مواقف التابعين وأتباعهم في الدعوة إلى الله تعالى

سعيد بن وهف القحطاني

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة إن الحمد للَّه، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليماً كثيراً، أما بعد: فهذه رسالة مختصرة في ((مواقف التابعين وأتباعهم في الدعوة إلى اللَّه تعالى)) بينت فيها نماذج من المواقف المشرفة في الدعوة إلى اللَّه سبحانه وتعالى. واللَّه تعالى أسأل أن يجعل هذا العمل اليسير مباركاً، نافعاً، خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه تعالى خير مسؤول، وأكرم مأمول وهو حسبنا ونعم الوكيل. وصلى اللَّه وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا وإمامنا محمد بن عبد اللَّه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. المؤلف حرر ضحى يوم الخميس 25/ 2/1425هـ

المبحث الأول: مواقف التابعين

المبحث الأول: مواقف التابعين توطئة: التابعون هم من القرون المفضلة بنص النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعن عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته)) (¬1). وللتابعين مواقف حكيمة يستفيد منها الدعاة إلى اللَّه تعالى، وسأذكر - بعون اللَّه تعالى - نماذج منها على سبيل المثال في المطالب الآتية: المطلب الأول: موقف سعيد بن المسيب رحمه اللَّه تعالى. المطلب الثاني: مواقف الحسن بن يسار البصري - رحمه الله -. المطلب الثالث: مواقف عمر بن عبد العزيز رحمه اللَّه تعالى. المطلب الرابع: مواقف أبي حنيفة النعمان بن ثابت - رحمه الله -. ¬

_ (¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، 5/ 259، (رقم 2652)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل الصحابة ثم الذين يلونهم ... ، 4/ 1964، (رقم 2533)، وفي رواية من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه -: <ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن>. البخاري مع الفتح، كتاب الشهادات، الباب السابق، 5/ 258، (رقم 2651)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل الصحابة، 4/ 1962، (رقم 2535).

المطلب الأول: من مواقف سعيد بن المسيب - رحمه الله -

المطلب الأول: من مواقف سعيد بن المسيب - رحمه الله - لسعيد بن المسيب (¬1) مواقف حكيمة، تدل على علمه وحكمته ورغبته فيما عند اللَّه تعالى (¬2). ومن هذه المواقف الحكيمة التي صدع فيها بالحق في دعوته إلى اللَّه، ولم تأخذه في اللَّه لومة لائم ما فعله مع الحجاج بن يوسف الثقفي (¬3) عندما أساء صلاته. 1 - صلَّى الحجاج مرة بجنب سعيد بن المسيب - قبل أن يلي شيئاً من أمور المسلمين - فجعل يرفع قبل الإمام، ويقع قبله في السجود، فلما سلم أخذ سعيد بطرف ردائه، وبقي يقول الذّكر بعد ¬

_ (¬1) سعيد بن المسيب، هو سيد التابعين على الإطلاق في زمانه، وعالم أهل المدينة، ولد لسنتين من خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقيل لأربع مضين منها، وتوفي سنة 94هـ، وله 75 سنة - رحمه الله -. انظر: سير أعلام النبلاء، 4/ 217 - 246، والبداية والنهاية لابن كثير، 9/ 99. (¬2) ومن مواقفه الحكيمة التي كان بها قدوة حسنة لغيره من الدعاة، زواجه ابنته فاطمة لرجل فقير، ومنعها من الزواج بابن الخليفة، فقد خطب عبد الملك بن مروان ابنته للوليد، فمنع من ذلك، وزوَّجها تلميذه كثير بن المطلب بن أبي وداعة القرشي السهمي على درهمين، وساعده بعشرين ألف، وهذا يدل على كمال إيمان سعيد بن المسيب، واهتمامه بالباقي، والنفور من المناصب المزيفة، واختياره الزوج الصالح لابنته، انظر هذه القصة الحكيمة في: سير أعلام النبلاء، 4/ 233، وطبقات ابن سعد، 5/ 138، وحلية الأولياء، 2/ 167، والبداية والنهاية، 9/ 100. (¬3) الحجاج بن يوسف الثقفي، ولي العراق والمشرق عشرين سنة، وتوفي سنة 95هـ. انظر: سير أعلام النبلاء، 4/ 343.

الصلاة، والحجاج ما زال ينازعه رداءه حتى قضى سعيد ذكره، ثم أقبل عليه يؤنبه ويؤدبه بالكلام، فلم يقل له الحجاج شيئاً حتى صار نائباً على الحجاز، وعندما أتى المدينة نائباً عليها، فلما دخل المسجد قصد مجلس سعيد بن المسيب حتى جلس بين يديه، فقال له: أنت صاحب الكلمات؟ فضرب سعيد صدره بيده وقال: نعم. قال: فجزاك اللَّه من معلم ومؤدب خيراً، ما صليت بعدك صلاة إلا وأنا أذكر قولك، ثم قام ومضى (¬1). 2 – قيل لسعيد بن المسيب: ما شأن الحجاج لا يبعث إليك ولا يحركك ولا يؤذيك؟ قال: واللَّه ما أدري، إلا أنه دخل ذات يوم مع أبيه المسجد فصلى صلاة لا يتم ركوعها ولا سجودها، فأخذت كفًّا من حصى فحصبته بها. قال الحجاج: فما زلت أحسن الصلاة (¬2). وهذا من أعظم المواقف الحكيمة لسعيد بن المسيب ‘، فإن الحكمة وضع كل شيء في موضعه، وقد تنفع الشدة والقوة إذا كانت الحكمة تقتضي ذلك، فسعيد رأى أن من الحكمة استخدام هذا الأسلوب مع الحجاج؛ ليحسن صلاته، فنفع اللَّه بذلك الحجاج كما ذكر هو عن نفسه، وأنه ما زال يحسن الصلاة بعد ذلك، فرحم اللَّه سعيد بن المسيب، وجزاه خير الجزاء. ¬

_ (¬1) انظر: البداية والنهاية، 9/ 119، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 4/ 226. (¬2) انظر: الطبقات لابن سعد، 5/ 129، وحلية الأولياء لأبي نعيم، 2/ 165، وسير أعلام النبلاء، 4/ 226.

المطلب الثاني: من مواقف الحسن البصري - رحمه الله -

المطلب الثاني: من مواقف الحسن البصري - رحمه الله - للحسن البصري (¬1) - رحمه الله - مواقف حكيمة في دعوته إلى اللَّه - عز وجل - ومنها على سبيل المثال ما يلي: 1 - موقفه مع الحجاج بن يوسف الثقفي: من حكمة الحسن أنه لا يرى الخروج على الأئمة العُصاة من المسلمين، فقد جاء جماعة من المسلمين إلى الحسن البصري، يستفتونه في الخروج على الحجاج، فقالوا: يا أبا سعيد، ما تقول في قتال هذا الطاغية الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، ... وفعل ما فعل؟ فقال الحسن: أرى أن لا تقاتلوه؛ فإنها إن تك عقوبة من اللَّه فما أنتم برادي عقوبة اللَّه بأسيافكم، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم اللَّه وهو خير الحاكمين. وخرجوا من عند الحسن ولم يوافقوه، فخرجوا على الحجاج فقتلوا جميعاً (¬2)؛ ولهذا كان الحسن: يقول لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم صبروا ما لبثوا أن ¬

_ (¬1) هو الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، أبو سعيد مولى الأنصار، وأمه خيرة مولاة أم سلمة أم المؤمنين - رحمه الله -، وأبو الحسن يسار من سبي ميسان - وهي بين البصرة وواسط - سكن المدينة، وأعتق وتزوج بها في خلافة عمر، فولد له بها الحسن لسنتين بقيتا من خلافة عمر - رضي الله عنه -، وتوفي الحسن سنة 110هـ وكان عمره 88 سنة - رحمه الله -. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 4/ 563 - 587، وتهذيب التهذيب لابن حجر، 2/ 231. (¬2) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد، 7/ 163 - 165، والبداية والنهاية لابن كثير، 9/ 135.

2 - موقف الحسن من عمر بن هبيرة:

يفرج عنهم، ولكنهم يجزعون إلى السيف فيوكلون إليه، فواللَّه ما جاءوا بيوم خير قط (¬1). ومع ذلك كله فقد أراد الحجاج أن يقتل الحسن البصري مراراً، ولكن اللَّه عصمه منه. بعث الحجاج إلى الحسن مرة – وقد همّ به – فجاء الحسن إليه، فلما قام بين يديه قال: يا حجاج، كم بينك وبين آدم من أب؟ قال: كثير. قال: فأين هم؟ قال: ماتوا. فنكس الحجاج رأسه، وخرج الحسن (¬2). وهذا من حكمة الحسن في دعوته إلى اللَّه، فإن الخروج على الأئمة المسلمين – ولو كانوا فسّاقاً – يسبب شراً كبيراً، وفتنة عظيمة، وإزهاقاً للأرواح، وفساداً كبيراً، فسدَّ الحسن الباب أمام هذه المفاسد. 2– موقف الحسن من عمر بن هبيرة: عندما ولي عمر بن هبيرة (¬3) العراق أرسل إلى الحسن فقدم إليه، فقال له: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك (¬4) ينفذ كتباً أعرف أن ¬

_ (¬1) انظر: طبقات ابن سعد، 7/ 164. (¬2) انظر: البداية والنهاية، 9/ 135. (¬3) هو عمر بن هبيرة بن معاوية بن بن سُكَين، الأمير أبو المثنى أمير العراقين، مات سنة 107هـ. انظر سير أعلام النبلاء، 4/ 562. (¬4) هو يزيد بن عبد الملك بن مروان الخليفة، استخلف بعهد عقده له أخوه سليمان، بعد عمر بن عبد العزيز، ولد سنة 71هـ. وكانت خلافته أربعة أعوام، توفي سنة 105هـ. انظر: سير أعلام النبلاء، 5/ 150 - 152.

في إنفاذها الهلكة، واستفتاه: ماذا يصنع أمام هذه الكتب؟ فقال الحسن: يا عمر بن هبيرة، يوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة اللَّه – تعالى – فظ غليظ، لا يعصي اللَّه ما أمره، فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، يا عمر بن هبيرة إن تتق اللَّه يعصمك من يزيد بن عبد الملك، ولا يعصمك يزيد بن عبد الملك من اللَّه - عز وجل -، يا عمر بن هبيرة لا تأمن أن ينظر اللَّه إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك نظرة مقت، فيغلق بها باب المغفرة دونك، يا عمر بن هبيرة لقد أدركت ناساً من صدر هذه الأمة كانوا واللَّه على الدنيا وهي مقبلة أشدّ إدباراً من إقبالكم عليها وهي مدبرة، يا عمر بن هبيرة إني أخوفك مقاماً خوفكه اللَّه – تعالى – فقال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} (¬1) يا عمر بن هبيرة إن تك مع اللَّه في طاعته كفاك بائقة يزيد بن عبد الملك، وإن تك مع يزيد بن عبد الملك على معاصي اللَّه وكلك اللَّه إليه، فبكى عمر بن هبيرة وقام بعبرته (¬2). وهذا يدل على حكمة الحسن ‘ وما له في النفوس من مكانة ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم، الآية: 14. (¬2) انظر: حلية الأولياء، 2/ 149.

3 - موقفه مع القراء:

وتقدير، فقد جهر بالحق في هذا الموقف ولم تأخذه في اللَّه لومة لائم. وهكذا ينبغي للدعاة إلى اللَّه - تعالى - ولكن لابد من الحكمة، وبالتي هي أحسن، فإن ذلك أدعى لقبول الدعوة، واللَّه المستعان. 3 - موقفه مع القراء: خرج الحسن من عند ابن هبيرة يوماً فإذا هو بالقراء على الباب (¬1) فقال: ما يجلسكم هاهنا؟ تريدون الدخول على هؤلاء الخبثاء؟ أما واللَّه ما مجالستهم مجالسة الأبرار، تفرقوا فرَّق اللَّه بين أرواحكم وأجسادكم، قد فرطحتم (¬2) نعالكم، وشمرتم ثيابكم، وجززتم شعوركم، فضحتم القراء فضحكم (¬3) اللَّه، واللَّه لو زهدتم ¬

_ (¬1) لسائل يسأل: كيف يخرج الحسن من عند ابن هبيرة ويلوم القراء على وقوفهم ببابه رغبة في الدخول عليه؟ ويجاب على ذلك: أن الحسن لم يدخل على ابن هبيرة ليسأله مالاً أو شيئاً من أمور الدنيا، إنما ذلك لله ومن أجل الله والدعوة إليه، والذي قبّحه الحسن هو الرغبة في الدنيا والطمع في أموال الأمراء والسلاطين، أما من دخل عليهم ليأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويخوّفهم بالله، فإن هذا من أعظم الجهاد وفضله. (¬2) كل شيء عرّضته فقد فرطحته. وفرطح الشيء: بسطه ووسّعه. ورأس مفرطح: عريض. انظر: المعجم الوسيط، مادة (فرطح)، 2/ 684. (¬3) لعل الحسن استخدم أسلوب الشدة مع القراء لأنهم أقدموا على شيء لا ينبغي لهم الإقدام عليه على الرغم من معرفتهم حقيقته وأنه لا ينبغي لطلاب العلم والدعاة إلى الله فعله. والحكمة هي وضع الشيء في موضعه، ومن ذلك استخدام أسلوب القوة والشدة والغلظة في مواضعها.

المطلب الثالث: من مواقف عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -

فيما عندهم لرغبوا فيما عندكم، ولكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيكم، أبعد اللَّه من أبعد (¬1). وهذا الموقف حكيم عظيم؛ لأن الداعية إلى اللَّه ينبغي أن يستغني عن الناس وعن أموالهم وصدقاتهم، وخاصة الأكابر والسلاطين، فلا يقف على أبوابهم ولا يسألهم، حتى يكون لدعوته ولعلمه الأثر في نفوسهم وفي نفوس غيرهم، ولهذا وجَّه الحسن القراء لذلك؛ لأن من استغنى باللَّه افتقر الناس إليه (¬2). المطلب الثالث: من مواقف عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: يرى كثير من العلماء أن عمر بن عبد العزيز (¬3) من المجددين على رأس المائة الأولى، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن اللَّه يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يُجدّد لها دينها)) (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: حلية الأولياء، 2/ 150، وسير أعلام النبلاء، 4/ 586. (¬2) انظر: حلية الأولياء، 2/ 173، والبداية والنهاية، 9/ 100. (¬3) عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، وأمه أم عاصم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، ولد سنة 63هـ، وقيل 61هـ، أرسله والده إلى المدينة يتفقه في الدين، فلما توفي والده أخذه عمه عبد الملك بن مروان، وزوجه بنته فاطمة، وعندما ولي الوليد بن عبد الملك ولاه المدينة ومكة والطائف من سنة 86هـ إلى 93هـ، ثم قدم الشام، وبقي فيها حتى ولي الخلافة في 10/ 2/99هـ، فأصلح الله به العباد والبلاد، ثم مات مسموماً في 25/ 7/101هـ. انظر: البداية والنهاية، 9/ 92 - 96، وسير أعلام النبلاء، 5/ 122. (¬4) رواه أبو داود، كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة، 4/ 109، (رقم 4291)، والحاكم، 4/ 522، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، 2/ 150، برقم 599.

(أ) من مواقفه الحكيمة قبل الخلافة:

على هذا كان - رحمه الله - أول المجددين (¬1)، وله - رحمه الله - مواقف كثيرة حكيمة في دعوته إلى اللَّه، منها ما يلي: (أ) من مواقفه الحكيمة قبل الخلافة: له - رحمه الله - مواقف كثيرة قبل الخلافة مع الخلفاء منها: 1 - أقبل سليمان بن عبد الملك (¬2) إلى جيشه ومعه عمر بن عبد العزيز، وفي ذلك المعسكر: الخيول والجمال والبغال والأثقال والرجال، فقال سليمان: ما تقول يا عمر في هذا؟ فقال: أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً، وأنت المسؤول عن ذلك كله، فلما اقتربا من المعسكر إذا غراب قد أخذ لقمة في فيه من فسطاط سليمان وهو طائر بها، ونعب نعبةً، فقال له سليمان: ما هذا يا عمر؟ فقال: لا أدري. فقال: ما ظنك أنه يقول؟ قال عمر: كأنه يقول: من أين جاءت وأين يُذهَبُ بها؟ فقال له سليمان: ما أعجبك؟ فقال: عمر: أعجب ممن عرف اللَّه فعصاه، ومن عرف الشيطان فأطاعه، ومن عرف الدنيا فركن إليها (¬3). وهذه كلمات حكيمة في الدعوة إلى اللَّه موجهة إلى خليفة المسلمين، استغل عمر توجيهها إليه في الفرصة المناسبة، ملتزماً ¬

_ (¬1) انظر: البداية والنهاية، 9/ 207، وعون المعبود، 11/ 387. (¬2) سليمان بن عبد الملك بن مروان، بويع بالخلافة بعد أخيه الوليد، له أعمال جليلة، وتوفي عاشر صفر، سنة 99هـ. سير أعلام النبلاء، 5/ 111. (¬3) انظر: مناقب عمر، لابن الجوزي، ص52، والبداية والنهاية، 9/ 195.

2 - وحج سليمان بن عبد الملك

طريق الحكمة في ذلك كله. 2 – وحجّ سليمان بن عبد الملك ومعه عمر بن عبد العزيز فأصابهم برق ورعد، حتى كادت أن تنخلع قلوبهم، فنظر سليمان إلى عمر وهو يضحك، فقال سليمان: يا أبا حفص، هل رأيت مثل هذه الليلة قط أو سمعت بها؟ فقال: يا أمير المؤمنين، هذا صوت رحمة اللَّه، فكيف لو سمعت صوت عذاب اللَّه؟ فقال: هذه المائة ألف درهم، فتصدق بها. فقال: أو خير من ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: وما هو؟ قال: قوم صحبوك في مظالم لهم لم يصلوا إليك، فجلس سليمان فرد المظالم (¬1). اللَّه أكبر! ما أحكم هذا الموقف وأعظمه! فقد استطاع عمر بن عبد العزيز بعون اللَّه – تعالى – ثم بحكمته أن يؤثر على سليمان حتى جلس ورد المظالم. 3 – ومن أعظم مواقف الحكمة مع سليمان بن عبد الملك أن سليمان قال له: يا أبا حفص، إنا قد ولينا ما ترى، ولم يكن لنا بتدبيره علم، فما رأيت من مصلحة العامة فمر به، فكان من ذلك أن عمر أمر بعزل عمال الحجاج، وأقيمت الصلاة في أوقاتها بعدما كانت أُميتت عن وقتها، مع أمور جليلة كان يسمع من عمر فيها، فقد قيل: إن سليمان حج فرأى الخلائق بالموقف فقال لعمر: أما ترى هذا الخلق الذي ¬

_ (¬1) انظر: مناقب عمر، لابن الجوزي، ص52، 53، وسير أعلام النبلاء، 5/ 121.

(ب) مواقفه بعد أن ولي الخلافة:

لا يُحصي عددهم إلا اللَّه؟ قال: هؤلاء اليوم رعيتك، وهم غداً خصماؤك، فبكى سليمان بكاءً شديداً (¬1). فرحم اللَّه عمر، فقد كان حكيماً في مواعظه وترقيقه للقلوب، وربطها بخالقها، وتخويفها من عقابه، وترغيبها في ثوابه، ويستخدم في ذلك الوقت المناسب، في الحال المناسب. وله - رحمه الله - مواقف كثيرة مع الخلفاء، ولولا الإطالة لذكرتها (¬2). (ب) مواقفه بعد أن ولي الخلافة: بعد أن مات معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - سنة ستين للَّهجرة النبوية، بدأ الظلم، واتسع الخرق والخلاف بين العلماء والخلفاء، فصار بعض الناس في وادٍ، وبعض حكامهم في وادٍ آخر، ثم ازدادت الأحوال سوءاً بتسلم بعض الولاة الظلمة الحكم أمثال الحجاج، وصاروا يجمعون الأموال وينفقونها في غير حلها بلا حساب ولا نظام، وقد كان الشاعر يدخل على الخليفة أو الوالي فيمدحه، فيكيل له بلا حساب، وقد كان سليمان بن عبد الملك أمثل الخلفاء (¬3). وعندما تسلم عمر بن عبد العزيز الخلافة قام بالمواقف الحكيمة ¬

_ (¬1) انظر: سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز، لابن الجوزي، ص53، وسير أعلام النبلاء، 5/ 121. (¬2) انظر: بقية مواقفه مع الولاة في مناقب عمر بن عبد العزيز، لابن الجوزي، ص46 - 53، والبداية والنهاية، 9/ 195، وسير أعلام النبلاء، 5/ 114 - 147. (¬3) انظر: البداية والنهاية، 8/ 146 - 345، 9/ 2 - 177، وسير أعلام النبلاء، 5/ 125.

لإنقاذ الأمة مما حل بها، فكانت مواقفه الحكيمة لإصلاح ما فسد من أمور الناس كالآتي: 1 - بدأ بالتغيير مع نفسه، فغير طريق حياته حتى أنكره من عرفه من قبل، فعندما رجع من قبر سليمان أوتي بمراكب الخلافة: بالبراذين والخيل والبغال، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مراكب الخلافة. فقال: ما لي ولها، نحُّوها عني، قربوا مني بغلتي، فقُرِّبت إليه بغلته، وأمر بمراكب الخلافة أن تباع ويُجعل ثمنها في بيت مال المسلمين، وقال: تكفيني بغلتي هذه الشهباء (¬1). وكان دخله قبل الخلافة أربعين ألف دينار، فترك ذلك كله إلا أربعمائة دينار في كل سنة، ونظر إلى ما في يديه من أرض أو متاع فخرج منه، حتى إنه رد فصّ خاتم كان في يده إلى بيت المال، وقال: هذا مما أعطانيه الوليد بن عبد الملك من غير حقه (¬2). 2 - بعد أن بدأ بنفسه بدأ بأهله، فسأل زوجته فاطمة بنت عبد الملك عن الجوهر الذي عندها، من أين صار إليها؟ فقالت: أعطانيه أمير المؤمنين، فقال: إما أن ترديه إلى بيت المال، وإما أن تأذنيني في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت، قالت: لا، بل ¬

_ (¬1) انظر: مناقب عمر بن عبد العزيز، لابن الجوزي، ص62، 65، وسير أعلام النبلاء، 5/ 126، وتاريخ الخلفاء للسيوطي، ص231. (¬2) انظر: طبقات ابن سعد، 5/ 341 - 344، ومناقب عمر بن عبد العزيز، لابن الجوزي، ص132، والبداية والنهاية، 9/ 208، وسير أعلام النبلاء، 5/ 128.

أختارك على أضعافه لو كان لي، فوضعته في بيت المال (¬1). 3 - بعد أن أصلح عمر نفسه وأهله، بدأ بإصلاح أوضاع بني أمية، فأخذ ما بأيديهم من المظالم وردها إلى أهلها، وإلى بيت المال إن لم يكن لها أهل، وسمى أموالهم أموال مظالم، وأمر مناديه أن يُنادي في الناس: من كانت له مظلمة فليرفعها، وجاء كل من كانت له مظلمة فجعل يرد المظالم مظلمة مظلمة (¬2)، وأخذ جميع الأموال التي أخذها بنو مروان بغير استحقاق، فوضعها في بيت مال المسلمين (¬3). 4 - كتب إلى الولاة على الأمصار الإسلامية يأمرهم بطاعة اللَّه، وينهاهم عن معصيته، ويخوفهم من عقابه، ويرغبهم في ثوابه، ويزهدهم في الدنيا، ويضرب لهم الأمثال بمن مضى ممن كان قبلهم من الخلفاء والولاة، وأنهم قد ذهبوا إلى ما قدموا من عمل، فمنهم الرابح، ومنهم الخاسر، وأمرهم بالعدل مع الرعية، ونهاهم عن الظلم، وأمرهم برد جميع المظالم إلى أهلها، وعزل بعضهم عن الولاية وولَّى من هو أصلح منه، واستدعى بعضهم إلى الحضور لديه ¬

_ (¬1) انظر: طبقات ابن سعد، 5/ 393، وسيرة عمر لابن الجوزي، ص127، وسير أعلام النبلاء، 5/ 129، والبداية والنهاية، 9/ 208. (¬2) انظر: طبقات ابن سعد، 5/ 341 - 344، ومناقب عمر لابن الجوزي، ص125 - 127، والبداية والنهاية، 9/ 200 - 213. (¬3) انظر: مناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي، ص133 - 141، وطبقات ابن سعد، 5/ 341 - 344، والبداية والنهاية، 9/ 213، وسير أعلام النبلاء، 5/ 129.

ليحاسبه على جوره وظلمه، وحذر الولاة من أخذ الرشوة والهدية من الرعية (¬1)، وأمر الولاة بوضع الجزية عمن أسلم من اليهود والنصارى حيث كان بنو أمية لا يضعون الجزية عمن أسلم، فأسلم بذلك خلق كثير، ومن هؤلاء أهل خراسان، فقد أسلم منها أربعة آلاف في وقت قصير بسبب هذه الحكمة العظيمة (¬2). 5 - من أعظم مواقفه الحكيمة في إصلاح الأوضاع في الدولة الأموية ما أحياه في النفوس من خوف اللَّه ومراقبته، وغرس ذلك في نفوس الناس، ومن ذلك أنه في يوم الجمعة يخطب الناس، فبكى يوماً، وبكى الناس معه حتى ارتج المسجد بالبكاء، وصار لحيطانه صوت بالبكاء (¬3). 6 - فقَّه الناس في دين اللَّه، وغرس في قلوبهم حب الكتاب والسنة، وكان يرسل المرشدين إلى البادية ليُفقِّهوا الناس في الدين (¬4). 7 - لم يكتف عمر بن عبد العزيز بالخطوات الحكيمة السابقة في إصلاح ¬

_ (¬1) انظر: مناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي، 133 - 141، وطبقات ابن سعد، 5/ 341 - 344، والبداية والنهاية، 9/ 213، وسير أعلام النبلاء، 5/ 129. (¬2) انظر: طبقات ابن سعد، 5/ 341 - 344، وسيرة عمر لابن الجوزي، ص100 - 124، 206، 222، وسير أعلام النبلاء، 5/ 126 - 137، 5/ 147، والبداية والنهاية، 9/ 188. (¬3) انظر: سيرة عمر لابن الجوزي، ص218، 222، 225، وسير أعلام النبلاء، 5/ 137، 138، والبداية والنهاية، 9/ 204. (¬4) انظر: سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد، ص92.

المطلب الرابع: من مواقف أبي حنيفة النعمان بن ثابت - رحمه الله -:

أوضاع المسلمين في الدولة الأموية، بل اهتم بأمور غير المسلمين، فأرسل الدعاة إلى اللَّه - عز وجل - ليبلغوا الناس دعوة الإسلام، ومن ذلك أنه أرسل إلى أفريقيا مجموعة من الدعاة، فأسلم على أيديهم أمم هائلة من البربر وغيرهم. وبتوفيق اللَّه ثم بهذه الخطوات الحكيمة السبع، ظهرت مواقف عمر الحكيمة في إصلاح الأمة وتجديد الدين، ونفع اللَّه به البلاد والعباد، وأنقذ اللَّه به من الظلم (¬1). المطلب الرابع: من مواقف أبي حنيفة النعمان بن ثابت - رحمه الله -: الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت (¬2) له مواقف حكيمة كثيرة (¬3). منها موقفه العظيم الحكيم مع الملحدين في دعوتهم إلى اللَّه - تعالى - وأنه رب كل شيء ومليكه. يذكر أنه اجتمع طائفة من الملاحدة بأبي حنيفة - رحمه الله - فقالوا: ما الدلالة على وجود الصانع؟ فقال: دعوني، فخاطري مشغول بأمر ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص238، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 4/ 246. (¬2) هو الإمام النعمان بن ثابت بن زوطي التميمي الكوفي، أحد أئمة الإسلام والسادة الأعلام، ولد سنة 80هـ. في حياة الصغار من الصحابة، ورأى أنس بن مالك لما قدم عليهم الكوفة، توفي - رحمه الله - سنة 150هـ. انظر: سير أعلام النبلاء، 6/ 390، والبداية والنهاية، 10/ 107. (¬3) انظر: نماذج من مواقف أبي حنيفة الحكيمة في سير أعلام النبلاء، 6/ 402، وأعلام المسلمين - أبو حنيفة، لوهبي سليمان غاوجي، 5/ 355، 5/ 121، 354.

غريب. قالوا: وما هو؟ قال: بلغني أن في دجلة سفينة عظيمة مملوءة من أصناف الأمتعة العجيبة، وهي ذاهبة وراجعة من غير أحد يحركها ولا يقوم عليها، فقالوا له: أمجنون أنت؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: إن هذا لا يصدقه عاقل. فقال له: كيف صدقت عقولكم أن هذا العالم بما فيه من الأنواع والأصناف والحوادث العجيبة، وهذا الفلك الدوَّار السيَّار يجري، وتحدث هذه الحوادث من غير محدث، وتتحرك هذه المتحركات بغير محرك؟ فرجعوا على أنفسهم بالملام (¬1). وهذا من أعظم مواقف الحكمة في الدعوة إلى اللَّه، فقد استدل على الخالق بوجود المخلوق، فليس هناك من مخلوق إلا وله خالق ومدبر وهو اللَّه - عز وجل -، كما أنه ليس هناك من صنعة إلا ولها صانع، وللَّه المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم. ¬

_ (¬1) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 3/ 127، والرياض الناضرة للسعدي، ص258.

المبحث الثاني: مواقف أتباع التابعين

المبحث الثاني: مواقف أتباع التابعين توطئة: أتباع التابعين هم من القرون المفضلة التي امتدحها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ... )) (¬1). ولتابعي التابعين مواقف حكيمة يستفيد منها الدعاة إلى اللَّه - تعالى - وسأذكر منها - بعون اللَّه تعالى - نماذج في المطالب الآتية: المطلب الأول: مواقف الإمام مالك بن أنس رحمه اللَّه تعالى. المطلب الثاني: مواقف الإمام الشافعي رحمه اللَّه تعالى. المطلب الثالث: مواقف الإمام أحمد بن حنبل رحمه اللَّه تعالى. المطلب الأول: من مواقف الإمام مالك بن أنس - رحمه الله -: للإمام مالك بن أنس (¬2) - رحمه الله - مواقف حكيمة مشرفة، منها على ¬

_ (¬1) البخاري مع الفتح، 5/ 259، (رقم 2652)، ومسلم، 4/ 1964، وتقدم تخريجه. (¬2) الإمام مالك بن أنس بن أبي عامر بن عمرو، إمام دار الهجرة، ولد سنة 93هـ عام موت أنس بن مالك بن النضر، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطلب العلم بصدق وإخلاص، فكان أحد الأئمة الأربعة، فنفع الله به المسلمين، وتوفي عام 179هـ. انظر: سير أعلام النبلاء، 8/ 49 - 135، والبداية والنهاية، 10/ 174، وتهذيب التهذيب، 10/ 5.

سبيل المثال ما يلي: 1 - من أعظم مواقف الحكمة التي وقفها: موقفه مع من سأله عن الاستواء. فقد جاء إليه رجل، وقال: يا أبا عبد اللَّه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬1) كيف استوى؟ فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته، فنظر إلى الأرض، وجعل ينكت بعود في يده حتى علاه الرحضاء (¬2)، ثم رفع رأسه ورمى بالعود، وقال: ((الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأظنك صاحب بدعة ((وأمر به فأُخرج (¬3). وهذا موقف حكيم مُسدّد؛ لأنه أجاب بالإجابة الصحيحة بعد التأمل والتفكر، فكانت هذه الإجابة قاعدة ثابتة لأهل السنة والجماعة، تُجرى عليها صفات اللَّه - تعالى - كلها، فالكيف للصفة مجهول لنا لا نعرف كيفيتها؛ لأن اللَّه لم يخبرنا بالكيفية، والصفة معلومة بدليلها من الكتاب والسنة الصحيحة أو بأحدهما، والإيمان بالصفة - التي تثبت بالدليل - واجب، والسؤال عن كيفية الصفة بدعة، وليس المراد بنفي الكيفية تفويض المعنى المراد من ¬

_ (¬1) سورة طه، الآية: 5. (¬2) العرق إثر الحمى، أو عرق يغسل الجلد كثرة. انظر: المعجم الوسيط، مادة (رحض)، 1/ 334. (¬3) أبو نعيم في الحلية، 6/ 325، وانظر: سير أعلام النبلاء، 8/ 100، 101، 106، ومجموع فتاوى ابن تيمية، 5/ 26، 5/ 144.

الصفات، بل كل صفة من صفات اللَّه - تعالى - تدل على معنى حقيقي نؤمن به ونثبته للَّه كما يليق بجلاله (¬1). 2 - من مواقفه الحكيمة ما رد به على بعض العبَّاد حينما كتب إليه يعظه ويحضه على الانفراد والعزلة عن الناس، ويحضه على العمل، فكتب إليه مالك: ((إن اللَّه قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فُتحَ له في الصلاة ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فُتحَ لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر)) (¬2). وهذا الرد الحكيم المسدد مما يدل على فقه الإمام مالك وحكمته، فإن نشر العلم خير أعمال البر، وأفضل من نوافل الصلاة والصوم والصدقة وغير ذلك من نوافل العبادات، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله)) (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فواللَّه لأن يهدي اللَّه بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم)) (¬4). فرحم اللَّه مالكاً فقد نطق بالحكمة، وطبق ما كان يقوله ويرغِّب ¬

_ (¬1) انظر: فتاوى ابن تيمية، 5/ 5 - 121. (¬2) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 8/ 114. (¬3) مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله، 3/ 1506، (رقم 1893). (¬4) البخاري مع الفتح، 7/ 476، ومسلم، 4/ 1871، وتقدم تخريجه.

فيه الناس، فكان هو أولى به حيث قال: ((بلغني أنه ما زهد أحد في الدنيا واتقى إلا نطق بالحكمة)) (¬1). ولهذا قال الإمام الذهبي (¬2): ((إلى فقه مالك المنتهى، فعامة آرائه مسددة)) (¬3). ولكن الإمام مالك قد أنصف حينما رسم للناس قاعدة يسيرون عليها، حيث قال: ((كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر - صلى الله عليه وسلم -)) (¬4). وهذا كلام حكيم وعظيم، يدل على أن جميع الناس ليسوا معصومين من الخطأ، إنما الذي عُصِمَ في تبليغ الشريعة هو محمد - صلى الله عليه وسلم -. 3 - والإمام مالك كان يصدع بالحق ولا تأخذه في اللَّه لومة لائم، ومن ذلك قول الإمام الشافعي: ((كان مالك إذا جاءه بعض أهل الأهواء، قال: أما إني على بينة من ربي وديني، وأما أنت فشاك، ¬

_ (¬1) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 8/ 109. (¬2) هو الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ولد - رحمه الله - في شهر ربيع الآخر سنة 673هـ، بدأ طلب العلم مبكراً، ورحل في طلبه، وبرع فيه، ثم عمي قبل موته بأربع سنين أو أكثر بماء نزل في عينيه، وتوفي - رحمه الله - ليلة الاثنين من ذي القعدة قبل نصف الليل سنة 748هـ، وله آثار علمية بلغت نحو من 215 مؤلفاً - رحمه الله -. انظر: البداية والنهاية، 14/ 225، ومقدمة سير أعلام النبلاء، 1/ 12 - 140. (¬3) انظر: سير أعلام النبلاء، 8/ 92. (¬4) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 8/ 93.

المطلب الثاني: من مواقف الإمام الشافعي - رحمه الله -

اذهب إلى شاك مثلك فخاصمه)) (¬1). وهذا الكلام من الدعوة إلى اللَّه بالحكمة؛ لأن من الناس من يحتاجون إلى الغلظة أحياناً، ولا يخرج ذلك عن الحكمة؛ لأن اللَّه - تعالى - وهو أحكم الحاكمين - قال لأحكم الناس أجمعين: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (¬2) وقال: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (¬3). وللإمام مالك مواقف حكيمة كثيرة لا يتسع المقام لذكرها (¬4). المطلب الثاني: من مواقف الإمام الشافعي - رحمه الله - للإمام الشافعي (¬5) - رحمه الله - مواقف حكيمة تدل على حكمته وصدقه ¬

_ (¬1) انظر: حلية الأولياء، 6/ 324، وسير أعلام النبلاء، 8/ 99. (¬2) سورة التحريم، الآية: 9. (¬3) سورة العنكبوت، الآية: 46. (¬4) انظر: مواقف له حكيمة في: حلية الأولياء، 6/ 325، وسير أعلام النبلاء، 8/ 94، 98، 99، وانظر: مواقفه مع بني أمية وحكمه في طلاق المكره وعدم وقوعه في سير أعلام النبلاء، 8/ 80، 95، 96. (¬5) هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن السائب، يلتقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في عبد مناف، ولد في غزة، وقيل: بعسقلان، سنة 150هـ، ومات أبوه وهو صغير فحملته أمه إلى مكة وهو ابن سنتين، فنشأ بها وقرأ القرآن، ورحل إلى مالك في المدينة وعرض عليه الموطأ بعض حفظه له، ثم رجع إلى مكة، ورحل إلى اليمن، ثم حمل إلى العراق سنة 184، ثم عاد إلى مكة ثلاث مرات، ثم رحل من العراق إلى مصر، وبقي فيها حتى توفي سنة 204هـ. انظر: البداية والنهاية، 10/ 251.

وإخلاصه، ومن مواقفه - رحمه الله -. موقفه مع أهل الكلام ودفاعه عن علم الكتاب والسنة: وقف الشافعي - رحمه الله - موقفاً حكيماً مسدداً مع أهل الكلام (¬1)، فقال - رحمه الله -: ((حكمي في أهل الكلام: أن يضربوا بالجريد والنعال، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في الأسواق والعشائر، ينادى عليهم ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على علم الكلام)) (¬2). وقال: ((مذهبي في أهل الكلام تقنيع رؤوسهم بالسياط، وتشريدهم في البلاد)) (¬3). ¬

_ (¬1) العلم بالدين علمان: العلم بالأمور الخبرية الاعتقادية، كالعلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأخبار الأنبياء، وأحوال الملائكة وصفاتهم وأعمالهم، ويدخل في ذلك الجنة والنار ... والجدال في هذا القسم بالعقل يسمى: كلاماً. الثاني: الأمور العملية من أعمال الجوارح والقلوب كالواجبات والمحرمات والمستحبات والمكروهات والمباحات، وهذا من جهة كونه علماً واعتقاداً أو خبراً صادقاً أو كاذباً يدخل في القسم الأول، ومن جهة كونه مأموراً به أو منهياً عنه يدخل في القسم الثاني. انظر: فتاوى ابن تيمية، 11/ 335، 336، 19/ 134. فالجدال في علم العقائد يسمى كلاماً، والسلف الصالح حينما يذمون علماء الكلام فهم يريدون من يتكلم في الدين بغير طريقة المرسلين، عليهم الصلاة والسلام، وهذا هو الذي ذمه الشافعي - رحمه الله -. انظر: فتاوى ابن تيمية، 12/ 460، 461. (¬2) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 10/ 29، والبداية والنهاية، 10/ 254، وفتاوى ابن تيمية، 16/ 473. (¬3) انظر: سير أعلام النبلاء، 10/ 29.

وقال: ((حكمي في أهل الكلام حكم عمر في صبيغ)) (¬1). وغرس الشافعي في نفوس الناس بغض الكلام وأهله، وحب الكتاب والسنة والتمسك بهما، قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي (¬2): قلت للشافعي: إن صاحبنا الليث (¬3) كان يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة. فقال الشافعي - رحمه الله -: قصر الليث - رحمه الله -، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب (¬4). وجاء رجل من أهل الكلام إلى الشافعي - وهو في مصر - فسأله عن مسألة من الكلام فقال له الشافعي: أتدري أين أنت؟ قال الرجل: نعم. قال: هذا الموضع الذي أغرق اللَّه فيه فرعون، أبلغك أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أمر بالسؤال عن ذلك؟ قال: لا. قال: هل تكلم فيه الصحابة؟ ¬

_ (¬1) قدم صبيغ بن عسل الحنظلي المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر، وقال له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، قال: وأنا عبد الله عمر، فضربه بعراجين النخل حتى دمي رأسه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد ذهب الذي كنت أجد في رأسي. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2/ 198. (¬2) يونس بن عبد الأعلى بن ميسرة، شيخ البخاري، أبو موسى الصدفي، ولد سنة 170هـ، وتوفي سنة 264هـ. انظر: سير أعلام النبلاء، 12/ 348. (¬3) هو الليث بن عاصم بن كليب، الإمام القدوة العابد المصري، ولد سنة 115هـ، وتوفي سنة 211هـ. انظر: تهذيب التهذيب، 8/ 419، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 10/ 188. (¬4) أي: والسنة. انظر: شرح العقيدة الطحاوية، ص510، وسير أعلام النبلاء، 10/ 23.

قال: لا. قال: هل تدري كم نجماً في السماء؟ قال: لا. قال: فكوكب منها تعرف جنسه، طلوعه، أفوله، مم خُلق؟ قال: لا. قال: فشيء تراه بعينك من الخلق لست تعرفه، تتكلم في علم خالقه؟ ثم سأله الشافعي عن مسألة من الوضوء فأخطأ فيها، ففرعها على أربعة أوجه، فلم يصب في شيء من ذلك، فقال له: شيء تحتاج إليه في اليوم خمس مرات تدع علمه، وتتكلف علم الخالق؟ إذا هجس في ضميرك ذلك فارجع إلى اللَّه، وإلى قوله – تعالى –: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية (¬1)، فاستدل بالمخلوق على الخالق، ولا تتكلف علم ما لم يبلغه عقلك. فتاب الرجل (¬2) على يد الشافعي من علم الكلام، وأقبل على فقه الكتاب والسنة (¬3)، وكان يقول بعد التوبة: ((أنا خلق من أخلاق الشافعي)) (¬4). وقد أصبح هذا الرجل (المزني) علماً من أعلام الإسلام في فقه ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآيتان: 163 - 164. (¬2) وهذا الرجل الذي تاب من علم الكلام على يد الشافعي، هو المزني، الإمام العلامة علم الزهاد، أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن عمرو بن مسلم المزني المصري، تلميذ الشافعي، ولد سنة 175هـ، وله المختصر في الفقه، وقد شرحه عدة من العلماء، توفي ‘ سنة 264هـ. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 12/ 492. (¬3) انظر: سير أعلام النبلاء، 10/ 25، 26، 31، 32. (¬4) انظر: المرجع السابق، 12/ 492.

المطلب الثالث: من مواقف الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -

الشافعي. فهذه المواقف الحكيمة في الدفاع عن الكتاب والسنة، وذم الكلام وأهله، والرد عليهم بأسلوب الحكمة، يدل دلالة واضحة على حكمة الشافعي - رحمه الله -. ومما يدل على حكمته أيضاً أن اللَّه تفضّل عليه وهدى على يديه كثيراً من أهل الكلام فتركوا باطلهم، وأقبلوا إلى علم الكتاب والسنة، وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء واللَّه ذو الفضل العظيم. المطلب الثالث: من مواقف الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - للإمام أحمد (¬1) - رحمه الله - مواقف حكيمة تدل على حكمته وصدقه مع اللَّه، وإخلاصه، ومن مواقفه - رحمه الله -: موقفه الحكيم الذي حفظ اللَّه به القرآن الكريم: كان الناس أمة واحدة، ودينهم قائماً، حتى ظهرت الخوارج، وكفَّرتْ سادات الصحابة، ثم ظهرت الروافض والنواصب، وفي ¬

_ (¬1) الإمام حقاً، وشيخ الإسلام صدقاً، أو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، أحد الأئمة الأعلام، ولد ببغداد سنة 164هـ، وتوفي أبوه وهو ابن ثلاث سنين فكفلته أمه، وبدأ بطلب العلم، وحج سنة 187هـ، ثم رحل إلى صنعاء ليأخذ العلم عن عبد الرزاق صاحب المصنف، ثم عاد إلى بغداد وواصل طلب العلم والتعليم، وتوفي يوم الجمعة 12/ 4/241هـ، وحضر جنازته ألف ألفٍ وخمسمائة ألف. انظر: سير أعلام النبلاء، 11/ 177، 11/ 340، والبداية والنهاية، 10/ 325، 10/ 342، وتهذيب التهذيب، لابن حجر، 1/ 62.

أواخر زمن الصحابة ظهرت القدرية، ثم ظهرت المعتزلة بالبصرة، والجهمية والمشبهة بخراسان في أثناء عصر التابعين مع ظهور السنة وأهلها؛ لأن الخلفاء والملوك والولاة لم يكن لهم دور في إظهار البدع والدعوة إليها، إلى ظهور المأمون (¬1)، فاستجلب كتب الأوائل، وعرب حكمة اليونان، ورفع الجهمية والمعتزلة والشيعة رؤوسهم، وأظهر المأمون عام 212هـ القول بخلق القرآن، وحمل الأئمة على القول بذلك، ثم امتحن العلماء وعذبهم عام 218هـ (¬2). وفي آخر حياته قبل موته بأشهر خرج إلى طرطوس لغزو الروم، وكتب إلى نائبه ببغداد يأمره أن يدعو الناس ويلزمهم بالقول بخلق القرآن، فألزم الناس بذلك، وبعث بجماعة من أهل الحديث إلى المأمون، فامتحنهم بخلق القرآن، فأجابوه وأظهروا موافقته وهم كارهون، فردهم إلى بغداد، وأمر بإشهار أمرهم بين الفقهاء ففعل نائبه ذلك، وأحضر خلقاً كثيراً من أئمة الحديث والفقهاء وأئمة المساجد وغيرهم، ودعاهم إلى القول بخلق القرآن عن أمر المأمون، وذكر لهم موافقة أولئك المحدثين له على ذلك، فأجاب ¬

_ (¬1) المأمون، هو عبد الله بن هارون الرشيد، ولد سنة 170هـ، وبويع بالخلافة في 25 محرم عام 198هـ، وكان داعية للقول بخلق القرآن فقصمه الله بدعوة الإمام أحمد، وتوفي في 25 محرم، سنة 218هـ. انظر: البداية والنهاية، 10/ 274. (¬2) سير أعلام النبلاء، 11/ 236، وتاريخ الخلفاء للسيوطي، ص306، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 5/ 197 - 200.

منهم جماعة (¬1)، ومازال يُهدد من امتنع منهم بالضرب وقطع الأرزاق، حتى أجابوه إلى ذلك كلهم أجمعون إلى أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح (¬2)، ولاشك أن أكثر المحدثين الذين أجابوا إلى ذلك تأولوا قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} (¬3). ثم قُيِّد الإمام أحمد ومحمد بن نوح بالحديد، وحملا إلى المأمون، وعندما وصلا إلى جيش الخليفة ونزلا دونه بمرحلة جاء خادم من الجيش وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه، ويقول للإمام أحمد: يعز عليَّ يا أبا عبد اللَّه أن المأمون قد سل سيفاً لم يسله قبل ذلك، ويقسم لئن لم تُجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف، فجثا الإمام أحمد على ركبتيه، ورمق بطرفه إلى السماء، وقال: اللَّهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤونته. فجاء الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل، ففرح أحمد، ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة، وقد انضم إليه ¬

_ (¬1) انظر: البداية والنهاية، 10/ 272، 331. (¬2) محمد بن نوح، قال عنه أحمد ما رأيت أحداً على حداثة سنة وقدر علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، قال لي ذات يوم: يا أبا عبد الله، الله الله، إنك لست مثلي، أنت رجل يقتدى به: قد مد الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك، فاتق الله، واثبت لأمر الله، ... فمات وصليت عليه ودفنته. انظر: سير أعلام النبلاء، 11/ 242. (¬3) سورة النحل، الآية: 106.

أحمد بن أبي دؤاد (¬1)، وأن الأمر شديد، فرد أحمد ومحمد إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسارى، ومات محمد بن نوح في الطريق، فصلى عليه أحمد (¬2)، ووصل أحمد إلى بغداد في رمضان سنة 218هـ وأودع السجن نحواً من ثمانية وعشرين شهراً، وقيل أكثر من ثلاثين شهراً، وقد كان في هذه المدة يصلي بأهل السجن والقيود في رجليه (¬3)، وكان المعتصم يوجه إليه من يناظره في السجن، فيفوز عليهم الإمام أحمد بحجته ودليله، فيزاد في قيوده، ثم طلب المعتصم حضوره لديه، فحُملَ على دابة وعليه الأقياد، ما معه من يمسكه إلا اللَّه، وكاد أن يسقط على وجهه لثقل القيود، ولكن اللَّه سلم، ثم دخل على المعتصم وأحمد بن أبي دؤاد حاضر عنده، وقد جمع خلقاً كثيراً من أصحابه (¬4)، ثم قال المعتصم لأعوانه: ناظروه، فقيل له: ما تقول في القرآن؟ فقال أحمد: ما تقول في علم اللَّه؟ فسكت المناظر له، فقال أحمد: من زعم أن علم اللَّه ¬

_ (¬1) أحمد بن أبي دؤاد فرج بن جرير بن مالك المعتزلي، ولد سنة 160هـ، ولي قضاء القضاة للمعتصم، ثم للواثق، وأعلن مذهب المعتزلة، وحمل السلطان على امتحان الناس بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الآخرة، وابتلاه الله بالفالج قبل موته بأربع سنين، وحرم لذة الطعام والشراب والنكاح وغير ذلك، توفي يوم السبت لسبع بقين من محرم سنة 240هـ. انظر: البداية والنهاية، 10/ 319 - 322. (¬2) انظر: سير أعلام النبلاء، 11/ 242. (¬3) انظر: سير أعلام النبلاء، 11/ 342، 343، والبداية والنهاية، 10/ 332. (¬4) انظر: سير أعلام النبلاء، 11/ 343، والبداية والنهاية، 10/ 332.

مخلوق فقد كفر باللَّه. فقالوا: يا أمير المؤمنين كَفَرَ وكفَّرنا. فقال بعضهم: أليس قال اللَّه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬1) , والقرآن أليس شيئاً؟ فقال أحمد: قال اللَّه: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} (¬2)، فدمرت كل شيء إلا ما أراد اللَّه. قال أحمد: فكان يتكلم هذا فأرد عليه، ويتكلم هذا فأرد عليه، فإذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فيقول: يا أمير المؤمنين، هو واللَّه ضالّ مُضِلٌّ مبتدع، فيقول المعتصم: كلموه، ناظروه، فيكلمني هذا فأرد عليه، ويكلمني هذا فأرد عليه، فإذا انقطعوا قال المعتصم: ويحك يا أحمد ما تقول؟ فأقول: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئاً من كتاب اللَّه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - حتى أقول به. فيقول أحمد بن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا؟ (¬3) فقال أحمد: وهل يقوم الإسلام إلا بهما؟ وجرت مناظرات طويلة. قال أحمد: لقد احتجوا عليَّ بشيء ما يقوى قلبي ولا ينطلق لساني أن أحكيه، أنكروا الآثار، وما ظننتهم على هذا حتى سمعته، وجعلوا يرغون، يقول الخصم كذا وكذا، فاحتججت عليهم ¬

_ (¬1) سورة الزمر، الآية: 62. (¬2) سورة الأحقاف، الآية: 25. (¬3) يعني القرآن والسنة!!.

بالقرآن: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} (¬1) أفهذا منكر عندكم؟ فقالوا: شبَّه يا أمير المؤمنين، شبَّه. وطال المجلس، وقام المعتصم ورُدَّ أحمد إلى حبس في البيت، ثم وجه إليه من يبيت معه ويناظره، ثم أُحضر أحمد في اليوم الثاني وناظروه إلى قرب الزوال، ثم قام المعتصم ورد أحمد إلى مكانه، وفي اليوم الثالث جيء به فناظروه، وفي هذه الأيام كلها يعلو صوته صوتهم، وتغلب حجته حجتهم، فغلبهم بالحجة والبرهان (¬2)، حتى قال عنه صاحب شرطة المعتصم (¬3): ما رأيت أحداً لم يداخل السلطان، ولا خالط الملوك كان أثبت قلباً من أحمد يومئذ، ما نحن في عينه إلا كأمثال الذبان (¬4). وطالت المناظرة، فغضب المعتصم وقال لأحمد: لعنك اللَّه طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني، ثم قال: خذوه واسحبوه، خلِّعوه، فأُخِذَ وسُحِبَ وخُلِّع وجُرِّدَ، ووقف به بين الجمهور؛ لجلده وتعذيبه، فقال أحمد: ((يا أمير المؤمنين، اذكر وقوفك بين يدي اللَّه ¬

_ (¬1) سورة مريم، الآية: 42. (¬2) انظر: سير أعلام النبلاء، 11/ 244 - 250، والبداية والنهاية، 10/ 333. (¬3) صاحب شرطة المعتصم، هو: محمد بن إبراهيم بن مصعب، وهو أخو إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، نائب المأمون على بغداد. انظر: البداية والنهاية، 10/ 272، 10/ 331، وسير أعلام النبلاء، 11/ 240. (¬4) انظر: سير أعلام النبلاء، 11/ 240.

كوقوفي بين يديك)). فلما رأى المعتصم ثباته وتصميمه وصلابته فكأنه أمسك حتى أغراه أحمد بن أبي دؤاد، وقال: يا أمير المؤمنين، إن تركته قيل: قد ترك مذهب المأمون، وسخط قوله، فهاجه ذلك على ضربه، ثم بدأ الجلادون يضربون، فيتقدم الرجل منهم فيجلده سوطين، والمعتصم يقول: شد قطع اللَّه يدك. وأُغمي على أحمد، وذهب عقله مراراً، ويعيدون الضرب ولم يحس بالضرب، وجاء المعتصم إليه ثلاث مرات وهو يُجلد يدعوه إلى القول بخلق القرآن، فيمتنع، ويعيدون الضرب، ثم أمر المعتصم بإطلاقه، بعد أن ضُربَ نيفاً وثلاثين سوطاً، وقيل ثمانين سوطاً، ولكنه كان ضرباً مبرحاً، ولم يشعر الإمام أحمد إلا وهو في حجرة من بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجليه، ثم أمر المعتصم بإطلاقه إلى أهله، وكان ذلك في 25 رمضان سنة 221هـ، ووصل إلى بيته (¬1)، وجاء إليه طبيب في بيته فقال: قد رأيت من ضُرِبَ ألف سوط، ما رأيت ضرباً مثل هذا، وجعل يعالجه ويقطع اللحم الميت من جسده، وأحمد صابر، ويجهر بحمد اللَّه، وبقي أثر الضرب في ظهره حتى مات ‘ (¬2)، وجعل كل من آذاه في حل بعد أن شفاه ¬

_ (¬1) انظر: سير أعلام النبلاء، 11/ 250 - 254، والبداية والنهاية، 10/ 332 - 335. (¬2) انظر: سير أعلام النبلاء، 11/ 256، والبداية والنهاية، 10/ 335.

اللَّه إلا أهل البدع، وكان يتلو في ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (¬1). وبعد أن توفي المعتصم، وولي الخلافة الواثق (¬2) فأظهر ما أظهر والده من القول بخلق القرآن، ثم جاءت رسالة إسحاق بن إبراهيم إلى أحمد، يقول فيها: ((إن أمير المؤمنين قد ذكرك فلا يجتمعن إليك أحد، ولا تساكنني بأرض ولا مدينة أنا فيها، فاذهب حيث شئت من أرض اللَّه)). فاختفى أحمد - رحمه الله - بقية حياة الواثق في غير منزله، ثم عاد إلى منزله عندما طفئ خبره، ولم يزل مختفياً في البيت لا يخرج إلى صلاة ولا إلى غيرها حتى هلك الواثق (¬3)، ثم ولي المتوكل (¬4) الخلافة فأظهر اللَّه السنة، وفرج عن الناس، وقمع البدع وأهلها، ¬

_ (¬1) سورة الشورى، الآية: 40. (¬2) هو الواثق بالله هارون بن المعتصم بن هارون الرشيد، ولد سنة 196هـ، وبويع بالخلافة بعد المعتصم في ربيع الأول 227هـ، وتوفي في ذي الحجة سنة 232هـ. انظر: سير أعلام النبلاء، 10/ 306. (¬3) انظر: سير أعلام النبلاء، 11/ 264. (¬4) المتوكل على الله، هو جعفر بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، ولد سنة 207هـ، وبويع بالخلافة بعد أخيه الواثق في ذي الحجة سنة 232هـ، ونصر الله به الحق وأهل السنة، وقمع به أهل الباطل وبدعهم، ثم قتله ابنه محمد بمعاونة بعض أعداء الإسلام في شوال سنة 247هـ، فرحمه الله وغفر له. انظر: البداية والنهاية، 10/ 349.

ونصر أهل السنة (¬1). وكتب الإمام أحمد رسالة عظيمة إلى المتوكل، وبين فيها الرد على من قال بخلق القرآن، واستدل على أن القرآن كلام اللَّه بالبراهين القطعية من الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة، ودعا للمتوكل بالتوفيق وحسن العاقبة (¬2). اللَّه أكبر! ما أعظم هذه المواقف الحكيمة نحو كتاب اللَّه - تعالى - فإن الناس كلهم في الظاهر قد وافقوا المأمون على القول بخلق القرآن: راغبين وراهبين، ولم يبق مُنكر إلا أحمد ومحمد بن نوح، ثم مات ابن نوح، وبقي أحمد وحده، فثبت واستعان باللَّه، فأثبت للناس أن القرآن كلام اللَّه بقوله ومناظرته وفعله، وصبره على العذاب في عهد المأمون، ثم المعتصم (¬3)، ثم الواثق، ولولا اللَّه وحده ثم الإمام أحمد لساد القول بخلق القرآن بين المسلمين، وخاصة عامة الناس، ¬

_ (¬1) انظر: سير أعلام النبلاء، 11/ 268 - 280، والبداية والنهاية، 10/ 338 - 340. (¬2) انظر: نص الرسالة في سير أعلام النبلاء، 11/ 281 - 286، وهي من أعظم الردود على من قال بخلق القرآن، والبداية والنهاية، 10/ 340، وانظر: سير أعلام النبلاء، 11/ 177 - 358، والبداية والنهاية، 10/ 325 - 342. (¬3) المعتصم: هو محمد بن هارون الرشيد، ولد سنة 180هـ، وأمه أم ولد، بويع في عهد المأمون في 14/ 7/218هـ، وامتحن الناس بخلق القرآن، وشدد على الإمام أحمد وضربه بالسياط، وكتب إلى الأمصار يأمرهم بالقول بخلق القرآن، وبقي القول بخلق القرآن حتى أزاله المتوكل بعد 14 عاماً. مات المعتصم في 11/ 3/224هـ، وله 47 سنة وسبعة أشهر. انظر: سير أعلام النبلاء، 10/ 306.

ولكن الناس ينظرون إلى أحمد وثباته وحججه وبراهينه، فثبتوا على القول بأن القرآن كلام اللَّه، منه بدأ وإليه يعود، وإن لم يظهروا ذلك للدولة، ولكن يعتقدون ذلك بقلوبهم، فحفظ اللَّه كتابه، وأظهر الحق على يد الإمام أحمد - رحمه الله - بهذه المواقف الحكيمة. وصلى اللَّه وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

§1/1