛ فَبَايعُوهُ. وَكَانَت خلَافَة الْحَاكِم [هَذَا] نَحْو أَرْبَعَة عشر سنة تخمينا -[رَحمَه الله تَعَالَى]-.

المعتضد بالله

(المعتضد بِاللَّه) أَبُو بكر، ابْن المستكفي بِاللَّه سُلَيْمَان بن الْحَاكِم بِأَمْر الله أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحسن. أَمِير الْمُؤمنِينَ، العباسي، الْهَاشِمِي، الْمصْرِيّ. بُويِعَ بالخلافة بعد وَفَاة أَخِيه الْحَاكِم بِأَمْر الله [أَحْمد] فِي سنة أَربع وَخمسين وَسَبْعمائة. وَاسْتمرّ فِي الْخلَافَة، إِلَى أَن توفّي بِالْقَاهِرَةِ فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثامن عشر جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة. وعهد بالخلافة إِلَى وَلَده المتَوَكل مُحَمَّد. وَكَانَت مُدَّة خلَافَة المعتضد عشر سِنِين - هَكَذَا أرخه الرئيس بدر الدّين حسن بن حبيب فِي تَارِيخه الْمُسَمّى: ((بدرة الأسلاك فِي تَارِيخ الأتراك)) -[رَحمَه الله]-.

المتوكل على الله

(المتَوَكل على الله) أَبُو عبد الله، مُحَمَّد بن المعتضد بِاللَّه، أَبُو بكر بن المستكفي سُلَيْمَان. أَمِير الْمُؤمنِينَ، العباسي، الْهَاشِمِي، الْمصْرِيّ. بُويِعَ بالخلافة - بعد وَفَاة أَبِيه -[بِعَهْد مِنْهُ إِلَيْهِ]- فِي سَابِع جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة. قلت: والمتوكل [على الله] هَذَا تخلف من أَوْلَاده لصلبه خَمْسَة، وهم: الْعَبَّاس، وَدَاوُد، وَسليمَان، وَحَمْزَة، ويوسف - الْآتِي ذكرهم فِي محلهم [من هَذَا الْكتاب] ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى - وَهَذَا شَيْء لم يَقع لخليفة من قبله. أما أَرْبَعَة؛ فَتخلف من بني عبد الْملك بن مَرْوَان أَرْبَعَة، وهم: الْوَلِيد، وَسليمَان، وَيزِيد، وَهِشَام. ودام المتَوَكل [هَذَا] فِي الْخلَافَة، إِلَى أَن خلعه الْأَمِير أينبك البدري من الْخلَافَة فِي ثَالِث شهر ربيع الأول سنة تسع وَسبعين، واستخلف عوضه زَكَرِيَّا بن إِبْرَاهِيم ولقب بالمعتصم. ثمَّ أُعِيد المتَوَكل [هَذَا ثَانِيًا]- حَسْبَمَا نذكرهُ -[إِن شَاءَ الله تَعَالَى]-. وَكَانَت خلَافَة المتَوَكل فِي هَذِه الْمرة نَحْو سِتَّة عشر سنة. إنتهى

المستعصم بالله

(المستعصم بِاللَّه) زَكَرِيَّا، أَبُو يحيى، ابْن إِبْرَاهِيم ابْن الْخَلِيفَة الْحَاكِم [بِأَمْر الله] أَحْمد بن مُحَمَّد [بن حسن] بن عَليّ القبي، أَمِير الْمُؤمنِينَ، [العباسي] ، الْهَاشِمِي، الْمصْرِيّ. بُويِعَ بالخلافة بعد موت المتَوَكل [على الله مُحَمَّد] . وَسبب ولَايَته: أَن أينبك البدري لما ملك الديار المصرية بعد قتل الْأَشْرَف وَقع من المتَوَكل هَذَا أُمُور حقدها عَلَيْهِ أينبك. فَلَمَّا انْفَرد أينبك بالتحكم أَمر بنفيه إِلَى قوص؛ فَخرج المتَوَكل، ثمَّ شفع فِيهِ؛ فَعَاد إِلَى بَيته. ثمَّ أصبح أينبك من الْغَد - وَهُوَ رَابِع شهر ربيع الأول من سنة تسع وَسبعين وَسَبْعمائة - استدعى نجم الدّين زَكَرِيَّا بن إِبْرَاهِيم -[الْمُقدم ذكره]- وأخلع عَلَيْهِ، وَاسْتقر بِهِ خَليفَة عوضا عَن المتَوَكل من غير مبايعة، وَلَا خلع المتَوَكل نَفسه. ولقب زَكَرِيَّا [الْمَذْكُور] بالمستعصم [بِاللَّه] . ودام فِي الْخلَافَة على زعم من يثبت ذَلِك، إِلَى رَابِع عشْرين شهر ربيع الأول [الْمَذْكُور] خلعة أينبك، وأعادة المتَوَكل ثَانِيًا.

وَسَببه: أَنه لما كَانَ رَابِع عشْرين الشَّهْر الْمَذْكُور تكلم الْأُمَرَاء مَعَ أينبك فِيمَا فعله مَعَ المتَوَكل، ورغبوه فِي إِعَادَته؛ فأذعن، واستدعاه، وأخلع عَلَيْهِ بإعادته إِلَى الْخلَافَة؛ فَكَانَ مُدَّة خلَافَة زَكَرِيَّا فِي هَذِه الْمرة شهرا إِلَّا عشرَة أَيَّام.

ذكر ولاية المتوكل على الله الثانية

( [ذكر ولَايَة] المتَوَكل على الله الثَّانِيَة) - تقدم [ذكر] نسب المتَوَكل فِي خِلَافَته الأولى -. وَلما أُعِيد إِلَى الْخلَافَة طَالَتْ أَيَّامه، ودام، إِلَى أَن تسلطن الْملك الظَّاهِر برقوق. فَلَمَّا كَانَ شهر رَجَب من سنة خمس وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة قبض عَلَيْهِ برقوق وحبسه بقلعة الْجَبَل؛ لأمر ذَكرْنَاهُ مطولا فِي سلطنة برقوق الأولى فِي كتَابنَا ((النُّجُوم الزاهرة [فِي مُلُوك مصر والقاهرة] )) . فَلْينْظر هُنَاكَ. وَأرْسل السُّلْطَان [الْملك] الظَّاهِر برقوق خلف زَكَرِيَّا الَّذِي كَانَ تخلف فِي أَيَّام أينبك فِي سلطنة الْمَنْصُور عَليّ بن الْأَشْرَف، وَخلف أَخِيه عمر - وَلَدي إِبْرَاهِيم - وشاور الْأُمَرَاء فِي أَمرهمَا. ثمَّ وَقع اخْتِيَاره على عمر؛ فولاه الْخلَافَة عوضا عَن المتَوَكل هَذَا، ولقبه: الواثق بِأَمْر الله [عمر] . ودام المتَوَكل فِي الْحِفْظ بالقلعة، إِلَى أَن أُعِيد إِلَى الْخلَافَة ثَالِث مرّة - حَسْبَمَا يَأْتِي ذكره، إِن شَاءَ الله تَعَالَى -.

الواثق بالله

(الواثق بِاللَّه) أَبُو حَفْص، عمر بن المستعصم إِبْرَاهِيم - الَّذِي ولاه ابْن قلاوون الْخلَافَة - ابْن المستمسك [مُحَمَّد - وَمُحَمّد هَذَا غير خَليفَة - ابْن الْحَاكِم] [بِأَمْر الله] [أَحْمد] . العباسي، الْهَاشِمِي، [الْمصْرِيّ] ، أَمِير الْمُؤمنِينَ. بُويِعَ بالخلافة لما خلع [الْملك] الظَّاهِر برقوق المتَوَكل وحبسه - حَسْبَمَا تقدم ذكره -. وَتمّ أمره فِي الْخلَافَة، ودام فِيهَا، إِلَى أَن مرض. وَمَات فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع عشْرين شَوَّال سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة؛ فَكَانَت خِلَافَته نَحْو ثَلَاث سِنِين وَثَلَاثَة أشهر وَأَيَّام. وَلما توفّي كلم النَّاس الظَّاهِر برقوق فِي إِعَادَة المتَوَكل؛ فَلم يقبل، وَأرْسل أحضر أَخَاهُ المعتصم زَكَرِيَّا الَّذِي [كَانَ] ولاه أينبك تِلْكَ الْأَيَّام الْيَسِيرَة، وأخلع عَلَيْهِ وَأقرهُ خَليفَة عوضا عَن الواثق -[رَحمَه الله تَعَالَى]-.

المعتصم بالله

(المعتصم بِاللَّه) [أَبُو يحيى، زَكَرِيَّا بن المستعصم] إِبْرَاهِيم بن المستمسك مُحَمَّد - تقدم أَن المستمسك كَانَ غير خَليفَة - أَمِير الْمُؤمنِينَ، العباسي، الْهَاشِمِي. بُويِعَ بالخلافة ثَانِيًا - على قَول من يثبت خِلَافَته الأولى - بعد موت أَخِيه الواثق [عمر] فِي آخر شَوَّال سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة. ودام فِي الْخلَافَة فِي هَذِه الْمرة، إِلَى أَن خرج الْأَمِير تمربغا الأفضلي - الْمَدْعُو منطاش - الأشرفي نَائِب ملطية، والأتابك يلبغا الناصري اليلبغاوي نَائِب حلب فِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَسَبْعمائة، استدرك [الْملك] الظَّاهِر فرطه وَمَا وَقع مِنْهُ فِي حق المتَوَكل؛ فَإِنَّهُ كَانَ من يَوْم خلعه من الْخلَافَة وَهُوَ فِي سجنه بقلعة الْجَبَل، وَأرْسل طلبه، وأخلع عَلَيْهِ باستقراره فِي الْخلَافَة على عَادَته بعد أَن حبس من سنة خمس وَثَمَانِينَ إِلَى هَذِه السّنة. وعزل المعتصم زَكَرِيَّا، وَلزِمَ دَاره، إِلَى أَن مَاتَ [مخلوعا] .

المتوكل على الله

(المتَوَكل على الله) أَبُو عبد الله، مُحَمَّد. أُعِيد للخلافة فِي أول جُمَادَى الأولى من سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَسَبْعمائة. وَسبب إِعَادَته: أَن [الْملك] الظَّاهِر برقوق كَانَ أفحش فِي أَمر المتَوَكل هَذَا وعزله. فَلَمَّا استفحل أَمر الناصري ومنطاش أشاعا عَن الظَّاهِر بِمَا فعله مَعَ المتَوَكل بالبلاد الشامية؛ فنفرت مِنْهُ الْقُلُوب لهَذَا الْمَعْنى وَغَيره. فَلَمَّا بلغه ذَلِك اسْتَشَارَ فِي أمره؛ فَأَشَارَ عَلَيْهِ أكَابِر دولته بتلافي أَمر المتَوَكل وإعادته إِلَى الْخلَافَة؛ فَفعل ذَلِك، وأنعم على المتَوَكل بأَشْيَاء كَثِيرَة، وأكرمه غَايَة الْإِكْرَام، وتصافيا بِحَيْثُ أَن برقوقا لما خلع من السلطنة فِي سنة إثنتين وَتِسْعين بِالْملكِ الْمَنْصُور حاجى وَصَارَ الناصري مُدبر مَمْلَكَته وَوَقع لبرقوق مَا وَقع من الْخلْع وَالْحَبْس بالكرك لم يتَكَلَّم فِيهِ المتَوَكل بِكَلَام قَادِح بِالنِّسْبَةِ إِلَى من تكلم فِي حق برقوق من أَصْحَابه لَا من أعدائه لما أيسوا [من] عوده. فَلَمَّا أُعِيد الظَّاهِر برقوق إِلَى ملكه لم ينقم على المتَوَكل بِشَيْء فِي الظَّاهِر. ودام المتَوَكل فِي الْخلَافَة، إِلَى أَن مَاتَ فِي الدولة الناصرية فرج بن برقوق فِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء ثامن عشْرين [شهر] رَجَب سنة ثَمَان وَثَمَانمِائَة؛ فَكَانَ مَجْمُوع خِلَافَته - بِمَا فِيهَا من الْخلْع وَالْحَبْس - سِنِين، نَحوا من خَمْسَة وَأَرْبَعين سنة تخمينا. وتخلف بعده ابْنه [المستعين] .

المستعين بالله

(المستعين بِاللَّه) أَبُو الْفضل، الْعَبَّاس بن المتَوَكل على الله، أَبُو عبد الله، مُحَمَّد - تقدم [بَقِيَّة] نسبه فِي تراجم كَثِيرَة - أَمِير الْمُؤمنِينَ وَالسُّلْطَان. بُويِعَ بالخلافة بعد موت أَبِيه فِي يَوْم الأثنين مستهل شعْبَان سنة ثَمَان وَثَمَانمِائَة بِعَهْد مِنْهُ إِلَيْهِ. وَتمّ أمره وطالت أَيَّامه فِي الْخلَافَة، إِلَى أَن سَافر [الْملك] النَّاصِر فرج إِلَى الْبِلَاد الشامية فِي سنة أَربع عشرَة [وَثَمَانمِائَة] لقِتَال شيخ ونوروز - وَهِي السفرة الَّتِي قتل فِيهَا - كَانَ [الْخَلِيفَة] المستعين هَذَا صحبته. فَلَمَّا انْكَسَرَ النَّاصِر من الأميرين الْمَذْكُورين وَدخل الشَّام - يَوْم مَاتَ الْوَالِد أَو قبله بِيَوْم؛ فولي عوض الْوَالِد فِي نِيَابَة دمشق الأتابك دمرداش المحمدي - وتجهز لِحَرْب أعدائه؛ فَلم ينْتج أمره، وانكسر ثَانِيًا وحوصر

بِدِمَشْق - وَقد استولت الْأُمَرَاء على الْخَلِيفَة المستعين هَذَا والقضاة - وَطَالَ الْأَمر بَين الْأُمَرَاء وَالسُّلْطَان [الْملك] النَّاصِر؛ فَلم يجد الْأُمَرَاء بدا من خلع [الْملك] النَّاصِر وسلطنة الْخَلِيفَة المستعين هَذَا؛ فتسلطن [المستعين الْمَذْكُور] بعد مدافعة كَثِيرَة على كره مِنْهُ. وَقد سقنا ذَلِك مفصلا من أَوله إِلَى آخِره فِي تاريخنا ((النُّجُوم الزاهرة فِي مُلُوك مصر والقاهرة)) وَأَيْضًا فِي تَرْجَمَة المستعين فِي تاريخنا ((المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي)) ؛ فَمن أَرَادَ من ذَلِك شَيْئا فَعَلَيهِ بمطالعة التاريخين الْمَذْكُورين. إنتهى. وَلما تسلطن المستعين عظم أمره، إِلَى أَن قتل [الْملك] النَّاصِر فرج. وَعَاد الْأَمِير شيخ المحمودي بالمستعين إِلَى الديار المصرية، وَقد صَار نوروز الحافظي نَائِبا على دمشق. أَخذ شيخ يسير مَعَ المستعين على قَاعِدَة الْخُلَفَاء، لَا على قَاعِدَة السلاطين؛ فَعظم ذَلِك على المستعين، وَكَانَ فِي ظَنّه أَنه يستبد بالأمور؛ فجَاء الْأَمر بِخِلَاف ذَلِك؛ فَصَارَ بقلعة الْجَبَل كالمسجون بهَا وَلَيْسَ لَهُ من الْأَمر شَيْء. وَأخذ الْأَمِير شيخ فِي أَسبَاب السلطنة، إِلَى أَن تمّ لَهُ ذَلِك. وتسلطن فِي يَوْم الأثنين مستهل شعْبَان من سنة خمس عشرَة وَثَمَانمِائَة على كره من المستعين. وخلع المستعين من السلطنة بِغَيْر أَمر يُوجب ذَلِك؛ بل بِالشَّوْكَةِ.

فَكَانَت مُدَّة سلطنة المستعين سَبْعَة أشهر وَخَمْسَة أَيَّام، وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا إِلَّا مُجَرّد الأسم فَقَط. وَاسْتمرّ فِي الْخلَافَة وَهُوَ محتفظ بِهِ بقلعة الْجَبَل إِلَى ذِي الْحجَّة سنة سِتّ عشرَة وَثَمَانمِائَة خلعة الْملك الْمُؤَيد [شيخ] من الْخلَافَة أَيْضا بأَخيه المعتضد دَاوُد، وأرسله إِلَى سجن الأسكندرية؛ فسجن [بِهِ، إِلَى أَن أطلقهُ الْملك الْأَشْرَف برسباى، ورسم لَهُ بِالسُّكْنَى فِي الأسكندرية؛ فسكن] بهَا، إِلَى أَن مَاتَ فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء الْعشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة بالطاعون، وَلم يبلغ الْأَرْبَعين. وَدفن بالأسكندرية. وعهد بالخلافة إِلَى وَلَده يحيى - يَعْنِي أَنه لم يخلع مِنْهَا (بطرِيق شَرْعِي - رَحمَه الله) [تَعَالَى -] .

المعتضد بالله

(المعتضد بِاللَّه) أَبُو الْفَتْح، دَاوُد بن المتَوَكل على الله، أَبُو عبد الله مُحَمَّد. أَمِير الْمُؤمنِينَ، العباسي، الْهَاشِمِي. بُويِعَ بالخلافة بعد خلع أَخِيه المستعين فِي يَوْم الْخَمِيس سادس عشر ذِي الْحجَّة سنة سِتّ عشرَة وَثَمَانمِائَة. وَأقَام المعتضد فِي الْخلَافَة سِنِين حَتَّى أَنه تسلطن فِي أَيَّامه عدَّة سلاطين. وَكَانَ فِيهِ كل الْخِصَال الْحَسَنَة، سيد بني الْعَبَّاس فِي زَمَانه، أَهلا للخلافة بِلَا مدافعة، كَرِيمًا عَاقِلا سيوسا، حُلْو المحاضرة، يجل طلبة الْعلم وَأهل الْأَدَب، جيد الْفَهم، لَهُ مُشَاركَة فِي أَشْيَاء كَثِيرَة من الْفُنُون بالذوق والمعرفة. وَكَانَ يجْتَهد فِي السّير على قَاعِدَة الْخُلَفَاء مَعَ جُلَسَائِهِ وندمائه؛ فيضعف موجوده من هَذَا الْأَمر، وَرُبمَا يتَحَمَّل من الدُّيُون شَيْئا لأجل ذَلِك. وَكَانَ يحب معاشرة النَّاس من غير مُنكر، يمِيل إِلَى تدين وَعبادَة، وَله أوراد فِي كل يَوْم. وَلَقَد جالسته مرَارًا عديدة فَلم أر عَلَيْهِ مَا أكره.

وَتُوفِّي بعد مرض طَوِيل بعد أَن عهد إِلَى أَخِيه - شقيقه - سُلَيْمَان بالخلافة فِي يَوْم الْأَحَد رَابِع شهر ربيع الأول سنة خمس وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة. وَشهد السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر جقمق [جنَازَته وَالصَّلَاة] عَلَيْهِ بمصلاة المؤمني [من] تَحت القلعة. وَدفن عِنْد آبَائِهِ بالمشهد النفيسي خَارج الْقَاهِرَة - رَحمَه الله تَعَالَى -.

المستكفي بالله

(المستكفي بِاللَّه) أَبُو الرّبيع، سُلَيْمَان بن المتَوَكل على الله مُحَمَّد بن المعتضد بِاللَّه، أَبُو بكر، بن الْحَاكِم بِأَمْر الله أَحْمد بن المستكفي بِاللَّه سُلَيْمَان بن الْحَاكِم [بِأَمْر الله] أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحسن بن عَليّ القبي بن الراشد مَنْصُور بن المسترشد الْفضل بن المستظهر أَحْمد بن الْمُقْتَدِي عبد الله ابْن الْأَمِير ذخيرة الدّين مُحَمَّد بن الْقَائِم بِأَمْر الله عبد الله بن الْقَادِر [بِاللَّه] أَحْمد ابْن الْأَمِير إِسْحَاق بن المقتدر جَعْفَر بن المعتضد أَحْمد ابْن الْأَمِير الْمُوفق طَلْحَة بن المتَوَكل جَعْفَر بن المعتصم مُحَمَّد بن الرشيد هَارُون بن الْمهْدي مُحَمَّد بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس بن عبد الْمطلب. الْهَاشِمِي العباسي، أَمِير الْمُؤمنِينَ. بُويِعَ بالخلافة بعد موت أَخِيه [دَاوُد] بِعَهْد مِنْهُ إِلَيْهِ فِي الْعشْر الأول من شهر ربيع الأول سنة خمس وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة؛ فَأَقَامَ فِي الْخلَافَة، إِلَى أَن مَاتَ فِي يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي الْمحرم سنة خمس وَخمسين وَثَمَانمِائَة بعد أَن مرض عدَّة أَيَّام، وَلم يعْهَد لأحد من إخْوَته. وَمَات وَهُوَ فِي عشر السِّتين تخمينا.

وَحضر [السُّلْطَان] [الْملك] الظَّاهِر جقمق الصَّلَاة عَلَيْهِ بمصلاة المؤمني [من] تَحت [قلعة الْجَبَل] ، وَعَاد أَمَام جنَازَته إِلَى المشهد النفيسي - حَيْثُ هُوَ دَفنه - مَاشِيا، [بل] وَتَوَلَّى حمل نعشه فِي بعض الأحيان، [وَحضر دَفنه] . وَكَانَ المستكفي رَئِيسا سَاكِنا عَاقِلا، دينا، كثير الصمت، منعزلا عَن النَّاس، قَلِيل الإجتماع بهم، لم يسْلك طَرِيق أَخِيه المعتضد دَاوُد مَعَ ندمائه وَأَصْحَابه. هَذَا [مَعَ] الْعقل التَّام والسيرة الْحَسَنَة والعفة عَن الْمُنْكَرَات والفروج. وَلَقَد بَلغنِي عَن غير وَاحِد من أَقَاربه وحواشيه أَن المعتضد - رَحمَه الله - كَانَ يَقُول أَيَّام خِلَافَته: لم أر على أخي سُلَيْمَان هَذَا مُنْذُ نَشأ كَبِيرَة. قلت: وَفِي هَذَا كِفَايَة - رحمهمَا الله [تَعَالَى]-. وتخلف [من] بعده أَخُوهُ [حَمْزَة] .

القائم بأمر الله

(الْقَائِم بِأَمْر الله) أَبُو الْبَقَاء، حَمْزَة بن المتَوَكل على الله مُحَمَّد. أَمِير الْمُؤمنِينَ، العباسي، الْهَاشِمِي، رَابِع الْأُخوة من أَوْلَاد المتَوَكل [على الله] . بُويِعَ بالخلافة بعد موت أَخِيه المستكفي [سُلَيْمَان من غير عهد. وَهُوَ أَنه: لما توفّي المستكفي] أجمع رَأْي السُّلْطَان [الْملك] الظَّاهِر جقمق على تَوْلِيَة حَمْزَة [الْمَذْكُور] ؛ لِأَنَّهُ أسن من بَقِي من إخْوَته وأمثلهم؛ فاستدعاه [فِي] يَوْم الأثنين خَامِس [محرم] سنة خمس وَخمسين [وَثَمَانمِائَة] بِالْقصرِ السلطاني من قلعة الْجَبَل. وَحضر الْأُمَرَاء والقضاة وأعيان الدولة، وَأَجْمعُوا على بيعَة حَمْزَة الْمَذْكُور. وافتتح قَاضِي الْقُضَاة شرف الدّين يحيى الْمَنَاوِيّ الشَّافِعِي الْبيعَة بِخطْبَة فِي غير الْمَعْنى، ثمَّ سكت فِي أثْنَاء الْخطْبَة وَأخذ فِي الدُّعَاء، وَفِي ظَنّه أَن الْبيعَة قد استتمت. فَلَمَّا رأى [قَاضِي الْقُضَاة] كَمَال الدّين [بن] الْبَارِزِيّ كَاتب السِّرّ ذَلِك ابْتَدَأَ بِخطْبَة بليغة، حمد الله [تَعَالَى] فِيهَا وَأثْنى

[عَلَيْهِ وعَلى] مُحَمَّد -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- ثمَّ أثنى على الْخَلِيفَة، ثمَّ على السُّلْطَان بِعِبَارَة طَلْقَة مَعَ فصاحة وَحسن تأدي، إِلَى أَن استتمت الْبيعَة. وَبَايَعَهُ السُّلْطَان وَمن حضر من الْقُضَاة والأعيان. ثمَّ سَأَلَ القَاضِي كَمَال الدّين الْمَذْكُور الْخَلِيفَة حَمْزَة [هَذَا] بِأَنَّهُ فوض السلطنة للسُّلْطَان الْملك الظَّاهِر جقمق وقلده أُمُور الرّعية، وَجعله يتَصَرَّف فِي الْملك كَيفَ شَاءَ، ثمَّ عدد لَهُ أَشْيَاء من هَذَا النمط؛ فَأَجَابَهُ الْخَلِيفَة إِلَى ذَلِك. فَلَمَّا استتم كَلَامه استدعى السُّلْطَان التشريف الخليفتين وَألبسهُ حَمْزَة [الْمَذْكُور] . وَبعد لبسه عَاد وَجلسَ وَقَرَأَ الْفَاتِحَة، ثمَّ سلم على السُّلْطَان. وَقَامَ وَنزل إِلَى دَاره فِي وُجُوه النَّاس من الْقُضَاة والأعيان، ولقب بالقائم بِأَمْر الله. وَاسْتمرّ الْقَائِم فِي الْخلَافَة، إِلَى أَن كَانَت الْفِتْنَة بَين الأتابك أينال العلائي وَبَين [الْملك] الْمَنْصُور عُثْمَان؛ فَأرْسل الأتابك أينال خلف الْقَائِم هَذَا [يَطْلُبهُ] من دَاره؛ فَحَضَرَ إِلَيْهِ وَقَامَ مَعَه فِيمَا هُوَ بصدده، إِلَى أَن تمّ لَهُ مَا أَرَادَ. وتسلطن بعد خلع الْمَنْصُور عُثْمَان؛ فَعرف لَهُ الْملك الْأَشْرَف ذَلِك، وأنعم عَلَيْهِ بأَشْيَاء كَثِيرَة من الْأَمْوَال والإقطاعات وَغَيرهَا.

وَسَار فِي الْخلَافَة بعظمة زَائِدَة وَحُرْمَة وافرة - بِخِلَاف من تقدم من إخْوَته - إِلَى أَن اسْتهلّ [شهر] رَجَب سنة تسع وَخمسين وَثَمَانمِائَة بِيَوْم الثُّلَاثَاء وَقع من المماليك السُّلْطَانِيَّة وَغَيرهم حَرَكَة كَبِيرَة، وأظهروا فِيهَا الْمُخَالفَة على السُّلْطَان. وَاجْتمعَ مِنْهُم خلائق تَحت القلعة، وهجموا بَيت الْأَمِير قوصون ودخلوه - كَمَا كَانَ فعل الْملك الْأَشْرَف أينال - وأمسكوا من نزل إِلَيْهِم من الْأُمَرَاء ومنعوهم من الْعود إِلَى القلعة. ثمَّ توجه بَعضهم إِلَى الْخَلِيفَة هَذَا وسألوه فِي الْحُضُور؛ فَقَامَ من وقته يَظُنهَا الكرة الأولى، وَحضر إِلَيْهِم فَلم ير مَا كَانَ رَآهُ تِلْكَ الْمرة؛ فندم على مَجِيئه حَيْثُ لَا ينفع النَّدَم. [وَقد ذكرنَا أَمر هَذِه الْوَقْعَة فِي تاريخنا ((حوادث الدهور فِي مدى الْأَيَّام والشهور)) مُطَوَّلَة؛ فَلْتنْظرْ هُنَاكَ] . وبينما هُوَ فِي ذَلِك انفض الْجمع بعد قتال هَين، وَتوجه الْقَائِم إِلَى منزله. وَكَانَ السُّلْطَان لما بلغه الغوغاء من المماليك أرسل إِلَى الْقَائِم [هَذَا] أَنه يغيب من دَاره؛ فَلم يفعل. ثمَّ زَاد [من] أَنه حضر إِلَيْهِم؛ فَلم يبْق لَهُ عذر، وَعرف كل أحد بِمَا قَصده الْخَلِيفَة. قلت: لله در الْقَائِل: (أُمُور تضحك السُّفَهَاء مِنْهَا ... ويخشى من عواقبها اللبيب)

ثمَّ أصبح السُّلْطَان من الْغَد [و] طلب الْقَائِم بِأَمْر الله إِلَى القلعة ووبخه بِكَلَام؛ فَأَرَادَ الْقَائِم أَن يلحن بحجته، وَكَانَ فِي لِسَانه مسكة تَمنعهُ الْكَلَام؛ فَلم يقف السُّلْطَان لجوابه وَأمر بِهِ؛ فَقبض عَلَيْهِ وأجلس بالبحرة من قلعة الْجَبَل. ثمَّ استدعى [السُّلْطَان] أَخَاهُ يُوسُف من الْغَد فِي يَوْم الْخَمِيس ثَالِث الشَّهْر، وأخلع عَلَيْهِ بالخلافة [بعد أَن حكم الْقُضَاة بخلع الْقَائِم] . ودام الْقَائِم محتفظا بِهِ بقلعة الْجَبَل إِلَى يَوْم الأثنين سَابِع شهر رَجَب [الْمَذْكُور] رسم السُّلْطَان بتوجهه إِلَى سجن الْإسْكَنْدَريَّة؛ فَنزل على فرس من غير أَن يركب خَلفه أحد من الأوجاقية على عَادَة أكَابِر الْأُمَرَاء {} . وَسَار بقماش جُلُوسه وَمَعَهُ حَاجِب الْحجاب ووالي الْقَاهِرَة، إِلَى أَن أوصلاه إِلَى الجزيرة الْوُسْطَى، وأنزلوه إِلَى النّيل من تجاه بولاق التكروري. وَتوجه إِلَى الأسكندرية؛ فسجن بهَا، إِلَى سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ؛ أفرج عَنهُ من السجْن ورسم لَهُ أَن يسكن بهَا فِي بَيت - كَمَا كَانَ أَخُوهُ الْعَبَّاس -؛ فَفعل [بِهِ ذَلِك وَتمّ] إِلَى يَوْمنَا هَذَا. [آخر كَلَام الْمُؤلف - رَحمَه الله تَعَالَى -] .

المستنجد بالله

(المستنجد بِاللَّه) أَبُو المحاسن، يُوسُف بن المتَوَكل على الله. أَمِير الْمُؤمنِينَ، العباسي، الْهَاشِمِي. بُويِعَ بالخلافة بعد [أَن] خلع السُّلْطَان [الْملك] الْأَشْرَف أينال أَخَاهُ الْقَائِم حَمْزَة من الْخلَافَة فِي يَوْم الْخَمِيس ثَالِث شهر رَجَب سنة [تسع] وَخمسين وَثَمَانمِائَة. وَصُورَة ولَايَته [للخلافة أَنه] : لما كَانَ يَوْم الْخَمِيس ثَالِث رَجَب استدعى السُّلْطَان الْقُضَاة الْأَرْبَعَة بِالْقصرِ السُّلْطَان، وأحضر الجمالي يُوسُف بن المتَوَكل [على الله] ؛ فَجَلَسَ الجمالي يُوسُف فَوق القَاضِي الْحَنَفِيّ - عَن يسَار السُّلْطَان - وَحضر [جَمِيع] أَعْيَان الدولة، وَلم يحضر الْمجْلس أحد من الْفُقَهَاء، سوى الْقُضَاة وَجَمَاعَة من موقعي الحكم للشَّهَادَة على السُّلْطَان بِمَا عساه يفعل من خلع الْخَلِيفَة حَمْزَة وَولَايَة يُوسُف. فَلَمَّا تمّ الْمجْلس؛ قَامَ القَاضِي محب الدّين بن الْأَشْقَر كَاتب السِّرّ بَين يَدي السُّلْطَان وَقَالَ: نشْهد عَلَيْك يَا مَوْلَانَا السُّلْطَان أَنَّك خلعت [أَمِير الْمُؤمنِينَ] الْقَائِم بِأَمْر الله حَمْزَة وَوليت أَخَاهُ المتَوَكل على الله يُوسُف.

- وَكَانَ المستنجد لقب أَولا بالمتوكل - فَقَالَ السُّلْطَان: نعم؛ فَشهد عَلَيْهِ الموقعون بذلك. وَقَامَ الجمالي يُوسُف من وقته وَلبس خلعة الْخلَافَة على الْعَادة، وَعَاد السُّلْطَان وَسلم عَلَيْهِ. وانفض الْمجْلس وَلم يتَكَلَّم أحد من الْقُضَاة فِي شَيْء من ولَايَته، وَلَا خلع الْقَائِم، بل [إِن] القَاضِي الشَّافِعِي علم الدّين صَالح البُلْقِينِيّ نقل عَن عُلَمَاء مذْهبه أَن للسُّلْطَان أَن يعْزل الْخَلِيفَة ويولي غَيره؛ فَهَذَا كَانَ المندوحة فِي خلع الْقَائِم وَولَايَة يُوسُف المستنجد. إنتهى [كَلَام الجمالي يُوسُف الْمُؤلف - رَحمَه الله تَعَالَى -] .

ذكر الخلفاء الفاطميين خلفاء مصر

(ذكر الْخُلَفَاء الفاطميين [خلفاء مصر] ) أَوَّلهمْ الْمعز لدين الله، أَبُو تَمِيم، معد بن الْمَنْصُور إِسْمَاعِيل بن الْقَائِم بِأَمْر الله مُحَمَّد بن الْمهْدي عبيد الله. العبيدي، الفاطمي، المغربي الرافضي. مولده بالمهدية بِبِلَاد الغرب. (وَتَوَلَّى الْخلَافَة بعد موت أَبِيه الْمَنْصُور بِبِلَاد الغرب فِي يَوْم الْجُمُعَة التَّاسِع وَالْعِشْرين من شَوَّال سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وثلثمائة) . وَهُوَ أول من قدم مِنْهُم إِلَى الديار المصرية وملكها، وبنيت لَهُ الْقَاهِرَة. وَهُوَ الرَّابِع من بني عبيد بِبِلَاد الغرب؛ لِأَن الأول مِنْهُم: الْمهْدي عبيد الله، وَالثَّانِي: الْمَنْصُور إِسْمَاعِيل، وَالثَّالِث: الْقَائِم مُحَمَّد، وَالرَّابِع: الْمعز هَذَا. [ثمَّ قدم الْقَاهِرَة] .

قلت: وَفِي نسب هَؤُلَاءِ الفاطميين وشرفهم أَقْوَال كَثِيرَة؛ فَمن النَّاس من رفع نسبهم إِلَى فَاطِمَة الزهراء وأثبته، وَمِنْهُم من نسبهم إِلَى الْحُسَيْن بن أَحْمد القداح - والقداح الْمَذْكُور كَانَ مجوسيا وأحواله مَعْرُوفَة -. وَالْقَوْل الثَّانِي أشهر وَأكْثر، وَعَلِيهِ جُمْهُور المؤرخين. وَقد استوعبنا ذَلِك كُله فِي تَرْجَمَة الْمعز [هَذَا] فِي تاريخنا [النُّجُوم الزاهرة فِي مُلُوك مصر والقاهرة)) ، وَذكرنَا فِيهِ أَقْوَال جمَاعَة كَثِيرَة.

ذكر دخول المعز إلى الديار المصرية على سبيل الإختصار

ذكر دُخُول الْمعز إِلَى الديار المصرية - على سَبِيل الإختصار - قيل: إِنَّه دَخلهَا وَمَعَهُ ألف وَخَمْسمِائة جمل [موسوقة] ذهب عين. وَكَانَ دُخُوله إِلَيْهَا فِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وثلثمائة. وَكَانَ قد أرسل قبل ذَلِك مَمْلُوكه الْخَادِم جَوْهَر الصّقليّ بجيوش عَظِيمَة إِلَى مصر؛ فملكها جَوْهَر بعد أُمُور، وَبنى الْقَاهِرَة فِي سنة سِتِّينَ وثلثمائة. وجوهر الْمَذْكُور هُوَ صَاحب الْجَامِع الْأَزْهَر، وَهُوَ من كبار الرافضة الشِّيعَة. وَلما فرغت الْقَاهِرَة أرسل جَوْهَر إِلَى الْمعز؛ فجَاء وسكنها وملكها هِيَ وَالشَّام فِي رَمَضَان فِي سنة إثنتين وَسِتِّينَ وثلثمائة. وَكَانَ يَوْم ذَاك الْخَلِيفَة بِبَغْدَاد من بني الْعَبَّاس [أَمِير الْمُؤمنِينَ] الْمُطِيع بِأَمْر الله. فَمن حِينَئِذٍ صَار بِبَغْدَاد وَسَائِر ممالك الشرق إِلَى أَعمال الْفُرَات وحلب يخْطب فِيهَا باسم [الْخُلَفَاء من] بني الْعَبَّاس. وَمن حلب إِلَى بِلَاد الْمغرب يخْطب [فِيهَا] باسم الْخُلَفَاء الفاطميين - وداخل ذَلِك الحرمان الشريفان -. وَكَانَ الْمعز رَافِضِيًّا سبابا خبيثا، إِلَّا أَنه كَانَ فَاضلا، عَاقِلا، أديبا، حازما، جوادا، ممدحا، وَفِيه عدل للرعية.

قيل: إِن زَوْجَة الأخشيد لما زَالَت دولتهم أودعت عِنْد يَهُودِيّ بغلطاقا كُله جَوْهَر، ثمَّ طالبته فَأنْكر؛ فَقَالَت لَهُ: خُذ الْكمّ الْوَاحِد وَأَعْطِنِي مَا بَقِي؛ فَلم يفعل؛ فَلم تزل تدرجه، وَهُوَ لايرضى، حَتَّى سَأَلته أَن يُعْطِيهَا [كَمَا وَاحِدًا] وَيَأْخُذ مَا بَقِي، وَهُوَ لَا يرضى؛ فتوجهت إِلَى قصر الْمعز وأخبرته بِمَا وَقع؛ فَأرْسل أحضر الْيَهُودِيّ وَسَأَلَهُ فَأنْكر، ثمَّ أعترف وأحضر البغلطاق. فَلَمَّا رَآهُ الْمعز تحير مِمَّا فِيهِ من الْجَوَاهِر، وَقد أَخذ الْيَهُود من صَدره درتين واعترف أَنه باعهما بِأَلف وسِتمِائَة دِينَار. فَأَخذه الْمعز وَدفعه بكامله لَهَا؛ فاجتهدت أَن يَأْخُذهُ هَدِيَّة مِنْهَا، أَو بِثمن؛ فَلم يفعل، وأخذته وانصرفت. وَكَانَ الْمعز عَارِفًا بالنجامة وَيُحب المنجمين. حكى أَن المنجمين [أخبروا الْمعز] بِأَن عَلَيْهِ قطعا، وأشاروا عَلَيْهِ بِأَن يتَّخذ سردابا ويتوارى فِيهِ [سنة] ؛ فَفعل ذَلِك. فَلَمَّا طَالَتْ مدَّته فِي السرداب ظنت جنده المغاربة أَنه رفع إِلَى السَّمَاء؛ فَكَانَ الْفَارِس مِنْهُم ينظر إِلَى الْغَمَام؛ فيترجل وَيَقُول: السَّلَام عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! . ثمَّ خرج الْمعز من السرداب بعد سنة. وَتُوفِّي بعد ذَلِك بِيَسِير، فِي شهر ربيع الآخر سنة خمس وَسِتِّينَ وثلثمائة، (وَله سِتّ وَأَرْبَعُونَ سنة، وتخلف بعده ابْنه) [الْعَزِيز] .

العزيز بالله

(الْعَزِيز بِاللَّه) أَبُو مَنْصُور، نزار بن الْمعز معد. أَمِير الْمُؤمنِينَ، الفاطمي، العبيدي، ثَانِي خلفاء مصر من بني عبيد، وخامسهم مِمَّن أجداده المغاربة. بُويِعَ بالخلافة بعد موت أَبِيه الْمعز فِي سنة خمس وَسِتِّينَ وثلثمائة. ومولده بالمهدية من القيروان سنة أَربع وَأَرْبَعين، وَقيل: سنة إثنتين وَأَرْبَعين وثلثمائة. وَتمّ أمره فِي الْخلَافَة. وَكَانَ الْقَائِم بتدبير ملكه جَوْهَر الْخَادِم الْمُقدم ذكره. وَكَانَ الْعَزِيز كَرِيمًا، أديبا، شجاعا، عادلا فِي الرّعية. وَهُوَ أحسن خلفاء بني عبيد سيرة، غير أَنه كَانَ يمِيل إِلَى النُّجُوم، وَولى رجلا نَصْرَانِيّا يُقَال لَهُ: [ابْن] نسطورس وزارة مصر، وَولى [رجلا] يَهُودِيّا يُقَال لَهُ: منشا وزارة الشَّام؛ فاستطالت النَّصَارَى وَالْيَهُود بهما. فَأخذ الْمُسلمُونَ شخصا من ورق ملصق على صُورَة إمرأة، وَعمِلُوا فِي يَدهَا قصَّة مَكْتُوبَة، فِيهَا: بِالَّذِي أعز الْيَهُود بمنشا، وأعز النَّصَارَى بنسطورس

وأذل الْمُسلمين بك أَلا رحمت الْمُسلمين. ونصبوها لَهُ على الطَّرِيق؛ فَلَمَّا رَآهَا طلبَهَا؛ فأحضروها إِلَيْهِ وَقَرَأَ الْقِصَّة؛ فَعظم ذَلِك عَلَيْهِ. ثمَّ أمسك نسطورس ومنشا وصادرهما، وَأخذ مِنْهُمَا أَمْوَالًا عَظِيمَة، ثمَّ صلبهما. [وَكَانَ يَدعِي علم النجامة؛ فَكتب لَهُ بعض الشُّعَرَاء] : ( [بالظلم والجور] قد رَضِينَا ... وَلَيْسَ بالْكفْر والحماقة) (إِن كنت أَعْطَيْت علم غيب ... فَقل لنا كَاتب البطاقة) وهجاه بَعضهم بالقدح فِي نسبه، وَكَتَبُوا [لَهُ] ذَلِك [فِي ورقة ووضعوها على الْمِنْبَر] ؛ فَلَمَّا صعد الْعَزِيز [يَوْم الْجُمُعَة الْمِنْبَر وجدهَا وفيهَا] : (إِنَّا سمعنَا نسبا مُنْكرا ... يُتْلَى على الْمِنْبَر فِي الْجَامِع) (إِن كنت فِيمَا تَدعِي صَادِقا ... فاذكر أَبَا بعد الْأَب السَّابِع) (وَإِن ترد تَحْقِيق مَا قلته ... فانسب لنا نَفسك كالطائع) (أَو لَا دع الْأَنْسَاب مستورة ... وادخل بِنَا فِي النّسَب الْوَاسِع) (فَإِن أَنْسَاب بني هَاشم ... يقصر عَنْهَا طمع الطامع) وَتُوفِّي الْعَزِيز فِي شهر رَمَضَان سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وثلثمائة. وَكَانَت خِلَافَته إِحْدَى وَعشْرين سنة وَخَمْسَة أشهر وأياما. وتخلف بعده ابْنه [الْحَاكِم مَنْصُور] .

الحاكم بأمر الله

(الْحَاكِم بِأَمْر الله) أَبُو عَليّ، مَنْصُور بن الْعَزِيز بِاللَّه نزار بن الْمعز لدين الله، أَبُو تَمِيم، معد بن الْمَنْصُور إِسْمَاعِيل بن الْقَائِم مُحَمَّد بن الْمهْدي عبيد الله. العبيدي، الفاطمي، المغربي الأَصْل، الْمصْرِيّ المولد والمنشأ وَالدَّار والوفاة، الثَّالِث من خلفاء مصر من بني عبيد. بُويِعَ بالخلافة بعد موت أَبِيه الْعَزِيز فِي يَوْم الثُّلَاثَاء لليلتين بَقِيَتَا من شهر رَمَضَان سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وثلثمائة. ومولده بِالْقَاهِرَةِ فِي يَوْم الْخَمِيس سادس عشْرين جُمَادَى الأول سنة خمس وَسبعين وثلثمائة. وَالْحَاكِم هَذَا هُوَ الَّذِي بنى الْجَامِع دَاخل بَاب النَّصْر من الْقَاهِرَة. وَكَانَ الْحَاكِم فِي أول أمره خيرا عادلا؛ أَمر أَن تلبس النَّصَارَى الْأَزْرَق وَالْيَهُود الْأَصْفَر، وَأَن لَا يركبُوا خيولا وَلَا بغالا. وَجعل لَهُم حمامات على حدتهم وَعمل عَلَيْهَا صلبانا. ثمَّ بنى على رَأس كل كَنِيسَة مَسْجِدا يُؤذن فِيهِ على رُءُوسهم.

ثمَّ لما كبر تغير عَن ذَلِك كُله، وَعبد الْكَوَاكِب، وَصَارَ يَأْمر بالشَّيْء الَّذِي يضْحك النَّاس مِنْهُ. من ذَلِك: أَنه اجتاز يَوْمًا بحمام الذَّهَب؛ فَسمع فِيهَا ضجيج النِّسَاء؛ فَأمر أَن تسد عَلَيْهِنَّ؛ [فسدوها عَلَيْهِنَّ] حَتَّى متن جَمِيعًا. ثمَّ أَمر بهدم كَنِيسَة قمامة وَنهب جَمِيع مَا فِيهَا؛ فهدمت ونهبت، ثمَّ أَمر بإعادتها كَمَا كَانَت. ثمَّ أَمر بِأَن لَا يَبِيع أحد زبيبا، ثمَّ أَمر أَن [لَا] يَأْكُلهُ أحد، ثمَّ أَمر بحرقه فِي جَمِيع الْبِلَاد، ثمَّ أَمر بإحراق الْعِنَب، ثمَّ أَمر بِقطع الكروم كلهَا؛ فَقطعت جَمِيع الكروم بِمصْر وَالشَّام. ثمَّ أَمر بقتل الْكلاب؛ فَقتل بالديار المصرية ثَلَاثُونَ ألف كلب. ثمَّ أَمر بإهراق الْعَسَل النَّحْل؛ فبدد النَّاس إثني عشر ألف جابية عسل. ثمَّ منع النَّاس من طبخ الملوخيا، ثمَّ أَمر أَن لَا تزرع فِي الأَرْض كلهَا وكل من وجدت عِنْده شنق. ثمَّ منع [النَّاس] [من] بيع: الترمس، والسمك الأملس، وكبب اللَّحْم، والفقاع، وَأمر بشنق من يعملهم، وشنق على ذَلِك جمَاعَة كَثِيرَة. وَكَانَ يلبس الصُّوف، ويركب حمارا وَيَطوف فِي الْأَسْوَاق وَحده بِغَيْر غُلَام.

وَكَانَ لما تخلف صَغِيرا تولى تَدْبِير ملكه خَادِم لِأَبِيهِ يُسمى أرجوان - وَقيل برجوان - حَتَّى كبر الْحَاكِم. فَلَمَّا كبر [الْحَاكِم] قتل أرجوان [الْمَذْكُور] ؛ فَوجدَ لَهُ من الْأَمْوَال مَالا يُحْصى كَثْرَة. من جملَة مَا وجد لَهُ: ألف قَمِيص، وَألف سروال، وَألف تكة حَرِير فِي كل تكة نافحة مسك ونافحة عنبر [كبارًا] . وَوجد لَهُ من الْجَوَاهِر والأواني مَا قِيمَته خَمْسمِائَة ألف دِينَار. وَوجد لَهُ من الدَّوَابّ أَرْبَعَة آلَاف فرس وَأَرْبَعَة آلَاف بغل. وَوجد لَهُ من الذَّهَب [الْعين] [ألفي] ألف ألف دِينَار. وَلما استبد الْحَاكِم بِالْأَمر وَحده طَغى وتجبر، وَسَاءَتْ سيرته فِي الرّعية، وفسدت عقيدته فِي الدّين. وَكَانَت أُخْته سِتّ الْملك عَاقِلَة، وَعلمت بِزَوَال الْملك عَنْهُم؛ فَعمِلت على قَتله، إِلَى أَن قتل بحلوان خَارج الْقَاهِرَة - حَسْبَمَا ذَكرْنَاهُ مفصلا فِي الأَصْل -؟ . وَكَانَ قَتله فِي ثامن عشْرين شَوَّال سنة إِحْدَى عشرَة وَأَرْبَعمِائَة. وَتَوَلَّى بعده ابْنه الظَّاهِر لإعزاز دين الله.

وَكَانَ أَمر الْحَاكِم هَذَا متضادد: مَا بَين شجاعة [واقدام] ، وَجبن وإحجام، ومحبة للْعلم وانتقام من الْعلمَاء، وميل إِلَى الصّلاح وَقتل الصلحاء. وَكَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ السخاء، وَرُبمَا بخل بِمَا لم يبخل بِهِ غَيره. وَكَانَت خِلَافَته خمْسا وَعشْرين سنة وشهرا وَاحِدًا.

الظاهر لإعزاز دين الله

(الظَّاهِر لإعزاز دين الله) أَبُو هَاشم، عَليّ بن الْحَاكِم بِأَمْر الله مَنْصُور بن [الْعَزِيز نزار بن الْمعز معد] . العبيدي. المغربي الأَصْل، الْمصْرِيّ الفاطمي، الرَّابِع من خلفاء بني عبيد بِمصْر. بُويِعَ بالخلافة بعد قتل أَبِيه الْحَاكِم فِي شَوَّال سنة إِحْدَى عشرَة وَأَرْبَعمِائَة، وَله من الْعُمر سِتَّة عشر سنة وَثَمَانِية أشهر وَخَمْسَة أَيَّام. وَقَامَت عمته سِتّ الْملك بتدبير ملكه أحسن قيام، وبذلت الْأَمْوَال فِي الْجند وساست النَّاس أحسن سياسة. ثمَّ مَاتَت؛ فاقتفى الظَّاهِر [هَذَا] طريقتها؛ فحسنت سيرته. وَكَانَ فِيهِ عدل وكرم وشجاعة. وَوَقع فِي أَيَّامه أُمُور لصِغَر سنه وَضعف بدنه. وطمع النَّاس فِي أَطْرَاف بِلَاده، وتغلب صَاحب الرملة حسان بن المفرج البدوي على أَكثر بِلَاد الشَّام، وتضعضعت دولة الظَّاهِر. وَمن يَوْمئِذٍ أَخذ أَمر الْخُلَفَاء الفاطميين فِي انحطاط. وَكَانَ وزيره نجيب الدولة عَليّ بن أَحْمد الجرجرائي جيد التَّدْبِير.

وَفِي أَيَّام الظَّاهِر حضر إِلَى مَكَّة رجل أعجمي وَمَعَهُ جمَاعَة عَظِيمَة كَأَنَّهُمْ يحجون، فَلَمَّا دخلُوا الْبَيْت الْحَرَام، اقتلعوا الْحجر الْأسود من مَكَانَهُ وكسروه، فَأمْسك الْجَمِيع، وَرُبمَا قتل بَعضهم. وطببوا الْحجر الْأسود، وأعادوه إِلَى مَكَانَهُ. [ثمَّ] توفّي الظَّاهِر بعد ذَلِك بِمدَّة [فِي] يَوْم الْأَحَد النّصْف من شعْبَان سنة سبع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة؛ فَكَانَت ولَايَته على مصر سِتَّة عشر سنة وَتِسْعَة أشهر. وتخلف بعده ابْنه [الْمُسْتَنْصر أَبُو تَمِيم معد] .

المستنصر بالله

(الْمُسْتَنْصر بِاللَّه) أَبُو تَمِيم، معد بن الظَّاهِر عَليّ بن الْحَاكِم مَنْصُور بن الْعَزِيز [نزار] بن الْمعز معد العبيدي، الفاطمي. بُويِعَ بالخلافة بعد موت أَبِيه الظَّاهِر فِي يَوْم الْأَحَد نصف شعْبَان سنة سبع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة. وعمره يَوْم ولي الْخلَافَة سبع سِنِين وَسَبْعَة وَعشْرين يَوْمًا. وَبَقِي فِي الْخلَافَة سِتِّينَ سنة وَأَرْبَعَة أشهر. وَلَا نعلم فِي الْإِسْلَام خَليفَة وَلَا سُلْطَانا أَقَامَ فِي الْملك هَذِه الْمدَّة. والمستنصر هَذَا هُوَ الَّذِي خطب لَهُ البساسيري على مَنَابِر بَغْدَاد، وَهَذَا شَيْء لم يَقع لأحد من آبَائِهِ - وَقد ذكرنَا سَبَب ذَلِك فِي كتَابنَا ((النُّجُوم الزاهرة)) مطولا فَلْينْظر هُنَاكَ. وَفِي أَيَّام الْمُسْتَنْصر هَذَا كَانَ الغلاء الْعَظِيم بِمصْر الَّذِي لم يَقع مثله من زمَان يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام - فِي حُدُود سِنِين نَيف وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة -.

وَقيل: إِن الْقَمْح أبيع بِدِينَار وَنصف الْقدح، وَأكل النَّاس [فِيهِ] بَعضهم، وأكلوا الْميتَة وَالْكلاب، وأبيع فِيهِ الْكلاب بِخَمْسَة دَنَانِير، والقط بِثَلَاثَة دَنَانِير. وَاشْتَدَّ الغلاء، ودام سِنِين حَتَّى بَقِي الْكَلْب يدْخل بَيت الشَّخْص وَيَأْكُل وَلَده وَهُوَ قَاعد لَا يَسْتَطِيع النهوض لدفعه؛ مِمَّا بِهِ من شدَّة الْجُوع. وَقيل: إِنَّه كَانَ بِمصْر حارة تعرف بحارة الطَّبَق - وَهِي مَعْرُوفَة -[كَانَ] فِيهَا عشرُون دَارا، كل دَار تَسَاوِي ألف دِينَار؛ فأبيعت كلهَا بطبق خبز، كل دَار برغيف. وَأقَام الغلاء يعاود النَّاس سِنِين. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: خرجت إمرأة وَمَعَهَا قدر ربع جَوْهَر؛ فَقَالَت: من يَأْخُذ مني هَذَا الْجَوْهَر ويعطيني عوضه برا. فَلم تَجِد من يَأْخُذهُ مِنْهَا؛ فَقَالَت: إِذا لم تنفعني وَقت الضائقة فَلَا حَاجَة لي بك. وألقته على الأَرْض وانصرفت. فالعجب مَا كَانَ لَهُ من يلتقطه! . وَحكى أَن الْمُسْتَنْصر [هَذَا] أخرج جَمِيع مَا فِي الذَّخَائِر؛ فَبَاعَهَا. يُقَال: إِنَّه بَاعَ فِي [هَذَا] الغلاء ثَمَانِينَ ألف قِطْعَة من أَنْوَاع الْجَوْهَر المثمنة، وَخَمْسَة وَسبعين ألف قِطْعَة من أَنْوَاع الديباج الْمَذْهَب، وَعشْرين ألف سيف، وَأحد عشر ألف دَار.

وافتقر [الْخَلِيفَة] [الْمُسْتَنْصر] [هَذَا] حَتَّى لم يبْق لَهُ إِلَّا سجادة تَحْتَهُ وقبقاب فِي رجله؛ فَصَارَ إِذا نزل [من الْقصر] يستعير بغلة الدِّيوَان حَتَّى يركبهَا. وَمَات فِي هَذَا الغلاء مُعظم النَّاس جوعا. ثمَّ بعد سِنِين تراجع حَاله إِلَى مَا كَانَ [عَلَيْهِ] وأزيد. ودام فِي الْخلَافَة، إِلَى أَن مَاتَ [بهَا - أَعنِي الْقَاهِرَة -] فِي يَوْم الْخَمِيس لإثنتي عشرَة لَيْلَة خلت من ذِي الْحجَّة سنة سبع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة. وَكَانَت مُدَّة خِلَافَته سِتُّونَ سنة - كَمَا تقدم ذكره - وتخلف [من] بعده ابْنه [المستعلي أَحْمد] .

المستعلي بالله

(المستعلي بِاللَّه) أَبُو الْقَاسِم، أَحْمد بن الْمُسْتَنْصر بِاللَّه معد بن الظَّاهِر عَليّ بن الْحَاكِم مَنْصُور بن الْعَزِيز نزار بن الْمعز معد، العبيدي الفاطمي. بُويِعَ بالخلافة بعد موت أَبِيه الْمُسْتَنْصر فِي ثامن عشر [من] ذِي الْحجَّة سنة سبع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة - وَهُوَ يَوْم عيد الغدير - وسنه نَيف على عشْرين سنة. وَكَانَ الْقَائِم بخلافته وزيره أَمِير الجيوش الْأَفْضَل بن شاهنشاه بن أَمِير الجيوش بدر الجمالي. والمستعلى هَذَا هُوَ السَّادِس من خلفاء مصر من بني عبيد. وَفِي أَيَّام المستعلي هَذَا استولت الفرنج على سواحل الشَّام، وَأخذت بَيت الْمُقَدّس. وَأخذ أَمر الفاطميين فِي اضمحلال، وتلاشت خلافتهم، وغلبت الوزراء عَلَيْهِم - كَمَا هُوَ الْآن -. وَلم يبْق لَهُم من يَوْمئِذٍ من الْخلَافَة إِلَّا مُجَرّد الأسم فَقَط.

ودام المستعلي فِي الْخلَافَة، إِلَى أَن مَاتَ فِي يَوْم الثُّلَاثَاء تَاسِع صفر سنة خمس وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة. وَكَانَت خِلَافَته سبع سِنِين وشهرين وأياما. وتخلف بعده ابْنه [الْآمِر بِأَحْكَام الله مَنْصُور] .

للآمر بأحكام الله

(للْآمِر بِأَحْكَام الله) أَبُو عَليّ، الْمَنْصُور بن المستعلي أَحْمد. الفاطمي، العبيدي، السَّابِع من خلفاء مصر من الفاطميين بني عبيد. [بُويِعَ بالخلافة بعد موت أَبِيه المستعلي] . وَكَانَ أسوءهم سيرة، وَأخذت الفرنج فِي أَيَّامه [وَفِي أَيَّام أَبِيه] عدَّة بِلَاد من سواحل الْمُسلمين. قَالَ الْحَافِظ [أَبُو عبد الله شمس الدّين مُحَمَّد] الذَّهَبِيّ -[رَحمَه الله]-: كَانَ الْآمِر كآبائه رَافِضِيًّا خبيثا فَاسِقًا، ظَالِما جبارا، متظاهرا بالمنكر وَاللَّهْو، ذَا كبر وجبروت. وَكَانَ مُدبر سُلْطَانه شاهنشاه [بن] أَمِير الجيوش بدر الجمالي. فَلَمَّا كبر الْآمِر قَتله وَأقَام عوضه فِي الوزارة الْمَأْمُون [أَبَا عبد الله] [مُحَمَّد] البطائحي؛ فظلم وأساء السِّيرَة. إنتهى [كَلَام الذَّهَبِيّ] .

قلت: والمأمون [هَذَا] هُوَ صَاحب جَامع الْأَقْمَر بِالْقَاهِرَةِ. ثمَّ إِن الْآمِر قبض على الْمَأْمُون أَيْضا وَقَتله وصلبه سنة تِسْعَة عشر وَخَمْسمِائة. وَفِي أَيَّام الْآمِر أخذت الفرنج عكا سنة سَبْعَة وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة، وَأخذُوا طرابلس سنة إثنتين وَخَمْسمِائة، وَأخذُوا عرقة وبانياس وعدة بِلَاد فِي تِلْكَ السّنة، وتسلموا بيروت فِي سنة ثَلَاث وَخَمْسمِائة بِالسَّيْفِ، وَأخذُوا صيدا سنة أَربع وَخَمْسمِائة. ثمَّ قصد الْملك الفرنج بردويل أَخذ مصر؛ فَأَهْلَكَهُ الله قبل أَن يصل إِلَى الْعَريش؛ فشق أَصْحَابه بَطْنه، وصبروه، ورموا حشوته هُنَاكَ، فَهِيَ ترْجم إِلَى الْيَوْم. وسمى ذَلِك الْمَكَان بسبخة بردويل. ثمَّ دفنُوا بردويل الْمَذْكُور بالقمامة. وَكَانَ بردويل هُوَ الَّذِي أَخذ بَيت الْمُقَدّس من الْمُسلمين وسواحل كَثِيرَة، وَذَلِكَ بشؤم الْآمِر هَذَا وَأَبِيهِ، فَإِنَّهُ كَانَ ظَالِما قَلِيل الهمة.

وَكَانَ الْآمِر عاصر فِي أول خِلَافَته من خلفاء بَغْدَاد [من] بني الْعَبَّاس المستظهر أَحْمد، [وَفِي آخر] ولَايَته المسترشد، الْفضل. وكل هَذِه الْبِلَاد والسواحل الْمَأْخُوذَة كَانَت تَحت حكم خلفاء مصر الفاطميين، لَيْسَ لخلفاء بني الْعَبَّاس عَلَيْهَا حكم من يَوْم دخل الْمعز إِلَى الديار المصرية إِلَى مَا سَيَأْتِي ذكره. وَفِي أَيَّام الْأَمر أَيْضا - فِي سنة أَربع وَخَمْسمِائة - طلع بِمصْر وأعمالها سَحَاب أسود أظلم مِنْهُ الجو، وهبت ريح شَدِيدَة حَتَّى ظن النَّاس أَنَّهَا الْقِيَامَة، ودامت من الْعَصْر إِلَى الْمغرب [ثمَّ انجلت] . ودام الْآمِر فِي الْخلَافَة، إِلَى أَن قتل وَهُوَ مار على جسر الرَّوْضَة، عِنْد خُرُوجه من الجسر إِلَى الجزيرة بالروضة تجاه مصر. وثب عَلَيْهِ تِسْعَة؛ فضربوه بالسكاكين، حَتَّى أَن أحدهم وثب وَركب خَلفه. ثمَّ حمل جريحا. وَمَات فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثَالِث عشر ذِي الْقعدَة سنة أَربع وَعشْرين وَخَمْسمِائة. وَكَانَت خِلَافَته تِسْعَة وَعشْرين سنة وَتِسْعَة أشهر. [وَمَات من غير عقب] .

الحافظ لدين الله

(الْحَافِظ لدين الله) أَبُو الميمون عبد الْمجِيد ابْن الْأَمِير أبي الْقَاسِم مُحَمَّد ابْن الْخَلِيفَة الْمُسْتَنْصر بِاللَّه معد ابْن الْخَلِيفَة الظَّاهِر لإعزاز دين الله عَليّ بن الْحَاكِم بن الْعَزِيز بن الْمعز بن الْمَنْصُور بن الْقَائِم بن الْمهْدي. العبيدي الفاطمي، الثَّامِن من خلفاء مصر من بني عبيد، وَالْحَادِي عشر مِنْهُم مِمَّن ولي من آبَائِهِ بِبِلَاد الغرب، وهم ثَلَاثَة: الْمهْدي، والقائم، والمنصور. بُويِعَ [الْحَافِظ] بالخلافة بعد قتل الْآمِر، ولقب الْحَافِظ لدين الله، ووزر لَهُ أَبُو عَليّ أَحْمد بن الْأَفْضَل، ولقب أَمِير الجيوش. وَكَانَ قبل ولَايَة الْحَافِظ هَذَا اضْطَرَبَتْ أَحْوَال الديار المصرية؛ لِأَن الْآمِر مَاتَ وَلم يخلف ولدا ذكرا، وَترك [إمرأة] حَامِلا؛ فعدلوا إِلَى الْحَافِظ هَذَا، وَانْقطع النَّسْل من الْآمِر - وَقد ذكرنَا أَمر الْحَافِظ [هَذَا مستوفاة] فِي [تاريخنا] : ((النُّجُوم الزاهرة [فِي مُلُوك مصر والقاهرة)) ]-.

ثمَّ وَقع لِلْحَافِظِ هَذَا أُمُور، وَكَانَ كثير الْمَرَض بالقولنج، فَعمل لَهُ شرماه الْحَكِيم الديلمي طبل القولنج الَّذِي وجد فِي خزائنهم لما ملك) صَلَاح الدّين يُوسُف مصر [من بعدهمْ] . وَكَانَ هَذَا الطبل ركب من الْمَعَادِن السَّبْعَة [وَالْكَوَاكِب السَّبْعَة] فِي أَشْرَافهَا، وكل وَاحِد من السَّبْعَة فِي وقته. وَكَانَ من خَاصَّة هَذَا الطبل إِذا ضرب بِهِ أحد خرج مِنْهُ ريح [من مخرجه] ؛ [ولهذه الخاصية] كَانَ ينفع من القولنج. فَلَمَّا وجد فِي الخزائن ضرب بِهِ بعض الأكراد الأجلاف؛ فَخرج مِنْهُ ريح؛ فَغَضب وكسره من حنقه. وَنَدم صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب عَلَيْهِ غَايَة النَّدَم. وَفِي أَيَّام الْحَافِظ بهدلت الْخلَافَة حَتَّى لم يبْق [لَهُ] من الحكم لَا قَلِيل وَلَا كثير. وَفِي أَيَّامه طلع بِدِمَشْق سَحَاب أسود أظلم مِنْهُ الجو، وهبت ريح عَاصِفَة قلعت شَجرا وهدمت أَمَاكِن كَثِيرَة، ثمَّ أمْطرت مَطَرا عَظِيما زَادَت مِنْهُ الْأَنْهَار، وكادت دمشق تغرق. ودام الْحَافِظ فِي الْخلَافَة، إِلَى أَن مَاتَ فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة.

وَكَانَت خِلَافَته تسع عشرَة سنة وَسَبْعَة أشهر. وَتَوَلَّى [الْخلَافَة من] بعده أَصْغَر أَوْلَاده [الظافر بِاللَّه، أَبُو مَنْصُور إِسْمَاعِيل] .

الظافر بالله

(الظافر بِاللَّه) أَبُو مَنْصُور، إِسْمَاعِيل بن الْحَافِظ لدين الله عبد الْمجِيد ابْن الْأَمِير مُحَمَّد ابْن الْخَلِيفَة الْمُسْتَنْصر بِاللَّه معد بن الظَّاهِر بن الْحَاكِم بن الْعَزِيز بن الْمعز. العبيدي الفاطمي، التَّاسِع من خلفاء مصر من بني عبيد - مَا عدا الثَّلَاثَة الَّذين ولوا بِبِلَاد الغرب -. بُويِعَ الظافر بالخلافة بعد موت أَبِيه الْحَافِظ فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة، وَهُوَ ابْن سبع عشرَة سنة وأشهرا. وَفِي أَيَّامه أَيْضا أضطربت أَحْوَال الديار المصرية؛ لميله إِلَى اللَّهْو والطرب، وَوَقع لَهُ أُمُور فِي خِلَافَته. وَكَانَ الظافر يهوى نصر ابْن وزيره الْعَبَّاس وينادمه، وَينزل إِلَيْهِ الظافر خُفْيَة وينام عِنْده؛ فَتكلم النَّاس بذلك؛ وَبلغ الْعَبَّاس [ذَلِك] ؛ فوبخ إبنه نصر بِمَا سَمعه من الْكَلَام.

فَلَمَّا نزل إِلَيْهِ الْخَلِيفَة [الظافر] فِي بعض اللَّيَالِي على عَادَته وَمَعَهُ خَادِم وَاحِد [وَشرب] ونام؛ فَقَامَ نصر الْمَذْكُور إِلَيْهِ وَقَتله، وَرمى بِهِ فِي بِئْر، وَعرف أَبَاهُ الْوَزير بذلك. فَلَمَّا أصبح الْوَزير [عَبَّاس] توجه إِلَى بَاب الْقصر كَأَنَّهُ لم يعلم بِمَا وَقع، وَطلب الْخَلِيفَة الظافر على الْعَادة؛ لأجل الموكب؛ فَقَالَ لَهُ خَادِم الْقصر: ابْنك نصر يعرف أَيْن هُوَ! . فَقَالَ الْوَزير: مَا لإبني [بِهِ] علم. ثمَّ أحضر الْعَبَّاس أَخَوَيْنِ للظافر وَابْن أَخِيه وقتلهم صبرا بَين يَدَيْهِ. ثمَّ أحضر الْوَزير الْعَبَّاس أَعْيَان الدولة، وَقَالَ لَهُم: إِن الظافر ركب البارحة فِي مركب؛ فَانْقَلَبت بِهِ فغرق. وَقَامَ وَدخل الْحَرِيم وَأخرج عِيسَى بن الظافر، وَبَايَعَهُ بالخلافة، ولقبه بالفائز. وتفرق النَّاس عَن الْوَزير [الْعَبَّاس] ؛ لما عرفُوا أَمر الظافر؛ وطلبوا بِدَم الْخَلِيفَة [الظافر] . وَوَقع لعباس [الْوَزير] الْمَذْكُور أُمُور حَتَّى قتل هُوَ وَابْنه.

وَقد استوعبنا ذَلِك [كُله] فِي [كتَابنَا] ((النُّجُوم الزاهرة)) . والظافر هَذَا هُوَ صَاحب الْجَامِع الظافري، الْمَعْرُوف الْآن بِجَامِع الفاكهيين دَاخل الْقَاهِرَة. وَكَانَت خِلَافَته أَربع سِنِين وَسَبْعَة أشهر وَسَبْعَة أَيَّام. وتخلف بعده ابْنه [الفائز عِيسَى - حَسْبَمَا تقدم ذكره -] .

الفائز بنصر الله

(الفائز بنصر الله) أَبُو الْقَاسِم، عِيسَى بن الظافر إِسْمَاعِيل بن الْحَافِظ [عبد الْمجِيد ابْن الْأَمِير مُحَمَّد بن الْمُسْتَنْصر معد بن الظَّاهِر عَليّ بن الْحَاكِم] مَنْصُور بن الْعَزِيز نزار بن الْمعز معد بن الْمَنْصُور بن الْقَائِم بن الْمهْدي، العبيدي الفاطمي، الْعَاشِر من خلفاء مصر من بني عبيد، وَالثَّالِث عشر من آبَائِهِ الَّذين تخلفوا بالمغرب. بُويِعَ بالخلافة بعد قتل أَبِيه الظافر، وَهُوَ أَنه: لما تحقق النَّاس فقد أَبِيه دخل الْوَزير عَبَّاس وَأَخذه من الْحَرِيم، وَحمله على كتفه، وَأخرجه إِلَى النَّاس قبل رفع أَعْمَامه المقتولين - الَّذين قَتلهمْ الْوَزير [عَبَّاس] حَسْبَمَا تقدم ذكره - فَرَأى الصَّبِي الْقَتْلَى؛ فَفَزعَ واضطرب. ودام بِهِ ذَلِك الْفَزع، إِلَى أَن مَاتَ بعد مُدَّة سِنِين. وَلما أخرجه [عَبَّاس] الْوَزير إِلَى النَّاس بَايعُوهُ بالخلافة، ولقبوه بالفائز، وَله خمس سِنِين من الْعُمر، ووزر لَهُ الْعَبَّاس.

كل ذَلِك والفائز مائل على كتف الْوَزير من الرجفة وَهُوَ يَصِيح. وَلما تمّ أمره فِي الْخلَافَة، وَتحقّق النَّاس قتل الْوَزير [عَبَّاس الْمَذْكُور] للخليفة الظافر أخذُوا فِي التَّدْبِير عَلَيْهِ. وَأرْسلت النِّسَاء يستغيثون بطلائع بن رزيك وَكَانَ يَوْم ذَاك مُتَوَلِّي منية ابْن خصيب؛ فَجمع طلائع عساكره وَقصد عباسا. وَبلغ الْعَبَّاس ذَلِك؛ فَجمع مَا قدر عَلَيْهِ من الْجَوَاهِر وَالْأَمْوَال وهرب نَحْو الشَّام؛ فَخرج عَلَيْهِ الفرنج فِي طَرِيقه وأسروه وَأخذُوا جَمِيع مَا كَانَ مَعَه. وَتَوَلَّى طلائع بن رزيك وزارة مصر، ولقب بِالْملكِ الصَّالح - وَهُوَ صَاحب الْجَامِع خَارج بَابي زويلة -. وَلما اسْتَقل طلائع بالوزارة أرسل؛ فبذل للفرنج مَالا عَظِيما، وَأخذ عباسا مِنْهُم، وَقَتله وصلبه على بَاب الْقصر. وَفِي أَيَّام الفائز [هَذَا] فِي سنة إثنتين وَخمسين وخمسائة كَانَت بِالشَّام زلازل عَظِيمَة خربَتْ قصورا كَثِيرَة ومدنا وقلاعا وَقتلت عَالما كثيرا.

ثمَّ مَاتَ الفائز [هَذَا] فِي يَوْم الْجُمُعَة سَابِع عشر شهر رَجَب سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة، وَهُوَ ابْن عشر سِنِين أَو نَحْوهَا. وَبَايَعُوا بعده العاضد لدين الله عبد الله بن يُوسُف ابْن الْحَافِظ، وَهُوَ آخر الْخُلَفَاء الفاطميين بِمصْر - حَسْبَمَا يَأْتِي ذكره، [إِن شَاءَ الله تَعَالَى]-.

العاضد بالله

(العاضد بِاللَّه) أَبُو مُحَمَّد، عبد الله ابْن الْأَمِير يُوسُف ابْن الْخَلِيفَة الْحَافِظ عبد الْمجِيد بن الْأَمِير مُحَمَّد ابْن الْخَلِيفَة الْمُسْتَنْصر [بِاللَّه] [معد] ابْن الْخَلِيفَة الظَّاهِر عَليّ ابْن الْخَلِيفَة الْحَاكِم مَنْصُور ابْن الْخَلِيفَة الْعَزِيز [نزار] ابْن الْخَلِيفَة الْمعز معد ابْن خَليفَة الغرب [الْمَنْصُور إِسْمَاعِيل ابْن خَليفَة الغرب الْقَائِم مُحَمَّد ابْن خَليفَة الغرب] الْمهْدي عبيد الله، العبيدي الفاطمي الْمصْرِيّ، الْحَادِي عشر من خلفاء بني عبيد بِالْقَاهِرَةِ، وَالرَّابِع عشر مِمَّن ولي من آبَائِهِ بالغرب. والعاضد هَذَا هُوَ آخر خلفاء مصر من بني عبيد. بُويِعَ بالخلافة فِي شهر رَجَب بعد موت ابْن عَمه الفائز سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة، وَهُوَ ابْن إِحْدَى عشرَة سنة وشهرا. وَكَانَ الْقَائِم بتدبير ملكه وزيره الْملك الصَّالح طلائع بن رزيك، ثمَّ وزر لَهُ بعد قتل طلائع شاور، وَهُوَ الَّذِي كَانَ سَببا لخراب الديار المصرية [وَزَوَال دولة بني عبيد مِنْهَا] .

ثمَّ فِي أَوَاخِر أَيَّام العاضد هَذَا ملك بَنو أَيُّوب الديار المصرية. وَأول من ملك مِنْهُم أَسد الدّين شيركوه. توزر للعاضد بعد قتل شاور، ولقب بِالْملكِ الْمَنْصُور، فَلم تطل مدَّته، وَمَات بعد شهر وَأَيَّام، فولي العاضد عوضه فِي الوزارة صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب. فَلَمَّا ولي صَلَاح الدّين الوزارة ولقب بِالْملكِ النَّاصِر؛ قطع بعد سِنِين اسْم العاضد من الْخطْبَة بِمصْر وأعمالها بِأَمْر [الْملك] الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي صَاحب الشَّام، الْمَعْرُوف بِنور الدّين الشَّهِيد. وَمَات العاضد بعد ذَلِك بأيام، فِي يَوْم الأثنين - يَوْم عَاشُورَاء - من سنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة. وَاسْتولى صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب على مصر وذخائرها - وَقد استوعبنا ذَلِك [كُله] مفصلا فِي ((النُّجُوم الزاهرة)) -. وَاخْتلفُوا فِي سَبَب موت العاضد؛ قيل: إِنَّه تفكر فِي أُمُوره؛ فرآها فِي ادبار مَعَ وزيره صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب؛ فَأَصَابَهُ ذرب عَظِيم؛ فَمَاتَ مِنْهُ. وَقيل: إِنَّه لما خطب لبني الْعَبَّاس بِالْقَاهِرَةِ بلغَة ذَلِك؛ فَاغْتَمَّ [وَمَات] . وَقيل: إِنَّه لما خطب لبني الْعَبَّاس بِالْقَاهِرَةِ بلغَة ذَلِك؛ فَاغْتَمَّ [وَمَات] . وَقيل: إِنَّه لما أَيقَن بِزَوَال [دولته] كَانَ فِي يَده خَاتم لَهُ فص مَسْمُوم؛ فمصه؛ فَمَاتَ مِنْهُ.

قَالَ الذَّهَبِيّ: وَكَانَ العاضد مَعَ وزرائه كالمحجور عَلَيْهِ، لَا يتَصَرَّف فِي كل مَا يُرِيد، وَمَعَ هَذَا كَانَ رَافِضِيًّا سبابا خبيثا كآبائه. وَقَالَ القَاضِي شمس الدّين [أَحْمد] بن خلكان -[رَحمَه الله]-: وَكَانَ إِذا رأى سنيا يسْتَحل دَمه. قلت: وَملك بعده الديار المصرية وزيره السُّلْطَان صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب.

الجزء 2

ذكر ابْتِدَاء دولة بني أَيُّوب الأكراد وَأول من ولى من الأكراد أَخُو أَيُّوب أَسد الدّين شيركوه. وَقد أختلف المؤرخون فِي [أَمر] ولَايَة أَسد الدّين شيركوه هَذَا على مصر؛ فَمنهمْ من عده من الْأُمَرَاء، وَمِنْهُم من ذكره فِي الوزراء؛ وَلِهَذَا الْمُقْتَضى أخرنا تَرْجَمته بعد موت العاضد فِي ((النُّجُوم الزاهرة)) . وَقد ذكرنَا أَنه ولى الوزارة للعاضد بعد قتل شاور تِلْكَ الْمدَّة الْيَسِيرَة وَمَات. والناظر فِي تَرْجَمته [هُوَ] بالأختيار، إِن شَاءَ يَجعله أَمِيرا، وَإِن شَاءَ يَجعله وزيرا، إنتهى. قلت: وَنسب أَسد الدّين [شيركوه الْمَذْكُور] هُوَ: شيركوه بن شاذى بن مَرْوَان، عَم السُّلْطَان صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب، ويأتى بَقِيَّة نسبهم وَمَا قيل فِي أصلهم فِي تَرْجَمَة صَلَاح الدّين [يُوسُف بن أَيُّوب] [الْمَذْكُور] .

وَأما أَسد الدّين [هَذَا] ؛ فَإِنَّهُ لما قتل شاور الْوَزير أَخْلَع عَلَيْهِ [الْخَلِيفَة] العاضد بالوزارة عوضه، ولقبه بِالْملكِ الْمَنْصُور؛ فَلم تطل مدَّته، وَمَات بعد شَهْرَيْن - تنقص أَيَّامًا - فَجْأَة، فِي يَوْم السبت ثَانِي عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة. وَولي الوزارة [من] بعده ابْن أَخِيه صَلَاح الدّين [يُوسُف بن أَيُّوب بن شاذى] .

ذكر ولاية الملك الناصر صلاح الدين

ذكر ولَايَة الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين أَبُو المظفر، يُوسُف ابْن الْأَمِير نجم الدّين أَيُّوب بن شاذى بن مَرْوَان الْكرْدِي. ولي الوزارة للعاضد بعد موت عَمه أَسد الدّين شيركوه فِي الْعشْر الْأَخير من جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة، ولقب بِالْملكِ النَّاصِر؛ فاستولى على مصر، ومهد أمورها، وَصَارَ يَدْعُو للعاضد الْخَلِيفَة، ثمَّ [من بعده] للْملك الْعَادِل نور الدّين مُحَمَّد بن زنكي صَاحب الشَّام، ثمَّ من بعدهمَا لصلاح الدّين هَذَا. [وأصل] بَنو أَيُّوب: كَانُوا من دوين - بِضَم الدَّال الْمُهْملَة وَكسر الْوَاو وَسُكُون الْيَاء وَبعدهَا نون - وَهِي فِي اخر عمل أذربيجان من جِهَة أران وبلاد الكرخ - وهمن أكراد روادية كَانُوا فِي خدمَة زنكي بن أق سنقر، ثمَّ من بعده أرسلهم إِلَى الديار المصرية، وقصتهم فِيهَا تطول.

وَالْمَقْصُود: أَن صَلَاح الدّين هَذَا لما ولى الوزارة للعاضد اسْتمرّ على ذَلِك إِلَى سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة أرسل الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود إِلَى صَلَاح الدّين هَذَا يَأْمُرهُ بِقطع الْخطْبَة للعاضد بِمصْر وَإِقَامَة الْخطْبَة بهَا للمستضئ حسن العباسي خَليفَة بَغْدَاد؛ فَأرْسل صَلَاح الدّين لنُور الدّين يعْتَذر بالخوف من وثوب أهل مصر وامتناعهم من الْإِجَابَة إِلَى ذَلِك؛ فَأرْسل نور الدّين ثَانِيًا إِلَى صَلَاح الدّين بذلك، وخشن لَهُ فِي القَوْل وألزمه بذلك. وَكَانَ نور الدّين يُكَاتب صَلَاح الدّين بالأمير الاسفهسلار وَيكْتب علامته فِي الْكتب تَعْظِيمًا أَن يكْتب إسمه. وَكَانَ لَا يفرد صَلَاح الدّين بمكاتبة وَحده، بل يكْتب لَهُ ولكافة الْأُمَرَاء الَّذين بِمصْر يَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِن كَانَ السُّلْطَان صَلَاح الدّين هُوَ عظيمهم واعتماد نور الدّين عَلَيْهِ. وَلما ألزم نور الدّين صَلَاح بِقطع إسم العاضد من الْخطْبَة اسْتَشَارَ صَلَاح الدّين الْأُمَرَاء الَّذين هم رفقته من عِنْد نور الدّين كَيفَ يكون الأبتداء بِالْخطْبَةِ للعباسية؟ ؛ فاختلفت أَقْوَالهم، إِلَى أَن قَامَ رجل أعجمي يعرف بالأمير الْعَالم لما رأى مَا هم فِيهِ من الإحجام قَالَ: أَنا أبتدئ بهَا. فَلَمَّا كَانَ أول جُمُعَة من الْمحرم من سنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة صعد الْمِنْبَر قبل الْخَطِيب ودعى للخليفة المستضئ العباسي خَليفَة بَغْدَاد؛ فَلم يتَكَلَّم أحد من المصريين، وَلَا أَنْكَرُوا ذَلِك. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة الثَّانِيَة أَمر صَلَاح الدّين الخطباء [بِمصْر والقاهرة] بِقطع إسم العاضد العبيدي من الْخطْبَة وَإِقَامَة الْخطْبَة باسم المستضئ حسن العباسي؛ فَفَعَلُوا ذَلِك. وَكتب صَلَاح الدّين إِلَى نور الدّين يعرفهُ بذلك. وَمَات العاضد فِي يَوْم عَاشُورَاء قبل أَن يبلغة، [وَقيل: بلغَة] ؛ فَاغْتَمَّ وَمَات - حَسْبَمَا ذَكرْنَاهُ -.

وَاسْتولى صَلَاح الدّين على الديار المصرية على أَنه نَائِبا لنُور الدّين؛ فَلم تطل أَيَّام نور الدّين بعد ذَلِك وَمَات بعد سنيات. واستفحل أَمر صَلَاح الدّين بِمَوْتِهِ، وَملك الْبِلَاد الشامية، وَفتح تِلْكَ الفتوحات الهائلة، من جُمْلَتهَا بَيت الْمُقَدّس - وَقد استوعبنا وقائعه وفتوحاته بِتَمَامِهَا وكمالها فِي ((النُّجُوم الزاهرة)) ؛ يضيق هَذَا الْمُخْتَصر عَن ذكرهَا -. ودام صَلَاح الدّين بالسواحل الشامية سِنِين، إِلَى أَن مرض بِدِمَشْق وَمَات فِي صَبِيحَة يَوْم الْأَرْبَعَاء السَّابِع وَالْعِشْرين من صفر سنة تسع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة بعد صَلَاة الصُّبْح. وَكَانَ يَوْم مَوته يَوْمًا [مشهودا] لم يصب النَّاس بِمثلِهِ [مُنْذُ] فقد الْخُلَفَاء الراشدون - رَضِي الله عَنْهُم -. وتسلطن بعده بِدِمَشْق وَلَده الْأَفْضَل، وتسلطن بِمصْر وَلَده [الْملك] الْعَزِيز عُثْمَان. وَكَانَت مُدَّة سلطنة صَلَاح الدّين على مصر أَرْبعا وَعشْرين سنة، وَهُوَ صَاحب الفتوحات، وَصَاحب خانقاة سعيد السُّعَدَاء بِالْقَاهِرَةِ، والمدرسة السيوفية [بِالْقَاهِرَةِ] ، والخانقاة بالقدس [الشريف] . وَهُوَ أول مُلُوك بني أَيُّوب بعد عَمه أَسد الدّين شيركوه وأجلهم وأعظمهم بِلَا مدافعة.

وَهُوَ الَّذِي أَقَامَ السَّادة الشَّافِعِيَّة بالديار المصرية وَقَدَّمَهُمْ على غَيرهم من الْمذَاهب - رَحمَه الله [تَعَالَى]-. ومولده بقلعة تكريت لما كَانَ أَبوهُ وَعَمه بهَا فِي سنة إثنتين وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة. وَخلف سَبْعَة عشر ولدا ذكرا. وَمَات وَلم يخلف بخزائنه من الذَّهَب وَالْفِضَّة إِلَّا سَبْعَة وَأَرْبَعين درهما ناصرية. وَلم يخلف ملكا وَلَا بستانا وَلَا قَرْيَة - رَحمَه الله تَعَالَى -.

الملك العزيز

الْملك الْعَزِيز عماد الدّين أَبُو الْفَتْح، عُثْمَان ابْن السُّلْطَان صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب ابْن شاذى بن مَرْوَان. تسلطن بعد موت أَبِيه، وَكَانَ نَائِبا لِأَبِيهِ على مصر لما كَانَ أَبوهُ بِالشَّام. وَلما مَاتَ أَبوهُ اسْتَقل [الْملك] الْعَزِيز هَذَا [بِملك مصر] ، وَذَلِكَ بِاتِّفَاق أكَابِر الْأُمَرَاء. وَتمّ أمره وسنه نَيف وَعِشْرُونَ سنة، وَكَانَ أَصْغَر إخْوَته. وَكَانَ أكبر أَوْلَاد صَلَاح الدّين، الْملك الْأَفْضَل صَاحب دمشق، ثمَّ من بعده [الْملك] الظَّاهِر غازى صَاحب حلب. وَوَقع للعزيز هَذَا مَعَ إخْوَته أُمُور -[ذَكرنَاهَا فِي ((النُّجُوم الزاهرة)) ]-. ودام [الْملك الْعَزِيز] فِي الْملك، إِلَى أَن خرج إِلَى الفيوم يتصيد، فلاح

لَهُ ظبى؛ فركض [الْفرس] خَلفه، فكبا بِهِ الْفرس، فَدخل قربوس السرج فِي فُؤَاده؛ فَحمل إِلَى الْقَاهِرَة، وَمَات فِي الْعشْرين من الْمحرم سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة عَن سبع وَعشْرين سنة، وَدفن عِنْد الإِمَام الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ -. وتسلطن بعده ابْنه نَاصِر الدّين مُحَمَّد، وَلم يذكر عَمه الْعَادِل أَبَا بكر فِي الْوَصِيَّة، وَأوصى للأمير أزكش - وَكَانَ مقدم الأَسدِية -. وَكَانَ [الْملك] الْعَزِيز ملكا شجاعا جوادا، كَرِيمًا دينا، عَاقِلا سيوسا. وَكَانَ مولده فِي جُمَادَى الأولى سنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة.

الملك المنصور

الْملك الْمَنْصُور نَاصِر الدّين، مُحَمَّد ابْن السُّلْطَان الْملك الْعَزِيز عُثْمَان ابْن الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن الْأَمِير نجم الدّين أَيُّوب بن شاذى بن مَرْوَان الأيوبي سُلْطَان الديار المصرية. ملك مصر بعد موت أَبِيه وعمره نَحْو عشر سِنِين فِي محرم سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة، وَصَارَ مُدبر ملكه الْأَمِير بهاء الدّين قراقوش. وَوَقع للمنصور هَذَا مَعَ عَمه الْملك الْأَفْضَل صَاحب دمشق أُمُور ووقائع، [ثمَّ] مَعَ [عَم] أَبِيه [الْملك] الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب. وَلم تطل أَيَّام الْمَنْصُور هَذَا؛ لصِغَر سنه، ولتغلب أَعْمَامه عَلَيْهِ. واخر الْأَمر أَن عَم أَبِيه [الْملك] الْعَادِل خلعه من الْملك وتسلطن عوضه [فِي] سنة سِتّ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة؛ فَكَانَت مُدَّة ملكه على مصر سنة وَاحِدَة وَتِسْعَة أشهر سَوَاء. وَاسْتمرّ [الْملك] الْمَنْصُور بِالْقَاهِرَةِ، وَلم أَقف [بعد ذَلِك] على وَفَاته.

الملك العادل

الْملك الْعَادِل سيف الدّين، أَبُو بكر ابْن الْأَمِير نجم الدّين أبي الشُّكْر أَيُّوب بن شاذى بن مَرْوَان. تقدم ذكر نسبه فِي تَرْجَمَة أَخِيه السُّلْطَان صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب. تسلطن [الْملك] الْعَادِل هَذَا بعد خلع ابْن [ابْن] أَخِيه [الْملك] الْمَنْصُور مُحَمَّد فِي شَوَّال سنة سِتّ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة. وَكَانَ الْملك الْعَادِل هَذَا لقب بالعادل فِي أَيَّام أَخِيه صَلَاح الدّين قبل سلطنته على عَادَة مُلُوك الأكراد، وَملك عدَّة بِلَاد. وطالت أَيَّامه فِي السَّعَادَة، إِلَى أَن ملك الديار المصرية. وَكَانَ مولد الْعَادِل بِمَدِينَة بعلبك وَأَبوهُ أَيُّوب نَائِبا عَلَيْهَا للأتابك زنكى بن أق سنقر فِي سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة. وَهُوَ أَصْغَر من أَخِيه صَلَاح الدّين [يُوسُف] بِسنتَيْنِ. وَهُوَ بكنيته أشهر. وَكَانَ مسعودا فِي حركاته وَأَوْلَاده، وَلم نعلم فِي مُلُوك الْإِسْلَام من أعْطى مَا أعْطِيه الْعَادِل فِي نجابة أَوْلَاده وَذريته، حَتَّى أَن غَالب [مُلُوك] بني أَيُّوب هم ذُريَّته.

وطالت [أَيَّام الْعَادِل وصفت أوقاته وَحسنت أَيَّامه] . وَكَانَ عَاقِلا دينا محبا للْعُلَمَاء والصلحاء. وَقسم الممالك فِي أَوْلَاد، وَصَارَ [هُوَ] يتَرَدَّد فِي الممالك بَينهم، وينتقل من مملكة إِلَى أُخْرَى؛ فَكَانَ يصيف بِالشَّام لأجل الْفَوَاكِه والمياه الْبَارِدَة، ويشتي [بالديار المصرية] ؛ لإعتدال الْوَقْت فِيهَا. وَكَانَ كثير الْأكل؛ يَأْكُل وَحده خروفا [لطيفا] مشويا، وَكَانَ كثير النِّكَاح، وَكَانَ يحب من يؤاكله، وَكَانَ غَالب أكله مثل الْخَيل فِي اللَّيْل. ودام فِي الْملك، إِلَى أَن مرض. وَطَالَ مَرضه وَتوفى بعالقين بِبِلَاد الشَّام فِي ثامن جُمَادَى الآخر سنة خمس عشرَة وسِتمِائَة؛ فصبره وَلَده [الْملك] الْمُعظم عِيسَى صَاحب دمشق وَحمله - وَلم يعلم بِمَوْتِهِ أحد - إِلَى قلعة دمشق؛ فدفنه بهَا. وَلما مَاتَ [الْملك] الْعَادِل [هَذَا] اسْتَقر كل وَاحِد من أَوْلَاده بمملكته الَّتِي كَانَ قسمهَا بَينهم؛ فاستقر [الْملك] الْكَامِل مُحَمَّد فِي سلطنة مصر - كَمَا كَانَ عَلَيْهَا أَيَّام أَبِيه [الْعَادِل]-، وَاسْتقر [الْملك] الْمُعظم عِيسَى فِي ممالك الشَّام - كَمَا كَانَ [أَيْضا] أَيَّام أَبِيه -. والمعظم هَذَا هُوَ الَّذِي استولى على ذخائر أَبِيه الْعَادِل كَونه مَاتَ عِنْده. وَاسْتقر [الْملك] الْأَشْرَف مُوسَى شاه أرمن بديار بكر وممالك الشرق.

وَبَاقِي أَوْلَاده كل وَاحِد فِي مَمْلَكَته أَو فِي خدمَة [أَخ من إخْوَته] . وَكَانَت [مُدَّة] سلطنته على مصر [وَغَيرهَا] ثَمَانِيَة عشرَة سنة، وَنَحْو ثَمَانِيَة أشهر تخمينا.

الملك الكامل

الْملك الْكَامِل نَاصِر الدّين، مُحَمَّد ابْن الْملك الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب، الأيوبي، سُلْطَان الديار المصرية. اسْتَقل بمملكة مصر [من] يَوْم الْجُمُعَة سَابِع جُمَادَى الْآخِرَة من سنة خمس عشرَة وسِتمِائَة - أَعنِي بِقَوْلِي: اسْتَقل؛ لِأَنَّهُ كَانَ تسلطن بِمصْر فِي حَيَاة أَبِيه لما قسم الممالك بَين أَوْلَاده من سِنِين قبل مَوته كَمَا تقدم [ذكره]-. فَلَمَّا مَاتَ الْملك الْعَادِل فِي هَذَا التَّارِيخ تفرد الْكَامِل بِالْخطْبَةِ والسلطنة. واستبد بِأُمُور الديار المصرية من غير شريك. وَكَانَ الْملك الْكَامِل هَذَا أكبر أَوْلَاد الْعَادِل بعد أَخِيه مودود، وَكَانَ شجاعا مقداما، فَاضلا، عادلا فِي الرّعية. قَالَ الْحَافِظ [أَبُو عبد الله شمس الدّين مُحَمَّد] الذَّهَبِيّ فِي تَارِيخه -[رَحمَه الله تَعَالَى]-: وتملك الْكَامِل الديار المصرية نَحْو أَرْبَعِينَ سنة، شطرها فِي حَيَاة وَالِده.

وَقَالَ الْحَافِظ عبد الْعَظِيم الْمُنْذِرِيّ - رَحمَه الله -: وَأَنْشَأَ الْكَامِل دَار الحَدِيث بِالْقَاهِرَةِ - يَعْنِي عَن الْمدرسَة الكاملية ببين القصرين -، ثمَّ عمر الْقبَّة على ضريح الإِمَام الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ - وأجرى المَاء من بركَة الْحَبَش إِلَى حَوْض السَّبِيل [بِهِ] . إنتهى. قلت: وللكامل المواقف فِي الْجِهَاد مَعَ الفرنج بدمياط وَغَيرهَا سنينا طَوِيلَة، وكافح الْعَدو المخذول برا وبحرا، لَيْلًا وَنَهَارًا. وَلم يزل على ذَلِك حَتَّى أعز الله الْإِسْلَام وَأَهله، وأخذل الْكفْر [وَأَهله بِهِ] . وَكَانَ مُعظما للسّنة النَّبَوِيَّة. وَكَانَ الْكَامِل [أَيْضا] سَافر فِي أَوَاخِر أَيَّامه إِلَى الْبِلَاد الشمالية وافتتح عدَّة بِلَاد بهَا. ودام على ملك مصر، إِلَى أَن توفّي بِدِمَشْق فِي عصر يَوْم الْأَرْبَعَاء، وَدفن من الْغَد [فِي] يَوْم الْخَمِيس ثَانِي عشْرين [شهر] رَجَب سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة. وَملك بعده [مصر] ابْنه [الْملك الْعَادِل] .

الملك العادل

الْملك الْعَادِل سيف الدّين، أَبُو بكر ابْن [الْملك] الْكَامِل مُحَمَّد ابْن [الْملك] الْعَادِل أبي بكر ابْن نجم الدّين أَيُّوب، الأيوبي سُلْطَان الديار المصرية، الْمَعْرُوف بالعادل الصَّغِير - أَعنِي بالكنية عَن جده -. تسلطن بديار مصر بعد وَفَاة أَبِيه فِي أَوَاخِر سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة. وَسبب سلطنته وتقدمه على أَخِيه الْأَكْبَر [الْملك] الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب، لِأَن [الْملك] الْكَامِل لما مَاتَ بِدِمَشْق كَانَ الْعَادِل هَذَا نَائِبه بِمصْر، وَكَانَ الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب نَائِب أَبِيه الْكَامِل بِبِلَاد الشرق. فَلَمَّا مَاتَ الْكَامِل اتّفق الْأُمَرَاء على نصب الْعَادِل هَذَا فِي سلطنة مصر، وَأَن يكون نَائِبه بِدِمَشْق ابْن عَمه الْملك الْجواد يُونُس، وَأَن يكون أَخُوهُ [الْملك] الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب على حَاله بديار بكر وممالك الشرق؛ فتم ذَلِك. وتسلطن الْعَادِل هَذَا وَله نَحْو ثَمَانِيَة عشر سنة. ثمَّ بلغ الْخَبَر أَخَاهُ [الْملك] الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب؛ فَتحَرك طَالبا لملك مصر حَتَّى ملكهَا بعد أُمُور وَقعت لَهُ مَعَ أَخِيه الْعَادِل هَذَا، وقهر الصَّالح الْعَادِل وخلعه من الْملك وحبسه، ثمَّ قَتله بعد سِنِين فِي السجْن، فِي شَوَّال سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة. ثمَّ مَاتَ [الْملك] الصَّالح [بعده بِمدَّة] يسيرَة. وَكَانَت سلطنة الْعَادِل على مصر سنة وشهرين وأياما مَعَ مَا وَقع لَهُ فِيهَا من الإنكاد والحروب والفتن - رَحمَه الله [تَعَالَى]-.

الملك الصالح

الْملك الصَّالح نجم الدّين، أَيُّوب ابْن السُّلْطَان [الْملك] الْكَامِل مُحَمَّد ابْن [السُّلْطَان الْملك] الْعَادِل أبي بكر ابْن الْأَمِير نجم الدّين أَيُّوب، الأيوبي سُلْطَان الديار المصرية. تسلطن بعد خلع أَخِيه [الْملك] الْعَادِل بعد أُمُور صدرت بَينهمَا وَبَين ابْن عَمه [الْملك] . [الْملك] النَّاصِر [دَاوُد] صَاحب الكرك فِي يَوْم الأثنين خَامِس عشْرين ذِي الْحجَّة سنة سبع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة، وعمره يَوْم ذَاك نَحْو أَرْبَعَة وَثَلَاثُونَ سنة؛ لِأَن مولده [كَانَ] بِالْقَاهِرَةِ فِي أَيَّام جده الْعَادِل فِي سنة ثَلَاث وسِتمِائَة؛ فَنَشَأَ [بهَا] واستخلفه أَبوهُ الْكَامِل على مصر لما توجه إِلَى الشرق. وَلما عَاد [الْملك] الْكَامِل إِلَى مصر عزل ابْنه الصَّالح هَذَا عَن مصر وولاه سلطنة حصن كيفا من ديار بكر؛ فَتوجه الصَّالح [هَذَا] إِلَى الْحصن. وَوَقع لَهُ بهَا أُمُور يطول شرحها، وافتتح هُنَاكَ عدَّة بِلَاد. ودام على ذَلِك، إِلَى أَن مَاتَ أَبوهُ الْكَامِل وتسلطن أَخُوهُ الْعَادِل؛ عظم ذَلِك عَلَيْهِ؛ فَتحَرك بعد مُدَّة لطلب ملك مصر؛ فَإِنَّهُ كَانَ الأسن.

وَوَقع لَهُ فِي طَرِيقه أُمُور ومحن ذَكرنَاهَا فِي ((النُّجُوم الزاهرة)) إِلَى أَن ملك مصر، [وخلع أَخَاهُ الْعَادِل وحبسه، ثمَّ قَتله]- حَسْبَمَا تقدم ذكره -. وَسبب قَتله أَن الصَّالح هَذَا لما أَرَادَ التَّوَجُّه إِلَى الْبِلَاد الشامية خَافَ من إبْقَاء أَخِيه الْعَادِل؛ فَقتله سرا؛ فَلم يتمتع بعده بِنَفسِهِ، وَوَقعت الْأكلَة فِي خَدّه بِدِمَشْق؛ فَعَاد إِلَى مصر عليلا. وَفِي عوده نزل ملك الفرنج الفرنسيس بجيوشه على دمياط، وَأَخذهَا وَقتل وَأسر وسبى؛ فَسَار إِلَيْهِ الصَّالح هَذَا مَرِيضا فِي محفة حَتَّى نزل المنصورة، وَوَقع لَهُ حروب مَعَ الفرنج. وَمَات الصَّالح وَهُوَ على المنصورة - رَحمَه الله تَعَالَى - فِي لَيْلَة النّصْف من شعْبَان، فأخفت زَوجته أم خَلِيل شجر الدّرّ مَوته؛ خوفًا على الْمُسلمين، إِلَى أَن حضر وَلَده الْمُعظم توران شاه [من كيفا. وَصَارَت شجر الدّرّ تدبر المملكة قبل حُضُور توران شاه] وَتعلم على المناشير بِخَط يحاكى خطّ الصَّالح؛ فَإِنَّهَا كَانَت كاتبة حاذقة، وساست النَّاس فِي تِلْكَ الشدائد والحروب أحسن سياسة. فَلَمَّا حضر توران شاه إِلَى المنصورة حصل بقدومه النَّصْر على الْعَدو [فِي] ذَلِك الْيَوْم - وَللَّه الْحَمد -. فَكَانَت مُدَّة [سلطنة الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب الْمَذْكُور] على مصر تسع سِنِين وَسَبْعَة أشهر وَعشْرين يَوْمًا. وَالْملك الصَّالح هَذَا هُوَ صَاحب الْمدَارِس ببين القصرين، وقلعة الرَّوْضَة - تجاه مصر الْقَدِيمَة على النّيل، وكما بناؤها فِي سنة وَنصف.

وَكَانَت من عجائب الدُّنْيَا، وأسكن فِيهَا جمَاعَة من مماليكه؛ وَلِهَذَا كَانَ يُسمى غالبهم بالبحرية. وَهُوَ الَّذِي أنشا المماليك الأتراك ((بالديار (المصرية)) . وَفِيه يَقُول بعض الشُّعَرَاء) [فِي هَذَا الْمَعْنى] . (الصَّالح المرتضى أَيُّوب أَكثر من ... ترك بدولته ياشر مجلوب) (لَا، وَأخذ الله أيوبا بفعلته ... فَالنَّاس كلهم فِي ضرّ أَيُّوب)

الملك المعظم توران شاه

الْملك الْمُعظم توران شاه ابْن الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب ابْن الْملك الْكَامِل مُحَمَّد ابْن [الْملك] الْعَادِل أبي بكر بن نجم الدّين أَيُّوب، الأيوبي الْمصْرِيّ سُلْطَان الديار المصرية. تسلطن بعد موت أَبِيه الصَّالح بِنَحْوِ شَهْرَيْن وَنصف، وَقيل: بعد أَرْبَعَة أشهر [وَنصف] وَهُوَ الْأَصَح؛ لِأَن الصَّالح مَاتَ على المنصورة فِي [نصف] شعْبَان، وأخفت زَوجته شجر الدّرّ مَوته مَخَافَة على الْمُسلمين. وَبَايَعُوا لإبنه توران شاه هَذَا فِي غيبته. ودبرت شجر الدّرّ أُمُور المملكة، إِلَى أَن قدم توران [شاه] من حصن كيفا فِي أول الْمحرم من سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وسِتمِائَة، فتح الله على يَدَيْهِ فِي يَوْم دُخُوله؛ فتيمن [النَّاس] بطلعته. وَلما ملك [مصر] واستفحل أمره، أَخذ يهدد مماليك أَبِيه بِالْقَتْلِ والفتك؛ فَتَنَكَّرت خواطر الْجَمِيع عَلَيْهِ، وَاتَّفَقُوا على قَتله. ثمَّ مَا كَفاهُ ذَلِك حَتَّى صَار يتوعد شجر الدّرّ بالمصادرة، وَيطْلب مِنْهَا التحف؛ فَدفعت إِلَيْهِ شَيْئا كثيرا، وَهُوَ لَا يكف عَنْهَا الطّلب.

وَكَانَت شجر الدّرّ مطاعة؛ فَتغير خاطرها عَلَيْهِ، مَعَ مَا تنكر [من] قُلُوب مماليك أَبِيه؛ فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فِي يَوْم الأثنين سَابِع عشْرين الْمحرم من سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وسِتمِائَة [الْمَذْكُورَة] ؛ فَلم يثبت لَهُم، وهرب وطلع إِلَى برج خشب؛ فأطلقوا فِيهِ النفظ؛ فَنزل إِلَى الخرقاة؛ فَرَمَوْهُ بالنشاب؛ فَصَارَ يَصِيح؛ مَالِي حَاجَة بِالْملكِ، دَعونِي أتوجه إِلَى الْحصن؛ فَلم يَتْرُكُوهُ، وضربوه بِالسُّيُوفِ، إِلَى أَن تلف. وسلطنوا عَلَيْهِم شجر الدّرّ زَوْجَة أستاذهم؛ فَكَانَت مُدَّة سلطنة [الْملك] الْمُعظم توران شاه [هَذَا] على مصر دون الشَّهْر.

شجر الدر

شجر الدّرّ أم خَلِيل الصالحية، جَارِيَة الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب، وَأم وَلَده خَلِيل، وَكَانَت حظية عِنْد [الْملك] الصَّالح. ملكهَا فِي أَيَّام وَالِده، واستولدها ابْنه خَلِيل، ثمَّ تزَوجهَا. وَكَانَت فِي صحبته بِبِلَاد الشرق، ثمَّ صَارَت مَعَه بِحَبْس الكرك، وقاست مَعَه تِلْكَ الخطوب. ثمَّ قدمت مَعَه إِلَى الديار المصرية. وَعظم أمرهَا فِي الدولة الصالحية، [وَصَارَ إِلَيْهَا غَالب التَّدْبِير فِي حَيَاة الصَّالح، ثمَّ فِي مَرضه، ثمَّ بعد مَوته] . وَكَانَت من محَاسِن الدَّهْر حزما، وعقلا، ودينا، وجمالا. وَلما تسلطن ابْن زَوجهَا الْمُعظم توران شاه هددها - كَمَا تقدم ذكره -. وَوَقع لَهَا مَعَه أُمُور، إِلَى أَن قتل؛ فاتفقوا خجدا شيتها الصالحية على سلطنتها؛ لحسن سيرتها، وغزير عقلهَا، وجودة تدبيرها. وَجعلُوا خجداشها أيبك التركماني أتابك عسكرها. وخطب لَهَا مَنَابِر مصر وأعمالها. وَكَانَ الخطباء يَقُولُونَ على [المنابر بِمصْر] بعد الدُّعَاء للخليفة: واحفظ اللَّهُمَّ الْجِهَة الصالحية ملكة الْمُسلمين، عصمَة الدُّنْيَا وَالدّين، أم خَلِيل المستعصمية، صَاحِبَة السُّلْطَان الْملك الصَّالح.

وَكَانَت تعلم [على المناشير] : ((وَالِدَة خَلِيل)) . وَبقيت على ذَلِك مُدَّة ثَلَاثَة أشهر، وساست النَّاس فِيهَا أحسن سياسة، إِلَى أَن بدا لَهَا خلع نَفسهَا [فخلعت نَفسهَا] من السلطنة. وَاسْتقر [الْملك] الْمعز أيبك (التركماني فِي السلطنة عوضهَا، وَتَزَوجهَا، وَكَانَت مستولية على الْمعز أيبك [التركماني] ) فِي جَمِيع أَحْوَاله. وَكَانَت تركية الْجِنْس، ذَات شهامة، وَنَفس قَوِيَّة، شَدِيدَة الْغيرَة. وَمَعَ ذَلِك بلغَهَا أَن الْمعز أيبك يُرِيد [أَن] يتَزَوَّج عَلَيْهَا؛ فعاجلته وقتلته لما دخل إِلَيْهَا، وأخفت ذَلِك. وأرادت سلطنة بعض خجدا شيتها؛ ليتم لَهَا مَا أَرَادَت؛ فَلم ينْتج أمرهَا، وفشى الْأَمر. ووثب عَلَيْهَا مماليك الْمعز أيبك؛ فَلم يمكنوهم مِنْهَا خجداشيتها الصالحية. وَوَقعت أُمُور. وَآخر الْأَمر أَنَّهَا قتلت بيد المماليك المعزية فِي سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة. وَكَانَت شجر الدّرّ خيرة، دينة، عَاقِلَة، عارفة، وَلَا يعْتَبر قَتلهَا لزَوجهَا أيبك [الْمَذْكُور] ؛ فَإِن ذَلِك آفَة مُعْتَرضَة للعقول الصِّحَاح. وَكَانَ لشجر [الدّرّ] مآثر وأوقاف على (وُجُوه الْبر وَالصَّدقَات مَعْرُوفَة بهَا) -[رَحمهَا الله تَعَالَى]-.

ذكر ملوك الترك بالديار المصرية

ذكر مُلُوك التّرْك بالديار المصرية

فارغة

الملك المعز

الْملك الْمعز عز الدّين، أَي بك، التركماني الصَّالِحِي النجمي. أول مُلُوك التّرْك بالديار المصرية. وَقد ذكرنَا من ولى ملك مصر من الأتراك الَّذين مسهم الرّقّ إِلَى يَوْمنَا (هَذَا [فِي] أَبْيَات [موالياً] ) : (أَي بك قطز يعقبوا بيبرس ذُو الْإِكْمَال ... بعدو قلاوون بعدو كتبغا المفضال) (لاجين بيبرس برقوق شيخ ذُو الأفضال ... ططر برسباى جقمق ذُو الْعلَا أينال) ( [وخشقدم عَنهُ قل يلبيه ذُو الْأَحْوَال ... تمربغا قيتبيه الْفَحْل ذُو الإقبال] ) وَكَانَ أصل أَي بك الْمَذْكُور من مماليك [الْملك] الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب. اشْتَرَاهُ فِي حَيَاة وَالِده [الْملك] الْكَامِل، وَجعله جاشنكيره؛ وَلِهَذَا كَانَ رنكه [صُورَة] خونجا. تسلطن بعد أَن خلعت شجر الدّرّ نَفسهَا من الْملك من غير كره، بعد أَن أجمع رَأْي أكَابِر الْأُمَرَاء على سلطنته؛ فتسلطن فِي يَوْم السبت آخر شهر ربيع الأول سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وسِتمِائَة.

وَتمّ أمره وَركب بشعائر السلطنة، وحملت الغاشية بَين يَدَيْهِ، وَتمّ أمره فِي الْملك. ثمَّ إِن المماليك الصالحية - الْأُمَرَاء البحرية - اتَّفقُوا بعد ذَلِك وَقَالُوا: لابد لنا من وَاحِد من بني أَيُّوب نسلطنه، نَجْتَمِع الْجَمِيع على طَاعَته. وَكَانَ الْقَائِم بِهَذَا الْأَمر الْأَمِير فَارس الدّين أقطاي الجمدار، وبيبرس البندقداري وبلبان الرَّشِيدِيّ، وسنقر الرُّومِي وَجَمَاعَة أخر؛ فأقاموا مظفر الدّين مُوسَى ابْن [الْملك] النَّاصِر يُوسُف ابْن الْملك المسعود ابْن [الْملك] الْكَامِل ابْن [الْملك] الْعَادِل بن أَيُّوب، ولقبوه بِالْملكِ الْأَشْرَف، وَكَانَ عِنْد عماته؛ فأحضروه وعمره يَوْم ذَاك عشر سِنِين. وَلم يعْزل الْمعز عَن السلطنة، بل صَار مَعَه كالأتابك، وخطب لَهما مَعًا على المنابر. وَكَانَت هَذِه الْحَرَكَة بعد سلطنة الْمعز [أَي بك هَذَا] بِخَمْسَة أَيَّام. وَلم يسع الْمعز أَي بك حِينَئِذٍ إِلَّا الإذعان لما فَعَلُوهُ خجدا شيته؛ لعظم شوكتهم. وَاسْتمرّ [الْملك] الْمعز فِي السلطنة شَرِيكا لهَذَا الصَّبِي، إِلَى أَن مهد أُمُوره وقويت شوكته وصفى لَهُ الْوَقْت عزل الصَّبِي، واستقل [هُوَ] بالسلطنة بعد أُمُور حصلت ووقائع، إِلَى أَن قتلته زَوجته شجر الدّرّ - الْمُقدم ذكرهَا - فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشْرين شهر ربيع الأول سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة.

وتسلطن بعده ابْنه الْملك الْمَنْصُور على بن أَي بك - كَمَا سَيَأْتِي ذكره -. وأيبك صَوَابه أَن يكْتب: أَي بك؛ فَإِنَّهُ اسْم مركب كأي بغا وَأي دمر. وَلَا عِبْرَة بِكِتَابَة من لَا يعرف المصطلح باللغة التركية من الْفُقَهَاء؛ فَإِنَّهُم يَكْتُبُونَ شَيْئا لَا يعرفونه لَا يفهمونه. [بل] وأعجب من ذَلِك أَنهم يكابرون فِي هَذَا الْأَمر، مَعَ أَنهم لَو سَأَلَهُمْ بعض الصغار: مَا معنى مَا تَقولُونَ؟ لَا يعْرفُونَ {، فَهَذَا هُوَ الْحمق بِعَيْنِه. وَقد حرفوا بذلك أَسمَاء كَثِيرَة، وجعلوها فِي قالب لَا معنى لَهُ مثل: جَانِبك، وتنبك [وكلبك وَنَحْو ذَلِك. والعجيب أَنهم يَكْتُبُونَ جَانِبك: جانى بك. وماعداه مثل: جانباني، وَمثل: جَان تمر وجان غاى، وجان كلى، وجان قرا، الْجَمِيع بِلَا يَاء] . ويكتبون: جانى بك بِالْيَاءِ على هَذِه [الصُّورَة] . فَلَو سَأَلَهُمْ سَائل: مَا معنى وَجه التَّخْصِيص فِي أَن جانى بك تكْتب بِالْيَاءِ من دون هَذِه الْأَسْمَاء جَمِيعًا؟ . فلعمري مَا يكون جوابهم} ؟ والجميع على صِيغَة وَاحِدَة من أَن صدر الْكَلِمَة جَان - وَهِي: الرّوح باللغة التركية - وعجزها مُخْتَلف، وكل اسْم من ذَلِك فصل يُمَيّز الرجل عَن غَيره فِي نَوعه، وَله معنى صَحِيح يُفِيد المستمع إِذا كَانَ على صيغته لَا على مَا يحرفونه هَؤُلَاءِ - إنتهى.

الملك المنصور

الْملك الْمَنْصُور نور الدّين، على بن [الْملك] الْمعز، عز الدّين أى بك التركماني، الصَّالِحِي النجمي. تسلطن بعد قتل أَبِيه فِي يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشْرين شهر ربيع الأول سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة. وَتمّ أمره فِي السلطنة. وَهُوَ الثَّانِي من مُلُوك التّرْك بالديار المصرية. وَجلسَ على تخت الْملك وعمره خمس عشرَة سنة. ووزيره وَزِير أَبِيه شرف الدّين الفائزي، وَقَامَ بتدبير ملكه الْأَمِير علم الدّين سنجر الْحلَبِي؛ فَحَدَّثته نَفسه بالوثوب على الْأَمر؛ فَقبض عَلَيْهِ الْأَمِير قطز المعزي الأيبكي وخجداشيته المعزية. وَوَقع فِي أَيَّامه حروب كَثِيرَة مَعَ المماليك الصالحية مثل: بيبرس البندقداري، وخجداشيته من [المماليك] الصالحية. ثمَّ قدم فِي أَيَّامه هولاكو ملك التتار إِلَى بَغْدَاد، وَقتل الْخَلِيفَة المستعصم بِاللَّه - حَسْبَمَا تقدم ذكره فِي ترجتمه فِي الْخُلَفَاء - وأخربت بَغْدَاد - وَقد ذكرنَا ذَلِك كُله فِي ((النُّجُوم الزاهرة)) مستوفاة -.

ثمَّ ملك هولاكو حلب وَالشَّام، [ثمَّ قصد التتار جِهَة] الديار المصرية. فَلَمَّا بلغ الْأَمِير قطز ذَلِك [كُله]- وَكَانَ استفحل أمره بالديار المصرية - كَلمُوهُ فِي السلطنة، وَالْقِيَام بملاقاة التتار؛ فَجمع قطز الْقُضَاة وأعيان الدولة؛ فَاجْتمع رَأْي الْجَمِيع على خلع الْملك الْمَنْصُور هَذَا من السلطنة؛ لصِغَر سنه، وَلعدم دَفعه لِلْعَدو المخذول؛ فَخلع وتسلطن قطز. وَكَانَ ذَلِك فِي يَوْم السبت سَابِع عشر ذِي الْقعدَة سنة سبع وَخمسين وسِتمِائَة. وَكَانَت مُدَّة سلطنته سنتَيْن وَسَبْعَة أشهر وإثنتين وَعشْرين يَوْمًا، وَبَقِي معتقلا سنينا كَثِيرَة، إِلَى أَن مَاتَ. وَفِي أَيَّام [الْملك] الْمَنْصُور هَذَا فِي سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة وَقع تَفْرِيط من الخدام الَّذين بحرم النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-[فاشتعلت النَّار فِي الْحرم الشريف، واحترقت سقوفه، وَاحْتَرَقَ مِنْبَر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-] . ثمَّ ظهر بعد ذَلِك نَار أُخْرَى بِالْحرَّةِ - قَرِيبا من الْمَدِينَة الشَّرِيفَة - وَكَانَت تخفى بِالنَّهَارِ وَتظهر بِاللَّيْلِ، يَرَاهَا النَّاس من مَسَافَة بعيدَة، وَيظْهر لَهَا دُخان عَظِيم؛ أَقَامَت [على ذَلِك] أَيَّامًا كَثِيرَة.

الملك المظفر

الْملك المظفر سيف الدّين، قطز بن عبد الله المعزي. الثَّالِث من مُلُوك التّرْك بالديار المصرية. تسلطن بعد خلع ابْن أستاذه الْملك الْمَنْصُور على ابْن [الْملك] الْمعز أَي بك التركماني فِي يَوْم السبت سَابِع عشر ذِي الْقعدَة سنة سبع وَخمسين وسِتمِائَة؛ وَذَلِكَ بعد أَن عظمت الأراجيف بقدوم التتار. وَسبب خلع [الْملك] الْمَنْصُور: كَونه كَانَ صَغِيرا لَا يدْرِي تَدْبِير الْأُمُور؛ فتسلطن قطز [الْمَذْكُور] ؛ ليقوم بِدفع التتار عَن الْبِلَاد. وَلما تسلطن أَخذ فِي تجهيز أمره لقِتَال التتار، بعد أَن استولت التتار على حلب ودمشق وأخذوهما من يَد السُّلْطَان النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف الأيوبي. ووصلت غارات التتار إِلَى غَزَّة؛ فَخرج إِلَيْهِم المظفر من الديار المصرية بعساكرها، والتقى التتار بِعَين جالوت فِي يَوْم الْجُمُعَة خَامِس عشْرين شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة، وَهَزَمَهُمْ أقبح هزيمَة، وولوا [التتار] [الأدبار] ، وأعز الله الْإِسْلَام على يَد [الْملك] المظفر هَذَا.

ثمَّ بعد كسرة التتار، سَار الْملك المظفر بعساكره إِلَى دمشق ومهد أمورها وَأصْلح مَا فسد من شَأْنهَا، وَأحسن للرعية، وساس النَّاس أحسن سياسة. وقطز هَذَا هُوَ أول من ملك الْبِلَاد الشامية من مُلُوك التّرْك [بديار مصر] ، وَكَانَ الشَّام جَمِيعه قبل ذَلِك مَعَ [الْملك] النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف الأيوبي وَغَيره من مُلُوك بني أَيُّوب. وَلما مهد [الْملك] المظفر أَمر الشَّام عَاد إِلَى جِهَة الديار المصرية - بعد أُمُور ذَكرنَاهَا فِي غير هَذَا الْكتاب -. وَسَار [الْملك المظفر] ، إِلَى أَن وصل إِلَى الْقصير رأى أرنبا؛ فساق [الْملك] المظفر خلف الأرنب، وسَاق وَرَاءه جمَاعَة من الْأُمَرَاء قد اتَّفقُوا على قَتله، وَكَبِيرهمْ بيبرس البندقدارى وَمَعَهُ انص [الرُّومِي وصنغلي والهاروني] [وَجَمَاعَة أخر] . فَلَمَّا دنوا مِنْهُ وَلم يبْق عِنْد قطز غَيرهم، تقدم إِلَيْهِ بيبرس [البندقدارى] ، وشفع عِنْده شَفَاعَة؛ فقبلها [الْملك] المظفر قطز؛ فَأَهوى بيبرس على يَده ليقبلها؛ فَقبض عَلَيْهَا، وَحمل عَلَيْهِ انص وضربه بِالسَّيْفِ، ثمَّ حملُوا عَلَيْهِ وقتلوه، وتركوه مَيتا، وَسَاقُوا وهم شاهرون سيوفهم، إِلَى أَن وصلوا إِلَى الدهليز السلطاني بِمَنْزِلَة الصالحية.

وَجلسَ بيبرس البنداقدارى على مرتبَة السلطنة وتسلطن، وَتمّ أمره؛ فَعظم على الْمُسلمين قتل [الْملك] المظفر قطز إِلَى الْغَايَة، ولعنوا قَاتله سنينا كَثِيرَة؛ لِأَنَّهُ كَانَ من خِيَار مُلُوك التّرْك، وَله الْيَد الْبَيْضَاء فِي الْقيام برد التتار واقماعهم، وطردهم عَن بِلَاد الْمُسلمين. وَكَانَ قتل [الْملك] المظفر هَذَا فِي يَوْم السبت سادس [عشر] ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة؛ فَكَانَت سلطنته على مصر سنة وَاحِدَة (إِلَّا يَوْمًا [وَاحِدًا] . وَقيل: إِلَّا عشرَة أَيَّام - رَحمَه الله) [تَعَالَى]-.

الملك الظاهر

الْملك الظَّاهِر ركن الدّين، بيبرس البندقدارى الصَّالِحِي النجمي. وكنيته: أَبُو الْفتُوح. تسلطن بعد قتل الْملك المظفر قطز فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة - حَسْبَمَا تقدم ذكره فِي قتل [الْملك] المظفر قطز -. وأصل [الْملك] الظَّاهِر [بيبرس] هَذَا: أَنه كَانَ تركي الْجِنْس، أَخذ من بِلَاده، وأبيع بِدِمَشْق للعماد الصَّائِغ، ثمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ الْأَمِير عَلَاء الدّين أيدكين البندقدارى -[وَبِه عرف بالبندقدارى]-. [ثمَّ لما صادر الْملك الصَّالح عَلَاء الدّين أيدكين البندقدارى] أَخذ بيبرس هَذَا مِنْهُ فِي جملَة مَا أَخذ. وَجعله من جملَة مماليكه البحرية. وَلَا زَالَ بيبرس يترقى والأقدار تساعده، إِلَى أَن ملك مصر بعد أُمُور وَقعت لَهُ ومحن، ولقب [بِالْملكِ الظَّاهِر] .

وَمن عَجِيب الإتفاق [أَن أستاذه] أيدكين البندقداري صَار فِي سلطنته من جملَة أمرائه. وَلما ملك [الظَّاهِر] بيبرس الديار المصرية وَتمّ أمره واستفحل أَخذ فِي الْجِهَاد، وَفتح الْبِلَاد من يَد الْعَدو؛ فَافْتتحَ غَالب بِلَاد السَّاحِل بالبلاد الشامية، ومهد الممالك، وطالت أَيَّامه وَحسنت. وَهُوَ الَّذِي استجد بِمصْر الْقُضَاة الْأَرْبَعَة. وَقد استوعبنا أُمُوره فِي عدَّة مَوَاطِن من مصنفاتنا بأطول من هَذَا. ودام [الْملك] الظَّاهِر فِي الْملك، إِلَى أَن مَاتَ بِدِمَشْق فِي يَوْم الْخَمِيس - بعد صَلَاة الظّهْر - الثَّامِن وَالْعِشْرين من محرم سنة سِتّ وَسبعين وسِتمِائَة. وَملك بعده ابْنه الْملك السعيد مُحَمَّد، الْمَدْعُو ((بركَة خَان)) وَكَانَ تسلطن -[الْملك السعيد]- فِي حَيَاة أَبِيه [الْملك] الظَّاهِر. وَكَانَت مُدَّة سلطنة [الْملك] الظَّاهِر بيبرس على مصر تِسْعَة عشرَة سنة وشهرين وَنصف. وَفِي [أَيَّام الْملك الظَّاهِر هَذَا] ورد الْخَبَر من نواحي عكا أَن سبع جزائر فِي الْبَحْر خسف بهَا وبأهلها بعد أَن [أمْطرت وأدامت] سَبْعَة أَيَّام، وَهلك مِنْهُم خلق كثير.

الملك السعيد

الْملك السعيد نَاصِر الدّين أَبُو الْمَعَالِي، مُحَمَّد، الْمَدْعُو بركَة خَان، ابْن السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر بيبرس البندقداري، الصَّالِحِي النجمي، الْخَامِس من مُلُوك التّرْك بِمصْر. سمي بركَة خَان على اسْم جده لأمه بركَة خَان ملك التتار بن دولة خَان الْخَوَارِزْمِيّ. تسلطن [الْملك السعيد هَذَا] فِي حَيَاة أَبِيه الظَّاهِر صُورَة فِي يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشر شَوَّال سنة إثنتين وَسِتِّينَ وسِتمِائَة. وَأقَام الْملك [السعيد على ذَلِك سِنِين، وَلَيْسَ لَهُ من السلطنة إِلَّا مُجَرّد الِاسْم فَقَط، إِلَى أَن مَاتَ أَبوهُ] الظَّاهِر بِدِمَشْق فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور استبد بِالْأَمر؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِمصْر وَمَات أَبوهُ بِالشَّام؛ فَكتب إِلَيْهِ الْأَمِير بيليك الخازاندار على يَد الْأَمِير بكتوت الجوكندار بِمَوْت أَبِيه؛ فأخفاه الْملك السعيد، إِلَى أَن وصلت العساكر إِلَى مصر أظهر مَوته، وَتمّ أمره فِي السلطنة. وَكَانَ مولد الْملك السعيد [هَذَا] فِي صفر سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة.

ودام فِي الْملك. وسافر إِلَى الْبِلَاد الشامية، [وَعَاد إِلَى الديار المصرية] . ثمَّ وَقع لَهُ أُمُور، وَخرج عَلَيْهِ جمَاعَة من الْأُمَرَاء والمماليك، وَكَبِيرهمْ حموه الْأَمِير سيف الدّين قلاوون الألفي الصَّالِحِي، وخلعوه من الْملك بعد وقائع - ذَكرنَاهَا فِي غير هَذَا الْكتاب - وسلطنوا أَخَاهُ سلامش عوضه؛ ولقبوه بِالْملكِ الْعَادِل؛ فَكَانَت مُدَّة سلطنة الْملك السعيد [هَذَا - أَعنِي] من يَوْم مَاتَ أَبوهُ - سنتَيْن وشهرين وَخَمْسَة عشر يَوْمًا. وَأعْطى الكرك بعد خلعه من السلطنة؛ فَتوجه إِلَيْهَا، ودام بهَا سِتَّة أشهر وَخَمْسَة وَعشْرين يَوْمًا. وَمَات فِي يَوْم الْجُمُعَة حادي عشر ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَسبعين وسِتمِائَة - رَحمَه الله تَعَالَى -.

الملك العادل

الْملك الْعَادِل سيف الدّين، سلامش ابْن السُّلْطَان الظَّاهِر ركن الدّين بيبرس [البندقدارى] ، الصَّالِحِي النجمي. تسلطن بعد خلع أَخِيه [الْملك] السعيد بركَة خَان وعمره - يَوْم تسلطن - سبع سِنِين وَنصف. وَهُوَ [السُّلْطَان] السَّادِس من مُلُوك التّرْك وَأَوْلَادهمْ بالديار المصرية. وَلما تسلطن وَتمّ أمره، صَار الْأَمِير سيف الدّين قلاوون الألفي الصَّالِحِي أتابكه ومدبر دولته فَلم تطل أَيَّام [الْملك] الْعَادِل [هَذَا] فِي السلطنة وخلع من الْملك بِالْملكِ الْمَنْصُور قلاوون الألفي فِي شهر رَجَب سنة ثَمَان وَسبعين؛ فَكَانَت مُدَّة سلطنة الْملك الْعَادِل سلامش [هَذَا] على مصر نَحْو أَرْبَعَة أشهر، وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا إِلَّا مُجَرّد الأسم فَقَط، وَالْأَمر كُله لقلاوون.

الملك المنصور

الْملك الْمَنْصُور سيف الدّين أَبُو الْمَعَالِي، قلاوون الصَّالِحِي النجمي الألفي. تسلطن بعد خلع [الْملك] الْعَادِل سلامش فِي شهر رَجَب سنة ثَمَان وَسبعين وسِتمِائَة. وَهُوَ السَّابِع مَعَ مُلُوك التّرْك بالديار المصرية. أَصله من مماليك الْأَمِير اق سنقر الكاملي. اشْتَرَاهُ [من تاجره بِأَلف دِينَار، وَلِهَذَا كَانَ يعرف بالألفي. وَلما مَاتَ أق سنقر الْمَذْكُور اشْتَرَاهُ] الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب فِي سنة سبع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة. وترقى بعد [موت] أستاذه الصَّالح، وَعظم فِي [دولة الظَّاهِر] بيبرس، إِلَى أَن صَار يخْطب لَهُ مَعَ السُّلْطَان [الْملك] الْعَادِل سلامش على المنابر، وَضربت السِّكَّة على وَجه باسم سلامش وعَلى وَجه باسم قلاوون. ثمَّ آل الْأَمر [إِلَيْهِ] وتسلطن - حَسْبَمَا ذَكرْنَاهُ -. وَلما تمّ أمره فِي ملك مصر أمسك جمَاعَة كَثِيرَة من الْأُمَرَاء الظَّاهِرِيَّة وَغَيرهم، وَاسْتعْمل مماليكه على الْبِلَاد وَأمرهمْ. وَكسر التتار فِي سنة ثَمَانِينَ وسِتمِائَة فِيمَا بَين حمص والرستن.

ثمَّ افْتتح عدَّة بِلَاد بالسواحل الشامية، وَقَامَ فِي أَمر الْجِهَاد والغزو أتم قيام. وَلما افْتتح المرقب فِي سنة أَربع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة قَالَ [فِي الْمَعْنى] الْعَلامَة شهَاب الدّين مَحْمُود بن سُلَيْمَان الْحلَبِي [القصيدة] الْمَشْهُورَة الَّتِي أَولهَا. (الله أكبر هَذَا النَّصْر وَالظفر ... هَذَا هُوَ الْفَتْح لَا مَا تزْعم السّير) وَقد أَتَيْنَا مِنْهَا أبياتا كَثِيرَة فِي تَرْجَمَة قلاوون فِي تاريخنا ((المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي)) . قلت: وَمِمَّا يدل على علو همة [الْملك] الْمَنْصُور قلاوون وَحسن اعْتِقَاده عِمَارَته للبيمارستان المنصوري ببين القصرين من الْقَاهِرَة؛ فإننا لَا نعلم فِي الْإِسْلَام وَقفا على وَجه بر أعظم مِنْهُ، وَلَا أَكثر مصروفا، وَلَا أحسن شرطا. وَلَو لم يكن من محاسنه إِلَّا البيمارستان [الْمَذْكُور] لكفاه ذَلِك دنيا وَأُخْرَى. إنتهى. وَاسْتمرّ [الْملك] الْمَنْصُور على مَا هُوَ عَلَيْهِ من الإجتهاد فِي الْجِهَاد، إِلَى أَن خرج من الديار المصرية قَاصِدا غَزْو عكا بالسَّاحل الشَّامي، وَنزل بِمَسْجِد

التِّبْن - خَارج الْقَاهِرَة - وَكَانَ مَرِيضا؛ فاشتدت علته؛ فَمَاتَ بِالْمَكَانِ الْمَذْكُور فِي يَوْم السبت سادس ذِي الْقعدَة سنة تسع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة، وَحمل فِي محفة إِلَى الْقَاهِرَة من ليلته. فَلَمَّا كَانَ وَقت الْعشَاء من لَيْلَة الْأَحَد أنزل بِهِ من [قلعة الْجَبَل] فِي تابوته وَبَين يَدَيْهِ الْأُمَرَاء والجند مشَاة، إِلَى أَن دفن بتربته ببين القصرين من الْقَاهِرَة بعد أَن حكم إِحْدَى عشرَة سنة وَثَلَاثَة أشهر. وتسلطن من بعده ابْنه الْملك الْأَشْرَف خَلِيل. وَكَانَ [الْملك] الْمَنْصُور من أجل [مُلُوك التّرْك] وَأَعْظَمهَا، بلغت عدَّة مماليكه إثنا عشر ألفا. وَأعظم من هَذَا كُله أَن ملك مصر دَامَ من بعده فِي ذُريَّته ونسله، [ثمَّ فِي] يَد مماليكهم إِلَى يَوْمنَا هَذَا. وَلَا نعلم هَذَا وَقع لأحد من مُلُوك الدُّنْيَا فِي الْإِسْلَام وَغَيره. وَأَيْضًا أَن مماليكه هم الَّذين لبسوا هَذِه الكلفتات

[الْحمر] وغيروا تِلْكَ الملابس الشنيعة. وَقد ذكرنَا تَرْتِيب أُمُور الْأَوَائِل ولبسهم وَمَا غَيره مماليك قلاوون وقرروه من الظرائف والتجمل فِي تَرْجَمته فِي ((المنهل الصافي)) ، ثمَّ بأوسع من ذَلِك فِي تَرْجَمته [فِي] تاريخنا أَيْضا ((النُّجُوم الزاهرة فِي مُلُوك مصر والقاهرة)) ؛ فَمن أَرَادَ شَيْئا من ذَلِك فَعَلَيهِ بمطالعتها، لوُجُود الْمَقْصُود فيهمَا بِزِيَادَة، إنتهى. وَكَانَت صفة الْملك الْمَنْصُور: تَامّ الشكل، مستدير اللِّحْيَة، قد وخطه الشيب، مليح الشكل، وَعَلِيهِ سكينَة ووقار. وَكَانَ منعجم اللِّسَان لَا يكَاد يفحص باللغة الْعَرَبيَّة؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَخذ من بِلَاد التّرْك وَهُوَ كَبِير. وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَهُوَ أجل مُلُوك التّرْك بِلَا مدافعة - رَحمَه الله [تَعَالَى]-.

الملك الأشرف

الْملك الْأَشْرَف صَلَاح الدّين، خَلِيل ابْن [الْملك] الْمَنْصُور قلاوون، النجمي الصَّالِحِي الألفي. تسلطن بعد موت أَبِيه الْمَنْصُور قلاوون فِي ذِي الْقعدَة سنة تسع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة. ومولده [فِي ذِي الْحجَّة] فِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة تخمينا. فَلَمَّا تسلطن وَتمّ أمره فِي ملك مصر، افْتتح سلطنته بِالْجِهَادِ؛ وَسَار من مصر ونازل عكا حَتَّى افتتحها، وافتتح بعد ذَلِك غَالب [سواحل الشَّام، ثمَّ افْتتح قلعة الرّوم وبهسنا. وَلَو طَالَتْ أَيَّامه لأفتتح غَالب] بِلَاد الْعرَاق وَغَيره؛ لِأَنَّهُ كَانَ شجاعا مقداما، عالي الهمة، عديم النظير فِي الشجَاعَة، لَا نَعْرِف فِي مُلُوك التّرْك من يدانيه فِي الشجَاعَة والإقدام، لَا قبله وَلَا بعده، إِلَى يَوْمنَا هَذَا، وَهَذَا مجمع عَلَيْهِ. قَالَ الْحَافِظ [أَبُو عبد الله] الذَّهَبِيّ فِي تَارِيخه: كَانَ بطلا شجاعا مقداما، عالي الهمة، يمْلَأ الْعين ويرجف الْقلب، رَأَيْته مَرَّات، وَكَانَ ضخما سمينا، كَبِير الْوَجْه، بديع الْجمال، مستدير اللِّحْيَة، على وَجهه رونق الْحسن، وهيبة السلطنة.

وَكَانَ إِلَى جوده وبذله الْأَمْوَال فِي أغراضه الْمُنْتَهى. وَكَانَ صَاحب سطوة، شَدِيد الْوَطْأَة، قوي الْبَطْش، تخافه الْمُلُوك فِي أمصارها، والوحوش العادية فِي آجامها، أباد جمَاعَة من كبار الدولة. وَكَانَ منهمكا على اللَّذَّات، لَا يعبا بالتحرز على نَفسه؛ لفرط شجاعته، وَمَا أَحْسبهُ بلغ ثَلَاثِينَ سنة، وَلَعَلَّ الله تَعَالَى قد عَفا عَنهُ. إنتهى كَلَام الذَّهَبِيّ. قلت: وَاسْتمرّ [الْملك] الْأَشْرَف فِي ملك مصر من غير مُنَازع، إِلَى أَن خرج من الْقَاهِرَة فِي أَوَائِل محرم سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَتوجه إِلَى الْبحيرَة للصَّيْد. فَلَمَّا كَانَ بتروجة فِي يَوْم السبت ثَانِي عشر الْمحرم [سنة تَارِيخه] وَقت الْعَصْر حضر إِلَيْهِ نَائِب سلطنته الْأَمِير بيدار وَمَعَهُ جمَاعَة من الْأُمَرَاء - وَكَانَ [الْملك] الْأَشْرَف قد أمره بكره النَّهَار [الْمَذْكُور] أَن يمْضِي بالدهليز والعساكر إِلَى جِهَة الْقَاهِرَة، وَبَقِي الْأَشْرَف وأمير (شكاره يتصيدان - فأحاطوا بِهِ، وَلَيْسَ مَعَه إِلَّا شهَاب الدّين [بن] الأشل أَمِير) شكار الْمَذْكُور؛ فابتدر الْأَشْرَف بيدرا وضربه بِالسَّيْفِ قطع يَده، ثمَّ ضربه حسام الدّين لاجين على كتفه حلهَا، وَصَاح لاجين على بيدرا: من يُرِيد الْملك هَذِه تكن ضَربته؛

فَسقط [الْملك] الْأَشْرَف عَن فرسه، وَلم يكن مَعَه سيف، بل كَانَ فِي وَسطه بند مشدود. ثمَّ جَاءَ الْأَمِير بهادر رَأس نوبَة فَأدْخل السَّيْف من أَسْفَله وَشقه إِلَى حلقه، وتركوه طريحا فِي الْبَريَّة. والتفوا على بيدار، وحلفوا لَهُ، وَمَشى تَحت العصائب السُّلْطَانِيَّة يُرِيد الْقَاهِرَة، ولقبوه بِالْملكِ الأوحد، وَبَات تِلْكَ اللَّيْلَة وَأصْبح يسير إِلَى الْقَاهِرَة. فَلَمَّا ارْتَفع النَّهَار إِذا بِطَلَب عَظِيم قد أقبل فِيهِ الْأَمِير كتبغا المنصوري والأمير حسام الدّين الأستادار، وَغَيرهمَا يطْلبُونَ بِدَم أستاذهم [الْملك] الْأَشْرَف؛ فَالْتَقوا مَعَ بيدرا بالطرانة؛ فانكسر بيدرا وَقتل. وحملت الأشرفية رَأس بيدرا على رمح، وعادوا إِلَى [جِهَة] الْقَاهِرَة، وَاتَّفَقُوا على سلطنة [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون؛ فتم ذَلِك، وتسلطن النَّاصِر مُحَمَّد - حَسْبَمَا يَأْتِي ذكره -. وَكَانَت مُدَّة الْأَشْرَف ثَلَاث سِنِين وشهرين وأياما - رَحمَه الله [تَعَالَى]-.

الملك الناصر

الْملك النَّاصِر نَاصِر الدّين، أَبُو الْمَعَالِي مُحَمَّد بن السُّلْطَان [الْملك] الْمَنْصُور قلاوون. تسلطن بعد قتل أَخِيه [الْملك] الْأَشْرَف خَلِيل فِي الْعشْر الْأَوْسَط من الْمحرم سنة ثَلَاث وَتِسْعين وسِتمِائَة. [ومولده فِي سنة أَربع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة] . وَهَذِه سلطنته الأولى. وَهُوَ [السُّلْطَان] التَّاسِع من مُلُوك التّرْك وَأَوْلَادهمْ. وَاسْتقر نَائِبه فِي السلطنة الْأَمِير [زين الَّذين] كتبغا المنصوري. وَاسْتقر فِي الوزارة علم الدّين سنجر الشجاعي مُضَافا للأستادارية وتدبير الدولة. ثمَّ قبض [الْملك] النَّاصِر على جمَاعَة من الْأُمَرَاء الَّذين اتَّفقُوا على قتل أَخِيه [الْملك] الْأَشْرَف وهم: الْأَمِير نوغاي، والناق، والطنبغا الجمدار، وآق سنقر مَمْلُوك لاجين، وطرنطاى الساقي، وَمُحَمّد خواجا وأروس - وَكَانَ ذَلِك فِي خَامِس صفر - واختفى آق سنقر المنصوري ولاجين.

وَلما قبض على هَؤُلَاءِ؛ أَمر السُّلْطَان بِقطع أَيْديهم وتسميرهم؛ فسمروا وطيف بهم مَعَ رَأس بيدرا. ثمَّ أمسك كتبغا الشجاعي لما بلغه عَنهُ أَنه يُرِيد الفتك بِهِ، وَقَتله بعض أَصْحَاب كتبغا صبرا. واستبد كتبغا [من ثمَّ] بِأَمْر المملكة؛ لصِغَر سنّ الْملك النَّاصِر مُحَمَّد. ثمَّ بدا لكتبغا أَن يخلع [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد ويتسلطن عوضه، وَاتفقَ مَعَ أكَابِر الْأُمَرَاء على ذَلِك؛ فوافقوه وخلعوا [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد فِي [يَوْم] الْحَادِي عشر [من] الْمحرم سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة، وسلطنوا كتبغا ولقبوه [بِالْملكِ الْعَادِل] ؛ فَكَانَت سلطنة [الْملك] النَّاصِر فِي هَذِه الْمرة نَحْو السّنة [الْوَاحِدَة] . ثمَّ جهر [الْملك] الْعَادِل كتبغا [النَّاصِر] إِلَى الكرك بعد أَن قَالَ لَهُ: لَو علمت أَنهم يخلون لَك الْملك وَالله تركته، وَلَكنهُمْ لَا يخلوه لَك، وَأَنا مملوكك ومملوك والدك، أحفظ لَك الْملك، وَأَنت الأن تروح إِلَى الكرك، إِلَى أَن تترعرع [وترتجل] وتجرب الْأُمُور وتعود إِلَى ملكك، بِشَرْط أَنَّك تُعْطِينِي دمشق، وأكون بهَا مثل صَاحب حماة. فَقَالَ لَهُ الْملك النَّاصِر: نعم؛ فاحلف لي أَنَّك تبقي عَليّ نَفسِي وَأَنا أروح؛ فَحلف كل مِنْهُمَا على مَا أَرَادَهُ الآخر.

وَتوجه [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد إِلَى الكرك، وَأقَام [بِهِ] ، إِلَى أَن عَاد إِلَى ملكه بعد قتل [الْملك] الْمَنْصُور (لاجين حَسْبَمَا يَأْتِي [ذكره] فِي مَحَله - إِن شَاءَ الله تَعَالَى -) .

الملك العادل

الْملك الْعَادِل زين الدّين، كتبغا بن عبد الله المنصوري التركي، سُلْطَان الديار المصرية. ثمَّ بعد خلعه من السلطنة ولي نِيَابَة صرخد، ثمَّ نِيَابَة حماة، إِلَى أَن مَاتَ. تسلطن بعد خلع [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون فِي محرم سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة. وَهُوَ الْعَاشِر من [مُلُوك التّرْك] وَأَوْلَادهمْ بالديار المصرية. وأصل كتبغا هَذَا من سبى التتار فِي وقْعَة حمص الأولى الَّتِي كَانَت فِي سنة تسع وَخمسين وسِتمِائَة؛ فَأَخذه الْملك الْمَنْصُور قلاوون فِي أَيَّام إمرته وَأعْتقهُ، ورقاه حَتَّى صَار فِي سلطنته من أكَابِر الْأُمَرَاء. وَاسْتمرّ على ذَلِك فِي الدولة الأشرفية خَلِيل، إِلَى أَن قتل وتسلطن أَخُوهُ [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد [ثمَّ خلع] وتسلطن كتبغا هَذَا - حَسْبَمَا تقدم ذكر ذَلِك كُله -. وَلما تمّ أَمر الْملك الْعَادِل كتبغا فِي السلطنة استناب خجداشه حسام الدّين لاجين المنصوري.

وَكَانَ لاجين [الْمَذْكُور] من جملَة من ساعد على قتل الْأَشْرَف [خَلِيل] ، واختفى بعد ذَلِك مُدَّة، إِلَى أَن شفع فِيهِ كتبغا وَأَعَادَهُ إِلَى رتبته. فَلَمَّا تسلطن استنابه. ثمَّ أَمر كتبغا جمَاعَة كَبِيرَة من مماليكه، ومهد أُمُور مَمْلَكَته، وساس النَّاس أحسن سياسة. ثمَّ أحب أَن يُسَافر إِلَى دمشق؛ فَخرج بالعساكر من الديار المصرية فِي سنة خمس وَتِسْعين وسِتمِائَة، وَسَار، إِلَى أَن وصل إِلَى دمشق، [وَأقَام بهَا أَيَّامًا، ثمَّ خرج إِلَى حمص لأمر بدا لَهُ، ثمَّ عَاد إِلَى دمشق] . وَجلسَ بدار الْعدْل وَحكم بَين النَّاس، وأحبه النَّاس. ثمَّ خرج من دمشق بعساكره إِلَى نَحْو الْقَاهِرَة بعد أَن ولي مَمْلُوكه أغزلو نِيَابَة الشَّام، وَسَار حَتَّى وصل إِلَى وَادي فَحْمَة، وَنزل بِهِ [بالعساكر] ؛ فعندما اسْتَقر بِهِ الْجُلُوس ركب [الْأَمِير] حسام الدّين لاجين المنصوري وَمَعَهُ جمَاعَة من الْأُمَرَاء، وَقتل الْأَمِير بتخاص وبكتوت الْأَزْرَق - وَكَانَا جناحي كتبغا - فَلَمَّا سمع كتبغا بذلك ركب فرس النّوبَة، وسَاق إِلَى دمشق حَتَّى وَصلهَا قبل الْعَصْر فِي خَمْسَة نفر [من] خواصه وَدخل القلعة.

وَلما هرب كتبغا احتاط لاجين على الخزائن والجيش، وَركب تَحت العصائب السُّلْطَانِيَّة فِي دست السلطنة، وَسَار حَتَّى وصل إِلَى الْقَاهِرَة، وَجلسَ على تخت الْملك، وَتمّ أمره، ولقب [بِالْملكِ الْمَنْصُور] . وَأما كتبغا، فَإِنَّهُ اسْتمرّ مُقيما بقلعة دمشق، وَأمره فِي إدبار حَتَّى قدم الْأَمِير كجكن دمشق وَنزل بالقبيبات، وأعلن باسم الْملك الْمَنْصُور، فَسَار إِلَيْهِ أُمَرَاء دمشق، ودخلوا فِي طَاعَة [الْملك] الْمَنْصُور؛ فأذعن عِنْد ذَلِك [الْملك الْعَادِل] [كتبغا] وَسلم نَفسه؛ فاعتقلوه بقلعة دمشق؛ فَأَقَامَ بهَا، إِلَى أَن جَاءَهُ مرسوم شرِيف من [الْملك] الْمَنْصُور لاجين بنيابة صرخد؛ فَخرج من دمشق وَسَار إِلَيْهَا، وَأقَام بهَا، إِلَى أَن نَقله الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون إِلَى نِيَابَة حماة؛ فَمَاتَ بهَا فِي يَوْم الْجُمُعَة - وَهُوَ يَوْم عيد الْفطر - سنة إثنتين وَسَبْعمائة. وَنقل من حماة وَدفن بتربته بِدِمَشْق بسفح قاسيون. وَكَانَت مُدَّة سلطنته على الديار المصرية سنتَيْن وَسَبْعَة عشر يَوْمًا. وَكَانَ ملكا خيرا، دينا، عَاقِلا [عادلا] ، سليم الْبَاطِن. [قلت] : وَمن سَلامَة بَاطِنه [وتغفله] أَتَى عَلَيْهِ من نَائِبه لاجين حَتَّى زَالَ ملكه.

الملك المنصور

الْملك الْمَنْصُور حسام الدّين، لاجين بن عبد الله المنصوري. تسلطن بعد خلع [الْملك] الْعَادِل كتبغا فِي محرم سنة سِتّ وَتِسْعين وسِتمِائَة. وَهُوَ السُّلْطَان الْحَادِي عشر من مُلُوك التّرْك [بالديار المصرية] . وَأَصله من مماليك [الْملك] الْمَنْصُور قلاوون، رقاه، إِلَى أَن ولاه نِيَابَة قلعة دمشق، ثمَّ نِيَابَة دمشق؛ فَأَقَامَ بهَا إِحْدَى عشرَة سنة، إِلَى أَن عَزله [الْملك] الْأَشْرَف خَلِيل ابْن قلاوون بالشجاعي، وَقبض عَلَيْهِ، وخنق بَين [يَدي الْملك الْأَشْرَف خَلِيل] ، ثمَّ خلى عَنهُ؛ فَإِذا بِهِ رَمق، فرق عَلَيْهِ الْأَشْرَف وَأطْلقهُ، ورده إِلَى رتبته. فَلَمَّا ثار بيدرا على الْأَشْرَف كَانَ لاجين هَذَا من جملَة من وَافقه على قَتله وساعده فِي ذَلِك - حَسْبَمَا تقدم ذكره فِي تَرْجَمَة الْأَشْرَف -.

ثمَّ اختفى لاجين مُدَّة طَوِيلَة، إِلَى أَن شفع فِيهِ كتبغا، وَأَعَادَهُ إِلَى رتبته نَائِبا. فَلَمَّا تسلطن كتبغا جعله نَائِب سلطنته؛ فَوَثَبَ [عَلَيْهِ] وخلعه من الْملك، وتسلطن بعد أُمُور ذَكرنَاهَا - فِيهَا طول لَا يَلِيق [ذكرهَا] بِهَذَا الْمُخْتَصر، وَمن أَرَادَ الْإِحَاطَة بهَا؛ فَعَلَيهِ بمصنفاتنا الطوَال؛ فَهِيَ هُنَاكَ [مشبعة] مستوفاة -. وَلما تمّ أَمر [الْملك] الْمَنْصُور لاجين فِي الْملك تغير [على] خجداشيته، وَخَالف مَا شرطوه عَلَيْهِ فِي ابْتِدَاء أمره، من أَنه: لَا يعْزل أحدا مِنْهُم، وَلَا يقدم مَمْلُوكه منكوتمر عَلَيْهِم؛ فَفعل خلاف ذَلِك، وَقدم مَمْلُوكه، وَجعله نَائِب السلطنة بالديار المصرية بعد عزل قراسنقر المنصوري؛ فَسَار منكوتمر فِي النَّاس أقبح سيرة، لاسيما لما راك [الْملك] الْمَنْصُور الْبِلَاد - أَعنِي الروك الحسامي - صَار منكوتمر [الْمَذْكُور] يزْجر الْأُمَرَاء ويخاشنهم فِي اللَّفْظ. ثمَّ حسن لأستاذه [الْمَنْصُور لاجين] مسك جمَاعَة من الْأُمَرَاء؛ فَأمْسك بيسرى وأيبك الْحَمَوِيّ وقرا سنقر فِي آخَرين.

وَلما تفاقم أمره هرب قبجق وبكتمر وألبكى وبزلار إِلَى ملك التتار، وأطمعوه فِي الْبِلَاد. ونفرت [مِنْهُ الْقُلُوب، وَمن] الْملك الْمَنْصُور؛ لَا لسوء سيرته، بل لِبُغْض أورثه مَمْلُوكه منكوتمر فِي قُلُوبهم. وَأَرَادَ النَّاس عود الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون إِلَى الْملك. ركب الْمَنْصُور لاجين الموكب [السلطاني] وَهُوَ صَائِم، وَتوجه إِلَى الْقصر بقلعة الْجَبَل، وَقد اتّفق عَلَيْهِ جمَاعَة من المماليك الأشرفية، ودخلوا عَلَيْهِ بعد عشَاء الْآخِرَة وَهُوَ جَالس يلْعَب [ب] الشطرنج، فَأول من دخل عَلَيْهِ الْأَمِير كرجى مقدم البرجية - وَكَانَ نوغاى السِّلَاح دَار فِي نوبَته عِنْد السُّلْطَان، وَهُوَ من جملَة المتفقين - والمنصور مكب على لعب الشطرنج، وَمَا عِنْده إِلَّا القَاضِي حسام الدّين الْحَنَفِيّ والأمير عبد الله وبريد البدوي، وأمامه محب الدّين بن الْعَسَّال. فأوهم كرجى أَنه يُرِيد إصْلَاح الشمعة؛ فأرمى الفوطة على النمجاة؛ ثمَّ قَالَ للسُّلْطَان: يَا خوند، مَا تصلي الْعشَاء؟ ! فَقَالَ: نعم، وَقَامَ ليُصَلِّي؛ فَضَربهُ كرجي بِالسَّيْفِ على كتفه، [فَطلب السُّلْطَان النمجاة؛ فَلم يجدهَا؛ فَقَامَ من هول الضَّرْبَة أمسك كرجى ورماه تَحْتَهُ] ؛ فخطف [نوغاى] النمجاة وضربه على رجله؛ فقطعها، فصاح القَاضِي؛ وانقلب السُّلْطَان على ظَهره مَيتا، ثمَّ تَرَكُوهُ وَالْقَاضِي عِنْده، وَأَغْلقُوا عَلَيْهِمَا الْبَاب.

وَتوجه كرجى وطغجى إِلَى منكوتمر بدار النِّيَابَة من قلعة الْجَبَل، ودقا عَلَيْهِ الْبَاب، وَقَالا لَهُ: السُّلْطَان يطلبك؛ فَأنْكر مجيئهما، وَقَالَ لَهما: قتلتماه؟ {. فَقَالَ كرجى: نعم يَا مأبون، وَجِئْنَا لنقتلك؛ فَاسْتَجَارَ منكوتمر بطغجى؛ فأجاره. ثمَّ وَقع أُمُور آلت إِلَى قَتله فِي اللَّيْلَة الْمَذْكُورَة؛ لأَنهم قَالُوا: نَحن مَا قتلنَا أستاذه إِلَّا من أَجله؛ فَكيف نبقيه؟} . ثمَّ نهبوا دَار منكوتمر فِي الْحَال. وَاتَّفَقُوا على إِعَادَة الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون إِلَى ملكه، وتحالفوا على ذَلِك، وَأَرْسلُوا لإحضاره سلار الصَّغِير. وَعمل طغجى نِيَابَة السلطنة أَرْبَعَة أَيَّام. فَلَمَّا حضر الْأَمِير عبد الله أَمِير سلَاح من غَزْوَة الشَّام قتل كرجى وطغجى وَغَيرهمَا - حَسْبَمَا ذَكرْنَاهُ فِي [تاريخنا] ((النُّجُوم الزاهرة)) ، وَأَيْضًا فِي ((المنهل الصافي)) -. ثمَّ أرْسلُوا فِي مجئ [الْملك] النَّاصِر ثَانِيًا، إِلَى أَن حضر من الكرك، وتسلطن ثَانِي مرّة - حَسْبَمَا يَأْتِي ذكره -. وَقتل الْملك الْمَنْصُور لاجين وَهُوَ فِي عشر الْخمسين أَو جاوزها، وَكَانَت مُدَّة أَيَّامه فِي السلطنة سنتَيْن وَثَلَاثَة أشهر. وَكَانَ الْمَنْصُور من أَعقل النَّاس [وَأَحْسَنهمْ] ، وأحشمهم، وأشجعهم، وَهُوَ الَّذِي عمر الْجَامِع الطولوني - خَارج الْقَاهِرَة - بَعْدَمَا كَانَ أشرف على الخراب، وأوقف عَلَيْهِ هَذِه الْأَوْقَاف الجليلة، وَهُوَ الَّذِي راك الديار المصرية - ((الروك الحسامي)) - وَهُوَ الَّذِي أبطل الثَّلج الَّذِي كَانَ ينْقل من الشَّام إِلَى مصر فِي الْبَحْر.

وأبطل [أَيْضا] عده مكوس. وَلم يكن لَهُ [من المساوئ] سوى تحكم مَمْلُوكه منكوتمر فِي المملكة لَا غير - رَحمَه الله [تَعَالَى]-.

سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية

سلطنة الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون الثَّانِيَة قد تقدم ذكر مولده وَنسبه فِي أول سلطنته. وَلما أَن قتل [الْملك] الْمَنْصُور [حسام الدّين] لاجين اتّفق الْأُمَرَاء المصريون على سلطنته ثَانِيًا، وحلفوا لَهُ فِي غيبته، وأحضروه من الكرك وسلطنوه. وَصَارَ الْأَمِير سلار نَائِب السلطنة [وحسام الدّين لاجين الأستادار أتابكا وبيبرس الجاشنكير أستادارا والأمير] آقوش الأفرم الصَّغِير نَائِبا على دمشق. وَكَانَ عمر [الْملك] النَّاصِر يَوْم عوده إِلَى الْملك خمس عشرَة سنة. وَفِيه يَقُول الشَّيْخ عَلَاء الدّين الوداعي: (الْملك النَّاصِر قد أَقبلت ... دولته مشرقة الشَّمْس) (عَاد إِلَى كرسيه مِثْلَمَا ... عَاد سُلَيْمَان إِلَى الْكُرْسِيّ) وَاسْتمرّ [الْملك] النَّاصِر [مُحَمَّد] فِي السلطنة، وَخرج من الديار المصرية لقِتَال التتار لما حَضَرُوا إِلَى الشَّام فِي أَوَائِل سنة تسع وَتِسْعين وسِتمِائَة، وَدخل دمشق فِي ثامن شهر ربيع الأول. وعدى التتار الْفُرَات، وَخرج [الْملك] النَّاصِر بالعساكر لتلقيهم؛ فالتقاهم بوادي الخازندار - خَارج حمص - فَكَانَ بَين الْفَرِيقَيْنِ وقْعَة عَظِيمَة،

وَثَبت عَسْكَر الْإِسْلَام ثباتاً عَظِيما إِلَى الْعَصْر، ثمَّ تكاثر عَسْكَر التتار؛ فَانْكَسَرت ميمنة السُّلْطَان - وَكَانَ عَسْكَر السُّلْطَان يَوْمئِذٍ نَحْو عشْرين ألفا والتتار فِي نَحْو مائَة ألف - وَانْهَزَمَ السُّلْطَان، وَقتل فِي المصاف جمَاعَة من الْأُمَرَاء. وَملك قازان دمشق - مَا خلا قلعتها؛ فَإِن نائبها الْأَمِير أرجواش المنصوري قَامَ بحفظها أتم قيام -. وخطب لقازان بِدِمَشْق، وَولي قازان نِيَابَة دمشق لقبجق - الَّذِي كَانَ هرب من [لاجين المنصوري] حَسْبَمَا تقدم ذكره -. وقاست أهل دمشق شَدَائِد من التتار. وَأما الْملك النَّاصِر؛ [فَإِنَّهُ] دخل مصر بعد كَسرته، وَأنْفق فِي العساكر. وبينما هُوَ فِي ذَلِك جَاءَهُ الْخَبَر بِعُود قازان إِلَى بِلَاده. وَحضر قبجق طَائِعا؛ فوبخه السُّلْطَان وأهانه أَولا، ثمَّ رضى عَنهُ. ثمَّ عاودت التتار الْبِلَاد؛ فَخرج الْملك النَّاصِر ثَانِيًا، وواقعهم بمرج الصفر، وَهَزَمَهُمْ أقبح هزيمَة، وَقتل قطلوشاه مقدم التتار، وَجَمَاعَة كَثِيرَة من عَسْكَر التتار. وَنصر الله الْإِسْلَام. وَعَاد قازان من حلب فِي ضيق وقهر من كسر أَصْحَابه، هَذِه الكسرة القبيحة. ودقت البشائر لذَلِك أَيَّامًا، ثمَّ عَاد [الْملك] النَّاصِر إِلَى [الديار المصرية] . ودام بهَا فِي ضيق وَحجر من نَائِبه سلار وأستاذه بيبرس الجاشنكير، وَوَقع لَهُ مَعَهُمَا أُمُور فِي سِنِين كَثِيرَة.

ودام على ذَلِك إِلَى شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وَسَبْعمائة أظهر التَّوَجُّه إِلَى الْحجاز، وَخرج من الْقَاهِرَة، وَتوجه إِلَى الكرك متبرما من سلار وبيبرس، وَأعْرض عَن ملك مصر؛ فروجع فِي ذَلِك؛ فَأبى، وصمم على الْإِقَامَة بالكرك. فاتفق الْأُمَرَاء على سلطنة بيبرس الجاشنكير وسلطنوه ولقبوه [بِالْملكِ المظفر] . وَاسْتمرّ [الْملك] النَّاصِر بالكرك، إِلَى أَن تحرّك لطلب الْملك ثَالِث مرّة، وَملك [الديار المصرية]- حَسْبَمَا يَأْتِي ذكره، [إِن شَاءَ الله تَعَالَى]-.

الملك المظفر

الْملك المظفر ركن الدّين، [بيبرس] بن عبد الله المنصوري الجاشنكير. تسلطن بعد خلع [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون فِي عصر يَوْم السبت ثَالِث عشْرين شَوَّال سنة ثَمَان وَسَبْعمائة. وَقيل: فِي ذِي الْقعدَة فِي بَيت سلار. وَركب من بَيت سلار إِلَى القلعة بخلعة السلطنة. وَتمّ أمره فِي الْملك. قيل: إِن خلعه الَّتِي خلعها على الْأُمَرَاء وَغَيرهم، فِي يَوْم سلطنته، وصلت إِلَى ألفي ومائتي خلعة. وَاسْتقر بسلار فِي نِيَابَة السلطنة على عَادَته - على كره من سلار -. وسارت البريدية بسلطنته إِلَى سَائِر الممالك. وَتمّ أمره فِي الْملك، وأطاعه كل وَاحِد، لَوْلَا أَنه أَخذ فِي التَّعَرُّض إِلَى الْملك النَّاصِر مُحَمَّد [بن قلاوون] ، وَصَارَ يطْلب مِنْهُ مَا كَانَ مَعَه بالكرك من الْأَمْوَال والمماليك؛ فَأرْسل إِلَيْهِ النَّاصِر جملَة مستكثرة، وتأدب مَعَه فِي الْمُكَاتبَة، وَكتب لَهُ [مَعَ ذَلِك] : الملكي المظفري. وَهُوَ مَعَ ذَلِك لَا يرجع عَنهُ؛ لأمر يُريدهُ الله تَعَالَى.

كل ذَلِك [وَالْملك النَّاصِر] يترقق لَهُ، ويعرفه أَنه لم يبْق لَهُ غَرضا فِي الْملك، وَأَنه قنع بالكرك، وَإِن لم يَدعه على حَاله وَإِلَّا توجه إِلَى بِلَاد التتار. هَذَا مَعَ مَا تحقق [الْملك] المظفر بيبرس [من] صدق كَلَامه أَنه قَانِع بالكرك، وَلَكِن فرَاغ الرزق وَالْأَجَل لَهُ أَسبَاب. فَلَمَّا زَاد [الْملك] المظفر بيبرس على النَّاصِر فِي طلب مَا عِنْده، وأمعن فِي ذَلِك؛ ألجأت الضَّرُورَة تحرّك [الْملك] النَّاصِر [مُحَمَّد] وَطَلَبه الْملك ثَانِيًا. وَكَاتب مماليك أَبِيه النواب بالبلاد الشامية، مَا خلا الأفرم؛ [نَائِب الشَّام] ؛ فَإِنَّهُ كَانَ من أعوان بيبرس؛ فكاتب قراسنقر نَائِب حلب، وأسندمر كرجى نَائِب طرابلس، وقبجق نَائِب حماة، وبكتمر الجوكندار نَائِب صفد وَغَيرهم، فَأَجَابُوهُ الْجَمِيع بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة. ثمَّ وَقع أُمُور يضيق هَذَا الْمُخْتَصر عَن [إيرادها] ، وَمن أَرَادَ الْعلم بِجَمِيعِ ذَلِك؛ فَعَلَيهِ ((بالنجوم الزاهرة [فِي مُلُوك مصر والقاهرة)) إنتهى] . قلت: وَلما أفحش [الْأَمر بَين الْملك المظفر بيبرس هَذَا وَبَين] [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون - وَهُوَ بالكرك - صَار أَمر النَّاصِر يقوى

وَأمر بيبرس يضعف، حَتَّى أَن بيبرس مَعَ عظم شوكته من خجداشيته ومماليكه لم يَقع بَينه وَبَين النَّاصِر مصَاف، بل جبن عَن لِقَائِه، وَصَارَ كلما جهز أحدا من العساكر توجه أعيانه إِلَى النَّاصِر. وَخرج النَّاصِر بِجَمِيعِ النواب من الشَّام وَقصد الديار المصرية، فَلم يثبت بيبرس وتسحب من قلعة الْجَبَل، وَكَانَت الْعَامَّة تكرههُ وتميل إِلَى النَّاصِر مُحَمَّد. وَاتفقَ فِي أَوَائِل سلطنته شراقي الْبِلَاد؛ فَقَالَت الْعَامَّة: (سلطاننا ركين ونايبنا دقين [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يجينا المَاء من أَيْن ... ) (يجيبوا لنا الْأَعْرَج يجى المَاء ويدحرج ... ) . فَبلغ بيبرس ذَلِك؛ فشوش على جمَاعَة مِنْهُم؛ فحقدوا عَلَيْهِ. فَلَمَّا أدبر سعده، وَنزل من القلعة، عدت الْعَامَّة خَلفه وأبادوه حَتَّى أشرف على الْهَلَاك، لَوْلَا أشغلهم بنثر الذَّهَب عَنهُ. وَسَار بيبرس نَحْو الصَّعِيد بعد أَن خلع نَفسه من الْملك. ثمَّ كتب إِلَى النَّاصِر يَقُول: ((الَّذِي أعرفك [بِهِ] )) أنني قد رجعت لأقلدك بغيك؛ فَإِن حبستني عددت خلْوَة، وَإِن نفيتني عددت ذَلِك سياحة، وَإِن قتلتني كَانَ ذَلِك [لي] شَهَادَة.

فَلَمَّا وقف النَّاصِر على كِتَابه، أَمر لَهُ بصهيون؛ ليقيم بهَا. وَسَار بيبرس من ظَاهر الْقَاهِرَة، وَلم يحضر إِلَى النَّاصِر؛ فَعظم ذَلِك على النَّاصِر وَأرْسل بمسكه؛ فَأمْسك من قريب [مَدِينَة] غَزَّة. وأحضر بَين يَدي النَّاصِر؛ فوبخه، وَعدد لَهُ ذنُوبه ثمَّ خنقه بِوتْر بَين يَدَيْهِ حَتَّى كَاد يهْلك، ثمَّ أطلقهُ وَزَاد فِي سبه، ثمَّ خنقه ثَانِيًا، إِلَى أَن مَاتَ فِي شَوَّال سنة تسع وَسَبْعمائة. فَكَانَت دولة بيبرس على مصر دون السّنة. وَكَانَ - رَحمَه الله - ملكا عَاقِلا ثَابتا، كثير السّكُون وَالْوَقار، جميل الصِّفَات، دبر مملكة النَّاصِر مُحَمَّد مَعَ سلار سنينا كَثِيرَة، وَحسنت سيرته. وَهُوَ صَاحب الخانقاة دَاخل بَاب النَّصْر من الْقَاهِرَة. وَكَانَ أَبيض أشقر، مستدير اللِّحْيَة، مليح الشيبة. وَهُوَ أول مُلُوك الجراكسة - إِن صَحَّ ذَلِك -. وَقيل: إِنَّه كَانَ تركي الْجِنْس. قلت: والأقوى عِنْدِي أَنه كَانَ جركسيا؛ لِأَنَّهُ كَانَ بَينه وَبَين آقوش الأفرم نَائِب دمشق صداقة عَظِيمَة. وَقيل: قرَابَة. والأفرم كَانَ جركسيا؛ فعلى هَذَا يكون بيبرس [الجاشنكير] جركسيا؛ لكَونه قرَابَة الأفرم. إنتهى.

وَمِمَّا قيل فِي [الْملك] المظفر [بيبرس الجاشنكير هَذَا] لما تسحب [عَنهُ أَصْحَابه] وزالت دولته: (تثنى عطف مصر حِين وافى ... قدوم النَّاصِر الْملك الْخَبِير) (فَذَاك الجاشنكير بِلَا لِقَاء ... وَأمسى وَهُوَ ذُو جأش نَكِير) (إِذا لم تعضد الأقدار شخصا ... فَأول مَا يراع من النظير)

سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة

سلطنة الْملك النَّاصِر مُحَمَّد [بن قلاوون] الثَّالِثَة قد تقدم كَيْفيَّة خلع [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد هَذَا من الْملك أَولا وَثَانِيا، وَكَيف كَانَ [ابْتِدَاء] تحركه من الكرك لطلب ملكه - أَعنِي لما صَار بيبرس الجاشنكير يُكَرر الطّلب مِنْهُ لما كَانَ مَعَه من الْأَمْوَال والمماليك [وَغَيرهَا] بالكرك -. وَزَاد عَلَيْهِ فِي ذَلِك، حَتَّى أَلْجَأَهُ إِلَى الْوُثُوب ومكاتبته لنواب الممالك؛ فكاتبهم وأطاعوه بعد أُمُور ذَكرنَاهَا فِي غير هَذَا الْمُخْتَصر. وَلَا زَالَ أمره يَنْمُو والأقدار تساعده، إِلَى أَن سَار بِجَمِيعِ عَسَاكِر الْبِلَاد الشامية حَتَّى نزل بالريدانية - خَارج الْقَاهِرَة - فِي لَيْلَة عيد الْفطر من سنة تسع وَسَبْعمائة. وطلع إِلَى قلعة الْجَبَل فِي اللَّيْل، وَأصْبح جلس على سَرِير الْملك، وجددت لَهُ الْبيعَة ثَالِثا. وَهَذِه سلطنته الثَّالِثَة الَّتِي عظم أمره فِيهَا، ورتب فِيهَا هَذِه التراتيب الهائلة من أَرْبَاب الْوَظَائِف، وخدمة الإيوان وَالْقصر الأبلق، ونزول سرياقوس والميادين، وَعمر فِيهَا تِلْكَ العمائر الْعَظِيمَة من الْقُصُور، والبلاد، والجسور، والقناطر. وَكَذَلِكَ جَمِيع مماليكه وأمرائه صَار كل مِنْهُم يعمر جِهَة، حَتَّى أَنه زيد فِي مباني الديار المصرية فِي أَيَّامه مِقْدَار نصفهَا - حَسْبَمَا بَينا ذَلِك كُله فِي ((النُّجُوم الزاهرة)) وَأَيْضًا فِي تَرْجَمته فِي تاريخنا ((المنهل الصافي)) .

وَلما تمّ أَمر [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد -[فِي هَذِه الْمرة]- أمسك فِي يَوْم وَاحِد ثَلَاثِينَ أَمِيرا من أَعْيَان الْأُمَرَاء، وَكَثِيرًا من غَيرهم، [ثمَّ أَمر مماليكه وَأَعْطَاهُمْ، وأغدق عَلَيْهِم، وَأقَام لَهُ شَوْكَة وحاشية عَظِيمَة] . وَولى مَمْلُوكه تنكز الحسامي نِيَابَة الشَّام دفْعَة وَاحِدَة؛ فَأَقَامَ عَلَيْهَا [مَا يزِيد] على ثَلَاثِينَ سنة. وطالت أَيَّام [الْملك] النَّاصِر فِي هَذِه السلطنة [الثَّالِثَة] زِيَادَة على ثَلَاثِينَ سنة - حَسْبَمَا يَأْتِي ذكره - وأطاعته الْبِلَاد والعباد، وَعظم أمره فِي الْملك، حَتَّى جَاوز فِي العظمة والعساكر كل ملك كَانَ قبله وَبعده إِلَى يَوْمنَا هَذَا. قلت: وَهُوَ أجل مُلُوك مصر وأعظمهم قدرا، وأطولهم مُدَّة، وَأَحْسَنهمْ سياسة، وَأَكْثَرهم دهاء وَمَعْرِفَة، وأغزرهم عقلا، وَأَكْثَرهم هَيْبَة، وأصوبهم حدسا، وأجودهم رَأيا، وأفضلهم تدبيرا، وأضخمهم رئاسة، وأوسعهم إطلاعا فِي الْأُمُور والعواقب، وأجلدهم صبرا، وأثبتهم مصافا، وأغدقهم عَطاء، وأجلهم بركا وسلاحا، وَأَكْثَرهم مماليكا وحشما وخدما، وأقناهم خيلا وجمالا وبغالا، وأمدهم نَسْلًا وعقبا؛ فَإِنَّهُ تسلطن [بِمصْر] من وَلَده لصلبه ثَمَانِيَة نفر، وَتمّ الْملك فِي نَسْله ومماليك أَوْلَاده ومماليكهم إِلَى يَوْمنَا هَذَا، بل إِلَى أَن تَزُول دولة التّرْك. ومصداق مَا قُلْنَاهُ: النّظر فِيمَا لَهُ من المآثر بالديار المصرية والبلاد الشامية وَغَيرهَا بِسَائِر بِلَاد الله تَعَالَى، وَفِي ذَلِك كِفَايَة لمن لَهُ عقل وذوق، وَيَكْفِي الْوَاقِف على هَذَا الْمُخْتَصر مَا ذَكرْنَاهُ من الإيجاز من محاسنه، وَلَو أردنَا الإطناب لطال الشَّرْح فِي ذَلِك وَخرج هَذَا الْمُخْتَصر عَن كَيْفيَّة المختصرات.

[قلت] : ودام الْملك النَّاصِر [مُحَمَّد] هَذَا فِي ملك مصر، إِلَى أَن مرض فِي أَوَائِل ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة. وَلزِمَ الْفراش، إِلَى أَن مَاتَ بقلعة الْجَبَل فِي آخر يَوْم الْأَرْبَعَاء الْعشْرين من ذِي الْحجَّة [الْمَذْكُورَة] من سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة. وتسلطن بعده ابْنه [الْملك] الْمَنْصُور أَبُو بكر. وَكَانَت مُدَّة سلطنة [الْملك] النَّاصِر هَذِه - الثَّالِثَة - على مصر تقَارب إثنتين وَثَلَاثِينَ سنة. وَلَا نعلم من طَالَتْ مدَّته من مُلُوك التّرْك بِمصْر مثل ذَلِك. إنتهى -[رَحمَه الله تَعَالَى]-.

الملك المنصور

[الْملك] الْمَنْصُور سيف الدّين، أَبُو بكر ابْن [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد ابْن [الْملك] الْمَنْصُور قلاوون. تسلطن بعد موت أَبِيه النَّاصِر فِي صَبِيحَة يَوْم خَمِيس حادي عشْرين ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة. وَهُوَ [السُّلْطَان] الثَّالِث عشر من مُلُوك التّرْك وَأَوْلَادهمْ. جلس على سَرِير الْملك بِعَهْد من أَبِيه. وَكَانَ [الْملك] النَّاصِر أَحْمد [أسن] من أبي بكر [هَذَا] ، غير أَن الْملك النَّاصِر مُحَمَّد [بن قلاوون] مَا اخْتَار الْملك من بعده إِلَّا إِلَى الْمَنْصُور هَذَا. وَكَانَ الَّذِي قَامَ بِأَمْر سلطنته قوصون الناصري، وَخَالف بشتك الناصري فِي ذَلِك. وَلما تمّ أمره فِي الْملك، حسن لَهُ طاجار الدوادار مسك قوصون؛ فَمَال لإمساكه. وَكَانَ فِي الْمجْلس بعض الخاصكية؛ فَعرف قوصون بذلك؛ فاتفق

قوصون مَعَ الْأَمِير أيدغمش الْأَمِير آخور وَجَمَاعَة أخر؛ فاتفقوا على خلعه من الْملك. وَامْتنع قوصون؛ عَن حُضُور الْخدمَة [السُّلْطَانِيَّة] ؛ فَأَرَادَ السُّلْطَان الرّكُوب على قوصون؛ فخذله أيدغمش وَمنعه؛ فَكَانَ فِي ذَلِك زَوَال ملكه. وخلع [الْملك] الْمَنْصُور هَذَا بأَخيه عَلَاء الدّين كجك، وعمره نَحْو سِتّ سِنِين؛ فَكَانَت مُدَّة ملكه شَهْرَيْن وأياما. وَجلسَ قوصون فِي دَار النِّيَابَة، وَأخذ الْمَنْصُور هَذَا وجهزه إِلَى قوص صُحْبَة الْأَمِير بهادر بن جركتمر، وَتوجه مَعَ الْمَنْصُور أَخَوَيْهِ: يُوسُف ورمضان. ثمَّ وَقع [لَهُ] أُمُور، وَقبض قوصون على طاجار الدوادار وغرقه. وَقتل بشتك فِي حبس الأسكندرية. وَقبض أَيْضا على جمَاعَة كَثِيرَة من الْأُمَرَاء الَّذين كَانُوا حول الْملك الْمَنْصُور [هَذَا] . وَلما توجه [الْملك] الْمَنْصُور إِلَى قوص وَأقَام بهَا دس قوصون سرا فِي سنة إثنتين وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة إِلَى عبد الْمُؤمن متولى قوص بقتْله؛ فَقتله وَحمل رَأسه إِلَى قوصون فِي السِّرّ. وكتموا ذَلِك عَن النَّاس وأشاعوا مَوته. فَلَمَّا أمسك قوصون تحققوا ذَلِك. وَكَانَ [الْملك] الْمَنْصُور سُلْطَانا، كَرِيمًا، مُعظما، عَاقِلا، حمل إِلَيْهِ

فِي سلطنته مَال بشتك، وَمَال آقبغا عبد الْوَاحِد، وَمَال برسبغا؛ وَذَلِكَ مَا يُقَارب أَرْبَعَة آلَاف ألف دِرْهَم، فَوَهَبَهَا جَمِيعًا لخاصكية وَالِده، مثل: ملكتمر الْحِجَازِي صَاحب الْقصر، وَمثل ألطنبغا المارداني، ويلبغا اليحياوي وطاجار الدوادار. وَكَانَ الْأَمِير طقز دمر الحموى الناصرى حمو الْملك الْمَنْصُور، فَلَمَّا تسلطن جعل طقزدمر نَائِب السلطنة؛ فانتظمت الْأُمُور بسلطنة الْمَنْصُور ونيابة طقز دمر أحسن نظام، وَلم يَقع فِي أَيَّامه سيف وَلَا فتْنَة، إِلَى أَن خلع ثارت الْفِتْنَة، وَأخرج طقز دمر إِلَى نِيَابَة حماة، ثمَّ قتل قوصون - حَسْبَمَا يَأْتِي ذكره -. وَلما أحس النَّاس بقتل الْمَنْصُور بقوص نفرت الْقُلُوب من قوصون، وَعظم ذَلِك على النَّاس، لاسيما خاصكية وَالِده؛ فَكَانَ [ذَلِك] من أكبر الْأَسْبَاب فِي [هَلَاك قوصون] .

الملك الأشرف

الْملك الْأَشْرَف عَلَاء الدّين كجك ابْن السُّلْطَان [الْملك] النَّاصِر [مُحَمَّد] ابْن [الْملك] الْمَنْصُور قلاوون. تسلطن بعد خلع أَخِيه [الْملك] الْمَنْصُور أبي بكر فِي يَوْم الأثنين حادي عشْرين صفر من سنة إثنتين وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة [وعمره دون سبع سِنِين] . وَأمه أم ولد تترية تسمى: أردو. وَهُوَ [السُّلْطَان] الرَّابِع عشر من مُلُوك التّرْك، وَالثَّانِي من أَوْلَاد ابْن قلاوون. واستقل قوصون بتدبير المملكة، وَجلسَ فِي دَار النِّيَابَة، وَنفذ الْأُمُور بِحَسب مَا تختاره؛ فَكَانَ إِذا حضرت الْعَلامَة يَأْخُذ قوصون الْقَلَم بِيَدِهِ ويجعله فِي يَد الْأَشْرَف [هَذَا] ؛ حَتَّى يعلم على المناشير وَغَيرهَا.

واضطربت أَحْوَال الديار المصرية من كَثْرَة الْخلف الْوَاقِع بَين الْأُمَرَاء وَغَيرهم. وَكثر الظُّلم، وتوقفت أَحْوَال الرّعية؛ فَقَالَ [بعض الشُّعَرَاء] فِي الْمَعْنى: (سلطاننا الْيَوْم طِفْل والأكابر فِي ... خلف وَبينهمْ الشَّيْطَان قد نزغا) (فَكيف يطْمع من مسته مظْلمَة ... أَن يبلغ السؤل وَالسُّلْطَان مَا بلغا) ثمَّ تحرّك [الْملك] النَّاصِر أَحْمد ابْن [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون من الكرك فِي طلب ملك مصر؛ لِأَنَّهُ كَانَ أسن أَوْلَاد [الْملك] النَّاصِر. وتجرد إِلَيْهِ عدَّة تجاريد من الديار المصرية، وَكَانَ الفخري مقدم العساكر المصرية؛ فَخَالف هُنَاكَ على قوصون، وَمَال إِلَى [الْملك] النَّاصِر أَحْمد بالكرك. ثمَّ خَالف على قوصون غَالب أُمَرَاء الديار المصرية، وَاتَّفَقُوا مَعَ أيدغمش على الْوُثُوب عَلَيْهِ، وَقَالُوا: هَذَا الْغَرِيب يدْخل بَيْننَا وَيقتل ابْن أستاذنا [الْملك] الْمَنْصُور بقوص {} . وَقَوْلهمْ: [هَذَا] الْغَرِيب؛ يعنون: أَن قوصون كَانَ فِي خدمَة بعض التُّجَّار؛ فَرَآهُ النَّاصِر مُحَمَّد؛ فَقَالَ للتاجر: بِعني هَذَا. فَقَالَ التَّاجِر: هَذَا غير مَمْلُوك! ؛ فَقَالَ السُّلْطَان: لابد من شِرَائِهِ. وَأعْطى التَّاجِر [فِيهِ] مَالا جزيلا، وَأَخذه،

ورقاه حَتَّى صَار ساقيا، ثمَّ أمره، وزوجه بِإِحْدَى بَنَاته، ثمَّ صَار من أمره مَا صَار؛ وَلِهَذَا كَانَ إِذا وَقع بَين قوصون [الساقي] وبكتمر الساقي [مُنَافَسَة] يَقُول قوصون: أَنا مَا تنقلت من الإصطبلات إِلَى الإطباق، بل أَخَذَنِي السُّلْطَان من تاجري، وصرت مقربا عِنْده. إنتهى. وَلما كثرت القالة فِي حق قوصون فِي قَتله [الْملك] الْمَنْصُور مَعَ مَا كَانَ قوصون فعله فِي الْعَامَّة؛ فَإِنَّهُ كَانَ وَقع بَينه وَبينهمْ وَحْشَة؛ فَقتل بعض الحرافيش، وَقطع أَيْديهم وسمرهم، وَسمر جمَاعَة من الخدام الطواشية [أَيْضا] ؛ فنفرت الْقُلُوب مِنْهُ. وَأخذ قطلوبغا الفخري يُكَاتب أُمَرَاء مصر على قوصون ويحرضهم على [طَاعَة الْملك] النَّاصِر أَحْمد، ونصبه فِي [السلطنة بِمصْر] ؛ فَمَال أيدغمش إِلَى ذَلِك مَعَ من وَافقه. وَركب على قوصون وقاتله، ونادى فِي الْعَوام بِنَهْب دَار قوصون؛ فثار الْعَوام والحرافيش، ونهبوا جَمِيع مَا كَانَ فِي دَار قوصون - وَهُوَ يرى من شباك طبقته بالقلعة؛ لِأَن دَاره كَانَت الدَّار الَّتِي هِيَ الْآن تجاه بَاب السلسلة -.

وَصَارَ قوصون يَقُول: يَا مُسلمين! مَا تحفظون هَذَا المَال؛ إِمَّا أَن يكون لي أَو للسُّلْطَان؛ فَقَالَ [لَهُ] أيدغمش من الإصطبل السلطاني: هَذَا شكرانه للنَّاس، وَالَّذِي عنْدك فَوق من الْجَوْهَر يَكْفِي السُّلْطَان. وَآل الْأَمر إِلَى مسك قوصون وحبسه بالأسكندرية، ثمَّ قَتله فِي شَوَّال من السّنة [الْمَذْكُورَة] . ثمَّ خلع [الْملك] الْأَشْرَاف كجك بأَخيه [الْملك] النَّاصِر أَحْمد. ودام بقلعة الْجَبَل، إِلَى أَن مَاتَ فِي سلطنة أَخِيه [الْملك] الْكَامِل [شعْبَان]- الْآتِي ذكره -. وَكَانَت وَفَاة الْأَشْرَف [هَذَا] فِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة -[رَحمَه الله تَعَالَى]-.

الملك الناصر

الْملك النَّاصِر شهَاب الدّين، أَحْمد ابْن [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون. تسلطن بعد خلع أَخِيه الْأَشْرَف كجك فِي يَوْم الأثنين عَاشر شَوَّال سنة إثنتين وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة، بعد أَن وَقع لَهُ أُمُور وحوادث. وَهُوَ السُّلْطَان الْخَامِس عشر من مُلُوك التّرْك بِمصْر، وَالثَّالِث من أَوْلَاد [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد قلاوون. وَكَانَ وَالِده [الْملك النَّاصِر] أخرجه قبل بُلُوغه إِلَى الكرك؛ فدام بِهِ. وَكَانَ مليح الشكل، صَاحب بَأْس وَقُوَّة مفرطة. وَلما مَاتَ وَالِده [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد وتسلطن أَخُوهُ [الْملك] الْمَنْصُور بسفارة قوصون - وَكَانَ بشتك أَرَادَ سلطنته - فَمَنعه قوصون. فَلَمَّا خلع قوصون [أَخَاهُ] الْمَنْصُور طلبه إِلَى مصر ليتسلطن؛ فَامْتنعَ، وَكتب فِي الْبَاطِن إِلَى نواب الشَّام باستعفائه من الْملك؛ فرقوا لَهُ؛ وَكَتَبُوا إِلَى قوصون بالكف عَنهُ، فسلطن قوصون أَخَاهُ الْأَشْرَف كجك. ثمَّ بدا للناصر هَذَا طلب الْملك، وَوَافَقَهُ طشتمر الساقي -[حمص أَخْضَر]- نَائِب حلب.

وَوَقع [لَهُ] أُمُور يطول شرحها، ذَكرنَاهَا فِي ((المنهل الصافي)) وَغَيره. وَآخر الْأَمر، أَنه تسلطن وَملك قلعة الْجَبَل. وَوَقع لَهُ أُمُور عَجِيبَة لَا تقع إِلَّا مِمَّن أُصِيب فِي عقله، وَمن أَرَادَ الْعلم بهَا؛ فَعَلَيهِ بترجمته فِي [تاريخنا] ((النُّجُوم الزاهرة)) ؛ فَفِيهِ من أَحْوَاله غرائب. وَلما ملك مصر أمسك جمَاعَة من الْأُمَرَاء، وظلم وعسف. ثمَّ بدا لَهُ أَن يتْرك مصر وَيتَوَجَّهُ إِلَى الكرك؛ فَفعل ذَلِك وَسَار إِلَى الكرك وَمَعَهُ الْأَمْوَال والذخائر، وَترك الْأُمَرَاء والعساكر بِالْقَاهِرَةِ وَأقَام بالكرك؛ فاضطربت أَحْوَال الديار المصرية، وكاتبوه الْأُمَرَاء فِي الْحُضُور إِلَى مصر [مرَارًا عديدة، وَهُوَ يسوف بهم من وَقت إِلَى وَقت وَترد مكاتباته إِلَى مصر] بِخَط نَصْرَانِيّ كَانَ مقربا عِنْده يعرف بالرضى. فَلَمَّا زَاد أمره أجمع النَّاس والأمراء على خلعه، وَإِقَامَة أَخِيه الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل؛ فخلعوه، وأجلسوا الصَّالح على تخت الْملك فِي يَوْم الْخَمِيس ثَانِي عشْرين الْمحرم [من] سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة؛ فَكَانَت مُدَّة ملك النَّاصِر [هَذَا] بِالْقَاهِرَةِ والكرك دون الْأَرْبَعَة أشهر. وعندما تسلطن [الْملك] الصَّالح أَمر بتجهيز العساكر إِلَى الكرك لمحاصرة أَخِيه [الْملك] النَّاصِر أَحْمد؛ فتوجهوا إِلَيْهِ وحاصروه؛ فَلم يقدروا عَلَيْهِ وعادوا. ثمَّ توجه عسكرا آخر، وَطَالَ الْأَمر فِي حصاره [وتوجهت إِلَيْهِ العساكر مرَارًا كَثِيرَة.

ودام هَذَا الْحَال، وَطَالَ الْأَمر] ؛ حَتَّى أَنه لم يبْق بِمصْر وَالشَّام أَمِير حَتَّى تجرد إِلَى حِصَار الكرك مرّة ومرتين. ثمَّ أَخذ أَمر [الْملك] النَّاصِر يتلاشى، وَهلك من عِنْده بالكرك من الْجُوع. وَهُوَ مَعَ ذَلِك لَا يمل وَلَا يكل من الْقِتَال والحصار. وَنفذ مَا عِنْده من الْأَمْوَال؛ فَضرب الذَّهَب وخلط فِيهِ الْفضة والنحاس، ونفق ذَلِك فِي النَّاس؛ فَكَانَ الدِّينَار [من] نَفَقَته يُسَاوِي خَمْسَة دَرَاهِم. وَتَمَادَى عَلَيْهِ الْأَمر، إِلَى أَن عجز وَأمْسك فِي يَوْم الأثنين - وَقت الظّهْر - ثَانِي عشْرين صفر سنة خمس وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة. وَكتب بذلك إِلَى السُّلْطَان؛ فَأرْسل [السُّلْطَان] الْأَمِير منجك اليوسفي الناصري فحز رَأسه، وَتوجه بِهِ إِلَى الْقَاهِرَة، واستراح كل وَاحِد.

الملك الصالح

الْملك الصَّالح عماد الدّين أَبُو الفدا، إِسْمَاعِيل ابْن [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد ابْن [الْملك الْمَنْصُور] قلاوون. تسلطن بعد توجه أَخِيه [الْملك] النَّاصِر أَحْمد إِلَى الكرك بِاتِّفَاق الْأُمَرَاء على سلطنته فِي يَوْم الْخَمِيس (ثَانِي عشْرين محرم سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة. وَهُوَ السُّلْطَان السَّادِس عشر من مُلُوك التّرْك، وَالرَّابِع من أَوْلَاد النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون. وَكَانَ الْقَائِم بسلطنته الْأَمِير جنكلي بن البابا. وَحلف لَهُ الْأُمَرَاء والعساكر. وَلما تمّ أمره فِي ملك مصر اسْتَقر بالأمير آقسنقر السلارى فِي نِيَابَة السلطنة بالديار المصرية - كَمَا كَانَ أَيَّام أَخِيه النَّاصِر -. ثمَّ أمْسكهُ وَولي النِّيَابَة للأمير آل ملك، ثمَّ مَال إِلَى النِّسَاء، وَتزَوج بنت [الْأَمِير] طقزدمر نَائِب الشَّام. وَكَانَ [الْملك] الصَّالح هَذَا يمِيل إِلَى السودَان، وحكايته مَعَ حظيته السَّوْدَاء مَشْهُورَة - ذَكرنَاهَا فِي ((النُّجُوم الزاهرة)) -. وَكَانَ الْمُدبر لمملكته زوج أمه أرغون العلائي.

وَلم تطل مدَّته، وَمَات فِي الْعشْرين من شهر ربيع الأول سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة. وَكَانَت مُدَّة ملكه ثَلَاث سِنِين وشهرا وَثَمَانِية عشر يَوْمًا. وتسلطن بعده أَخُوهُ - شقيقه -[الْملك] الْكَامِل شعْبَان الْآتِي ذكره. وَكَانَ [الْملك] الصَّالح سَاكِنا عَاقِلا، قَلِيل الشَّرّ، كثير الْخَيْر، حُلْو الْوَجْه، أَبيض بصفرة، وعَلى خَدّه شامة، وَهُوَ أصلح حَالا من جَمِيع إخْوَته؛ لِأَنَّهُ كَانَ دينا خيرا. ورتب دروسا للقضاة الْأَرْبَعَة بمدرسة جده قلاوون وَزَاد فِي أوقاف جَامع وَالِده الَّذِي بالقلعة، وَعمر أَمَاكِن بِمَكَّة، واسْمه مَكْتُوب على رِبَاط السِّدْرَة. وَهُوَ الَّذِي أوقف الْقرْبَة بضواحي الْقَاهِرَة بالقليوبية على الْكسْوَة. وَلما مَاتَ قَالَ فِيهِ الصّلاح الصَّفَدِي: (مضى الصَّالح المرجو للبأس والندى ... وَمن لم يزل يلقى المنى بالمنائح) (فيا ملك مصر كَيفَ حالك بعده ... إِذا نَحن أثنينا عَلَيْك بِصَالح)

الملك الكامل

الْملك الْكَامِل زين الدّين، شعْبَان ابْن [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد ابْن [الْملك الْمَنْصُور] قلاوون. تسلطن بِعَهْد من أَخِيه [الْملك] الصَّالح إِسْمَاعِيل. وَلما مَاتَ أَخُوهُ الصَّالح اخْتلفت الْأُمَرَاء فِيمَن يقيمونه [فِي السلطنة] ؛ فمالت طَائِفَة إِلَى أَخِيه حاجى وَطَائِفَة إِلَى شعْبَان هَذَا. وَقَامَ بأَمْره زوج أمه أرغون العلائي. وَحدث الْأَمِير آل ملك النَّائِب فِي سلطنته؛ فَقَالَ: بِشَرْط أَنه لَا يلْعَب بالحمام؛ فَبلغ شعْبَان ذَلِك؛ فنقم عَلَيْهِ بعد أَن تسلطن؛ وَأخرجه إِلَى نِيَابَة صفد. وَكَانَ جُلُوس [الْملك] الْكَامِل [هَذَا] على سَرِير الْملك فِي يَوْم الْخَمِيس ثَانِي شهر ربيع الآخر سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة. وَهُوَ [السُّلْطَان] السَّابِع عشر من مُلُوك التّرْك، وَالْخَامِس من أَوْلَاد ابْن قلاوون. وَلما تسلطن الْكَامِل [هَذَا] أَسَاءَ السِّيرَة فِي الْأُمَرَاء، وَصَارَ يخرج الإقطاعات بِالْبَدَلِ، وَعمل لذَلِك ديوانا، حَتَّى إِنَّه كَانَ يعين الْقدر فِي المناشير.

وَكَانَ محبا لجمع المَال، وَكَانَ شجاعا، فطنا ذكيا، لَا يخل بِالْجُلُوسِ للْخدمَة) طرفِي النَّهَار، مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ من اللّعب وَاللَّهْو دَائِما، وَلَو ترك ذَلِك لَكَانَ من أحسن الْمُلُوك حَالا. وَلما تسلطن قَالَ فِيهِ الشَّيْخ جمال الدّين [مُحَمَّد] بن نباتة الْمصْرِيّ -[رَحمَه الله تَعَالَى]-. (جبين سلطاننا المرجى ... مبارك الطالع البديع) (يَا بهجة الدَّهْر إِذْ تبدى ... هِلَال شعْبَان فِي ربيع) وَلم تطل مُدَّة الْكَامِل [هَذَا] ، وَوَقع لَهُ مَعَ الْأُمَرَاء وَغَيرهم محن، وَاتَّفَقُوا على خلعه، وقاتلوه حَتَّى خلعوه من الْملك بأَخيه المظفر حاجى فِي يَوْم الأثنين مستهل جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة؛ فَكَانَت مُدَّة ملك شعْبَان [هَذَا] على [سلطنة] مصر سنة وَاحِدَة وَسَبْعَة عشر يَوْمًا. قَالَ الشَّيْخ صَلَاح الدّين [خَلِيل بن أيبك] [الصَّفَدِي] فِي تَارِيخه: حكى لي سيف الدّين أسنبغا دوادار الْأَمِير أرغون شاه قَالَ: مددنا السماط على أَن يَأْكُلهُ الْملك الْكَامِل، وجهزنا طَعَام حاجى إِلَيْهِ فِي حَبسه؛ فَخرج حاجى أكل السماط، وَدخل الْكَامِل، السجْن وَأكل السماط الَّذِي كَانَ لحاجى. وَقلت فِي واقعته: (بَيت قلاوون سعاداته ... فِي عَاجل كَانَت بِلَا آجل) (حل على أملاكه للردى ... دين قد اسْتَوْفَاهُ بالكامل)

قلت: وَلما حبس الْكَامِل كَانَ ذَلِك آخر الْعَهْد بِهِ. وَقتل فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَالِث جُمَادَى الْآخِرَة [الْمَذْكُورَة] . وَكَانَ [صفة] الْكَامِل: أشقر، أَزْرَق الْعَينَيْنِ، محدد الْأنف، تَامّ الشكل -[رَحمَه الله تَعَالَى]-.

الملك المظفر

الْملك المظفر حاجى (ابْن [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد) ابْن [الْملك] [الْمَنْصُور] قلاوون. تسلطن بعد خلع أَخِيه الْكَامِل شعْبَان [فِي يَوْم الأثنين مستهل جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة] . وَهُوَ [السُّلْطَان] الثَّامِن عشر من مُلُوك التّرْك بديار مصر، وَالسَّادِس من أَوْلَاد ابْن قلاوون. وَكَانَ مولده فِي سنة إثنتين وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وَأَبوهُ فِي الْحجاز؛ فَسمى حاجى. وَكَانَ سَبَب قتل الْكَامِل وسلطنة حاجى [هَذَا] : أَن الْكَامِل أَرَادَ قتل حاجى [هَذَا] ، وَأمر أَن تبنى عَلَيْهِ حَائِطا. وَكَانَ الْكَامِل غير محبب للنَّاس؛ فكاتبوا الْأُمَرَاء يلبغا اليحياوي نَائِب الشَّام بِخُرُوجِهِ عَن الطَّاعَة؛ فامتثل ذَلِك، وبرز إِلَى ظَاهر دمشق؛ فَاحْتَاجَ الْكَامِل لما بلغه الْخَبَر أَن يجرد لقتاله عسكرا؛ فَجهز العساكر وسيرهم.

فَلَمَّا خَرجُوا إِلَى الخطارة رجعُوا إِلَيْهِ، وَقد خرج الْجَمِيع عَن طَاعَته؛ فَنزل إِلَيْهِم وَقَاتلهمْ؛ فانكسر وجرح الْأَمِير أرغون العلائي فِي وَجهه، وَقبض عَلَيْهِ وَقتل - حَسْبَمَا ذَكرْنَاهُ فِي تَرْجَمته -. وَلما قبض [على] الْكَامِل اتّفق الْأَمِير ملكتمر الْحِجَازِي وآق سنقر وأرغون شاشه وشجاع الدّين أغزلو - الَّذِي جرح أرغون العلائي فِي وَجهه وأخرجوا حاجى [من الْحَبْس]- سلطنوه - حَسْبَمَا تقدم ذكره -. وَلما تسلطن المظفر [هَذَا] انتظمت لَهُ الْأَحْوَال، وسكنت الْفِتَن، وَصفا لَهُ الْوَقْت؛ فَحسن بِبَالِهِ مسك جمَاعَة من الْأُمَرَاء؛ فَقبض على ملكتمر الْحِجَازِي - الَّذِي قَامَ بسلطنته - وعَلى جمَاعَة أخر من أكَابِر الْأُمَرَاء. ثمَّ قبض على جمَاعَة كَثِيرَة من أَوْلَاد الْأُمَرَاء؛ فنفرت الْقُلُوب مِنْهُ. وَوَقع لَهُ مَعَ اليحياوي وَغَيره أُمُور يطول شرحها، وَقتل جمَاعَة كَثِيرَة من الْأُمَرَاء. وَآل الْأَمر إِلَى خُرُوج الْأُمَرَاء بِمن مَعَهم إِلَى قبَّة النَّصْر؛ فَركب المظفر بِمن [بقى] مَعَه فِي الظَّاهِر وهم عَلَيْهِ فِي الْبَاطِن، والتقاهم [فَلم يثبت مَعَه أحد من أَصْحَابه؛ فالتقاهم] هُوَ بِنَفسِهِ؛ فطعنه الْأَمِير بيبغا أروس أَمِير مجْلِس أقلبه عَن فرسه، وضربه الْأَمِير طاز يرق بالطبر من خَلفه؛ فجرح وَجهه وأصابعه. ثمَّ كتفوه، وأحضروه إِلَى بَين يَدي الْأَمِير أرقطاى النَّائِب؛ ليَقْتُلهُ.

فَلَمَّا رَآهُ نزل [عَن فرسه] [وترجل] ، وَرمى عَلَيْهِ قباءه، وَقَالَ: أعوذ بِاللَّه! هَذَا سُلْطَان ابْن سُلْطَان مَا أَقتلهُ، خذوه إِلَى القلعة؛ فَأَخَذُوهُ، وأدخلوه إِلَى تربة هُنَاكَ، وَقضى الله أمره فِيهِ، وَذَلِكَ فِي [يَوْم] ثَانِي عشر شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة؛ فَكَانَت مُدَّة ملكه سنة وَاحِدَة وَثَلَاثَة أشهر وإثني عشر يَوْمًا. وَكَانَ [الْملك] المظفر شجاعا مقداما، ذَا قُوَّة مفرطة [وإقدام] ، وكرم، غير أَنه كَانَ عِنْده تهور ورعونة. وَكَانَ أكبر الْأَسْبَاب فِي عَزله لعبه بالحمام. وَفِي هَذَا الْمَعْنى يَقُول الصّلاح الصَّفَدِي: (أَيهَا الْعَاقِل اللبيب تفكر ... فِي المليك المظفر الضرغام) (كم تَمَادى فِي الْبَغي والغي حَتَّى ... كَانَ لعب الْحمام جد الْحمام) وَله [أَيْضا] : (حَان الردى للمظفر ... وَفِي التُّرَاب تعفر) (كم قد أباد أَمِيرا ... على الْمَعَالِي توقر) (وَقَاتل النَّفس ظلما ... ذنُوبه مَا تكفر)

الملك الناصر

الْملك النَّاصِر نَاصِر الدّين، حسن ابْن [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد ابْن [الْملك] الْمَنْصُور قلاوون. تسلطن - بعد خلع أَخِيه المظفر حاجى وَقَتله - فِي يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع عشر [شهر] رَمَضَان سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة. وَهُوَ [السُّلْطَان] التَّاسِع عشر من مُلُوك التّرْك [بالديار المصرية] ، وَالسَّابِع من أَوْلَاد ابْن قلاوون. و [كَانَ] مولده فِي [سنة] نَيف وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة. وَهَذِه سلطنته الأولى. وَكَانَ إسمه قمارى، فَلَمَّا أَجْلِس على سَرِير الْملك سَمَّاهُ النَّائِب: قمارى؛ فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان حسن [هَذَا] : لَا يَا عمي {مَا إسمي إِلَّا حسن، مَا أَنا مَمْلُوك} ! ؛ فَقَالَ النَّائِب: المرسوم مرسومك يَا خوند. ودقت البشائر، وَتمّ أمره فِي الْملك إِلَى سنة إثنتين وَخمسين وَسَبْعمائة وَقعت الوحشة بَينه وَبَين الْأَمِير طاز الناصري.

وَكَانَ طاز قد عظم أمره، وَصَارَ تَدْبِير المملكة بِيَدِهِ؛ فَعِنْدَ ذَلِك قَامَ طاز [الْمَذْكُور] فِي خلع السُّلْطَان حسن هَذَا وسلطنة أَخِيه الْملك الصَّالح صَالح، حَتَّى تمّ لَهُ ذَلِك. وَوَافَقَهُ صرغتمش وَغَيره على خلعه، وركبوا عَلَيْهِ؛ فَلم يقاتلهم [الْملك] النَّاصِر وخلع نَفسه؛ فَأخذ وَحبس بالدور من قلعة الْجَبَل، إِلَى أَن أُعِيد [للسلطنة]- حَسْبَمَا يَأْتِي ذكره -. وَكَانَ خلعه من الْملك فِي أَوَائِل شهر رَجَب من سنة إثنتين وَخمسين وَسَبْعمائة؛ فَكَانَت مُدَّة سلطنته هَذِه الْمرة على مصر ثَلَاث سِنِين وَنَحْو عشرَة أشهر.

الملك الصالح صالح

الْملك الصَّالح صَالح ابْن النَّاصِر مُحَمَّد [بن قلاوون] . تسلطن بعد خلع أَخِيه [الْملك] النَّاصِر حسن فِي يَوْم الأثنين ثامن عشْرين جُمَادَى الْآخِرَة. وَقيل: فِي أَوَائِل رَجَب سنة إثنتين وَخمسين وَسَبْعمائة. وَهُوَ السُّلْطَان الْعشْرُونَ من مُلُوك التّرْك، وَالثَّامِن من أَوْلَاد [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون. وَأمه قطلوملك بنت الْأَمِير تنكز نَائِب الشَّام. [و] مولده بقلعة الْجَبَل فِي شهر ربيع الأول سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة. وَلما تمّ أمره فِي السلطنة، صَار الْأَمِير طاز الناصري مُدبر مَمْلَكَته وَصَاحب الْحل وَالْعقد فِيهَا، وَلَيْسَ [للْملك الصَّالح] هَذَا مَعَه إِلَّا مُجَرّد الأسم [فِي السلطنة] فَقَط، إِلَى أَن أفرج طاز عَن شيخو [اللالا] الْعمريّ الناصري من سجن الأسكندرية.

بَقِي أَمر المملكة لهَؤُلَاء الثُّلَاثَاء، وهم: [الْأَمِير] شيخو [اللالا] أتابك العساكر - وَهُوَ أول [من] سمى بالأمير الْكَبِير، [ولبسها بخلعة] فَصَارَت الأتابكية وَظِيفَة من يَوْمئِذٍ إِلَى يَوْمنَا هَذَا -، والأمير طاز أَمِير مجْلِس، والأمير صرغتمش رَأس نوبَة النوب. وكل وَاحِد من هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة لَهُ حَاشِيَة وعصبية. و [كَانَ] النَّائِب يَوْم ذَاك الْأَمِير قبلاى. وَاسْتمرّ الْأَمر على ذَلِك، إِلَى أَن وَقعت الوحشة بَين صرغتمش وطاز، وَصَارَ شيخو يصلح بَينهمَا بِكُل مَا وصلت قدرته إِلَيْهِ، وهما فِي تشاحن، والفتنة ثائرة بَينهمَا سرا، إِلَى أَن خرج الْأَمِير طاز إِلَى الصَّيْد بعد أَن اتّفق مَعَ حَاشِيَته أَنهم بعد خُرُوجه يركبون على صرغتمش فِي غيبته. كل ذَلِك حَيَاء من شيخو وإجلالا لَهُ؛ فَوَقع ذَلِك. فَلَمَّا سمع شيخو بركوبهم أَمر مماليكه أَن يركبُوا مساعدة لصرغتمش؛ فَرَكبُوا على الْفَوْر - وَكَانُوا سَبْعمِائة مَمْلُوك - وواقعوا أَصْحَاب طاز [وكسروهم] . كل ذَلِك وطاز فِي الصَّيْد. وَفِي الْحَال خلع الأتابك شيخو الْملك الصَّالح [صَالح] من السلطنة؛ وَأعَاد [أَخَاهُ الْملك] النَّاصِر حسن - حَسْبَمَا يَأْتِي ذكره -. وَأما أَمر طاز؛ فَإِنَّهُ لما بلغه مَا وَقع من هزيمَة أَصْحَابه وخلع [الْملك] الصَّالح وإعادة [الْملك] النَّاصِر حسن، عَاد من الصَّيْد، بعد أَن طلب الْأمان من الْأَمِير شيخو؛ فَأَمنهُ وطلع بِهِ إِلَى [الْملك] النَّاصِر حسن بعد معاتبة

كَبِيرَة وتوبيخ، ورسم لَهُ السُّلْطَان حسن بنيابة حلب، عوضا عَن [الْأَمِير] أرغون الكاملي، إنتهى. وَكَانَ خلع [الْملك] الصَّالح [صَالح] هَذَا فِي يَوْم الأثنين ثَانِي شَوَّال سنة خمس وَخمسين وَسَبْعمائة. فَكَانَت مُدَّة ملكه ثَلَاث سِنِين وَثَلَاثَة أشهر وَأَرْبَعَة عشر يَوْمًا. وَلزِمَ [الْملك] الصَّالح [هَذَا] دَاره بقلعة الْجَبَل مكرما محتفظا بِهِ، إِلَى أَن توفى [بهَا] فِي ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة. وَدفن بتربة عَمه [الْملك] الصَّالح عَليّ بن قلاوون، بِالْقربِ من المشهد النفيسي. وَالْملك الصَّالح على الْمَذْكُور لم يتسلطن، وَمَات [فِي] أَيَّام أَبِيه قلاوون.

سلطنة الملك الناصر حسن الثانية

[سلطنة] الْملك النَّاصِر حسن الثَّانِيَة تقدم ذكر خلعه من السلطنة وحبسه، وَأَيْضًا ذكر خلع أَخِيه [الْملك] الصَّالح صَالح من الْملك وإعادته. وَكَانَ جُلُوسه فِي هَذِه السلطنة الثَّانِيَة فِي يَوْم الأثنين ثَانِي شَوَّال سنة خمس وَخمسين وَسَبْعمائة. وَتمّ أمره فِي الْملك، وَاسْتمرّ شيخو أتابكا وصرغتمش على حَاله، وهما صَاحِبي الْحل وَالْعقد فِي المملكة، و [الْملك] النَّاصِر حسن سَامِعًا لَهما مُطيعًا. ودام الْأَمر على ذَلِك إِلَى [يَوْم] ثامن شعْبَان سنة ثَمَان وَخمسين وَسَبْعمائة. حضر شيخو الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة مَعَ جَمِيع الْأُمَرَاء على الْعَادة؛ فَوَثَبَ عَلَيْهِ مَمْلُوك من المماليك السُّلْطَانِيَّة يُقَال لَهُ: قطلوخجا السِّلَاح دَار، وضربه بِالسَّيْفِ ثَلَاث ضربات: فِي وَجهه، وَفِي بدنه، وَفِي ذراعه، وَهُوَ جَالس بدار الْعدْل فِي خدمَة السُّلْطَان حسن [هَذَا] ؛ فَقَامَ النَّاصِر حسن من الْمجْلس فَزعًا، وَأمْسك قطلوخجا الْمَذْكُور. وَسقط شيخو إِلَى الأَرْض؛ فطلعت مماليكه ملبسين إِلَى القلعة، وَحَمَلُوهُ على جنوية، ونزلوا بِهِ إِلَى دَاره وَبِه رَمق؛ فخيطوا جراحاته. وَبَات تِلْكَ اللَّيْلَة، وَنزل [إِلَيْهِ] السُّلْطَان حسن من الْغَد إِلَى بَيته واستعطفه، وَحلف لَهُ أَن الَّذِي جرى لم يكن لَهُ بِهِ علم.

وأحضر قطلوخجا [الْمَذْكُور] وَسَأَلَهُ؛ فَقَالَ: مَا أَمرنِي أحد. غير أنني قدمت لَهُ قصَّة فَمَا قضى حَاجَتي؛ فرسم السُّلْطَان بتسميره، فسمر وطيف بِهِ، ثمَّ وسط. وَاسْتمرّ شيخو ملازما للْفراش، إِلَى أَن مَاتَ فِي سادس عشْرين ذِي الْقعدَة من سنة ثَمَان وَخمسين الْمَذْكُورَة. وَكَانَ من أجل الْأُمَرَاء وأعظمهم، وَهُوَ صَاحب الخانقاة بالصليبة وَغَيرهَا. [قلت] : وبموته خف الْأَمر عَن [الْملك] النَّاصِر حسن، وتحرك لَهُ السعد. وَبَقِي صرغتمش؛ فَأخذ [الْملك] النَّاصِر ينشئ لَهُ حَاشِيَة ومماليك، ورقى مملوكاه طيبغا الطَّوِيل ويلبغا الْعمريّ الَّذِي قَتله - حَسْبَمَا يَأْتِي ذكره -. (هَذَا، وَقد زَادَت عَظمَة صرغتمش بعد موت شيخو، وتضاعفت حرمته، وَانْفَرَدَ بالرئاسة فِي الْأُمَرَاء، إِلَى أَن ثقل على النَّاصِر. وحدثته نَفسه بالوثوب على السُّلْطَان؛ بادره [الْملك] النَّاصِر بِالْقَبْضِ

عَلَيْهِ، ورتب مماليكه. فَلَمَّا طلع إِلَى القلعة على الْعَادة، وَأَرَادَ الدُّخُول على السُّلْطَان فِي الْخلْوَة، قَامُوا لَهُ، وأمسكوه، وأمسكوا مَعَه طشتمر القاسمي حَاجِب الْحجاب، وطيبغا الماجاري، وأزدمر، وقماري، وَجَمَاعَة من أُمَرَاء الطبلخانات. فَلَمَّا سمع [مماليك صرغتمش] ركبُوا بِالسِّلَاحِ، وطلعوا إِلَى الرميلة؛ فَنزل إِلَيْهِم مماليك السُّلْطَان، وقاتلوهم من بكرَة النَّهَار إِلَى الْعَصْر؛ فانكسروا ونهبت دَار صرغتمش ودكاكين الصليبة، وَأمْسك جمَاعَة من الْأَعَاجِم الَّذين كَانُوا من صوفية الصرغتمشية. ثمَّ حمل صرغتمش إِلَى سجن الأسكندرية، وَقتل بِهِ فِي ذِي الْحجَّة من سنة تسع وَخمسين وَسَبْعمائة [الْمَذْكُورَة] . وَمن يَوْمئِذٍ عظم أَمر [السُّلْطَان] [النَّاصِر] حسن، ورقى مماليكه، وَعمر مدرسته الْعَظِيمَة - تجاه القلعة - الَّتِي لم يعمر فِي الْإِسْلَام مثلهَا، وَأَنْشَأَ حَوَاشِيه، وَأخذ وَأعْطى، إِلَى أَن توجه إِلَى الصَّيْد بكوم بره - وَهِي بليدَة من قوى الْقَاهِرَة -. وَكَانَ تغير خاطره على مَمْلُوكه يلبغا الْعمريّ لكَلَام بلغه عَنهُ؛ فَركب السُّلْطَان [حسن] فِي [جمَاعَة يسيرَة] من خاصكيته على أَنه يكبس على يلبغا بمخيمه.

وَكَانَ عِنْد يلبغا خَبرا من ذَلِك بطرِيق الدسيسة؛ فَخرج يلبغا مستعدا إِلَى قِتَاله؛ فَلم يقدر السُّلْطَان [حسن] عَلَيْهِ، وانكسر مِنْهُ، وهرب فِي [طَائِفَة قَليلَة] . وعدى النّيل، إِلَى أَن طلع القلعة فِي ليلته - وَهِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء تَاسِع جُمَادَى الأولى سنة إثنتين وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة، فَتَبِعَهُ يلبغا وعدى النّيل، فاعترضه ابْن المحسني - أحد مقدمي الألوف - وَمَعَهُ قشتمر المنصوري وواقعه؛ فانكسر يلبغا مرَّتَيْنِ - كل ذَلِك قبل أَن يمْضِي من اللَّيْل ثلثه -. وَكَانَ يلبغا فِي جمع موفور؛ فَلَمَّا عجز عَن ابْن المحسني أرسل إِلَيْهِ يعده بِكُل خير إِن تنحى من طَرِيقه؛ فَفعل لَهُ ابْن المحسني ذَلِك لما علم [من زَوَال] دولة النَّاصِر حسن؛ فَسَار يلبغا إِلَى جِهَة القلعة. وَكَانَ [الْملك] النَّاصِر ألبس مماليكه المقيمين بالقلعة؛ فَلم يجد لَهُم خيولا، لِأَن الْخَيل كَانَت [بأجمعها] فِي الرّبيع؛ فضاقت حيلته. فَلَمَّا سبح [المسبح] ركب السُّلْطَان حسن وَمَعَهُ أيدمر الدوادار ولبسا لبس الْعَرَب؛ ليتوجها إِلَى الشَّام، فلقيهما بعض المماليك؛ فقبضوهما وأحضروهما إِلَى بَيت الْأَمِير شهَاب الدّين الأزكشي أستادار الْعَالِيَة، فَأَخذهُمَا وَتوجه بهما إِلَى عِنْد يلبغا؛ فَكَانَ ذَلِك آخر الْعَهْد بالسلطان حسن - رَحمَه الله [تَعَالَى]-.

وَكَانَت مُدَّة الْملك النَّاصِر حسن - فِي هَذِه السلطنة الثَّانِيَة - سِتّ سِنِين وَسَبْعَة أشهر. وَقد تقدم تَارِيخ وَفَاته عِنْد ركُوبه على يلبغا الْمَذْكُور. وسلطن يلبغا من بعده [الْملك الْمَنْصُور مُحَمَّد ابْن الْملك المظفر حاجى ابْن الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون] .

الملك المنصور

الْملك الْمَنْصُور مُحَمَّد ابْن [الْملك] المظفر حاجى ابْن [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد ابْن [الْملك] الْمَنْصُور قلاوون. تسلطن بعد قتل عَمه [الْملك] النَّاصِر حسن فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء تَاسِع جُمَادَى الأولى سنة إثنتين وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة. وَكَانَ الْقَائِم بأَمْره الْأَمِير يلبغا الْعمريّ الناصري. وَكَانَ عمر الْمَنْصُور [يَوْم ذَاك] أَربع عشرَة سنة. وَصَارَ يلبغا [الْمَذْكُور] مُدبر مَمْلَكَته، ويشاركه فِي ذَلِك خجداشه طيبغا الطَّوِيل. والمنصور هَذَا هُوَ [السُّلْطَان] الْحَادِي وَالْعشْرُونَ من مُلُوك التّرْك بالديار المصرية. و [عِنْدَمَا] اسْتَقر الْملك الْمَنْصُور فِي السلطنة خرج الْأَمِير بيدمر الْخَوَارِزْمِيّ نَائِب الشَّام عَن الطَّاعَة؛ فَجهز يلبغا الْعمريّ السُّلْطَان وَخرج بِهِ إِلَى الْبِلَاد الشامية؛ لقِتَال بيدمر الْمَذْكُور فِي السّنة الْمَذْكُورَة. فَلَمَّا وصل السُّلْطَان إِلَى الشَّام أَخذ بيدمر صلحا وَعَاد بِهِ إِلَى الديار المصرية.

وَاسْتمرّ [الْملك] الْمَنْصُور فِي السلطنة، وَعظم أَمر يلبغا حَتَّى صَار جَمِيع أُمُور المملكة تَحت حكمه - لاسيما لما أخرج طيبغا الطَّوِيل إِلَى نِيَابَة حلب قهرا [فِي الدولة الأشرفية شعْبَان]- فاستبد عِنْد ذَلِك بِجَمِيعِ الْأُمُور. وَاسْتمرّ [الْملك] الْمَنْصُور فِي السلطنة، إِلَى أَن بدا مِنْهُ أُمُور استوحش مِنْهَا يلبغا؛ فخلعه بِابْن عَمه [الْملك] الْأَشْرَف شعْبَان بن حُسَيْن فِي يَوْم الثُّلَاثَاء خَامِس عشر شعْبَان سنة أَربع وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة. وَلزِمَ الْمَنْصُور هَذَا دَاره بقلعة الْجَبَل، إِلَى أَن توفى لَيْلَة السبت تَاسِع محرم سنة إِحْدَى وَثَمَانمِائَة وَقد أناف على [خمسين سنة] . وَدفن بتربة جدته أم أَبِيه بالروضة - خَارج الْبَاب المحروق - من الْقَاهِرَة؛ فَكَانَت مُدَّة سلطنته على مصر سنتَيْن وَثَلَاثَة أشهر وَخَمْسَة أَيَّام، لم يكن لَهُ فِيهَا إِلَّا مُجَرّد الأسم فَقَط. وَلما مَاتَ خلف عدَّة أَوْلَاد - رجَالًا وَنسَاء -، تزوج الْوَالِد بِإِحْدَى بَنَاته فِي حَيَاته، وَمَاتَتْ تَحْتَهُ فِي سنة أَربع وَثَمَانمِائَة. وَكَانَ الْملك الْمَنْصُور محبا للطرب وَاللَّهْو، رَاضِيا بالعيش الطّيب الرغد، فَكَأَن (لِسَان حَاله يَقُول) [كَقَوْل من قَالَ] : (خل الْمُلُوك تسطوا بِالْملكِ وَالسِّلَاح ... إِنِّي رضيت مِنْهُم بِالرَّاحِ والملاح) وَكَانَ للمنصور جواري مغاني - جوقة كَامِلَة نَحْو الْعشْرَة - يعرفن بمغاني الْمَنْصُور، استخدمهن الْوَالِد بعد موت الْمَنْصُور.

وَكَانَت هَذِه عَادَة تِلْكَ الْمُلُوك السَّابِقَة، يكون لَهُم المغاني من الْجَوَارِي وَغَيرهم، وَآخر من فعل ذَلِك الْأَمِير مَحْمُود الأستادار فِي الدولة الظَّاهِرِيَّة برقوق، ثمَّ فِي الدولة المؤيدية شيخ الأتابك ألطنبغا القرمشي. ثمَّ بَطل ذَلِك مَعَ مَا بَطل من محَاسِن المملكة) وترتيبها لما ولى الْأُمُور غير أَهلهَا؛ فَذهب لذَلِك فنون كَثِيرَة وعلوم جمة، وانحط قدر أَرْبَاب الكمالات من كل علم [وفن] . وَللَّه در المتنبي، حَيْثُ قَالَ: (أَتَى الزَّمَان بنوه فِي شبيبته ... فسرهم وأتيناه على الْهَرم) .

الملك الأشرف

الْملك الْأَشْرَف شعْبَان ابْن الْأَمِير حُسَيْن ابْن [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون. جلس على سَرِير الْملك بعد خلع ابْن عَمه [الْملك] الْمَنْصُور [مُحَمَّد] فِي يَوْم الثُّلَاثَاء خَامِس عشر شعْبَان سنة أَربع وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وعمره عشر سِنِين. وَكَانَ الْقَائِم بتدبير ملكه الأتابك يلبغا على الْعَادة. والأشرف هَذَا هُوَ [السُّلْطَان] الثَّانِي وَالْعشْرُونَ من مُلُوك التّرْك بالديار المصرية، وَهُوَ مَعَ يلبغا آلَة فِي السلطنة، وَجَمِيع أُمُور المملكة بيد يلبغا ويشاركه فِي ذَلِك طيبغا الطَّوِيل. ثمَّ ثقل طيبغا [الطَّوِيل] على يلبغا، فَمَا زَالَ يلبغا بِهِ حَتَّى ظفر بِهِ وأمسكه. واستبد عِنْد ذَلِك بِجَمِيعِ أُمُور المملكة، وَعظم أمره حَتَّى تجَاوز الْحَد. وَضرب سَابق الدّين مِثْقَال مقدم الماليك السُّلْطَانِيَّة دَاخل الْقصر سِتّمائَة عصاة.

وَكَانَ يلبغا سيء الْخلق، بذئ اللِّسَان. فَلَمَّا زَاد أمره فِي الظُّلم أضمر مماليكه [لَهُ] السوء، وَاتَّفَقُوا على قَتله. وَاتفقَ أَن يلبغا عدى بِالْملكِ الْأَشْرَف إِلَى [بر] الجيزة؛ فثارت عَلَيْهِ مماليكه هُنَاكَ؛ فهرب يلبغا مِنْهُم وعدى النّيل، فانضمت مماليكه على الْأَشْرَف، وندبوه لقِتَال يلبغا؛ فوافقهم بعد أُمُور. وقاتلوا يلبغا نَحْو ثَلَاثَة أَيَّام [ويلبغا] بِجَزِيرَة أروى - الْمَعْرُوفَة بالجزيرة الْوُسْطَى - والأشرف ببولاق التكروري بِالْبرِّ الغربي. وسلطن يلبغا آنوك بن حُسَيْن؛ فَلم يتم لَهُ ذَلِك، وَانْهَزَمَ وَقتل. وانتصر الْأَشْرَف - حَسْبَمَا ذَكرْنَاهُ مفصلا فِي عدَّة أَمَاكِن من مصنفاتنا [المطولات]-. وَلما انتصر الْأَشْرَف أَخْلَع على أسندمر بالأتابكية؛ فَأَرَادَ أسندمر أَن يسير على سير يلبغا بعد أَن سكن بالكبش؛ فَلم يُوَافقهُ الْأَشْرَف على ذَلِك؛ فَأَرَادَ أسندمر خلع الْأَشْرَف، وَركب عَلَيْهِ؛ فانكسر بعد أُمُور طَوِيلَة، ومسك أسندمر وَحبس.

وَفِي هَذَا الْمَعْنى يَقُول [الشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد] بن الْعَطَّار: (هِلَال شعْبَان [جَهرا] لَاحَ فِي صفر ... بالنصر حَتَّى أرى عيدا بشعبان) (وَأهل كَبْش كَأَهل الْفِيل قد أخذُوا ... رغما وَمَا انتطحت فِي الْكَبْش شَاتَان) [قلت] : وَمن يَوْمئِذٍ استبد [الْملك] الْأَشْرَف بتدبير الْأُمُور، وَعظم وضخم، وَأَنْشَأَ المماليك الْكَثِيرَة، وَحسنت أَيَّامه حَتَّى [صَار] يضْرب بأيامه الْمثل. وَاسْتمرّ على ذَلِك، إِلَى أَن تجهز إِلَى الْحَج فِي سنة ثَمَان وَسبعين وَسَبْعمائة، وَخرج [طلبه] من الْقَاهِرَة يتجمل زَائِد إِلَى الْغَايَة فِي يَوْم الْأَحَد ثَالِث عشر شَوَّال من السّنة - وَقد ذكرنَا كَيْفيَّة خُرُوجه، وَحسن طلبه، وتجمله فِي ((النُّجُوم الزاهرة)) [وَغَيره؛ فَلْينْظر هُنَاكَ] . ثمَّ خرج [الْملك] الْأَشْرَف فِي يَوْم الأثنين رَابِع عشره بأبهة عَظِيمَة، وَسَار حَتَّى نزل بسرياقوس؛ وأخلع بهَا على الشَّيْخ ضِيَاء الدّين القرمي باستقراره فِي مشيخة خانقاته الَّتِي أَنْشَأَهَا [الْأَشْرَف هَذَا] بالصوة.

وَكَانَت هَذِه الْمدرسَة من محَاسِن مباني الدُّنْيَا - وَقد هدمت [هَذِه الْمدرسَة] فِي الدولة الناصرية فرج بن برقوق. ثمَّ سَار الْأَشْرَف من سرياقوس وَنزل بركَة الْحجَّاج؛ فَأَقَامَ بهَا إِلَى يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي عشْرين شَوَّال، وَركب مِنْهَا بِمن مَعَه من العساكر مُتَوَجها إِلَى الْحجاز. وَكَانَ مَعَه من الْأُمَرَاء المقدمين تِسْعَة، وَمن [أُمَرَاء] الطبلخانات خَمْسَة وَعِشْرُونَ نَفرا، وَمن العشرات خَمْسَة عشر أَمِيرا. وَجعل النَّائِب بِمصْر آقتمر عبد الْغَنِيّ، وَجعل بالقلعة أيدمر الشمسي. وَضبط أُمُور [الديار المصرية] إِلَى الْغَايَة، والمقادير تجْرِي بِخِلَاف مَا فعل. فَلَمَّا كَانَ يَوْم السبت ثَانِي ذِي الْقعدَة طشتمر اللفاف، وقرطاى، وأينبك البدري، [وَعصى الْجَمِيع وَمَعَهُمْ] جمَاعَة كَثِيرَة. والجميع عشرات وأجناد، [وَلم يكن] فيهم [أَمِير] طبلخاناه غير أينبك [الْمَذْكُور] . [وَعصى الْجَمِيع] ، وَوَقع لَهُم أُمُور حَتَّى ملكوا القلعة، وخلعوا [الْملك] الْأَشْرَف، وسلطنوا وَلَده أَمِير على، وَزَعَمُوا أَن الْأَشْرَف مَاتَ بِالْعقبَةِ.

وَمن الْغَرِيب الأتفاق أَنه وَافق ركوبهم هُنَا خُرُوج من كَانَ مَعَ الْأَشْرَف عَلَيْهِ بعقبة أَيْلَة وانهزام الْأَشْرَف مِنْهُم، وَعوده إِلَى الْقَاهِرَة، واختفائه بقبة النَّصْر فِي تربة؛ فَبلغ خَبره الأمرء الَّذين خَرجُوا بالديار المصرية، ومسكوا شخصا من حَوَاشِي الْأَشْرَف وقرروه؛ فدلهم على مَكَانَهُ بقبة النَّصْر. وَكَانَ الْأَشْرَف لما رَجَعَ من الْعقبَة كَانَ بِصُحْبَتِهِ من الْأُمَرَاء المقدمين صرغتمش الأشرفي، وبشتك الأشرفي، وأرغون شاه الأشرفي، ويلبغا الناصري اليلبغاوي - صَاحب الْوَقْعَة مَعَ برقوق الْآتِي ذكرهَا -. وَسَار بهم حَتَّى وافى قبَّة النَّصْر - خَارج الْقَاهِرَة - فَبَلغهُ مَا وَقع بالديار المصرية؛ فتحير فِي أمره ثمَّ خَافَ على نَفسه؛ فَتوجه هُوَ ويلبغا الناصري واختفيا عِنْد أستادار يلبغا الناصري. ثمَّ خَافَ الْأَشْرَف، وَفَارق يلبغا [الناصري] ، وَتوجه إِلَى عِنْد إمرأة تسمى: آمِنَة، واختفى عِنْدهَا. وَأما الْأُمَرَاء المصريون؛ فَإِنَّهُم أرْسلُوا جمَاعَة بالكبس على الْأَشْرَف بقبة النَّصْر؛ فأمسكوا الْأُمَرَاء الْمُقدم ذكرهم، وقتلوهم، وحزوا رُءُوسهم، وَلم يَجدوا الْأَشْرَف؛ فَبينا هم فِي ذَلِك نم إِلَيْهِم شخص، وعرفهم مَكَان الْأَشْرَف؛ فتوجهوا إِلَيْهِ ومسكوه، وعاقبوه، ثمَّ قَتَلُوهُ - بعد أُمُور ذَكرنَاهَا فِي غير هَذَا الْمُخْتَصر -.

وَكَانَ قَتله فِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء خَامِس ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَسبعين وَسَبْعمائة. وتسلطن [من] بعده وَلَده الْملك الْمَنْصُور [على] آلَة. وَوَقع [من بعده] أُمُور وَفتن سنينا كَثِيرَة، إِلَى أَن ملك برقوق الديار المصرية - حَسْبَمَا يَأْتِي ذكره -. وَكَانَ الْملك الْأَشْرَف من محَاسِن الدُّنْيَا؛ كَانَ ملكا جَلِيلًا، عَارِفًا، عَاقِلا، شجاعا مقداما، كَرِيمًا، هينا لينًا، محببا للرعية. قيل: إِنَّه لم يل [الْملك] فِي الدولة التركية أحلم مِنْهُ، وَلَا أحسن خلقا وخلقا. وَكَانَ محبا للْعُلَمَاء والفقراء وَأهل الْخَيْر، مقتديا بالأمور الشَّرْعِيَّة، وأبطل فِي سلطنته عدَّة مكوس. وَكَانَ محسنا لإخوته وَأَوْلَاد عَمه وأقاربه. قلت: ومحاسن الْأَشْرَف كَثِيرَة، يضيق هَذَا الْمُخْتَصر عَن ذكرهَا، وَمن أَرَادَ معرفَة أَحْوَاله؛ فَعَلَيهِ [بتاريخنا ((المنهل الصافي)) ، وأوسع مِنْهُ لاسيما فِي تراجم مُلُوك مصر - ((النُّجُوم الزاهرة)) ] . إنتهى.

الملك المنصور

الْملك الْمَنْصُور على ابْن [الْملك] الْأَشْرَف شعْبَان ابْن الْأَمِير حُسَيْن - وَكَانَ حُسَيْن يلقب بالأمجد، غير أَنه لم يتسلطن - ابْن [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون. تسلطن بعد خلع وَالِده الْأَشْرَف فِي حَيَاته. نَصبه الْأُمَرَاء الخارجون عَن [طَاعَة أَبِيه]- حَسْبَمَا تقدم ذكره - فِي يَوْم الأثنين خَامِس ذِي الْقعدَة من سنة ثَمَان وَسبعين [الْمَذْكُورَة] ، وعمره نَحْو سبع سِنِين. وَهُوَ [السُّلْطَان] الثَّالِث وَالْعشْرُونَ من مُلُوك التّرْك بديار مصر. وَلما تمّ أَمر الْملك الْمَنْصُور، اسْتَقر آقتمر عبد الْغَنِيّ فِي نِيَابَة السلطنة على عَادَته، وَاسْتقر طشتمر المحمدي اللفاف أتابك العساكر دفْعَة وَاحِدَة، وأنعم عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مَوْجُود الْأَمِير أرغون شاه [الأشرفي] ، وَاسْتقر قرطاي الطازي رَأس نوبَة النوب، وأنعم عَلَيْهِ بموجود صرغتمش الأشرفي، ورسم لَهما أَن يجلسا بالإيوان مَعَ نَائِب السلطنة.

وَاسْتقر أسندمر الصرغتمشي أَمِير سلَاح، ورسم لَهُ أَن يجلس فِي الميسرة، وَاسْتقر أينبك البدري أَمِير آخور كَبِيرا. وَجَمِيع هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين كَانُوا من جملَة الأجناد والعشرات، مَا خلا أينبك؛ فَإِنَّهُ كَانَ [أَمِير] طبلخاناه. ثمَّ أخرج طشتمر الدوادار إِلَى نِيَابَة دمشق؛ فَلم تطل مُدَّة هَؤُلَاءِ إِلَّا أَيَّامًا يسيرَة. وَوَقع بَين قرطاي وأينبك - وهما أَصْهَار - وَحْشَة، وانتصر أينبك على قرطاي وَقَتله. ثمَّ وَقع أُمُور، وَقتل [أينبك أَيْضا] ؛ فآل الْأَمر بعد فتن إِلَى الأميرين: برقوق العثماني وبركة الجوباني اليلبغاويان، وملكا الديار المصرية، وصارا صاحبا حلهَا وعقدها. وَاسْتقر برقوق أَمِير آخور كَبِيرا، عوضا عَن أينبك دفْعَة وَاحِدَة من إمرة عشرَة، [وَاسْتقر بركَة رَأس نوبَة النوب دفْعَة وَاحِدَة أَيْضا من إمرة عشرَة] أَو طبلخاناه. وَمِمَّا وَقع من الْأَعَاجِيب فِي دولة [الْملك] الْمَنْصُور هَذَا أَنه: ورد بريدي من حلب [فِي سنة إثنتين وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة وعَلى يَده كتاب نَائِب حلب] يتَضَمَّن أَن إِمَامًا يُصَلِّي بِقوم، وَأَن شخصا عَبث بِهِ فِي صلَاته من بَاب المداعبة؛ فَلم يقطع الإِمَام الصَّلَاة حَتَّى فرغ، وَحين سلم انْقَلب وَجه العابث وَجه خِنْزِير وهرب إِلَى غابة هُنَاكَ؛ فتعجب النَّاس من هَذَا [الْأَمر] ، وَكتب بذلك محضرا. إنتهى!

وَاسْتمرّ الْملك الْمَنْصُور فِي السلطنة، إِلَى أَن توفّي يَوْم الْأَحَد ثَالِث عشْرين صفر سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة؛ فَلم يَجْسُر برقوق أَن يتسلطن وَنصب فِي السلطنة أَخَاهُ الْملك الصَّالح حاجى. وَكَانَت مُدَّة ملك الْمَنْصُور خمس سِنِين وَثَلَاثَة أشهر وَعشْرين يَوْمًا. وَمَات وعمره إثنتا عشرَة سنة، وَدفن بتربة جدته لِأَبِيهِ خوند بركَة بالتبانة - خَارج الْقَاهِرَة -. وَكَانَ [الْملك] الْمَنْصُور جميلا، حسن الصُّورَة، وَلم يكن لَهُ من الْأَمر شيئ لتشكر أَفعاله أَو تذم -[رَحمَه الله]-.

الملك الصالح

الْملك الصَّالح حاجى ابْن الْملك الْأَشْرَف شعْبَان ابْن الأمجد حُسَيْن ابْن [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد ابْن قلاوون - وَقد تقدم أَن الأمجد حُسَيْن لم يتسلطن -. ولى [الْملك] الصَّالح هَذَا السلطنة بعد موت أَخِيه الْمَنْصُور على فِي يَوْم الأثنين رَابِع عشْرين صفر سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة [وعمره أَزِيد من عشر سِنِين] . وَهُوَ السُّلْطَان الرَّابِع وَالْعشْرُونَ من مُلُوك التّرْك. وَلما تسلطن، اسْتمرّ الأتابك برقوق العثماني أتابكه ومدبر مَمْلَكَته، وَإِلَيْهِ جَمِيع أُمُور الدولة شامها ومصرها، وَلَيْسَ [للصالح] [هَذَا] من السلطنة إِلَّا مُجَرّد الأسم فَقَط. ودام الْأَمر على ذَلِك، حَتَّى كثرت الْفِتَن، وهم جمَاعَة من الْأُمَرَاء بالوثوب على الْأَمر، واضطربت أَحْوَال المملكة؛ فَعِنْدَ ذَلِك أَشَارَ جمَاعَة من الْأُمَرَاء على برقوق بالسلطنة؛ فجبن عَن ذَلِك، وَكَانَ لَهُم مُدَّة طَوِيلَة يشيرون عَلَيْهِ بذلك. فَلَمَّا تزايد الْأَمر ألجأته الضَّرُورَة لذَلِك؛ فَخلع [الْملك] الصَّالح حاجى هَذَا، وتسلطن فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء تَاسِع عشر شهر رَمَضَان سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة.

فَكَانَت مُدَّة مملكة [الْملك] الصَّالح هَذَا سنة وَاحِدَة وَنصف سنة وَخَمْسَة عشر يَوْمًا. ورسم لَهُ [الْملك] الظَّاهِر برقوق بِلُزُوم دَاره فِي قلعة الْجَبَل - على مَا كَانَت عَادَة أَوْلَاد السلاطين عَلَيْهِ - فَلَزِمَ الصَّالح دَاره بهَا، إِلَى أَن خلع الْأَمِير يلبغا الناصري برقوقا وحبسه بالكرك فِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَسَبْعمائة، وَأخرج الْملك الصَّالح [هَذَا] ، وَأَعَادَهُ إِلَى الْملك، وَغير لقبه [بِالْملكِ الْمَنْصُور]- حَسْبَمَا يَأْتِي [ذكر ذَلِك كُله] ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى -.

الملك الظاهر

الْملك الظَّاهِر سيف الدّين، برقوق ابْن الْأَمِير آنص العثماني، اليلبغاوي، الجاركسي، الْقَائِم بدولة الجراكسة. أَصله جاركسي الْجِنْس، جلبه خواجا عُثْمَان بن مُسَافر؛ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ الأتابك يلبغا الْعمريّ الخاصكي صَاحب الْكَبْش وَأعْتقهُ، وَمَات يلبغا وَهُوَ من صغَار مماليكه. ثمَّ وَقع لَهُ محن كَثِيرَة، وخدم عِنْد الْأَمِير منجك نَائِب الشَّام ثمَّ عَاد إِلَى بَيت السُّلْطَان. فَلَمَّا كَانَت وقْعَة الْأَشْرَف كَانَ برقوق هَذَا مِمَّن وَافق على الْعِصْيَان؛ فتأمر عشرَة، ثمَّ طبلخاناه، ثمَّ صَار بعد أشهر أَمِير مائَة [و] مقدم ألف، وأمير خور كَبِيرا. ولازل يترقى والأقدار تساعده، إِلَى أَن تسلطن بعد خلع الْملك الصَّالح حاجى فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء تَاسِع عشر شهر رَمَضَان سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة - وَكَانَ الْمُوَافق لهَذَا الْيَوْم آخر هاتور، وسادس تشرين الثَّانِي، والطالع برج الْحُوت -. وَتمّ أمره فِي الْملك.

وَهُوَ [السُّلْطَان] الْخَامِس وَالْعشْرُونَ من مُلُوك التّرْك [وَأَوْلَادهمْ]- وَهِي [سلطنته الأولى]-، وَالثَّانِي من الجراكسة؛ إِن صَحَّ [أَن] بيبرس الجاشنكير كَانَ جاركسيا، وَإِلَّا فَهُوَ الأول مِنْهُم. وَتمّ أمره فِي السلطنة وَعظم، وَأَنْشَأَ لَهُ حَاشِيَة ومماليكا ودولة. وطالت أَيَّامه، وَعمر مدرسته الَّتِي بِخَط بَين القصرين من الْقَاهِرَة، وَنقل إِلَيْهَا رمة وَالِده الْأَمِير آنص. وَكَانَ المشد على عمارتها الْأَمِير جاركس الخليلي الْأَمِير آخور الْكَبِير. وَفِي معنى عمارتها يَقُول [الأديب] شهَاب الدّين الْمصْرِيّ: (قد أنشأ الظَّاهِر السُّلْطَان مدرسة ... فاقت على إرم مَعَ سرعَة الْعَمَل) (يَكْفِي الخليلي أَن جَاءَت لخدمته ... شم الْجبَال لَهَا تسْعَى على عجل) . وَاسْتمرّ [الْملك] الظَّاهِر فِي السلطنة، إِلَى أَن خرج عَلَيْهِ الْأَمِير تمربغا الأفضلي الأشرفي، الْمَدْعُو منطاش نَائِب ملطية.

ثمَّ وَافق منطاش الأتابك يلبغا الناصري اليلبغاوي نَائِب حلب، وقويت شوكتهما، فَجهز لَهما الظَّاهِر عسكرا عَلَيْهِ خَمْسَة من [أُمَرَاء الألوف] : أيتمش البجاسي الأتابك، وَأحمد بن يلبغا الْعمريّ أَمِير مجْلِس، وجاركس الخليلي اليلبغاوي أَمِير آخور، وأيدكار الْعمريّ حَاجِب الْحجاب، وَيُونُس النوروزي الدوادار، وَخَمْسمِائة مَمْلُوك، وَجَمَاعَة كَثِيرَة من أُمَرَاء الطبلخانات والعشرات. وَخَرجُوا من الْقَاهِرَة، والتقوا بالناصري ومنطاش [بِدِمَشْق] ؛ فأنكسر عَسْكَر السُّلْطَان، وَقبض على أيتمش، وَقتل جاركس [الخليلي] وَيُونُس [الدوادار] . وَعصى ابْن يلبغا وأيدكار الْحَاجِب على برقوق، ووافقا الناصري. وَمن يَوْم ذَاك أَخذ أَمر برقوق فِي انحطاط، وَأمر الناصري ومنطاش فِي تزايد، إِلَى أَن ملكا الديار المصرية من غير قتال، وَهُوَ أَنه: لما قدم الناصري بعساكره، وَنزل خَارج الْقَاهِرَة - عِنْد قبَّة النَّصْر - لم ينْهض برقوق لقتاله - خذلانا من الله تَعَالَى وَزَوَال نعْمَة - وَجبن حَتَّى عَن حفظ قلعة الْجَبَل، بل أرسل إِلَى الناصري نمجاة الْملك مَعَ الْأَمِير أبي بكر بن سنقر الْحَاجِب الثَّانِي والأمير بيدمر المنجكي شاد الْقصر (وَأَمرهمَا أَن يأخذا لَهُ [من الناصري] الْأمان؛ فتوجها إِلَى الناصري، وسألاه فِي ذَلِك خلْوَة؛ فَاعْتَذر إِلَيْهِمَا الناصري من أَنه لَا يُطيق يُعْطِيهِ الْأمان؛ لما يعلم مَا أضمره منطاش وَغَيره للظَّاهِر.

ثمَّ أَشَارَ على الظَّاهِر أَنه ينزل من القلعة ويختفي بمَكَان، إِلَى أَن يصلح الناصري من أمره مَا يكون فِيهِ مصلحَة لَهُ. فَلَمَّا بلغ برقوق ذَلِك صلى عشَاء الْآخِرَة هُوَ والخليفة، وَقَامَ الْخَلِيفَة إِلَى منزله، وَبَقِي الظَّاهِر فِي قَلِيل من أَصْحَابه، ثمَّ أذن لسودون الشيخوني النَّائِب بالتوجه إِلَى حَال سَبيله. ثمَّ أَمر من حضر بالتفرق، وَقَامَ هُوَ من مَكَانَهُ وتستر حَتَّى نزل من الإصطبل السلطاني. وَسكن دق الكوسات، وَوَقع النهب فِي الحواصل السُّلْطَانِيَّة، وَذَلِكَ فِي لَيْلَة الأثنين خَامِس جُمَادَى الْآخِرَة سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَسَبْعمائة. وزالت دولة [الْملك] الظَّاهِر برقوق بعد أَن حكم على الديار المصرية أَمِيرا وسلطانا إِحْدَى عشرَة سنة وَخَمْسَة أشهر وَسَبْعَة عشر يَوْمًا. تَفْصِيله: من يَوْم قبض برقوق على الْأَمِير طشتمر الدوادار فِي [تَاسِع] ذِي الْحجَّة سنة تسع وَسبعين وَسَبْعمائة إِلَى يَوْم تسلطن فِي تَاسِع عشر شهر رَمَضَان سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة، أَربع سِنِين وَتِسْعَة أشهر وَعشرَة أَيَّام. وَكَانَ يُسمى فِي تِلْكَ الْأَيَّام: الْأَمِير الْكَبِير نظام الْملك. وَمن يَوْم تسلطن إِلَى أَن نزل من [قلعة الْجَبَل] واختفى سِتّ سِنِين وثمان شهور وَسَبْعَة عشر يَوْمًا. فَهَذَا تَفْصِيل حكمه على مصر: إِحْدَى عشرَة سنة وَخَمْسَة أشهر وَسَبْعَة وَعشْرين يَوْمًا.

وَاسْتمرّ برقوق مختفيا، إِلَى أَن أخرج الناصري [الْملك] الصَّالح حاجى من الدّور [السُّلْطَانِيَّة] وسلطنه ثَانِيًا، وَغير لقبه [بِالْملكِ الْمَنْصُور] . ثمَّ قبض على برقوق من بَيت أبي يزِيد بن مُرَاد، وَأخذ إِلَى القلعة فِي ظهر النَّهَار؛ فحبس بالإصطبل السلطاني [ثَلَاثَة أَيَّام] ، ثمَّ أخرج إِلَى الكرك؛ [فحبس بهَا، إِلَى أَن أخرج من الكرك] وَعَاد إِلَى ملكه؛ فَكَانَ فِي خلعه وحبسه ثمَّ عوده بعد ذَلِك إِلَى ملكه عِبْرَة لمن اعْتبر؛ وَهُوَ ذَلِك أفرج مُلُوك التّرْك تَرْجَمَة - وَقد استوعبنا تَرْجَمته فِي مصنفاتنا المطولات بِمَا فِيهِ كِفَايَة عَن غَيره -. إنتهى.

الملك المنصور

الْملك الْمَنْصُور حاجى - وَهِي سلطنته الثَّانِيَة -. وَقد تقدم ذكر سلطنته الأولى، وَنسبه، وعمره فِيمَا مضى فِي تِلْكَ التَّرْجَمَة. ولنذكر هُنَا عوده؛ فَنَقُول: لما كَانَ يَوْم الأثنين خَامِس جُمَادَى الْآخِرَة سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَسَبْعمائة وَقع اتِّفَاق الْأُمَرَاء على سلطنته ثَانِيًا، وَذَلِكَ بعد هروب الظَّاهِر برقوق واختفائه، وَبعد أَن ملك الأتابك يلبغا الناصري وتمربغا الأفضلي - الْمَدْعُو منطاش - وَمن كَانَ مَعَهُمَا من الْأُمَرَاء بالديار المصرية من غير قتال وَلَا حِصَار، وَبعد أَن سُئِلَ الناصري بالسلطنة غير مرّة؛ فَلم يقبل وخشي العواقب، وَأجْمع على سلطنة حاجى هَذَا؛ فسلطنه وَغير لقبه. وَلَا نَعْرِف فِي الْمُلُوك التركية أحدا غير لقبه غَيره، فَكَانَ لقبه أَولا: الصَّالح؛ فَغير فِي سلطنته هَذِه بالمنصور. وَلما تمّ أمره، صَار الأتابك يلبغا الناصري مُدبر ممالكه، وَجَمِيع أُمُور المملكة فِي يَده. وَبعد سلطنته بِمدَّة يسيرَة أَخذ الظَّاهِر برقوق من بَيت [أبي] يزِيد بن مُرَاد، وَأخرج إِلَى الكرك، وَحبس بهَا. وَصفا الْوَقْت للناصري، واستبد بِجَمِيعِ أُمُور المملكة، وَصَارَ منطاش من جملَة أمرائه؛ فَعظم ذَلِك على منطاش؛ فأضمر السوء للناصري، مَعَ قلَّة أَصْحَابه وَعدم شوكته، وساعده على ذَلِك تغير خواطر جمَاعَة من الْعَسْكَر على النصاري.

وَسبب تغير خواطر الْمَذْكُورين: وَهُوَ أَنه صَار الناصري كلما سَأَلَهُ أحد من أَصْحَابه فِي إقطاع حَوَاشِي برقوق أَو غَيرهم يمْتَنع من ذَلِك شَفَقَة على النَّاس؛ فَلم يحسن ذَلِك ببال جمَاعَة مِمَّن حضر إِلَى الديار المصرية صحبته؛ فحقدوا عَلَيْهِ. وَاتفقَ ركُوب منطاش على الناصري بِجَمَاعَة قَليلَة [جدا] ، يستحى من ذكرهَا قلَّة؛ فَلم يكترث بهم الناصري، وَأرْسل إِلَى قِتَاله جمَاعَة من الْأُمَرَاء؛ فانتصر عَلَيْهِم منطاش. وتكرر ذَلِك غير مرّة، إِلَى أَن نزل الناصري بِنَفسِهِ لقتاله، وانكسر من منطاش، وَأمْسك، وَحبس بثغر الأسكندرية. وطلع منطاش إِلَى بَاب السلسلة من قلعة الْجَبَل، وَسكن مَكَان الناصري، واستبد بِجَمِيعِ أُمُور المملكة، شامها ومصرها، من غير مُنَازع. ثمَّ لم يقنع منطاش بذلك، وَأَرَادَ قتل برقوق بالكرك؛ فَأرْسل الشهَاب البريدي بقتْله؛ فَوَقع أُمُور ذَكرنَاهَا مستوفاة فِي مصنفاتنا الْمُقدم ذكرهَا. وَآل الْأَمر إِلَى خُرُوج برقوق من حبس الكرك؛ واجتماع النَّاس عَلَيْهِ، وغالبهم من كَانَ خرج أَولا - وهم خجداشيته اليلبغاوية - حنقا من منطاش لما مسك الناصري؛ لِأَن برقوق كَانَ يلبغاويا والناصري كَانَ أَيْضا يلبغاويا؛ فَذَهَبت اليلبغاوية أَولا من خجداش لَهُم إِلَى خجداش آخر، وَهُوَ الناصري. فَلَمَّا وثب على الْأَمر غير خجداشهم - وَهُوَ منطاش الأشرفي - عظم عَلَيْهِم ذَلِك، وأنضم غالبهم على برقوق لما خرج من حبس الكرك. ولسان حَالهم يَقُول [فِي ذَلِك] : (وَمَا من حبه أحنو عَلَيْهِ ... وَلَكِن بغض قوم آخَرين) .

وَاسْتمرّ أَمر برقوق يَنْمُو وَأمر منطاش يضمحل، إِلَى أَن خرج منطاش بِالْملكِ الْمَنْصُور [هَذَا] إِلَى الْبِلَاد الشامية لقِتَال برقوق. وَوَقع المصاف بَينهم بِمَنْزِلَة شقحب، انتصر برقوق - وإنهزم منطاش إِلَى دمشق - وَاسْتولى على الْمَنْصُور هَذَا والخليفة [والقضاة] و [على] العصائب السُّلْطَانِيَّة، وَعَاد بِالْجَمِيعِ إِلَى الديار المصرية بعد أُمُور صدرت بَينه وَبَين منطاش. وَاسْتمرّ منطاش بالبلاد الشامية، إِلَى أَن أخرج الظَّاهِر برقوق الناصري من سجن الأسكندرية، وندبه لقِتَال منطاش. وَوَقع بعد ذَلِك أُمُور، إِلَى أَن قتل برقوق الناصري بقلعة حلب) . ثمَّ ظفر بمنطاش من عِنْد نعير بعد سِنِين، وَقَتله أَيْضا - وَقد ذكرنَا هَذَا كُله مُجملا فِي تاريخنا ((النُّجُوم الزاهرة)) [ومفصلا فِي ((المنهل الصافي)) فِي تَرْجَمَة الظَّاهِر برقوق] [كل وَاحِد من هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاء والسلاطين على حِدته] ؛ لِأَنَّهُ مُرَتّب على الْحُرُوف. وَمن أَرَادَ الْعلم بذلك؛ فَعَلَيهِ بمطالعتهما؛ ففيهما الْغَرَض بِزِيَادَة -[إِن شَاءَ الله تَعَالَى]-. ثمَّ سَار برقوق بِالْملكِ الْمَنْصُور هَذَا وَجَمِيع العساكر إِلَى الديار المصرية حَتَّى دَخلهَا فِي يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع عشر صفر سنة إثنتين وَتِسْعين وَسَبْعمائة.

وَلما دخل برقوق إِلَى الديار المصرية فرشت الشقق الْحَرِير تَحت حوافر فرسه؛ فَتنحّى برقوق عَنْهَا، وَمَشى الْمَنْصُور عَلَيْهَا؛ فَحسن ذَلِك ببال النَّاس كثيرا. وطلع برقوق إِلَى القلعة، وَعَاد إِلَى ملكه. وخلع الْمَنْصُور هَذَا، وَلزِمَ دَاره بقلعة الْجَبَل مبجلا، إِلَى أَن مَاتَ بعد أَن أقعد، وتكسح فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء تَاسِع عشر شَوَّال سنة أَرْبَعَة عشر وَثَمَانمِائَة عَن بضع وَأَرْبَعين سنة. وَدفن بتربة جدته خوند بركَة أم الْأَشْرَف شعْبَان. فَكَانَت مُدَّة [مملكة الْمَنْصُور] فِي سلطنته الثَّانِيَة ثَمَانِيَة أشهر وَنَحْو سِتَّة عشر يَوْمًا تخمينا - أَعنِي من يَوْم أجلسه الناصري على تخت الْملك إِلَى يَوْم طلع برقوق إِلَى [قلعة الْجَبَل] وَجلسَ على تخت الْملك -.

ذكر سلطنة الظاهر برقوق الثانية

ذكر سلطنة [الظَّاهِر] برقوق الثَّانِيَة تقدم ذكر سلطنته الأولى وَنسبه، ثمَّ مَا وَقع من خلعه وحبسه، ثمَّ ذكر سَبَب خُرُوجه من حبس الكرك وَعوده إِلَى ملك مصر بعد خلع الْمَنْصُور حاجى [فِي] يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع عشر صفر سنة إثنتين وَتِسْعين وَسَبْعمائة. قلت: وَلما عَاد إِلَى ملكه قَابل الأتابك يلبغا الناصري خجداشه بالجميل، وَأخرجه من سجن الأسكندرية هُوَ وَجَمَاعَة كَثِيرَة من الْأُمَرَاء اليلبغاوية خجداشيته مِمَّن كَانَ منطاش حَبسهم - وهم الَّذين كَانُوا خَرجُوا عَلَيْهِ مَعَ الناصري وخلعوه من الْملك - فَلم يُؤَاخذ أحدا مِنْهُم أَولا. وأخلع على الناصري وَقَالَ [لَهُ] : هَذَا غريمك منطاش بالبلاد الشامية. ثمَّ جهزه الظَّاهِر برقوق، وَجعله مقدم العساكر لقِتَال منطاش. وأخلع على الجوباني بنيابة دمشق - وَهُوَ أَيْضا مِمَّن كَانَ خرج عَلَيْهِ -؛ فتوجهت العساكر إِلَى الشَّام، وَانْهَزَمَ منطاش مِنْهُم بعد أُمُور وَقعت بَينهم وَبعد أَن قتل ألطبنغا الجوباني [نَائِب الشَّام] فِي المعركة، وَتَوَلَّى الناصري [عوضه فِي الشَّام] . [وتسحب منطاش إِلَى جِهَة نعير، ثمَّ بلغ برقوق أَن الناصري تهاون] [فِي أَمر] منطاش؛ فأسرها لَهُ، وتجرد إِلَى الْبِلَاد الشامية، وَقبض عَلَيْهِ، وَقَتله بقلعة حلب فِي أَوَائِل ذِي الْقعدَة من سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَسَبْعمائة. ثمَّ تتبع الظَّاهِر برقوق أعداءه، إِلَى أَن [قَتلهمْ عَن آخِرهم] ، وأولهم منطاش، وَآخرهمْ مَمْلُوكه على باى.

ثمَّ لما صفا الْوَقْت للظَّاهِر، أَخذ فِي إنْشَاء مماليكه وحواشيه، فَلَا زَالَ أمره يعظم ومماليكه تكْثر، إِلَى أَن صَارَت مماليكه نوابه بِجَمِيعِ الْبِلَاد الشامية وَغَيرهَا وَاسْتمرّ على عَظمته وضخامته، إِلَى أَن ركب عَلَيْهِ مَمْلُوكه وَأحد خواصه على باي الخازندار فِي سنة ثَمَانمِائَة، وظفر بِهِ برقوق وَقَتله؛ فَلم يقم بعد ذَلِك إِلَّا أشهرا وَمرض، وَمَات فِي لَيْلَة الْجُمُعَة نصف شَوَّال سنة إِحْدَى وَثَمَانمِائَة بعد أَن جَاوز السِّتين [سنة] من الْعُمر. وَكَانَت مُدَّة تحكمه أتابكا بعد أَن قبض على طشتمر الدوادار أَربع سِنِين وَتِسْعَة أشهر وَعشرَة أَيَّام. ومنذ تسلطن إِلَى أَن مَاتَ سِتَّة عشر سنة وَأَرْبَعَة أشهر وَسَبْعَة وَعِشْرُونَ يَوْمًا خلع فِيهَا - حَسْبَمَا تقدم ذكره - بِالْملكِ الْمَنْصُور ثَمَانِيَة أشهر وَسِتَّة عشر يَوْمًا. وَخلف [الْملك] الظَّاهِر برقوق سِتَّة أَوْلَاد، ثَلَاثَة ذُكُور وَثَلَاثَة بَنَات. الذُّكُور: فرج - الَّذِي تسلطن بعده - عبد الْعَزِيز - الَّذِي تسلطن بعد خلع أَخِيه النَّاصِر فرج - وَإِبْرَاهِيم. وَالْبَنَات: سارة وبيرم وَزَيْنَب. وَخلف من الذَّهَب [الْعين] ألفي ألف دِينَار وَأَرْبَعمِائَة ألف دِينَار. وَخلف من القنود وَالسكر والقماش وأنواع الفرو مَا قِيمَته ألف ألف دِينَار وَأَرْبَعمِائَة ألف دِينَار.

وَترك من الْخُيُول نَحْو سِتَّة آلَاف فرس [وبغل] . وَمن الْجمال نَحْو خَمْسَة آلَاف جمل. وَبَلغت عليق خيوله الْخَاص وبغاله وَجَمِيع تعلقات إصطبله فِي الشَّهْر أحد عشر ألف أردب شعير وفول. قلت: وَفِي الْجُمْلَة، هُوَ أجل ملك جَاءَ من بعده، لَا من قبله إِلَى يَوْمنَا هَذَا.

الملك الناصر

الْملك النَّاصِر زين الدّين أَبُو السعادات، فرج ابْن [الْملك] الظَّاهِر برقوق ابْن الْأَمِير آنص، الجاركسي الأَصْل. وَالسَّادِس وَالْعشْرُونَ من مُلُوك التّرْك بالديار المصرية، وَالثَّانِي من الجراكسة. تسلطن صَبِيحَة يَوْم موت وَالِده فِي يَوْم الْجُمُعَة النّصْف من شَوَّال سنة إِحْدَى وَثَمَانمِائَة بِعَهْد من أَبِيه. وَفِي معنى سلطنته يَقُول الشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد [الْمُقْرِئ الأوحدي] [- رَحمَه الله -] . (مضى الظَّاهِر السُّلْطَان أكْرم مَالك ... إِلَى ربه يرقى إِلَى الْخلد فِي الدرج) (وَقَالُوا: ستأتي شدَّة بعد مَوته ... فأكرمهم رَبِّي وَمَا جَاءَ سوى فرج) وَكَانَ [عمر النَّاصِر هَذَا] يَوْم تسلطن دون الْعشْر سِنِين. وَأمه أم ولد رُومِية تسمى: شيرين، تلوذ للوالد بِقرَابَة. وَتمّ أمره فِي الْملك، وَصَارَ الأتابك أيتمش مُدبر مَمْلَكَته، ويشاركه الْوَالِد فِي ذَلِك - وَهُوَ يَوْم ذَاك أَمِير سلَاح -.

ثمَّ وَقعت أُمُور، وَتَفَرَّقَتْ المماليك الظَّاهِرِيَّة فرْقَتَيْن: فرقة مَعَ أيتمش - وهم كبار الْأُمَرَاء - وَفرْقَة مَعَ يشبك الخازندار - وهم أصاغر الْأُمَرَاء -. وَآل الْأَمر بَينهمَا إِلَى الْقِتَال؛ فانكسر [الأتابك] أيتمش بِمن مَعَه وتوجهوا جَمِيعًا إِلَى تنم الْحسنى الظَّاهِرِيّ نَائِب الشَّام؛ فَغَضب [تنم] لغضبهم، وَسَار بِجَمِيعِ العساكر الشامية وبمن قدم عَلَيْهِ مَعَ أيتمش وَغَيره من أُمَرَاء مصر يُرِيد مصر. وَخرج [الْملك] النَّاصِر بعساكر مصر، وتواقع مَعَ الْأَمِير تنم وأيتمش وَالْوَالِد بِمن مَعَهم؛ فَكسر الْجَمِيع، وَقتل غالبهم، إِلَّا الْوَالِد وآقبغا نَائِب حلب؛ فَإِنَّهُمَا حبسا. وَاسْتولى يشبك وأقرانه من أصاغر الْأُمَرَاء على [مملكة] مصر؛ فاضطربت أَحْوَال مصر؛ لسوء تدبيرهم وَاخْتِلَاف كلمتهم. ثمَّ قدم تيمور [لنك] إِلَى الْبِلَاد الشامية فِي سنة [ثَلَاث] وَثَمَانمِائَة بعد وقْعَة أيتمش بأشهر؛ فَخرجت العساكر المصرية صُحْبَة النَّاصِر ثَانِيًا إِلَى دمشق؛ فَلم ينْتج أَمرهم مَعَ تيمور؛ لسوء تدبيرهم، لَا لقلَّة عَسْكَرهمْ.

وَملك تيمور الشَّام من الْوَالِد؛ فَإِنَّهُ كَانَ ولي نِيَابَة دمشق بعد أَن قتل سودون قريب الظَّاهِر فِي أسر تيمور [الْمَذْكُور] . وَعَاد النَّاصِر [إِلَى مصر] وصحبته الْوَالِد والعساكر على أقبح وَجه - وَقد ذكرنَا ذَلِك كُله مفصلا فِي غير هَذَا [الْمحل]-. ثمَّ بعد توجه تيمور أُعِيد الْوَالِد إِلَى نِيَابَة دمشق ثَانِيًا. ثمَّ وَقع فتن كَثِيرَة بَين الْأُمَرَاء الظَّاهِرِيَّة، وتداول ذَلِك بَينهم سِنِين عديدة، وأفنى بَعضهم بَعْضًا قتلا وحبسا. وَخرجت غَالب بِلَاد مصر فِي تِلْكَ الْأَيَّام، وَاسْتمرّ ذَلِك وَزَاد، إِلَى أَن ضجر [الْملك] النَّاصِر فرج مِنْهُم وَترك ملكه، وتسحب من القلعة من غير أَن يكرههُ أحد على ذَلِك، وَكَانَ وَقت تسحبه من القلعة فِي وسط نَهَار الْأَحَد خَامِس عشْرين شهر ربيع الأول سنة ثَمَان وَثَمَانمِائَة. واختفى النَّاصِر؛ فَلم يعرف لَهُ مَكَان. وَبلغ الْأُمَرَاء ذَلِك؛ فأجمع رَأْيهمْ على سلطنة أَخِيه عبد الْعَزِيز؛ فَطلب من الدّور السُّلْطَانِيَّة، وتسلطن، ولقب [بِالْملكِ الْمَنْصُور] على كره مِنْهُ. وَكَانَت مُدَّة ملك [الْملك] النَّاصِر فرج [فِي] هَذِه الْمرة [الأولى] سِتّ سِنِين وَخَمْسَة أشهر وَعشرَة أَيَّام.

الملك المنصور

الْملك الْمَنْصُور عز الدّين، عبد الْعَزِيز ابْن [الْملك] الظَّاهِر برقوق بن آنص. تسلطن بعد أَن تسحب [أَخِيه] الْملك النَّاصِر فرج فِي وَقت عشَاء الْآخِرَة من لَيْلَة الأثنين سادس [عشْرين] شهر ربيع الأول سنة ثَمَان وَثَمَانمِائَة؛ لكَونه كَانَ ولي [الْعَهْد من بعد] أَخِيه فرج بِوَصِيَّة وَالِده بذلك. ولقب [بِالْملكِ الْمَنْصُور] [أبي الْعِزّ عبد الْعَزِيز] ، وَهُوَ لم يبلغ الْحلم وَأمه أم ولد، تركية تسمى: قنق باى، مَاتَت بعد سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة. وَهُوَ [السُّلْطَان] السَّابِع وَالْعشْرُونَ من مُلُوك التّرْك بالديار المصرية، وَالثَّالِث من مُلُوك الجراكسة. وَلما تمّ أمره فِي الْملك تلاشت أَحْوَال المملكة؛ لإختلاف كلمة الْأُمَرَاء، فَإِنَّهُ كَانَ يَوْم ذَاك بيبرس هُوَ الأتابك، وَكَانَ لين الْجَانِب لَا يلْتَفت إِلَى كَلَامه؛ فَصَارَ كل أحد لَهُ حكم، حَتَّى أصاغر المماليك، فَلم يرض بذلك أحد. والتفت كل أحد إِلَى عود [الْملك] النَّاصِر فرج، لاسيما الْأَمِير يشبك الشَّعْبَانِي الدوادار؛ فَإِنَّهُ كَانَ فِي الدولة الناصرية لَهُ كلمة نَافِذَة وَعز.

فَلَمَّا تسلطن الْمَنْصُور هَذَا اضْطَرَبَتْ الْأُمُور، وتحكم غَيره فِي المملكة؛ فَعظم ذَلِك عَلَيْهِ، وَصَارَ يتلفت إِلَى عود النَّاصِر بِكُل مَا تصل قدرته إِلَيْهِ. فَلَمَّا رأى سعد الدّين [إِبْرَاهِيم] بن غراب [ذَلِك]- وَكَانَ [الْملك] النَّاصِر مختفيا عِنْده - أعلمهُ بِهِ؛ ففرح يشبك بذلك [وَأخذ فِي التَّدْبِير لخُرُوج النَّاصِر وَعوده إِلَى الْملك، إِلَى أَن تمّ لَهُ ذَلِك] . فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة الْجُمُعَة رَابِع جُمَادَى الْآخِرَة [من] سنة ثَمَان وَثَمَانمِائَة [الْمَذْكُورَة] ظهر [الْملك] النَّاصِر فرج من بَيت سودون الحمزاوي، وتلاحق بِهِ كثير من الْأُمَرَاء والمماليك السُّلْطَانِيَّة. وَلم يطلع الْفجْر حَتَّى ركب [الْملك] النَّاصِر بِآلَة الْحَرْب، وَسَار بِمن مَعَه يُرِيد الطُّلُوع إِلَى قلعة الْجَبَل؛ مَنعه جمَاعَة من الْأُمَرَاء من الطُّلُوع وهم: سودون المحمدي، الْأَمِير آخور، [و] أينال باي بن قجماس، وبيبرس الأتابك، وسودون المارديني، ويشبك بن أزدمر فِي آخَرين. وقاتلوه سَاعَة، ثمَّ إنهزموا. وَملك النَّاصِر قلعة الْجَبَل، وخلع أَخَاهُ الْمَنْصُور هَذَا، وَسكن روعه وَأحسن إِلَيْهِ، وَعَاد إِلَى ملكه، وَأمْسك الْأُمَرَاء الْمَذْكُورين، وحبسهم، وقتلهم.

وَأما [الْملك] الْمَنْصُور هَذَا؛ فَإِنَّهُ اسْتمرّ عِنْد أمه بقلعة الْجَبَل، إِلَى أَن أخرجه النَّاصِر إِلَى الأسكندرية و [خرج] صحبته أَخُوهُ إِبْرَاهِيم فِي صفر سنة تسع وَثَمَانمِائَة، وَتوجه مَعَهُمَا الْأَمِير قطلوبغا الكركي، والأمير أينال حطب. وَكَانَت مُدَّة الْملك الْمَنْصُور فِي الْملك شَهْرَيْن وَعشرَة أَيَّام؛ فَلم تطل مُدَّة الْمَنْصُور بالأسكندرية، وَمَات فِي لَيْلَة الأثنين سَابِع شهر ربيع الآخر [من] سنة تسع وَثَمَانمِائَة، ثمَّ مَاتَ عقبه أَخُوهُ إِبْرَاهِيم من ليلته؛ فاتهم [الْملك] النَّاصِر فِي مَوْتهمَا.

سلطنة الناصر فرج الثانية على مصر

سلطنة النَّاصِر [فرج] الثَّانِيَة على مصر تقدم ذكر نسبه وَمَا وَقع لَهُ من خلعه وَعوده إِلَى الْملك فِي تَرْجَمَة أَخِيه الْمَنْصُور عبد الْعَزِيز الْمُقدم ذكره، فَلَا حَاجَة للإعادة. وَلما جلس [الْملك] النَّاصِر [هَذَا] على تخت الْملك ثَانِيًا استفحل أمره، واستبد بِأُمُور المملكة، وَأمْسك جمَاعَة كَثِيرَة من الْأُمَرَاء وحبسهم، [ثمَّ قَتلهمْ] . ثمَّ اشْتغل بِمن خرج عَلَيْهِ من مماليك أَبِيه النواب بالبلاد الشامية مثل: نوروز الحافظي وَشَيخ المحمودي وجكم العوضي [وَغَيرهم] . وَوَقع لَهُ مَعَهم أُمُور، وتجرد [نَحْو] ثَمَانِي تجاريد إِلَى الْبِلَاد الشامية بسببهم. وَطَالَ الْأَمر، وتجاوزت الْفِتَن الْحَد، وَخَربَتْ فِي تِلْكَ الْأَيَّام غَالب قرى [الديار المصرية] والبلاد الشامية. وَصَارَ حكم [الْملك] النَّاصِر [هَذَا] لَا يتَجَاوَز قطيا - فِي غَالب الأحيان - لاسيما لما تسلطن جكم العوضي بحلب تلاشى أمره وضعفت حرمته، إِلَى أَن قتل جكم بآمد تراجع أمره قَلِيلا. وَمد الْملك النَّاصِر يَده فِي الْقَتْل فِي مماليك أَبِيه، وَأَرَادَ الْإِسْرَاف فِي ذَلِك؛ فَأخذ الْوَالِد يرجعه عَن ذَلِك ويكفه - وَهُوَ يَوْم ذَاك أتابكا - فانكف قَلِيلا؛ لِأَنَّهُ صَار يخوفه عَاقِبَة ذَلِك.

فَلَمَّا أَن ولي الْوَالِد نِيَابَة الشَّام ثَالِث مرّة - على كره مِنْهُ - خلي الجو للْملك النَّاصِر؛ فأسرف فِي الْقَتْل، وأمعن حَتَّى أَنه قَارب من قَتله الْألف. ثمَّ خرج النَّاصِر بعد ذَلِك مُجَردا إِلَى الْبِلَاد الشامية لقتل نوروز وَشَيخ - الْمُقدم ذكرهمَا - وَقد نفرت [مِنْهُ] الْقُلُوب، وتغيرت الخواطر عَلَيْهِ؛ بِسَبَب إسرافه فِي الْقَتْل. [قلت] : وَهُوَ مَعْذُور من وَجه وَغير مَعْذُور من وَجه، أما الْوَجْه الأول: فَإِنَّهُ سامحهم فِي أَوَائِل الْأَمر كثيرا، وَعفى عَن أَكْثَرهم الْمرة والمرتين حَتَّى أَن عدوه [الْملك الْمُؤَيد] شيخ قَالَ بعد مَوته: إِن كَانَ الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يعفوا عَن الْملك النَّاصِر؛ فيعفوا عَنهُ بقتْله للأمير تمراز النَّائِب. وحكاية تمراز مَعَ النَّاصِر مُطَوَّلَة، لَا تلِيق بِهَذَا الْمُخْتَصر، فَلْتنْظرْ فِي المطولات. [ذَكرنَاهَا هُنَا لتأييد مَا قُلْنَاهُ] . وَحكى لي [الْأَمِير جقمق الظَّاهِرِيّ الْحَاجِب] قَالَ: مَا صَبر أحد على عدوه وَعفى عَنهُ مثل النَّاصِر، فَإِنَّهُ لم يقتل وَاحِدًا مِمَّن قتل حَتَّى عصى عَلَيْهِ الْمرة والمرتين وَالثَّالِثَة. [قلت] : وَلم نر هَذَا وَقع لملك بعده كَائِن من كَانَ - صَالحهمْ وطالحهم - بل كَانَ من خرج عَلَيْهِ [وَاحِد مرّة) لم يبلعه رِيقه - من الْملك الْمُؤَيد إِلَى يَوْمنَا هَذَا -.

وَأما الْوَجْه الثَّانِي، فَإِن الْإِقْدَام على قتل النَّفس أَمر كَبِير يَنْبَغِي للْملك وَغَيره التَّحَرُّز مِنْهُ والتحري فِيهِ، والتجاوز عَن الْقَتْل إِلَى غَيره من: الْحَبْس، وَالنَّفْي، والإرداع وَغير ذَلِك. وَلما خرج [الْملك] النَّاصِر إِلَى الْبِلَاد الشامية فِي سنة أَرْبَعَة عشر وَثَمَانمِائَة - وَكَانَ الْوَالِد يَوْم ذَاك النائباً على دمشق وَهُوَ متوعك فِي مرض مَوته - وَتقدم جاليش الْملك النَّاصِر من الْأُمَرَاء إِلَى الشَّام أَمَامه، وَدخل الجاليش [الْمَذْكُور إِلَى دمشق] قبل السُّلْطَان، وَسلم الْأُمَرَاء على الْوَالِد، وأعلموه بِالْخرُوجِ على النَّاصِر؛ فنهاهم عَن ذَلِك فِي الْبَاطِن؛ فَلم ينْتَهوا، وتوجهوا بتمامهم إِلَى شيخ ونوروز؛ فَعِنْدَ ذَلِك أَخذ أَمر النَّاصِر فِي انحطاط، وَعظم أَمر الْأُمَرَاء، وتكاثر عَددهمْ حَتَّى جَاوز عدَّة من كَانَ مَعَ نوروز وَشَيخ زِيَادَة على عشْرين مقدم [ألف] . كل وَاحِد [مِنْهُم] يَقُول فِي نَفسه: أَنه أعظم من شيخ ونوروز، وَأَن الْأَمر لَا يصير إِلَّا إِلَيْهِ، مثل: بكتمر جلق نَائِب الشَّام، وسيدي الْكَبِير قرقماس، وسودون المحمدي، وشاهين الأفرم أَمِير سلَاح، وطوغان الْحسنى الدوادار الْكَبِير فِي آخَرين. وَدخل [الْملك] النَّاصِر إِلَى دمشق، وَدخل للوالد غير مرّة يعودهُ؛ فَنَهَاهُ الْوَالِد عَن ملاقاتهم وقتالهم؛ فَلم ينْتَه، وَلَا اكترث بِمن تسحب من عسكره. وَخرج لقتالهم؛ فجبن الْجَمِيع عَن مصاففته وقتاله، وصاروا ينتقلون من بلد إِلَى أُخْرَى، وَهُوَ فِي إثرهم سوقا، وعساكره متقطعة خَلفه، إِلَى أَن وافاهم وَقت الْعَصْر من يَوْم الأثنين ثَالِث عشر محرم سنة خَمْسَة عشر وَثَمَانمِائَة باللجون، وَهُوَ سَكرَان لَا يعي من شدَّة السكر.

وَكَانَ الْأُمَرَاء قد نزلُوا وأراحوا خيولهم ورجالهم، وَفِي ظنهم أَن النَّاصِر يتمهل [ليلته] عَن قِتَالهمْ ويلقاهم من الْغَد، فَإِذا جنهم اللَّيْل سَارُوا من وَادي عارة إِلَى جِهَة الرملة، وَلَا يقاتلوه أبدا؛ لرعب كَانَ قد سكن فِي قُلُوبهم مِنْهُ، وَأَيْضًا لشدَّة بأسه وفرط شجاعته، مَعَ معرفتهم بِكَثْرَة جمعهم وباختلاف عَسْكَر النَّاصِر عَلَيْهِ. وَمَعَ هَذَا جبن الْجَمِيع عَن لِقَائِه وقتاله؛ فحالما وصل النَّاصِر إِلَى اللجون ركب وصف عساكره، وَقد كلت [خيوله وَرِجَاله] من السُّوق أَيَّامًا كَثِيرَة؛ فَكَلمهُ الأتابك دمرداش المحمدي فِي الرَّاحَة فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَفِي الْقِتَال من الْغَد، وألح عَلَيْهِ، وساعده فِي ذَلِك فتح الله كَاتب السِّرّ؛ فَلم يلْتَفت إِلَى كَلَامهمَا وَقَالَ: أَنا لي سِنِين أنْتَظر هَذَا الْيَوْم مَتى مَا ثَبت اللَّيْلَة هربوا الْجَمِيع فِي اللَّيْل، وَمَشى عَلَيْهِم؛ فحالما صاففهم عصى عَلَيْهِ [من أمرائه] الْأَمِير قجق بِجَمِيعِ مماليكه وَطَلَبه. وتداول [ذَلِك] من جمَاعَة كَثِيرَة، وَهُوَ مَعَ ذَلِك مصر على اللِّقَاء. فَلَمَّا رأى الْأُمَرَاء أَمرهم فِي زِيَادَة، وعسكرهم فِي نمو، قوي بذلك قلبهم، وتصادم الْفَرِيقَانِ؛ فَلم يثبت عَسْكَر النَّاصِر وانكسر.

وَانْهَزَمَ النَّاصِر إِلَى نَحْو دمشق فِي نفر قَلِيل [نَحْو] الثَّلَاثَة، وَدخل [دمشق] فِي آخر لَيْلَة الْأَرْبَعَاء خَامِس عشر الْمحرم [الْمُقدم ذكره] . وَمَات الْوَالِد -[رَحمَه الله]- فِي ذَلِك الْيَوْم وَدفن بتربة تنم الْحسنى نَائِب الشَّام. وَاسْتولى الْأُمَرَاء بعد الْوَقْعَة على الْخَلِيفَة والقضاة والعصائب السُّلْطَانِيَّة، وَسَارُوا يُرِيدُونَ دمشق؛ فتهيأ النَّاصِر لقتالهم ثَانِيًا، وَقد قوي أمره ببرك الْوَالِد ومماليكه وخيوله وسلاحه؛ لِأَن النَّاصِر استولى على جَمِيع مَا كَانَ للوالد، حَتَّى أَنه لم يدع لنا شَيْئا يُسَاوِي الدِّينَار الْوَاحِد. ثمَّ وَقع للناصر مَعَ الْأُمَرَاء أُمُور وحروب طَالَتْ أَيَّامًا كَثِيرَة؛ فسلطنوا الْأُمَرَاء الْخَلِيفَة الْعَبَّاس، وخلعوا النَّاصِر من الْملك. كل ذَلِك وَهُوَ مُجْتَهد فِي قِتَالهمْ بِالْمَدِينَةِ ثمَّ بالقلعة، إِلَى أَن أَخذ بالأمان فِي لَيْلَة الأثنين حادي عشر صفر سنة خمس عشرَة وَثَمَانمِائَة؛ فَأخذ وَقيد، وَحبس بقلعة دمشق، إِلَى أَن قتل بأيدي المشاعلية بالسكاكين فِي لَيْلَة السبت سادس عشر صفر، ثمَّ ألْقى على مزبلة وَهُوَ عاري الْبدن وَالنَّاس تمر بِهِ، حَتَّى حمل بعد أَيَّام، وَغسل وكفن، وَدفن بمقبرة بَاب الفراديس بمرج الدحداح.

قلت: هَذَا لقلَّة إنصاف أعدائه - مماليك أَبِيه - وَعدم مروءتهم؛ وَهُوَ أَن الرجل إِذا كَانَ فِي نَفسه من عدوه ثمَّ ظفر بِهِ؛ فأعظم مَا يجازيه بِالْقَتْلِ، ثمَّ يُكرمهُ بِالْغسْلِ والكفن والدفن؛ فَلم يَفْعَلُوا هَؤُلَاءِ مَعَ النَّاصِر ذَلِك، بل لَو أمكنهم إحراقه لحرقوه، وَلَعَلَّ هَذَا يَنْفَعهُ عِنْد الله تَعَالَى. وَكَانَ [الْملك] النَّاصِر كَرِيمًا، شجاعا مقداما، مُسْرِفًا على نَفسه، منهمك فِي اللَّذَّات، وَفِيه خفَّة وجبروت وإقدام. وَكَانَت مدَّته فِي السلطنة أَولا وآخرا من يَوْم تسلطن بعد موت أَبِيه إِلَى أَن خلع بأَخيه عبد الْعَزِيز سِتّ سِنِين وَخَمْسَة أشهر وَعشرَة أَيَّام. وَمُدَّة سلطنته الثَّانِيَة إِلَى يَوْم خلع بالخليفة الْعَبَّاس سِتّ سِنِين وَعشرَة أشهر سَوَاء؛ فَجَمِيع أَيَّامه فِي الْملك ثَلَاث عشرَة سنة وَثَلَاثَة أشهر وَأحد عشر يَوْمًا. وعاش بعد ذَلِك أَيَّامًا فِي الْحصار، وَقتل - رَحمَه الله [تَعَالَى]-.

المستعين بالله

المستعين بِاللَّه أَبُو الْفضل الْعَبَّاس، الْخَلِيفَة ثمَّ السُّلْطَان، أَمِير الْمُؤمنِينَ، وسلطان الديار المصرية ابْن الْخَلِيفَة المتَوَكل على الله [أبي عبد الله] مُحَمَّد ابْن الْخَلِيفَة المعتضد أبي بكر ابْن المستكفي سُلَيْمَان ابْن الْحَاكِم [بِأَمْر الله] أَحْمد بن الْحسن بن أبي بكر بن عَليّ القبي ابْن الْخَلِيفَة الراشد مَنْصُور ابْن المسترشد [الْفضل] ابْن المستظهر [أَحْمد] ابْن الْأَمِير إِسْحَاق ابْن الْخَلِيفَة المقتدر [بِاللَّه] جَعْفَر ابْن المعتضد [أَحْمد] ابْن الْأَمِير طَلْحَة الْمُوفق ابْن الْخَلِيفَة المتَوَكل جَعْفَر ابْن المعتصم مُحَمَّد ابْن الرشيد هَارُون ابْن الْمهْدي مُحَمَّد بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس، الْهَاشِمِي العباسي الْمصْرِيّ. بُويِعَ المستعين [هَذَا] بالخلافة بعد موت أَبِيه - بِعَهْد مِنْهُ إِلَيْهِ - فِي يَوْم الأثنين مستهل شعْبَان سنة ثَمَان وَثَمَانمِائَة، وَكَانَ ذَلِك بعد موت أَبِيه بأَرْبعَة أَيَّام. وَاسْتمرّ فِي الْخلَافَة سنينا، إِلَى أَن تجرد صُحْبَة [الْملك] النَّاصِر فرج إِلَى الْبِلَاد الشامية فِي سنة أَربع عشرَة وَثَمَانمِائَة - كَمَا كَانَ تجرد قبلهَا مَعَه غير مرّة -. فَلَمَّا انْكَسَرَ [الْملك] النَّاصِر [فرج] من الأميرين شيخ ونوروز بِمن مَعَهم وَدخل إِلَى دمشق، استولى الْأُمَرَاء على الْخَلِيفَة هَذَا والقضاة والعصائب السُّلْطَانِيَّة [وعادوا إِلَى دمشق لقِتَال النَّاصِر. فَلَمَّا طَال أَمر النَّاصِر

عَلَيْهِم لم يَجدوا بدا من سلطنة الْخَلِيفَة؛ لِأَنَّهُ لَك يكن حِين ذَاك عِنْد الْأُمَرَاء أحد من أَوْلَاد السلاطين] ، وَأَيْضًا لم يكن فِي الْأُمَرَاء من هُوَ أهل لذَلِك؛ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم كَانَ يَقُول فِي نَفسه هُوَ أَحَق بِالْأَمر من غَيره، وَلَا يذعن لسواه. فَلَمَّا كَانَ ذَلِك اتّفق رَأْي الْجَمِيع على سلطنة الْخَلِيفَة المستعين هَذَا؛ فَامْتنعَ الْخَلِيفَة من ذَلِك غَايَة التمنع؛ فَلَا زَالُوا بِهِ حَتَّى أذعن بعد أُمُور ذَكرنَاهَا فِي [تاريخنا] ((النُّجُوم الزاهرة)) . وَولي السلطنة على كره مِنْهُ، بعد شُرُوط عديدة. وتسلطن، وَتمّ أمره، وأطاعته الْأُمَرَاء مُنْذُ كَانَ بِدِمَشْق. فَلَمَّا وَقع الأتفاق على أَن نوروز الحافظي يسْتَقرّ فِي نِيَابَة الشَّام جَمِيعه - من غَزَّة إِلَى الْفُرَات - ويستقر شيخ المحمودي أتابكا بِمصْر ومدبر مملكة المستعين هَذَا، وَعَاد المستعين وصحبته شيخ وَغَيره إِلَى الديار المصرية، وَسكن الْخَلِيفَة [هَذَا] بقلعة الْجَبَل - على عَادَة السلاطين - وَسكن شيخ بِبَاب السلسلة؛ فَلم يدع شيخ للمستعين شَيْئا من الْأَمر وَالنَّهْي، بل صَار فِي السلطنة حسا وَشَيخ مَعْنَاهُ. وليته دَامَ لَهُ ذَلِك {} . ثمَّ إِن شَيخا بدا لَهُ أَن يتسلطن؛ فَجمع الْقُضَاة، وخلع المستعين هَذَا، وتسلطن من غير أَن يُوَافق المستعين على خلع نَفسه؛ فأكره حَتَّى خلع غصبا.

وَاسْتمرّ بالقلعة محتفظا بِهِ على الْخلَافَة؛ فَكَانَت مُدَّة سلطنته من يَوْم تسلطن - خَارج دمشق - إِلَى يَوْم خلع سَبْعَة أشهر وَخَمْسَة أَيَّام؛ فدام بقلعة الْجَبَل خَليفَة، إِلَى أَن خلعه شيخ بأَخيه [المعتضد] دَاوُد من الْخلَافَة فِي يَوْم الْخَمِيس سادس عشر ذِي الْحجَّة سنة سِتَّة عشر وَثَمَانمِائَة. وَاسْتمرّ المستعين [هَذَا] محتفظا بِهِ بقلعة الْجَبَل مُدَّة يسيره، وَحمل إِلَى الأسكندرية؛ فسجن بهَا سنينا كَثِيرَة، إِلَى أَن أخرجه [الْملك] الْأَشْرَف برسباى من السجْن، ورسم لَهُ أَن يسكن بِبَعْض دور الأسكندرية؛ فَوَقع لَهُ ذَلِك. وَدم [بهَا] ، إِلَى أَن توفى بالطاعون فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء الْعشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة. وعهد بالخلافة من بعده [إِلَى وَلَده] يحيى، على زَعمه أَنه مُسْتَمر فِي الْخلَافَة، وَأَن خلعه مِنْهَا لم يُصَادف [محلا؛ فَلم يمش لوَلَده] [ذَلِك - رَحمَه الله تَعَالَى]-.

الملك المؤيد

الْملك الْمُؤَيد [أَبُو النَّصْر] ، شيخ بن عبد الله المحمودي الظَّاهِرِيّ. الثَّامِن وَالْعشْرُونَ من مُلُوك التّرْك بالديار المصرية، وَالرَّابِع من الجراكسة. كَانَ أَصله من مماليك الظَّاهِر برقوق، اشْتَرَاهُ من خواجا مَحْمُود شاه اليزيدي، وَأعْتقهُ، ورقاه حَتَّى جعله ساقياً، ثمَّ أَمِير عشرَة، ثمَّ طبلخاناه. وسافر أَمِير حَاج الْمحمل فِي سنة إِحْدَى وَثَمَانمِائَة، ثمَّ تقدم ألف بعد موت أستاذه الْملك الظَّاهِر على إقطاع بجاس، ثمَّ تنقل بعد ذَلِك فِي عدَّة ولايات، وَولي نِيَابَة طرابلس. وأسره تيمور [لنك] فِيمَن أسر من نواب الْبِلَاد الشامية، ثمَّ هرب [مِنْهُ] . وَوَقع لَهُ أُمُور مَعَ الْملك النَّاصِر ومحن، ومسك، وَحبس. ولازال فِي خلاف وعصيان، إِلَى أَن كَانَ من أَمر النَّاصِر فرج مَا حكيناه، وتسلطن المستعين، وَصَارَ شيخ هَذَا أتابكه؛ فَوَثَبَ على الْأَمر، وتسلطن فِي يَوْم الأثنين مستهل شعْبَان سنة خمس عشرَة وَثَمَانمِائَة.

وَتمّ أمره فِي الْملك، وَحَال بلغ الْأَمِير نوروز الحافظي أَمر سلطنته خرج عَن طَاعَته، وَاسْتمرّ يَدْعُو للمستعين بغالب الْبِلَاد الشامية. وَوَقع بِسَبَب ذَلِك بَين الْملك الْمُؤَيد [هَذ] وَبَين نوروز أُمُور وحروب، إِلَى أَن أَخذه الْمُؤَيد، وَقَتله بقلعة دمشق فِي سنة سبع عشرَة وَثَمَانمِائَة. وَعَاد إِلَى الديار المصرية بعد أَن مهد أُمُور الْبِلَاد الشامية بأجمعها؛ فَلم يمض إِلَّا سنة وَاحِدَة وَأشهر وَعصى [الْأَمِير] قانى باى المحمدي نَائِب الشَّام عَلَيْهِ. وَوَافَقَهُ نَائِب حلب أينال الصصلاني، ونائب طرابلس سودون من عبد الرَّحْمَن، وتنبك البجاسي نَائِب حماة وَغَيرهم. فتجرد لَهُم الْمُؤَيد ثَانِيًا، وواقعهم، وَأمْسك قانى باى الْمَذْكُور وأينال الصصلاني وَغَيرهمَا من الْأُمَرَاء، وحز رؤوسهم، وأرسلها إِلَى الديار المصرية. وهرب من بقى من النواب إِلَى بِلَاد الشرق إِلَى عِنْد قرا يُوسُف. ثمَّ تجرد الْملك الْمُؤَيد ثَالِث مرّة فِي سنة عشْرين وَثَمَانمِائَة إِلَى الْبِلَاد الشامية، وافتتح عدَّة قلاع، وَعَاد إِلَى مصر. ودام بِهِ فِي أرغد عَيْش مَعَ مَا كَانَ يَعْتَرِيه من ألم المفاصل، حَتَّى أَنه لما قوي عَلَيْهِ ذَلِك أقعد؛ فَصَارَ يحمل على الأكتاف، ويتنقل إِلَى الْأَمَاكِن فِي محفة، وَلَا يبرح بالقلعة فِي الشَّهْر إِلَّا أَيَّامًا يسيرَة، بل غَالب أَيَّامه بساحل بولاق والمفترجات، وَيعْمل هُنَاكَ المواكب والخدم، حَتَّى جَاوز الْحَد فِي ذَلِك.

وَمن أَرَادَ أَن يقف على نَص تَرْجَمته؛ فَعَلَيهِ [بتاريخنا ((النُّجُوم] الزاهرة)) ، [وَإِن كُنَّا استوعبنا أَحْوَاله فِي تاريخنا ((المنهل الصافي)) ، غير أَن ((النُّجُوم الزاهرة)) أوسع وَأكْثر ضبطا؛ لكَونه مَوْضُوعا لملوك مصر فَقَط] . إنتهى. وَاسْتمرّ الْملك الْمُؤَيد على ذَلِك، إِلَى أَن قوي عَلَيْهِ مرض المفاصل وتسلسل من مرض إِلَى آخر، وَلزِمَ الْفراش أشهرا، إِلَى أَن مَاتَ فِي يَوْم الأثنين تَاسِع محرم سنة أَربع وَعشْرين وَثَمَانمِائَة، وَقد أناف على خمسين سنة [من الْعُمر] . وَكَانَت مُدَّة سلطنته على مصر ثَمَانِي سِنِين وَخَمْسَة أشهر وَثَمَانِية أَيَّام. وتسلطن بعده ابْنه [الْملك] المظفر، وعمره سنة وَاحِدَة وَثَمَانِية أشهر وَسَبْعَة أَيَّام. وَكَانَ الْملك الْمُؤَيد سُلْطَانا شجاعا، مقداما مهابا، عَارِفًا بأنواع الفروسية ومكر الحروب، كَرِيمًا على من اسْتحق الْكَرم، بَخِيلًا على كل عَار وجاهل. وَكَانَت أسواق ذَوي الْفُنُون نافقة فِي أَيَّامه؛ لجودة فهمه وذوقه بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَبنَاء جنسه. وَكَانَ مُعظما للشريعة، محبا للْعُلَمَاء والفضلاء، يمِيل إِلَى اللَّهْو والطرب، مُسْرِفًا على نَفسه، غير أَنه مَاتَ بعد تَوْبَة صَادِقَة فِي مرض مَوته.

[وَكَانَت صفته] : طوَالًا، بطينا، وَاسع الْعَينَيْنِ أشهلهما، أكث اللِّحْيَة، بَادِي الشيب، جَهورِي الصَّوْت، حاد المزاج، وَفِيه سفه وبذاءات لِسَان. وَقد أرماه المقريزي بِأُمُور كَانَ الْأَلْيَق الإضراب عَنْهَا؛ لما كَانَ عِنْده مِمَّا يُقَاوم ذَلِك من المحاسن. وَلَو لم يكن فِيهِ إِلَّا محبَّة الْعلمَاء وإجلال الشَّرْع لكفاه [ذَلِك. إنتهى] .

الملك المظفر

الْملك المظفر أَبُو السعادات، أَحْمد ابْن [الْملك] الْمُؤَيد شيخ [المحمودي الظَّاهِرِيّ] . تسلطن بعد موت أَبِيه بِعَهْد مِنْهُ إِلَيْهِ على مُضِيّ خمس درج من نصف نَهَار الأثنين تَاسِع الْمحرم سنة أَربع وَعشْرين وَثَمَانمِائَة، وعمره يَوْم ذَاك سنة وَاحِدَة [وَثَمَانِية أشهر وَسَبْعَة أَيَّام] . وَأمه خوند سعادات بنت الْأَمِير صرغتمش فِي قيد الْحَيَاة إِلَى يَوْمنَا هَذَا. والمظفر هَذَا هُوَ السُّلْطَان التَّاسِع وَالْعشْرُونَ من مُلُوك التّرْك، وَالْخَامِس من الجراكسة - نظرا إِلَى الأَصْل فِي جَوَاب من سَأَلَ عَن نَوعه؛ ففصله بجاركسي الْجِنْس. وَلما تمّ أمره فِي الْملك اسْتَقر الْأَمِير ططر أَمِير مجْلِس مُدبر مَمْلَكَته؛ لغياب الأتابك ألطنبغا القرمشي وَغَيره فِي تجريدة الْبِلَاد الشامية؛ لِأَن [الْملك] الْمُؤَيد كَانَ قد جعل الْأَمِير ألطنبغا القرمشي مُدبر مملكة وَلَده هَذَا، فَمَاتَ الْمُؤَيد والقرمشي غَائِبا؛ فَوَثَبَ ططر على الْأَمر، ونفق الْأَمْوَال. واستبد بِأُمُور المملكة من غير مُنَازع فِي ذَلِك، وأرضى من كَانَ عِنْده من المماليك المؤيدية بالأموال والإقطاعات والوظائف وَغَيرهَا.

وَبلغ الْأَمِير جقمق الأرغون شاوى نَائِب الشَّام أمره؛ فحالف عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ يشبك المؤيدي نَائِب حلب. وَوَقع بالبلاد الشامية عدَّة حروب وَفتن حَتَّى تفانوا قتلا؛ فَركب يشبك على القرمشي وَمن مَعَه بِظَاهِر حلب؛ فقاتله القرمشي وهزمه، وَقتل يشبك فِي المعركة. ثمَّ قدم القرمشي إِلَى دمشق؛ فواقعه جقمق أَيْضا، وانكسر، وَانْهَزَمَ إِلَى صرخد، وَملك القرمشي دمشق. كل ذَلِك وططر قد تجهز إِلَى السّفر من مصر إِلَى الْبِلَاد الشامية. وَخرج بِالْملكِ المظفر أَحْمد [هَذَا] مَعَه إِلَى دمشق؛ فَخرج القرمشي إِلَى لِقَائِه وَقبل الأَرْض بَين [يَدَيْهِ، وَعَاد فِي خدمَة المظفر] [إِلَى دمشق] ؛ فَقبض عَلَيْهِ ططر وعَلى جمَاعَة كَثِيرَة من أَصْحَابه الْأُمَرَاء؛ فَكَانَ ذَلِك آخر الْعَهْد [بِهِ] . ثمَّ أرسل ططر لحصار جقمق جمَاعَة، ولازال بِهِ حَتَّى قبض عَلَيْهِ، وَقَتله أَيْضا. وَصفا الْوَقْت لططر بقتل هَؤُلَاءِ الْمُلُوك. ثمَّ الْتفت إِلَى المؤيدية؛ فَقبض فِي يَوْم وَاحِد على جمَاعَة كَثِيرَة مِنْهُم وحبسهم، وَفرق اقطاعاتهم ووظائفهم على خجداشيته وحواشيه؛ فَعِنْدَ ذَلِك بدا لَهُ أَن يتسلطن؛ فَخلع الْملك المظفر هَذَا، وتسلطن فِي يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع عشْرين شعْبَان سنة أَربع وَعشْرين وَثَمَانمِائَة.

وَكَانَ الأتابك ططر تزوج بخوند سعادات أم المظفر هَذَا. فَلَمَّا [خلعه من] الْملك طَلقهَا. ثمَّ عَاد ططر [بِالْملكِ المظفر إِلَى الديار المصرية] . وَاسْتمرّ [الْملك] المظفر بقلعة الْجَبَل مُدَّة، ثمَّ نقل مَعَ أَخِيه إِبْرَاهِيم إِلَى سجن الأسكندرية؛ فداما بهَا إِلَى أَن مَاتَا بالطاعون فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة؛ فَكَانَت مُدَّة ملكه سَبْعَة أشهر وَعشْرين يَوْمًا. وَكَانَ موت المظفر [هَذَا] فِي لَيْلَة الْخَمِيس آخر جُمَادَى الأولى [من] سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ الْمَذْكُورَة. وَدفن المظفر وَأَخُوهُ بالثغر، ثمَّ نقلا مِنْهُ إِلَى الْقَاهِرَة، ودفناً بالجامع المؤيدي - دَاخل بَاب زويلة فِي قَول، وخارج بَابي زويلة فِي قَول؛ لِأَن بَابي زويلة كَانَا عِنْد الغرابليين وَقد ذهب أثرهما، وَبَاب زويلة الْآن هُوَ بَاب الْأَفْضَل أَمِير الجيوش؛ لِأَن [بَاب زويلة سمى على اسْم بَابي زويلة، فَهَذَا تَفْسِير مَا قُلْنَاهُ: دَاخل بَاب زويلة فِي قَول، وخارج بَابي زويلة فِي قَول]-. [و] كَانَ [الْملك] المظفر ذَا شكالة حَسَنَة، ومنظر بهى، إِلَّا أَنه كَانَ بِعَيْنيهِ حول فَاحش. وَحصل لَهُ ذَلِك عِنْدَمَا أجلسوه على تخت الْملك؛ [لِأَنَّهُ لما أَجْلِس على تخت الْملك] استوحش لمرضعته؛ فَبكى؛ فطلبت؛ وأقعدت بجانبه؛ فَسكت، ثمَّ دقَّتْ الكوسات على حِين غَفلَة؛ فارتعب من ذَلِك وَحصل لَهُ مَا حصل.

[قلت] : أفادته السلطنة الْحول والسجن إِلَى أَن مَاتَ. كل ذَلِك من [سوء] تَدْبِير وَالِده، حَيْثُ جعل الْعَهْد فِي مثل هَذَا الطِّفْل الصَّغِير. - وَهُوَ أحد من نَازع [ابْن] أستاذه [الْملك النَّاصِر فرج] فِي الْملك، وَهُوَ هُوَ [والمجازاة من جنس الْعَمَل] ، إنتهى -.

الملك الظاهر

الْملك الظَّاهِر سيف الدّين [أَبُو الْفَتْح] ، ططر الظَّاهِرِيّ. تسلطن بعد خلع الْملك المظفر أَحْمد بن شيخ فِي يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع عشْرين شعْبَان سنة أَربع وَعشْرين وَثَمَانمِائَة. وَهُوَ [السُّلْطَان] الثَّلَاثُونَ من مُلُوك التّرْك وَأَوْلَادهمْ [بالديار المصرية. وَالسَّادِس من الجراكسة وَأَوْلَادهمْ] . وَأَصله من [صغَار] مماليك الظَّاهِر برقوق، وَأعْتقهُ، وَجعله من جملَة المماليك السُّلْطَانِيَّة. ثمَّ انْضَمَّ على جكم من عوض نَائِب حلب بعد موت الظَّاهِر، وَصَارَ من أَصْحَابه، ثمَّ انْضَمَّ على [الأميرين] شيخ ونوروز، ودام مَعَهُمَا، إِلَى أَن قتل [الْملك] النَّاصِر، صَار من جملَة [أُمَرَاء العشرات] ، ثمَّ صَار أَمِير طبلخاناة، ثمَّ [أَمِير مائَة و] مقدم ألف. كل ذَلِك فِي الدولة المؤيدية [شيخ] ، ثمَّ صَار رَأس نوبَة النوب، ثمَّ أَمِير مجْلِس.

وَمَات الْمُؤَيد وَهُوَ على ذَلِك. وَكَانَ الأتابك ألطنبغا القرمشي - وَهُوَ غَائِب بالبلاد الشامية مَعَ عدَّة أُمَرَاء - وأمير سلَاح قجقار القردمي. [فَلَمَّا مَاتَ الْمُؤَيد وطلعت الْأُمَرَاء لمواراته، قبض ططر على قجقار القردمي أَمِير سلَاح] وحبسه؛ لعظم شوكته من أَبنَاء جنسه الجراكسة؛ لِأَن قجقار [القردمي] كَانَ تركي الْجِنْس؛ فاستبد ططر بعد قَبضه بِأُمُور المملكة؛ وَصَارَ مُدبر مملكة المظفر. [وَبِهَذَا الطَّرِيق] دخل من بَاب أوصله إِلَى قَصده. وَمَعَ هَذَا كُله، لم يتهن بِالْملكِ، وأدركته منيته - حَسْبَمَا نذكرهُ -. وَلما صَار ططر مُدبر مملكة [الْملك] المظفر أَخذ فِي تألف قُلُوب المماليك المؤيدية؛ فَأحْسن إِلَيْهِم الأحسان الْبَالِغ، وَصَارَ [يطاوعهم فِيمَا يروموه وَفِيمَا أَرَادوا] من سَائِر الْأَشْيَاء، وَهُوَ مَعَ ذَلِك ينشئ خجداشيته من الظَّاهِرِيَّة، ويبرم أمره مَعَهم فِي الْبَاطِن. هَذَا، والمؤيدية فِيمَا هم فِيهِ من أَخذ الإمريات والوظائف والفتك فِي الدولة؛ فَمنهمْ من صَار دوداراً كَبِيرا من إمرة عشرَة دفْعَة وَاحِدَة [وَغير ذَلِك] ، وَهُوَ على باى المؤيدي، وَكَذَلِكَ تغرى بردى أَخُو قصروه صَار أَمِير آخورا كَبِيرا من إمرة عشرَة دفْعَة وَاحِدَة [وَغَيرهمَا] .

وَلَا يسع ططر إِلَّا أَنه يَدُور مَعَهم حَيْثُمَا داروا، إِلَى أَن يتم لَهُ مَا أبرمه. وَاسْتمرّ على ذَلِك حَتَّى خرج بالمظفر [من مصر] إِلَى الْبِلَاد الشامية، وَقتل [ألطنبغا] القرمشي [الأتابك] وجقمق نَائِب الشَّام وَغَيرهمَا. وَهَان عَلَيْهِ أَخذ المؤيدية، وساعده فِي ذَلِك مجئ جمَاعَة من خجداشيته من بِلَاد الشرق مِمَّن كَانَ هرب من الْمُؤَيد فِي وقْعَة قانى باى [نَائِب الشَّام] ؛ فقوي أمره مَعَ مَا زَاد [من] [أَمر] المؤيدية عَلَيْهِ من الإلحاح فِي الطّلب والوثوب على الْوَظَائِف السّنيَّة؛ فأجمع رَأْيه على مسكهم؛ فَقبض عَلَيْهِم فِي يَوْم وَاحِد، وَحبس غالبهم بالبلاد الشامية، وَفرق إقطاعاتهم ووظائفهم على خجداشيته الظَّاهِرِيَّة بعد أَن تسلطن. وَلما مسك [هَؤُلَاءِ] المؤيدية صفا [لَهُ] الْوَقْت [وتسلطن حَسْبَمَا ذَكرْنَاهُ] ، ولقب [بِالْملكِ الظَّاهِر] [ططر] ، على لقب أستاذه [الظَّاهِر] برقوق.

وَكَانَت سلطنته بقلعة دمشق، ثمَّ سَار مِنْهَا بعد أَيَّام يُرِيد الْقَاهِرَة؛ فَمَرض فِي أثْنَاء الطَّرِيق، وَصَارَ يتعلل، إِلَى أَن وصل إِلَى الديار المصرية ودخلها [رَاكِبًا] ، وَحضر عدَّة مواكب، ثمَّ لزم الْفراش، إِلَى أَن مَاتَ فِي يَوْم الْأَحَد رَابِع ذِي الْحجَّة [من] سنة أَربع وَعشْرين وَثَمَانمِائَة، وَله نَحْو خمسين سنة. وَدفن من يَوْمه بالقرافة بجوار اللَّيْث بن سعد - رَحْمَة الله عَلَيْهِ -؛ فَكَانَت مُدَّة ملكه بِالشَّام ومصر أَرْبَعَة وَتِسْعين يَوْمًا لاغير، حمل فِيهَا نَفسه مَا حسابه على الله [تَعَالَى] ، ومهد [لغيره] . وعهد لوَلَده الْملك الصَّالح مُحَمَّد بِالْملكِ من بعده، وَجعل الأتابك جَانِبك الصُّوفِي مُدبر ملكه - حَسْبَمَا يَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى -.

الملك الصالح

الْملك الصَّالح مُحَمَّد ابْن [الْملك الظَّاهِر] ططر [الظَّاهِرِيّ] . وَهُوَ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ من مُلُوك التّرْك، وَالسَّابِع من الجراكسة. تسلطن بعد موت أَبِيه الظَّاهِر ططر فِي يَوْم الْأَحَد رَابِع ذِي الْحجَّة سنة أَربع وَعشْرين وَثَمَانمِائَة، وعمره نَحْو عشر سِنِين [تخمينا] . وَهُوَ رَابِع سُلْطَان حكم مصر فِي سنة أَربع وَعشْرين. وَلما اسْتَقر فِي السلطنة صَار الأتابك جَانِبك الصُّوفِي مُدبر مَمْلَكَته؛ فَلم يتم [لَهُ] ذَلِك، وَوَقع بَينه وَبَين الأميرين برسباى الدقماقى الدوادار الْكَبِير وطرباى الظَّاهِرِيّ حَاجِب الْحجاب، وثارت الْفِتْنَة بَينهم فِي يَوْم عيد النَّحْر، وخذل جَانِبك الصُّوفِي جمَاعَة من الْأُمَرَاء؛ مُوَافقَة لبرسباى وطرباى. وَآل الْأَمر إِلَى الْقَبْض على جَانِبك الصُّوفِي [الْمَذْكُور] ، وحبسه بسجن الأسكندرية. وَصَارَ الْمُتَكَلّم فِي المملكة برسباى [الدقماقي] ويشاركه [فِي ذَلِك خجداشه] طرباى؛ فَلم يطلّ ذَلِك، وَوَقع بَينهمَا أَيْضا وَحْشَة. وَكثر الْكَلَام فِي أَمرهمَا، إِلَى أَن استفحل أَمر برسباى، وَقبض على طرباى [الْمَذْكُور] وحبسه بسجن الأسكندرية أَيْضا.

واستبد بِأُمُور المملكة [برسباى] من غير مشارك، إِلَى أَن [قبض على الصَّالح وخلعه] من الْملك وتسلطن عوضه -[حَسْبَمَا يَأْتِي ذكره فِي مَحَله، إِن شَاءَ الله تَعَالَى]-. وَكَانَ خلع [الْملك] الصَّالح [الْمَذْكُور] فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثامن شهر ربيع الآخر [من] سنة خمس وَعشْرين وَثَمَانمِائَة. وَكَانَت مُدَّة سلطنته ثَلَاثَة أشهر وَأَرْبَعَة عشر يَوْمًا، لم يكن لَهُ فِيهَا إِلَّا مُجَرّد الأسم فَقَط. وَلما خلع [الْملك] الصَّالح من السلطنة اسْتمرّ عِنْد والدته خوند بنت سودون الْفَقِيه بالدور السُّلْطَانِيَّة بقلعة الْجَبَل من غير ترسيم وَلَا تحفظ، بل كَانَ يتَوَجَّه حَيْثُ شَاءَ من قلعة الْجَبَل كعادة الصغار [من] أَوْلَاد الأسياد. وَأغْرب من ذَلِك أَنه كَانَ يركب فِي بعض الأحيان فِي خدمَة الْمقَام الناصري مُحَمَّد ابْن [الْملك] الْأَشْرَف برسباى، وَينزل إِلَى الْقَاهِرَة، ويسير على ميمنته كآحاد أَوْلَاد الْأُمَرَاء الَّذين بخدمته.

وَرُبمَا نَام [فِي] بعض اللَّيَالِي بِالْمَدْرَسَةِ الأشرفية [بِالْقَاهِرَةِ لما توفيت زَوْجَة [الْملك] الْأَشْرَف برسباى، ودفنت بقبة الأشرفية] [الْمَذْكُورَة] . وَكَانَ [الْملك] الصَّالح مقاربني فِي السن، وَكَانَ عِنْده نوع بله، مَعَ خفَّة وطيش، وَيَقَع لَهُ فِي كَلَامه أُمُور مِنْهَا: أَنه كَانَ يُسمى الْفرس [البوز: أَبيض] ؛ فَكَلمهُ بعض مربيه فِي ذَلِك، وَأمره أَن يُسَمِّيه: بوز؛ فحفظ ذَلِك، وَصَارَ يَقُوله. فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الْأَيَّام طلب سلطانية صيني؛ فَقيل لَهُ: أَي لون تريده من الصيني؟ فَقَالَ سلطانية بوز {} . فنهره بعض من حضر؛ فَقَالَ: لالتى عَلمنِي كَذَا. وَله أَشْيَاء كَثِيرَة من ذَلِك [النمط] . وَلما كبر زوجه الْملك الْأَشْرَف بنت الأتابك يشبك الْأَعْرَج. واستمرت عِنْده، إِلَى أَن مَاتَ بالطاعون بقلعة الْجَبَل فِي لَيْلَة الْخَمِيس ثَانِي عشْرين جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة، وعمره نَحْو الْعشْرُونَ سنة - رَحمَه الله [تَعَالَى]-.

الملك الأشرف

الْملك الْأَشْرَف سيف الدّين أَبُو النَّصْر، برسباى الدقماقي الظَّاهِرِيّ. تسلطن بعد خلع [الْملك] الصَّالح مُحَمَّد فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثامن عشر [شهر] ربيع الآخر سنة خمس وَعشْرين وَثَمَانمِائَة. وَهُوَ [السُّلْطَان] الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ من مُلُوك التّرْك بديار مصر، وَالثَّامِن من الجراكسة وَأَوْلَادهمْ. أَخذ من بِلَاد الجاركس وأبيع بِبِلَاد القرم لبَعض التُّجَّار؛ فجلبه التَّاجِر [الْمَذْكُور] إِلَى جِهَة الشَّام؛ فابتاعه مِنْهُ [الْأَمِير] دقماق المحمدي الظَّاهِرِيّ نَائِب ملطية. ثمَّ قدمه الْأَمِير دقماق إِلَى [أستاذه] الْملك برقوق فِي جملَة مماليك - ذكرنَا سَبَب تقدمته فِي [تَرْجَمته من] تاريخنا ((النُّجُوم الزاهرة)) ، [وَغَيره بأطول من هَذَا]-.

وَلما أَخذه [الْملك] الظَّاهِر برقوق جعله من جملَة مماليك الأطباق - بطبقة الزمامية - أنيا لجاركس القاسمي المصارع. ثمَّ أعْتقهُ قبل مَوته بِمدَّة يسيرَة، ثمَّ ترقى فِي الدولة الناصرية [فرج] ، [إِلَى أَن] صَار ساقيا، ثمَّ انضاف إِلَى [الأميرين] شيخ ونوروز. وَبَقِي مَعَهم فِي [تِلْكَ الْفِتَن] ، إِلَى أَن ملك [الْملك] الْمُؤَيد [شيخ] الديار المصرية أمره عشرَة، ثمَّ طبلخاناه، ثمَّ تقدمة ألف، ثمَّ ولاه نِيَابَة طرابلس بعد عزل [الْأَمِير] بردبك عَنْهَا فِي ثَالِث عشْرين [شهر] ربيع الْأُخَر سنة إِحْدَى وَعشْرين وَثَمَانمِائَة؛ فَلم تطل مدَّته بطرابلس، وعزل [عَنْهَا] ، وَأمْسك، وَحبس بسجن المرقب مُدَّة، ثمَّ أطلق، وأنعم عَلَيْهِ [بإمرة مائَة] بتقدمة ألف بِدِمَشْق؛ فدام بهَا، إِلَى أَن قبض عَلَيْهِ [الْأَمِير] جقمق [الأرغون شاوى] نَائِب الشَّام عِنْد خُرُوجه عَن الطَّاعَة بعد موت [الْملك] الْمُؤَيد [شيخ] ؛ فدام فِي السجْن، إِلَى أَن أطلقهُ الأتابك ألطنبغا القرمشي.

فَلَمَّا آل الْأَمر إِلَى [الْملك] الظَّاهِر ططر رقاه، وأنعم عَلَيْهِ بتقدمة ألف بالديار المصرية، وَجعله دوادار كَبِيرا بعد مسك [الْأَمِير] على باى المؤيدي. وَاسْتمرّ على ذَلِك، إِلَى أَن مَاتَ ططر، وَوَقع لَهُ مَا ذَكرْنَاهُ فِي تَرْجَمَة الْملك الصَّالح مُحَمَّد بن ططر، إِلَى أَن تسلطن، وَتمّ أمره. وَلما تسلطن الْملك الْأَشْرَف [هَذَا] فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء الْمُقدم ذكره، وَأصْبح [فِي] يَوْم الْخَمِيس [ثَانِيه] أَخْلَع على الْأُمَرَاء [وَغَيرهم] ؛ فَكَانَ مِمَّن خلع عَلَيْهِ من الْأُمَرَاء الأتابك بيبغا المظفري باستقراره أتابكا. وأخلع على الْأَمِير قجق باستقراره أَمِير سلَاح، وعَلى آقبغا التمرازي أَمِير مجْلِس، وعَلى سودون من عبد الرَّحْمَن دوادارا كَبِيرا، وعَلى قصروه من تمراز أَمِير آخوراً كَبِيرا، وعَلى الْأَمِير جقمق العلائي حَاجِب الْحجاب، وعَلى أزبك المحمدي رَأس نوبَة النوب. ثمَّ فِي يَوْم الثُّلَاثَاء أَخْلَع على الْأَمِير تنبك [العلائي] ميق باستقراره على نِيَابَة الشَّام، وَتوجه من يَوْمه إِلَى مَحل كفَالَته. وَاسْتمرّ الْملك الْأَشْرَف فِي السلطنة سِنِين كَثِيرَة، وطالت أَيَّامه وَحسنت.

وغزا عدَّة غزوات، جهز فِيهَا العساكر المصرية والشامية، إِلَى أَن افْتتح مَدِينَة قبرس، وَأسر ملكهَا فِي سنة تسع وَعشْرين [وَثَمَانمِائَة] ، وَهُوَ لم يَتَحَرَّك من قلعة الْجَبَل. ثمَّ سَافر إِلَى جِهَة ديار بكر بالعساكر فِي [سنة] سِتّ وَثَلَاثِينَ، وَحصر آمد، ثمَّ عَاد إِلَى الديار المصرية، ودام بهَا، إِلَى أَن توفّي بعد مرض طَوِيل فِي يَوْم السبت الثَّالِث عشر من ذِي الْحجَّة من سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة، وَدفن من يَوْمه قبل الْغُرُوب بتربته الَّتِي أَنْشَأَهَا بالصحراء خَارج الْقَاهِرَة. وتسلطن من بعده وَلَده الْملك الْعَزِيز يُوسُف بِعَهْد مِنْهُ إِلَيْهِ. وَكَانَ الْملك الْأَشْرَف رجلا طَويلا رشيقا، أَبيض اللِّحْيَة، صبيح الشكل، عَاقِلا مُدبرا، سيوسا جَلِيلًا، ذَا وقار وسكينة وَحُرْمَة ومهابة، ولين جَانب وتواضع. وَكَانَ متجملا فِي مركبه [وملبسه] [وحاشيته] ومماليكه، وَكَانَ محبا لجمع الْأَمْوَال. وَخلف فِي الخزانة من [الْأَمْوَال و] الْأَمْتِعَة والأقمشة شَيْئا كثيرا -[لَا يعد وَلَا ينْحَصر]-. وزادت مماليكه المشتروات على ألفي مَمْلُوك، [بل] قَرِيبا من ثَلَاثَة آلَاف. وَعمر الْمدرسَة الأشرفية بِالْقَاهِرَةِ، وأوقف عَلَيْهَا أوقافا كَثِيرَة.

وَعمر أَيْضا جَامعا بخانقاة سرياقوس، ووقف عَلَيْهِ [أَيْضا] عدَّة أوقاف. وَفتحت على يَدَيْهِ مَدِينَة قبرس وَأسر ملكهَا - حَسْبَمَا تقدم ذكره -. [وَهَذَا لم يَقع لملك من مُلُوك التّرْك غَيره. وطالت أَيَّامه وَحسنت. وَمَعَ طول مكثه فِي السلطنة لم يتجرد إِلَّا مرّة وَاحِدَة، وَهِي سفرة آمد. وَبِالْجُمْلَةِ، إِنَّه كَانَ لَا بَأْس بِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيره - رَحمَه الله تَعَالَى -] وَكَانَت مُدَّة سلطنته سِتَّة عشر سنة وَثَمَانِية أشهر وَسِتَّة أَيَّام [- رَحمَه الله -] .

الملك العزيز

الْملك الْعَزِيز جمال الدّين أَبُو المحاسن، يُوسُف [بن الْملك الْأَشْرَف] . تسلطن بعد موت أَبِيه فِي آخر يَوْم السبت الثَّالِث عشر من ذِي الْحجَّة [الْحَرَام] سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة بِعَهْد من أَبِيه. وَهُوَ [السُّلْطَان] الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ من مُلُوك التّرْك وَأَوْلَادهمْ، وَالتَّاسِع من الجراكسة. وَأمه أم ولد جاركسية تسمى: جلبان [تزَوجهَا أَبوهُ بعد مولده] . وتسلطن وعمره أَرْبَعَة عشر سنة وأشهرا [تخمينا. وَتمّ أمره فِي السلطنة] ، وَصَارَ الأتابك جقمق العلائي مُدبر مَمْلَكَته؛ فَخَالف عَلَيْهِ جمَاعَة من مماليك [أَبِيه] ، وصاروا يشاركونه فِي تَدْبِير الْملك، والأتابك جقمق سَامِعًا ومطيعا، إِلَى أَن وَقع الْخلف بَينهم، وانضم [أحد] جمَاعَة [مِنْهُم] على الأتابك جقمق، وندبوه إِلَى الْقيام بنصرتهم على خجداشيتهم الْمَذْكُورين؛ فوافقهم على ذَلِك. ثمَّ انْضَمَّ على الأتابك جمَاعَة [أخر] من المؤيدية؛ والناصرية؛ والسيفية؛ فَقَوِيت شوكته بهؤلاء.

ولازال أمره يَنْمُو والأقدار تساعده، إِلَى أَن خلع [الْملك] الْعَزِيز [هَذَا] وتسلطن [هُوَ] بعد أُمُور حكيناها [مفصلة] [فِي غير] [هَذَا الْموضع] من مصنفاتنا. وَكَانَ خلع الْملك الْعَزِيز فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء تَاسِع عشر شهر ربيع الأول سنة إثنتين وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة. فَكَانَت مُدَّة مَمْلَكَته [نَحْو من] خَمْسَة وَتِسْعين يَوْمًا [لم يكن لَهُ فِيهَا إِلَّا مُجَرّد الأسم فَقَط] . وَلما خلع الْملك الْعَزِيز أحتفظ بِهِ بقلعة الْجَبَل؛ ثمَّ رسم لَهُ بِالسُّكْنَى بقاعة البربرية بالدور السطانية بقلعة الْجَبَل؛ فسكنها، إِلَى أَن تسحب مِنْهَا وَنزل إِلَى الْقَاهِرَة واختفى أَيَّامًا. ثمَّ ظفر بِهِ الْملك الظَّاهِر [بِهِ] ، وحبسه بقلعة الْجَبَل أَيَّامًا، ثمَّ أخرجه إِلَى الأسكندرية؛ فسجن بهَا إِلَى [يَوْمنَا هَذَا]-[أحسن الله عاقبته]-.

الملك الظاهر

الْملك الظَّاهِر [سيف الدّين] أَبُو سعيد جقمق العلائي الظَّاهِرِيّ. السلطن الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ من مُلُوك التّرْك، والعاشر من الجراكسة. تسلطن يَوْم خلع [الْملك] الْعَزِيز يُوسُف، وَهُوَ يَوْم الْأَرْبَعَاء تَاسِع عشر شهر ربيع الأول سنة إثنتين وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة، على مضى سبع عشرَة دَرَجَة من النَّهَار، والطالع برج الْمِيزَان [بِعشر دَرَجَات وَخمْس وَعشْرين دقيقة. وَكَانَت الشَّمْس] فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من السنبلة، وَالْقَمَر من الْعَاشِر من الجوزاء [وزحل فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من الْحمل، وَالْمُشْتَرِي فِي السَّابِع عشر من الْقوس، والمريخ فِي الْخَامِس من الْمِيزَان، والزهرة فِي الْحَادِي عشر من الْأسد، وَعُطَارِد فِي الرَّابِع عشر من السنبلة، وَالرَّأْس فِي الثَّانِي من الْمِيزَان] . وَجلسَ على سَرِير الْملك، وَتمّ أمره. وَأصْبح من الْغَد [فِي] يَوْم الْخَمِيس أَخْلَع على جمَاعَة من الْأُمَرَاء وَغَيرهم؛ فاستقر بالأمير قرقماس الشَّعْبَانِي أتابكا -[عوضا عَن نَفسه]- وبالأمير آقبغا التمرازى

أَمِير سلَاح - عوضا عَن قرقمس [الْمَذْكُور]-، وبالأمير يشبك السودوني [المشد] أَمِير مجْلِس - عوضا عَن آقبغا التمرازى -، وبالأمير تمراز القرمشي أَمِير آخور كَبِيرا - عوضا عَن جانم الأشرفي [بِحكم حَبسه]-، وبالأمير قراقجا الحسني رَأس نوبَة النوب - عوضا عَن عمراز القرمشي - وبالأمير تغرى بردى البكلمشي المؤذي حَاجِب الْحجاب - عوضا عَن يشبك السودوني -. وأخلع على أركماس الظَّاهِرِيّ باستمراره على وظيفته الدوادارية الْكُبْرَى. ثمَّ أنعم على جمَاعَة أخر بعدة تقادم وطبلخانات وعشرات وإقطاعات كَثِيرَة [ذكرنَا غالبها فِي تَرْجَمته فِي تاريخنا ((النُّجُوم الزاهرة)) وَغَيره] . ثمَّ شرع فِي نَفَقَة المماليك السُّلْطَانِيَّة؛ فَأعْطى لكل وَاحِد مائَة دِينَار. ثمَّ فِي أثْنَاء ذَلِك خرج الْأَمِير قرقماس عَن طَاعَته؛ فواقعه [الْملك] الظَّاهِر [الْمَذْكُور] ؛ فَانْهَزَمَ قرقماس، واختفى، ثمَّ ظفر بِهِ، وسجن بثغر الأسكندرية، ثمَّ ضربت رقبته.

ثمَّ خرج من طَاعَته تغرى برمش نَائِب حلب، ثمَّ أينال الجكمي نَائِب الشَّام؛ فَجهز إِلَيْهِمَا العساكر؛ فقاتلوهما وَاحِدًا بعد وَاحِد، وظفر بهما وقتلهما. [وَقد ذكرنَا هَذَا كُله مفصلا مطولا فِي أوراق كَثِيرَة يضيق هَذَا الْمُخْتَصر عَن إِيرَاد شَيْء مِنْهَا] . وَبعد قتل هَؤُلَاءِ صفا الْوَقْت للْملك الظَّاهِر، وَأخذ وَأعْطى، وَقرب أَقْوَامًا وَأبْعد آخَرين. وَلم يزل فِي ملكه والأقدار تساعده، إِلَى أَن مرض فِي [أثْنَاء] سنة سِتّ وَخمسين [وَثَمَانمِائَة] . وَتَمَادَى بِهِ الْمَرَض أشهرا، إِلَى أَن خلع نَفسه من الْملك فِي يَوْم الْخَمِيس حادي عشْرين الْمحرم سنة سبع وَخمسين وَثَمَانمِائَة، [وفوض الْملك لوَلَده] الْملك الْمَنْصُور [أَبُو السعادات] عُثْمَان. وَلزِمَ الْملك الظَّاهِر الْفراش، إِلَى أَن مَاتَ فِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء رَابِع صفر [من] سنة سبع وَخمسين وَثَمَانمِائَة، وَصلى عَلَيْهِ الْخَلِيفَة الْقَائِم بِأَمْر الله حَمْزَة [بِبَاب الْقلَّة من قلعة الْجَبَل من الْغَد] ، وَحضر وَلَده الْملك الْمَنْصُور عُثْمَان الصَّلَاة عَلَيْهِ.

[وَكَانَت جنَازَته مَشْهُودَة] [من غير هوج وَلَا غوغاء، بِخِلَاف جنائز الْمُلُوك؛ وَذَلِكَ لطمأنينة النَّاس بسلطنة وَلَده قبل تَارِيخه] . وَدفن بتربة أَخِيه [الْأَمِير] جاركس القاسمي المصارع الَّتِي جددها مَمْلُوكه قاناى باى الجركسي تجاه القلعة بِالْقربِ من دَار الضِّيَافَة. وَكَانَ [الْملك] الظَّاهِر ملكا دينا، خيرا [عفيفا] ، كَرِيمًا، متواضعا، محبا للفقهاء وَالْعُلَمَاء والصلحاء [والأيتام] ، (غير أَنه كَانَ يَقع مِنْهُ فِي بعض الأحيان اخراق بِبَعْض من هُوَ متلبس بأخلاق الْفُقَهَاء وَكَانَ ذَلِك - غالبه - من وسائط السوء؛ لِأَنَّهُ كَانَ على قَاعِدَة الأتراك، عِنْده الدَّعْوَى لمن سبق، مَعَ حِدة كَانَت فِيهِ وبادرة. وَبِالْجُمْلَةِ، كَانَت محاسنه وَكَرمه أَكثر من مساوئه [كَمَا قيل] : (وَمن ذَا الَّذِي ترْضى سجاياه كلهَا ... كفى الْمَرْء فخرا أَن تعد معايبه) وَكَانَ - رَحمَه الله - عفيفا عَن الْمُنْكَرَات والفروج، بِحَيْثُ أَنه لَا نعلم من ملك مصر قبله وَلَا بعده من مُلُوك التّرْك - بل وَلَا غَيرهَا - أعف مِنْهُ، وَأَنا أَدْرِي مَا أَقُول. وَكَانَت صفته: للقصر أقرب، حسن الشكل، منور الشيبة) .

[وَكَانَ] فصيح اللِّسَان، فَاضلا متفقها، يذاكر بالمسائل [الْفِقْهِيَّة] ، كثير التعصب لمَذْهَب الإِمَام [الْأَعْظَم] أبي حنيفَة - رَضِي الله عَنهُ -. وَمَات وسنه نَحْو ثَمَانِينَ سنة. وَكَانَت مُدَّة سلطنته [على مصر] أَربع عشرَة سنة وَعشرَة أشهر ويومان -[أَعنِي من يَوْم تسلطن إِلَى يَوْم خلع بإبنه الْمَنْصُور عُثْمَان]-. وعاش بعد خلعه [من السلطنة] نَحْو إثنا عشر يَوْمًا. وَأما أَصله: كَانَ جاركسي [الْجِنْس] جلبه خواجا كزل إِلَى مصر، فابتاعه مِنْهُ العلائي على بن الأتابك أينال اليوسفي، ثمَّ انْتقل مِنْهُ إِلَى [الْملك] الظَّاهِر برقوق، وَصَارَ من جملَة الخاصكية، ثمَّ صَار ساقيا فِي الدولة الناصرية فرج، ثمَّ إمرة عشرَة، ثمَّ أمسك، وَحبس، ثمَّ أطلق، ثمَّ صَار أَمِير طبلخاناه وخازندار فِي الدولة المؤيدية [شيخ] ، ثمَّ صَار بعد

موت الْمُؤَيد [أَمِير مائَة] ومقدم ألف، ثمَّ صَار فِي الدولة الأشرفية حَاجِب الْحجاب، ثمَّ أَمِير آخور [كَبِير] ، ثمَّ أَمِير سلَاح، ثمَّ أتابك، إِلَى أَن تسلطن -[وَقد ذكرنَا تنقلاته فِي هَذِه الْوَظَائِف محررا بِالْيَوْمِ وَالْوَقْت، وَعَمن أَخذ كل وَظِيفَة من إبتداء أمره إِلَى إنتهائه فِي تاريخنا ((النُّجُوم الزاهرة)) ، وَأَيْضًا فِي مصنفنا ((المنهل الصافي)) بأوسع من هَذَا؛ فَلْينْظر هُنَاكَ. إنتهى]-. وتسلطن [من] بعده وَلَده الْمَنْصُور [عُثْمَان - حَسْبَمَا يَأْتِي ذكره] ، [إِن شَاءَ الله تَعَالَى]-.

الملك المنصور

الْملك الْمَنْصُور أَبُو السعادات فَخر الدّين، عُثْمَان [بن الْملك الظَّاهِر] . تسلطن بعد أَن خلع أَبوهُ نَفسه فِي يَوْم الْخَمِيس حادي عشْرين الْمحرم سنة سبع وَخمسين وَثَمَانمِائَة. وَهُوَ [السُّلْطَان] الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ من مُلُوك التّرْك وَأَوْلَادهمْ، وَالْحَادِي عشر من الجراكسة وَأَوْلَادهمْ. وَأمه أم ولد رُومِية. وتسلطن وسنه دون الْعشْرين [سنة] . وَركب بشعار السلطنة من قاعة الدهيشة عِنْد اقتسام السَّاعَة الثَّانِيَة من النَّهَار [الْمَذْكُور] . وَكَانَ الطالع [إِذْ ذَاك برج] الْحُوت، وَالْغَارِب [برج] السنبلة، والمتوسط [برج] الْقوس، والساعة للمريخ، وَالْقَمَر بِالْوَجْهِ الثَّالِث من [برج] الْعَقْرَب. وَحمل الْأَمِير [الْكَبِير] أينال العلائي الْقبَّة وَالطير على رَأسه، ودقت الكوسات. وَتمّ أمره فِي السلطنة، وَجلسَ على تخت الْملك بِالْقصرِ من قلعة الْجَبَل.

ثمَّ عَاد إِلَى سكنه بالحوش السلطاني من يَوْمه؛ مُرَاعَاة لحياة أَبِيه، ثمَّ بَاشر أُمُور المملكة بِنَفسِهِ، إِلَى أَن توفى وَالِده. وَوَقعت الْفِتْنَة بَينه وَبَين الأتابك أينال مَعَ من وَافقه من الْأُمَرَاء على ذَلِك، وَوَقع أُمُور ذَكرنَاهَا مبسوطة فِي غير هَذَا الْمحل. وَكَانَ ابْتِدَاء الْفِتْنَة بَينهمَا من يَوْم الأثنين مستهل شهر ربيع الأول [من] سنة سبع وَخمسين [الْمَذْكُورَة] . ودام الْقِتَال بَين الْفَرِيقَيْنِ فِي كل يَوْم. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة خَامِس الشَّهْر اجْتمعت الْقُضَاة عِنْد الأتابك أينال بِبَيْت قوصون حَيْثُ كَانَ جُلُوسه أَيَّام الْقِتَال، وَاتَّفَقُوا جَمِيعًا على خلع [الْملك] الْمَنْصُور عُثْمَان [هَذَا] من السلطنة؛ فَخلع، وبويع الأتابك أينال بِاللَّفْظِ لَا بِالْجُلُوسِ على [تخت الْملك] ، وَنُودِيَ بذلك فِي شوارع الْقَاهِرَة. وَاسْتمرّ الْقِتَال بَين الطَّائِفَتَيْنِ فِي كل [يَوْم] ، إِلَى أَن ملك الأتابك أينال [القلعة بِمن مَعَه - قلعة الْجَبَل -] فِي يَوْم الْأَحَد قبيل الْعَصْر، وطلع الأتابك [فِي وقته إِلَى بَاب السلسلة] ، وَملك الإصطبل السلطاني. كل ذَلِك فِي عصر يَوْم الْأَحَد سَابِع [شهر] ربيع الأول [الْمَذْكُور] .

وتسحب الْملك الْمَنْصُور من الإصطبل، وطلع إِلَى الدّور السُّلْطَانِيَّة بقلعة الْجَبَل، وَجلسَ بمَكَان، إِلَى أَن أَخذ مِنْهُ، واحتفظ بِهِ بقاعة البحرة من الحوش السلطاني، إِلَى يَوْم الْأَحَد ثامن عشْرين شهر ربيع الأول [الْمَذْكُور] حمل مُقَيّدا إِلَى ثغر الأسكندرية. وَكَانَ نُزُوله من [قلعة الْجَبَل] إِلَى الْبَحْر فِي وَقت الظّهْر من الْيَوْم الْمَذْكُور رَاكِبًا على فرس مُقَيّدا بمفرده، من غير أَن يركب خَلفه أَو جاقى على [الْعَادة، والأمراء] والخاصكية حوله بسلاح وَغير سلَاح. ونزلوا بِهِ من بَاب القرافة [ومروا بِهِ على المجراة إِلَى القرافة إِلَى الْبَحْر] وأنزلوه من وقته بالحراقة؛ فسافر من يَوْمه. وَكَانَ مسفره خير بك الْأَشْقَر المؤيدي أَمِير آخور ثَانِي وَجَمَاعَة من المماليك السُّلْطَانِيَّة، إِلَى أَن أوصلوه إِلَى الأسكندرية، وسجن بهَا إِلَى [سنة أَربع وَسِتِّينَ] .

وَلما تسلطن [الْملك] الظَّاهِر خشقدم رسم باطلاقه من السجْن، وَأذن لَهُ بِالسُّكْنَى بِبَعْض دور الأسكندرية؛ فَنزل من البرج، وَسكن بِبَعْض الدّور على أجمل وَجه، وَفعل [بِالْملكِ الْعَزِيز] كَذَلِك، ورسم لَهما [مَعًا] بالركوب [وَالنُّزُول] . وَأرْسل السُّلْطَان لَهما فرسين بقماش ذهب، ثمَّ بعد مُدَّة - عِنْد وَفَاة قانى باى الجاركسي - أنعم [الْملك] الظَّاهِر خشقدم عَلَيْهِ بإمرة عشرَة، وَجعلهَا وَقفا عَلَيْهِ وعَلى ذُريَّته مصالحة عَمَّا ينوبه من مِيرَاث عُتَقَاء وَالِده من الْأُمَرَاء، لَا من الأجناد؛ لِأَن قانى باى الجاركسي أَيْضا كَانَ يَرِثهُ الْملك الْمَنْصُور [هَذَا] ؛ لكَونه كَانَ من عُتَقَاء عَمه جاركس القاسمي المصارع.

ذكر سلطنة الملك الأشرف أينال العلائي الناصري على مصر

[ذكر سلطنة الْملك الْأَشْرَف أينال العلائي الناصري على مصر السُّلْطَان] الْملك الْأَشْرَف [سيف الدّين أَبُو النَّصْر، أينال العلائي الظَّاهِرِيّ ثمَّ الناصري] . وَهُوَ [السُّلْطَان] السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ من مُلُوك التّرْك وَأَوْلَادهمْ بالديار المصرية، وَالثَّانِي عشر من الجراكسة وَأَوْلَادهمْ. تسلطن بعد خلع [الْملك] الْمَنْصُور [عُثْمَان] فِي صَبِيحَة يَوْم الأثنين ثامن شهر ربيع الأول [من] سنة سبع وَخمسين وَثَمَانمِائَة. وأصل [الْملك] الْأَشْرَف هَذَا جاركس الْجِنْس جلبه خواجا عَلَاء الدّين إِلَى مصر؛ فَاشْتَرَاهُ [الْملك] الظَّاهِر برقوق، وَاشْترى أَيْضا أَخَاهُ طوخ -[وَكَانَ طوخ هُوَ الْأَكْبَر؛ فَأعتق طوخ]-. ودام أينال [هَذَا] فِي الرّقّ، إِلَى أَن أعْتقهُ [الْملك] النَّاصِر فرج، وَجعله فِي أَوَاخِر دولته خاصكيا.

ثمَّ تَأمر عشرَة فِي دولة المظفر أَحْمد بن شيخ فِي سنة أَربع وَعشْرين، ثمَّ جعله الْأَشْرَف برسباى أَمِير طبلخاناه وَرَأس نوبَة. ثمَّ صَار بعد قانى باى البهلوان رَأس نوبَة [ثَانِي] . ثمَّ نقل إِلَى نِيَابَة غَزَّة بعد عزل تمراز القرمشي فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثامن عشْرين شَوَّال سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة، ثمَّ نَقله الْأَشْرَف برسباى لما توجه إِلَى آمد فِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ إِلَى نِيَابَة الرها؛ فدام بهَا، إِلَى أَن عَزله [الْأَشْرَف] عَنْهَا بالأمير شاد بك الجكمى [فِي يَوْم الثُّلَاثَاء] سَابِع عشْرين شَوَّال سنة سبع وَثَلَاثِينَ. وَقدم الْأَشْرَف هَذَا إِلَى مصر، على [إمرة مائَة و] تقدمة ألف - وَكَانَت بِيَدِهِ زِيَادَة على نِيَابَة الرها -؛ فدام بِمصْر، إِلَى أَن ولاه الْملك الْأَشْرَف نِيَابَة صفد [فِي يَوْم الْخَمِيس عَاشر رَجَب سنة أَرْبَعِينَ، وَذَلِكَ بعد عزل يُونُس الركني الْأَعْوَر عَن نِيَابَة صفد] ؛ فاستمر بصفد، إِلَى أَن طلبه [الْملك] الظَّاهِر جقمق فِي سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين إِلَى مصر، وأنعم عَلَيْهِ [بامرة مائَة] وتقدمة ألف [بهَا] ؛ فَلم تطل مدَّته [حَتَّى ولاه دوادارا كَبِيرا] بعد موت تغرى بردى البكلمشي المؤذي فِي يَوْم الْخَمِيس ثَالِث عشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَأَرْبَعين، فباشر الدوادارية، إِلَى أَن نَقله [الْملك] الظَّاهِر جقمق إِلَى الأتابكية بعد موت [الأتابكي] يشبك السودوني المشد فِي سنة تسع وَأَرْبَعين [وَثَمَانمِائَة] ؛ فدام أتابكا، إِلَى أَن تسلطن بعد خلع الْملك الْمَنْصُور [عُثْمَان] . وَتمّ أمره فِي الْملك، وطالت أَيَّامه، وَحسنت، لَوْلَا [مَا شان سؤدده] أَفعَال مماليكه الأجلاب.

وَاسْتمرّ فِي الْملك، إِلَى أَن مَاتَ فِي يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشر جُمَادَى الأولى بعد أَن خلع نَفسه من الْملك بِيَوْم وَاحِد. وتسلطن وَلَده الْملك الْمُؤَيد أَحْمد، وَصلى عَلَيْهِ بِبَاب الْقلَّة، وَدفن من يَوْمه قبيل الْعَصْر بقبته الَّتِي بناها بمدرسته خَارج الْقَاهِرَة بالصحراء، وَقد ناهز الثَّمَانِينَ [من الْعُمر] . وَكَانَت صفته: للسمرة أقرب، [طوَالًا] ، وبلحيته قلَّة؛ وَلِهَذَا كَانَ يعرف بالأجرود. وَكَانَت مُدَّة ملكه ثَمَانِي سِنِين وشهرين وَسِتَّة أَيَّام. وَكَانَت أَيَّامه غرر [أَيَّام] ؛ لقلَّة ظلمه، وَعدم سفكه للدماء، ولتجاوزه عَن الذُّنُوب وَالْخَطَأ، إِلَّا أَنه لم يسلم من سؤ سيرة مماليكه، وَإِلَّا كَانَ خير مُلُوك التّرْك -[رَحمَه الله]-.

ذكر سلطنة الملك المؤيد شهاب الدين أبو الفتح أحمد بن أينال على مصر

[ذكر سلطنة] الْملك الْمُؤَيد شهَاب الدّين أَبُو الْفَتْح، أَحْمد بن أينال [على مصر] وَهُوَ [السُّلْطَان] السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ من مُلُوك التّرْك [وَأَوْلَادهمْ، وَالثَّالِث عشر من الجراكسة وَأَوْلَادهمْ] . تسلطن فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع عشر جُمَادَى الأولى، الْمُوَافق لأوّل برمهات بعد أَذَان الظّهْر، وَذَلِكَ بعد خلع الْملك الْأَشْرَف أينال نَفسه من السلطنة، وَجعل الْأَمر فِي وَلَده [هَذَا] . وَكَانَ الطالع وَقت سلطنته السرطان، وَصَاحب الطالع السنبلة [وَهُوَ الْقَمَر، وَقد ذكرنَا تَحْرِير سلطنته فِي تَارِيخ الْحَوَادِث بأطول من هَذَا، إِذْ هُوَ مَحل الإطناب فِي الْكَلَام] . وَلما تمّ أمره فِي الْملك أَخْلَع على الْأَمِير خشقدم أَمِير سلَاح باستقراره أتابك العساكر، عوضا عَن نَفسه. ثمَّ أَخذ فِي تَدْبِير أُمُور المملكة، وَعمل مصالحها، وساس النَّاس [أحسن] سياسة. وسر النَّاس بسلطنته قاطبة، وَأمنت السبل فِي أَيَّامه، وَاطْمَأَنَّ كل أحد على نَفسه وَمَاله، لاسيما لما قمع مماليك أَبِيه الأجلاب، ونهرهم عَن أفعالهم القبيحة؛ فخافوه، وانتهوا عَن أفعالهم؛ فَزَاد سرُور النَّاس بِهِ أضغاف سرورهم أَولا.

وَفرق النَّفَقَة فِي المماليك السُّلْطَانِيَّة جَمِيعهم، وَلم يفرق بَين مَمْلُوك وَلَا غير مَمْلُوك {} . وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَهُوَ أحسن مُلُوك مصر وَجها، وَمَعْرِفَة، وحذقا، وتدبيرا، وسياسة؛ إِلَّا أَنه لم يجد لَهُ معِين وَلَا منصف، بل تحاملوا عَلَيْهِ، واتفقت جَمِيع الطوائف على خلعه، من غير أَمر أوجب ذَلِك. وَمَا ذَاك، إِلَّا أَنه كثير المحاسن، أَهلا للسلطنة، والدهر لَا ينصف مثل [ذَلِك] ، وَلَا يرفع إِلَّا نَاقِصا كَمَا هِيَ عَادَته فِيمَا نرى {} . وَلَا زَالُوا يدبرون عَلَيْهِ حَتَّى خلعوه من الْملك، وسلطنوا عوضه الأتابك خشقدم. وَأقَام بعد خلعه أَيَّامًا بالقلعة، ثمَّ حمل إِلَى الأسكندرية، وَحبس بهَا، إِلَى أَن أخرجه الْملك الظَّاهِر تمربغا من السجْن، ورسم لَهُ بِالسُّكْنَى فِي أَي دَار شَاءَ بثغر الأسكندرية -[وَقد ذكرنَا أُمُوره فِي تاريخنا الْحَوَادِث مستوفاة] . وَكَانَت مُدَّة سلطنته [على مصر] أَرْبَعَة أشهر وَخَمْسَة أَيَّام، مرت كلمح الْبَصَر من حسن أَوْقَاتهَا -[وَكَانَ إنصافا من الظَّاهِر تمربغا]-.

ذكر سلطنة الملك الظاهر خشقدم على مصر السلطان الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد خشقدم الناصري المؤيدي وهو السلطان الثامن والثلاثون من ملوك الترك وأولادهم بالديار المصرية والأول من الأروام إن لم يكن أيبك التركماني والمنصور

[ذكر سلطنة الْملك الظَّاهِر خشقدم على مصر. السُّلْطَان] الْملك الظَّاهِر (سيف الدّين أَبُو سعيد، خشقدم) الناصري المؤيدي. وَهُوَ [السُّلْطَان] الثَّامِن وَالثَّلَاثُونَ من مُلُوك التّرْك وَأَوْلَادهمْ بالديار المصرية، وَالْأول من الأروام - إِن لم يكن أيبك التركماني والمنصور لاجين من الأروام -. تسلطن بعد [خلع] الْملك الْمُؤَيد أَحْمد فِي يَوْم الْأَحَد تَاسِع عشر [شهر] رَمَضَان سنة خمس وَسِتِّينَ [وَثَمَانمِائَة] بعد الزَّوَال، وَلبس خلعة السلطنة من مبيت الحراقة بالإصطبل، وَركب بأبهة الْملك، وَحمل الْقبَّة وَالطير على رَأسه الْأَمِير جرباش المحمدي أَمِير سلَاح. وَجلسَ على تخت الْملك؛ فَقبلت الْأُمَرَاء الأَرْض بَين يَدَيْهِ، وَنُودِيَ فِي الْحَال باسمه - وَقد تلقب بِالظَّاهِرِ - ودقت البشائر. ونشرع الأن فِي التَّعْرِيف بِذكرِهِ؛ فَنَقُول: أَصله رومي الْجِنْس، جلبه خواجا نَاصِر الدّين - وَبِه كَانَ يعرف بالناصري -؛ فَاشْتَرَاهُ [الْملك] الْمُؤَيد شيخ فِي سنة سِتّ عشرَة وَثَمَانمِائَة، أَو فِي أَوَاخِر الَّتِي قبلهَا - هَكَذَا ذكر لي من لَفظه -[ثمَّ أعْتقهُ] الْمُؤَيد، وَصَارَ خاصكيا فِي دولة المظفر أَحْمد بن شيخ بِوَاسِطَة أغاته تغرى بردى قريب قصروه.

ودام على ذَلِك دهرا طَويلا، إِلَى أَن تسلطن [الْملك] الظَّاهِر جقمق جعله ساقيا، ثمَّ أمره الظَّاهِر عشرَة فِي حُدُود سنة سِتّ وَأَرْبَعين، وَجعله من جملَة رُءُوس النوب؛ فاستمر على ذَلِك إِلَى سنة خمسين نَقله [الْملك] الظَّاهِر إِلَى تقدمة ألف بِدِمَشْق؛ [فدام بِدِمَشْق] إِلَى أَن تغير خاطر [الْملك] الظَّاهِر على الْأَمِير تنبك حَاجِب الْحجاب بِسَبَب عبد قَاسم الكاشف الَّذِي اشْتهر بالصلاح، وَأخرجه [إِلَى دمياط] بطالا. طلب خشقدم هَذَا من دمشق بسفارة أبي الْخَيْر النّحاس والأمير تمربغا الدوادار الثَّانِي، وأنعم عَلَيْهِ بتقدمة تنبك [الْمَذْكُور] وبحجوبية الْحجاب دفْعَة وَاحِدَة؛ وَذَلِكَ ببذل عشرَة آلَاف دِينَار - على مَا قيل - وَكَانَ ذَلِك فِي صفر سنة أَربع وَخمسين. ودام على ذَلِك، إِلَى [أَن] نَقله الْملك الْأَشْرَف أينال إِلَى إمرة سلَاح؛ فدام على ذَلِك دولة الْأَشْرَف أينال كلهَا، وسافر مقدم العساكر إِلَى بِلَاد [ابْن] قرمان. فَلَمَّا تسلطن [الْملك] الْمُؤَيد أَحْمد [بن أينال] جعله أتابك العساكر عوضا عَن نَفسه، وَذَلِكَ فِي يَوْم الْجُمُعَة سادس عشر جُمَادَى الأول سنة خمس وَسِتِّينَ، فَلم تطل أَيَّامه، وتسلطن بعد خلع الْمُؤَيد أَحْمد [الْمَذْكُور] فِي التَّارِيخ الْمُقدم ذكره.

وَلما تسلطن سر النَّاس بسلطنته، وَمَا ذَاك إِلَّا لقطع جاذرة الجلبان، وَأَيْضًا لمحاسنه؛ فَإِنَّهُ كَانَ مليح الشكل، كَبِير اللِّحْيَة أصهبها، قد شَاب أَكْثَرهَا، للطول أقرب، مَعَ رشاقة فِي قده، وهيف وحلاوة شكل، وَمَعْرِفَة بفنون الفروسية كالرمح، والنشاب، والمحمل، والكرة وَغير ذَلِك. وَفِيه حذق، وذوق، ومشاركة قَليلَة فِي علم الْقرَاءَات بِحَسب الْحَال [وَأَبْنَاء جنسه] . وَبِالْجُمْلَةِ؛ أَنه كن فِيهِ محَاسِن، لَوْلَا طمع كَانَ فِيهِ وشح، وأفعال مماليكه الأجلاب فِي الْمُسلمين، تِلْكَ الْأَفْعَال القبيحة [الَّذِي قد ذكر أَكْثَرهَا فِي تاريخنا الْحَوَادِث. و] بِهَذَا الْمُقْتَضى طلب النَّاس مَوته؛ وَزَوَال دولته. وَفَرح النَّاس بِمَوْتِهِ قاطبة، حَتَّى الْيَهُود وَالنَّصَارَى؛ فهم كَانُوا أَكثر مظْلمَة مَعَ الأجلاب من الْمُسلمين. وَلَيْسَ محبته لمماليكه الأجلاب بعجيب، وَإِنَّمَا الْعجب أَنه أَقَامَ نَحْو السنتين من سلطنته وَنحن نتحاكى مَعَه أَفعَال أجلاب الْأَشْرَف أينال، وَهُوَ أعظم حاك عَنْهُم، ثمَّ ينشئ [هُوَ] بعد ذَلِك أجلابه ويرضى بأفعالهم مَعَ عظم انكاره على من كَانَ قبلهم! . قلت: وَعظم الْملك الظَّاهِر خشقدم بِآخِرهِ، وخافه الْخَاص وَالْعَام، إِلَى أَن مرض، وَطَالَ مَرضه، [إِلَى أَن مَاتَ] [بعد ظهر يَوْم السبت] عَاشر ربيع الأول سنة إثنتين وَسبعين وَثَمَانمِائَة.

[وَكَانَت] مُدَّة سلطنته سِتّ سِنِين وَسِتَّة أشهر [بِنَقص ثَمَانِيَة] أَيَّام. وتسلطن بعده خجداشه [الأتابك يلباى الأينالى المؤيدي، ثمَّ خلع، ثمَّ تسلطن الظَّاهِر تمر بغا، ثمَّ خلع، ثمَّ تسلطن الْأَشْرَف قايتباي - كَمَا سَيَأْتِي ذكرهم - إِن شَاءَ الله تَعَالَى]-.

ذكر سلطنة الملك الظاهر أبو النصر يلباى المؤيدي على مصر

[ذكر سلطنة] الْملك الظَّاهِر أَبُو النَّصْر، يلباى المؤيدي [على مصر] . تسلطن فِي آخر نَهَار السبت - قبل الْغُرُوب بِنَحْوِ دَرَجَتَيْنِ - عَاشر شهر ربيع الأول إثنتين وَسبعين وَثَمَانمِائَة، وَذَلِكَ [فِي] نَهَار موت الظَّاهِر خشقدم. وَلم يركب بخلعة السلطنة؛ لضيق الْوَقْت، بل تسلطن وَلبس خلعة السلطنة بِالْقصرِ. ودام بِالْقصرِ، وَقبلت الْأُمَرَاء الأَرْض بَين يَدَيْهِ، وتلقب [بِالْملكِ الظَّاهِر] [كَمَا كَانَ لقب خشداشه الظَّاهِر خشقدم] . وأخلع على الْأَمِير تمربغا [الظَّاهِرِيّ أَمِير مجْلِس] بالأتابكية، [عوضا عَن نَفسه] . وَتمّ أمره فِي الْملك على أفحش [حَال] ، وأبرد حَرَكَة، وَأبْعد موقع من النُّفُوس. وَهُوَ [السُّلْطَان] التَّاسِع وَالثَّلَاثُونَ من مُلُوك مصر وَأَوْلَادهمْ، وَالرَّابِع عشر من الجراكسة وَأَوْلَادهمْ.

والتعرف بِهِ: أَنه جلبه الْأَمِير أينال ضضغ من بِلَاد الجاركس؛ فَاشْتَرَاهُ الْمُؤَيد شيخ مِنْهُ [قبل الْعشْرين وَثَمَانمِائَة] ، وَأعْتقهُ، وَصَارَ خاصكيا بعد مَوته، ثمَّ صَار ساقيا فِي دولة الظَّاهِر جقمق، ثمَّ تَأمر عشرَة، ثمَّ صَار أَمِير طبلخاناه لما مسك الْملك الْعَزِيز يُوسُف بن الْأَشْرَف برسباى، ثمَّ صَار مقدم ألف فِي دولة الْأَشْرَف أينال، ثمَّ حَاجِب الْحجاب فِي دولة الظَّاهِر خشقدم، ثمَّ أَمِير آخور، ثمَّ أَمِير كَبِير بعد موت قانم فِي سنة وَاحِد وَسبعين؛ فدام على ذَلِك، إِلَى أَن تسلطن بعد موت الظَّاهِر خشقدم. وَلما تسلطن يلباى هَذَا ضعف عَن تَدْبِير الْملك وتنفيذ الْأُمُور، وَظهر عَلَيْهِ الْعَجز فِي أَحْوَال المملكة بِحَيْثُ أَن ذَلِك ظهر لكل أحد. وَصَارَت أُمُور المملكة معذوفة بالأمير خير بك الدوادر، ثمَّ لم يكفه ذَلِك حَتَّى أمسك الْأَمِير قرقماس أَمِير سلَاح، والأمير قلمطاى [رَأس نوبَة] ، والأمير أرغون شاه أستادار الصُّحْبَة، وحبسهم بثغر الأسكندرية؛ فنفرت الْقُلُوب مِنْهُ لذَلِك أَكثر مَا كَانَ أَولا، وَعلم كل أحد أَنه لَيْسَ لَهُ فِي الْملك إِلَّا مُجَرّد الأسم فَقَط، وَأَنه من طلب مِنْهُ أمرا يَقُول لَهُ: قل لخير بك؛ [حَتَّى سمته] الْعَامَّة: ((إيش كنت أَنا؟ قل لَهُ)) . وتلاشى أمره فِي الْملك، وخيفت السبل فِي أَيَّامه، وَكَثُرت الْفِتَن بالبلاد والنواحي قبليها وبحريها.

وَلما فرق نَفَقَة المماليك السُّلْطَانِيَّة لكل وَاحِد مائَة دِينَار منع الْأُمَرَاء مِنْهَا قاطبة، وَكَذَلِكَ أَوْلَاد النَّاس والخدم والمتعممين؛ فَانْطَلَقت الألسن بالوقيعة فِيهِ، وَسَاءَتْ القالة فِي حَقه، وأبغضته النَّاس. وَزَاد شَرّ الأجلاب فِي أَيَّامه. ودام على ذَلِك، إِلَى أَن حدثته نَفسه فِي أَخذ خير بك وخجداشيته؛ فدبر تدبيرا نَاقِصا كَانَ فِيهِ تدميره وخلعه من الْملك [بِالْملكِ] لظَاهِر تمربغا فِي يَوْم السبت سَابِع جُمَادَى الأول من سنة إثنتين وَسبعين وَثَمَانمِائَة. فَكَانَت مُدَّة ملكه شَهْرَيْن إِلَّا أَرْبَعَة أَيَّام، لَيْسَ لَهُ فِيهَا إِلَّا مُجَرّد الأسم فَقَط. وَلم نعلم أحدا من أكَابِر الْمُلُوك فِي السن مِمَّن مَسّه الرّقّ خلع من السلطنة فِي أقل مُدَّة مِنْهُ، وَلَا أكبر سنا. وَبِالْجُمْلَةِ، إِنَّه كَانَ أشر مُلُوك التّرْك، وأقبحهم وَجها وأفعالا، وَكَانَت أَيَّامه أَيْضا أشر أَيَّام مَعَ قصرهَا. وَلما خلع من السلطنة حبس بقاعة البحرة، إِلَى لَيْلَة الثُّلَاثَاء عَاشر جُمَادَى الأول من السّنة الْمَذْكُورَة، حمل فِي النّيل إِلَى سجن الأسكندرية - ومسفره قانصوه اليحياوي الظَّاهِرِيّ المستقر فِي نِيَابَة الأسكندرية - عوضا عَن كسباى المؤيدي -؛ فدام فِي السجْن، إِلَى أَن مرض فِي الْعشْر الْأَخير من صفر سنة ثَلَاث وَسبعين وَثَمَانمِائَة [أَيَّامًا] ، وَمَات فِي لَيْلَة الأثنين أول شهر ربيع الأول، وَدفن بثغر الأسكندرية من الْغَد، وَقد جَاوز السّبْعين من الْعُمر.

وَكَانَ [ملكا] ضخما، رَئِيسا، وَعِنْده وقار وحشمة، مَعَ عدم معرفَة، وبخل، وَقلة تجمل فِي ملبسه ومركبه، وحاشيته ومماليكه، يقتنى من كل شَيْء أوحشه وأرخصه، جماع للأموال؛ جمع مَالا كثيرا فِي أَيَّام جنديته وإمرته، ذهب مِنْهُ غالبه بعد خلعه من السلطنة؛ فَإِنَّهُ أَخذ من خازنداره نقدة وَاحِدَة [نَحوا من خمسين] ألف دِينَار. وَهَذَا خَارِجا عَن بركه وخيوله وجماله، [وَالَّذِي] ذهب لَهُ من القماش فِي سلطنته. وَكَانَ مسعودا فِي جنديته وإمرته، إِلَى يَوْم تسلطن زَالَ سعده، وَأخذ أمره فِي إدبار، إِلَى أَن مَاتَ. أعرفهُ من أَيَّام جنديته إِلَى [أَيَّام سلطنته] . وَكَانَ يعرف بيلباى تلى - أَي مَجْنُون -.

ذكر سلطنة الملك الظاهر أبو سعيد تمربغا الظاهري على مصر وهو السلطان الذي تكمل به عدة أربعين ملكا من ملوك الترك وأولادهم بالديار المصرية والثاني من الأروام إن لم يكن المعز أيبك التركماني والملك المنصور لاجين منهم

[ذكر سلطنة] الْملك الظَّاهِر أَبُو سعيد، تمربغا الظَّاهِرِيّ [على مصر] . وَهُوَ السُّلْطَان الَّذِي تكمل بِهِ [عدَّة] أَرْبَعِينَ ملكا من مُلُوك التّرْك وَأَوْلَادهمْ بالديار المصرية، وَالثَّانِي من الأروام - إِن لم يكن الْمعز أيبك التركماني [وَالْملك] الْمَنْصُور [لاجين] مِنْهُم -. تسلطن بعد خلع الْملك الظَّاهِر يلباى - الْمُقدم ذكره - فِي باكر نَهَار السبت سَابِع جُمَادَى الأول - الْمُوَافق لثامن كيهك - سنة إثنتين وَسبعين وَثَمَانمِائَة. وَكَانَ وَقت سلطنته الثَّانِيَة من النَّهَار، والساعة للْمُشْتَرِي، والطالع الجدي [وزحل] . وَتمّ أمره فِي الْبيعَة، وتلقب [بِالْملكِ الظَّاهِر]- وَهُوَ ثَالِث ظَاهر، لقبوا وَاحِدًا بعد وَاحِد، لم يكن بَينهم غَيرهم، وَهَذَا من النَّوَادِر -. وَكَانَ لبسه لخلعة السلطنة من مبيت الحراقة بالإصطبل السلطاني، وَركب فرس النّوبَة من سلم الحراقة وَعَلِيهِ أبهة السلطنة: السوَاد الخليفتي. وَركب الْخَلِيفَة أَمَامه، ومشت الْأُمَرَاء وأعيان المملكة بَين يَدَيْهِ، وَحمل السنجق على رَأسه الْأَمِير قايتباى المحمودي الظَّاهِرِيّ رَأس نوبَة النوب، وَحمل السنجق على رَأسه إِنَّمَا هُوَ لفقد الْقبَّة وَالطير من الزردخاناه السُّلْطَانِيَّة فِي وَاقعَة يلباى.

[وَسَار الْملك الظَّاهِر فِي موكب السلطنة، إِلَى أَن طلع] من بَاب الْقصر. وَدخل إِلَى الْقصر وَجلسَ على تخت الْملك، وَقبلت الْأُمَرَاء الأَرْض بَين يَدَيْهِ، وَنُودِيَ باسمه وسلطنته بشوارع الْقَاهِرَة. وسر النَّاس بسلطنته سُرُورًا زَائِدا تشارك فِيهِ الْخَاص وَالْعَام، حَتَّى قَالَ بَعضهم: ((نعد ذَلِك من نوع الْفرج بعد الشدَّة)) ؛ وَمَا ذَلِك إِلَّا لزوَال يلباى عَنْهُم، وسلطنة هَذَا الرجل الَّذِي اجْتمعت النَّاس على عقله، ومعرفته، وفضله، وَعلمه، وَدينه، وَمَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من المحاسن [كلهَا] ، وَالْجمع بيني فنون الْعلم والفروسية والذكاء والفصاحة وَحسن اللَّفْظ فِي الْخطاب، والتؤدة فِي الْكَلَام، وَالْأَدب الزَّائِد، وطلاقة الْوَجْه، وَحسن الشكل. وَبِالْجُمْلَةِ؛ إِنَّه لم يل سلطنة مصر قَدِيما وَلَا حَدِيثا من يُشبههُ، وَلَا يُقَارِبه، وَلَا يدانيه. وَمَا أَقُول ذَلِك فِي الْأَفْضَلِيَّة وَلَا فِي الصّلاح، وَإِنَّمَا أَقُول فِي الْمعرفَة والحذق وَالْجمع لفنون السِّيَادَة [وأنواع الْكَمَال] ؛ لِأَن من محاسنه أَنه: يعْمل الْقوس بِيَدِهِ ويصنعه فِي أحسن عمل، وَكَذَلِكَ النشاب، ثمَّ يَرْمِي بهما رميا. إنتهت إِلَيْهِ فِيهِ الرِّئَاسَة على جَمِيع أهل زَمَانه، وَقس على هَذَا -[وَقد ذكرنَا من أَحْوَاله نبذة كَبِيرَة فِي تاريخنا ((النُّجُوم الزاهرة فِي ذكر مُلُوك مصر والقاهرة)) ؛ إِذْ هُوَ مَحل الاطناب فِي ذكر مُلُوك مصر، وَذَكَرْنَاهُ أَيْضا فِي تاريخنا الْحَوَادِث]-، وَلكنه مَعَ هَذِه المحاسن لم يصف لَهُ الدَّهْر وَلَا لقى معينا لرفع يَد خير بك [عَنهُ وَلَا] الأجلاب. ولازال يدافع عَن نَفسه بِمَا هُوَ الأخف وبالإحسان، إِلَى أَن وثب عَلَيْهِ خير بك [الْمَذْكُور] فِي لَيْلَة الأثنين سادس رَجَب، وَقبض عَلَيْهِ، وحبسه بالقلعة. وَسمع الأتابك قايتباى بذلك؛ فَركب فِي اللَّيْل، وَقَامَ بنصرته، إِلَى أَن انتصر على خير بك. فَلَمَّا رأى خير بك أمره تلاشى أطلق [الْملك] الظَّاهِر تمربغا، واستجار بِهِ؛ فأجاره الْملك الظَّاهِر.

وَلما تمت الْوَقْعَة وطلع الأتابك [قايتباى] إِلَى الإصطبل السلطاني حسن لَهُ أَصْحَابه الْوُثُوب على الْأَمر؛ فَامْتنعَ من ذَلِك، فَمَا زَالُوا بِهِ حَتَّى أذعن. وخلع [الْملك الظَّاهِر] تمربغا [هَذَا] وتسلطن عوضه؛ [فَكَانَ ذَلِك] فِي باكر نَهَار الأثنين سادس رَجَب من سنة إثنتين وَسبعين [الْمَذْكُورَة] . فَكَانَت مُدَّة ملكه شَهْرَيْن إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا. وَأقَام بعد خلعه بالبحرة، إِلَى لَيْلَة الْأَرْبَعَاء [ثامنه] سفر إِلَى ثغر دمياط؛ ليقيم بِهِ على أحسن وَجه، وَكَانَ سَفَره أَيْضا إِلَى دمياط فِي النّيل وَلَيْسَ مَعَه مُسْفِر من الْأُمَرَاء. [هَذ] بعد أَن أمعن السُّلْطَان فِي إكرامه واحترامه ووداعه، وَاعْتذر إِلَيْهِ عَن وثوبه [على السُّلْطَان] . وَقبل [الْملك] الظَّاهِر تمربغا عذره وشكره على [مَا] فعله مَعَه [من إكرامه لَهُ] ، وتفارقا على ذَلِك. وَبِالْجُمْلَةِ؛ إِنَّه لم يَقع لملك بعد خلعه من السلطنة من الْإِكْرَام مَا وَقع لَهُ. وَأما التَّعْرِيف بِهِ: فَهُوَ رومي الْجِنْس -[كَمَا تقدم]- من مماليك الظَّاهِر جقمق وعتقائه، رباه صَغِيرا، واختص بِهِ، ورقاه، إِلَى أَن جعله خاصكيا، ثمَّ سلَاح دَار، ثمَّ خازندار، ثمَّ دوادارا ثَانِيًا. ثمَّ صَار فِي دولة وَلَده [الْملك] الْمَنْصُور دوادارا كَبِيرا، ثمَّ امتحن بعد خلع الْمَنْصُور، وَحبس نَحْو سِتّ سِنِين، [ثمَّ أخرج إِلَى مَكَّة؛ فَأَقَامَ بهَا

زِيَادَة على سنتَيْن] ، إِلَى أَن قدم الْقَاهِرَة فِي أول دولة [الْملك] الظَّاهِر خشقدم؛ [فأنعم عَلَيْهِ] [بإمرة مائَة] وتقدمة ألف، وَجعله رَأس نوبَة [النوب] ، ثمَّ نَقله إِلَى إمرة مجْلِس، ثمَّ صَار فِي دولة الظَّاهِر يلباى أتابك العساكر، إِلَى أَن تسلطن بعد يلباى - كَمَا تقدم ذكره -. وَاسْتمرّ بثغر دمياط بخدمه وحشمه على أحسن حَال، [إِلَى أَن جَاءَهُ مُحَمَّد بن عجلَان شيخ الْعَرَب بالشرقية - كَانَ - وَأَخذه وَرَاح إِلَى غَزَّة المحروسة على أَنه يتَّفق مَعَ نواب المملكة الشامية وَغَيرهم على أَمر يَفْعَله؛ فَبلغ خَبره الْمقَام الشريف قايتباى - نَصره الله تَعَالَى - فَفِي الْحَال أرسل المراسيم الشَّرِيفَة صُحْبَة الهجانة؛ فَأَسْرعُوا إِلَى طلبه؛ فمسك بغزة المحروسة وعادو بِهِ؛ فبرز أَمر الْمقَام الشريف للأمير يشبك من مهْدي الدوادار الْكَبِير أَن يتَوَجَّه بتمربغا إِلَى الثغر السكندري؛ فامتثل ذَلِك، وَتوجه بِهِ، وَدخل من بَاب رشيد من بَين السورين إِلَى وسط دَار النَّائِب؛ فتسلمه وَأدْخلهُ البرج موثوقا بِهِ - وَكَانَ للأمير يشبك زِينَة عَظِيمَة بالأسكندرية -. ثمَّ بعد ذَلِك أنعم الْمقَام الشريف على تمربغا بِأَن يركب ويسير ويتفرج؛ فامتحن تمربغا بالصيد، والمتجر، والعمارة، إِلَى أَن جَاءَهُ هَادِم اللَّذَّات ومفرق الْجَمَاعَات وَسَقَى كأس الْحمام. وَهَذَا مَا تيَسّر من خَبره وَالسَّلَام] .

ذكر سلطنة السلطان الملك الأشرف أبو النصر قايتباى المحمودي الظاهري على مصر

[ذكر سلطنة] [السُّلْطَان] الْملك الْأَشْرَف [أَبُو النَّصْر] ، قايتباى [المحمودي] الظَّاهِرِيّ [على مصر] . وَهُوَ [السُّلْطَان] الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ من مُلُوك التّرْك وَأَوْلَادهمْ بالديار المصرية. ونسبته بالمحمودي إِلَى جالبه، وبالظاهري إِلَى مُعْتقه [الْملك] الظَّاهِر جقمق. وَهُوَ جاركسي الْجِنْس، جلبه خواجا مَحْمُود إِلَى مصر؛ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ [الْملك] الْأَشْرَف برسباى فِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ، ثمَّ نقل من بعده إِلَى [الْملك] الْملك الظَّاهِر جقمق؛ فَأعْتقهُ، وَجعله خاصكيا، ثمَّ دوادارا صَغِيرا، ثمَّ صَار أَمِير عشرَة فِي دولة [الْملك] الْأَشْرَف أينال، ثمَّ صَار أَمِير طبلخاناه وشاد الشَّرَاب خاناه فِي [أول] دولة [الْملك الظَّاهِر] خشقدم، ثمَّ نقل بعد سِنِين إِلَى إمرة مائَة و] تقدمة ألف، ثمَّ صَار رَأس نوبَة النوب فِي سلطنة] الْملك] الظَّاهِر يلباى، ثمَّ أتابكا فِي دولة [الْملك] الظَّاهِر تمربغا.

ثمَّ تسلطن [بعد خلع تمر بغا] فِي يَوْم الأثنين سادس [شهرا] رَجَب [من] سنة إثنتين وَسبعين وَثَمَانمِائَة.

§1/1