مواعظ الصحابة لعمر المقبل

عمر المقبل

المقدمة

المقدمة الحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وذكرى للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا وإمامنا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، الذي كان يتخوَّل أصحابه بالموعظة، وينوِّعها عليهم حالًا، وزمانًا ومكانًا، فكان بحقِّ سيد الواعظين، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحابته الذين كانوا للمواعظ خير مستمعين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين؛ أمَّا بعد: فلقد أخذ الوعظ في كتاب الله وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - مكانًا بارزًا، ومحلًّا كبيرًا؛ وما ذاك إلا لعظيم أثره على القلوب، وحاجة النفوس إليهن خاصةً مع كثرة ملابسة الأمور التي تقسِّي القلب، وتشتِّت الذهن؛ ولهذا كان نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - يتخوَّل أصحابه بالموعظة، والسؤال: من الواعظ؟ ومن الموعوظ؟ فإذا كان الأمر كذلك، فحاجتنا نحن إلى الوعظ أكثر وأكبر؛ فالوعظ طريقٌ من الطُّرق الموصلة إلى الجنَّة، ينير العقل، ويصلح القلب، وأثره في حصوله المحبَّة والألفة بين المسلمين أشهر من أن ينوَّه به (¬1). ¬

(¬1) يُنظر: نضرة النعيم (8/ 3637).

يقول محمد بن عبادة المعافريُّ؛ كنَّا عند أبي شريحٍ المعافريِّ رحمه الله فكثرت المسائل، فقال: قد درنت قلوبكم، فقوموا إلى خالد بن حميدٍ المهريِّ، استقلُّوا قلوبكم، وتعلَّموا هذه الرغائب والرقائق؛ فإنَّها تجدِّد العبادة، وتورث الزَّهادة، وتجرُّ الصَّداقة، وأقلُّوا المسائل؛ فإنَّها في غير ما نزل تقسِّي القلب، وتورث العداوة (¬1). والمتأمِّل في الهدي النبويِّ في الوعظ، يمكنه تلخيص منهجه - صلى الله عليه وسلم - فيما يلي: (1) - ممارسة الوعظ بأنواعه؛ القوليِّ والفعليِّ. (2) - عدم الإملال بالوعظ، كما في الصحيحين من حديث أبي وائلٍ شقيق بن سلمة، قال: كان عبد الله بن مسعودٍ يذكِّرنا كلَّ يوم خميسٍ، فقال له رجلٌ: يا أبا عبد الرحمن، إنَّا نحبُّ حديثك ونشتهيه، ولوددنا أنَّك حدَّثتنا كلَّ يومٍ، فقال: ما يمنعني أن أحدِّثكم إلا كراهية أن أملَّكم؛ «إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتخوَّلنا بالموعظة في الأيام؛ كراهية السآمة علينا» (¬2). (3) - اغتنام المناسبات، واهتبال الفرص، فهو - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يجعل للوعظ هيئةً معيَّنةً لا يخرج عنها، بل كانت حياته دعوةً، ودعوته حياةً، فهو يرى مشهدًا من المشاهد، فيغتنمه ليربط الصحابة بمعنى من المعاني الشريفة، فمثلًا: يقول جابر - رضي الله عنه - مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسوق، داخلًا من بعض العالية، والناس كَنَفَتَهُ، فمرَّ بجدي أسكَّ - يعني: صغير الأذنين - ميِّتٍ، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: (أيُّكم يحبُّ أنَّ هذا له بدرهم؟)، فقالوا: ما نحبُّ أنَّه لنا بشيءٍ، وما نصنع به؟ قال: (أتحبُّون أنَّه لكم؟)، ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (7/ (182)). (¬2) البخاري ((70))، مسلم ((2821)).

قالوا: والله لو كان حيًّا، كان عيبًا فيه؛ لأنَّه أسكُّ، فكيف وهو ميِّتٌ؟ فقال: (فوالله للدُّنيا أهون على الله، من هذا عليكم) (¬1). وفي إحدى الغزوات قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبيٍ، فإذا امرأةٌ من السبي تبحث عن صبيِّها الصغير الذي فقدته، فوجدته فأخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أترون هذه المرأة طارحةً ولدها في النَّار؟)، قلنا: لا والله، وهي تقدر على ألاَّ تطرحه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لله أرحم بعباده من هذه بولدها)» (¬2). (4) - ومن الهدي النبويِّ في الوعظ: التعميم في الخطاب: (ما بال أقوام)، هذا هو الأصل المطَّرد، والأعمُّ الأغلب في وعظه - صلى الله عليه وسلم -، ويندر أن ينصَّ على شخصٍ بعينه؛ فإنَّ النفوس تكره وتنفر من مثل هذا. 5 - الإيجاز والاختصار، وعدم الإطالة إلا نادرًا لمصلحةٍ عارضةٍ. ومن تأمَّل في مواعظ الصحابة - رضي الله عنهم -، وجدهم قد ساروا على هذا الهدي العظيم، فهم خير هذه الأمة، وأبرُّها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلُّها تكلُّفاً - كما وصفهم بذلك الحسن البصريُّ رحمه الله - (¬3). ولما سبقت الإشارة إليه؛ وقع الاختيار على مواعظهم، للتعليق على ما تيسَّر منها؛ لتميُّزها بعدة مزايا: 1 - أنها مواعظ صادرةٌ عن تلاميذ سيِّد الواعظين - صلى الله عليه وسلم -. 2 - أنَّهم جمعوا بين العلم العميق المؤصَّل، وسهولة العبارة التي جعلتهم يتكلَّمون بكلامٍ يفهمه عامة الناس في عصرنا فضلًا عمَّن ¬

(¬1) صحيح مسلم (4/ 2272). (¬2) البخاري (5999)، مسلم (2754). (¬3) الشريعة، للآجري (4/ 1686)

قبلهم، بينما تجد في بعض عبارات العبَّاد الذين عاشوا في قرونٍ بعدهم شيئًا من التكلُّف، والغموض، وأحيانًا لا تسلم من إشكالاتٍ شرعيَّةٍ. (3) - قصر مواعظهم، وسهولة فهمها، وتطبيقها. (4) - أنَّها مواعظ مترجمةٌ عمليًّا في واقعهم، فلا يعجز الباحث أن يجد في سيرهم الترجمة العمليَّة لها، وهذا له أثره في الإفادة منها. قيل لحمدونٍ القصَّار: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنَّهم تكلَّموا لعزِّ الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلَّم لعزِّ النفوس، وطلب الدُّنيا، ورضا الخلق (¬1). يقول ابن القيِّم رحمه الله - مبيِّنًا هذا المعنى في حقِّ الصحابة - رضي الله عنهم -: «ولا ريب أنَّهم كانوا أبرَّ قلوبًا، وأعمق علمًا، وأقلَّ تكلُّفاً، وأقرب إلى أن يوفَّقوا لما لم نوفَّق له نحن؛ لما خصَّهم الله تعالى به من توقُّد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك وسرعته، وقلة المعارض أو عدمه، وحسن القصد، وتقوى الربِّ تعالى؛ فالعربية طبيعتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزةٌ في فطرهم وعقول».اهـ (¬2). إذا تبيَّن هذا، فلنبيِّن على وجه الاختصار معنى الوعظ وحقيقته: فالوعظ في اللُّغة يدور على الترغيب، والترهيب، قال ابن فارسٍ: الوعظ: التخويف، والعظة الاسم منه، وقال الخليل: هو التذكير بالخير وما يرقُّ له قلبه (¬3). ¬

(¬1) صفة الصفوة (2/ 313). (¬2) إعلام الموقعين (4/ 113). (¬3) مقاييس اللغة (6/ 126).

وقال الذَّهبيُّ: «الوعظ فنٌّ بذاته، يحتاج إلى مشاركةٍ جيِّدةٍ في العلم، ويستدعي معرفةً حسنةً بالتفسير، وإكثارًا من حكايات الفقراء والزُّهاد» (¬1). وههنا معنى مهمُّ يتعلَّق بالوعظ، شكا منه الصحابة - رضي الله عنهم - وخافوا على أنفسهم من النِّفاق بسببه، فبيَّن لهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وجه الصواب؛ ذلك أنَّ حنظلة الأسيِّديَّ - رضي الله عنه - قال: لقينى أبو بكرٍ، فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله ما تقول؟! قال: قلت: نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكِّرنا بالنار والجنة، حتى كأنَّا رأي عينٍ، فإذا خرجنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عافسنا الأزواج والأولاد والضَّيعات، فنسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله إنَّا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكرٍ، حتى دخلنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلت: نافق حنظلة، يا رسول الله! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وما ذاك؟)، قلت: يا رسول الله نكون عندك، تذكِّرنا بالنار والجنة، حتى كأنَّا رأي عينٍ، فإذا خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيراً! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (والَّذي نفسي بيده، إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذِّكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعةً وساعةً) ثلاث مرَّاتٍ (¬2). يوضِّح ابن الجوزي رحمه الله هذا المعنى فيقول: «قد يعرض عند سماع المواعظ للسامع يقظةٌ، فإذا انفصل عن مجلس الذِّكر، عادت القسوة والغفلة، فتدبَّرت السبب في ذلك، فعرفته، ثم رأيت الناس يتفاوتون في ذلك، فالحالة العامة أنَّ القلب لا يكون على صفه من اليقظة عند سماع الموعظة وبعدها؛ لسببين: ¬

(¬1) زغل العلم (ص49). (¬2) صحيح مسلم (4/ 2106).

أحدهما: أنَّ المواعظ كالسِّياط، والسياط لا تؤلم بعد انقضائها، وإيلامها وقت وقوعها. والثَّاني: أنَّ حالة سماع المواعظ يكون الإنسان فيها مزاح العلَّة، قد تخلَّى بجسمه وفكره عن أسباب الدُّنيا، وأنصت بحضور قلبه، فإذا عاد إلى الشواغل اجتذبته بآفاتها، فكيف يصحُّ أن يكون كما كان؟! وهذه حالةٌ تعمُّ الخلق! إلا أنَّ أرباب اليقظة يتفاوتون في بقاء الأثر، فمنهم من يعزم بلا تردُّدٍ، ويمضي من غير التفاتٍ، فلو توقَّف بهم ركب الطبع لضجُّوا، كما قال حنظلة عن نفسه: نافق حنظلة! ومنهم أقوامٌ يميل بهم الطبع إلى الغفلة أحيانًا، ويدعوهم ما تقدَّم من المواعظ إلى العمل أحيانًا، فهم كالسُّنبلة تميلها الرِّياح. وأقوامٌ لا يؤثِّر فيهم إلا بمقدار سماعه، كماءٍ دحرجته على صفوانٍ» (¬1).اهـ. ولا يفوتني هنا أن أنوِّه بالجهد الكبير الذي بذله الشيخ صالحٌ الشامي - أثابه الله - في كتابه «مواعظ الصحابة»، والذي جمع فيه جملةً كبيرةً من مواعظهم، واستفدتُّ منه كثيرًا، لكنَّ الكتاب لم يتعرَّض لها بالتعليق والشرح، بل كان هدفه الجمع - وهو هدفٌ نبيلٌ. أما هذا الكتاب، فهدفه الأكبر: جمع بعض هذه المواعظ، والتعليق عليها، بما يوضِّح شيئًا من دلالتها، مع الحرص على ربطها بواقعنا الذي نعيشه. ومن أهمِّ النتائج التي خرجت بها - بعد هذا التَّطواف في مئات ¬

(¬1) صيد الخاطر (ص23).

المواعظ - أنَّ عددًا ليس بالقليل من الأحاديث الموقوفة على الصحابة، يرويها بعض الضعفاء مرفوعةً، فيجعلها من كلام النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ومن نافلة القول: أنَّ الأئمة في مثل هذه الأبواب لا يشدِّدون في الأسانيد، من حيث تطبيق قواعد المحدِّثين عليها، وهذا ما جعلني أتأسَّى بهم، مع وقوفي على أسانيد تلك المواعظ التي رويت في الكتب المسندة. وقد اجتهدتُّ في عدم إيراد ما قد يستنكر من متون هذه الموا عظ، وحرصت على إيراد ما له أصلٌ صحيحٌ، أو لا تمنع منه القواعد الشرعيَّة، والأصول المرعيَّة لهذه الشريعة العظيمة. وقد قدَّمت بين يدي المواعظ بتمهيدٍ، أشرت فيه إلى جملةٍ من النصوص الشرعيَّة، وكلام الأئمة في فضل الصحابة وخطورة تنقُّصهم. اللَّهمَّ إنِّي أحببت من اخترتهم لصحبة نبيِّك - صلى الله عليه وسلم - حبًا كبيرًا؛ لنصرتهم لدينك، ودفاعهم عن نبيِّك - صلى الله عليه وسلم - حيًا وميتًا، اللَّهمَّ أسلكني - وقارئ هذه الأحرف- فيمن قلت فيهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10]. اللَّهمَّ فاحشرني ووالديَّ، وأهل بيتي، ومشايخي، ومن له حقٌّ عليَّ، وقارئ هذه المواعظ في زمرتهم، وارزقنا الانتفاع بمواعظهم! والحمد لله ربِّ العالمين. كتبه عمر بن عبد الله بن محمد المقبل في 19/ 12/1434 هـ للمراسلة للتواصل الموقع الرسمي: www.almuqbil.com للتواصل على تويتر: dr_almuqbil البريد العادي: السعودية ـ القصيم ـ المذنب الرمز البريدي 51931 ـ ص. ب: 16

تمهيد

تمهيدٌ بين يدي مواعظ خير أصحابٍ - رضي الله عنهم - لخير نبيٍّ - صلى الله عليه وسلم - لعلَّ من المناسب أن أقدِّم بين يدي هذه المواعظ بذكر بعض فضائل الصحابة ... - رضوان الله عليهم - وشيءٍ من كلام الأئمة في بيان مكانتهم، فأقول: إنَّ من الأصول المقرَّرة في الشرع المطهَّر، ومن سمات أهل السُّنَّة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم للصحابة الأخيار، وحملة الشريعة الأتقياء الأبرار، والذبَّ عن حرماتهم وأعراضهم. فلولاهم ما وصلنا الدِّين كاملًا - وأصله القرآن - غضًّا طريًّا كأنَّما أنزل اليوم. إنهم خير الناس للناس، وأفضل تابعٍ لخير متبوعٍ - صلى الله عليه وسلم -، هم الذين فتحوا البلاد بالسِّنان، والقلوب بالإيمان. لم يعرف - التاريخ البشر أعظم من تاريخهم، ولا رجالًا - بعد الأنبياء - أفضل منهم. هم الذين استرخصوا في سبيل نصر الدِّين أنفسهم وأموالهم! وفارقوا أهلهم وأوطانهم! حين ضنَّ غيرهم بالنفس والمال، واستثقلوا مُفارقة الأهل والولدان، فلا كان ولا يكون مثلهم والله!

هم الذين اصطفاهم الله لصحبة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -. ونشر دينه، فأخرجوا من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن ضيق الدُّنيا إلى سعتها، ومن جور أهل الطغيان إلى عدل الإسلام، وعلى أيديهم سقطت عروش الكفر، وتحطَّمت شعائر الإلحاد، وذلَّت رقاب الجبابرة والطغاة، ودانت لهم الممالك. إنَّهم أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: «الذين شهدوا الوحي والتنزيل، وعرفوا التفسير والتأويل، وهم الذين اختارهم الله سبحانه وتعالى لصحبة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ونصرته، وإقامة دينه، وإظهار حقِّه، فرضيهم له صحابةً، وجعلهم لنا أعلامًا وقدوةً، فحفظوا عنه - صلى الله عليه وسلم - ما بلَّغهم عن الله عز وجل، وما سنَّ وما شرع، وحكم وقضى وندب، وأمر ونهى وأدَّب، ووعوه وأتقنوه، ففقهوا في الدِّين، وعلموا أمر الله ونهيه ومراده بمعاينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... ونفى عنهم الشكَّ والكذب والغلط والريبة والغمز، وسمَّاهم عدول الأمَّة، فقال - عزَّ ذكره - في محكم كتابه {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]» (¬1). إنَّهم أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - الذين: «سمحت نفوسهم - رضي الله عنهم - بالنفس والمال والولد والأهل والدار، ففارقوا الأوطان، وهاجروا الإخوان، وقتلوا الآباء والإخوان، وبذلوا النفوس صابرين، وأنفقوا الأموال محتسبين، وناصبوا من ناوأهم متوكِّلين، فآثروا رضاء الله على الغناء، والذلَّ على العزِّ، والغربة على الوطن، هم المهاجرون: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَائِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8] حقًّا، ثمَّ إخوانهم من ¬

(¬1) الجرح والتعديل (1/ 7).

الأنصار، أهل المواساة والإيثار، أعزُّ قبائل العرب جارًا، واتَّخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - دارهم أمنًا وقرارًا، الأعفَّاء الصُّبر، والأصدقاء الزهر، الذين {تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. فمن انطوت سريرته على محبتهم، ودان الله تعالى بتفضيلهم ومودَّتهم، وتبرَّأ ممَّن أضمر بغضهم؛ فهو الفائز بالمدح الذي مدحهم الله تعالى به فقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10]. إنَّهم الصحابة - رضي الله عنهم - الذين تولَّى الله شرح صدورهم فأنزل السكينة على قلوبهم، وبشَّرهم برضوانه ورحمته فقال: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ} [التوبة: 21]. جعلهم الله خير أمةٍ أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويطيعون الله ورسوله، فجعلهم مثلًا للكتابين؛ لأهل التوراة والإنجيل، خير الأمم أمَّته، وخير القرون قرنه، يرفع الله من أقدارهم؛ إذ أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمشاورتهم؛ لما علم من صدقهم، وصحة إيمانهم، وخالص مودَّتهم، ووفور عقلهم، ونبالة رأيهم، وكمال نصيحتهم، وتبيُّن أمانتهم، رضي الله عنهم أجمعين» (¬1). «فكلُّ خير فيه المسلمون إلى يوم القيامة؛ من الإيمان والإسلام، والقرآن والعلم، والمعارف والعبادات، ودخول الجنة والنجاة من النار، ¬

(¬1) الإمامة والرد على الرافضة (209 - 211).

وانتصارهم على الكفار، وعلوِّ كلمة الله عز وجل فإنَّما هو ببركة ما فعله الصحابة - رضي الله عنهم - الذين بلَّغوا الدِّين، وجاهدوا في سبيل الله، وكلُّ مؤمنٍ آمن بالله فللصحابة - رضي الله عنهم - عليه فضلٌ إلى يوم القيامة» (¬1). وقد قال تعالى - في فضلهم ومآلهم-: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]. وقال تعالى في مدحهم - ومن أصدق من الله قيلًا وحديثًا؟! -: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29]. وبعد هذا الثناء السماويِّ، تأتي التزكية من أصدق الخلق كلامًا، وأفصحهم بيانًا - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرةٍ، جمعها بعض العلماء في مجلداتٍ كبارٍ ... فماذا عسى الإنسان أن يقول في هذا المقام؟! لقد زكَّاهم - بأبي هو وأمِّي - بقوله: (خير الناس قرني، ثمَّ الذين يلونهم، ثمَّ الذين يلونهم) (¬2). وزكَّاهم - صلى الله عليه وسلم - فقال: (النُّجوم أمنةٌ للسَّماء، فإذا ذهبت النُّجوم أتى السَّماء ما توعد، وأنا أمنةٌ لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنةٌ لأمَّتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمَّتي ما يوعدون) (¬3). ونهى عن التعرُّض لهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسبُّوا أصحابي، لا تسبُّوا أصحابي؛ فو الَّذي نفسي بيده، لو أنَّ أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهبًا، ما أدرك ¬

(¬1) منهاج السُّنَّة (6/ 376). (¬2) البخاري ح (2652)، مسلم ح (2533). (¬3) صحيح مسلم ح (2531).

مدَّ أحدهم، ولا نصيفه) (¬1). ولأجل ما تقدَّم من نصوص الوحيين في فضائل الصحابة - رضي الله عنهم - كان أئمة السلف - رحمهم الله - يحذِّرون أشدَّ التحذير من الخوض في شيءٍ من أخطاء الصحابة - رضي الله عنهم - مع اعتقادهم بأنَّهم ليسوا بمعصومين على مستوى أفرادهم، وقد يوجد من آحادهم أخطاءٌ، هم فيها بين الأجر والأجرين - رضي الله عنهم - وإنَّما قال السلف هذا وأكَّدوه؛ لأنَّهم أدركوا ورأوا بأعينهم أنَّ الوالج في هذا الباب لا ينتهي به الأمر إلا إلى هدم الشريعة! يقول الإمام الجليل أبو زرعة رحمه الله: «إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول لله - صلى الله عليه وسلم -، فاعلم أنه زنديقٌ؛ وذلك أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندنا حقٌّ، والقرآن حقٌّ، وإنَّما أدَّى إلينا هذا القرآن والسُّنن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! وإنَّما يريدون أن يجرحوا شهودنا؛ ليبطلوا الكتاب والسُّنَّة! والجرح بهم أولى، وهم زنادقةٌ». وقال الإمام أحمد رحمه الله: «ومن انتقص أحدًا من أصحاب رسول الله أو أبغضه لحدثٍ كان منه، أو ذكر مساويه، كان مبتدعًا حتى يترحَّم عليهم، ويكون قلبه لهم سليمًا» (¬2). وقال شيخ الإسلام رحمه الله فيمن زعم: «أنهم ارتدُّوا بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا نفرًا قليلًا لا يبلغون بضعة عشر نفسًا، أو أنَّهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب أيضًا في كفره؛ فإنَّه مكذِّبٌ لما نصَّه القرآن في غير موضع من الرِّضا عنهم والثناء عليهم، بل من يشكُّ في كفر مثل هذا، فإنَّ كفره ¬

(¬1) البخاري ح (3673)، مسلم ح (2540). (¬2) أصول السُّنَّة؛ لأحمد بن حنبل (ص54).

متعينٌ؛ فإنَّ مضمون هذه المقالة أنَّ نقلة الكتاب والسُّنَّة كفارٌ أو فسَّاقٌ، وأنَّ هذه الأمة التي هي: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وخيرها هو القرآن الأوَّل - كان عامتهم كفارًا أو فساقًا - ومضمونها أنَّ هذه الأمة شرُّ الأمم، وأنَّ سابقي هذه الأمة هم شرارها، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام؛ ولهذا تجد عامة من ظهر عنه شيءٌ من هذه الأقوال، فإنَّه يتبيَّن أنَّه زنديقٌ، وعامة الزنادقة إنما يستترون بمذهبهم، وقد ظهرت لله فيهم مثلاثٌ» (¬1).اهـ. ومن دقيق فهم الإمام مالك رحمه الله للقرآن أنَّه قال في قوله تعالى عن الصحابة: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]، قال رحمه الله: «من أصبح من الناس في قلبه غيظٌ على أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد أصابته هذه الآية» (¬2). فليعرف المؤمن لأصحاب نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - قدرهم، وليحذر من الاستماع أو المشاهدة لتلك القنوات، التي تثير الشُّبه حول أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فخيرٌ للمؤمن - والله - أن يلقى ربَّه وقلبه سليمٌ لعموم المؤمنين، فكيف بأصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟! وليحفظ المسلم ثناء الله على أصحاب نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ورضاه عنهم، ولا يكن في قلبه غلٌّ على أحدٍ منهم؛ فإنَّ هذا من أعظم خبث القلوب. اللَّهمَّ اجعلنا ممَّن دخل في قولك: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا ¬

(¬1) الصارم المسلول (3/ 1110 - 1111). (¬2) الرواة عن مالك؛ للرشيد العطار (ص259)، وانظر: «الشفا»؛ للقاضي عياض (2/ 120).

غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10]، واجمعنا بصحابة نبيِّك - صلى الله عليه وسلم - في دار الكرامة؛ فإنَّا - وأنت خير الشاهدين - قد أحببناهم، وواليناهم، وكرهنا وأبغضنا من أبغضهم. ***

من مواعظ الصديق رضي الله عنه

من مواعظ الصِّدِّيق - رضي الله عنه - إنَّه خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1): عبد الله (¬2) بن أبي قحافة - واسمه عثمان - بن عامرٍ، القرشيُّ، التَّيميُّ، يلتقي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرَّة (¬3). ولد بمكة، ونشأ سيِّدًا من سادات قريشٍ، وغنيًّا من كبار موسريهم، وعالمًا بأنساب القبائل وأخبارها وسياستها، وكانت العرب تلقِّبه بـ «عالم قريشٍ» (¬4)، وحرَّم على نفسه الخمر في الجاهليَّة فلم يشربها، ثم كانت له في عصر النبوة - وما بعده - مواقف كبيرةٌ؛ فشهد الحروب، واحتمل الشدائد، وبذل الأموال (¬5)، له في كتب الحديث 142 حديثًا (¬6). ¬

(¬1) تاريخ الإسلام (2/ 66): وقال أبو بكر بن عيَّاشٍ: أبو بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القرآن؛ لأنَّ في القرآن في المهاجرين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]، فمن سمَّاه الله صادقًا لم يكذب، هم سمَّوه وقالوا: يا خليفة رسول الله! (¬2) الاستيعاب (3/ 963): كان اسمه في الجاهلية: عبد الكعبة، فسمَّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عبد الله، هذا قول أهل النسب: الزُّبيريِّ وغيره. (¬3) تاريخ الخلفاء؛ للسيوطي (ص26). (¬4) إكمال تهذيب الكمال (8/ 60): وعند التاريخي عن ابن عباس: كانت قريشٌ تألف منزل أبي بكر لخصلتين: الطعام، والعلم، فلما أسلم، أسلم عليه من كان يجالسه. (¬5) إكمال تهذيب الكمال (8/ 64): وقال السهيليُّ: كان يسمَّى أمير الشاكرين؛ لقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إلى قوله: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]. (¬6) الأعلام؛ للزِّركلي (4/ 102).

وهو أول من جمع القرآن في اللَّوحين (¬1). وتوفِّي مساء ليلة الثلاثاء لثمانٍ بقين من جمادى الآخرة (13هـ)، وكانت خلافته سنتين ومئة يومٍ (¬2). والمتأمِّل فيما روي من المواعظ عن الصِّدِّيق - رضي الله عنه -؛ يلحظ تنوُّعها بتنوُّع المناسبات، كما هو هدي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ومن تلكم المواعظ (¬3): • خطب أبو بكرٍ - رضي الله عنه - الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال: «إنَّه ستفتح لكم الشام، فتأتون أرضًا رفيعةً حيث تمتَّعون فيها من الخبز والزيت، وستبنى لكم بها مساجد، فإيَّاكم أن يعلم الله عز وجل أنَّكم إنَّما تأتونها تلهِّيًا! إنَّما بنيت للذِّكر». ففي هذه الموعظة تنبيهٌ من الصِّدِّيق - رضي الله عنه - على أنَّ الانهماك في الدُّنيا- أو التوسُّع فيها- مظنَّة الغفلة عن الذِّكر. وفيها: أنَّ النِّعم إذا استعملت في اللَّهو الذي يصدُّ عن ذكر الله، فهي نقمٌ واستدراجٌ. • وقال الصِّدِّيق - رضي الله عنه - (¬4): «إذا عمل قومٌ بالمعاصي بين ظهراني قومٍ هم أعزُّ منهم، فلم يغيِّروه عليهم، انزل الله عليهم بلاءً، ثم لم ينزعه منهم». ¬

(¬1) تاريخ الإسلام (2/ 68). (¬2) انظر: تاريخ الإسلام (2/ 68). (¬3) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص93). (¬4) مقولة أبي بكر رواها البيهقيُّ في شعب الإيمان (10/ 50)، وحديث: (إنَّ الناس إذا رأوا الظَّالم ...) أخرجه أبو داود ح (4338).

• وقال - رضي الله عنه - بعد أن حمد الله وأثنى عليه -: «يا أيَّها الناس، إنَّكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]! وإنَّا سمعنا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنَّ النَّاس إذا رأوا الظَّالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمَّهم الله بعقابٍ)». وما ذكره الصِّدِّيق - رضي الله عنه - في هاتين الموعظتين دلَّت عليه نصوص الكتاب والسُّنَّة؛ قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ *كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78، 79]. وفي الترمذيِّ - وقال: حديثٌ حسنٌ - عن حذيفة بن اليمان، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال (والَّذي نفسي بيده، لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثمَّ تدعونه فلا يستجاب لكم). بل إنَّ من أعمق التشبيهات التي تبيِّن أهمية الاحتساب، وقيام شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخطورة تركه أو التقصير فيه - قوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث النُّعمان بن بشير - رضي الله عنهما -: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينةٍ، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الَّذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا! فإن يتركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا» (¬1). ¬

(¬1) البخاري ح (2493).

إنَّه لخليقٌ والله ونحن نقرأ هذه الموعظة النبويَّة ثم الصِّدِّيقيَّة- أن نكون من أسرع الناس للقيام بشعيرة الاحتساب حسب القدرة والطاقة؛ حتى لا نهلك، أو تغرق سفينة مجتمعنا. • وعن زيد بن أسلم، عن أبيه قال (¬1): رأيت أبا بكرٍ - رضي الله عنه - آخذًا بلسانه يقول: «هذا أوردني الموارد». الله أكبر! هذا كلام الصِّدِّيق عن لسانه، فماذا نقول نحن؟! ولك أن تتصوَّر- أخي القارئ - ما هي الكلمات التي خشي منها أبو بكرٍ؟ وما الكلام الذي جعله يقول مثل هذا الكلام؟! إنَّها خشية الله، التي جعلته يفكِّر في كلامٍ مباحٍ قاله ولا حاجه له، أو قال كلامًا في غير موضعه اجتهادًا وتأوُّلًا! أما والله، إنَّا لأحقُّ بهذه الكلمة من الصِّدِّيق - رضي الله عنه -! ونحن الذين نتكلَّم أكثر مما نعمل، وقلَّ أن نسلم من الغيبة، فإن سلمنا منها لم نسلم من استماعها والسكوت عنها! • وقال الصِّدِّيق - رضي الله عنه - (¬2): «بلغنا أنَّه إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين أهل العفو؟ فيكافئهم الله تعالى بما كان من عفوهم عن الناس». إنَّ من أعظم المواعظ العمليَّة في حياة الصِّدِّيق - رضي الله عنه - في باب العفو - أنَّه حين أقسم أن يقطع النفقة عن ابن خالته مسطح بن أثاثة - رضي الله عنه - ¬

(¬1) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص90). (¬2) مسند الصديق (ص73)؛ لأبي بكر المروزي.

بعد أن جرى لسانه بمقال أهل الإفك، ثم نزل قوله تعالى: {وَلَا يَاتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور:22]، لم يزد عل أن قال: بلى والله! ثم أعاد النَّفقة إلى مسطح. حين تتأمل هذا الموقف، فإنَّك ستجد لقوله هذا موقعًا عظيمًا. • وقال الصِّدِّيق - رضي الله عنه - عن آل بيت رسول الله (¬1): «يا أيُّها النَّاس، ارقبوا محمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - في أهل بيته». وفي الصحيحين عنه - رضي الله عنه - أنَّه قال: والله لقرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحبُّ إليَّ أن أصل من قرابتي! (¬2). هذه كلماتٌ كان يعظ بها الناس، ويذكِّرهم على المنبر، وفي مناسباتٍ متنوِّعةٍ، ليبيِّن منزلة آل بيته - صلى الله عليه وسلم - في نفسه، وأقسم - رضي الله عنه - وهو الصادق أنَّ صلته لقرابة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أحبُّ إليه من أن يصل قرابته، فأين من يطعن فيه ويتَّهمه بعداوته لآل البيت الأطهار الكرام؟! • وقال - رضي الله عنه - (¬3): «أطوع الناس لله أشدُّهم بغضًا لمعصيته». وهذا معنى دقيقٌ؛ فإنَّ كثيرًا من الناس قد يفعل جملة من ¬

(¬1) مصنَّف ابن أبي شيبة (6/ 374). (¬2) البخاري ح (3810)، مسلم ح (1759). (¬3) جمهرة خطب العرب (1/ 446).

الطاعات، بل ويكثر منها، لكنَّه ضعيف المقاومة عند وجود أسباب المعصية؛ فمن كان كذلك، فطاعته ناقصةٌ، وولايته فيها خللٌ، وهذا معنى قول سهل بن عبد الله التُّستريِّ رحمه الله: «أعمال البرِّ يعملها البرُّ والفاجر، ولا يجتنب المعاصي إلا صدِّيقٌ» (¬1). • وقال - رضي الله عنه - في خطبته (¬2): «اعلموا أنَّ أكيس الكيس التَّقوى، وأنَّ أحمق الحمق الفجور، وأنَّ أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقِّه، وأنَّ أضعفكم عندي القويُّ حتى آخذ منه الحقَّ، أيُّها الناس، إنَّما أنا متَّبعٌ ولست بمبتدعٍ، فإن أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوِّموني». • وقال - رضي الله عنه -: «وجدنا الكرم في التَّقوى، والغنى في اليقين، والشَّرف في التَّواضع» (¬3). ولنختم بدعاءٍ مأثورٍ من دعواته - رضي الله عنه -، حيث يقول: «اللَّهمَّ إنَّا نسألك الذي هو خيرٌ لنا في عاقبة الخير، اللَّهمَّ اجعل آخر ما تعطينا من الخير رضوانك، والدرجات العلى من جنَّات النَّعيم» (¬4). اللَّهمَّ اجمعنا بالصِّدِّيق في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدرٍ. **** ¬

(¬1) حلية الأولياء، وطبقات الأصفياء (13/ 211). (¬2) الطبقات الكبرى (3/ 183). (¬3) إحياء علوم الدين (3/ 343). (¬4) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص93).

من مواعظ الفاروق عمر رضي الله عنه

من مواعظ الفاروق عمر - رضي الله عنه - (1/ 2) في الفاروق وسيرته ومناقبه تكتب المجلدات، لكن هذه نبذةٌ يسيرةٌ بين يدي الحديث عنه، فهو أبو حفصٍ عمر بن الخطَّاب بن نفيل العدويُّ القرشيُّ، يلتقي مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في كعب بن لؤيٍّ. أسلم سنة ستٍّ، وقيل: سنة خمسٍ، وعمره ستٌّ وعشرون سنةً تقريبًا. وبإسلامه عزَّ الإسلام، فهاجر جهرًا (¬1)، وشهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلَّها، وهو أول خليفةٍ دعي بأمير المؤمنين، وأول من كتب التاريخ للمسلمين، وأول من جمع الناس على صلاة التَّراويح، وأول من عسَّ في عمله، وفتح الفتوح (¬2)، ووضع الخراج، ومصَّر الأمصار، واستقضى القضاة، ودوَّن الدِّيوان، وفرض الأعطية، وحجَّ بأزواج رسول الله في آخر حجَّةٍ حجَّها. ¬

(¬1) بينما كان الصحابة يهاجرون سرًّا، جاهر عمر الناس بخروجه وقال: «ها أنا أخرج إلى الهجرة، فمن أراد لقائي فليلقني في بطن هذا الوادي!»؛ انظر: محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (3/ 1003)، المدهش (ص339). (¬2) الأعلام؛ للزركلي (5/ 45): وفي أيَّامه تَّم فتح الشام والعراق، وافتتحت القدس والمدائن ومصر والجزيرة، حتى قيل: انتصب في مدَّته اثنا عشر ألف منبرٍ في الإسلام.

ولي الخلافة بتوصيةٍ من أبي بكرٍ الصِّدِّيق، فلمَّا توفِّي أبو بكرٍ - ليلة الثلاثاء لثمانٍ بقين من جمادى الآخرة من سنة ثلاث عشرة - استقبل عمر بخلافته يوم الثلاثاء صبيحة موت أبي بكرٍ رضي الله عنهما. وبقي في الخلافة نحو عشر سنين، وقد قتله أبو لؤلؤة الفارسيُّ المجوسيُّ بخنجرٍ في خاصرته، وهو في صلاة الصبح، وعاش بعد الطعنة ثلاث ليالٍ، كان هذا أواخر ذي الحجة من سنة ثلاثٍ وعشرين للهجرة (¬1) - رضي الله عنه وأرضاه-. أما مواعظه المنقولة عنه، فهي كثيرةٌ جدًا، ومن تلكم المواعظ (¬2): • عن المسور بن مخرمة: أنَّه دخل هو وابن عبَّاسٍ على عمر بن الخطَّاب فقالا: «الصلاة يا أمير المؤمنين!» بعدما أسفر، فقال: «نعم، ولاحظَّ في الإسلام لمن ترك الصَّلاة» فصلَّى والجرح يثعب دمًا. إنَّك وأنت تقرأ هذه الوصيَّة العمريَّة بالصلاة وهو يُحتضر، ويستقبل الآخرة، ويودِّع الدُّنيا- لتتذكَّر وصية إمامه ونبيِّه - صلى الله عليه وسلم - الذي أوصى بالصلاة وهو يجود بنفسه (الصَّلاة الصَّلاة وما ملكت أيمانكم) (¬3) .. وكان وهو يغالب المرض، ويغمى عليه ثمَّ يفيق- لا يبدأ بغير ذلكم السؤال: ¬

(¬1) صفة الصفوة (1/ 101)، تاريخ الإسلام (2/ 138)، الأعلام للزركلي (5/ 45). (¬2) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص103). (¬3) مسند أحمد ح (12169)، مستدرك الحاكم ح (4388)، قال محققو المسند: حديث صحيح رجاله ثقات رجال الصحيح، إلا أن سليمان التَّيميَّ اختلف عليه وخُولِف فيه.

(أصلَّى النَّاس؟)، ثمَّ يغمى عليه ثمَّ يفيق، ثم يعيد السؤال (أصلَّى النَّاس؟) (¬1). وها هو الفاروق يعيد السيرة، وينتهج ذات المنهج! فيعظنا قولًا وعملًا: «لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة»، وأمَّا موعظته العمليَّة، فحين صلَّى والجرح يثعب دمًا! إنَّ هذا الموقف ليهدى للذين يقصِّرون في الصلاة لأدنى سببٍ، أو يصرُّون على تركها - عياذًا بالله! - وأيُّ دينٍ يبقى إذا سقط ركنه؟! • وقال الفاروق - رضي الله عنه - (¬2): «تفقَّهوا قبل أن تسوَّدوا». هذه موعظةٌ عظيمةٌ قالها الفاروق - رضي الله عنه -، رواها البخاريُّ في صحيحة تعليقًا وعقَّب عليها بقوله: «وبعد أن تسوَّدوا، وقد تعلَّم أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في كبر سنِّهم». «وإنما عقَّبه البخاري بقوله: «وبعد أن تسوَّدوا»؛ خشية أن يفهم أحدٌ من ذلك أنَّ السيادة مانعةٌ من التفقُّه، وإنَّما أراد عمر أنَّها قد تكون سببًا للمنع؛ لأنَّ الرئيس قد يمنعه الكبر والاحتشام أن يجلس مجلس المتعلِّمين. وقال الشافعي: إذا تصدَّر الحدث، فاته علمٌ كثيرٌ. وقد فسَّره أبو عبيدٍ فقال: تفقَّهوا وأنتم صغارٌ قبل أن تصيروا ¬

(¬1) البخاري ح (687)، مسلم ح (418). (¬2) البخاري (1/ 39).

سادةً، فتمنعكم الأنفة عن الأخذ عمَّن هو دونكم فتبقوا جهَّالًا» (¬1). لقد أشار الفاروق في موعظته هذه إلى داءٍ يسري في نفوس بعض الناس، كما بيَّنه الأئمَّة، ولكن ماذا يقال عمَّن حال دون تعلُّمه لا رياسةٌ ولا ولايةٌ ولا منصبٌ ولا جاهٌ، إنَّما هو الأنفة من أن يجلس للتعلُّم وهو كبيرٌ في السِّنِّ فقط؟! إنَّ في تعلُّم أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لنموذجًا يُحتذى كما قال البخاريُّ رحمه الله، وإنَّ ممَّا يُزري بالرجل رضاه بجهله بأبسط أمور دينه التي يحتاجها، فلا يتعلُّمها ولا يسأل عنها! ومن الصور التي يتألَّم الإنسان من تكرُّرها: أن ترى شابًّا - فضلًا عن شيخٍ كبيرٍ في السنِّ- يلحن في القرآن لحنًا عظيمًا، ومع ذلك يأبى أن يتعلَّم في حلق تحفيظ القرآن؛ خشية الجلوس بين يدي معلِّمٍ في سنِّ أبنائه! • وقال الفاروق - رضي الله عنه - (¬2): «التُّؤدة في كلِّ شيءٍ خيرٌ إلا ما كان من أمر الآخرة». هذا تصحيحٌ من الفاروق لمفهومٍ قد يختلط على بعض الناس؛ ذلك أنَّ العرب اتَّفقت على ذمِّ العجلة من حيث الجملة، وكانت العرب تكنيها أمَّ النَّدامات، ولهم في ذلك الحكم المنثورة، والأشعار المشهورة، إلا أنَّ هذا المفهوم - كما يقول الفاروق - لا ينبغي أن يُجرى على أمر الآخرة، بل العجلة-أي: المبادرة-إليه محمودةٌ ومطلوبةٌ؛ لأنَّ الإنسان لا يدري متى ينقطع أجله، فعليه أن يبادر ولا يتأنَّى. ¬

(¬1) فتح الباري؛ لابن حجر (1/ 166). (¬2) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص98).

فإذا حانت فرصةٌ للتعبُّد، والإكثار من أبواب الخير، فلا تحسن الأناة هنا، بل تذمُّ؛ فإنَّ الله تعالى يقول في أكثر من آيةٍ: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]. ومن الصور التي ذكرها العلماء أنَّ الأناة فيها مذمومةٌ: التوبة، وقضاء الدَّين، وإكرام الضيف، وتجهيز الميت؛ فهي من الأمور التي تستحبُّ فيها المبادرة والاستعجال في تنفيذها على الوجه الشرعيِّ. وممَّا يلحق بذلك: محاسبة النفس، فلا ينبغي للراجي ربَّه والآخرة أن يتوانى في محاسبتها، بل يبادر، كما قال الفاروق - رضي الله عنه -: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا؛ فإنَّ أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم، وتزيَّنوا للعرض الأكبر، يوم تعرضون لا تخفى منكم خافيةٌ!» (¬1). كم قرع المتأنُّون في شأن الآخرة سنَّ الندم! وها هو القرآن يعبِّر عن هذه الصورة في مواضع كثيرةٍ؛ كقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} إلى قوله سبحانه: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 53 - 56]. • وقال الفاروق - رضي الله عنه - (¬2): «ما أبالي على أيِّ حالٍ أصبحت! على ما أحبُّ، أم على ما أكره؛ ذلك بأنِّي لا أدري الخيرة فيما أحبُّ أم فيما أكره». ¬

(¬1) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص99). (¬2) الزهد؛ لأبي داود (ص108).

يا له من درسٍ عميقٍ! نحتاج أن ندرِّب أنفسنا على تعلُّمه، وتربية قلوبنا على العيش معه. ما أكثر ما تقع لنا أحداثٌ على المستوى الفرديِّ أو الجماعيِّ، نرى في ظاهرها الشرَّ، وتكون الخيرة فيها! وهذا مصداق لقوله تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، وقوله عز وجل: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]. لقد مرَّ بي أخوان خلال أسبوعين، وكلاهما يتحدَّث عن مصيبةٍ يتوقَّع نزولها، وهو كارهٌ لها، ووالله لم أجد لي ولهما سلوةٌ إلا التذكير بهاتين الآيتين، وبنحو ما ذكره الفاروق - رضي الله عنه -، حتى قال لي أحدهما لمَّا وقع ما يكره: والله إنِّي لمَّا تدبَّرت هذه الآية: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] وقرأتها بقلبٍ، وجدتُّ راحةً وطمأنينةً! لقد كثرت المنغِّصات في حياة الناس، وتنوَّعت المكدِّرات، ويبقى كلام الله، وكلام رسوله، ثمَّ مواعظ أصحابه بلسمًا شافيًا، نداوي به جراح الحياة. ****

من مواعظ الفاروق عمر رضي الله عنه

من مواعظ الفاروق عمر - رضي الله عنه - (2/ 2) • ومن مواعظ أمير المؤمنين عمر الفاروق - رضي الله عنه - قوله (¬1): «من يدخل مدخل السُّوء يتَّهم». هذه موعظةٌ بليغةٌ، ينبغي أن ينتبه الإنسان لها، وأن يحذر العاقل من ورود الأماكن أو المواضع أو إلقاء المقالات والكتابات التي تجلب التهمة له في دينه؛ ذلك أنَّ الناس ليس لهم إلا الظاهر في أحكامهم، فعلى الإنسان ألاَّ يطالبهم بغير ذلك، وإذا كان هذا مطلوبًا ممَّن عُرف عنه الصلاح في دينه، والعلم، فكيف بمن دونه؟! وانظر إلى هدي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب، تجد عجبًا، فإنَّه لمَّا أراد أن يوصل زوجته أمَّ المؤمنين صفيَّة رضي الله عنها من معتكفه إلى بيته، مرَّ به رجلان فأسرعا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «على رسلكما، إنها صفيَّة بنت حييٍّ»، فقالا: سبحان الله يا رسول الله! قال: «إنَّ الشَّيطان يجري من الإنسان مجرى الدَّم، وإنِّي خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًّا»، أو قال: «شيئًا» (¬2) فإذا كان هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما الظنُّ بمن دونه؟! ¬

(¬1) الزهد؛ لابن أبي عاصم (ص51). (¬2) البخاري ح (3281)، مسلم ح (2175).

علَّق الإمام الشَّافعيُّ على ذلك بقوله: «إنَّما قال لهما ذلك؛ لأنَّه خاف عليهما الكفر إن ظنَّا به التُّهمة، فبادر إلى إعلامهما؛ نصيحةً لهما، قبل أن يقذف الشيطان في نفوسهما شيئًا يهلكان به» (¬1). ولتوضيح صلة موعظة الفاروق بهذا الحديث العظيم، يقول ابن حجرٍ رحمه الله: «قال ابن دقيق العيد رحمه الله: وهذا متأكِّدٌ في حقِّ العلماء ومن يقتدى به، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلًا يوجب سوء الظنِّ بهم، وإن كان لهم فيه مخلصٌ؛ لأن ذلك سببٌ إلى إبطال الانتفاع بعلمهم، ومن ثمَّ قال بعض العلماء: ينبغي للحاكم أن يبيِّن للمحكوم عليه وجه الحكم إذا كان خافيًا؛ نفيًا للتُّهمة. ومن هنا يظهر خطأ من يتظاهر بمظاهر السوء ويعتذر بأنه يجرِّب بذلك على نفسه! وقد عظم البلاء بهذا الصِّنف، والله أعلم» (¬2). • ومن مواعظه قوله - رضي الله عنه - (¬3): «ويلٌ لديَّان الأرض من ديَّان السماء يوم يلقونه، إلاَّ من أمَّ العدل، وقضى بالحقِّ، ولم يقض بهوًى ولا لقرابةٍ، ولا لرغبةٍ ولا لرهبةٍ، وجعل كتاب الله مرآته بين عينيه». حين يتحدَّث عمر الفاروق عن العدل، فينبغي للآذان أن تنصت؛ فإنَّه الذي ضرب المثل بعدله، وسارت الرُّكبان بأخباره. إنَّ الفاروق حينما يعظ من تولَّى أدنى ولايةٍ من ولايات المسلمين، ¬

(¬1) فتح الباري؛ لابن حجر (4/ 280). (¬2) المصدر السابق. (¬3) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص103).

فإنَّه يعظه وهو الذي عاش همَّ الولاية وغمَّ المسؤولية، وهو الذي طالما ذرفت عيونه من الدمع؛ خوفًا من سؤال الله عن رعيَّته التي استرعاه الله عليهم، وهو الذي كان يقول: «لو ماتت شاةٌ على شطِّ الفرات ضائعةً لظننت أنَّ الله تعالى سائلي عنها يوم القيامة» (¬1). إنَّ الفاروق بموعظته هذه، ينبِّه القضاة خصوصًا على أعظم الموانع التي تحول بين الإنسان وبين القضاء بالحقِّ، وهي أربعٌ: الهوى، القرابة، الرغبة في الأطماع، الرهبة من ذي سلطانٍ! ثمَّ لمَّا ذكر هذه الموانع، أشار إلى الدواء والعلاج: «أن يجعل كتاب الله مرآته بين عينيه». وكأنَّه بذلك يشير إلى وصيَّة الله تعالى لنبيِّه داود - عليه الصلاة والسلام -: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]، وهي التي جاء بعدها قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]؛ إشارةً - والله أعلم - إلى أنَّ من أقبل على القرآن متدبِّرًا، طالبًا الهدى في باب القضاء، أو البحث العلميِّ، فإنَّ الله تعالى يهديه ويدلُّه على الصواب. • وقال الفاروق - رضي الله عنه - (¬2): «إنَّك لم تنل عمل الآخرة بشيءٍ أفضل من الزهد في الدُّنيا». مرَّ جابر بن عبد الله رضي الله عنهما - وهو معلِّقٌ لحمًا على ظهره - على عمر - رضي الله عنه -، فقال: «ما هذا يا جابر؟»، قال: «هذا لحمٌ اشتريته ¬

(¬1) حلية الأولياء (1/ 53). (¬2) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص101).

اشتهيته!»، قال: «أو كلَّما اشتهيت شيئًا اشتريته؟ أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20]؟!» (¬1). وكتب عمر إلى أبي عبيدة، فذكر كلامًا، وقال (¬2): «فغمِّض عن الدُّنيا عينك، وولِّ عنها قلبك، وإيَّاك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك؛ فقد رأيت مصارعها، وأُخبرت بسوء أثرها، على أهلها: كيف عري من كست، وجاع من أطعمت، ومات من أحيت؟! ... وأنت غائبٌ منتظرٌ متى سفره في غيره دار مقامٍ، قد نضب ماؤها، وهاجت ثمرتها، فأحزم الناس الراجل منها إلى غيرها بزاد بلاغٍ». ووضوح هذه المواعظ والوصايا يغني عن التعليق عليها، إلا أنَّه يحسن الإشارة إلى أنَّ هذه المواعظ يعظم وقعها حين تصدر من مثل عمر - رضي الله عنه -؛ فهو الذي تولَّى خلافة المسلمين عشر سنواتٍ، فما مالت به الدُّنيا ولا أطاحت، كان يلي من بلدان المسلمين ما يوازي عشر دولٍ عربيَّةٍ بل أكثر! ومع هذا لم يفتنه بهرجها، ولم يطغ، بل عاش عيشةً أذهلت رسول كسرى حين جاء يطلبه ليوصل له رسالة من سيِّده، فلم يزد - حين رآه متوسِّدًا التراب - إلا أن قال: «عدلت فأمنت فنمت». إنَّ التاريخ والواقع يثبتان أنَّ أعظم شيءٍ يفسد صاحب العلم، ومن تولَّى شأنًا من شؤون المسلمين هو: الطمع في الدُّنيا والتعلُّق بها تعلُّقًا ينسي الآخرة! وكلام السلف مع ما يشاهده الإنسان يغني عن الإطالة في بيان ذلك. ¬

(¬1) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص102). (¬2) الزهد؛ لأبي داود (ص107).

• ومن مواعظه العمليَّة (¬1): أنَّه - رضي الله عنه - حمل قِربةً على عنقه، فقيل له في ذلك، فقال: «إنَّ نفسي أعجبتني؛ فأردتُّ أن أُذلِّها». ما أحوج أهل العلم وطلبته - ومن نال شيئًا من أسباب الرِّفعة بين الناس - أن يداووا نفوسهم حين تهوي إلى دركات النيَّات السيِّئة، والأخلاق الرديئة! هذا عمر - وهو عمر! - يُهدي لنا درسًا عمليًا في تربية النفس حين تصاب بشيءٍ من أدوائها. فإن قلت: ما الذي أفعله؟ فيقال: كلُّ أعلم بما يُصلح نفسه، وأدرى بسبب العُجب الذي أصابه. وهذا نموذجٌ عمليٌّ أذكره، فقد قال لي مرةً أحدُ طلبة العلم المشاهير إعلاميًا: إنِّني إذا أعجبتني نفسي، حرصت أن ألبِّي دعوةً لمحاضرةٍ في قريةٍ نائيةٍ؛ لأجل أن أداوي نفسي، فالإعلام والفلاشات - كما يقال - لها أثرها، فلله درُّه! وللفاروق - رضي الله عنه - كلماتٌ جامعةٌ في الوعظ، أسوق منها قوله: - لا تعترض فيما لا يعنيك، واعتزل عدوَّك، واحتفظ من خليلك إلا الأمين؛ فإنَّ الأمين من القوم لا يعادله شيءٌ، ولا تُصاحب الفاجر فيعلِّمك من فجوره، ولا تفش إليه سرَّك، واستشر في أمرك الذي يخشون الله» (¬2). - وقال - رضي الله عنه -: «عليكم بذكر الله فإنَّه شفاء، وإيَّاكم وذكر الناس ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (مجلد سير الخلفاء الراشدين/83). (¬2) الزهد؛ لأبي داود (ص109).

فإنَّه داء» (¬1). ولنختم ببعض أدعية الفاروق - رضي الله عنه - الذي كان يقول: - «اللَّهمَّ عافنا واعف عنَّا» (¬2). - «اللَّهمَّ اجعل عملي صالحًا، واجعله لك خالصًا، ولا تجعل لأحدٍ فيه شيئًا» (¬3) هذه رشفةٌ من مواعظ الفاروق - رضي الله عنه - وما تركته أكثر، وفيما ذكر - إن انتفعنا به - خيرٌ ومغنمٌ. ... ¬

(¬1) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص101). (¬2) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص97). (¬3) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص97).

من مواعظ ذي النورين رضي الله عنه

من مواعظ ذي النُّورين - رضي الله عنه - إنَّه عثمان بن عفَّان بن أبي العاص بن أميَّة بن عبد شمسٍ القرشيُّ الأمويُّ، أشهر كناه: أبو عمروٍ. ولد بمكة، وأسلم بعد البعثة بقليلٍ، وكان غنيًا شريفًا في الجاهليَّة. هاجر إلى أرض الحبشة فارًّا بدينه مع زوجته رقيَّة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أوَّل خارجٍ إليها، وتابعه سائر المهاجرين إلى أرض الحبشة، ثم هاجر الهجرة الثانية إلى المدينة. كان من كبار الرجال الذين اعتزَّ بهم الإسلام في عهد ظهوره. ومن أعظم أعماله في الإسلام: تجهيزه نصف جيش العسرة بماله، فبذل ثلاثمائة بعيرٍ بأقتابها وأحلاسها، وتبرَّع بألف دينارٍ. وصارت إليه الخلافة بعد وفاة عمر بن الخطَّاب سنة (23هـ)، فافتتحت في أيَّامه: إرمينية، والقوقاز، وخراسان، وكرمان، وسجستان، وإفريقيَّة، وأتمَّ جمع القرآن، وهو أول من زاد في المسجد الحرام ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأمر بالأذان في الأول يوم الجمعة، واتَّخذ الشرطة، وله غير ذلك من المناقب. مات - رضي الله عنه - شهيدًا، حيث قتل في 18 من ذي الحجَّة، يوم الجمعة،

سنة (35هـ)، وهو ابن اثنتين وثمانين سنةٌ (¬1). • وأما ما روى عنه من المواعظ، فكثيرةٌ، ولعلَّنا نبتدئ بهذه الموعظة التي تعكس لنا شيئا من حياة عثمان مع أشرف كتابٍ نزل من السماء، حيث يقول - رضي الله عنه - (¬2): «لو طهرت قلوبكم، ما شبعت من كلام الله عز وجل». إنَّها موعظةٌ بليغةٌ، تصف الدَّاء الذي حال بين كثيرٍ من الناس وبين عدم انتفاعهم بالقرآن؛ إنَّها أمراض القلوب: من الرياء، والحسد، والحقد، وغيرها من الأدواء التي تحول بين المرء وبين الانتفاع الحقِّ من الكتاب الحقِّ. إنَّ القلب كالوعاء؛ إذا امتلأ بشيءٍ ازدحم به، فإذا امتلأ بهذه الأدواء ضعف أثر القرآن عليه، إلا أن يقرأ بقصد علاجها وشفائها، فهذا من أعظم مقاصد نزول القرآن؛ قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]. إنَّ تعبير عثمان - رضي الله عنه - بقوله: (ما شبعت) تعبيرٌ دقيقٌ ومعبِّرٌ، ففي القلب جوعٌ لا يسدُّه شيءٌ كما يسدُّه التعلُّق بالقرآن، تلاوةً وسماعًا وتدبُّرًا. - لقد عبَّر عثمان - رضي الله عنه - عن حبِّه لكلام ربِّه، وعدم شبعه منه بقوله: «ما أحبُّ أن يأتي عليَّ يومٌ وليلةٌ إلاَّ أنظر في كلام الله عز وجل»، وفي لفظٍ «إلى عهد الله»؛ يعني: القراءة في المصحف (¬3). ¬

(¬1) هذه الترجمة من: الطبقات الكبرى (3/ 31)، تاريخ الإسلام (2/ 258)، (2/ 268)، الاستيعاب (3/ 1037)، الأعلام للزركلي (4/ 210). (¬2) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص106). (¬3) فضائل عثمان بن عفان؛ لعبد الله بن أحمد (ص115).

يقول هذا وهو خليفة المسلمين، الذي اتَّسعت في عهده الفتوح جدًا! فأين الذين تمضي عليهم الأيام والليالي وما فتحوا صفحةً من المصحف وهم لم يرتبطوا بأدنى مسؤوليةٍ؟! • ومن خطبه الوعظيَّة التي خطبها في آخر حياته قوله - رضي الله عنه - (¬1): «إنَّ الله إنَّما أعطاكم الدُّنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها، إنَّ الدُّنيا تفنى، وإنَّ الآخرة تبقى، لا تبطرنَّكم الفانية، ولا تشغلنَّكم عن الباقية، وآثروا ما يبقى على ما يفنى؛ فإنَّ الدُّنيا منقطعة، وإنَّ المصير إلى الله، اتَّقوا الله فإنَّ تقواه جنَّةٌ من بأسه، ووسيلةٌ عنده، واحذروا من الله الغير، والزموا جماعتكم لا تصيروا أحزابًا {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]». ووضوح المعاني التي ذكرها - رضي الله عنه - في الزهد في الدُّنيا تغني عن الإطالة في إيضاحها. إلا أنَّه لا بدَّ من الإشارة إلى موعظته المتعلِّقة بلزوم جماعة المسلمين، وهو الذي رأى بوادر فتنةٍ أطلَّت، وهو -أيضًا - الذي ذاق مرارة الفرقة في الجاهليَّة، وذاق حلاوة الاجتماع والألفة في الإسلام على يدي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. فهل يعي هذا المعنى أناسٌ ولدوا في أمَّةٍ مجتمعةٍ، ويريدون أن يفرِّقوا جماعة المسلمين، ويحفروا - بجهلهم - حفرًا من النار؟! ... ¬

(¬1) البداية والنهاية (7/ 241).

• ومن مواعظة البديعة قوله - رضي الله عنه - (¬1): «ما من عاملٍ يعمل عملًا إلاَّ كساه الله عز وجل رداء عمله». ويروى عنه أنَّه قال «ما أسرَّ أحدٌ سريرةً إلا أبداها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه». وقال مرةً - رضي الله عنه - «لو أنَّ عبدًا دخل بيتًا في جوف بيتٍ فأدمن هناك عملًا، أوشك الناس أن يتحدَّثوا به، وما من عاملٍ يعمل إلا كساه الله رداء عمله؛ إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًا فشرٌّ» (¬2). إنَّ فيما ذكره أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - في موعظته - إرشادًا لنا أن نتَّقي الله في سرائرنا، وأن نعامل الله بالصدق وليس غيره؛ إذ لا نجاة مع الله في الدُّنيا والآخرة إلا به، قال تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119]، وفي المقابل فإنَّ المرء إن حاول أن يخفي شيئًا خلاف سريرته، فإنَّ الله تعالى يظهره ولا بدَّ، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًا فشرٌّ، كما قال عثمان - رضي الله عنه -، وتأمَّل ما حكاه الله تعالى عن المنافقين: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 30]، فهذا المنافق يجتهد في كتمان نفاقه، فأخبر الله أنَّه سيظهر أمرهم في لحن قولهم، وكذلك المؤمن الذي يجتهد في كتمان إيمانه - كمؤمن آل فرعون، وامرأة فرعون - سيظهر إيمانه على لسانه عند المخالفين الذين يخالفهم، فويل للمنافقين، وبشرى للصادقين! ومن الدواء لعلاج الخلل في شأن السريرة: ما ذكره سلمان - رضي الله عنه -، ¬

(¬1) فضائل عثمان بن عفان؛ لعبد الله بن أحمد (ص116). (¬2) الزهد والرقائق؛ لابن المبارك، والزهد؛ لنعيم بن حماد (2/ 17).

قال: «إذا أسأت سيئةً في سريرةٍ، فأحسن حسنةً في سريرةٍ، وإذا أسأت سيِّئةً في علانيةٍ، فأحسن حسنةً في علانيةٍ؛ لكي تكون هذه بهذه» (¬1). * ومن مواعظه في شأن الولاية (¬2): «إنَّ الله ليزع بالسُّلطان، ما لا يزع بالقرآن». ومعنى هذه الجملة المحكمة: أنَّ من الناس من لا يردعه أمرٌ ونهيٌ، ولا ترغيبٌ ولا ترهيبٌ، بل لا يردعه إلا زجر السلطان، بسوطه أو بسيفه، حسب حاله! ومن هنا شرعت الحدود؛ لأنَّ من الناس من لا يرتدع بوعظٍ، فليردعه الحدُّ؛ ليكفَّ شرَّه عن نفسه وعن الناس. *ومن مواعظه العظيمة في الخمر (¬3): «إيَّاكم والخمر؛ فإنَّها مفتاح كلِّ شرٍّ! أتي رجلٌ فقيل له: إمَّا أن تحرق هذا الكتاب، وإمَّا أن تقتل هذا الصبيَّ، وإمَّا أن تقع على هذه المرأة، وإمَّا أن تشرب هذه الكأس، وإمَّا أن تسجد لهذا الصليب! قال: فلم ير فيها شيئًا أهون من شرب الكأس، فلمَّا شربها، سجد للصليب، وقتل الصبيَّ، ووقع على المرأة، وحرق الكتاب!». إنَّها موعظةٌ ملئت نصحًا وعقلًا، لو تأمَّلها الذين ابتلوا بشرب أمِّ الخبائث، فأفسدت عليهم أديانهم وعقولهم وأموالهم، وشتَّتت ¬

(¬1) التوبة؛ لابن أبي الدنيا (121). (¬2) البداية والنهاية (2/ 12)، الكامل في اللغة والأدب (1/ 214)، ويروى أيضًا عن عمر، انظر: الدر المنثور، في التفسير بالمأثور (5/ 329). (¬3) التمهيد (15/ 10).

أمورهم، لوجدوا فيها تشخيصًا للداء .. ويكفي المؤمن أن يتأمَّل في عواقبها السيِّئة ليتركها، فضلًا عن زواجر القرآن والسُّنَّة، التي لو فكَّر شاربها أنَّه ملعونٌ على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لارتدع! قيل لعثمان - رضي الله عنه -: ما منعك من شرب الخمر في الجاهليَّة ولا حرج عليك فيها؟ قال: «إنِّي رأيتها تُذهب العقل جملةً، وما رأيت شيئًا يذهب جملةً ويعود جملةً» (¬1). • ولنختم بكلماتٍ قالها - رضي الله عنه - في إحدى خطبه: «أيُّها الناس، اتَّقوا الله؛ فإنَّ تقوى الله غنمٌ، وإنَّ أكيس الناس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، واكتسب من نور الله نورًا لظلمة القبر، وليخش عبدٌ أن يحشره الله أعمى وقد كان بصيرًا، واعلموا أنَّ من كان الله له لم يخف شيئًا، ومن كان الله عليه فمن يرجو بعده؟!» (¬2). رضي الله عن الخليفة الراشد ذي النورين، وجمعنا به في جنَّات عدنٍ. ... ¬

(¬1) العقد الفريد (8/ 52). (¬2) البداية والنهاية (7/ 241).

من مواعظ أمير المؤمنين علي رضي الله عنه

من مواعظ أمير المؤمنين عليٍّ - رضي الله عنه - (1/ 3) إنَّني هنا لا أترجم لأبي الحسن - رضي الله عنه -، ولا أتحدَّث عن علمه ومكانته، فهو الإمام حقًّا، وأمير المؤمنين صدقًا، وهو العالم العلم الكبير؛ وإنَّما هي إشارةٌ بين يدي الحديث عن بعض مواعظه! إنَّه عليُّ بن أبي طالب - واسم أبي طالبٍ: عبد منافٍ - بن عبد المطَّلب بن هاشم بن عبد منافٍ، أمير المؤمنين، أبو الحسن، القرشيُّ الهاشميُّ، وهو أول من أسلم من الصبيان (¬1)، وهو رابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشَّرين بالجنَّة، وابن عمِّ النبيِّ وصهره، وأحد الشجعان الأبطال، ومن أكابر الخطباء والعلماء بالقضاء. وكان اللواء بيده في أكثر المشاهد، ولي الخلافة بعد مقتل عثمان بن عفان (سنة 35 هـ). قال أبو رجاءٍ العطارديُّ: رأيت عليًّا شيخًا أصلع، كثير الشَّعر، كأنَّما اجتاب (¬2) إهاب شاةٍ، ربعةً، عظيم البطن، وعظيم اللحية. روى الكثير عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعرض عليه القرآن وأقرأه، ومناقبه كثيرةٌ. ¬

(¬1) قيل: أسلم وعمره سبع، وقيل: ثمانٍ: وقيل: تسع، وقيل: أربع عشرة سنة. (¬2) أي: لبس.

استشهد سنة (40هـ)، قتله عبد الرحمن بن ملجمٍ المراديُّ غيلةً في مؤامرة السابع عشر من شهر رمضان (¬1). - إنَّه عليٌّ - رضي الله عنه -، حبُّه إيمانٌ، وبغضه نفاقٌ، إنَّه الرجل الذي (يحبُّ الله ورسوله، ويحبُّه الله ورسوله) (¬2) .. إنَّه الصِّهر القريب، والشابُّ المقرَّب الحبيب! - إنَّه الشابُّ العالم الذي اختاره - صلى الله عليه وسلم - لمهمَّةٍ خطيرةٍ، وهي بعثه إلى اليمن قاضيًا. - إنَّه العالم بكتاب الله تعالى وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، حتى قال سعيد بن المسيِّب: لم يكن أحدٌ من أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: سلوني، إلا عليُّ بن أبي طالبٍ (¬3)، بل كان الفاروق - رضي الله عنه - الذي يعرف أقدار الرجال -: يتعوَّذ بالله من معضلةٍ ليس لها أبو حسنٍ. - بل قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه -: إذا بلغنا شيءٌ تكلَّم به عليٌّ - رضي الله عنه - من فتيا أو قضاءٍ وثبت، لم نجاوزه إلى غيره (¬4). وفي البخاريِّ عن سعدٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى تبوك واستخلف عليًّا، فقال: أتخلِّفني في الصِّبيان والنِّساء؟! قال: «ألا ترضى أن تكون منِّي بمنزلة هارون من موسى؟ إلاَّ أنَّه ليس نبيٌّ بعدي» (¬5). - إنَّه الرجل الذي ما مات النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن خيرٍ منه من آل البيت - عليهم سلام الله ورضوانه -. ¬

(¬1) تاريخ الإسلام (3/ 621)، الأعلام؛ للزركلي (4/ 295). (¬2) البخاري ح (3009)، مسلم ح (2404). (¬3) فضائل الصحابة؛ لأحمد بن حنبل (2/ 646). (¬4) المدخل إلى السنن الكبرى؛ للبيهقي (131). (¬5) صحيح البخاري ح (4416).

- إنَّه أحد من شملتهم الوصيَّة النبويَّة: «أذكِّركم الله في أهل بيتي». - إذا ذكرت مواعظ الصحابة رضي الله عنهم، فإن مواعظ أمير المؤمنين أبي الحسن عليٍّ - رضي الله عنه - لها شأنها وتميُّزها؛ نظرًا لتأخُّر وفاته مقارنةً ببقية الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. لذا؛ قد يمتدُّ بنا الحديث مع مواعظه في أكثر من درسٍ أو مجلسٍ. فمن تلك المواعظ: • قوله في وصيَّته المشهورة لكُميل بن زيادٍ (¬1): «يا كُميل بن زيادٍ، إنَّ هذه القلوب أوعيةٌ، وخيرها أوعاها للعلم، احفظ عنِّي ما أقول لك: الناس ثلاثةٌ: عالمٌ ربَّانيٌّ، ومتعلِّمٌ على سبيل نجاةٍ، وهمجٌ رعاعٌ أتباع كلِّ ناعقٍ، يميلون مع كلِّ ريحٍ، لم يستضيئوا بنور العلم، ولمك يلجؤوا إلى ركنٍ وثيقٍ. يا كُميل بن زيادٍ، العلم خيرٌ من المال؛ العلم يحرسك وأنت تحرس المال، المال ينقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق. يا كُميل بن زيادٍ، محبة العالم دينٌ يدان، تكسبه الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، ومنفعة المال تزول بزواله، العلم حاكمٌ والمال محكومٌ عليه. يا كميل، مات خزَّان المال وهم أحياءٌ! والعلماء باقون ما بقي الدهر؛ أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة». ¬

(¬1) تاريخ دمشق؛ لابن عساكر (50/ 252)، قال ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/ 984): «وهو حديث مشهور عند أهل العلم، يستغني عن الإسناد؛ لشهرته عندهم».

وأظنُّ أنَّ وضوح هذه المعاني تعني عن الإفاضة في التعليق عليها، إلا أنَّ اللافت في هذا أنَّه جمع لتلميذه كُميلٍ بين اللذَّات الدُّنيويَّة التي يسعى لها عموم الناس، وهي: العلم وأهله، المال، حسن الذِّكر، ثم بيَّن له كيف تعود هذه الأمور الثلاثة على صاحبها بالغنيمة في الدُّنيا قبل الآخرة. كما أنَّه أبدع حين عقد هذه المقارنة بين العلم والمال؛ حيث قال: «العلم خيرٌ من المال؛ العلم يحرسك وأنت تحرس المال، المال ينقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق»، ومن الجميل في هذه المقارنة سهولة التعبير مع عمق المعنى، بالإضافة إلى وضوح الحجَّة العقليَّة فيها. وشاهد هذه المقارنة في قول الإلبيريِّ في قصيدته الشهيرة: وكنزٌ لا تخاف عليه لصًّا ... خفيف الحمل يوجد حيث كنتا يزيد بكثرة الإنفاق منه ... وينقص إن به كفًّا شددتا • ومن مواعظه المتينة - رضي الله عنه - قوله (¬1): «حدِّثوا النَّاس بما يعرفون؛ أتحبُّون أن يكذَّب الله ورسوله؟!». وهذا من المعنى الذي يوفَّق له العاقل من حملة العلم، فليس كلُّ علمٍ يلقى على الناس، دون مراعاةٍ لأحوالهم الزمانيَّة والمكانيَّة والعلميَّة! ومن ذلك: التحدُّث بأحاديث مشكلةٍ لا تستوعبها عقول العامة؛ إمَّا لغموض معناها، أو لكونها منسوخةً، أو لغير ذلك من العوارض العلميَّة. ¬

(¬1) صحيح البخاري (1/ 37).

وتأمَّل في تعليل عليٍّ - رضي الله عنه - لهذا النهي، حيث يقول: «أتحبُّون أن يكذَّب الله ورسوله؟». سبحان الله! انظر كيف ينقلب مراد الإنسان من نفع الناس، والرغبة في إفادتهم، إلى عكس مقصوده، حينما يحدِّث بما لا تفقهه عقول الناس! إنَّ هذا التوجيه الكريم من أمير المؤمنين عليٍّ - رضي الله عنه -، يهدى لإخواننا الذين يتصدَّون لوعظ الناس وإرشادهم، أن يتجنَّبوا ما قد يثير القلق أو الحيرة لدى المستمعين، من خلال ذكر بعض القصص الغريبة، أو الأخبار التي تشتمل على معانٍ لا تستوعبها عقول العامة! وفي محكم القرآن والسُّنَّة وواضح النصوص ما يكفي ويشفي. • ومن مواعظه البليغة - رضي الله عنه -: قال يعزِّي رجلًا في ابنه (¬1): «إنَّك إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت مأزور!». يا للعلم والحكمة! كم نحن محتاجون لمثل هذا الفقه العمليِّ عند وقوع المصائب، فما منَّا إلا ويبتلى بمصيبةٍ تحزنه، من موت حبيبٍ وصاحبٍ وقريبٍ، فكم هو جميلٌ أن يستحضر الإنسان هذا المعنى. وفي هذا المقام تذكر القصة التي فيها: أنَّ رجلًا كتب إلى أخٍ له فجع بوفاة ولده قائلًا: إنَّما يستوجب على الله وعده من صبر لله بحقِّه، فلا تجمع إلى ما أصبت به من المصيبة الفجيعة بالأجر، فإنَّها أعظم ¬

(¬1) التعازي؛ لأبي الحسن المدائني (ص82).

المصيبتين عليك، والسلام (¬1). لم ننته بعد من تطوافنا مع مواعظ أمير المؤمنين عليِّ - رضي الله عنه -؛ فللحديث صلةٌ مع مواعظه - رضي الله عنه -. ... ¬

(¬1) العقد الفريد (3/ 256).

من مواعظ أمير المؤمنين علي رضي الله عنه

من مواعظ أمير المؤمنين عليٍّ - رضي الله عنه - (2/ 3) • ومن مواعظ أمير المؤمنين، الإمام الفصيح، أبي الحسن عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - قوله (¬1): «إنَّ النِّعمة موصَّلةٌ بالشُّكر، والشُّكر معلَّقٌ بالمزيد، وهما مقرونان في قرنٍ، فلن ينقطع المزيد من الله حتَّى ينقطع الشُّكر من العبد». وهذا المعنى الذي ذكره - رضي الله عنه - منتزعٌ من قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]. إنَّ فهم هذه الحقيقة يكشف لك سرًا من أسرار تبدُّل النِّعم على أممٍ وجماعاتٍ وأفرادٍ، وصدق الله إذ يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53]. • ومن مواعظه - رضي الله عنه - قوله (¬2): «من لانت كلمته، وجبت محبَّته». صدق - رضي الله عنه -! فإنَّ شواهد الواقع على هذا أكثر من أن تحصر! وإنَّ أحقَّ من ينبغي عليهم مراعاة هذا المعنى والسعي إليه: الدُّعاة ¬

(¬1) الشكر؛ لابن أبي الدنيا (ص11). (¬2) العقد الفريد (2/ 138).

إلى الله تعالى؛ ذلك أنَّ الرفق في الخطاب، واجتناب الكلمات الجافية، له أثره القويُّ في تأليف القلوب، وإصغاء الأسماع لما يريد المتكلِّم قوله؛ ولهذا أمر الله تعالى موسى وأخاه هارون -حين بعثهما إلى أشدِّ طغاة الأرض- بلين الكلام؛ وعلَّل ذلك لهما فقال سبحانه: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]. وإذا كان الله تعالى يقول لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، فمن الواعظون بعده؟ ومن بعد الصحابة موعوظون؟! نعم، قد يحتاج إلى الشِّدِّة في بعض المواضع، لكن المؤكَّد أنَّها استثناء، وليست أصلًا. وفيما يخصُّ لين الكلام، وأثره على محبة الناس، فإنَّ أولى الناس بلين الكلام هم: الوالدان، والزوجة والأولاد، ومن لهم حقٌّ على الإنسان -كمشايخه ومعلِّميه -ثم كبار السنِّ وعموم الناس، كما قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، وفي قراءةٍ سبعيَّةٍ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، فشمل ذلك: حسن اللفظ، وحسن الأداء. • ومن مواعظه - رضي الله عنه - قوله (¬1): «حِلمُك على السَّفيه يكثِّر أنصارك عليه» والمعنى: أنَّ الإنسان قد يبتلى بسفيهٍ يرمي كلامًا يجرح، أو يتصرَّف تصرُّفًا يؤذي، فإن قابله الإنسان بسفهٍ، فقد نزل إلى مستواه، وإن ¬

(¬1) العقد الفريد (2/ 138).

سكت عنه وأعرض، تولَّى الناس الدفاع عنه، والانتصار له، وهذا من ثمار التخلُّق بأخلاق عباد الرحمن الذين لا يكتفون بالسكوت عمَّا يلقونه من السَّفه، بل يرتقون درجةً أعظم، وهي مقابلة السَّفه بالقول الليِّن، والخطاب السديد! كما قال الله عنهم: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] إنَّ مقابلة السفيه بمثل قوله، وإن جاز شرعًا، فإنَّه ليس من درجات الكمال، بل الأولى الإعراض عنهم؛ لأنَّهم - لسفههم - يظُّنُّون أنَّ إجابتهم على سفههم نوعٌ من الاعتبار لهم؛ ولهذا يجمل بالعاقل أن يتحاشى هذا، على حدِّ قول الأوَّل: يُخاطبني السَّفيه بكلِّ قُبحٍ ... فاكره أن أكون له مجيبا يزيد سفاهةً وأزيد حلمًا ... كعودٍ زاده الإحراق طِيبا وهذا النوع من السفهاء، لئن كان الإنسان لا يلقاهم في الزمن السابق إلا لِمامًا، فإنَّه اليوم يلقاهم كلَّ يومٍ بل بالساعات! من خلال مواقع التواصل الاجتماعيِّ - كتوتير والفيسبوك! - وهذا شيءٌ معروفٌ ومجرَّبٌ لمن له أدنى مشاركةٍ في هذه المواقع، ولا دواء أحسن من الإعراض عنهم، ولقد رأى المجرِّبون صدق مقولة أبي الحسن - رضي الله عنه - «حلمك على السَّفيه يكثِّر أنصارك عليه». • ومن مواعظه - رضي الله عنه - قوله (¬1): «المشاورة حصنٌ من النَّدامة، وأمنٌ عن الملامة». ¬

(¬1) الذريعة، إلى مكارم الشريعة (ص210).

وهذه الموعظة هي ثمرة تجارب طويلةٍ عاشها عليُّ - رضي الله عنه - بنفسه، وقبل ذلك مع أستاذة ومعلِّمه الأوَّل - صلى الله عليه وسلم -. إنَّ الاستشارة أمارةٌ على عقل المستشير؛ ذلك أنَّ الرأي الفذَّ ربَّما زل، والعقل الفرد ربَّما ضلّ- كما يقول بعض العلماء-. وقد قال بعض السَّلف: من حقِّ العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العلماء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء. وقال بعضهم: «الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه» (¬1). وشواهد الحال - فضلًا عن شواهد السُّنَّة - تؤكِّد أهمية الاستشارة، وتتأكَّد أهميتها كلَّما عظم الأمر الذي سيقدم عليه الشخص، وتتأكَّد أكثر وأكثر حين يتعلَّق الأمر بجماعةٍ من الناس أو بالأمَّة! إنَّ ممَّا يوسف عليه: أن ترى بعض الناس - وخاصة الشباب - ربَّما أقدم على أمورٍ مهمَّةٍ ومصيريَّةٍ في حياته دون استشارةٍ أو استخارةٍ! يحمله على ذلك التَّعجُّل وضعف الإدراك للمآلات! وهذا غلطٌ عظيم، غالبًا يقع معه الندم، ولكن بعد فوات الأوان حيث يتعذَّر الاستدراك! ولو كان أحدٌ من الخلق يستغني عن الاستشارة، لاستغنى عنها المؤيَّد بالوحي - صلى الله عليه وسلم -، الذي قال الله له: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، قال الحسن البصريُّ وغيره: ما أمر الله تعالى نبيَّه بالمشاورة لحاجةٍ منه إلى رأيهم؛ وإنَّما أراد أن يعلِّمهم ما في المشاورة من الفضل، ولتقتدي به أمَّته من بعده (¬2). ¬

(¬1) أدب الدنيا والدين (ص300). (¬2) تفسير القرطبي (4/ 250).

وهكذا كان - صلى الله عليه وسلم - يفعل، ومن تأمَّل السِّيرة، وجد كيف طبَّقها - صلى الله عليه وسلم - عمليًا، بل كان له من خاصَّة أصحابه - كالخلفاء الأربعة - من يستشيرهم ويراجعهم. إذا بلغ الرَّأي المشورة فاستعن ... برأي نصيحٍ أو نصيحة حازم ولا تجعل الشُّورى عليك غضاضةً ... فإن الخوافي قوَّةٌ للقوادم ويؤكِّد عليُّ - رضي الله عنه - في موعظته هذه على فائدةٍ أخرى من فوائد الاستشارة، وهي: أنَّها أبعد عن الملامة؛ ملامة الشخص لنفسه، أو ملامة الناس له، ولسان حاله يقول: قد استشرت الخلق، واستخرت الخالق، وهذا غايةُ وُسْعِي! وأعرف من أهل العلم المعاصرين -وهو في عشر السبعين متَّع الله بحياته على حسن عملٍ - من لا يقدم على أيِّ خطوةٍ في حياته العلميَّة والدعويَّة إلا وقد استشار، وقال لي مرةً: لم أندم يومًا في حياتي على قرارٍ اتَّخذته ولو جاء الأمر على خلاف مرادي؛ لأنَّني لا أقدم إلا بعد استخارةٍ واستشارةٍ، وهذا غاية ما في وُسْعِي. • ومن مواعظه - رضي الله عنه -: «لله امرؤٌ راقب ربَّه، وخاف ذنبه، وعمل صالحًا، وقدَّم خالصًا، واحتسب مذخورًا، واجتنب محذورًا، ورمى عَرَضَا، وأحرز عِوَضًا، كابَرَ هواه، وكذَّب مُناه» (¬1). ¬

(¬1) البصائر والذخائر (3/ 27). قوله: «رمى عَرَضًا» يقال: أصابه سهم عرضٍ، إذا جاءه من حيث لا يدري من رماه. مقاييس اللغة (4/ 280).

وسمع رجلًا يذمُّ الدُّنيا، فقال: «إنَّها لدار صدقٍ لمن صدقها، ودار عافيةٍ لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوَّد منها» (¬1). هذه جملةٌ من مواعظ هذا الإمام الجليل، والأمير الكريم، أبي الحسن عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -، بقي لنا جولةٌ ثالثةٌ في رياض وعظه. **** ¬

(¬1) ذم الدنيا (ص77).

من مواعظ أمير المؤمنين علي رضي الله عنه

من مواعظ أمير المؤمنين عليٍّ - رضي الله عنه - (3/ 3) • ومن مواعظ أمير المؤمنين، الإمام الفصيح، أبي الحسن عليِّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - قوله (¬1): «خذوا منِّي هذه الكلمات الخمس؛ فإنَّكم -والله - لو ركبتم المطيَّ حتى تنصبوها، ما أدركتم مثلهنَّ: لا يرجونَّ عبدٌ إلا ربَّه، ولا يخافنَّ إلا ذنبه، ولا يستحي إذا سُئل عمَّا لا يعلم أن يقول: لا أعلم، ولا يستحي أن يتعلَّم إذا لم يعلم، وإنَّ الصَّبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد؛ لا خير في جسدٍ لا رأس له». خمس كلماتٍ عليها أثارةٌ من النبوَّة: أوَّلها: تذكير العبد بالتعلُّق بمن بيده مقاليد السموات والأرض، وأزمَّة الأمور، فإليه المُنتهى والرغبة، ولا حول ولا قوة إلا به. ولكأنَّك - وأنت تقرأ هذه الوصيَّة- تتذكَّر وصية النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس رضي الله عنهما حين أردفه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - معه على حمارٍ، وأوصاه بجملةٍ من الوصايا، والتي منها: «واعلم أنَّ الأمَّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ، لم ينفعوك إلاَّ بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرُّوك بشيءٍ، لم يضرُّوك إلاَّ بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، ¬

(¬1) الإيمان؛ للعدني (ص85).

وجفَّت الصُّحف» (¬1). وثاني هذه الكلمات: «ولا يخافنَّ عبدٌ إلا ذنبه»؛ فإنَّ الله تعالى علَّق لحوق الآفات والمصائب بهذا، فقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]. ولقد فقه هذا المعنى أكابر سلف هذه الأمَّة، ومن أجمع ما رأيته من كلامهم في التعبير عن هذه الحقيقة، قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله حين كتب إلى بعض عمَّاله: «عليك بتقوى الله في كلِّ حال ينزل بك؛ فإنَّ تقوى الله أفضل العدَّة، وأبلغ المكيدة، وأقوى القوَّة، ولا تكن في شيءٍ من عداوة عدوِّك أشد احتراسًا لنفسك ومن معك من معاصي الله؛ فإنَّ الذنوب أخوف عندي على الناس من مكيدة عدوِّهم، وإنَّما نعادي عدوَّنا ونستنصر عليهم بمعصيتهم، ولولا ذلك لم تكن لنا قوةٌ بهم؛ لأنَّ عددنا ليس كعددهم، ولا قوَّتنا كقوَّتهم، فإن لا ننصر عليهم بحقِّنا لا نغلبهم بقوَّتنا، ولا تكوننَّ لعداوة أحدٍ من الناس أحذر منكم لذنوبكم، ولا أشدَّ تعاهدًا منكم لذنوبكم» (¬2). اهـ. وأمَّا الكلمة الثالثة التي تضمَّنتها هذه الموعظة البليغة من عليِّ - رضي الله عنه -، فهي: «ولا يستحي إذا سُئل عمَّا لا يعلم أن يقول: لا أعلم». هذه سنَّةٌ ملائكيَّةٌ؛ فإن الملائكة حسن سألهم الله وكانوا لا يعلمون، قالوا: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]. ولا أجد في بيان هذه الجملة خيرًا من ذكر بعض ما رُوي عن الإمام مالك رحمه الله، كما في القصة المشهورة التي رواها عبد الرحمن بن ¬

(¬1) رواه الترمذي ح (2516) وقال: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ. (¬2) حلية الأولياء (5/ 303).

مهديِّ، يقول: كنَّا عند مالك بن أنسٍ، فجاءه رجلٌ فقال: يا أبا عبد الله، جئتك من مسيرة ستة أشهرٍ؛ حمَّلني أهل بلدي مسألةً أسألك عنها، قال: فسل، فسأله الرجل عن مسألةٍ، فقال: «لا أحسنها»، قال: فبهت الرجل كأنَّه قد جاء إلى من يعلم كلَّ شيءٍ! قال: فأيُّ شيءٍ أقول لأهل بلدتي إذا رجعت لهم؟! قال: «تقول لهم: قال مالكٌ: لا أحسن». وقال ابن وهبٍ: سمعت مالكًا يقول: «ينبغي للعالم أن يألف فيما أشكل عليه قول: (لا أدري)؛ فإنَّه عسى أن يهيَّأ له خيرٌ»، قال ابن وهبٍ: وكنت أسمعه كثيرًا ما يقول: لا أدري. وقال في موضعٍ آخر: لو كتبنا عن مالكٍ: (لا أدري)، لملأنا الألواح! وقال أبو داود: «قول الرجل فيما لا يعلم: (لا أعلام) نصف العلم» (¬1)! فليعتبر طلبه العلم بهذا، وأين منهم من هو في درجة مالكٍ رحمه الله؟ والذي ما زاده هذا المسلك في قول: (لا أدري) إلا رفعةً ومكانةً في الأمَّة. وأمَّا الجملة الرابعة من موعظة عليٍّ - رضي الله عنه -، فهي قوله: «ولا يستحي أن يتعلَّم إذا لم يعلم». وصدق - رضي الله عنه -، وكم منع الحياء من أناسٍ أن يتعلَّموا؛ إمَّا خوفًا من الغلط، أو حذار أن يجلسوا عند من هو أصغر منهم سنًا، أو أقلُّ وجاهةً اجتماعيَّةً! ¬

(¬1) ينظر - فيما سبق من آثارٍ عن مالكٍ وأبي داود -: جامع بيان العلم وفضله (2/ 838).

ولهؤلاء الذين حال بينهم وبين التعلُّم ما سبق أو غيره، أذكِّرهم بكلمةٍ وموقفٍ: أمَّا الكلمة، فهي قول أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - كما علَّقه البخاري -: «تفقَّهوا قبل أن تُسوَّدُوا»، قال البخاريُّ بعد هذا مباشرةً: «وبعد أن تُسوَّدوا، وقد تعلَّم أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في كِبَرِ سنِّهم». وأمَّا الموقف، فهو للبضعة النبويَّة الملقَّب بزين العابدين: عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالبٍ، والذي عاش حياته في المدينة، وكان سيِّدًا من سادات الناس، وموضع الإجلال والتقدير، فكان يتخطَّى حلق قومه من قريشٍ، حتى يأتي زيد بن أسلم -وهو مولى من الموالي، لكنَّه عالمٌ كبيرٌ - فيجلس عنده، فقال: «إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه» (¬1). يا للعلم والعقل! لم يلتفت للُّغة المستعلية على العلم، ولا المنطق الذي يثير غبار الجاهليَّة، فيجيب بهذه الكلمة التي عليها أثارةٌ من النبوة «إنَّما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه». وأمَّا الكلمة الخامسة، فهي: «وإنَّ الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد؛ لا خير في جسدٍ لا رأس له» (¬2). نعم .. إنَّه الصبر! «فإذا استحكمت الأزمات وتعقَّدت حبالها، وترادفت الضوائق وطال ليلها، فالصبر وحده هو الذي يشعُّ للمسلم النور العاصم من التخبُّط، والهداية الواقية من القنوط» (¬3). ¬

(¬1) حلية الأولياء، وطبقات الأصفياء (3/ 138). (¬2) الإيمان؛ للعدني (ص85) (¬3) خلق المسلم (117).

إنَّه الصبر الذي تكرَّر الحديث عنه في القرآن في أكثر من تسعين موضعًا. ومن المحزن أن يَظُنَّ بعض الناس أنَّ الوصيَّة بالصبر- عند انغلاق الأمور -وصية عاجزٍ! عجبًا! أو تكون الوصية بوصية الله ورسوله وصية عاجزٍ؟! بل هي وصية ناصحٍ، خاصةً أنَّ عددًا من المصائب والمشاكل لا يمكن تجاوز أثرها إلا بالصبر، وإلا فماذا يصنع من يفجع بوفاة حبيبٍ؟ هل ثمَّة إلا الصبر؟ أو من يُبتلى بتلف مالٍ؟ هل ثمَّة إلا الصبر؟ (¬1) • ومن موعظه - رضي الله عنه - قوله (¬2): «إنَّ الحقَّ والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال، وبإعمال الظنِّ! اعرف الحقَّ تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله». يا له من مقياسٍ دقيقٍ! يحتاجه الإنسان في زمنٍ طاشت فيه الموازين إلا عند من وفَّقهم الله تعالى للإنصاف. لقد ابتليت الأمَّة بطوائف من الناس، يتعصَّبون لأشخاص ولأقوالهم، ويمتحنون الناس بها، ويوالون ويعادون عليها، حتى إذا ما رجع الذي يتعصَّبون لقوله عن رأيه هذا أو ذاك، طاشت موازينهم مرةً أخرى! إنَّ من حكمة الله تعالى ورحمته أنَّه لم يربط هذه الأمَّة بفردٍ بعينه سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ غيره يصيب ويخطئ؛ لتتربَّى الأمة على تعظيم ¬

(¬1) ينظر: القاعدة الثامنة عشرة من كتاب «قواعد نبوية» للكاتب. (¬2) أنساب الأشراف؛ للبلاذري (2/ 238).

الحقِّ وإن أتى به من أتى، وعلى ردِّ الخطأ وإن قال به من قال من الأئمة والفضلاء. ومن الكلمات السائرة كلمة الإمام مالك رحمه الله: «كلٌّ يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». وبعد، فلنختم هذه الجولة- مع مواعظ أمير المؤمنين عليٍّ - رضي الله عنه - ببعض الكلمات التي هي أشبه ما تكون بالتوقيعات، بل الأمثال السائرة: - قال - رضي الله عنه -: «الفقيه من لم يقنِّط الناس من رحمة الله تعالى، ولم يرخِّص لهم في معاصي الله - عز وجل -» (¬1). - وقال - رضي الله عنه -: «أخاف عليكم اثنين: اتِّباع الهوى، وطول الأمل؛ فإنَّ اتِّباع الهوى يصدُّ عن الحقِّ، وطول الأمل ينسي الآخرة» (¬2). - وقال - رضي الله عنه -: «ميدانكم نفوسكم؛ فإن انتصرتم عليها، كنتم على غيرها أقدر، وإن خذلتم فيها، كنتم على غيرها أعجز، فجرِّبوا معها الكفاح أولًا» (¬3). - «الهوى عمى» (¬4). - وقال - رضي الله عنه -: «الناس نيامٌ، فإذا ماتوا انتبهوا» (¬5). ¬

(¬1) التذكرة، بأحوال الموتى وأمور الآخرة (ص800). (¬2) أدب الدنيا والدين (ص29). (¬3) مفتاح الأفكار، للتأهب لدار القرار (1/ 160). (¬4) أدب الدنيا والدين (ص32). (¬5) ينظر: المغني عن حمل الأسفار (ص1358)، وقد نظم هذا المعنى بعضهم فقال: وإنَّما النَّاس نيامٌ من يمت ... منهم أزال الموت عنه وسنه

من مواعظ أبي عبيدة - رضي الله عنه - هو أحد أكابر الصحابة - رضي الله عنه -، الذين كانت لهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحظوة الكبيرة، والمنزلة الرفيعة، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، شهد بدرًا، وأحدًا، وسائر المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية. وهو أحد الخمسة الذين أسلموا في يومٍ واحد على يدي الصِّدِّيق - رضي الله عنه - وكان معدودًا فيمن جميع القرآن العظيم. وكان رأس الإسلام في وقعة اليرموك، التي استأصل الله فيها جيوش الروم وقتل منهم خلقٌ عظيمٌ. وهو أول من صلَّى في مسجد دمشق إمامًا، وهو أمير الأمراء بالشام. وصفه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بوصفٍ تشرئبُّ ليه الأعناق، وتتطلَّع إليه النفوس .. إنَّه (أمين هذه الأمَّة) أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجرَّاح بن هلال بن أهيبٍ القرشيُّ الفهريُّ - رضي الله عنه -. ومن مناقبه - رضي الله عنه -: أنَّه كان أهتم- أي: سقطت ثنايا أسنانه- لأنَّه لما انتزع الحلقتين من وجنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحدٍ، خاف أن يؤلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتحامل على ثنيَّتيه فسقطتا، فما رئي أحسن هتمًا منه (¬1). ¬

(¬1) البداية والنهاية (7/ 108).

وقد واصل سيرته الحسنة بعد وفاة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في صحبة الصِّدِّيق - الذي أسلم على يده - فكان نعم المعين له، ثم واصل السيرة الرائعة مع عمر، حتى قال فيه الفاروق: إن أدركني أجلي وأبو عبيدة بن الجرَّاح حيٌّ، استخلفته، فإن سألني الله: لم استخلفته على أمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ قلت: إنِّي سمعت رسولك - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنَّ لكلِّ نبيٍّ أمينًا، وأميني أبو عبيدة بن الجرَّاح) (¬1). ... • مات أبو عبيدة شهيدًا في طاعون عمواس (¬2) سنة ثماني عشرة للهجرة، ولمَّا أصابه الطاعون دعا المسلمين، فدخلوا عليه، فقال لهم (¬3): «إنِّي موصيكم بوصية، فإن قبلتموها، لم تزالوا بخيرٍ ما بقيتم، وبعد ما تهلكون! أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا وتصدَّقوا، وحجُّوا واعتمروا، وتواصلوا وتحابُّوا، واصدقوا أمرءكم ولا تغشُّوهم، ولا تلهكم الدُّنيا؛ فإنَّ امرأً لو عمِّر ألف حولٍ، ما كان له بدُّ من أن يصير إلى مثل مصرعي هذا الذي ترون؛ إنَّ الله قد كتب الموت على بني آدم، فهم ميِّتون؛ فأكيسهم أطوعهم لربِّه، وأعملهم ليوم معاده». إنَّ هذه الوصية تضمَّنت جملة من المواعظ العظيمة: فهو يذكِّر بأركان هذا الدِّين الذي ما قام إلا عليها: الصلاة والزكاة، والصوم، والحجُّ. ¬

(¬1) القصة في مسند أحمد (108)، وإلا فالحديث في أنه أمين هذه الأمَّة في الصحيحين. (¬2) المصباح المنير (2/ 429): عمواس - بالفتح -: بلدةٌ بالشَّام بقرب القدس، وكانت قديمًا عظيمةً، وطاعون عمواس كان في أيَّام عمر. ينظر في ترجمته: أسد الغابة (3/ 212)، سير أعلام النبلاء (1/ 8)، (3/ 17)، البداية والنهاية (7/ 108)، (9/ 176). (¬3) الاكتفاء، بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء (2/ 314).

ثم أوصاهم بالتواصل والتحابِّ، فإنَّ هذا أحد أهمِّ أسباب القوة في المسلمين، الذين متى ما تفرَّقوا، سهل على العدوِّ أن يتسلَّط عليهم: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]. ثم ذكَّرهم بفضيلة من أصول الفضائل، ألا وهي الصِّدق مع من ولَّاه الله تعالى أمرهم؛ فإنَّ الصِّدق بين الحاكم والمحكوم، والرَّاعي والرعيَّة، هو الحبل الأوثق الذي يثمر مجتمعًا قويًّا، يطيع الله وينصح لولاته بالمعروف، ومتى دبَّ الغشُّ، وضعف النصح بين الطَّرفين، ظهرت آثار هذا على الأمَّة كلِّها، وما خبر الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - إلا مثالٌ واضحٌ على ما ذكره أبو عبيدة - رضي الله عنه -. * ثم ختم وصيَّته بكلمة ترسم منهجًا للزهد الحقيقيِّ لمن عرف هذه الدُّنيا، فقال: «ولا تلهكم الدُّنيا؛ فإنَّ أمرأً لو عمِّر ألف حولٍ، ما كان له بدُّ من أن يصير إلى مثل مصرعي هذا الذي ترون؛ إنَّ الله قد كتب الموت على بني آدم، فهم ميِّتون؛ فأكيسهم أطوعهم لربِّه، وأعملهم ليوم معاده». إنَّها سنَّة الحياة، يسير الحيُّ في هذه الدُّنيا حتى يدخل من بوابة الموت، وليس هذا هو الشأن، بل الشأن في كيفية القدوم على الله تعالى! إنَّ أعقل الناس وأكيسهم- كما يقول أبو عبيدة - رضي الله عنه - هو أطوعهم لربِّه، وأعملهم -أي: أكثرهم عملًا -ليوم معاده، فلذلك فليسع العاقل، وليجتهد العامل؛ ففي ذلك اليوم يظهر التغابن، نعوذ بالله من أن نكون مغبونين في الدُّنيا والآخرة!

• ومن مواعظه - رضي الله عنه - قوله (¬1): «التَّهلكة هي: أن يذنب العبد ذنبًا ثم لا يعمل بعده خيرًا حتى يهلك». ويوضِّح هذه الموعظة قوله في موضعٍ آخر: (ألا رُبَّ مبيِّضٍ لثيابه مدنِّسٌ لدينه، ألا رُبَّ مُكرمٍ لنفسه وهو لها مُهينٌ، ألا بادروا السيِّئات القديمات، بالحسنات الحديثات؛ فلو أنَّ أحدكم أخطأ ما بينه وبين السماء والأرض ثم عمل حسنةً، لعلت فوق سيِّئاته حتى تقهرهنَّ» (¬2). وهذا من فقه أبي عبيدة - رضي الله عنه -؛ فإنَّ الله تعالى لمَّا تكرَّم على عباده بمضاعفة الحسنات، وأنَّ السيئة لا تكون إلا واحدةً فقط، صار الهالك حقًا هو من غلبت سيِّئاته حسناته، كما روى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الله - تبارك وتعالى - في حديث مضاعفة الحسنات والجزاء بالسيئات واحدةً، قال: (ولا يهلك على الله إلَّا هالكٌ) (¬3). إنَّه ليس منَّا أحدٌ إلا، وهو عرضةٌ للخطأ والذَّنب، ولكنَّ الشأن في المبادرة إلى محو الذنب بالحسنة، كما في الحديث: (وأتبع السَّيِّئة الحسنة تمحُها) (¬4)، وفي التنزيل العزيز: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]. إنَّ من توفيق الله تعالى لعبده أن يبادر بالصالحات عند الوقوع في السيئات. وإنَّ من رحمة الله تعالى أن شرع لعباده جملةً من المكفِّرات، ففي ¬

(¬1) إحياء علوم الدين (2/ 319). (¬2) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص151). (¬3) مسلم ح (131) عن ابن عباس، وأصل الحديث في الصحيحين. (¬4) الترمذي ح (1987)، وقد رجَّح الدارقطنيُّ إرساله، وانظر تعليق ابن رجب عليه في: «الجامع» ح (18).

صحيح مسلمٍ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الصَّلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفِّراتٌ ما بينهنَّ إذا اجتنب الكبائر» (¬1). وفي سياق الثناء على أهل الجنة قال تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [الرعد: 22]، قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه - في بيان معناها-: يدفعون بالصالح من العمل السيِّئ من العمل، علَّق الإمام البغويُّ على كلمة ابن عباس هذه، فقال: «وهو معنى قوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}» (¬2). وقال الحسن البصريُّ: (استعينوا على السيِّئات القديمات، بالحسنات الحديثات، وإنَّكم لن تجدوا شيئًا أذهب بسيئةٍ قديمةٍ من حسنةٍ حديثةٍ، وأنا أجد تصديق ذلك في كتاب الله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (¬3). ولعلَّ قصة توبة القاتل الذي قتل تسعةً وتسعين نفسًا نموذجٌ تطبيقيُّ لهذا، فإنَّه لمَّا قتل وتاب، بادر إلى مُفارقة مكان السُّوء وقرية السُّوء، فأخذته ملائكة الرحمة؛ لأنَّه جاء تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله (¬4). فالي كلِّ من أسرف على نفسه، وقنَّطه الشيطان من رحمه ربِّه: لا تيأسنَّ ولا تقنطنَّ، فهذا رجلٌ قتل تسعةً وتسعين نفسًا، فلمَّا صحَّت توبته، رحمه ربُّه ومولاه، مع أنَّه لم يعمل خيرًا قطُّ من أعمال الجوارح، سوى هجرته من بلد السُّوء إلى بلد الخير، أفلا تحرِّك فيك هذه القصة ¬

(¬1) مسلم ح (233). (¬2) تفسير البغوي (4/ 313). (¬3) تفسير ابن أبي حاتم (8/ 279). (¬4) البخاري ح (3283)، ومسلم ح (2766).

الرغبة في هجر المعاصي، والإقبال على من لا سعادة ولا أُنس إلا بالإقبال عليه؟! • ومن مواعظ أبي عبيدة - رضي الله عنه - أنَّه لمَّا كان أميرًا على الشام، خطب الناس فقال (¬1): «يا أيُّها الناس، إنِّي امرؤٌ من قريشٍ، وإنِّي والله ما أعلم أحمر ولا أسود يفضلني بتقوى الله إلا وددتُّ أنِّي في مسلاخه»؛ أي: في جلده. الله أكبر! ما أجمل أن يصدر هذا الكلام من أميرٍ، ومن قريشٍ! إنَّه الفقه لحقيقة الموازين الشرعيَّة، أمَّا بقية الفروق التي ليس للإنسان فيها حيلةٌ، فإنَّها لا وزن لها عند الله! أيُّ شيءٍ نفع أبا لهبٍ حين كفر مع أنَّه عمُّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟! وماذا ضرَّ بلالًا الحبشيَّ، وصهيبًا الرُّوميَّ، وسلمان الفارسيَّ حين آمنوا بالله وصدَّقوا رسوله - صلى الله عليه وسلم -؟! إنَّها رسالةٌ أعلنها أبو عبيدة من منبره -وهو الأمير -ليؤكِّد للعامة الذين قد تشرئبُّ أعناق بعضهم لمثل مقامه في الإمارة، ليقوم لهم بلسان الحال: العبرة بالتقوى، وليست بإمارةٍ أو نسبٍ! رضي الله عن أبي عبيدة عامر بن الجرَّاح، وجمعنا به في بُحبُوحة جنانه، ومع سادة أوليائه الذين أنعم عليهم من النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. ... ¬

(¬1) مصنَّف ابن أبي شيبة (7/ 116).

من مواعظ طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه

من مواعظ طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - والزبير بن العوام - رضي الله عنه - إنَّهما من أكابر الصحابة - رضي الله عنهم -، وممَّن بشِّر بالجنة وهم أحياءٌ، مات النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهما راضٍ، وأدخلهما الفاروق - رضي الله عنه - في مجلس الشورى السُّداسيِّ حين حضرته الوفاة. أمَّا الأول منهم، فهو طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرٍو التَّيميُّ، أبو محمدٍ، الذي سطَّر التاريخ مناقبه بأحرفٍ من نورٍ، أليس هو الذي جعل ظهره وقايةً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحدٍ؟ حتى صار ظهره كظهر القنفذ من كثرة ما وقع عليه من سهامٍ - رضي الله عنه -، وكانت يده شلَّاء ممَّا وقى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحدٍ؛ ولذلك قال عنه - صلى الله عليه وسلم -: (أوجب طلحة) (¬1)؛ أي: وجبت له الجنة، وكان أبو بكرٍ - رضي الله عنه - إذا ذكر يوم أحدٍ قال: «ذاك كلُّه يوم طلحة»، وشهد بقية المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقتل - رضي الله عنه - سنة ستٍّ وثلاثين، وهو ابن أربعٍ وستِّين سنةً (¬2). ¬

(¬1) الترمذي ح (1692). (¬2) انظر: سير أعلام النبلاء (1/ 23، 25)، صفة الصفوة (1/ 126)، معرفة الصحابة؛ لأبي نعيم (1/ 98).

• ولعلَّنا نبتدئ بما نُقل عنه من مواعظ -على ندرته- بقوله - رضي الله عنه - (¬1): «إنَّا لنجد بأموالنا ما يجد البخلاء، لكنَّنا نتصبَّر». ومراده - رضي الله عنه - أنَّ حبَّ المال قد فُطرت عليه القلوب، وجُبلت عليه النفوس، لكنَّ الفرق بين البخيل والكريم، وبين الجواد والممسك، هو الصبر، ومعرفة حقيقة المال، وأنَّه غادٍ رائحٌ، وأنَّ المال الباقي في الحقيقة هو ما أنفقه العبد لا ما حبسه، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاريُّ عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -: (أيُّكم مال وارثه أحبُّ إليه من ماله؟)، قالوا: يا رسول الله، ما منَّا أحدٌ إلاَّ ماله أحبُّ إليه، قال: (فإنَّ ماله ما قدَّم، ومال وارثه ما أخَّر) (¬2). لقد كانت سيرة طلحة - رضي الله عنه - ترجمةً عمليَّةً للسَّخاء الذي جُبل عليه، وترجمةً حيَّةً لهذه الموعظة، يقول قبيصة بن جابرٍ: «صحبت طلحة، فما رأيت رجلًا أعطى لجزيل مالٍ عن غير مسألةٍ منه» (¬3). «وكان لا يدع أحدًا من بني تيمٍ عائلًا إلا كفاه مؤونته ومؤونة عياله، وزوَّج أيَاماهم، وأخدم عائلهم، وقضى دين غارمهم» (¬4). • ومن مواعظه ووصاياه - رضي الله عنه - قوله (¬5): «لا تشاور بخيلًا في صلةٍ، ولا جبانًا في حربٍ، ولا شابًا في جاريةٍ». والمعنى: أنَّ الإنسان إذا أراد المشاورة، فليختر الشخص المناسب ¬

(¬1) إحياء علوم الدين (3/ 255). (¬2) البخاري ح (6442). (¬3) معجم الصحابة؛ للبغوي (3/ 411). (¬4) الطبقات الكبرى (3/ 166). (¬5) مكارم الأخلاق؛ للخرائطي (1/ 252).

للمشورة، وليحذر ممَّن يحمل الصفة المضادَّة للأمر الذي يستشار فيه؛ لأنَّ النتيجة معروفةٌ مسبقًا! فمن استشار البخيل في البذل، فلن يشير عليه إلا بالإمساك، ومن استشار جبانًا في المضيِّ إلى القتال، فلن يشير عليه إلا بالبقاء والترهيب من الموت الذي لا يتقدَّم أجله ولا يتأخَّر! وهكذا الأمر في شأن الشابِّ مع الجارية؛ فالمظنَّة هي الوقوع في المحذور. ولهذا؛ فإنَّ من كمال عقل الإنسان أن يستشير، وأن يكون المستشار أهلًا للاستشارة، بحيث يكون معروفًا بالحكمة والعقل، والخبرة بالشيء الذي يستشار فيه، كما قال لقمان الحكيم لابنه: شاور من جرَّب الأمور؛ فإنَّه يعطيك من رأيه ما قام عليه بالغلاء، وأنت تأخذه مجانًا (¬1). وقال بعض الحكماء: من استشار، فإنَّه يضيف إلى رأيه آراء العقلاء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فالرأي الفذُّ ربَّما زلّ، والعقل الفرد ربَّما ضلّ، وقد قيل: ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار (¬2). أمَّا الصحابيُّ الثاني الذي نقف مع ما وقفنا عليه من مواعظه، فهو من الذين استجابوا لله وللرَّسول من بعد ما أصابهم القرح (¬3)، وكان معدودًا في أنجاد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4)، وكان من السَّابقين إلى الإسلام، هو ابن عمَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنَّه الزُّبير بن العوَّام بن خويلد بن أسد بن عبد العزَّى بن قصيٍّ، أبو عبد الله الأسديُّ، يلتقي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ¬

(¬1) أدب الدنيا والدين (ص303). (¬2) أدب الدنيا والدين (ص300). (¬3) مسلم ح (2418). (¬4) تاريخ الإسلام (3/ 503).

قصيٍّ، قال عنه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّ لكلِّ نبيٍّ حواريًا، وحواريَّ الزُّبير) (¬1)، شهد بدرًا والمشاهد كلَّها، وشهد له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالشهادة وهو حيٌّ؛ فقال حين كان على جبل حراءٍ فتحرَّك: (اسكن حراء؛ فما عليك إلَّا نبيٌّ، أو صدِّيقٌ، أو شهيدٌ)، وكان عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكرٍ، وعثمان، وعليُّ، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقَّاصٍ - رضي الله عنه - (¬2). وفضائله ومناقبه كثيرةٌ، وقد مات شهيدًا مغدورًا به من البغاة الخوارج سنة ستٍّ وثلاثين، وعمره سبعٌ وستُّون سنة، وقيل غير ذلك (¬3). • والمنقول من وعظه قليلٌ، ومنه قوله (¬4): «من استطاع أن تكون له خبيئةٌ من عملٍ صالح، فليفعل». يا لها من موعظةٍ بليغةٍ، ووصيَّةٍ فذَّةٍ! ذلك أنَّ الأعمال الصالحة لا تقبل إلا بإخلاص العمل، ولمَّا كان الإخلاص يحتاج إلى مجاهدةٍ، خاصةً إذا كان العمل كبيرًا، والأثر عظيمًا، والإنسان كثير الخلطة للخلق؛ لذا كان السلف - ومنهم الزبير - يوصون بمثل هذه الوصيَّة، وهي أن يكون للإنسان خبيئة عملٍ صالحٍ، لا يطلع عليها إلا الله تعالى؛ فإنَّ الإخلاص ما خالط عملًا إلا عظَّمه، ولأنَّ اطِّلاع الناس على العمل - وإن لم يسارع له العبد -له ضريبته من جهة حاجته إلى الإخلاص، والبعد عن حظِّ النفس، والرغبة في ثناء الخلق. ¬

(¬1) البخاري ح (2691) واللفظ له، مسلم ح (2415)، ويُنظر: تاريخ الإسلام (3/ 502): الحواريُّ: الناصر، وقال الكلبيُّ: الحواريُّ: الخليل، وقال مصعبٌ الزبيريُّ: الحواريُّ: الخالص من كلِّ شيءٍ. (¬2) مسلم ح (2417). (¬3) منتهى السول (1/ 602). (¬4) الزهد؛ لأحمد (ص119).

قال عبد الله بن داود الخريبي رحمه الله: «كانوا - أي: السلف - يستحبُّون أن يكون للرجل خبيئةٌ من عملٍ صالحٍ، لا تعلم به زوجته ولا غيرها» (¬1). لهذا؛ فإنَّ من توفيق الله تعالى للعبد للعبد أن يحرص على هذه الوصية الزُّبيريَّة: «من استطاع أن تكون له خبيئةٌ من عملٍ صالحٍ، فليفعل». فإن قلت: مثِّل لي بمثالٍ على الخبيئة، فالجواب: أمثلة هذا كثيرةٌ، كأن تدمع عينك وأنت خالٍ بربك! أو تتصدَّق بصدقةٍ فتخفيها؛ حتى لا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك، ونحو هذه الأعمال الصالحة. ذكر ابن المبارك عند الإمام أحمد- رحمهم الله جميعًا - فقال الإمام أحمد: «ما رفع الله ابن المبارك إلا بخبيئةٍ كانت له» (¬2). • ومن مواعظ الزُّبير العمليَّة: ما رواه البخاريُّ في صحيحه عن عبد الله بن الزبير بن العوَّام رضي الله عنهما قال: لمَّا وقف الزبير يوم الجمل دعاني، فقمت إلى جنبه، فقال: «يا بُنيَّ، إنَّه لا يقتل اليوم إلا ظالمٌ أو مظلومٌ، وإنِّي لا أُراني إلا سأقتل اليوم مظلومًا، وإنَّ من أكبر همِّي لَدَيْنِي، أفترى يبقي دَيْنُنَا من مالنا شيئًا؟ ..». قال عبد الله: فجعل يوصيني بدَيْنه، ويقول: «يا بُنيَّ، إن عجزت عنه في شيءٍ، فاستعن عليه مولاي»، فوالله ما دريت ما أراد حتى قلت: يا أبة، من مولاك؟! قال: «الله»! ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (9/ 349). (¬2) صفة الصفوة (2/ 330).

قال عبد الله: فوالله ما وقعت في كربةٍ من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير، اقض عنه دينه، فيقضيه ... قال: فكان للزبير أربع نسوةٍ، ورفع الثُّلث، فأصاب كلَّ امرأةٍ ألف ألفٍ ومائتا ألفٍ، فجميع ماله خمسون ألف ألفٍ، ومائتا ألفٍ (¬1). أرأيتم كيف يعظ السلف أبناءهم عمليًّا؟ لم يقل الزبير: إذا عجزت فاذهب للسلطان -مثلًا -مع أنَّ هذا جائزٌ، أو اذهب لفلانٍ، أو اجمع قريشًا، بل علَّقه بالله تعالى، الذي بيده خزائن السموات والأرض، فما كانت النتيجة؟! إنَّه الغنى بالله، والاستغناء عن الخلق، والرِّزق الواسع، وقضاء الديون. وهذا كلُّه - كما هو ظاهرٌ - لا يعني إهمال الأسباب، ولكنَّها موعظةٌ يُقصد منها لفت النظر إلى أهمية التعلُّق بالله، خاصةً في هذه القضية الحقوقيَّة بين الناس - وهي الدَّين الذي أثقل كواهل الكثيرين- فإليهم نهدي هذا الموقف، ونقول لهم: إذا ضاقت عليكم، وعجزتم عن ديونكم، فقولوا: يا مولانا، اقض عنَّا ديوننا، قولوا بألسنتكم وقلوبكم. رضي الله عن طلحة بن عبيد الله، ورضي الله عن الزُّبير بن العوَّام، وجمعنا بهما في جنَّات النعيم، مع الذين أنعم عليهم من النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. ... ¬

(¬1) البخاري ح (3129).

من مواعظ عبد الرحمن بن عوفٍ - رضي الله عنه - هو أحد أكابر الصحابة - رضي الله عنهم -، وأحد العشرة، وأحد السِّتة أهل الشُّورى، وأحد السابقين البدريِّين، وهو أحد الثمانية الذين بادروا إلى الإسلام، وأحد من كان يُفتِي في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). إنَّه عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوفٍ الزُّهريُّ القرشيُّ، أبو محمدٍ، المتوفَّى سنة 32 من الهجرة، وهو ابن اثنتين وسبعين، ويقال خمسٍ وسبعين (¬2)، دفن بالبقيع، فقال عليٌّ - رضي الله عنه - يوم وفاته: «اذهب يابن عوفٍ؛ فقد أدركت صفوها، وسبقت رنقها! -أي: كدرها -» (¬3). • أمَّا مواعظ هذا الصحابيِّ الجليل، فهي- على قلَّتها -بليغةٌ، وعميقة الدَّلالة فيما أشارت إليه، ومن ذلك قوله (¬4). «ابتلينا بالضَّرَّاء فصبرنا، وابتلينا بالسَّرَّاء فلم نصبر». وهذه من متين الفقه لمعاني الكتاب والسُّنَّة، فإنَّ الصبر على الضراء والشدَّة ظاهر المعنى، ويدركه كلُّ أحدٍ، لكنَّ الذي لا يتفطَّن له إلا الألبَّاء، وذوو العقول والنُّهى: الصبر على الغنى، والرخاء، ورغد ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (1/ 86). (¬2) صفة الصفوة (1/ 133). (¬3) تاريخ الإسلام (3/ 396). (¬4) الترمذي ح (2464).

العيش، وما يترتَّب عليه من تبعاتٍ وتكاليف، فقلَّ من يتفطَّن له؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكنِّي أخشى أن تبسط عليكم الدُّنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم) (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله: «وكلتا النعمتين - الضراء والسراء - تحتاج مع الشكر إلى الصبر؛ أمَّا الضراء، فظاهرٌ، وأمَّا نعمة السراء، فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها، كما قال بعض السلف: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر؛ فلهذا كان أكثر من يدخل الجنة المساكين، لكن لمَّا كان في السراء اللذَّة، وفي الضراء الألم؛ اشتهر ذكر الشكر في السراء، والصبر في الضراء؛ قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [هود: 11] الآية» (¬2) انتهى. «فالرجل كلَّ الرجل من يصبر على العافية، ومعنى الصبر عليها: ألاَّ يركن إليها، ويعلم أنَّ كلَّ ذلك مستودعٌ عنده، وعسى أن يسترجع على القرب، وألَّا يرسل نفسه في الفرح بها، ولا ينهمك في التنعُّم واللذة، واللهو واللعب، وأن يرعى حقوق الله في ماله بالإنفاق، وفي بدنه ببذل المعونة للخلق، وفي لسانه ببذل الصِّدق، وكذلك في سائر ما أنعم الله به عليه» (¬3). يقول الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، قال ابن رجب رحمة الله معلِّقًا على هذه الآية: ¬

(¬1) البخاري ح (4015)، مسلم ح (2961) من حديث عمرو بن عوف - رضي الله عنه -. (¬2) مجموع الفتاوى (8/ 209). (¬3) إحياء علوم الدين (4/ 69).

«فجعل كلَّ ما يصيب الإنسان من شرٍّ أو خيرٍ فتنةً؛ يعني: أنَّه محنةٌ يُمتحن بها؛ فإن أُصيب بخيرٍ، امتُحن به شكره، وإن أُصيب بشرٍّ امتُحن به صبره، وفتنة السراء أشدُّ من فتنة الضراء؛ قال بعض السلف: فتنة الضراء يصبر عليها البرُّ والفاجر، ولا يصبر على فتنة السراء إلا صدِّيقٌ، ولمَّا ابتلي الإمام أحمد بفتنة الضراء، صبر ولم يجزع، وقال: كانت زيادةً في إيماني، فلمَّا ابتلي بفتنة السراء - وهي شهرته وإقبال الناس عليه وتعظيمهم له - جزع وتمنَّى الموت صباحًا ومساءً، وخشي أن يكون نقصًا في دينه!» (¬1). إنَّ من تأمَّل الواقع، أدرك عمق هذه الموعظة التي قالها عبد الرحمن بن عوفٍ - رضي الله عنه -: «ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر»، فكم شاهد الناس أقوامًا كانوا أيام فقرهم وتوسُّط حالهم الماديَّة على قدرٍ جيدٍ من الديانة، ورعاية الحقوق، والصِّلة، فلمَّا فتحت عليهم الدُّنيا وبسطت لهم، تغيَّرت أحوالهم للأسوأ! ودخلوا في مضايق الأمور، ومقاطع الحقوق؛ فمنهم من سجن، ومنهم من هجرة الناس، ومنهم ... ومنهم! فنسأل الله تعالى العفو والعافية في حال السراء والضراء، وأن يجعلنا ممَّن إذا ابتلي بالخير أو الشرِّ صبر. • ومن مواعظ عبد الرحمن بن عوفٍ - رضي الله عنه - قوله (¬2): «يا حبَّذا المال؛ أصون به عرضي، وأرضي به ربِّي!». صدق - رضي الله عنه -، وهذا القول منه هو الفقه؛ فإنَّ الشرع لا يذمُّ جمع ¬

(¬1) اختيار الأولى، في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى (123). (¬2) أدب الدنيا والدين (1/ 329).

المال لذات الجمع؛ وإنَّما يذمُّه إذا جمعه صاحبه ثم قصَّر في أداء حقوقه -كالزكاة والنفقة والصِّلة والصدقة - أو تسبَّب في تعلُّقه الزائد عن حدِّه بالدُّنيا. وأمَّا ما سرى في أبجديَّات بعض الزهَّاد، من ذمِّ المال مطلقًا، فهو كلامٌ لا يجري على قواعد الشرع ولا أصوله. والصحيح في مسألة جمع المال وعدمه أن يفصَّل فيها، فيقال: إن كان جمعه لمجرَّد الجمع، مع التقصير في حقِّ الله وحقِّ عباده فيه، أو ألهى عن الواجبات الشرعيَّة، أو كان سببًا في رقَّة الديانة وضعفها، فهو مذمومٌ بلا شكٍّ، أمَّا إن جمعة الإنسان لغرضٍ صالحٍ، فأنفقه في سبيل الله، ودعم مشاريع الخير، وعرف الجامع حقَّ الله فيه، فأدَّى زكاته، وأدَّى حقوقه الأخرى، فهو ليس بمذمومٍ؛ وبهذا تجتمع الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب. وعند التأمُّل في حياة الصحابة - رضي الله عنهم - وتعامل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - معهم، يتَّضح ما ذكرناه بجلاءٍ، فمن الذي جهَّز جيش العسرة؟ ومن الذي حفر بئر رُومة؟ بل من الذي جهَّز النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عندما أراد الهجرة؟ وكم نفع الله بأموال تجار الصحابة في قيام الدولة الإسلاميَّة! وكم نفع الله بأموال تجار المسلمين في هذا الزمان في قيام الدعوة، ودعم الجهاد وتجهيز المجاهدين في سبيل الله، وانتشار الخير في أنحاء العالم! وممَّا يؤسف عليه أن بعض الناس يظنُّ أن من يسعى في جمع المال معدودٌ خارج دائرة الصالحين، بعيدٌ عن وصف الزهاد، مصنَّفٌ من أهل الدُّنيا بإطلاقٍ تصنيفًا بغيضًا! وماذا أجدت هذه النظرة هؤلاء؟! إلا تأخُّرًا في مشاريع الخير،

وعنتًا ومشقَّةً عند السعي في إقامة أيِّ مشروعٍ خيريٍّ، وتسوُّلًا مهذَّبًا عند أبواب التجار، فاضطرَّ هذا النوع من الناس إلى العودة إلى هؤلاء الذين سلبنا عنهم وصف الزهد والرغبة في الآخرة! والحمد لله أنَّ هذا الأمر ليس عامًّا، ولا شائعًا؛ لكنَّه موجودٌ (¬1). وقد أبدع الإمام ابن الجوزيِّ رحمه الله في حديثه عن هذه المسألة في فصولٍ متفرِّقةٍ من كتابه الماتع «صيد الخاطر». • ومن مواعظ عبد الرحمن بن عوفٍ - رضي الله عنه - العمليَّة (¬2): أنَّه لمَّا أتي بطعامٍ، وكان صائمًا، فقال: «قتل مصعب بن عميرٍ وهو خيرٌ منِّي، وكفِّن في بردةٍ إن غطِّي رأسه بدت رجلاه، وإن غطِّي رجلاه بدا رأسه، وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير منِّي، ثمَّ بسط لنا من الدُّنيا ما بسط، أو قال: أُعطينا من الدُّنيا ما أُعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجِّلت لنا، ثمَّ جعل يبكي حتى ترك الطعام». هكذا هي القلوب الحيَّة! لا تنسيها النعمة عبادة الشكر والذِّكر والتَّفُّكر في الحال والمآل. إنَّ عبد الرحمن بن عوفٍ - رضي الله عنه - يضرب بهذا الموقف درسًا عمليًا لأرباب المال، الذين أحيا الله قلوبهم، فلم تُنسهم بسطة الرزق شكر المنعم، ولا تذكُّر ما سلف وما هم مقبلون عليه. ¬

(¬1) انظر كلامًا قيِّما لابن الجوزي في كتابه القيم: «صيد الخاطر» (283، 286) حول هذه النقطة. (¬2) البخاري ح (4045).

تأمَّل قوله: «وقد خشينا أن تكون حسناتنا- وفي روايةٍ: طيِّباتنا- عجِّلت لنا»، يقول هذا وهو المبشَّر بالجنة! يقول هذا وهو الذي أنفق في سبيل الله ما أنفق! يقوله وهو لا يشكُّ في وعد الله ورسوله .. لكنَّ المؤمن ما دام نفسه يتردَّد، فهو يطير بجناحي الخوف والرجاء، حتى إذا اقتربت ساعة الرحيل، غلَّب جانب الرجاء بربِّه الذي وفَّقه للخير، وأمدَّه بالخير، وأنعم عليه وبسط في رزقه. وفي هذه القصة: «فضل الزهد، وأنَّ الفاضل في الدِّين ينبغي له أن يمتنع من التوسُّع في الدُّنيا؛ لئلا تنقص حسناته، وإلى ذلك أشار عبد الرحمن بقوله: خشينا أن تكون حسناتنا قد عجِّلت لنا» (¬1). وفي هذه القصة تواضع عبد الرحمن بن عوفٍ، حيث ذكر مصعب بن عميرٍ، وقال: إنَّه خيرٌ منِّي، مع أنَّ ابن عوفٍ ممَّن شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة! إنَّهم الكبار حقًّا! إذا ازداد فضل الله على أحدهم، ازداد تواضعًا لربِّه، ألا ترى كيف دخل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة متواضعاً، منكِّسًا رأسه لله تعالى، معترفًا بفضله؟ وها هو تلميذه عبد الرحمن بن عوفٍ يكرِّر المعنى ذاته. رضي الله عن عبد الرحمن بن عوفٍ، وجمعنا به في دار كرامته، ومع سادة أوليائه الذين أنعم عليهم من النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. ... ¬

(¬1) فتح الباري؛ لابن حجر (7/ 354).

من مواعظ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه

من مواعظ سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - سعدٌ - رضي الله عنه -، أبو إسحاق، أحد أكابر أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، من العشرة المبشَّرين بالجنة، وأحد السابقين البدريِّين، فتح العراق، ومدائن كسرى، وأحد الستة الذين عيَّنهم الفاروق لشورى الخلافة، وأول من رمى بسهمٍ في سبيل الله، أسلم وهو ابن 17 سنةً، وشهد بدرًا والمشاهد، وقاد معركة القادسيَّة، كان مستجاب الدعوة، إنَّه سعد بن أبي وقَّاص - واسمه مالكٌ - بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلابٍ الزُّهريُّ (¬1)، مات سنة خمسٍ وخمسين - رضي الله عنه -. • ومن جملة المواعظ التي نقلت عنه (¬2): أنَّه - رضي الله عنه - وقع بينه وبين خالد بن الوليد كلامٌ، يقع مثله بين الإخوة عادةً، فأراد رجلٌ أن يسبَّ خالد بن الوليد عند سعدٍ، فقال له سعدٌ -واعظًا بقوله وفعله-: «مه! إنَّ ما بيننا، لم يبلغ ديننا» الله أكبر! إنَّها نفوس الكبار، التي لا تسمح لأحدٍ أن يصطاد في ¬

(¬1) ينظر: سير أعلام النبلاء، ط. الرسالة (1/ 92)، تهذيب التهذيب (3/ 483)، الأعلام؛ للزركلي (3/ 87). (¬2) صفة الصفوة (1/ 135).

الماء العكر! ولا تسمح -أيضًا -بتضخيم الأخطاء، ولا ترضى بنقل الخصومة الشخصيَّة وجعلها خصومةً دينيَّةً. إنَّها موعظةٌ في الصدق والتجرُّد، يطبِّقها أصحاب النفوس الكبيرة. وهذا الموقف من سعدٍ - رضي الله عنه - يذكِّرنا بموقفٍ مشابهٍ للإمام أحمد بن حنبلٍ رحمه الله، فقد كان أحد المحدِّثين يقع فيه (¬1)، فدخل عليه مرةً بعض طلبة الحديث، فقال: من أين أقبلتم؟ قلنا: من مجلس فلانٍ، فقال: اكتبوا عنه؛ فإنَّه شيخٌ صالحٌ، فقلنا: إنَّه يطعن عليك! فقال: «فأيُّ شيءٌ حيلتي؟! شيخٌ صالحٌ قد بُلِي بي» (¬2)! إنَّه نفس المبدأ؛ فالإمام أحمد -مثل سعدٍ - رضي الله عنه - لا يرضى بنقل الخلاف الشخصيِّ وجعله خلافًا دينيًّا يوالي عليه ويعادي عليه، بل يجعل الاختلاف الذي مردُّه وجهة نظرٍ، أو ربَّما حسدٌ، أو غير ذلك من الأسباب، يجعله في خانةٍ، والاختلاف الذي سببه دينيٌّ وشرعيٌّ في خانةٍ أخرى. وهذه المسألة -في الحقيقة -ممَّا تختلط فيها الأوراق عند بعض الفضلاء من المحسوبين على العلم والدعوة -فضلًا عمَّن سواهم -وهو فقدٌ لميزان الإنصاف والعدل، فما أعزَّ الإنصاف مع الخصوم ومع عموم من نختلف معهم والله المستعان! • ومن مواعظه - رضي الله عنه - ما أوصى به ابنه قائلًا (¬3): «يا بُنيَّ، إذا أردتَّ أن تصلِّي فأحسن الوضوء، وصلِّ صلاةً ترى أنَّك ¬

(¬1) هو: محمد بن العلاء، أبو كريب رحمه الله. (¬2) سير أعلام النبلاء (11/ 317). (¬3) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (149).

لا تصلِّي بعدها أبدًا، وإيَّاك والطمع؛ فإنَّه فقرٌ حاضرٌ، وعليك بالإياس؛ فإنَّه الغنى، وإيَّاك وما يعتذر منه من القول والعمل، وافعل ما بدا لك». لقد جمع سعدٌ في وصيَّته هذه أصولًا في العبادة والخلق. أمَّا العبادة، فبوصيَّته بإحسان الوضوء، وإحسان الصلاة، وقد اختصر عليه سؤالًا يمكن أن يطرحه ابنه: كيف أحسن صلاتي؟ فيأتي الجواب: «وصلِّ صلاة ترى أنَّك لا تصلِّي بعدها أبدًا»! سبحان الله! ماذا لو دخلنا صلواتنا بهذا الشعور التوديعيِّ؟! إذًا لتغيرت أحوالنا، ولصلحت أمورنا. أمَّا الخُلُقُ، فقد أوصاه بوصيةٍ تتعلَّق بالجانب الخُلقيِّ، وهي الحذر من الطمع، وعلَّل ذلك بقوله: «فإنَّه فقرٌ حاضرٌ»! ثمَّ أتبعها بما يوضِّح معناها فقال: «وعليك بالإياس؛ فإنَّه الغنى». وصدق - رضي الله عنه -، ومن تأمَّل ما وصف الله به المنافقين في سورة التوبة، أدرك هذا المعنى جيدًا، قال تعالى عن أولئك المنافقين: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58]. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وهكذا كان حال من كان متعلِّقًا برئاسةٍ أو ثروةٍ ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي، وإن لم يحصل سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيقٌ له إذا لم يحصل. والعبوديَّة في الحقيقة هي رقُّ القلب وعبوديَّته، فما استرقَّ القلب واستعبده، فهو عبده؛ ولهذا يقال: (الطمع فقرٌ، واليأس غنًى، وإنَّ أحدكم إذا يئس من شيءٍ، استغنى عنه)، وهذا أمرٌ يجده الإنسان من نفسه؛ فإنَّ الأمر الذي ييئس منه، لا يطلبه ولا يطمع به، ولا يبقى قلبه

فقيرًا إليه ولا إلى من يفعله، وأمَّا إذا طمع في أمرٍ من الأمور ورجاه، تعلَّق قلبه به، فصار فقيرًا إلى حصوله وإلى من يظنُّ أنَّه سببٌ في حصوله، وهذا في المال والجاه والصُّور وغير ذلك» (¬1).انتهى. ثمَّ أوصى سعدٌ ابنه فقال: «وإيَّاك وما يعتذر منه من القول والعمل»، والمعنى: لا تتكلَّم بكلامٍ، أو تعمل عملًا يحوجك إلى الاعتذار، فالكلمة ما دامت لم تخرج من الفم، فأنت تملكها، فإن خرجت مَلَكَتْك، وكذلك الفعل. ولا يعفي الإنسان أن يفعل فعلًا فيه إشكالٌ أو ريبةٌ، يحوجه إلى التوضيح والبيان؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - قولًا مُحكمًا، وقاعدةً من قواعد هذا الشرع: «فمن اتَّقى الشُّبهات، استبرأ لدينه وعرضه» (¬2). كم من إنسانٍ ألقى كلمةً أحوجته إلى ما كان يكره من الاعتذار والذلِّ للخلق! ومن الأمثلة الواقعيَّة: أنَّ أحدهم ربَّما سمع كلامًا عن شخصٍ من الناس، فتحدَّث به في المجالس دون تثبُّتٍ! وأصبح يتكلَّم في المجالس: فلانٌ قال كذا، وفعل كذا! ثم تبيَّن له بعد مدَّةٍ أنَّ ما كان يقوله عن فلانٍ غير صحيحٍ! هنا سيضطرَّ إلى ما كان غنيًّا عنه، ولو كلَّف نفسه قليلًا عناء التثبُّت، لارتاح وأراح! لكنَّه وقع في أمرٍ لا يمكن تداركه، وما أحسن قول الأوَّل: يموت الفتى من عثرةٍ بلسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرِّجل فعثرته بالقول تودي برأسه ... وعثرته بالرِّجل تبرا على مهل (¬3) ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (10/ 181). (¬2) البخاري ح (52)، مسلم ح (1599). (¬3) عيون الأخبار (2/ 196).

وكلَّما كان موقع الكلمة خطيرًا من جهة الزمان والمكان والحال، صار التَّوقِّي أكثر وأكبر؛ فلربَّما تكلَّم الإنسان بكلمةٍ كان فيها حتفه! ألا ما أجمل أن يسمع الابن من أبيه أمثال هذه المواعظ والوصايا! إنَّ من المؤسف أنَّ بعض الأبناء لا يكاد يسمع من أبيه إلا اللوم والتقريع، دون أن يسمع أمثال هذه الكلمات الأبويَّة الحانية، التي تكون رصيدًا له في الحياة. • ومن وصايا سعد بن أبي وقَّاصٍ - رضي الله عنه - لابنه، وهي موعظةٌ بليغةٌ (¬1): «إيَّاك والكبر، وليكن فيما تستعين به على تركه علمك بالذي منه كنت، والذي إليه تصير، وكيف الكبر مع النُّطفة التي منها خلقت، والرَّحم التي منها قذفت، والغذاء الذي به غذيت؟!». إنَّ الكبر - كما هو معلومٌ - أول ذنبٍ عصي الله به، فإبليس لمَّا أمر بالسجود استكبر، ومن تأمَّل في السبب الجامع، وجده كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56]. ولقد أحسن سعدٌ - رضي الله عنه - حين بيَّن لابنه ما يدفع عنه آفه الكبر فقال: «وليكن فيما تستعين به على تركه علمك بالذي منه كنت، والذي إليه تصير، وكيف الكبر مع النُّطفة التي منها خلقت، والرَّحم التي منها قذفت، والغذاء الذي به غذيت؟!» أي: تذكَّر إن دعتك نفسك للكبر أوَّل خلقتك؛ فأنت وأفقر شخصٍ على وجه الأرض مادَّتكما واحدةٌ، ¬

(¬1) العقد الفريد (2/ 197).

ومخرجكما واحدٌ، ومصيركما واحدٌ؛ إلى حفرةٍ في صدعٍ من الأرض! فعلام الكِبْرُ؟! إن كان الكبر لحسن الصورة، فما أنت الذي صوَّرت نفسك! وإن كان لمالٍ، فلم ترزقك نفسك! وإن كان لنسبٍ أو حسبٍ، فلم تخيَّر في اختيار نسبك وحسبك، بل هو محض اختيار الله! فعلام الكبر؟! ولله درُّ القائل: تواضع تكن كالنَّجم لاح لناظرٍ ... على صفحات الماء وهو رفيع ولا تك كالدُّخان يعلو مكانه ... على طبقات الجوِّ وهو وضيع وهذه مقتطفاتٌ من مواعظ الصحابيِّ الجليل سعد بن أبي وقَّاصٍ، فرضي الله عن سعدٍ، وجمعنا به في دار كرامته، ومع سادة أوليائه الذين أنعم عليهم من النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. ****

من مواعظ ابن مسعود رضي الله عنه

من مواعظ ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - (1/ 4) ذاك الإمام الكبير من أئمة الصحابة - رضي الله عنهم -، أسلم قبل دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة الهجرتين، وشهد بدرًا والمشاهد كلَّها، وكان صاحب سرِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووساده وسواكه ونعليه وطهوره في السفر، وكان يشبَّه بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في هديه ودلِّه وسمته، وكان خفيف اللحم، قصيرًا، شديد الأُدمة، وكان من أجود الناس ثوبًا، ومن أطيب الناس ريحًا، وولي قضاء الكوفة، وبيت المال لعمر وصدرًا من خلافه عثمان رضي الله عنهما، ثم صار إلى المدينة فمات بها سنة اثنتين وثلاثين، ودفن بالبقيع وهو ابن بضع وستِّين .. إنَّه عبد الله بن مسعودٍ، ويُكنَّى أبا عبد الرحمن، أمُّه أمُّ عبدٍ (¬1). كان ابن مسعودٍ من أعلام الصحابة في العلم بكتاب الله وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، حتى إنَّه أقبل ذات يومٍ وعمر جالسٌ فقال: كنيفٌ مليء علمًا (¬2)، أي: بيتٌ مليء علمًا. ولقد كان ابن مسعود من المفوَّهين، وممَّن أوتي الحكمة والبلاغة في العبارة، حتى إنَّ القارئ لها ليشعر بأنوار النبوة، وجلالة العلم، وحلاوة الفقه فيها. ... ¬

(¬1) صفة الصفوة (1/ 149). (¬2) صفة الصفوة (1/ 151).

• ولعلَّ هذه المواعظ التي سنقتطف بعضها توضِّح هذه الحقيقة، ومن ذلك (¬1): «من كان يحبُّ أن يعلم أنَّه يحبُّ الله عز وجل، فليعرض نفسه على القرآن، فإن أحبَّ القرآن، فهو يحبُّ الله تعالى؛ فإنَّما القرآن كلام الله، فمن أحبَّ القرآن، فهو يحبُّ الله عز وجل». إنَّه مقياسٌ ربَّانيُّ أصيلٌ، فأكثر الناس يدَّعي محبة الله، ولكنَّ الشأن في البرهان على هذه الدعوى، فهذا ابن مسعودٍ يعرض لنا ميزانًا لا تطيش كفَّته! فاعرض نفسك أيُّها المدَّعي لمحبة الله على كتابه العظيم، فبقدر موافقتك لما فيه، فنسبة حبِّك تعلو وترتفع، والعكس صحيحٌ. وفي التنزيل العزيز ميزانٌ آخر، يكشف حقيقة الدَّعوى، وهو قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]. • ومن أقواله التي تدلُّ على عمق علمه - رضي الله عنه - (¬2): «من أراد العلم، فليثوِّر القرآن؛ فإنَّ فيه علم الأوَّلين والآخرين». وهذه الكلمة كلمة عالم خبيرٍ مجرِّبٍ، يوضِّحها قول التابعيِّ الجليل مسروق بن الأجدع: «ما نسأل أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - من شيءٍ إلا علمه في القرآن، إلا أنَّ علمنا يقصر عنه» (¬3). فأين طلبه العلم من هذه الكلمة العميقة من ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -؟! يحزنك أن تجد تقصيرًا ظاهرًا من بعض طلاب العلم والدعاة في ¬

(¬1) السُّنَّة؛ لعبد الله بن أحمد (1/ 148). (¬2) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (129). (¬3) العلم؛ لزهير بن حرب (15).

تدبُّر القرآن، واستنباط معانيه وهداياته، فتجد الواحد منهم يذهب بعيدًا في قصصٍ وأخبارٍ ليقرِّر قضيةً معيَّنةً، ولو تدبَّر كتاب الله، لوجدها فيه. وقد بلغني عن شيخنا العلامة محمد بن صالحٍ العثيمين رحمه الله أنَّه قال: ما من حكمٍ في الشرع إلا ويجد الإنسان في القرآن حكمه إما صراحةً أو إشارةً، ولكنَّ هذا يحتاج إلى تأمُّلٍ وتدبُّرٍ، وهو يتَّفق مع ما قاله مسروقٌ رحمه الله. • ومن مواعظه - رضي الله عنه - قوله (¬1): «ينبغي لقارئ القرآن أن يُعرف بلَيلِه إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون». إنَّها وصيَّةٌ مختصرةٌ بليغةٌ، تحكي ما ينبغي أن يكون عليه صاحب القرآن من الهدي الحسن، والسَّمت الصالح، الذي هو ترجمةٌ عمليَّةٌ لأثر القرآن عليه، فإن خلا من ذلك، فما الفرق بينه وبين الذي لم يكرمه الله بحفظ القرآن في صدره؟! إنَّ هذه الموعظة حلقةٌ في سلسلةٍ طويلةٍ من تربية السلف لأتباعهم على قضيةٍ كبرى كانت تشغلهم، ألا وهي قضية: العمل بالعلم، والخوف من اتِّصاف صاحب العلم بما عاب الله به اليهود الذين لا يعملون بعلمهم، كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله: «من فسد من علمائنا، ففيه شبهٌ من اليهود، ومن فسد من عبَّادنا، ففيه شبهٌ من النَّصارى» (¬2). ¬

(¬1) المجالسة وجواهر العلم (5/ 428). (¬2) ينظر: مجموع الفتاوى (1/ 197).

• ومن مواعظه - رضي الله عنه - قوله (¬1): «ما دمت في صلاةٍ فأنت تقرع باب الملك، ومن يقرع باب الملك يُفتح له». ومن هو الملك الذي نقرع بابه في كلِّ صلاةٍ؟ إنَّه ربُّ العالمين، الذي بيده خزائن السموات والأرض! إنَّه الله الذي بيده صلاح القلوب والأحوال! لكنَّ الله تعالى - لحكمةٍ بالغةٍ - قد يؤخِّر إجابة دعوة الدَّاعي، فيحصل له من الخير في هذا التأخير ما لا يتأتَّى له لو قضيت حاجته بسرعةٍ! فيحصل له من الإخبات والإنابة، ولذَّة مناجاة خالقه، وغير ذلك من المصالح القلبيَّة ما لم يخطر له على بالٍ! ومن أدمن القرع، يُوشك أن يُفتح له، لكن ما هي حقيقة هذا الفتح؟ أهي واجبة الدعاء فحسب؟ لا، ولكن قد يدفع الله عنه شرًّا أعظم، أو يدَّخر الله له ذخرها يوم القيامة، وأقلُّ المكاسب -وما هو بالقليل - أن يكتب الله لك أجرها، تجده أحوج ما تكون؛ إذا كانت الحسنة بالدُّنيا كلِّها، يوم يقرأ كلُّ عاملٍ ما قدَّم. ومن أعظم الفتوح التي يعطاها الدَّاعي: أن يحبِّب الله له مناجاة ربِّه، والتلذُّذ بدعائه، والأنس بالقرب منه، فتلك التي لا يعادلها نعمةٌ، ولا فوقها مصيبةٌ حين يفقدها العبد بعد ما وجدها. ¬

(¬1) صفة الصفوة (1/ 156).

• ومن مواعظه في باب العلم قوله - رضي الله عنه - (¬1): «إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا سدَّده، وجعل سؤاله عمَّا يعينه، وعلمه فيما ينفعه». صدق - رضي الله عنه -؛ فإنَّ من علامة توفيق الله لعبده أن يسدِّده في أقواله وأفعاله، فليست العبرة بكثرة قوله وفعله، بل العبرة بالسَّداد، وهو الصواب، ولا يكون صوابًا إلا إذا كان خالصًا على السُّنَّة النبويَّة. ومن علامات توفيق الله لطالب العلم: أن يوفَّق للسؤال عمَّا يعنيه وينفعه، ويُبعده عمَّا لا يعنيه؛ ولهذا كان بعض السلف يربِّي تلاميذه إذا سألوا أسئلةً لا عمل تحتها، فينهونهم، قال الإمام مالك رحمه الله: «ولا أحبُّ الكلام إلا فيما تحته عمل، فأمَّا الكلام في الدِّين وفي الله عز وجل، فالسكوت أحبُّ إليَّ؛ لأنِّي رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدِّين إلا ما تحته عملٌ» (¬2). وقال ابن وهبٍ - تلميذ مالكٍ - قال لي مالكٌ: «أدركت أهل هذه البلاد وإنَّهم ليكرهون هذا الإكثار الذي في الناس اليوم»، قال ابن وهبٍ: «يريد المسائل» (¬3). والمشاهد في واقع بعض طلاب العلم -خاصةً ممَّن هم في بواكير الطلب، وبداية التحصيل -من يُرهق نفسه بتتبُّع الغرائب، ويترك السؤال عن الأصول والقواعد والمهمَّات من العلم الذي يتعنَّاه، ويُكثر السؤال عمَّا لا يعينه، فيفوته خيرٌ كثيرٌ، بل ربَّما حُرِم الوصول، وتحرير الأصول، وهذا غلطٌ وخطأٌ في المنهج، وها هي وصيَّة ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - ¬

(¬1) الإبانة الكبرى؛ لابن بطة (1/ 419). (¬2) جامع بيان العلم وفضله (2/ 938). (¬3) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1066).

ماثلةً، وكلام السلف في هذا كثيرٌ جدًّا، ومن قرأ في كتاب الإمام الفقيه أبي عمر بن عبد البرِّ «جامع بيان العلم وفضله»، رأى عجبًا من أحوال السلف في هذا الباب، وأدرك سرًّا من أسرار بركة علمهم. نسأل الله أن يرزقنا التأسِّي بهم قولًا وعملًا وسلوكًا. ***

من مواعظ ابن مسعود رضي الله عنه

من مواعظ ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - (2/ 4) • ومن مواعظ هذا الصحابيِّ الجليل قوله - رضي الله عنه - (¬1): «عليكم بالعلم؛ فإنَّ أحدكم لا يدري متى يُفتقر إلى ما عنده، عليكم بالعلم قبل أن يُقبض، وقبضُه: ذهاب أهله». حينا تستمع إلى هذه الوصيَّة من هذا الصحابيِّ الجليل الذي عمِّر بعد وفاة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاة وزيريه وخليفتيه: أبي بكرٍ وعمر، وهو الذي شعر بمرارة فقد معلِّم الناس الخير، وبلوعة فقد أعلم هذه الأمَّة بعد نبيِّها، وفي الوقت ذاته يستشعر معناها؛ لأنَّه عاش حتى احتاج الناس إلى علمه، بل قال يومًا عن نفسه -متحدِّثًا بفضل الله عليه -: «لقد قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعًا وسبعين سورةً، ولقد علم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنِّي أعلمهم بكتاب الله، ولو أعلم أَّن أحدًا أعلم منِّي، لرحلت إليه»، قال شقيقٌ: فجلست في حلق أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فما سمعت أحدًا يردُّ ذلك عليه، ولا يعيبه. فإذا استشعرت هذا كلَّه، وقعت هذه الوصية من ابن مسعودٍ موقعها من نفسك. ¬

(¬1) نثر الدر في المحاضرات (2/ 52).

هذه الوصية -بالعناية بالعلم حال الصِّغر- تلتقي تمامًا مع موقفٍ عمليٍّ وقع لابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، يترجم فيه هذه الوصية؛ إذ يقول رضي الله عنهما: لمَّا توفِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت لرجلٍ من الأنصار: يا فلان، هلمَّ فلنسأل أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنَّهم اليوم كثيرٌ! فقال: واعجبًا لك يا بن عباسٍ! أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من ترى؟ فتركت ذلك، وأقبلت على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائلٌ، فأتوسَّد ردائي على بابه، فتسفي الرِّيح على وجهي التراب، فيخرج فيراني، فيقول: يابن عمِّ رسول الله، ما جاء بك؟ ألا أرسلت إليَّ فآتيك؟ فأقول: لا، أنا أحقُّ أن آتيك، فأسأله عن الحديث، قال: فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس عليَّ، فقال «كان هذا الفتى أعقل منِّي» (¬1). إنَّ هذا النموذج من الشباب المثبِّطين، أو الذين لا ينظرون لأبعاد الأمور - يفوِّتون على أنفسهم وعلى غيرهم فرص البناء والتحصيل العلميِّ، والسبب؟ وجود الأكابر في حياتهم! وأنَّ الناس لن يحتاجوا لهم في وجودهم! والسؤال الذي ينبغي أن يسأله هؤلاء أنفسهم: هؤلاء الأكابر، ألم يكونوا يومًا من الدهر صغارًا مثلكم؟! ثم صاروا كبارًا احتاج الناس إلى علمهم؟ فالله الله أيُّها الشباب، ضعوا القطن في آذانكم ولا تستمعوا لهذه المقولات التي لا تُنتج إلا جيلًا من الكُسالى، وفئامًا من الزَّمنى في علمهم وعملهم! وتأكَّدوا أنَّكم وإن كنت اليوم صغار قومٍ، فستكونون كبار قومٍ آخرين (¬2)، وسيحتاج الناس إلى علمكم ¬

(¬1) سنن الدارمي ح (590)، وصححه الحاكم (1/ 188). (¬2) في «المدخل إلى السنن الكبرى»؛ للبيهقي (ص371) من طريق عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: كان في هذا المكان - خلف الكعبة - حلقةٌ، فمرَّ عمرو بن العاص يطوف، فلمَّا قضى طوافه جاء إلى الحلقة، فقال: ما لي أراكم نحَّيتم هؤلاء الغلمان عن مجلسكم؟! لا تفعلوا، أوسعوا لهم وأدنوهم، وأفهموهم الحديث؛ فإنَّهم اليوم صغار قومٍ ويوشك أن يكونوا كبار آخرين، قد كنَّا صغار قومٍ ثم أصبحنا كبار آخرين. وروى البيهقي (ص371) من طريق شرحبيل بن سعد، قال: دعا الحسن بن عليِّ بنيه وبني أخيه، فقال: يا بنيَّ ويا بني أخي، إنَّكم صغار قومٍ يوشك أن تكونوا كبار آخرين، فتعلَّموا العلم، فمن لم يستطع منكم أن يرويه أو يحفظه، فليكتب وليضعه في بيته.

إن استمررتم في الطريق، ومن سار وصل، بعون الله وتوفيقه. • ومن مواعظه - رضي الله عنه - قوله (¬1): «والله الذي لا إله غيره، ما يضر عبدًا يصبح على الإسلام ويمسي عليه ما أصابه من الدُّنيا». الله أكبر! إنَّه الفرح بالهداية لهذا الدِّين الذي تهون عند فقده كلُّ مصيبةٍ! خاصةً إذا تذكَّر الإنسان أثر هذه الشهادة العظيمة (لا إله إلا الله) في الدُّنيا والآخرة، أمَّا في الدُّنيا، فأمرها ظاهرٌ، وأمَّا في الآخرة، فإنَّ من بديع العبارات السلفيَّة التي تبيِّن موقع هذه الكلمة قول ابن عيينة رحمه الله: «ما أنعم الله على العباد نعمةً أعظم من أن عرَّفهم (لا إله إلَّا الله)، وإنَّ (لا إله إلَّا الله) لهم في الآخرة كالماء في الدُّنيا» (¬2). ويوضِّح ذلك أكثر، قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: 91]، فهل تصوَّرت ماذا يعني أن يهديك الله لقول هذه الكلمة والعمل بمقتضاها؟ إنَّ هؤلاء الكفار لو ¬

(¬1) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص159). (¬2) الدر المنثور، في التفسير بالمأثور (5/ 44).

جاؤوا بسبيكةٍ ذهبيَّةٍ بحجم الكرة الأرضيَّة، لم تنفعهم ولم تنقذهم من العذاب! بينما لو جاؤوا بـ (لا إله إلا الله) لنفعتهم، فتبيَّن بهذا أنَّ هذه الكلمة التي ينطقها الطفل الصغير -من أطفالنا -خيرٌ من سبيكةٍ ذهبيةٍ بحجم الكرة الأرضية! بل أعظم! ولهذا كان نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - حريصًا أن يسمعها من عمِّه أبي طالبٍ، ولكن سبق القدر بموته على الكفر، ولله الحكمة البالغة، والمشيئة النافذة! ألا ما أحوجنا -ونحن في عصرٍ كثرت فيه الشكوى من المنغِّصات -أن نستذكر هذه الموعظة من ابن مسعودٍ: «والله الذي لا إله غيره، ما يضرُّ عبدًا يصبح على الإسلام ويمسي عليه ما أصابه من الدُّنيا»، فالدُّنيا أمدها قصير، وعُمْر أحدنا فيها أقصر من أن نملأه بالمنغِّصات؛ ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله يسلِّي نفسه بنحو هذا المعنى فيقول: «إذا ذكرت الموت، هان عليَّ كلُّ أمر الدُّنيا، إنما هو طعامٌ دون طعامٍ، ولباسٌ دون لباسٍ، وإنَّها أيامٌ قلائل!» (¬1). • ومن مواعظ ابن مسعود - رضي الله عنه - الزهديَّة (¬2): «الدُّنيا كلُّها غمومٌ، فما منها من سرورٍ، فهو ربحٌ». ومنطلق ابن مسعودٍ في هذا عددٌ من الآيات القرآنيَّة؛ منها قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]، وقوله تعالى عن أهل الجنة -وهم يتحدَّثون بنعمة الله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34]، وغيرها من الآيات. ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (11/ 215). (¬2) السيرة الحلبية (1/ 397).

ولا ريب أنَّ استحضار هذا المعنى ممَّا يهوِّن على العبد ما يمرُّ به من مُنغِّصات ومكدِّراتٍ، وأن يعلم أنَّ هذه الدار كما قال الشاعر: جبلت على كدرٍ وأنت تريدها ... صفوًا من الأقذاء والأكدار ومكلِّف الأيَّام ضدَّ طباعها ... متطلِّبٌ في الماء جذوة نار إنَّ فقه حقيقة الحياة لَمِن أعظم الأدوية وأنجعها في تخفيف وطأة الهموم التي عصفت بملايين القلوب، حين عاشوا الدُّنيا على غير حقيقتها، وطلبوا منها ما لم يجعله الله فيها. والحقيقة أنَّ الدُّنيا منذ خلقها الله هي الدُّنيا! وإنما الفرق هو في كيفية التعامل معها؛ ولهذا تجد أخوين شقيقين، عاشا في بيئةٍ واحدةٍ، وظروفٍ متشابهةٍ جدًّا، لكنَّ أحدهما سعيدٌ والآخر شقيٌّ، ومن أهمِّ الأسباب طريقة التعامل، وكيفية النظر لهذه الحياة، فمن فقه حقيقتها استراح، ومن غابت عنه الحقيقة تعب وتعنَّى. ولابن مسعودٍ كلمةٌ أخرى في هذا السياق تجلِّي فقهه لهذه الحياة، فيقول: «ما أحدٌ أصبح في الدُّنيا إلا وهو ضيفٌ، وماله عاريَّةٌ، والضيف مرتحلٌ، والعاريَّة مردودةٌ» (¬1). ويقول -أيضًا -: «ليس للمؤمن راحةٌ دون لقاء الله، فمن كانت راحته في لقاء الله، فكأن قد» (¬2). ولِمَن لم يفقه حقيقة هذه الدُّنيا، أُهديه هذا الخبر الغريب، فقد ذكر ابن أبي الفيَّاض في (تاريخه) قال: أُخبرت أنَّه وُجد في تاريخ ¬

(¬1) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص163). (¬2) حلية الأولياء (1/ 136).

عبد الرحمن الناصر - خليفة الأندلس الشهير - أنَّ أيام السرور التي صفت له عُدَّت، فكانت أربعة عشر يومًا! وقد ملك خمسين سنة ونصفًا (¬1)، فهل من معتبرٍ؟ ... ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (8/ 266).

من مواعظ ابن مسعود رضي الله

من مواعظ ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - (3/ 4) • ومن مواعظ هذا العلم الكبير من أعلام الصحابة قوله - رضي الله عنه - (¬1): «والذي لا إله إلا هو، ما على ظهر الأرض شيءٌ أحقُّ لطول سجنٍ من لسانٍ!». هذا القسم من هذا الصحابيِّ الجليل، يدلُّ على فقهه لخطورة هذه الجارحة، ونصوص الشرع المطهَّر مشحونةٌ بالتحذير من ذلك. وأنت إذا تأمَّلت كثيرًا من المشاكل الفرديَّة والجماعيَّة - بل أحيانًا بين بعض الدول - وجدتَّ مُنطلقها من كلمةٍ ألقاها صاحبها دون أن يقدِّر أثرها، الذي ربَّما صار أشدَّ من أثر النار في الهشيم! وفي التاريخ عبرةٌ؛ تقوم حربٌ بين قبيلتين، أو تذهب نفسٌ بسبب كلمةٍ أو قصيدةٍ شعريَّةٍ! وأشدُّ من ذلك كلِّه، ما قاله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّ العبد ليتكلَّم بالكلمة، ما يتبيَّن ما فيها، يهوي بها في النَّار أبعد ما بين المشرق والمغرب) (¬2). بل كم من كلمةٍ جلبت لصاحبها الأذى الطويل، ولو سكت لكان خيرًا له! وما أجمل قول الأوَّل: ¬

(¬1) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص162). (¬2) البخاري ح (6477) مسلم ح (2988).

يموت الفتى من عثرةٍ بلسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرِّجل فعثرته بالقول تودي برأسه ... وعثرته بالرِّجل تبرا على مهل • وابن مسعودٍ - رضي الله عنه - يكرِّر هذا المعنى في مواعظ أخرى له، فيقول لرجلٍ طلب وصيته (¬1): «ليسعك ببتك، واكفف لسانك، وابك على ذكر خطيئتك». وقال مرَّةً: «إيَّاكم وفضول القول، فبحسب المرء من الكلام ما بلغ من حاجته» (¬2). وهذه الجملة الأخيرة: «إيَّاكم وفضول القول» تأخذ معنًى أبعد في الوصية بحفظ اللِّسان عمَّا لا يعني؛ فإنَّ الترجمة تفيد أنَّ من اعتاد الكلام فيما لا يعني، قسا قلبه، ولم يأمن الزَّلَّة والخوض فيما يضرُّه. وكلُّ هذا يدخل تحت تلك الجملة النبويَّة المحكمة: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت) (¬3). ولقد أحسن ابن السَّمَّاك الواعظ حين قال عن اللسان: «سبعك بين لحييك -يعني: اللسان -تأكل به كلَّ من مرَّ عليك، قد آذيت أهل الدُّور في الدُّور، حتى تعاطيت أهل القبور، فما ترثي لهم وقد جرى البلى عليهم! وأنت ها هنا تنبشهم، إنَّما نرى نبشهم أخذ الخرق عنهم، إذا ذكرت مساويهم فقد نبشتهم، إنَّه ينبغي لك أن يدلَّك على ترك القول في أخيك ثلاث خلالٍ: أمَّا واحدةٌ، فلعلَّك أن تذكره بأمرٍ هو فيك، فما ¬

(¬1) صفة الصفوة: (1/ 158). (¬2) أنساب الأشراف؛ للبلاذري (11/ 228). (¬3) البخاري ح (6018) مسلم ح (47).

ظنُّك بربِّك إذا ذكرت أخاك بأمرٍ هو فيك؟ ولعلَّك تذكره بأمرٍ فيك أعظم منه، فذلك أشدُّ استحكامًا لمقته إيَّاك، ولعلَّك تذكره بأمر قد عافاك الله منه، فهذا جزاؤه إذ عافاك؟! أما سمعت: ارحم أخاك، وأحمد الذي عافاك؟! (¬1). وبالجملة فشأن اللسان خطيرٌ، ومن أجل ذلك صنَّف العلماء كتبًا مستقلةً في الصمت وفي المنطق، وضمَّنوا كتبهم في الآداب الكلام الكثير عن هذا الموضوع، الذي يجب على كلِّ ناصحٍ لنفسه أن يراعيه ويرعاه. * ومن مواعظه - رضي الله عنه - (¬2): «كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار جهلًا!». وصدق - رضي الله عنه -، وهو بهذا ينطلق مباشرةً إلى ثمرة العلم، وهي الخشية، بدلًا من الدخول في تعريفها، وهكذا كان شأن السلف؛ قليلو التكلُّف، عميقو العبارات في إيصال المعاني. ومصداق قوله - رضي الله عنه - قول الحقِّ تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28]، فإذا وُجدت الخشية، فقد وُجدت ثمرة العلم، وإن لم يكن الإنسان عالمًا، وإذا ذهبت أو قلَّت الخشية، فقد ذهبت بركة العلم وثمرته الكبرى، وإلا فما فائدة العلم إذا لم يورث خشيةً تمنع من الوقوع في المحذور، وتدلُّ على فعل ما ينبغي؟ ولهذا قال ابن مسعودٍ: «وكفى بالاغترار جهلًا»؛ ذلك أنَّ بعض الناس -ممَّن أُوتي حظًا من العلم -قد يقع في أنواعٍ من التأويلات والتَّكلُّفات، فيتوسَّعون في بعض ¬

(¬1) صفوة الصفوة (2/ 102). (¬2) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص158).

المسائل، أو يسوِّغون لأنفسهم الوقوع في المشتبهات؛ حتى يقودهم ذلك إلى مهيع المحرَّمات، فتذبل شجرة الخشية في قلوبهم، ويقع الاغترار بسعة العفو، وسبق الرحمة، ثم لا يدري إلا وقد عصى أو قارب، فيجد في قلبه قسوةً! ويعاد السؤال مرةً أخرى: ما قيمة العلم هنا إذا لم يحمل على الخشي والورع؟! • ومن مواعظه - رضي الله عنه - قوله (¬1): «لو سخرت من كلبٍ، خشيت أن أحوَّل كلبًا!». هذا أثرٌ من آثار العلم الذي امتلأ به صدر ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -؛ ذلك أنَّ السخرية ليست من خصال أهل الإيمان الذين ناداهم الله تعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا} [الحجرات: 11]، بل يمتدُّ هذا إلى كفِّ ألسنتهم عن السخرية بغير المكَّلفين؛ إذ الخالق للكلِّ هو الله تعالى، ولو شاء الله لكان الإنسان مثل من سخر به! وهذا المعنى تواردت عليه كلمات السلف - رحمهم الله - فهذا إبراهيم النَّخعيُّ يقول: «إنِّي لأرى الشيء أكرهه، فما يمنعني أن أتكلَّم فيه إلا مخافة أن أُبتلى بمثله» (¬2). وقال أبو ميسرة: «لو رأيت رجلًا يرضع عنزًا فسخرت منه، خشيت أن أكون مثله» (¬3). ¬

(¬1) الزهد؛ لهناد بن السري (2/ 570). (¬2) البيهقي في الشُّعب ح (6353). (¬3) التاريخ الكبير = تاريخ ابن أبي خيثمة - السفر الثالث (3/ 173).

وقال ابن سيرين: «عيَّرت رجلًا، وقلت: يا مفلس! فأفلست بعد أربعين سنةً!» (¬1). وعن الحسن قال: «كانوا يقولون: من رمى أخاه بذنبٍ قد تاب منه، لم يمت حتى يبتليه الله به» (¬2). فإذا كانت هذه حالهم في الحذر من السخرية بالحيوانات، أفتراهم يطلقون ألسنتهم بالسخرية ببني آدم؟! شرُّ الورى من بعيب النَّاس مشتغلًا ... مثل الذُّباب يُراعي موضع العلل وإذا كان هذا المعنى محرَّمًا في عموم الناس، فهو في حقِّ العلماء أشدُّ وأقبح، وإذا كان من أجل علمهم ودينهم الذي عرفوا به، فالمسألة أخطر، ولله درُّ الإمام مالكٍ الذي قال: «أدركت بهذه البلدة -يعني: المدينة -أقوامًا لم تكن لهم عيوبٌ، فعابوا الناس فصارت لهم عيوبٌ، وأدركت بها أقوامًا كانت لهم عيوبٌ، فسكتوا عن عيوب الناس فنسيت عيوبهم» (¬3). لا تهتكن من مساوي النَّاس ما سترا ... فيهتك الله سترًا عن مساويكا واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ... ولا تعب أحدًا منهم بما فيكا • ومن مواعظه قوله - رضي الله عنه -: «إنَّكم في ممرِّ الليل والنهار في آجالٍ منتقصة، وأعمالٍ محفوظة، والموت يأتي بغتةً، فمن يزرع خيرًا يوشك أن يحصد رغبةً، ومن زرع شرًّا ¬

(¬1) صيد الخاطر (ص39). (¬2) الصمت؛ لابن أبي الدنيا (ص170). (¬3) الضوء اللامع، لأهل القرن التاسع (1/ 106).

فيوشك أن يحصد ندامةً، ولكلِّ زارع مثل الذي زرع، لا يسبق بطاءٌ بحظِّه، ولا يدرك حريصٌ ما لم يقدَّر له، فمن أعطي خيرًا فالله أعطاه، ومن وقي شرًا فالله وقاه، المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالسهم زيادة» (¬1). ولعلَّ في وضوح هذه الموعظة - مع ما سبقت الإشارة إليه - ما يغني عن التعليق عليها. هذه نبذٌ من مواعظ الصحابيِّ الجليل عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - ... ومازال في مواعظه الكثير مَّما يستحُّق الوقوف معه، نتدارس بعضها في المواعظ التالية. ... ¬

(¬1) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص161).

من مواعظ ابن مسعود رضي الله عنه

من مواعظ ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - (4/ 4) * سنختم في هذا الجزء ما تيسَّر من مواعظ هذا الصحابيِّ الجليل، العالم الإمام والتي منها قوله - رضي الله عنه - (¬1): * «إنَّ المؤمن يرى ذنوبه كأنَّه قاعدٌ تحت جبلٍ يخاف أن يقع عليه، وإنَّ الفاجر يرى ذنوبه كذبابٍ مرَّ على أنفه، فقال به هكذا!»، قال أبو شهابٍ بيده فوق أنفه. ما أروع هذا التَّشبيه الذي يحكي حال المؤمن مع الذنب، وخوفه وشفقته من أثره! ويحكي حال الفاجر والمنافق، الذي لا يبالي في أيِّ أودية المعاصي نزل، ولا أيَّ ذنبٍ اقترف، والعياذ بالله! وهذا الشعور إذا ساور الإنسان، فهو - بلا ريبٍ - علامة إيمانٍ وخوفٍ؛ إذ ليس من شرط الإيمان ولا والولاية في الدِّين العصمة من الذنب صغيرًا أم كبيرًا، بل الشرط عدم الإصرار على الذنب، قال تعالى في صفة أهل الجنة التي عرضها السموات والأرض: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ*أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 135، 136]. ¬

(¬1) البخاري ح (5949).

فتأمَّل كيف لم ينف عنهم الوقوع في الفواحش، فضلًا عن غيرها من الذنوب؛ وإنَّما نفى عنهم الإصرار؛ لأَّن لسع الذنب مستمرُّ على القلب، فلا يرتاح إلا إذا أقلع وأناب. وإنَّ من الأمثلة المدهشة في هذا المعنى: قصة المرأة الغامديَّة التي زنت، وأصرَّت على إقامة الحدِّ، مع أنَّ لها ولدًا من الزنى، إلا أنَّ حرارة الذنب استمرَّت معها قرابة ثلاث سنواتٍ، وهي تتردَّد على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من أجل الرغبة في التطهير، مع أنَّها لو استترت بستر الله، وتابت فيما بينها وبين الله لم يطالبها أحدٌ .. لكنَّه القلب الحيُّ، الذي استعظم ذنبه وخطيئته، فلم يرض إلا بتطهيرٍ يريح ضميره الذي ما زال يؤنِّبه، فأقيم عليها الحدُّ، فشهد لها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّها (تابت توبةً لو تابها صاحب مكسٍ، لغفر له)، بل قال -كما في الرواية الأخرى لمَّا استغرب الفاروق - رضي الله عنه - صلاة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عليها: (لقد تابت توبةً لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة، لوسعتهم؛ وهل وجدتَّ توبةً أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟) (¬1). لقد كان السلف كثيري التذكير بهذا المعنى؛ لعلمهم بأنَّ الإنسان إذا تساهل بالصغيرة، فلا يبعد أن يتساهل بما هو أعظم، استنادًا إلى جملةٍ من الأحاديث الواردة في هذا الباب. ويشبه قول ابن مسعودٍ هذا قول أنسٍ - رضي الله عنه -: «إنَّكم لتعملون أعمالًا هي أدقُّ في أعينكم من الشَّعر، إن كنَّا لنعدُّها على عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات»، قال البخاريُّ: (يعني بذلك: المهلكات)» (¬2). وقد بوَّب البخاريُّ على هذا الأثر بقوله: «باب ما يتَّقى من محقَّرات الذُّنوب»؛ يشير بذلك إلى ما رُوي من الأحاديث المرفوعة في ¬

(¬1) مسلم ح (1695، 1696). (¬2) البخاري ح (6492).

هذا الباب؛ كحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يا عائش، إيَّاك ومحقَّرات الذُّنوب؛ فإنَّ لها من الله طالبًا) (¬1)، وكحديث سهل بن سعدٍ عند الإمام أحمد -وحسنَّه ابن حجرٍ (¬2) -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (إيَّاكم ومحقَّرات الذُّنوب؛ فإنَّما مثل محقَّرات الذُّنوب كقوم نزلوا في بطن وادٍ، فجاء ذا بعودٍ، وجاء ذا بعودٍ حتَّى أنضجوا خبزتهم، وإنَّ محقَّرات الذُّنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه) (¬3). قال بلال بن سعدٍ رحمه الله: «لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت» (¬4). وكان الإمام أحمد رحمه الله مرةً يمشي في الوحل ويتوقَّى، فغاصت رجله فخاض، وقال لأصحابه: هكذا العبد لا يزال يتوقَّى الذنوب، فإذا واقعها خاضها (¬5). والمقصود من هذا أن يحرص كلُّ واحدٍ منَّا ألَّا تخبو في قلبه جذوة المرارة من الذنب عند الوقوع فيه، فإن شعر أنَّه يذنب ولا يتألَّم، ولا يضيق صدره، فليتفقَّد قلبه قبل أن يموت موتًا لا يحيا بعده. ... • ومن مواعظه - رضي الله عنه - قوله (¬6): «إنَّ الناس قد أحسنوا القول، فمن وافق قوله فعله، فذاك الذي أصاب ¬

(¬1) رواه الدارمي ح (2768) وصححه ابن حبان ح (5568). (¬2) فتح الباري (11/ 329). (¬3) المسند ح (22808). (¬4) الزهد؛ لابن المبارك، رقم (71). (¬5) الآداب الشرعيَّة، والمنح المرعيَّة (1/ 82). (¬6) الزهد؛ لأبي داود (ص175).

حظَّه، ومن لا يوافق قوله فعله، فذاك الذي يوبِّخ نفسه». قال بعض السلف: أسكتتني كلمة عبد الله بن مسعودٍ عشرين سنةً؛ حيث يقول: من كان كلامه لا يوافق فعله، فإنَّما يوبِّخ نفسه (¬1). ما أبلغ هذه الموعظة! وما أشدَّ حاجتنا لتأمُّلها! فإنَّ النفس قد تتوق كثيرًا للمعرفة والتعلُّم، ولكنَّها قد تفرِّط أو تقصِّر في ترجمة هذا العلم، وهذا في حقيقته توبيخٌ للنفس كما قال ابن مسعودٍ. وكلام السلف في ذا المعنى كثيرٌ وطويلٌ، ولأجله صنَّف بعض العلماء كتبًا مستقلةً، كما صنع الخطيب البغداديُّ رحمه الله في كتابه الماتع: «اقتضاء العلم العمل». قال الإمام مالكٌ رحمه الله: بلغني عن القاسم بن محمدٍ قال: «أدركت الناس وما يعجبهم القول؛ إنَّما يعجبهم العمل» (¬2). إذا العلم لم تعمل به كان حجَّةً ... عليك ولم تعذر بما أنت جاهله فإن كنت قد أوتيت علمًا فإنَّما ... يصدِّق قول المرء ما هو فاعله ومن أخوف الأحاديث على المؤمن الذي لا يعمل بعلمه، وإنَّما حظُّه من ذلك العلم فحسب، والرِّياء والتَّكثُّر به: حديث الثلاثة الذين هم أوَّل من تسعَّر بهم النار، وفي رواية الترمذيِّ وغيره لهذا الحديث قصةٌ مؤثِّرةٌ، وهي أنَّ شفيًّا الأصبحيَّ قال لأبي هريرة - رضي الله عنه -: أسألك بحقٍّ وبحقٍّ (¬3) لما حدَّثتني حديثًا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقلته وعلمته، فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدِّثنَّك حديثًا حدَّثنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقلته وعلمته، ¬

(¬1) عيون الأخبار (2/ 195). (¬2) جامع بيان العلم وفضله (1/ 697). (¬3) التكرار للتأكيد، والباء زائدة، والمعنى: أسألك حقًا غير باطل؛ تحفة الأحوذي (7/ 46).

ثمَّ نشغ أبو هريرة نشغةً -أي: شهق شهقة -فمكثنا قليلًا ثم أفاق، فقال: لأحدِّثنَّك حديثًا حدَّثنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا البيت، ما معنا أحدٌ غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغةً شديدةً، ثم أفاق فمسح وجهه فقال: أفعل، لأحدِّثنَّك حديثًا حدَّثنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا وهو في هذا البيت ما معنا أحدٌ غيري وغيره، ثم نشغ ... أبو هريرة نشغةً شديدةً، ثم مال خارًّا على وجهه، فأسندتُّه عليَّ طويلًا، ثم أفاق فقال: حدَّثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنَّ الله -تبارك وتعالى -إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكلُّ أمَّةٍ جاثيةٌ، فأوَّل من يدعو به رجلٌ جمع القرآن، ورجلٌ قُتِل في سبيل الله، ورجلٌ كثير المال، فيقول الله للقارئ ..» فذكر الحديث (¬1). فنسأل الله تعالى أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يعيذنا من فتنة القول والعمل. ولنختم بجملةٍ من الأدعية المأثورة عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -: - «اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بك من غنًى يُطغي، أو فقرٍ يُنسي، أو هوًى يُردي، أو عملٍ يُخزي» (¬2). - «اللَّهمَّ إنِّي أسألك بنعمتك السَّابغة الَّتي أنعمت عليَّ، وبلائك الَّذي أبليتني، وفضلك العظيم الَّذي أفضلت عليَّ: أن تدخلني الجنَّة، اللَّهمَّ أدخلني الجنَّة بمنِّك وفضلك ورحمتك!» (¬3). - «اللَّهمَّ زدنا إيمانًا ويقينًا وفقهًا» (¬4). هذه نبذٌ من مواعظ الصحابيِّ الجليل عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه -، ¬

(¬1) الترمذي ح (2382) وصححه ابن خزيمة ح (2482) وابن حبان ح (408). (¬2) الزهد؛ لوكيع (ص427). (¬3) المجالسة وجواهر العلم (6/ 202). (¬4) الإيمان؛ لابن تيمية (ص177).

- وبقي منها الكثير، لكن ليس الغرض الاستيعاب، بل التنبيه والإشارة، فرضي الله عن ابن مسعودٍ، ونفعنا بمواعظه، وجمعنا به في دار كرامته سبحانه بمنِّه وفضله وكرمه. ****

من مواعظ أبي موسى الأشعري رضي الله عنه

من مواعظ أبي موسى الأشعريِّ - رضي الله عنه - أبو موسى الأشعريُّ - رضي الله عنه -، وإن شئت فقل: عبد الله بن قيس بن سليمٍ، من بني الأشعر، من قحطان: صحابيُّ من الشُّجعان، ولد في زبيد (باليمن). إمامٌ من أئمَّة الصحابة - رضي الله عنهم -، قدم مكَّة عند ظهور الإسلام فأسلم، هاجر الهجرتين -الحبشة والمدينة -كان خفيف الجسم، قصيرًا، وهو أحد عمَّال النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، كان أحد علماء الصحابة وفقهائهم، بعثه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مع معاذ بن جبلٍ إلى اليمن، كان قد أعطي مزمارًا من مزامير آل داود من حسن صوته، وكان أحد الولاة الفاتحين، وأحد الحكمين اللذين رضي بهما عليُّ ومعاوية بعد حرب صفِّين للتحكيم، سئل عليٌّ - رضي الله عنه - عن موضع أبي موسى من العلم؟ فقال: صُبغ في العلم صبغةً. توفِّي سنة (52هـ)، ودفن بمكة، وقيل: (44هـ)، ودفن قريبًا من الكوفة على ميلين (¬1). كان أبو موسى علمًا من أعلام مدرسة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وتلميذًا نجيبًا فيها، أدرك علمًا غزيرًا، ظهر أثره في حياته العمليَّة، وثقة أكابر الصحابة ¬

(¬1) يُنظر: معرفة الصحابة؛ لأبي نعيم (4/ 1749)، الاستيعاب في معرفة الأصحاب (3/ 981)، الأعلام؛ للزِّركلي (4/ 114).

فيه، وكثرة ما روى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولعلَّ مواعظة -التي سنشير إلى شيءٍ منها -توضح هذه الحقيقة، فمن ذلك: • ما روى البيهقيُّ في الشُّعب (¬1) من طريق موسى بن إسحاق الطَّلحيِّ، قال: اجتهد الأشعريُّ قبل موته اجتهادًا شديدًا، فقيل له: لو أمسكت ورفقت بنفسك بعض الرِّفق! قال: «إنَّ الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها، أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلي أقلُّ من ذلك». قال: فلم يزل على ذلك حتى مات. يا لها من موعظةٍ عمليَّةٍ من أبي موسى - رضي الله عنه -! قرنها بموعظةٍ قوليَّةٍ؛ فاجتمع فيها القول والعمل، وهذا غاية ما يكون من التأثير في المواعظ التي تُنقل عن العلماء. لقد كان أبو موسى من علماء الصحابة - كما أسلفت - وكان على قدرٍ كبيرٍ من العمل، لكنَّه لمَّا تقدَّمت به السنُّ، وأحسَّ بدنوِّ الأجل، رأى أنَّ خير عُدَّةٍ للقاء الله هي الاجتهاد في العمل، فلمَّا عُوتب في هذا، وطلبوا منه أن يرفق بنفسه، أجابهم بهذه الكلمة الحكيمة: «إنَّ الخيل إذا أُرسلت فقاربت رأس مجراها، أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلي أقلُّ من ذلك». وإذا كان المطلوب من المؤمنين عمومًا الاجتهاد في العمل -لأنَّ الإنسان لا يدري متى يفجؤه الأجل -فإنَّه متعيِّنٌ ومتأكِّدٌ في حقِّ من تقدَّمت بهم السنُّ، واقتربوا من الآخرة، فماذا ينتظر من جاوز الستِّين؟ فضلًا عمَّن جاز السبعين والثمانين! بل قال بعض السلف -وهو عبد الله بن ¬

(¬1) شُعب الإيمان (13/ 202).

داود الخُريبيُّ -يحكي حال من قبله: كان أحدهم إذا بلغ أربعين سنةً طوى فراشه، وكان بعضهم يحيي الليل، فإذا نظر إلى الفجر قال: «عند الصباح يحمد القوم السُّرى» (¬1). يقول أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه -: كنَّا مع أبي موسى في مسيرٍ له، فسمع الناس يتحدَّثون، فسمع فصاحةً فقال: «ما لي يا أنس؟ هلمَّ فلنذكر ربَّنا، فإنَّ هؤلاء يكاد أحدهم أن يفري الأديم (¬2) بلسانه»! ثمَّ قال لي: «يا أنس، ما أبطأ بالناس عن الآخرة، وما ثبرهم (¬3) عنها؟»، قال: قلت: الشهوات والشيطان، قال: «لا والله، ولكن عجِّلت لهم الدُّنيا، وأخِّرت الآخرة، ولو عاينوا، ما عدلوا وما ميَّلوا» (¬4). وهذا المعاني التي أشار لها أبو موسى وعبد الله بن داود الخُريبيُّ، منتزعةٌ من جملةٍ من النصوص، لعلَّ من أشهرها قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ... [الأحقاف: 15]، فالموفَّق من التفت إلى آخرته ما دام في نفسه بقيَّةٌ، خاصةً إذا كان ممَّن جاز ¬

(¬1) المجالسة وجواهر العلم (1/ 444). السُّرى: السير في الليل. وهذا مثلٌ أول من قاله خالد بن الوليد، في صبح ليلةٍ قطع فيها مفازةً كانت في طريقه من العراق إلى الشام. ويضرب هذا المثل للرجل يحتمل المشقة رجاء الراحة. انظر: الفاخر (ص193)، مجمع الأمثال (2/ 3)، صبح الأعشى (1/ 348). (¬2) الفري: القطع. الأديم: الجلد. (¬3) وما ثبرهم: ما الذي صدَّ الناس ومنعهم عن طاعة الله؟ - غريب الحديث؛ للخطاب (2/ 365). (¬4) حلية الأولياء (1/ 259).

الأربعين، فليس بعد بلوغ الأشدِّ إلا بداية الضَّعف، وما أقرب الوداع! • ومن مواعظه - رضي الله عنه -: ما رواه قسامة بن زهيرٍ، قال (¬1): خطبنا أبو موسى - رضي الله عنه - بالبصرة فقال: «يا أيُّها الناس، أبكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا؛ فإنَّ أهل النار يبكون الدموع حتى تنقطع، ثم يبكون الدماء؛ حتى لو أرسلت فيها السُّفن لجرت». البكاء من خشية الله دأب الصالحين، وهدي أولياء الله المفلحين، ومن تأمَّل ما ذكره الله تعالى في كتابه، وجد ما ينكِّس الرأس، ويطأطئ الهامة؛ خجلًا من بعده عن تلك المراتب التي جاءت عن أولئك الصفوة المباركة! كمثل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء: 107 - 109]. قال عبد الأعلى التَّيميُّ رحمه الله: إنَّ من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليقٌ ألاَّ يكون أوتى علمًا ينفعه! لأنَّ الله نعت العلماء فقال: {إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ} الآيتين (¬2). ولمَّا قرأ ابن مسعودٍ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - صدر سورة النساء، قال ¬

(¬1) حلية الأولياء (1/ 261). (¬2) تفسير الطبري (17/ 579).

ابن مسعودٍ: فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]، قال: (أمسك)، فإذا عيناه تذرفان! (¬1). ومن السبعة الذين يظلُّهم الله في ظلِّه، يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه: «ورجلٌ ذكر الله خاليًا، ففاضت عيناه» (¬2). وهكذا تأتي موعظة أبي موسى - رضي الله عنه - متَّفقةً مع هذا الهدي النبويِّ، بل مع هدي الأنبياء جميعًا، حيث قال: «ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا»؛ أي: حاولوا أن تدرِّبوا نفوسكم على هذا، بأن «يحضر قلبه الحزن، فمن الحزن ينشأ البكاء .. ووجه إحضار الحزن: أن يتأمَّل ما في كتاب الله من التهديد والوعيد، والمواثيق والعهود، ثم يتأمَّل تقصيره في أوامره وزواجره؛ فيحزن لا محالة ويبكي، فإن لم يحضر حزنٌ وبكاءٌ كما يحضر أرباب القلوب الصافية، فليبك على فقد الحزن والبكاء؛ فإنَّ ذلك أعظم المصائب!» (¬3). والذي يُرجى ويؤمَّل من فضل الله ورحمته، أنَّ من بكى في هذه الدار خوفًا من الله وعذابه، أنَّ الله لا يجمع عليه البكاءين. • ومن مواعظه - رضي الله عنه - قوله (¬4): «إنَّما أهلك من كان قبلكم هذا الدِّينار والدِّرهم، وهما مهلكاكم». هذه الموعظة من أبي موسى قبسٌ من آثار النبوة ... فالتنافس على ¬

(¬1) البخاري ح (4582) مسلم ح (800). (¬2) البخاري ح (660) مسلم ح (1031). (¬3) إحياء علوم الدين (1/ 277). (¬4) حلية الأولياء، وطبقات الأصفياء (1/ 261).

الدُّنيا وشهواتها -ومن أشدِّها الدينار والدرهم -هو الذي أهلك من كان قبلنا، فإن تنافسنا فيها تنافسًا غير شرعيٍّ، وخلاف ما رسمته لنا الشريعة، فالسُّنَّة الإلهية ماضيةٌ. ولهذا؛ لمَّا سمع الأنصار بقدوم أبي عبيدة بمالٍ من البحرين، وافوا صلاة الفجر مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف، فتعرَّضوا له، فتبسَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآهم، ثمَّ قال: (أظنُّكم سمعتم أنَّ أبا عبيدة قدم بشيءٍ من البحرين؟)، فقالوا: أجل يا رسول الله، قال: (فأبشروا وأمِّلوا ما يسرُّكم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكنِّي أخشى عليكم أن تبسط الدُّنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم) (¬1). ومن تأمَّل واقع الناس وما أحدثه هذا التنافس، أدرك معنى هذا الحديث! وإنَّ الإنسان ليحزن أن يتخاصم أخوان، أو والدٌ وولده أمام القاضي على لُعاعةٍ من الدُّنيا! تتقطَّع بها أواصرهم، وتتفصَّم عرى المودَّة بينهم، فيمتدُّ الأثر إلى جيلٍ أو جيلين من تلك الأسرة! وهل هذا إلا الهلاك؟! رضي الله عن أبي موسى، وجزاه الله خير ما جزى ناصحًا عن ناصحيه، وجمعنا به في دار كرامته. ... ¬

(¬1) البخاري ح (3158) مسلم ح (2961).

من مواعظ حذيفة بن اليمان رضي الله عنه

من مواعظ حُذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - (1/ 2) هو أحد أكابر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وخاصَّتهم، يُكْنَى أبا عبد الله، شهد أحدًا وما بعد ذلك من المشاهد. كان يسأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الشرِّ مخافة أن يدركه، وأرسله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ليلة الأحزاب في مهمةٍ سرِّيَّةٍ ليأتيه بخبر الكفَّار. شهد نهاوند، فلمَّا قتل النُّعمان بن مقرِّنٍ، أخذ الراية، وكان فتح همذان والرَّيِّ والدِّينور على يديه، وكانت فتوحه كلُّها سنة اثنتين وعشرين. اشتهر بأنَّه صاحب سرِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أعلمه أسماء المنافقين، وكان عمر إذا مات ميِّتٌ يسأل عن هذا الصحابيِّ الجليل؛ فإن حضر الصلاة عليه، صلَّى عليه عمر، وإن لم يحضر الصلاة عليه، لم يحضر عمر، وقد استعمله عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - على المدائن. إنَّه حُذيفة بن اليمان (¬1) - واسمه حسيلٌ -بن جابرٍ، من بني عبسٍ حلفاء بني عبد الأشهل. ¬

(¬1) يقال له: اليمان؛ لأنَّه أصاب في قومه دمًا فهرب إلى المدينة، فحالف بني عبد الأشهل من الأنصار، وهم من اليمن؛ فسمَّاه قومه اليمان؛ الاستيعاب (1/ 334)، أسد الغابة (1/ 706).

مات حذيفة - رضي الله عنه - بالمدائن بعد مقتل عثمان بن عفَّان بأشهرٍ، وقيل: أربعين يومًا، سنة ستٍّ وثلاثين، وله ذرِّيَّةٌ بالمدائن (¬1). • أمَّا مواعظه التي نُقلت عنه، فكثيرةٌ، ولكن سننتخب منها شيئًا، ونترك أشياء؛ لأنَّ الغرض التذكير، فمن مواعظه - رضي الله عنه - قوله (¬2): «خالص المؤمن، وخالط الكافر، ودينك لا تكلمنَّه». والمعنى: أخلص في تعاملك مع أخيك المؤمن، ولا حرج أن تخالط الكافر إذا احتجت لذلك، لكن الأهمُّ هو: أن تحافظ على دينك لا يُكلم، ولا يُخدش، ولا يُجرح! ذلك أنَّ بعض الناس إذا خالط الفسَّاق -فضلًا عن الكفار- تنازل عن بعض مبادئه، أو استحيا من إظهار شعائره! وما أحوج الإخوة الذين يسافرون إلى بلاد الكفر -لعلاجٍ أو تجارةٍ أو ابتعاثٍ -أن يستحضروا هذا المعنى، وأن يتذكَّروا قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]! ويعجبني في هذا المقام ذكر قصةٍ لأحد التجار الكبار في بلادنا -سمعتها منه -حيث سافر لبريطانيا، وكان من ضمن برنامجه: زيارة مدير أكبر بنكٍ في بريطانيا -وهو من أكبر بنوك العالم - فدعاه المدير لطعام الغداء، فوافق؛ ولكنَّه -وبعزَّة المسلم -اشترط عليه: ألَّا يكون على المائدة خمرٌ ولا لحم خنزيرٍ، وألا يختلط الرجال بالنساء، فوافق المدير. ¬

(¬1) الطبقات الكبرى؛ لابن سعد (6/ 94)، تاريخ بغداد (1/ 175)، الاستيعاب (1/ 334). (¬2) حلية الأولياء (1/ 280).

وإذا كان (المهاتما غاندي) لما اقتيد مأسورًا من الإنجليز، رفض التخلِّي عن اللباس التقليديِّ الذي يرمز لمن كان يُناضل ويدافع عنهم -وهو وهم كفَّارٌ وثنيُّون -فالمسلم أولى وأحرى بأن يكون معتزًّا بهويَّته، لا أن يذوب وينماع في مجتمعات الكفر! قد يعذر المسلم بترك لبس ما يجلب إليه مشكلاتٍ أمنيَّةً ونحوها إذا كان في بلاد الكفر، لكن ما عذر من يلبس لباس الكفار في بلاد المسلمين، وربَّما في مدينته أو قريته الصغيرة؟! لقد أثبتت التجارب والأخبار أنَّ الناس يحترمون الذي يحافظ على مبادئه وإن اختلف معهم، ويمقتون من يتنازل ويقلِّدهم، وإن احترموه في الظاهر. والمقصود أنَّ هذه الموعظة التي قالها حذيفة: «خالص المؤمن، وخالط الكافر، ودينك لا تكلمنَّه»، لا بدَّ أن يعيش معها المؤمن، في هذا الزمن الذي كثر فيه الاحتكاك بغير المسلمين، سواءً من الوافدين، أم ممَّن نسافر إليهم. • ومن مواعظه (¬1) - رضي الله عنه - أنَّه قيل له: من ميِّت الأحياء؟ قال: «من لم يعرف المعروف بقلبه، وينكر المنكر بقلبه». الله أكبر! يا لها من كلمةٍ عميقةٍ! تنقل القارئ لها إلى معنًى شريفٍ، ألا وهو: أنَّ الحياة الحقَّة هي حياة القلب لا البدن؛ إذ حياة البدن يشترك فيها معه الإنسان بل والحيوان. ¬

(¬1) مصنَّف ابن أبي شيبة (7/ 504) رقم (37577).

وبم تكون حياته؟ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن خلا قلبه من ذلك -والعياذ بالله - فليبحث له عن قلب، فقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (ما من نبيٍّ بعثه الله في أمَّةٍ قبلي إلَّا كان له من أمُّته حواريُّون وأصحابٌ، يأخذون بسنَّته، ويقتدون بأمره، ثمَّ إنَّها تخلف من بعدهم خلوفٌ، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده، فهو مؤمنٌ، ومن جاهدهم بلسانه، فهو مؤمنٌ، ومن جاهدهم بقلبه، فهو مؤمنٌ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبَّة خردلٍ) (¬1). لقد شرح حذيفة نفسه هذه الجملة المختصرة، فقال: «أفلا تسألون عن ميِّت الأحياء؟ فقال: إن الله تعالى بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فدعا الناس من الضلالة إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان، فاستجاب له من استجاب، فحيا بالحقِّ من كان ميتًا، ومات بالباطل من كان حيًّا، ثم ذهبت النُّبوَّة فكانت الخلافة على منهاج النبوة، ثم يكون مُلكًا عضوضًا، فمن الناس من ينكر بقلبه ويده ولسانه والحقَّ استكمل، ومنهم من ينكر بقلبه ولسانه كافًّا يده وشعبةً من الحقِّ ترك، ومنهم من ينكر بقلبه كافًّا يده ولسانه وشعبتين من الحقِّ ترك، ومنهم من لا ينكر بقلبه ولسانه، فذلك ميِّت الأحياء!» (¬2). يقول عاصمٌ الأحول: «ما سمعت الحسن البصريَّ يتمثَّل ببيتٍ من شعرٍ قطُّ إلا هذا البيت: ليس من مات فاستراح بميتٍ ... إنَّما الميت ميِّت الأحياء ثم قال الحسن: وصدق والله، إنَّه ليكون حيًّا، وهو ميت القلب!» (¬3). ¬

(¬1) مسلم ح (80). (¬2) حلية الأولياء (1/ 275). (¬3) مصنف ابن أبي شيبة (5/ 276) رقم (35219)، شعب الإيمان (9/ 422).

• ومن مواعظه قوله - رضي الله عنه - (¬1): «إيَّاكم والفتن لا يشخص لها أحدٌ، والله ما شخص فيها أحدٌ إلا نسفته كما ينسف السيل الدِّمن، إنَّها مشبهةٌ مقبلةً، حتى يقول الجاهل: هذه تُشبه مُقبلة، وتتبيَّن مُدبرة، فإذا رأيتموها فاجثموا في بيوتكم، وكسِّروا سيوفكم، وقطِّعوا أوتادكم». حين يتحدَّث حذيفة - رضي الله عنه - عن الفتن فهو يتحدَّث عنها حديث الخبير البصير، كيف وقد أدرك أوائلها، وعرف مداخلها ومخارجها؟! حتى قال: «والله، إنِّي لأعلم الناس بكلِّ فتنة هي كائنةٌ فيما بيني وبين الساعة، وما بي إلا أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسرَّ إليَّ في ذلك شيئًا لم يحدِّثه غيري، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو يحدِّث مجلسًا أنا فيه عن الفتن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يعدُّ الفتن: (منهنَّ ثلاثٌ لا يكدن يذرن شيئًا، ومنهنَّ فتنٌ كرياح الصَّيف، منها صغارٌ، ومنها كبارٌ)، قال حذيفة: فذهب أولئك الرَّهط كلُّهم غيري» (¬2). وتتلخَّص وصية حذيفة هنا -عند وقوع الفتنة -ألَّا يشخص لها، ولا يبرز لها، ولا يخوض فيها؛ فهي بمثابة البحر الذي انفجر، والسيل الذي انهمر، وما الذي يتوقَّع من مصير من يواجه البحر إذا انفجر، والسيل إذا انهمر؟! سيجرفه جرفًا، وينسفه نسفًا، كما ينسف السيل إذا لاقى الدِّمن -وهي آثار البعر-! وقد أشار حذيفة - رضي الله عنه - إلى معنًى مهمٍّ جدًّا عند حدوث الفتنة، وهو: أنَّها تشتبه على أكثر الناس، فيختلط الحقُّ بالباطل، والصواب ¬

(¬1) جامع معمر بن راشد - الملحق بمصنَّف عبد الرازق - (11/ 359)، المستدرك على الصحيحين للحاكم (4/ 495). (¬2) مسلم ح (2891).

بالخطأ، ويتنازع الناس الأمر، ويتحدَّث الصغير والكبير، والعالم والجاهل، وهذا من أسباب تعقُّد الأمر -كما هو معلومٌ -. وإذا كان الدَّور - في أوقات الفتن -مناطًا بأهل العلم وأهل الرأي والرسوخ؛ فحقٌّ على من سواهم أن يأتمروا بأمرهم، وألَّا يدعوا المجال لصغار الرأي أو السِّنِّ، فإنَّ الفتنة بطبيعتها تعمي عن النظر في المآلات، وكثرة الحديث فيها من كلِّ أحدٍ يضيِّق المجال في الحلِّ، والموفَّقون للتعامل معها وفق المراد قلَّةٌ، كما قال الحسن البصريُّ رحمه الله: «إنَّ الفتنة إذا أقبلت، عرفها العالم، وإذا أدبرت، عرفها كلُّ جاهلٍ» (¬1). ومن أعظم ما يذكَّر به عند بروز قرن الفتن: لزوم جماعة المسلمين، والسمع والطاعة بالمعروف لمن ولَّاه الله تعالى أمر المسلمين، والصدور عن رأي العلماء الراسخين الصادقين -الذين يقولون كلمة الحقِّ، لا يخافون في الله لومة لائمٍ -وترك الكلام في الفتنة إلا للكبار الذين يدركون المآلات والعواقب. هذه بعضٌ من مواعظ هذا الصحابيِّ الجليل حذيفة - رضي الله عنه -، ولم ينته التَّطواف معها؛ بل للحديث صلةٌ بمشيئة الله تعالى. **** ¬

(¬1) حلية الأولياء (9/ 24).

من مواعظ حذيفة بن اليمان رضي الله عنه

من مواعظ حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - (2/ 2) • ومن مواعظه - رضي الله عنه - قوله (¬1): «إنَّ الحقَّ ثقيلٌ، وهو مع ثقله مريءٌ، وإنَّ الباطل خفيفٌ، وهو مع خفَّته وبيءٌ، وترك الخطيئة أيسر -أو قال: خيرٌ -من طلب التوبة، وربَّ شهوة ساعةٍ أورثت حزنًا طويلًا». تضمَّنت هذه الموعظة جملتين مهمَّتين: الأولى: وصف فيها الحقَّ والباطل، فقال: «إنَّ الحقَّ ثقيلٌ، وهو مع ثقله مريءٌ»، ومراده بالثِّقل هو ثقل التحمُّل، وثقل العبْء الذي يترتَّب على حمله، كما قال - سبحانه وتعالى -: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5]، وكما أشارت إليه آية الأمانة في خواتيم سورة الأحزاب: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]، ومع كون الحقِّ ثقيلًا، فإنَّه مريءٌ؛ أي: سهل التقبُّل؛ لأنَّ الحقَّ موافقٌ للفطر السليمة، بخلاف الباطل، فإنَّه خفيفٌ؛ لموافقته لغالب الأهواء والشهوات، فتنقاد معه، وتستسلم له؛ ولهذا تجود النفوس في هذا السبيل بالأموال والجهود، لكن مع ذلك فهو وبيءٌ وخطير العاقبة، وهكذا هي حال المحرَّمات ¬

(¬1) الزهد؛ لابن المبارك (291).

كلِّها؛ يتعاطاها أهلها لذَّةً عابرةً، ثمَّ تعقبها حسراتٌ لا يعلمها إلا الله. «وأجهل الجهَّال من آثر عاجلًا على أجلٍ لا يأمن سوء مغبَّته! فكم قد سمعنا عن صاحب مالٍ أطلق نفسه في شهواتها، ولم ينظر في حلالٍ وحرامٍ، فنزل به من الندم وقت الموت أضعاف ما التذَّ، ولقي من مرير الحسرات ما لا يقاومه ولا ذرةً كلُّ لذةٍ! ولو كان هذا فحسب، لكفى حزنًا، كيف والجزاء الدائم بين يديه؟!» (¬1). يقول ابن القيِّم رحمه الله: «فالمعرض عن الله له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه، وإن تنعَّم في الدُّنيا بأصناف النِّعم، ففي قلبه من الوحشة والذُّلِّ والحسرات التي تقطِّع القلوب، والأمانيِّ الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه، وإنَّما يواريه عنه سكرات الشهوات والعشق وحبِّ الدُّنيا والرِّياسة) (¬2). والجملة الثانية التي تضمَّنتها موعظة حذيفة - رضي الله عنه -: «وترك الخطيئة أيسر - أو قال: خيرٌ - من طلب التوبة، وربَّ شهوة ساعةٍ أورثت حزنًا طويلًا»، وصدق - رضي الله عنه -؛ فإنَّ ترك المعصية وإن كان فيه ثقلٌ، إلا أنَّه أيسر من طلب التوبة؛ إذ قد لا يدركها العبد، ولو أدركها زمانًا، فقد لا يوفَّق لها؛ عقوبةً له على تقحُّم الحِمَى؛ ولهذا قال - رضي الله عنه -: «وربَّ شهوة ساعةٍ أورثت حزنًا طويلًا»؛ ذلك أنَّ اللذَّة في المعصية -مهما طال زمنها - فما تورثه من حزن أطول وأشقُّ، ومن تأمَّل في آثار معصية إطلاق النظر المحرَّم، أدرك معنى هذه الحقيقة التي أشار إليها حذيفة - رضي الله عنه -، «فالنظرة تجرح القلب جُرحًا، فيتبعها جُرحٌ على جُرح، ثم لا يمنعه ألم الجراحة من استدعاء تكرارها .. وقد قيل: إنَّ حبس ¬

(¬1) صيد الخاطر (188) بتصرف يسير. (¬2) الجواب الكافي (120).

اللحظات، أيسر من دوام الحسرات» (¬1). وبالجملة، فإنَّ ألم الصبر على ترك المعصية أقلُّ وأيسر من آلام وحسرات الآثار التي يجدها العاصي بعد ذلك، والتي لو لم يكن منها إلا أنَّها تضعف وتوهن سير القلب إلى الله، والوحشة العظيمة التي تقع في قلب العاصي، لكفى بهما مصيبةً، فإن لم يشعر العاصي بهاتين العقوبتين، فليبحث عن قلبه؛ فليس له قلبٌ! * قيل لحذيفة (¬2): أتركت بنو إسرائيل دينها في يومٍ واحدٍ؟ قال: «لا، ولكنَّهم كانوا إذا أمروا بشيءٍ تركوه، وإذا نهوا عن شيءٍ ركبوه، حتى انسلخوا من دينهم كما ينسلخ الرجل من قميصه». يا لها من موعظةٍ مخيفةٍ! فحذيفة - رضي الله عنه - يبيِّن حقيقةً قد تخفى على بعض الناس، وهي أنَّ الانسلاخ من الإيمان لا يكون فجأةً في الأمَّة، أو الجماعة، ولكنَّه يأتي شيئًا فشيئًا، ولا يظلم ربُّك أحدًا. إنَّ من أخطر ما تبتلى به الأمة أن تركب ما ركبه بنو إسرائيل، حين تترك الأوامر، أو تركب النواهي، وهذا وإن لم ولن يحدث للأمَّة كلِّها، إلا أنَّه لا يسلم منه بعض الأفراد، وفي كلمة حذيفة تصريحٌ بالسبب العامِّ لهذا الانسلاخ الذي يعاقب به بعض الناس. ومن الآيات المخيفة التي تتحدَّث عن الانسلاخ من الدِّين قوله ¬

(¬1) الجواب الكافي (154). (¬2) السُّنَّة؛ للخلال (4/ 118).

تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175، 176]. فاتِّباع الهوى وإيثاره على مراد الله، والتعلُّق الشديد بالدُّنيا الذي قطع قلبه عن الله والدار الآخرة؛ كلُّ ذلك كان سببًا في انسلاخه -والعياذ بالله -! ومن تأمَّل في كلام الأئمة، وجد فيه تنصيصًا على جملةٍ من الأسباب التفصيليَّة لهذا الانسلاخ الذي تضرب به بعض القلوب والعياذ بالله، ومن ذلك ما عبَّر عنه ابن القيِّم في نونيَّته: والله ما خوفي الذُّنوب فإنَّها ... لعلى طريق العفو والغفران لكنَّما أخشى انسلاخ القلب من ... تحكيم هذا الوحي والقرآن ورضا بآراء الرِّجال وخرصها ... لا كان ذاك بمنَّة الرَّحمن فبأيِّ وجهٍ ألتقي ربِّي إذا ... أعرضت عن ذا الوحي طول زمان وعزلته عمَّا أريد لأجله ... عزلًا حقيقيًا بلا كتمان • ومن مواعظه - رضي الله عنه - قوله (¬1): «معروفكم اليوم منكر زمانٍ قد مضى، وإنَّ منكركم اليوم معروف زمانٍ قد أتي، وإنَّكم لا تزالون بخيرٍ ما عرفتم الحقَّ، وكان العالم فيكم غير مستخفٍّ به». ¬

(¬1) إحياء علوم الدين (1/ 80).

«ولقد صدق؛ فإنَّ أكثر معروفات هذه الأعصار منكراتٌ في عصر الصحابة - رضي الله عنهم -» (¬1). وكلمة حذيفة هذه تلتقي تمامًا مع كلمةٍ لأنسٍ - رضي الله عنه -: «إنَّكم لتعملون أعمالًا هي أدقُّ في أعينكم من الشَّعر، إن كنا لنعدُّها على عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات» (¬2)، بوَّب عليه البخاريُّ بقوله: باب ما يتَّقى من محقَّرات الذُّنوب. وسبب ذلك: «أنَّ معرفة الصحابة بجلال الله أتمُّ، فكانت الصغائر عندهم -بالإضافة إلى جلال الله تعالى -من الكبائر» (¬3). وما أشار إليه حذيفة يدركه المشاهد لواقع الناس بلا تكلُّفٍ والشأن كلَّ الشأن في المعنيين الأخيرين اللذين ذكرهما حذيفة، وهما: 1 - عدم خفاء الحقِّ، ومعرفته، وألا ينقلب المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا؛ ولهذا لمَّا قيل للإمام أحمد رحمه الله في أيام المحنة: يا أبا عبد الله، أولا ترى الحقَّ كيف ظهر عليه الباطل؟ قال: كلَّا، إنَّ ظهور الباطل على الحقِّ أن تنتقل القلوب من الهدى إلى الضلالة، وقلوبنا بعد لازمة للحقِّ (¬4). وأمَّا المعنى الثاني الذي نبَّه عليه حذيفة، فهو: 2 - معرفة قيمة العالم، وعدم الاستخفاف به، يقول ابن المبارك رحمه الله: «من استخفَّ بالعلماء، ذهبت آخرته» (¬5)، ومن الكلمات السائرة كلمة ابن عساكرٍ رحمه الله: «لحوم العلماء مسمومة، ¬

(¬1) إحياء علوم الدين (1/ 80). (¬2) البخاري ح (6492). (¬3) إحياء علوم الدين (4/ 32). (¬4) سير أعلام النبلاء (11/ 238). (¬5) تاريخ دمشق؛ لابن عساكر (32/ 444).

وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة» (¬1). ومن المعلوم أنَّ التنبيه على خطورة الانتقاص من العلماء -أو الاستخفاف بهم -لا يعني جواز الاستخفاف بغيرهم كما يشغب بذلك بعض من ينتقد هذه العبارة! وإنَّما عبارة ابن عساكرٍ واضحة المغزى، ظاهرة المراد، وإلا فمن المُحكمات المقرَّرة: ما دلَّ عليه حديث أبي بكرة في الصحيحين: (فإنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربَّكم، ألا هل بلَّغت؟) (¬2). ولنختم بهذه الموعظة القصيرة المعبِّرة لهذا الصحابيِّ الجليل، حيث يقول: «ما من صباحٍ ولا مساءٍ إلا ومنادٍ ينادي: أيُّها الناس، الرحيل الرحيل!» (¬3). هذه نبذٌ من مواعظ هذا الصحابيِّ الجليل حذيفة - رضي الله عنه -، جمعنا الله به في دار كرامته، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيِّين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. ... ¬

(¬1) تبيين كذب المفتري؛ لابن عساكر (29). (¬2) البخاري ح (67) ومسلم ح (1679). (¬3) إحياء علوم الدين (4/ 32).

من مواعظ معاذ بن جبل رضي الله عنه

من مواعظ معاذ بن جبلٍ - رضي الله عنه - (1/ 2) معاذٌ من فقهاء أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وخاصَّتهم، بل إذا ذكر العلماء من الصحابة كان في مقدَّمهم، شهد العقبة مع السبعين من الأنصار، أسلم وهو ابن ثماني عشرة سنةً، ولما أسلم كان يكسر أصنام بني سلمة هو وثعلبة بن عنمة، وعبد الله بن أنيسٍ. آخي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عبد الله بن مسعودٍ، وشهد بدرًا وهو ابن عشرين أو إحدى وعشرين سنةً، وشهد أيضًا أحدًا والخندق والمشاهد كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، اشتهر بأنَّه أعلم الأمَّة بالحلال والحرام (¬1). وكان ابن مسعود يسمِّيه: الأمَّة القانت، كان من أفضل شباب الأنصار حلمًا وحياءً، وبذلًا وسخاءً، وضيء الوجه، أكحل العينين، برَّاق الثنايا، جميلًا وسيمًا، أردفة النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وراءه فكان رديفه، وشيَّعه النبي - صلى الله عليه وسلم - ماشيًا في مخرجه إلى اليمن وهو راكبٌ، وتوفِّي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عامله على اليمن، ولم يعقب. ¬

(¬1) أخرجه أحمد ح (13991)، وابن ماجه ح (154)، والترمذي ح (3790) وقال: حسن صحيح، وصححه ابن حبان (7131)، والحاكم ح (5784). وفي الحديث اختلافٌ في وصل وإرسال الجملة الأخيرة منه: «وإنَّ لكلِّ أمَّةٍ أمينًا ...»؛ ينظر: علل الدارقطني (12/ 248)، والسنن الكبرى للبيهقي (6/ 346).

مات بطاعون عمواس بالشام شهيدًا -في خلافة عمر -وهو ابن ثمانٍ وثلاثين، وقيل: ثلاثٍ، وقيل: أربع وثلاثين (¬1)؛ إنَّه معاذ بن جبل بن عمرو بن أوسٍ الأنصاريُّ ثم الخزرجيُّ، إمام الفقهاء، وكبير العلماء. • لقد ظهر أثر العلم على شخصية معاذٍ - رضي الله عنه - في مواعظه التي سنذكر بعضها، ومن ذلك هذه الموعظة البليغة في الحثِّ على تعلُّم العلم، وبيان ثمراته في الدُّنيا قبل الآخرة، حيث يقول - رضي الله عنه - (¬2): «تعلَّموا العلم؛ فإنَّ تعلُّمه لله تعالى خشيةٌ، وطلبه عبادةٌ، ومذاكرته تسبيحٌ، والبحث عنه جهادٌ، وتعليمة لمن لا يعلم صدقةٌ، وبذله لأهله قربةٌ؛ لأنَّه معالم الحلال والحرام، ومنار أهل الجنة، والأنس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدِّث في الخلوة، والدليل على السَّرَّاء والضَّراء، والسلاح على الأعداء، والزَّين عند الأخلَّاء، يرفع الله تعالى به أقوامًا ويجعلهم في الخير قادةً وأئمةً، تقتبس آثارهم، ويقتدي بفعالهم، ويُنتهى إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خُلَّتهم، وبأجنحتها تمسحهم، ويستغفر لهم كلُّ رطبٍ ويابسٍ حتى الحيتان في البحر وهوامُّه، وسباع الطير وأنعامه؛ لأنَّ العلم حياة القلوب من الجهل، ومصباح الأبصار من الظُّلم، يبلغ بالعلم منازل الأخيار، والدرجة العليا في الدُّنيا والآخرة. والتفكُّر فيه يعدل بالصِّيام، ومدارسته بالقيام، به توصل الأرحام، ¬

(¬1) انظر: الطبقات الكبرى (3/ 438)، معرفة الصحابة؛ لأبي نعيم (5/ 2431)، أسد الغابة (5/ 187). (¬2) حلية الأولياء (1/ 239).

ويعرف الحلال من الحرام، إمام العمَّال والعمل تابعه، يلهمه السُّعداء، ويحرمه الأشقياء». ولعلَّ في وضوح هذه الموعظة ما يغني عن توضيحها، فهل تأمَّلنا هذه المنافع التي ذكرها معاذٌ عن العلم والعلماء، والتي بلغت قرابة الثلاثين؟ وهل تحرِّك في المقصِّر الرغبة في طلب العلم فيما يتعيَّن عليه على الأقلِّ؟ • ومن مواعظه - رضي الله عنه - قوله (¬1): «إنَّ من ورائكم فتنًا يكثر فيها المال، ويفتتح القرآن؛ حتى يقرأه المؤمن والمنافق، والصغير والكبير، والأحمر والأسود، فيوشك قائلٌ يقول: ما لي أقرأ على الناس القرآن فلا يتَّبعوني عليه؟ فما أظنُّهم يتبعوني عليه حتى أبتدع لهم غيره، فإيَّاكم إيَّاكم ما ابتدع؛ فإنَّ ما ابتدع ضلالةٌ». فمعاذٌ - رضي الله عنه - يشير في هذه الموعظة إلى خللٍ مبكِّرٍ بدأ يلحظه في الناس -خاصةً بعد اتِّساع الفتوح -وهو أنَّ الإقبال على القرآن لم يكن كما كان يعهده في عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وصدر هذه الأمَّة، بل بدأ التكثُّر بالقراءة على حساب التدبُّر، وإلى هذا أشار معاذٌ بقوله: «فيوشك قائلٌ يقول: ما لي أقرأ على الناس القرآن فلا يتَّبعوني عليه؟ فما أظنُّهم يتَّبعوني عليه حتى أبتدع لهم غيره، فإيَّاكم إيَّاكم ما ابتدع؛ فإنَّ ما ابتدع ضلالةٌ»، فحذَّر معاذٌ من الخروج عن السُّنَّة بغية التكثُّر من الأتباع والجماهير! ¬

(¬1) سنن أبي داود (4/ 202) ح (4611).

كما أنَّه يشير بذلك إلى أنَّ بعض متَّبعي السُّنَّة قد يكون غريبًا في بلده الذي يسكنه بسبب اتِّباعه للسُّنَّة، فلا يجوز أن يحمله ذلك على ترك السُّنَّة من أجل تجمهر الناس حوله، فالعبرة بالحقِّ ولو كنت وحدك، كما قال ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -: «الجماعة ما وافق الحقَّ ولو كنت وحدك» (¬1). * ثم قال معاذٌ - رضي الله عنه - في تتمة موعظته هذه: «وأحذِّركم زيغة الحكيم! فإنَّ الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحقِّ»، قال: قلت لمعاذٍ: ما يدريني -رحمك الله - أنَّ الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأنَّ المنافق قد يقول كلمة الحقِّ؟! ولا يثنينَّك ذلك عنه؛ فإنَّه لعلَّه أن يراجع، وتلقَّ الحقَّ إذا سمعته؛ فإنَّ على الحقِّ نورًا». وهذه الموعظة من معاذٍ بليغة المعاني، وعميقة الدَّلائل؛ فإنَّ من الفتن التي تخفى على كثيرٍ من الناس: زلَّة العالم، والتي ينقسم الناس فيها -غالبًا-ثلاثة أقسامٍ: قسمٌ لا يقبل في شيخه أيَّ نقدٍ ولا ملاحظةٍ! وقسمٌ ضدُّهم: لا يغفرون لعالم زلَّةً، ويسقطونه من أول سقطةٍ! وكلا هذين القسمين مائلٌ عن الحقِّ، والحقُّ في التوسُّط بينهما، وهو الذي أشار إليه معاذٌ - رضي الله عنه - وهو الاحتفاظ بقدره، وعدم تقليده في زلَّته وخطئه، فهذا هو ميزان القسط والعدل. قال الإمام أبو عمر بن عبد البرِّ رحمه الله: «وشبَّه العلماء زلة العالم ¬

(¬1) الباعث، على إنكار البدع والحوادث؛ لأبي شامة (ص22).

بانكسار السفينة؛ لأنَّها إذا غرقت غرق معها خلقٌ كثيرٌ، وإذا ثبت وصحَّ أنَّ العالم يخطئ ويَزِلُّ، لم يجز لأحدٍ أن يفتي ويدين بقولٍ لا يعرف وجهه) (¬1). أهـ. فالواجب علينا جميعًا تجاه ما يبلغنا من زلاتٍ عن العلماء أمورٌ، ألخِّصها فيما يلي: 1 - التثبُّت فيما ينقل عنهم، فما أكثر الكذب عليهم! خاصةً في عصرنا الذي كثرت فيه وسائل نقل الأخبار! 2 - فإذا ثبتت عنه، فالاتِّصال به، أو تبليغ من يمكنه التواصل معه لمعرفة وجه قوله؛ فقد يكون له عذرٌ ونحن لا نعلمه، أو نُقل الكلام عنه مبتورًا. 3 - إن ثبت أنَّه قال، ولم يكن لقوله وجهٌ، فلا يقلَّد فيها، بل تغمر هذه الزلَّة في بحر حسناته، ولا يجوز إهدار منزلته وفضله، قال ابن القيِّم رحمه الله: «ومن له علمٌ بالشرع والواقع، يعلم قطعًا أنَّ الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدمٌ صالحه، وآثارٌ حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكانٍ، قد تكون منه الهفوة والزلة، هو فيها معذورٌ؛ بل ومأجورٌ لاجتهاده؛ فلا يجوز أن يتَّبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين» (¬2). وقال الشَّاطبيُّ رحمه الله معلِّقًا على ما ينبغي تُجاه زلة العالم: «كما أنَّه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير، ولا أن يشنَّع عليه بها، ولا ينتقص من أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتًا؛ فإنَّ هذا ¬

(¬1) جامع بيان العلم وفضله (2/ 982). (¬2) إعلام الموقعين (3/ 220).

كلَّه خلاف ما تقتضي رتبته في الدِّين» (¬1). أ. هـ. وقد سبق معاذٌ إلى هذا المعنى الذي ذكره ابن القيِّم والشاطبيُّ حيث قال: «ولا يثنينَّك ذلك عنه؛ فإنَّه لعلَّه أن يراجع، وتلقَّ الحقَّ إذا سمعته؛ فإنَّ على الحقِّ نورًا». إنَّ من الفتن العظيمة التي لا يدرك أثرها بعض الناس: ما يمارسه بعض السفهاء في الشبكة العالميَّة، أو في بعض مواقع التواصل الاجتماعيِّ، أو بعض المنابر الإعلامية كالصحف، والقنوات الفضائيَّة منها على وجه الخصوص؛ من همزٍ ولمزٍ في علماء الأمة، والطعن فيهم، ورميهم بالنقائص، إلى غير ذلك من الأساليب التي مؤدَّاها: التنفير منهم، والتزهيد في علمهم، وانتقاصهم، إلى غير ذلك من الآثار السيِّئة والخطيرة! ألا فليتَّق الله هؤلاء الذين يطلقون ألسنتهم في ثلب العلماء وتنقُّصهم! فإنَّ هذا غير مقبولٍ في آحاد الناس، فكيف بعلمائهم؟ ومن وجد شيئًا يراه غلطًا أو خطأً، فليتواصل بالوسائل الممكنة، وليستفصل عمَّا أشكل عليه، وإن لم يستطع، فليكفف لسانه؛ فإنَّ الأمر خطيرٌ، والله المستعان. هذه بعضٌ من مواعظ هذا الصحابيِّ الجليل معاذ بن جبلٍ - رضي الله عنه - وللحديث صلةٌ مع بعضٍ آخر من مواعظه - رضي الله عنه -. ... ¬

(¬1) الموافقات (5/ 136).

من مواعظ معاذ بن جبل رضي الله عنه

من مواعظ معاذ بن جبلٍ - رضي الله عنه - (2/ 2) • ومن مواعظه - رضي الله عنه - ما قاله لابنه (¬1): «يا بُنيَّ، إذا صلَّيت صلاةً، فصلِّ صلاة مودِّعٍ: لا تظنُّ أنَّك تعود إليها أبدًا، واعلم يا بنيَّ أنَّ المؤمن يموت بين حسنتين: حسنةٍ قدَّمها، وحسنةٍ أخَّرها». هذه الوصيَّة من أحسن ما يوصى به الأنباء، ومن خير ما يلقيه الآباء في آذان أبنائهم، أو يكتبونه في وصاياهم؛ فإنَّ من حفظ صلاته، وصلَّاها على هذه الصفة، فهو لما سواها أحفظ، ولا بدَّ أن تحفظه صلاته، فتكون حائلًا بينه وبين ما يكرهه الله تعالى، كما قال - عز وجل - {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]. ومن أحسن ما يستعان به على أداءً الصلاة أداء يحصل به الأثر، هو: أداؤها وكأنَّ الإنسان لن يصلِّي بعد تلك الصلاة شيئًا، وهي صلاة المودِّع. إنَّها بالتأكيد ستكون صلاةً مؤثِّرةً، يجد الإنسان طعمها في بصره، وسمعه، وممشاه، وسكونه، بل هي جنةٌ ونعيمٌ معجَّلٌ، وذوقها يحتاج ¬

(¬1) حلبة الأولياء (1/ 234)، وقد وردت هذه الجملة: (صلِّ صلاة مودِّعٍ) في حديث مرفوع، لكن لا يثبت إسناده.

إلى جهادٍ ومجاهدةٍ، وهكذا هي المطالب الكبار؛ تحتاج إلى قلوبٍ كبارٍ، لا حرمنا الله وإيَّاكم بمنِّه وكرمه هذا النعيم بسبب ذنوبنا. وأمَّا الجملة الثانية في هذه الموعظة، فهي قوله: «واعلم يا بُنيَّ أنَّ المؤمن يموت بين حسنتين: حسنةٍ قدَّمها، وحسنةٍ أخَّرها»؛ أي: إنَّ نجاته وفوزه وربحه وفلاحه إنَّما هو بهذه الحسنات التي ينجو بها العبد بعد رحمة الله، وما سوى ذلك عطبٌ وهلاكٌ، وما أهلك الأفراد والأمم في الدُّنيا والآخرة إلا السيِّئات؛ قال سبحانه: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الزمر: 51]. • ومن مواعظه - رضي الله عنه - قوله (¬1): «إنَّك تجالس قومًا لا محالة يخوضون في الحديث، فإذا رأيتهم غفلوا، فارغب إلى ربِّك - عز وجل - عند ذلك رغباتٍ». ما أكثر مجالس الغفلة التي يُبتلى بها الإنسان، خاصةً في زمننا هذا! والواجب على المؤمن البعد عن هذه المجالس، فإن ابتُلي بها فليستعمل معها هذه الوصيَّة من معاذٍ - رضي الله عنه -، وهي الاشتغال بذكر الله تعالى، والتفكُّر فيما يمكن التفكر فيه من المعاني التي تزيد الإيمان. ويعظم الأمر حين يكون الخوض في آيات الله وشريعته، فحينئذٍ يكون ذلك المجلس مجلس نفاقٍ وموطنًا من مواطن الظالمين، كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]، وقال سبحانه: ¬

(¬1) حلية الأولياء (1/ 236).

{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]. • ومن مواعظه - رضي الله عنه - أنَّه لمَّا حضرته الوفاة قال (¬1): «انظروا أصبحنا؟»، فأُتي فقيل: لم تُصبح، فقال: «انظروا أصبحنا؟»، فأُتي فقيل له: لم تُصبح، حتى أُتي في بعض ذلك فقيل: قد أصبحت، قال: «أعوذ بالله من ليلةٍ صباحها إلى النار، مرحبًا بالموت مرحبًا! زائرٌ مُغبٌّ، وحبيبٌ جاء على فاقةٍ، اللَّهمَّ إنِّي قد كنت أخافك، فأنا اليوم أرجوك، اللَّهمَّ إنَّك تعلم أنِّي لم أكن أحبُّ الدُّنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالرُّكب عند خلق الذِّكر». الله أكبر! كم في هذه الدعوات من مواعظ! لقد تمثَّل معاذٌ - رضي الله عنه - في تلكم اللحظات ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن عند قرب مفارقة الدُّنيا، وهو حسن الظنِّ بالله، وتعظيم الرجاء به سبحانه، مع شيءٍ من الخوف، فها هو يقول: «أعوذ بالله من ليلةٍ صباحها إلى النار، مرحبًا بالموت مرحبًا! زائرٌ مُغبٌّ، وحبيبٌ جاء على فاقةٍ، اللَّهمَّ إنِّي قد كنت أخافك، فأنا اليوم أرجوك» إنَّها كلمات الواثق بموعود الله، لا المغترِّ بعمله، وكلمات الراجي لفضل من بيده الفضل سبحانه! ولا يجرؤ على هذا الترحيب بالموت، وفي هذه اللحظات العصيبة، إلا من حسنت علاقته مع الله حال الرخاء! إنَّ الإنسان -وهو يقرأ هذه الكلمة -ليتساءل: هل أنا إذا حضرني ¬

(¬1) ينظر: الزهد؛ لأحمد بن حنبل (148)، حلية الأولياء (1/ 239).

أجلي، ودنت منيَّتي، سأقول هذه الكلمة؟! الجواب المبكِّر عن هذا السؤال: من حفظ الله في الرخاء، فلن يتركه في الشِّدَّة، ومن أشدِّ الأوقات التي يحتاج فيها الإنسان للحفظ لحظات الاحتضار، وقرب القدوم على الواحد القهَّار، ومفارقة هذه الدَّار! ثمَّ قال -كالمعتذر عن الفطرة المغروسة في النفوس -: «اللَّهمَّ إنَّك تعلم أنِّي لم أكن أحبُّ الدُّنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالرُّكب عند خلق الذِّكر». إنَّ حبَّ الدُّنيا وكراهية الموت بالقدر المعقول شيءٌ فطريٌّ لا يُنكر بل لا يعاب به الإنسان، كما يبيِّن ذلك حديث عائشة المتَّفق عليه، عنه - صلى الله عليه وسلم -: (من أحبَّ لقاء الله، أحبَّ الله لقاءه، ومن كره لقاء الله، كره الله لقاءه)، فقلت: يا نبيَّ الله، أكراهية الموت؟ فكلُّنا نكره الموت؟! فقال: (ليس كذلك، ولكنَّ المؤمن إذا بشِّر برحمة الله ورضوانه وجنَّته، أحبَّ لقاء الله، فأحبَّ الله لقاءه، وإنَّ الكافر إذا بشِّر بعذاب الله وسخطه، كره لقاء الله، وكره الله لقاءه) (¬1). وهكذا كان معاذٌ - رضي الله عنه -؛ فهو لم يكن يحبُّ البقاء في الدُّنيا لشيءٍ يتعلَّق به عامَّة أهل الدُّنيا، بل كان يحبُّ البقاء لغرضٍ شريفٍ، وهو كثرة العمل الصالح الذي يزيد الإنسان من الله تعالى قربةً ومحبةً، ونعم الأمنيَّة هذه: «لم أكن أحبُّ الدُّنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركُّب عند حلق الذِّكر»! ¬

(¬1) البخاري ح (6507)، ومسلم ح (2684).

الله أكبر! يا لها من أعمالٍ! صيامٌ، وقيامٌ، وطلب علمٍ! فلم يدع مجالًا من أصول الخير إلا ولجه! إنَّ هذه الأمنيَّة لتشبه كثيرًا تلك المناجاة التي بثَّها ابن الجوزيِّ رحمه الله في كتابه الماتع: «صيد الخاطر»، حيث يقول: «دعوت يومًا فقلت: اللَّهمَّ بلِّغني آمالي من العلم والعمل، وأطل عمري لأبلغ ما أحبُّ من ذلك، فعارضني وسواسٌ من إبليس، فقال: ثم ماذا؟ أليس الموت؟ فما الذي ينفع طول الحياة؟! فقلت له: يا أبلة، لو فهمت ما تحت سؤالي، علمت أنَّه ليس بعبثٍ! أليس في كلِّ يوم يزيد علمي ومعرفتي، فتكثر ثمار غرسي، فأشكر يوم حصادي؟! أفيسرُّني أنني متُّ منذ عشرين سنةً؟! لا والله؛ لأنِّي ما كنت أعرف الله تعالى عشر معرفتي به اليوم! وكلُّ ذلك ثمرة الحياة التي فيها اجتنبت أدلة الوحدانيَّة، وارتقيت عن حضيض التقليد إلى يفاع (¬1) البصيرة، واطَّلعت على علوم زاد بها قدري، وتجوهرت بها نفسي، ثم زاد غرسي لآخرتي، وقد قال الله لسيِّد المرسلين: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: (لا يزيد المؤمن عمره إلاَّ خيرًا)، فيا ليتني قدرت على عمر نوحٍ؛ فإنَّ العلم كثيرٌ! وكلَّما حصل منه حاصلٌ، رفع ونفع» (¬2). وهنا نتساءل مرةً أخرى: ما هي الأمانيُّ التي تجول بخواطرنا عند طلب طول الحياة؟! اللَّهمَّ اجعلنا ممَّن طال عمره وحسن عمله، واجعلنا يا مولانا ممَّن فرح بقدومه عليك، وأعنته على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. ... ¬

(¬1) اليفاع: ما علا من الأرض. ومنه يقال: أيفع الغلام: إذا علا شبابه، فهو يافعٌ، ولا يقال: موفعٌ؛ مقاييس اللغة (6/ 157). (¬2) صيد الخاطر (124).

من مواعظ أبي الدرداء رضي الله عنه

من مواعظ أبي الدَّرداء - رضي الله عنه - (1/ 4) أبو الدَّرداء .. وإن شئت فقل: عويمر بن زيدٍ، الأنصاريُّ الخزرجيُّ، من أكابر أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وخاصَّتهم، بل إذا ذكر العلماء الحكماء من الصحابة، كان من أسبق الناس إلى الذهن؛ حتى قيل عنه: حكيم هذه الأمَّة، وسيِّد القرَّاء بدمشق، وأوَّل قاضٍ لدمشق في عهد عثمان - رضي الله عنه -، وهو معدودٌ فيمن جمع القرآن في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أسلم يوم بدرٍ، ثمَّ شهد أحدًا، وأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ أن يَرُدَّ من على الجبل، فردَّهم وحده، وكان قد تأخَّر إسلامه قليلًا. قيل عنه: إنَّه من العلماء والفقهاء الذين يشفون من الداء، مات سنة اثنتين وثلاثين - رضي الله عنه - (¬1). لقد عرف أبو الدَّرداء بالعلم والحكمة والوعظ، واشتهر بذلك في الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين -ولهذا فستكون صحبتنا له في أربعة مجالس من مواعظه؛ لعلَّ الله تعالى أن ينفعنا بها .. ¬

(¬1) تنظر سيرته في: تاريخ دمشق؛ لابن عساكر (47/ 93)، سير أعلام النبلاء (2/ 335).

• فمن أقواله الوعظيَّة قوله - رضي الله عنه - (¬1): «لا تحقرنَّ شيئًا من الشرِّ أن تتَّقيه، ولا شيئًا من الخير أن تفعله». وهذه الموعظة يصدِّقها القرآن والسُّنَّة؛ أمَّا القرآن، ففي قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا} [الزلزلة: 7، 8]، وفي السُّنَّة: يكفي أن يتأمَّل المؤمن قصة امرأتين: إحداهما كانت بغيًّا سقت كلبًا من العطش، فغفر الله لها ودخلت الجنة (¬2)، وأخرى حبست هرَّةً لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض فدخلت النار (¬3). وفي واقع بعض الناس تجد أنَّه يمارس الاستهانة بذرَّة الخير وذرَّة الشرِّ وهو لا يشعر، فحينما يسمع بعضهم عن دعوةٍ للتبرُّع لعملٍ خيريٍّ، يقول في نفسه، على سبيل المثال-: إمَّا أن أدفع مبلغًا كبيرًا أو لا أدفع شيئًا! بحجَّة أنَّ المبلغ اليسير لا يصنع شيئًا، وفي المقابل يستهين بعضهم بذنوبٍ ومعاصٍ بحجة أنَّها من الصغائر! وفي البخاريِّ عن أنسٍ - رضي الله عنه -: «إنَّكم لتعملون أعمالًا هي أدقُّ في أعينكم من الشَّعر، إن كنَّا لنعدُّها على عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات»، قال أبو عبد الله: «يعني بذلك: المهلكات» (¬4)، بوَّب عليه البخاريُّ: «باب ما يتَّقى من محقَّرات الذُّنوب». والموفَّق من لم يدع حسنةً يقدر عليها إلا فعلها، ولا سيِّئة إلا تركها؛ فإنَّه لا يدري ما العمل الذي يبلِّغه رضوان الله، وكذلك ما السيِّئة التي تقصم ظهره! * * * ¬

(¬1) تاريخ دمشق (47/ 161). (¬2) مسلم ح (2245). (¬3) البخاري ح (3482)، مسلم ح (2242). (¬4) البخاري ح (6492).

• ومن مواعظه - رضي الله عنه - (¬1): «ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكنَّ الخير أن يكثر عملك، ويعظم حِلمُك، وأن تباري الناس في عبادة الله، وإذا أحسنت حمدتَّ الله، وإذا أسأت استغفرت الله». إنَّ أبا الدرداء - رضي الله عنه - يصحِّح بهذه الموعظة مفهومًا يقع في أذهان بعض الناس في حقيقة الخيريَّة، التي ربَّما حصرها بعضهم في كثرة المال والولد! وليست كذلك؛ فلو كانت كثرة المال والولد خيرًا، لكان الوليد بن المغيرة والعاص بن وائلٍ - اللذان غرَّهما مالهما وولدهما - من خير الناس، وليسا كذلك بنصِّ القرآن؛ قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَاتِينَا فَرْدًا} [مريم: 77 - 80]، وقال في شأن الوليد: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر: 11 - 17] الآيات. إذًا، ما الخير في فهم أبي الدرداء؟ «ولكنَّ الخير أن يكثر عملك، ويعظم حلمك، وأن تباري الناس في عبادة الله، وإذا أحسنت حمدتَّ الله، وإذا أسأت استغفرت الله». هكذا هم أئمة السلف؛ يصحِّحون المفاهيم المغلوطة، أو التي حصل فيها انحرافٌ، ومن ذلك هذا المعنى؛ فإنَّ كثرة المال والولد لا تمدح ولا تذمُّ لذاتها، فكم في أعداء الله تعالى من هو أغنى من مئات ¬

(¬1) تاريخ دمشق؛ لابن عساكر (47/ 159).

الملايين من المسلمين، وأكثر ولدًا، ولكنَّ الشأن في أثر هذه النِّعم على العبد، وأجلُّها: ترجمتها بالشكر، والذي عبَّر عنه أبو الدرداء بقوله: «وأن تباري الناس في عبادة الله - عز وجل -»، ثمَّ إن وفَّقك الله لشيءٍ من ذلك، فلا تغترَّ أو تعجب؛ فإنَّما هذا فضل الله أيضًا: «فإن أحسنت حمدتَّ الله تعالى، وإن أسأت استغفرت الله - عز وجل -»، فاللَّهمَّ اجعلنا ممَّن إذا أنعم عليه شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر. * * * • ومن مواعظه - رضي الله عنه - لأحد إخوانه (¬1): «إيَّاك ودعوة المظلوم، واعلم أنَّ قليلًا يغنيك، خيرٌ من كثيرٍ يلهيك، وأنَّ البرَّ لا يبلى، وأنَّ الإثم لا يُنسى». رضي الله عن أبي الدرداء؛ فلقد نصح وأوجز وأبلغ! أمَّا توقِّي دعوة المظلوم، فلقد سبق بالتحذير منها إمامه ونبيُّه - صلى الله عليه وسلم - حين بعث معاذًا إلى اليمن، فقال له: (واتَّق دعوة المظلوم؛ فإنَّه ليس بينها وبين الله حجابٌ) (¬2)، وجاء في روايةٍ خارج الصحيح: (وإن كان فاجرًا، ففجوره على نفسه) (¬3)، فهل يعي هذه الوصيَّة ويتفكَّر فيها من لا يبالون بظلم الناس، وخاصةً المستضعفين منهم؛ كالخدم والعمَّال ونحوهم؟! كان معاوية - رضي الله عنه - يقول: «إنِّي لأستحيي أن أظلم من لا يجد عليَّ ناصرًا إلا الله» (¬4)! ثمَّ قال أبو الدرداء لصاحبه: «واعلم أنَّ قليلًا يغنيك، خيرٌ من كثيرٍ ¬

(¬1) تاريخ دمشق؛ لابن عساكر (47/ 167). (¬2) البخاري ح (1496)، مسلم ح (19). (¬3) أحمد ح (8795) وقد حسَّن الحافظ ابن حجرٍ إسنادها في فتح الباري (3/ 360). (¬4) درر الحكم؛ لأبي منصور الثعالبي (55).

يلهيك»! وهذه حقيقةٌ؛ إذ أكثر المتاع الدنيويِّ بركةً ما أعان على طاعة الله، ونفع العباد والإحسان إليهم، وأمَّا ما ألهى منه عن حقِّ الله وحقوق الخلق، فهو متاعٌ شيطانيٌّ، لا خير فيه، وسيعلم المفرِّطون غبَّ ما جمعوا يوم يسأل الإنسان عن ماله من أين جمعه؟ وفيم أنفقه؟! ثمَّ ختم وصيَّته لصاحبه فقال: «وأعلم ... أنَّ البرَّ لا يَبلى، وأنَّ الإثم لا يُنسى». وهذه حقيقةٌ، فالبرُّ والإحسان لا يبلى ولا يذهب أثره، بل هو من جنس الكلمة الطيِّبة التي تؤتي أكلها كلَّ حينٍ بإذن ربِّها، وقد ينسى المؤمن إحسانه ونفعه، لكنَّ الله تعالى يحفظ ذلك له، ويبارك له فيه. وفي المقابل، فالإثم- إذا لم يتب منه صاحبه - فإنَّه لا يَبلى، ولا يُمحى من الكتاب، إلا إذا رحم الله تعالى وأذن يوم المحشر. وهذا المعنى الذي ذكره أبو الدرداء - رضي الله عنه - دلَّت عليه آياتٌ كثيرةٌ، طالما بكى عندها السلف الصالح وخافوا منها؛ كقوله تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 6]، وكقوله - عز وجل -: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، قال التابعيُّ الجليل عون بن عبد الله معلِّقًا على هذه الآية: «ضجَّ والله القوم من الصِّغار قبل الكبار!» (¬1). والمقصود أنَّ أرباب البصائر والقلوب الحيَّة عرفوا «أنَّ الله تعالى لهم بالمرصاد، وأنَّهم سيناقشون في الحساب، ويطالبون بمثاقيل الذَّرِّ من ¬

(¬1) التمهيد؛ لابن عبد البر (2/ 84).

الخطرات واللحظات، وتحقَّقوا أنَّه لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة، وصدق المراقبة، ومطالبة النَّفس في الأنفاس والحركات، ومحاسبتها في الخطرات واللحظات، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خفَّ في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن مُنقلبه ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزى والمقت سيِّئاته» (¬1). هذه بعضٌ من مواعظ هذا الصحابيِّ الجليل أبي الدرداء - رضي الله عنه -، وللحديث عنها بقيةٌ. * * * ¬

(¬1) إحياء علوم الدين (4/ 393).

من مواعظ أبي الدرداء رضي الله عنه

من مواعظ أبي الدَّرداء - رضي الله عنه - (2/ 4) • ومن مواعظه - رضي الله عنه - قوله (¬1): «معاتبة الأخ خيرٌ لك من فقده، ومن لك بأخيك كلِّه؟! أعط أخاك ولِنْ له، ولا تطع فيه حاسدًا». يا له من درسٍ عميقٍ في ضبط العلاقات الأخويَّة التي تفصَّمت عراها بسبب كثرة العتاب، وتنويع اللوم بأساليب كثيرةٍ! تأمَّل هذه الجملة، وأعدها مرةً أخرى: «معاتبة الأخ خيرٌ لك من فقده، ومن لك بأخيك كلِّه؟! أعط أخاك ولِنْ له»! من الجميل قبل أن تبدأ قصة العتاب للإخوة والأصدقاء - وحتى لا نخسرهم - أن نجيب عن هذه الأسئلة الأربعة: متى أعاتب؟ ومن أعاتب؟ وكيف؟ وماذا بعد العتاب؟ أمَّا متى؟ فالعتاب ينبغي أن يكون في أضيق الدوائر، وأن يكون بقدرٍ معقولٍ؛ حتى لا يحصل عكس مقصوده، كما قال عليٌّ - رضي الله عنه -: «لا تكثر العتاب؛ فإنَّ العتاب يورث الضَّغينة والبغضة، وكثرته من سوء الأدب» (¬2). ¬

(¬1) حلبية الأولياء (1/ 215). (¬2) روضة العقلاء (182).

وأمَّا من أعاتب؟ فالحديث في عتاب الصَّديق الذي عقدتَّ بينك وبينه وشائج المودَّة، ويعزُّ عليك ما يقع منه من خطأٍ، وكذلك العتاب لشخصٍ لك به صلةٌ- كخادمٍ وزوجٍ أو قريبٍ- أمَّا عامَّة المعارف، فليس من العقل ولا الحكمة توجيه اللوم لهم، بل تغافل عنهم. أمَّا كيف أعاتب؟ فما أجمل التلطُّف في العتاب، واللين في العبارة! ولعلَّك تتعجَّب- كما تعجَّبت- من حديث أنس - رضي الله عنه - الذي قال فيه: «خدمت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، فما قال لي: أفٍّ، ولا: لم صنعت؟ ولا: ألا صنعت؟»! (¬1). فهذا خادمٌ، وصغير السنِّ جدًا حين بدأ خدمة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، حيث كان عمره عشر سنواتٍ، وكلاهما - صغر السنِّ والخدمة - مظنَّة الخطأ المتكرِّر، ومع هذا فلا يسمع منه أنسٌ طيلة السنوات العشر حتى كلمة (أفٍّ)! صلوات ربِّي وسلامه عليه. وإذا عتبت على امرئٍ أحببته ... فتوقَّ ظاهر عيبه وسبابه وألن جناحك ما استلان لودِّه ... وأجب أخاك إذا دعا بجوابه ومن حقِّ الأخ أن تغفر هفوته، وتستر زلَّته؛ فمن رام بريئًا من الهفوات، خاليًا من الزَّلات، رام مُحالًا! وماذا بعد العتاب؟ وهو سؤالٌ مهم يجب تأمُّله قبل إلقاء اللَّوم والمعتبة؛ فإنَّ بقاء الصَّديق الصَّدوق، كثير الفضائل- على علَّةٍ فيه- خيرٌ من خسارته بسبب عتابٍ قد لا يحتمله، أو يفهمه على غير وجهه، وقد ¬

(¬1) البخاري ح (6038).

قيل: تناس مساوئ الإخوان، يدم لك ودُّهم، وبالجملة: فغنيمة الأصدقاء الصالحين لا تتوقَّف عند الحياة، بل هي ممتدَّةٌ إلى يوم الدِّين: {الْأَخِلَّآءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] فالله الله في حفظ الودِّ، والتغاضي عن الزلة؛ فالتغافل من شيم الكرام. * * * • ومن مواعظه - رضي الله عنه - قوله (¬1): «ابن آدم، إنَّما أنت أيامٌ؛ فإذا ذهب يومٌ، ذهب بعضك. ابن آدم، إنَّك لن تزال في هدم عمرك منذ يوم ولدتك أمُّك». هذه حقيقة الزمن ... وهذه حقيقة السنوات التي نقطعها في هذه الحياة ... ولكأنَّما العمر بيتٌ وبناءٌ كبيرٌ، فإذا ذهب يومٌ أو ساعةٌ سقطت منه لبنةٌ ... فتقدُّم السِّنِّ هو من جهةٍ زيادةٌ، ومن جهةٍ أخرى نقصٌ! لأنَّ حقيقته أنَّه يقرِّبك إلى أجلك. والناس في هذا الموضوع بين غالٍ وجافٍ! فطلب طول العمر لا يحمد ولا يذمُّ لذاته، بل لمتعلَّقة وقصد الداعي به! ودونك هذه المناجاة الجميلة التي تعبِّر عن هذا المعنى بدقةٍ، والتي بثَّها ابن الجوزيِّ في كتابه النافع: «صيد الخاطر» حيث يقول رحمه الله: «دعوت يومًا فقلت: اللَّهمَّ بلِّغني آمالي من العلم والعمل، وأطل عمري لأبلغ ما أحبُّ من ذلك، فعارضني وسواسٌ من إبليس، فقال: ثم ماذا؟ أليس الموت؟ فما الذي ينفع طول الحياة؟! فقلت له: يا أبله، لو فهمت ما تحت سؤالي، علمت أنَّه ليس بعبثٍ! أليس في كل يومٍ يزيد ¬

(¬1) تاريخ دمشق؛ لابن عساكر (47/ 171).

علمي ومعرفتي، فتكثر ثمار غرسي، فأشكر يوم حصادي؟! أفيسرُّني أنني متُّ منذ عشرين سنةً؟! لا والله؛ لأنِّي ما كنت أعرف الله تعالى عشر معرفتي به اليوم! وكلُّ ذلك ثمرة الحياة التي فيها اجتنيت أدلة الوحدانيَّة، وارتقيت عن حضيض التقليد إلى يفاع البصيرة، واطَّلعت على علومٍ زاد بها قدري، وتجوهرت بها نفسي، ثم زاد غرسي لآخرتي ... ففي الصحيح: (لا يزيد المؤمن عمره إلَّا خيرًا) (¬1) ... فيا ليتني قدرت على عمر نوحٍ؛ فإنَّ العلم كثيرٌ! وكلَّما حصل منه حاصلٌ، رفع ونفع» (¬2). وقال رحمة الله في موضعٍ آخر؛ مبينًا متى يذمُّ طلب طول العمر: «ومن الاغترار طول الأمل، وما من آفةٍ أعظم منه؛ فإنَّه لولا طول الأمل ما وقع إهمالٌ أصلًا، وإنما تُقدَّم المعاصي وتُؤخَّر التوبة لطول الأمل، وتُبادر الشهوات وتُنسى الإنابة لطول الأمل» (¬3). * * * • ومن مواعظه التي وعظ بها مسلمة بن مخلدٍ - وهو أمير مصر يومئذٍ - (¬4): «أمَّا بعد، فإنَّ العبد إذا عمل بطاعة الله، أحبَّه الله، فإذا أحبَّه الله، حبَّبه إلى خلقه، وإنَّ العبد إذا عمل بمعصية الله، أبغضه الله، فإذا أبغضه الله، بغَّضه إلى خلقه». ¬

(¬1) مسلم ح (2682). (¬2) صيد الخاطر (124)، فانظر يا طالب العلم هذه الهمَّة، وهل نفسك تحدِّثك كما حدَّثت ابن الجوزيِّ نفسه بهذا؟! (¬3) صيد الخاطر (1/ 206). (¬4) مصنَّف ابن أبي شيبة (7/ 113).

إنَّها رسالةٌ واضحةٌ، وعلامةٌ تجيب عن سؤالٍ يطرحه كثيرون - إمَّا بلسان الحال أو المقال-: ما سرُّ حبِّ الناس لهذا الإنسان؟ وما سرُّ بغضهم لذاك؟! قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنَّ الله إذا أحبَّ عبدًا، دعا جبريل فقال: إنِّي أحبُّ فلانًا فأحبَّه، قال: فيحبُّه جبريل، ثمَّ ينادي في السَّماء فيقول: إنَّ الله يحبُّ فلانًا فأحبُّوه، فيحبُّه أهل السَّماء، قال: ثمَّ يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدًا، دعا جبريل فيقول: إنِّي أبغض فلانًا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثمَّ ينادي في أهل السَّماء: إنَّ الله يبغض فلانًا فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثمَّ توضع له البغضاء في الأرض) (¬1). إنَّ بعث أبي الدرداء لهذه الموعظة لأميرٍ من أمراء المسلمين ليؤكِّد صورتين مشرقتين في العلاقة بين الحاكم والعالم، تطبيقًا لمبدأ النصيحة الذي قرَّره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث تميمٍ الدَّاريِّ: (الدِّين النَّصيحة)، قلنا: لمن؟ قال: (لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّة المسلمين، وعامَّتهم) (¬2). أمَّا الصورة الأولى، فهي قيام العالم بما أوجب الله عليه من بذل النُّصح للحكَّام. وأمَّا الصورة الثانية، فهي قبول هذه النصيحة، وشكر الناصح، وإكرامه. ولا تزال الأمة بخيرٍ ما تناصحوا بينهم، وتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، كما قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: «لن تزالوا بخيرٍ ما أحببتم خياركم، وما قيل فيكم الحقُّ فعرفتموه؛ فإنَّ عارفه كفاعله» (¬3). ¬

(¬1) البخاري ح (7485)، مسلم ح (2637). (¬2) مسلم ح (95). (¬3) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1141).

هذه بعض مواعظ هذا الصحابيِّ الجليل أبي الدَّرداء - رضي الله عنه -، والتي لم ننته بعد من قطف أفانينها. * * *

من مواعظ أبي الدرداء رضي الله عنه

من مواعظ أبي الدَّرداء - رضي الله عنه - (3/ 4) • ومن مواعظه - رضي الله عنه - (¬1): أنَّ رجلًا جاء إليه فقال: أوصني، فقال أبو الدرداء: «أذكر الله في السَّرَّاء، يذكرك في الضَّرَّاء، وإذا ذكرت الموتى، فاجعل نفسك كأحدهم، وإذا أشرفت نفسك على شيءٍ من الدُّنيا، فانظر إلى ما يصير». ما أجمل طلب هذا الرجل الوصيَّة من العلماء كأبي الدرداء! وما أحسن جوابه له! لقد تضمَّنت هذه الوصية الوعظية ثلاثة معانٍ هي من أعظم الأدوية لمن تقطَّعت قلوبهم حسرةً، أو تحجَّرت قسوةً، أو ذابت كمدًا على ما فاتها من لُعاعة الدُّنيا! وأول هذه الأدوية والوصايا: ذكر الله تعالى ... الذي يذيب قسوة القلوب، ويعلِّقها بعلَّام الغيوب، ويجعل الذاكر في كرامة المذكور، كما قال سبحانه عن نفسه في الحديث: (فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ، ذكرته في ملأٍ خيرٍ منهم) (¬2). ¬

(¬1) تاريخ دمشق (47/ 166). (¬2) البخاري ح (7405)، مسلم ح (2675).

وقد نبَّه أبو الدرداء إلى بركةٍ من بركات هذه العبادة، وهي: أنَّ ذاكر الله تعالى في السرَّاء سيجد أثر ذلك في الضرَّاء، وهذا ما جملة معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (تعرَّف إلى الله في الرَّخاء، يعرفك في الشِّدَّة) (¬1). وثاني هذه الوصايا: «وإذا ذكرت الموتى، فاجعل نفسك كأحدهم»، وهذه الوصيَّة من جملة مئات الوصايا التي كان يوصي بها السلف أصحابهم، وكان أبو الدرداء يقول في بعض مواعظه: «إنَّ من أكثر ذكر الموت، قلَّ حسده وبغيه» (¬2)، «وما أكثر عبدٌ ذكر الموت، إلا رأى ذلك في عمله، ولا طال أمل عبدٍ قطُّ، إلا أساء العمل» (¬3)؛ ولهذا كان يقول سعيد بن جبيرٍ: «لو فارق ذكر الموت قلبي، خشيت أن يفسد عليَّ قلبي» (¬4)، بل قال سفيان الثَّوريُّ رحمه الله مبيِّناً أثر تذكُّر هذه الحقيقة: «لو أنَّ البهائم تعقل من الموت ما تعقلون، ما أكلتم منها سمينًا» (¬5). ومن القصص المشهورة في هذا الباب: قصة دخول أبي العتاهية على هارون الرَّشيد، فلمَّا دخل قال له هارون: عظني بأبيات شعرٍ وأوجز، فأنشده: لا تأمن الموت في طرفٍ ولا نفس ... ولو تمنَّعت بالحجَّاب والحرس وأعلم بأنَّ سهام الموت قاصدةٌ ... لكلِّ مدَّرعٍ منَّا ومتَّرس ترجو النَّجاة ولم تسلك مسالكها ... إنَّ السَّفينة لا تجري على اليبس فخرَّ هارون مغشيًّا عليه (¬6). ¬

(¬1) قال البوصيريُّ في إتحاف الخيرة المهرة (7/ 383): «... ورواه التِّرمذيُّ مختصرًا وقال: حسنٌ صحيحٌ»، ولفظ الترمذي هنا: الترمذي ح (2516). (¬2) الزهد؛ للإمام أحمد (ص 117). (¬3) الزهد؛ للإمام أحمد (ص 218). (¬4) الزهد؛ للإمام أحمد (ص 300). (¬5) حلية الأولياء (6/ 392). (¬6) روضة العقلاء (ص 285).

وبالجملة، فإنَّ من أكثر من ذكر الموت، أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاطٌ في العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرِّضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة (¬1). وثالث وصايا أبي الدرداء لهذا الرجل: «وإذا أشرفت نفسك على شيءٍ من الدُّنيا، فانظر إلى ما يصير»! إي والله! إنَّها لسلوةٌ وأيُّ سلوةٍ؟! فمن تعلَّقت نفسه أو أشرفت على شيءٍ من حطام الدُّنيا حتى تأثَّر قلبه بذلك، فليبادر إلى تذكُّر مصير هذه الحياة، التي قال فيها خالقها سبحانه: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَاكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]. وقد كثرت من أبي الدرداء أمثال هذه الوصايا، ومن ذلك قوله - رضي الله عنه -: «لو تعلمون ما أنتم راؤون بعد الموت، ما أكلتم طعامًا بشهوةٍ، ولا شربتم شرابًا على شهوةٍ، ولا دخلتم بيتًا تستظلُّون فيه، ولحرصتم على الصعيد تضربون صدوركم وتبكون على أنفسكم! ولوددتُّ أنِّي شجرةٌ تعضد ثم تؤكل» (¬2). وقال مرةً يعظ أهل دمشق: «يا أهل دمشق، اسمعوا قول أخٍ لكم ناصحٍ، ما لي أراكم تجمعون فلا تأكلون؟ وتبنون فلا تسكنون؟ وتأملون فلا تدركون؟ إنَّ من كان من قبلكم جمعوا كثيرًا، وبنوا شديدًا، وأمَّلوا ¬

(¬1) تنبيه الغافلين (ص 41). (¬2) الزهد؛ للإمام أحمد (ص 114).

بعيدًا، فأصبح ما جمعوا بورًا، وما أملوا غرورًا، وأصبحت مساكنهم قبورًا» (¬1). وكان أبو الدرداء إذا رأى جنازةً قال: «اغدوا فإنَّا رائحون، أو روحوا فإنَّا غادون، موعظةٌ بليغة، وغفلةٌ سريعة، كفى بالموت واعظًا، يذهب الأول فالأول، ويبقى الآخر لا حلم له» (¬2). * * * • ومن مواعظه - رضي الله عنه -: ما رواه جبير بن نفيرٍ (¬3): أنَّه لما فتحت قبرس، فرِّق بين أهلها فبكى بعضهم إلى بعضٍ، ورأيت أبا الدرداء جالسًا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يومٍ أعزَّ الله فيه الإسلام وأهله؟! قال: «ويحك يا جبير! ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره! بينا هي أمَّةٌ قاهرةٌ ظاهرةٌ، لهم الملك، تركوا أمر الله؛ فصاروا إلى ما ترى». ما أجمل الموعظة بالموقف! ها هو العالم الحكيم، صاحب النظر الثاقب، يلفت النظر إلى معنًى قد يغيب في لحظة الفرح بانتصار المؤمنين، إنَّه النظر والتأمُّل في سنن الله في الأمم والمجتمعات، التي انطبقت على هذه الأمة التي لمَّا تمرَّدت على سنن الله حلَّت بها المثُلات! وتأمَّل في هذه العبارة المتينة: «بينا هي أمَّةٌ قاهرةٌ ظاهرةٌ، لهم الملك، تركوا أمر الله؛ فصاروا إلى ما ترى»، هل تأمَّلت هذه الأوصاف الثلاثة: «قاهرةٌ، ظاهرةٌ، لهم الملك»؟ ¬

(¬1) تاريخ دمشق (47/ 131). (¬2) حلية الأولياء (1/ 217). (¬3) حلية الأولياء (1/ 216).

وكأنَّه بلسان الحال يقول: يا أمة محمدٍ، إن سقط عرش هذه الدولة، ومكَّنكم الله من أرضهم وديارهم، فاعلموا أنَّكم إن سلكتم سبيلهم، فستحقُّ عليكم السُّنَّة نفسها، وهذا ما حصل بالفعل؛ فلقد رجعت قبرس إلى النَّصارى ثانيةً، لمَّا ضعف المسلمون، وتخلَّوا عن دينهم، فتغلَّب عليهم النصارى، فهل من مُعتبرٍ؟ * * * • ومن مواعظه - رضي الله عنه - (¬1): «تفكُّر ساعةٍ، خيرٌ من قيام ليلةٍ». كان أبو الدرداء مشهورًا بهذه العبادة العظيمة، وهي عبادة التفكُّر، ولعلَّ ما أثر عنه من حكمٍ كثيرةٍ من آثار هذا التفكُّر الطويل، الذي يقود - مع العلم - إلى بديع الحكمة، وجميل الموعظة. وقد يقول قائلٌ: كيف فضَّل أبو الدرداء التفكُّرَ على قيام الليل؟ والجواب: أنَّ التفكُّرَ نفعه مُتعدِّ وأعمُّ، وأثره أكبر للأمة، فهو من جملة العلم الذي يتعلَّمه الإنسان؛ ولهذا أثنى الله تعالى على العُبَّاد الذين يجمعون بين العبادتين فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} الآيات [آل عمران: 190، 191]. وقد سأل التابعيُّ الجليل عون بن عبد الله زوجة أبي الدرداء الصُّغرى: ما كان أفضل عبادة أبي الدرداء؟ قالت: التفكُّر والاعتبار. ¬

(¬1) الزهد؛ لهناد بن السري (2/ 468).

علَّق مسعر بن كدامٍ على هذا الجواب قائلًا: «وكان من الذين أوتوا العلم» (¬1). ولعيش أبي الدرداء مع هذه العبادة؛ نُقِلت عنه الكثير من الحكم والمقولات المباركة، والتي نتفيَّأ ظلالها منذ ثلاثة مجالس من مجالس وعظه، ولم يزل في الجعبة شيءٌ من مواعظه - رضي الله عنه -، والتي نكملها في المجلس القادم. * * * ¬

(¬1) حلية الأولياء (7/ 300).

من مواعظ أبي الدرداء رضي الله عنه

من مواعظ أبي الدَّرداء - رضي الله عنه - (4/ 4) • ومن مواعظه - رضي الله عنه - قوله (¬1): «أخوف ما أخاف أن يقال لي يوم القيامة: يا عويمر، أعلمت أم جهلت؟ فإن قلت: علمت، لا تبقى آيةٌ آمرةٌ أو زاجرةٌ إلا أخذت بفريضتها؛ الآمرة: هل ائتمرت؟ والزاجرة: هل ازدجرت؟ وأعوذ بالله من علمٍ لا ينفع، ونفسٍ لا تشبع، ودعاءٍ لا يسمع». هكذا يحاسب أهل القرآن أنفسهم، ويوقفونها عند موارد النجاة، فإنَّ من غفل عن محاسبة نفسه هنا، يوشك أن يندم إذا نُشرت أمامه صحائف أعماله غدًا. إنَّ الحساب اليوم - مع ما فيه من ثقلٍ، أخفُّ على النفس غدًا، وما حال المحاسب نفسه اليوم إلا كتاجرٍ يراجع حساباته لينظر أين تتَّجه تجارته؟ ليتجنَّب أسباب الخسارة، ويسعى في أسباب الربح، والغافل عن محاسبة نفسه كالتاجر الذي جيء إليه بكشف الحساب المصرفيِّ، فإذا فيه الديون التي أغرقته، وهو يحسب أنَّه يربح! يقول الحسن رحمه الله: «إنَّ المؤمن قوَّامٌ على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنَّما خفَّ الحساب يوم القيامة على قومٍ حاسبوا أنفسهم في الدُّنيا، ¬

(¬1) حلية الأولياء (1/ 213).

وإنَّما شقَّ الحساب يوم القيامة على قومٍ أخذوا هذا الأمر على غير محاسبةٍ» (¬1). فخليقٌ بنا جميعًا أن يكون لنا جلساتٌ- بين الفينة والأخرى - نحاسب فيها أنفسنا، وننظر فيما مضى من أعمالنا، وما الذي ينتظرنا في مستقبلنا الأخرويِّ؟ وممَّا يحسن إيراده هنا: تلك الخاطرة التي قيَّدها ابن الجوزيِّ رحمه الله في «صيده» حين قال: «تفكَّرت في نفسي يومًا تفكُّر محقِّقٍ، فحاسبتها قبل أن تحاسب، ووزنتها قبل أن توزن، فرأيت اللُّطف الربانيَّ؛ فمنذ الطفولة وإلى الآن أرى لطفًا بعد لطفٍ، وسترًا على قبيحٍ، وعفوًا عمَّا يوجب عقوبةً، وما أرى لذلك شكرًا إلا باللسان! ولقد تفكَّرت في خطايا، لو عوقبت ببعضها، لهلكت سريعًا، ولو كشف للناس بعضها، لاستحييت! ولا يعتقد معتقدٌ عند سماع هذا أنَّها من كبائر الذنوب؛ حتى يَظُنَّ فيَّ ما يَظُنُّ في الفسَّاق! بل هي ذنوبٌ قبيحةٌ في حقِّ مثلي، وقعت بتأويلاتٍ فاسدةٍ، فصرت إذا دعوت أقول: اللَّهمَّ بحمدك وسترك عليَّ اغفر لي! ثم طالبت نفسي بالشكر على ذلك؛ فما وجدتُّه كما ينبغي. فأخذت أنوح على تقصيري في شكر المنعم، وكوني أتلذَّذ بإيراد العلم من غير تحقيق عملٍ به، وقد كنت أرجو مقامات الكبار، فذهب العمر وما حصل المقصود!» (¬2). اهـ. * * * ¬

(¬1) حلية الأولياء (2/ 157). (¬2) صيد الخاطر (ص 474).

• ومن مواعظ أبي الدرداء - رضي الله عنه - قوله (¬1): «ليحذر امرؤٌ أن تبغضه قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر»، ثم قال: «أتدري ما هذا؟ العبد يخلو بمعاصي الله - عز وجل -؛ فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر». يا لها من موعظةٍ بليغةٍ! لا أجد ما أوضِّح ما اشتملت عليه من معانٍ بديعةٍ أحسن ولا أجمل من كلامٍ نفيسٍ لابن الجوزيِّ حول هذه المسألة، حيث يقول رحمه الله: «إنَّ للخلوة تأثيراتٍ تبين في الجلوة، كم من مؤمنٍ بالله - عز وجل -، يحترمه عند الخلوات، فيترك ما يشتهي حذرًا من عقابه، أو رجاءً لثوابه، أو إجلالًا له، فيكون بذلك الفعل كأنَّه طرح عودًا هندياً على مجمرٍ، فيفوح طيبه، فيستنشقه الخلائق، ولا يدرون أين هو؟ وعلى قدرٍ المجاهدة في ترك ما يهوى، تقوى محبَّته، أو على مقدار زيادة دفع ذلك المحبوب المتروك يزيد الطِّيب، ويتفاوت تفاوت العود، فترى عيون الخلق تعظِّم هذا الشخص، وألسنتهم تمدحه، ولا يعرفون لِمَ؟ ولا يقدرون على وصفه؛ لبعدهم عن حقيقة معرفته. وقد تمتد هذه الأراييح (¬2) بعد الموت على قدرها؛ فمنهم من يذكر بالخير مدةً مديدةً ثم يُنسى، ومنهم من يذكر مئة سنةٍ، ثم يخفى ذكره وقبره، ومنهم أعلامٌ يبقى ذكرهم أبدًا. وعلى عكس هذا من هاب الخلق، ولم يحترم خلوته بالحقّ، فإنَّه ¬

(¬1) حلية الأولياء (1/ 215) (¬2) جمع رائحة.

على قدر مبارزته بالذُّنوب، وعلى مقادير تلك الذُّنوب؛ يفوح منه ريح الكراهة فمتقته القلوب، فإن قلَّ مقدار ما جنى، قلَّ ذكر الألسن له بالخير، وبقي مجرد تعظيمه، وإن كثر كان قصارى الأمر سكوت الناس عنه، لا يمدحونه ولا يذمُّونه. وربَّ خالٍ بذنب كان سبب وقوعه في هوَّة شقوةٍ في عيش الدُّنيا والآخرة! وكأنَّه قيل له: ابق بما آثرت! فيبقى أبدًا في التخبيط. فانظروا إخواني إلى المعاصي أثَّرت وعثَّرت، فتلمحوا ما سطرته، واعرفوا ما ذكرته، ولا تهملوا خلواتكم ولا سرائركم؛ فإنَّ الأعمال بالنية، والجزاء على مقدار الإخلاص» (¬1) ا. هـ. * * * • ومن مواعظه - رضي الله عنه - (¬2): «أنصف أذنيك من فيك؛ فإنَّما جعل لك أذنان اثنتان وفمٌ واحدٌ؛ تسمع أكثر ممَّا تقول». ووضوح هذه الموعظة يغني عن بيانها، وكلام الحكماء في هذا المعنى كثيرٌ، وهم متَّفقون على ذمِّ الكلام بلا فائدةٍ، وإن كان بفائدةٍ فمحلُّ الذمِّ منه الكثرة التي تبعث على السآمة، أو تبدي فلتات لسانه مواطن العثار من عقله؛ ولهذا قال المهلَّب بن أبي صفرة: لأن أرى لعقل الرجل فضلًا على لسانه أحبُّ إليَّ من أن أرى للسانه فضلًا على عقله (¬3). ¬

(¬1) صيد الخاطر (ص 185). (¬2) عيون الأخبار (2/ 193). (¬3) العقد الفريد (2/ 303).

ولقد كثر كلام الحكماء والعقلاء في هذا المعنى؛ لأنَّ «الكلام ترجمانٌ يعبِّر عن مستودعات الضمائر، ويخبر بمكنونات السَّرائر، لا يمكن استرجاع بوادره، ولا يقدر على ردِّ شوارده؛ فحقَّ على العاقل أن يحترز من زلله بالإمساك عنه، أو بالإقلال منه» (¬1). هذه بعض المختارات من الحكم والمقولات المباركة المأثورة عن حكيم هذه الأمَّة: عويمر بن زيدٍ أبي الدَّرداء الأنصاريِّ - رضي الله عنه -، مع التعليق عليها بما تيسَّر، والتي تفيَّأنا ظلالها في أربع حلقاتٍ مضت، وتركنا مواعظه الكثير؛ إذ القصد الإشارة إلى بعضها لا الإلمام بها جميعًا، ومن أراد الله به خيرًا نفعه بالقليل من العلم المأثور عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعن صحابته الكرام. * * * ¬

(¬1) أدب الدنيا والدين (ص 275).

من مواعظ أبي ذر رضي الله عنه

من مواعظ أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - أبو ذرٍّ: جنب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن حرام، أبو ذرٍّ الغفاريُّ - رضي الله عنه -، أحد علماء الصحابة، وأحد السابقين الأوَّلين، كان من نجباء أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، قيل: كان خامس خمسةٍ في الإسلام، ثم ردَّ إلى بلاد قومه، فأقام بها بأمر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - له بذلك، فلما هاجر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هاجر إليه - رضي الله عنه - ولازمه، وجاهد معه، وكان يفتي في خلافة أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان. وكان رأسًا في الزهد والصدق، والعلم والعمل، قوَّالًا بالحقِّ، لا تأخذه في الله لومة لائم، وهو ممَّن شهد فتح بيت المقدس مع عمر رضي الله عنهما، وكانت وفاته سنة (23هـ) (¬1). * * * * • ومن مواعظه - رضي الله عنه - (¬2): أنَّ رجلًا شتمه، فقال له أبو ذرٍّ: «يا هذا، لا تغرقنَّ في شتمنا، ودع للصلح موضعًا؛ فإنَّا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه!». ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (2/ 46). (¬2) الآداب الشرعيَّة، والمنح المرعيَّة (2/ 11).

هذه الموعظة يمكن أن نجعلها قاعدة من قواعد الأدب والتعامل مع الناس، خاصةً ممَّن يصدر منهم ألوانٌ من الجهل والسَّفه، فإنَّ من تأمَّل وجد أنَّ الابتلاء بهذا النوع من الناس، هو نوعٌ من التربية العمليَّة على قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]، وقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55]. وإلا فما يصنع العاقل مع السفهاء والجهَّال؟ أيجاريهم؟ أم يبادلهم الشَّتم بمثله؟ أم ماذا؟ ليس ثمَّة شيءٌ أنفع ممَّا ذكره أبو ذرٍّ - رضي الله عنه -، وليكن من قصد المؤمن- أيضًا-: الرحمة بهؤلاء الجهَّال، الذين كسدت بضاعة ألفاظهم في سوق الأخلاق وللأسف. وما أحوج الإخوة الذين دخلوا في مواقع التواصل الاجتماعيِّ إلى استشعار هذا المعنى جيدًا؛ فإنَّ التجربة دلَّت على أن سوق السفهاء وقليلي الأدب رائجةٌ في أمثال هذه المواقع، وقد يتعرَّض الإنسان العاديُّ - فضلًا عن الداعية والعالم - إلى ألوانٍ من السفه والحماقة، لا يمكن دفعها إلا بمثل هذا النوع من التوجيه الرائع. وخليقٌ بأمثال هؤلاء أن يتمثَّلوا هدي القرآن الذي أشرت إليه آنفًا، وأن يتذكَّروا هدي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مع هذا النوع من الناس، وهدي السلف الصالح - رضي الله عنهم -، ومن ذلك: أنَّ رجلًا شتم الشَّعبيَّ، فقال له الشعبيُّ: إن كنتُ كما قلتَ، فغفر الله لي، وإن لم أكن كما قلتَ، فغر الله لك. وما أجمل كلمة أبي ذرٍّ حين قال: «فإنَّا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه»! فالسفيه بشتمه وإقذاعه قد

عصى الله في ظلم أخيه المسلم وبهته، فلا أجمل من أن يطيع الله فيه؛ بتمثُّل الأخلاق الحسنة، بالحلم والصبر، والرحمة لهذا النوع من الناس. كما ينبغي أن يعامل الإنسان الناس بأخلاقه هو، لا بأخلاقهم، وإلا كان مع الوقت مجمعًا للرذائل. * * * • ومن مواعظه - رضي الله عنه - قوله (¬1): «ذو الدِّرهمين يوم القيامة أشدُّ حسابًا من ذي الدرهم». الفرح بالمال أمرٌ فطريٌّ، لكنَّ المؤمن الذي لا تغيب عنه الآخرة يتذكَّر التَّبعة، ويستحضر قول نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - في تلك الأربع التي سيسأل عنها: (وعن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟) (¬2). فأهل الإيمان لا ينسيهم جمع الدرهم والدينار التفكُّر في مصدره ومورده؛ فإنَّ الحساب يوم القيامة شديدٌ؛ ولهذا اختار عامة صالحي هذه الأمَّة التخفُّف من هذا المال؛ حذرًا من تبعاته، وخوفًا من مآلاته، قال عطاءٌ- وغيره من السلف -: هذه الدُّنيا حرامها عقاب، وحلالها حساب. وبالجملة، فالعاقل يتأمَّل في هذا المعنى، ويعلم أنَّ خفَّة الظَّهر من هذا المال خيرٌ، إلا من أخذه بحقِّه، والله المستعان. ... ¬

(¬1) الزهد؛ لابن المبارك (195)، مصنَّف ابن أبي شيبة رقم (34684). (¬2) الترمذي ح (2417)، وقال: حسن صحيح.

• ومن مواعظ أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - (¬1): أنَّه قام يومًا عند الكعبة فقال: «يا أيُّها الناس، أنا جندبٌ الغفاريُّ، هلمُّوا إلى الأخ الناصح الشفيق»، فاكتنفه الناس، فقال: «أرأيتم لو أنَّ أحدكم أراد سفرًا، أليس يتَّخذ من الزاد ما يصلحه ويبلِّغه؟» قالوا: بلى، قال: «فسفر طريق القيامة أبعد ما تريدون، فخذوا منه ما يصلحكم»، قالوا: وما يصلحنا؟ قال: «حجُّوا حجَّةً لعظام الأمور، صوموا يومًا شديدًا حرُّه لطول النُّشور، صلُّوا ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور، كلمة خيرٍ تقولها أو كلمة سوءٍ تسكت عنها لوقوف يومٍ عظيمٍ، تصدَّق بمالك لعلَّك تنجو من عسيرها- أي: عسير الدُّنيا- اجعل الدُّنيا مجلسين: مجلسًا في طلب الآخرة، ومجلسًا في طلب الحلال، والثالث يضرُّك ولا ينفعك، لا تريده. اجعل المال درهمين: درهمًا تنفقه على عيالك من حلِّه، ودرهمًا تقدِّمه لآخرتك، والثالث يضرُّك ولا ينفعك، لا تريده». ثم نادى بأعلى صوته: «يا أيُّها الناس، قد قتلكم حرصٌ لا تدركونه أبدًا!».هذه ثمان وصايا، يجمعها النصح والشفقة، والاستعداد للدَّار الخالدة الآخرة، وفيها من التوازن في أمر الدُّنيا والآخرة، كما هو فقه الصحابة - رضي الله عنهم - في هذه الأبواب، فعندهم من العلم ما يمنعهم من التزهيد في الدُّنيا تزهيدًا غير منضبطٍ، وعندهم من الفقه ما يجعلهم يحذِّرون من الانغماس الشديد في الدُّنيا انغماسًا ينسي العبد ما خُلِقَ له، دليلهم في هذا تلك القاعدة القرآنيَّة العظيمة: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ ¬

(¬1) حلية الأولياء، وطبقات الأصفياء (1/ 165).

وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ...} [القصص: 77]. * * * • ومن مواعظه - رضي الله عنه - قوله (¬1): «وددتُّ أنِّي كنت شجرةً أُعضَدُ، ووددتُّ أنِّي لم أخلق». وردت هذه الكلمة عن أبي ذرٍّ، وورد نحوها عن جماعةٍ من الصحابة. ولقد كنت في صغري وبواكير الشباب أتعجَّب وأستغرب من هذه الكلمة! فلمَّا قرآت كلام السلف عن قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1]، تبيَّن لي سبب هذا، وحاصلة يعود إلى خوفهم من ذلك المشهد المهول، والموقف العظيم، ألا وهو اللحظة التي يقف فيها العبد بين يدي الله تعالى، ويسأل فيها عن كلِّ شيء! روي عن عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - أنَّه سمع رجلًا يقرأ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}، فقال عمر: ليتها تمَّت! وروي عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - أنَّه سمع رجلًا يتلو الآية: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}، فقال ابن مسعودٍ: يا ليتها تمَّت! فعوتب في قوله هذا، فأخذ عودًا من الأرض فقال: يا ليتني كنت مثل هذا (¬2). ¬

(¬1) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (1/ 120). (¬2) ينظر: الدر المنثور (8/ 366)، ومعنى قولهما: أي: ليت الإنسان بقي شيئًا غير مذكورٍ!

والحاصل أنَّ السلف - رضي الله عنهم - كانوا شديدي الخوف من تلك الوقفة المهيبة! وحتى يتصوَّر الإنسان هذا المعنى - من باب التقريب، وإلا فللَّه المثل الأعلى والأكمل-: ما شعور أحدنا لو استدعاه حاكمٌ من الحكَّام، وهذا الحاكم عنده تقريرٌ مفصَّلٌ بكلماته، وذهابه وإيابه، وكلِّ شيءٍ ظاهرٍ من أعماله! فكيف بالوقوف بين يدي من لا تخفى عليه خافيةٌ؟! {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18]. هنا ... يتوقَّف البيان، وينكسر القلم، وليس لنا إلا أن نسأل الله تعالى أن يمنَّ علينا بالعفو والستر، وأن يرحمنا برحمته التي وسعت كل شيءٍ. هذه بعض من مواعظ هذه الصحابيِّ الجليل أبي ذرٍّ - رضي الله عنه -، جمعنا الله به في دار كرامته وبحبوحة جنانه. * * *

من مواعظ ابن عمر رضي الله عنهما

من مواعظ ابن عمر رضي الله عنهما (1/ 4) إنَّه الصحابيُّ الجليل، والفقيه النَّبيل: عبد الله بن عمر بن الخطَّاب بن نفيلٍ العدويُّ القرشيُّ ... الإمام الزاهد العابد، أسلم وهو صغيرٌ، ثمَّ هاجر مع أبيه قبل أن يحتلم، واستُصغر يوم أحدٍ، فأوَّل غزواته الخندق، وهو ممَّن بايع تحت الشجرة. روى علمًا كثيرًا نافعًا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وعن الخلفاء الأربعة، وغيرهم من أكابر الصحابة - رضي الله عنهم -. قَدِم الشام، والعراق، والبصرة، وفارس غازيًا، وشَهِد فتح مصر. قال عن نفسه: عُرِضْتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحدٍ، وأنا ابن أربع عشرة سنةً، فلم يُجزني. مدحه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (نعم الرَّجل عبد الله، لو كان يصلِّي من اللَّيل)؛ فكان بعد لا ينام من اللَّيل إلَّا قليلًا (¬1). أثنى عليه جمعٌ من الصحابة - رضي الله عنهم -؛ كابن مسعودٍ الذي قال فيه: إنَّ من أملك شباب قريشٍ- لنفسه عن الدُّنيا - عبد الله بن عمر. ¬

(¬1) البخاري ح (1121)، مسلم ح (2479).

وقال جابرٌ - رضي الله عنه -: ما منَّا أحدٌ أدرك الدُّنيا إلا وقد مالت به، إلا عبد الله بن عمر. وقال عنه تلميذه نافعٌ: ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف إنسانٍ، أو زاد. وقال سيِّد التابعين في زمانه ابن المسيِّب: لو شهدتُّ لأحدٍ أنَّه من أهل الجنة، لشهدتُّ لعبد الله بن عمر. ومناقبه كثيرةٌ مشهورةٌ، توفِّي سنة (73هـ)، وقد عمِّر سبعًا وثمانين سنةً (¬1). ومَن صحب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءه الراشدين هذه الصحبة، فلقد وعى عنهم علمًا كثيرًا، ظهرت آثاره في حياته التي تمثَّلت الزهد والورع في أسمى مراتبه ومعانيه، كما ظهرت في مواعظه التي نقلها لنا تلاميذه النجباء، ومن تلكم المواعظ: * * * • أنَّه لمَّا أوصاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قائلًا: (كن في الدُّنيا كأنَّك غريبٌ أو عابر سبيلٍ) (¬2)، قال مترجمًا هذا المعنى: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصَّباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحَّتك لمرضك، ومن حياتك لموتك». لقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذه الوصيَّة لابن عمر وهو آخذٌ بمنكبه؛ رغبةً في رسوخها، وهكذا كان، فلقد كانت حياة ابن عمر رضي الله عنهما ترجمةً عمليَّةً لهذه الوصية، فهو الذي رأى الخلافة تنتقل من رجلٍ إلى رجلٍ- وهو ¬

(¬1) تنظر ترجمته مطولةً في: سير أعلام النبلاء (3/ 204). (¬2) البخاري ح (6416).

ينظر، وهو أحقُّ بها من بعض من أدركهم من الخلفاء- لكنَّ مفعول هذه الوصية ما زال قويًّا حتى لقي ربَّه زاهدًا عابدًا ورعًا، وراغبًا فيما عند الله، معرضًا عن هذه الدنيا إعراض القادر على نيلها وحيازتها. لقد فقه ابن عمر رضي الله عنهما هذا المعنى عمليًّا - كما تقدم - وفقهه علميًّا؛ ولذا كان يقول بعد أن روى لتلاميذه تلك الوصيَّة النبويَّة: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصَّباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحَّتك لمرضك، ومن حياتك لموتك»، وممَّن خصهم بذلك تلميذه النجيب مجاهدٌ رحمه الله حيث قال له: «يا مجاهد، إذا أصبحت فلا تحدِّث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدِّث نفسك بالصباح، وخذ من صحَّتك قبل سقمك، ومن حياتك قبل موتك؛ فإنَّك لا تدري ما اسمك غدًا!» (¬1). لقد كانت وصية ابن عمر لمجاهدٍ تفسيرًا لما سمعه من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ حتى لا يتوهَّم متوهمٌ أنَّ معنى قوله: (كن في الدُّنيا كأنَّك غريبٌ أو عابر سبيلٍ) أن يتخلَّى عن كلِّ أسباب الحياة الكريمة، وألَّا يبني له دارًا تؤويه وأهله؛ لأنَّ عابر السبيل كذلك! ولا يتَّخذ له إخوةً يجالسهم ويأنس بهم؛ لأنَّ الغريب كذلك! فبيَّن راوي الحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ هذا ليس مرادًا من قول المعصوم - عليه الصلاة والسلام- وإنَّما مراده: أن يبقى دائم التيقُّظ والترقُّب ليوم الدِّين والحساب، فمن كان كذلك، أكثر ذكر الموت؛ فأحسن السَّير إليه، واستعان بما وهبه الله من النِّعم على تحسين وقوفه هناك بين يديه. يقول ابن الجوزيِّ رحمه الله: «من الناس من يثبت الدليل، ولا يفهم المقصود الذي دلَّ عليه الدليل! ومن هذا الجنس قومٌ سمعوا ذمَّ الدُّنيا ¬

(¬1) الزهد؛ لوكبع (ص 233).

فتزهَّدوا، وما فهموا المقصود، فظنُّوا أنَّ الدُّنيا تذمُّ لذاتها، وأنَّ النفس تجب عداوتها، فحملوا على أنفسهم فوق ما يطاق، وعذَّبوها بكلِّ نوعٍ، ومنعوها حظوظها! جاهلين بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّ لنفسك عليك حقًّا)، وفيهم من أدَّته الحال إلى ترك الفرائض، ونحول الجسم، وضعف القوى! وكلُّ ذلك لضعف الفهم للمقصود، والتلمُّح للمراد» (¬1). اهـ. إذًا .. ما الزهد الذي جاءت النصوص بمدحه والثناء على أهله؟ فيقال هو: «ترك الفضول التي لا يستعان بها على طاعة الله - من مطعمٍ وملبسٍ ومالٍ وغير ذلك- كما قال الإمام أحمد: إنَّما هو طعامٌ دون طعامٍ، ولباسٌ دون لباسٍ، وصبر أيامٍ قلائل» (¬2). والعاقل هو من يدرك «أنَّه في الدُّنيا ضيفٌ، وما في يده عاريَّةٌ، وأنَّ الضيف مرتحلٌ، والعاريَّة مردودةٌ (¬3)، والدُّنيا عرضٌ حاضر، يأكل منها البرُّ والفاجر، وهي مبغَّضةٌ لأولياء الله، محبَّبةٌ لأهلها، فمن شاركهم في محبوبهم أبغضوه» (¬4). وتتجلَّى في هذه الوصيَّة من ابن عمر: أهمية قصر الأمل، وقد قيل: من قصر أمله، أكرمه الله تعالى بأربع كراماتٍ: إحداها: أن يقوِّيه على طاعته، لأنَّ العبد إذا علم أنَّه يموت عن قريبٍ ¬

(¬1) صيد الخاطر (ص 225). (¬2) مجموع الفتاوى (10/ 642) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 325): والأحاديث الموافقة لهذا كثيرةٌ، في بيان أنَّ سنَّته التي هي: الاقتصاد في العبادة، وفي ترك الشهوات خيرٌ من رهبانيَّة النَّصارى، التي هي: ترك عامة الشهوات من النكاح وغيره، والغلوُّ في العبادات صومًا وصلاةً. (¬3) إلى هنا من كلام ابن مسعود - رضي الله عنه -؛ عدة الصابرين (ص 239). (¬4) شرح الأربعين النووية، لابن دقيق العيد (ص 105).

لا يهتمُّ بما يستقبله من المكروه، ويجتهد في الطاعات؛ فيكثر عمله. والثاني: يقلُّ همومه، وهذا بيِّنٌ. والثالث: يجعله راضيًا بالقليل؛ لأنه إذا علم أنَّه يموت عن قريبٍ، فإنَّه لا يطلب الكثرة؛ وإنَّما يكون همُّه همَّ آخرته. والرابع: أن ينوِّر قلبه؛ فمن رضي بالقليل، واجتهد في العمل وأخلص، استنار قلبه بإذن ربِّه (¬1). * * * • ومن مواعظ ابن عمر رضي الله عنهما ما رواه تلميذه مجاهدٌ عنه، قال (¬2): سُئل ابن عمر عن فريضةٍ من الفرائض- أي: في علم المواريث- فقال: «لا أدري». فقيل له: ما منعك أن تجيبه؟ فقال: «سُئل ابن عمر عمَّا لا يدري، فقال: «لا أدري!». هذا والله من ثمرة العلم المزكِّي! أن يقف الإنسان حيث انتهى علمه، وألَّا يتردَّد في قول: «لا أدري» لما لا يدري؛ فإنَّ القول على الله بغير علمٍ من أعظم الذنوب وأكبرها، كما دلَّ القرآن على ذلك؛ قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، وأنت إذا تأمَّلت في هذا الأمر، وجدتَّ أنَّ المشرك إنَّما أشرك لأنَّه قال على الله بغير علمٍ! ¬

(¬1) ينظر: تنبيه الغافلين؛ للسمرقندي (ص 225). (¬2) جامع بيان العلم وفضله (2/ 835).

ويروى عن أمير المؤمنين أبي الحسن عليٍّ - رضي الله عنه - أنَّه خرج على أصحابه مرةً وهو يقول: «ما أبردها على الكبد! ما أبردها على الكبد!»، فقيل له: وما ذاك؟! قال: «أن تقول للشيء لا تعلمه: الله أعلم» (¬1). وفي مقدمة صحيح مسلمٍ: أنَّ يحيى بن سعيدٍ الأنصاريَّ قال للقاسم بن محمدٍ: يا أبا محمدٍ، إنَّه قبيحٌ على مثلك، عظيمٌ أن تُسأل عن شيءٍ من أمر هذا الدِّين، فلا يوجد عندك منه علمٌ ولا فَرَجٌ - أو علمٌ ولا مخرجٌ- فقال له القاسم: وعمَّ ذاك؟ قال: لأنَّك ابن إمامي هُدى: ابن أبي بكرٍ، وعمر! قال القاسم: أقبح من ذاك ... - عند من عقل عن الله - أن أقول بغير علمٍ، أو آخذ عن غير ثقةٍ، قال: فسكت فما أجابه (¬2). وهذا يزيد بن هرمز- شيخ الإمام مالكٍ، رحمهما الله تعالى- يقول: «إنِّي لأحبُّ أن يكون من بقايا العالم بعده: «لا أدري»؛ ليأخذ به من بعده» (¬3)؛ أي: ينبغي للعالم أن يسمع منه تلاميذه مثل هذه الكلمة: «لا أدري»؛ ليتربَّى طلابه على ذلك. إنَّ مثل هذه الموعظة العمليَّة من ابن عمر رضي الله عنهما، وما سقته من بعض آثار السلف- في هذه المسألة- لتؤكِّد ضرورة التوقِّي في هذا الباب، والحذر من الإفتاء بغير علمٍ، خاصة في هذا العصر الذي صارت المعلومة فيه تنتقل إلى الآفاق في ثوانٍ معدودةٍ. هذه بعضٌ من مواعظ هذا الصحابيِّ الجليل ابن عمر رضي الله عنهما، وما زال في كنانة أبي عبد الرحمن جملةٌ من المواعظ التي سنتوقَّف عندها. ¬

(¬1) جامع بيان العلم وفضله (2/ 836). (¬2) صحيح مسلم (1/ 16). (¬3) جامع بيان العلم وفضله (2/ 835).

من مواعظ ابن عمر رضي الله عنهما

من مواعظ ابن عمر رضي الله عنهما (2/ 4) • ومن مواعظ الصحابيِّ الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما العمليَّة: ما رواه التابعيُّ الجليل يوسف بن ماهك- بفتح الهاء (¬1) - قال (¬2): «رأيت ابن عمر- رضي الله تعالى عنه - عند عبيد بن عميرٍ وهو يقصُّ وعيناه تُهرقان دموعًا». قد يقول أحد القرَّاء: وأين الوعظ هنا؟! فيقال: أتعرف عبيد بن عميرٍ؟ إنَّه أحد التابعين! ولم يأنف ابن عمر أن يجلس عنده، وابن عمر خيرٌ وأعلم منه، لكنَّه العلم والفقه الذي قاده لأن يجلس حيث يجد النفع والفائدة. وأمَّا الجانب الآخر من هذا الموقف، فهو تأثُّره - رضي الله عنه -، وتفاعله مع هذه المواعظ التي كان يسمعها من عبيد بن عميرٍ رحمه الله. في واقعنا وللأسف، ينشأ بعض طلاب العلم، فيأنف من الجلوس في مجالس الوعظ، بحججٍ متنوِّعةٍ، ولعلَّ منها ما يزعمه أنَّه أعلم من المتحدِّث! أو ربَّما خطر في باله معنًى جاهليٌّ من النظر في الحسب والنَّسب! ¬

(¬1) هكذا ضبطها الحافظ المزِّيُّ في «تهذيبه» (11/ 421). (¬2) حلية الأولياء، وطبقات الأصفياء (1/ 305).

فإلى هؤلاء أهدي لهم هذا الموقف من ابن عمر الذي وعظ فيه بفعله. وأهدي لهم موقفًا حدث لسيِّدٍ من سادات التابعين، وهو سليل بيت النبوَّة، إنَّه زين العابدين، عليُّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالبٍ- عليهم رضوان الله- فقد كان يجالس أسلم مولى عمر، فقيل له: تدع قريشًا وتجالس عبد بني عديٍّ - لأنَّه مولى لعمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه -؟! فقال كلمةً عظيمةً تدلُّ على علوِّ كعبه في العلم والدِّين: «إنَّما يجلس الرجل حيث ينتفع» (¬1). * * * • ومن مواعظه - رضي الله عنه - قوله (¬2): «أحقُّ ما طهَّر العبد: لسانه». وهو يشير بذلك إلى كثرة ما يعلق من أوضارٍ وآثامٍ بسبب هذا اللسان، الذي كان يهاب أثره الصالحون من عباد الله. كان الصِّدِّيق - رضي الله عنه - يقول- وهو آخذٌ بلسانه:- «هذا أوردني الموارد» (¬3)، فماذا نقول نحن؟! وكان ابن مسعودٍ يقسم ويقول: «والذي لا إله إلا هو، ما على ظهر الأرض شيءٌ أحقُّ بطول سجنٍ من لسانٍ» (¬4). قال بعض السلف رحمه الله مُذكِّرًا بخطورة هذه الجارحة: ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء، ط. الرسالة (4/ 388). (¬2) الزهد؛ لابن أبي عاصم (ص27). (¬3) الزهد؛ لهناد بن السري (2/ 531). (¬4) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص162).

«وخَفْ- يا أخي - من لسانك أشدَّ من خوفك من السَّبع الضَّاري القريب المتمكِّن من أخذك؛ فإنَّ قتيل السبع من أهل الإيمان ثوابه الجنة، وقتيل اللسان عقوبته النار إلا أن يعفو الله. فأغلِق باب الكلام من نفسك بغلقٍ وثيقٍ، ثم لا تفتحه إلا فيما لابدَّ لك منه، فإذا فتحته فاحذر وخذ من الكلام حاجتك التي لابدَّ لك منها، وأغلق الباب، وإيَّاك والغفلة عن ذلك، والتَّمادي في الحديث، وأن يستبدَّ بك الكلام فتهلك نفسك، وإيَّاك والغفلة عنه؛ فإنَّه أعظم جوارحك عليك جنايةً، وأكثر ما تجد في صحيفة أعمالك يوم القيامة من الشرِّ ما أملاه عليك لسانك، وأكثر ما تجده في صحيفتك من الخير ما اكتسبه قلبك» (¬1). اهـ. وبالجملة، فشأن اللسان خطيرٌ، والعاقل من حفظه من آفاته. * * * • ومن مواعظه التي كان يربِّي بها تلاميذه: ما حدَّث به تلميذه مجاهد بن جبرٍ رحمه الله قال (¬2): كنت أمشي مع ابن عمر، فمرَّ على خربةٍ، فقال: «قل: يا خربة، ما فعل أهلك؟» فقلت: يا خربة، ما فعل أهلك؟ قال ابن عمر: «ذهبوا وبقيت أعمالهم». هذه والله حقيقة الحياة ... يعمرها أهلها ثمَّ يرحلون عنها .. وليس الشأن في الرحيل ذاته، فهذه سنَّةٌ إلهيَّةٌ، بل الشأن في كيف سيكون الرحيل! أهو على ما يرضي الله تعالى، أم على غير ذلك؟ ¬

(¬1) آداب النفوس؛ للمحاسبي (ص 43). (¬2) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص 156).

إنَّ طلب ابن عمر من تلميذه أن يسأل هذا السؤال، إنَّما أراد به أن يوقظ في قلب تلميذه هذا المعنى، الذي قد يغيب عن الإنسان مع انهماكه في الحياة وانشغاله بمتعها. مثل هذه الأسئلة كانت مادةً يعظ بها السلف أنفسهم وأصحابهم. وقد ذكر الحافظ عبد الحقِّ الإشبيليُّ رحمه الله أنَّ أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - مرَّ بالمقابر فوقف عليها، فقال: «السلام عليكم أهل الديار الموحشة، والمحالِّ المقفرة! أنتم لنا سلفٌ، ونحن لكم تبعٌ، وبكم عمَّا قليل لاحقون، اللَّهمَّ اغفر لنا ولهم، وتجاوز عنَّا وعنهم، طوبى لمن ذكر المعاد، وعمل للحساب، وقنع بالكفاف، ورضي في جميع أحواله عن الله تعالى! ثم قال: يا أهل القبور، أمَّا الزوجات فقد نُكحت، وأمَّا الديار فقد سُكنت، وأمَّا الأموال فقد قسمت! هذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟! ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما إنَّهم لو تكلَّموا لقالوا: وجدنا خير الزاد التقوى «(¬1). * * * • ومن مواعظ ابن عمر العمليَّة (¬2): أنَّه قرأ سورة المطففين حتى بلغ قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6]، فبكى وامتنع عن قراءة ما بعدها. إنَّ هذا الموقف يمثِّل نموذجًا من نماذج كثيرةٍ تحكي واقع السلف ¬

(¬1) العاقبة في ذكر الموت (ص 196). (¬2) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص 157).

- وعلى رأسهم الصحابة - رضي الله عنهم - مع كتاب الله تعالى، حيث التأثُّر الحقيقيُّ، وليس مجرد دموعٍ تنزل على الخدود، بل هو خشيةٌ تبدأ في القلب، فتترجمها الدموع والعمل. ولكأنِّي بابن عمر- وهو يتلو هذه الآية- يستشعر قيامه من قبره، حافيًا عاريًا كما خلقه الله! فهو يدرك أنَّه داخلٌ في عموم {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}. وليس هذا الموقف هو الموقف الوحيد لابن عمر مع التأثُّر بالقرآن، النابع من التدبُّر؛ بل له مع ذلك مواقف أخرى؛ منها. * ما حدَّث به نافعٌ مولى ابن عمر فقال: ما قرأ ابن عمر هاتين الآيتين قطُّ من آخر سورة البقرة إلا بكى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] إلى آخر الآية ثمَّ يقول: «إنَّ هذا لإحصاءٌ شديدٌ» (¬1). *وقال نافعٌ أيضًا: «كان عبد الله بن عمر إذا قرأ هذه الآية: {أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16]، بكى حتى يغلبه البكاء» (¬2). *وشرب عبد الله بن عمر ماءً مبردًا، فبكى فاشتدَّ بكاؤه، فقيل له: ما يبكيك؟! فقال: ذكرت آيةً في كتاب الله - عز وجل -: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54]، فعرفت أنَّ أهل النار لا يشتهون شيئًا شهوتهم الماء، وقد قال الله - عز وجل -: ... {أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف: 50] (¬3). ¬

(¬1) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص 158). (¬2) مصنف ابن أبي شيبة (7/ 118). (¬3) صفة الصفوة (1/ 220).

* بل إن نافعاً يلخِّص منهج ابن عمر في تلاوته لكتاب الله تعالى فيقول: كان ابن عمر يقرأ في صلاته فيمرُّ بالآية فيها ذكر الجنة؛ فيقف ويسأل الله الجنة، ويدعو ويبكي، ويمرُّ بالآية فيها ذكر النار؛ فيقف فيدعو ويستجير بالله - عز وجل - (¬1). وهل هذا إلا منهج أستاذه ومعلِّمه - صلى الله عليه وسلم -؟! فيا لله تلك القلوب الحيَّة .. التي تعيش مع القرآن، وتتدبَّره، وتجعله منهج ... حياةٍ ... وسلامٌ على تلك النفوس التي أعلى الله قدرها بكتابه، وتذوَّقت لذيذ خطابه! ألا ما أحوجنا إلى إعادة النظر في طريقة قراءتنا لكتاب الله! فإنَّ الله تعالى إنَّما أنزل كتابه ليتدبَّره العباد، بل إنَّ بركته العظمى لا تنال إلا بذلك؛ قال تعالى: ... {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وقال - في موضعين من كتابه:- {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ} [النساء: 82، محمد: 24]. فبالتدبُّر تُنال بركات هذا الكتاب، وبالتدبُّر تصلح القلوب، وتستقيم النفوس، ويتحقَّق مراد الله من التلاوة، التي امتدح بها طائفةً من عباده بقوله: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121]. اللَّهمَّ اجعلنا منهم يا ربَّ العالمين. هذه بعضٌ من مواعظ هذا الصحابيِّ الجليل ابن عمر رضي الله عنهما، وما زال في كِنانة أبي عبد الرحمن جملةٌ من المواعظ التي سنتوقَّف عندها في مجلسٍ قادمٍ بإذن الله. ¬

(¬1) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص 158).

من مواعظ ابن عمر رضي الله عنهما

من مواعظ ابن عمر رضي الله عنهما (3/ 4) • ومن مواعظ هذا الصحابيِّ الجليل قوله - رضي الله عنه - (¬1): «إذا طاب المكسب، زكت النَّفقة». إنها قاعدة محكمة من قواعد الإنفاق. وهي مقتبسةٌ من نور النبوة؛ فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيُّها النَّاس، إنَّ الله طيِّبٌ لا يقبل إلَّا طيِّبًا، وإنَّ الله أمر المؤمنين، بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثمَّ ذكر الرَّجل يطيل السَّفر أشعث أغبر، يمدُّ يديه إلى السَّماء: يا ربِّ يا ربِّ! ومطعمه حرامٌ، ومشربه حرامٌ، وملبسه حرامٌ، وغُذي بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟!) (¬2). «وفي هذا الحديث إشارةٌ إلى أنَّه لا يقبل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وأن أكل الحرام يفسد العمل، ويمنع قبوله» (¬3). وهذه الكلمة الواعظة من ابن عمر - رضي الله عنه - ينبغي أن يستشعرها أولئك ¬

(¬1) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص157). (¬2) مسلم ح (1015). (¬3) جامع العلوم والحكم (1/ 260).

الذين يجمعون المال من طرقٍ محرَّمةٍ- كالرِّبا، أو الرِّشوة، أو السرقة، أو الغصب، أو غيرها- ثم يتصدَّقون ببعضها ويظنُّون ذلك نافعًا أو مقبولًا! كلَّا! فالله تعالى طيِّبٌ لا يقبل إلا طيِّبًا، ولو أنفق الإنسان المليارات وهي من كسبٍ خبيثٍ، فلا يقبلها الله. ومن ابتلي بمثل هذه المكاسب المحرَّمة، فعليه أن يتخلَّص منها وفق الطريق الشرعيِّ، وحسب طريقة كسبه؛ فإنَّ المكاسب المحرمة لا تخلو من حالين: إمَّا أن تكون أعيانها محرمة - كالرِّشوة والغصب والسرقة - فهذه يجب ردُّها إلى من أخذت منه. وإمَّا أن تكون مكاسبها نتجت من معاملةٍ محرَّمةٍ- كالرِّبا- فهنا يجب التخلُّص من هذه المكاسب المحرَّمة التي طرأت، والاقتصار على رأس المال. ولا شكَّ أنَّ التخلُّص من الأموال كلَّما كثرت صار أصعب وأشدَّ، ولكنَّ المؤمن إذا تذكَّر عقوبة الله في الآخرة لمن عصاه بأكل الرِّبا، أو أكل حقوق الناس، هان عليه ما يتركه في الدُّنيا، فعذاب الآخرة أشدُّ وأعظم. إنَّ العناية بطيب المكسب ونقائه كانت قضيةً حاضرةً في منهج الأسلاف- رحمهم الله- لعلمهم اليقينيِّ بخطورتها على القلب، وعلى صحة النفقة، وربَّما على الزوجات والأولاد، حتى قال ابن رجبٍ رحمه الله: «أكل الحلال من أعظم خصائل السُّنَّة التي كان عليها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -» (¬1). ¬

(¬1) كشف الكربة (ص 22).

وسُئل الإمام أحمد رحمه الله: ما يليِّن القلب؟ فقال: «أكل الحلال» (¬1). وقال الإمام أحمد رحمه الله: «بأكل الحلال تطمئنُّ القلوب وتلين» (¬2). والمقصود من ذلك كلِّه: التوقِّي والحرص على طيب المكسب؛ لتطيب النفقة وتزكو، وتقبل عند الله تعالى. * * * * • ومن مواعظ ابن عمر - رضي الله عنه - قوله (¬3): «من استغنى بالله اكتفى، ومن انقطع إلى غير الله يعمى». يا لها من كلمةٍ جامعةٍ، ومعبِّرةٍ عن حقيقة حال القلب مع الله ومع هذه الدُّنيا! وصدق والله! فإنَّ من استغنى بالله الغنيِّ، اكتفى، أوليس الله هو الذي بيده مقاليد السماوات والأرض؟ أليس هو الذي يُعطي ويمنع؟ ويقبض ويبسط؟ ويخفض ويرفع؟ ويكشف الضُّرَّ؟ أوليست نواصي العباد بيده؟ ما بال بعض الخلق تتعلَّق قلوبهم بخلقٍ مثلهم؛ لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، حتى يملكوه لغيرهم؟! ما بال بعض الناس ربط سعادته ورزقه بمخلوقٍ مثله؟! لئن كان التعلُّق بغير الله عمًى، فالبصيرة - والله - بالتعلُّق بالله وحده. ¬

(¬1) الآداب الشرعية (3/ 277). (¬2) الآداب الشرعية (1/ 445). (¬3) الزهد الكبير؛ للبيهقي (1/ 88).

قال الإمام أحمد لرجلٍ: «لو صحَّحت، ما خِفتَ أحدًا» (¬1). والمعنى: لو صحَّحت نيَّتك، وتعلَّق قلبك حقًّا بخالقه، ما خفت؛ أي: إلا الخوف الطبيعيَّ. تذكر كتب السِّير أنَّ الإمام عفَّان بن مسلم الصَّفَّار - أحد شيوخ الإمام أحمد رحمهم الله - دُعِي إلى القول بخلق القرآن، فامتنع أن يُجيب، فقيل له: يُحبس عطاؤك! - وكان يُعطى في كلِّ شهرٍ ألف درهمٍ - فقال - وانظر إلى التعلُّق بالله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22]! قال: فلمَّا رجع إلى داره عاتبه نساؤه ومن في داره! قال: وكان في داره نحو أربعين إنسانًا! قال: فدقَّ عليه داقٌّ الباب، فدخل عليه رجلٌ ومعه كيسٌ فيه ألف درهمٍ، فقال: يا أبا عثمان، ثبَّتك الله كما ثبَّتَّ الدِّين، وهذا في كلِّ شهرٍ (¬2). الله أكبر! ينقطع عنه المال من هنا، فيجريه الله من جهةٍ أخرى، وصدق ابن عمر: «من استغنى بالله اكتفى، ومن انقطع إلى غير الله يعمى»، وقول الله أبلغ: {... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2، 3]. * * * ¬

(¬1) الآداب الشرعية (2/ 30). (¬2) تاريخ بغداد، تحقيق: بشار (14/ 201).

• ومن مواعظه العمليَّة - رضي الله عنه - (¬1): ما رواه عنه نافعٌ أنَّ رجلًا قال لابن عمر: يا خير الناس- أو يا بن خير الناس- فقال ابن عمر: «ما أنا بخير الناس، ولا ابن خير الناس، ولكنِّي عبدٌ من عباد الله، أرجو الله تعالى وأخافه، والله لن تزالوا بالرَّجل حتى تهلكوه!». هكذا يربِّي ابن عمر من يسمعه على التواضع، ويوصد أيَّ سببٍ قد يفتح عليه بابًا من العُجب أو الغرور، ولا يعدو أن يقول: «عبدٌ من عباد الله، أرجو الله وأخافه»! إنَّ من عرف عمله، وعرف ما يجب لله عليه، عرف حقيقة تقصيره. هكذا يقطع ابن عمر الطريق على المدَّاحين؛ أسوةً بهدية - صلى الله عليه وسلم - الذي كان ينهى عن المدح المبالغ فيه، ويعلِّل ابن عمر هذا فيقول: «والله لن تزالوا بالرَّجل حتى تهلكوه!». * * * • ومن مواعظ ابن عمر العمليَّة، ما حدَّث به أبو الزِّناد قال (¬2): «اجتمع في الحجر مصعب بن الزُّبير، وعروة بن الزُّبير، وعبد الله بن الزُّبير، وعبد الله بن عمر، فقالوا: تمنَّوا! فقال عبد الله بن الزبير: أمَّا أنا، فأتمنَّى الخلافة، وقال عروة: أمَّا أنا، فأتمنَّى أن يؤخذ عنِّي العلم، وقال مصعبٌ: أمَّا أنا، فأتمنَّى إمرة العراق، والجمع بين عائشة بنت طلحة وسُكينة بنت الحسين، وقال عبد الله بن عمر: «أمَّا أنا، فأتمنَّى المغفرة»، قال: فنالوا كلُّهم ما تمنَّوا، ولعلَّ ابن عمر قد غفر له». ¬

(¬1) حلية الأولياء (1/ 307). (¬2) حلية الأولياء (1/ 309).

كم في هذه الأمنيَّة من وعظٍ! كم تتنوَّع الأماني! وتختلف الرغبات وتتفاوت! فتأتي أمنيَّة ابن عمر هذه لتكون بذاتها موعظةً بليغةً، في بيان حقيقة هذه الدُّنيا عنده، ولعلَّه نال ما تمنَّاه كما قال أبو الزناد. ولنختم بتلك الدعوات التي رويت عن ابن عمر رضي الله عنهما: «اللَّهمَّ اعصمني بدينك وطواعيتك وطواعية رسولك، اللَّهمَّ جنِّبني حدودك، اللَّهمَّ اجعلني ممَّن يحبُّك، ويحبُّ ملائكتك، ويحبُّ رسلك، ويحبُّ عبادك الصالحين، اللَّهمَّ حبِّبني إليك، وإلى ملائكتك، وإلى رسلك، وإلى عبادك الصَّالحين، اللَّهمَّ يسِّرني لليسرى، وجنِّبني العسرى، واغفر لي في الآخرة والأولى، واجعلني من أئمَّة المتَّقين، اللَّهمَّ إنك قلت: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وإنَّك لا تخلف الميعاد، اللَّهمَّ إذ هديتني للإسلام، فلا تنزعني منه، ولا تنزعه منِّي؛ حتَّى تقبضني وأنا عليه» (¬1). ولمواعظ هذا الصحابيِّ الجليل ابن عمر رضي الله عنهما بقيةٌ نستكملها في المجلس القادم. * * * ¬

(¬1) حلية الأولياء (1/ 308).

من مواعظ ابن عمر رضي الله عنهما

من مواعظ ابن عمر رضي الله عنهما (4/ 4) • ومن مواعظه قوله - رضي الله عنه - (¬1): «لقد عشنا برهةً من دهرنا وإنَّ أحدنا يُؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد - صلى الله عليه وسلم - فيتعلَّم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يُوقف عنده فيها كما تعلَّمون أنتم القرآن»، ثمَّ قال: «لقد رأيت رجالًا يُؤتى أحدهم القرآن فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه، ينثره نثر الدَّقل!». يا لها من موعظةٍ بليغةٍ! وصفت الداء والدواء، وبيَّنت شيئًا من علل المسلمين مع كتاب الله تعالى. وإنَّها لموعظةٌ خليقةٌ بالتأمَّل والاعتبار؛ فهي صادرةٌ عن مُعايشٍ لأوائل التنزيل، ومُشاهدٍ بل ومُدركٍ لما وقع من تغيُّرٍ في حال الأمَّة مع كتاب ربِّها بعد وفاة نبِّيها - صلى الله عليه وسلم -، وبعد انتهاء الخلافة الراشدة. يُوضِّح ابن عمر في هذه الموعظة الطريقة الصحيحة لتلقِّي هذا القرآن، وهي: تلقِّي الآيات والمعاني التي تزيد الإيمان في القلب، فإنَّ ¬

(¬1) رواه ابن منده في الإيمان (1/ 369) ح (207)، والحاكم في المستدرك (1/ 91)، والبيهقي في «الكبرى» (3/ 171)، قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا أعرف له علة، ولم يخرجاه».

الإيمان إذا وقر في القلب (¬1)، سهل عليه بعد ذلك أن يتلقَّى التكاليف مهما عظمت. لقد كانت أصول هذه التربية قائمةً على التربية على الإيمان بالله وتوحيده، وتوقير رسوله - صلى الله عليه وسلم - ونُصرته، والتعلُّق بالآخرة؛ من خلال تدبُّر آيات الله تعالى، والعيش معها، وتلقِّي رسالات الله تلقِّي السعيد بها، المُغتبط بمضامينها، المستعدِّ لتنفيذها. فإن أردتَّ مثالًا يُوضِّح المراد، فتأمَّل في آثار التربية النبويَّة للصحابة - رضي الله عنهم - في مكة وأوائل قدومه المدينة- قبل أن تكثر الشرائع والأحكام الفقهيَّة- فلمَّا وقعت غزوة بدرٍ على غير ميعادٍ، بل ونفوس بعض الصحابة كارهةٌ للقتال، ومع هذا كلِّه ظهرت آثار تلك التربية الإيمانيَّة العظيمة؛ في بسالة الصحابة وبطولاتهم، وإظهار النصرة لله ورسوله قولًا وعملًا. ثمَّ بعد ذلك تنزَّلت الشرائع، وأحكام الحلال والحرام؛ فتلقَّتها النفوس المؤمنة، التي تربَّت على الانقياد والتسليم، كما قال تعالى: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]، فكان الصحابة - رضي الله عنهم - أسرع الناس استجابةً، وأبعدهم عن التباطؤ في التنفيذ. فما الذي حدث بعد ذلك؟ يشخِّص ابن عمر المشكلة بقوله: «لقد رأيت رجالًا يؤتى أحدهم ¬

(¬1) النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 213): «أي: سكن فيه وثبت؛ من الوقار الحلم والرَّزانة».

القرآن فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه، ينثره نثر الدَّقل!». هذه المشكلة- التي ذكرها ابن عمر- اتَّفق عليها عددٌ من الصحابة الذين طالت حياتهم، وأدركوا الفتوحات، وكثرة دخول الناس في الإسلام- خاصةً من الأعاجم - وممَّن وافقه عليها: ابن مسعودٍ، وجندب بن عبد الله، وغيرهما. ففي الصحيحين: أنَّ رجلًا قال لابن مسعودٍ: إنِّي لأقرأ المفصَّل في ركعةٍ! فقال عبد الله: «هذًّا كهذِّ الشِّعر! إنَّ أقوامًا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع» (¬1). ويقول جندب بن عبد الله - رضي الله عنه -: كنَّا مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ونحن فتيانٌ حزاورةٌ (أي: أشدَّاء أقوياء) «فتعلَّمنا الإيمان قبل أن نتعلَّم القرآن، ثمَّ تعلَّمنا القرآن، فازددنا به إيمانًا» (¬2). والشاهد من هذا بيان منهج الصحابة - رضي الله عنهم - في تلقِّي هذا القرآن، والحرص على تطبيقه في الأمة؛ لمن أحبَّ السَّير على منهجهم، والنجاة في الدُّنيا والآخرة. إنِّني أدعو إخواني- من أولياء الأمور في بيوتهم - لتطبيق هذا المنهج النبويِّ الذي ربَّى به - صلى الله عليه وسلم - أصحابه - رضي الله عنهم -، بل هو المنهج الربانيُّ الذي ربَّى به الله تعالى نبيَّه - صلى الله عليه وسلم -، وأعني به التربية بالإيمان قبل القرآن، بأن يحرص المربِّي على غرس المعاني الكبار، وهي: توحيد الله ¬

(¬1) البخاري ح (775)، مسلم ح (822) واللفظ له. (¬2) سنن ابن ماجه ح (61).

وطاعته، وطاعة رسوله ومحبته، والتذكير الدائم - وبأساليب القرآن- بالدار الآخرة. إنَّني واثقٌ أنَّ سلوك هذا المنهج النبويِّ سوف يختصر مسافاتٍ كبيرة في التربية، وسيكون من أعظم الزاد في الدُّنيا ويوم المعاد. * * * * • ومن مواعظ ابن عمر رضي الله عنهما قوله (¬1): «لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصَّدر». هذه الموعظة قبسةٌ من ميراث النبوة- على صاحبها أفضل الصلاة والسلام- التي قرَّر فيها قاعدةً مُحكمةً من قواعد الدِّين بقوله: (إنَّ الحلال بيِّنٌ، وإنَّ الحرام بيِّنٌ، وبينهما مُشتبهاتٌ لا يعلمهنَّ كثيرٌ من النَّاس، فمن اتَّقى الشُّبهات، استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشُّبهات، وقع في الحرام ...) الحديث (¬2). والمراد بالمشتبه: هو الذي يقع فيه خلافٌ معتبرٌ بين العلماء في حلِّه وحرمته، أو يكون فيه شبهةٌ معتبرةٌ شرعًا في حلِّه وحرمته، كما يقع في بعض المكاسب التي يتعاطاها الناس؛ كالمساهمة في الشركات المختلطة، ونحو ذلك من المعاملات التي يتجاذبها أصل تحليلٍ وأصل تحريمٍ، ومثل: شرب أو أكل ما اختلف في حلِّه وحرمته من المطعومات والمشروبات، ومثل بعض صور الأنكحة المختلف فيها. فمن تركها (فقد استبرأ لدينه وعرضه)، وهو أصلٌ كبيرٌ في طلب ¬

(¬1) رواه البخاري، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بني الإسلام على خمسٍ) (1/ 10). (¬2) البخاري ح (52)، مسلم ح (1599) واللفظ له.

البراءة للدِّين والعرض، الذي قد يلحقه طعنٌ فيهما بسبب تقحُّمه لموارد الشُّبه! وهو الذي عناه ابن عمر في موعظته هذه. وهذا المعنى، ورد فيه الحديث المشهور: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (¬1) وهو مع ما فيه من كلامٍ من جهة إسناده؛ إلا أنَّه معنًى اتَّفق الصحابة عليه. ومن المهمِّ جدًّا- ونحن نتحدَّث عن الورع- أن نذكر ضابطه؛ حتى لا يختلَّ الميزان، ومن أحسن من وقفت على كلامٍ له في هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث يقول: «الورع المشروع هو: الورع عمَّا قد تخاف عاقبته، وهو ما يعلم تحريمه، وما يشكُّ في تحريمه، وليس في تركه مفسدةٌ أعظم من فعله - مثل محرَّمٍ معيَّنٍ- مثل: من يترك أخذ الشُّبهة ورعًا مع حاجته إليها، ويأخذ بدل ذلك محرَّمًا بيِّنًا تحريمه! أو يترك واجبًا، تركه أعظم فسادًا من فعله مع الشُّبهة؛ كمن يكون على أبيه أو عليه ديونٌ هو مطالبٌ بها، وليس له وفاءٌ إلا من مالٍ فيه شبهةٌ، فيتورَّع عنها ويدع ذمَّته أو ذمَّة أبيه مرتهنةً!» (¬2). اهـ. وبالجملة، فإنَّ الدِّين عظيمٌ، والحرص على سلامته علامة توفيقٍ وإيمانٍ، والتهاون في باب الورع يوشك أن يُوقع في الحرام مع مرور الزمن؛ ولهذا كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إنِّي لأحبُّ أن أدع بيني وبين الحرام سُترةً من الحلال لا أخرقها. ¬

(¬1) رواه الترمذي ح (2518)، والنسائي ح (5711)، وينظر في تفصيل الكلام عليه: «جامع العلوم والحكم»؛ للحافظ ابن رجب (1/ 277) ح (11). (¬2) مجموع الفتاوى (10/ 511).

وقال الحسن البصريُّ: ما زالت التقوى بالمتَّقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال؛ مخافة الحرام. وقال سفيان بن عيينة: لا يصيب عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزًا من الحلال، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه (¬1). ألا ما أحوج الأمة إلى أئمةٍ في الورع مع تنامي وكثرة موارد الشُّبه؛ ليقتدي بهم الناس، وليروا جميل أفعالهم، كما سمعوا الجميل من أقوالهم! رضي الله عن الصحابيِّ الجليل، الإمام الورع الزاهد أبي عبد الرحمن، عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وجزاه الله عنَّا وعن الإسلام وأهله خير الجزاء. * * * ¬

(¬1) ينظر في هذه النقول وغيرها: كتاب «الورع»؛ للمروذي، (ص 59) وما بعدها.

من مواعظ أبي بن كعب رضي الله عنه

من مواعظ أبيِّ بن كعبٍ - رضي الله عنه - (1/ 2) إنَّه أحد تلاميذ المدرسة النبويَّة النُّجباء، كان يلقَّب بـ (سيِّد القرَّاء)، ويُكنَّى أبا المنذر، أبيُّ بن كعب بن قيس بن عبيدٍ، الأنصاريُّ، النَّجَّاريُّ، المدنيُّ، المقرئ، البدريُّ. شهد العقبة، وبدرًا، وجمع القرآن في حياة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وعرض على النبيِّ - عليه الصلاة والسلام- وحفظ عنه علمًا مباركًا، وكان رأسًا في العلم والعمل. ومن أجلِّ مناقبه: أنَّ الله تعالى أمر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن يقرأ عليه القرآن، وتحديدًا سورة البيِّنة، كما ثبت ذلك في الصحيح، فلمَّا قال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك، بكى (¬1)، وحُقَّ له ذلك. وسأله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مرةً: (أيُّ آيةٍ من كتاب الله معك أعظم؟)، فقال: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، فضرب النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في صدره ¬

(¬1) البخاري ح (3809)، مسلم ح (799).

وقال: (ليهنك العلم أبا المنذر!) (¬1). وثبت في البخاريِّ أنَّه أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حيٌّ، وكلُّهم من الأنصار. كان أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - يجلُّه، ويعرف له فضله وعلمه، توفِّي - رضي الله عنه - سنة عشرين للهجرة، وقيل غيرها (¬2). * * * • لقد نقل لنا الأئمة عن هذا الصاحب الجليل جملةً من المواعظ؛ منها (¬3): أنَّ رجلًا قال لأبيِّ بن كعبٍ: عظني، ولا تكثر عليَّ فأنسى، فقال له: «اقبل الحقَّ ممَّن جاءك به وإن كان بعيدًا بغيضًا، واردد الباطل على من جاءك به وإن كان حبيبًا قريبًا»، قال: «وآخ الإخوان على قدر تقواهم، ولا تغبط الحيَّ إلا بما تغبط الميِّت» هذه الموعظة تشكل منهجًا متينًا في التعامل مع الأقوال لا القائلين، فإنَّ عموم الناس يربطون بين الأمرين! وهذا غلطٌ؛ لأنَّ الحقَّ يجب قبوله لكونه حقًّا، أمَّا القائل، فشأنٌ آخر. والعكس كذلك؛ فإنَّ من الناس من إذا أحبَّ أحدًا قَبِلَ ما يأتي به وإن كان باطلًا! وهذا غلطٌ وخللٌ، فإنَّ الباطل يُردُّ لأنَّه باطلٌ، بغضِّ النظر عمَّن أتى به. ومن أعظم الشواهد على هذا المعنى، ما أرشدت إليه آية سورة ¬

(¬1) مسلم ح (810). (¬2) تنظر ترجمته مطولة في: سير أعلام النبلاء (1/ 389). (¬3) حلية الأولياء (9/ 121).

الأعراف، قال تعالى عن المشركين: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَامُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]، فتأمَّل كيف صدَّق القرآن كلمتهم في كونهم وجدوا آباءهم عليها، دون قولهم: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} فقد ردَّها الله عليهم. فإذا كان ربُّ العزَّة قد أقرَّ هؤلاء على قولهم مع كفرهم؛ فمن دون ذلك وما دونه من باب أولى. وفي صحيح البخاريِّ، لمَّا جاء الشيطان إلى أبي هريرة - رضي الله عنه - في صورة رجلٍ يسأل الصدقة، ثلاث ليالٍ، وفي كلِّ مرةٍ يُهدِّده بالرفع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: دعني أعلِّمك كلماتٍ ينفعك الله بها، قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسيِّ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، حتى تختم الآية؛ فإنَّك لن يزال عليك من الله حافظٌ، ولا يقربنَّك شيطانٌ حتى تصبح، فخلَّيت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما فعل أسيرك البارحة؟)، قلت: يا رسول الله، زعم أنَّه يعلِّمني كلماتٍ ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: (ما هي؟)، قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسيِّ من أولها حتى تختم الآية: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظٌ، ولا يقربك شيطانٌ حتى تصبح - وكانوا أحرص شيءٍ على الخير- فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أما إنَّه قد صدقك وهو كذوبٌ، تعلم من تُخاطب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة؟)، قال: لا، قال (ذاك شيطانٌ!) (¬1). ¬

(¬1) البخاري ح (2311).

فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يربِّي أمَّته على قبول الحقِّ وإن جاء من الشيطان، فكيف بغيره؟! فقال: (أما إنَّه قد صدقك وهو كذوبٌ). وعلى هذا المنهج- وهو قبول الحقِّ ممَّن جاء به- سار أئمة العلم والعمل؛ لأنَّ قبول الحقِّ ممن جاء به، وردَّ الباطل ممَّن جاء به- هو علامة التجرُّد. أتى رجلٌ ابن مسعود - رضي الله عنه - فقال له: إنِّي منطلقٌ، فزوِّدني؟ فقال له: «اقبل الحقَّ من البغيض البعيد، وأنكر المنكر على الحبيب القريب» (¬1). وقد سُئل الفضيل بن عياضٍ عن التواضع، فقال: «يخضع للحقِّ وينقاد له، ويقبل الحقَّ من كلِّ من يسمعه منه» (¬2). وأمَّا الجزء الثاني من موعظة أُبيٍّ - رضي الله عنه -، فهو قوله: «وآخ الإخوان على قدر تقواهم، ولا تغبط الحيَّ إلا بما تغبط الميِّت». وهذه الوصية مقتبسةٌ من نور القرآن الكريم؛ فإنَّ كلَّ الصداقات الدُّنيويَّة ستنقلب يوم القيامة إلى عداوةٍ، كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]. وأمَّا قوله: «ولا تغبط الحيَّ إلا بما تغبط الميِّت»؛ أي: انظر ما الذي يُغبط به الميِّت؟ والجواب بلا ريبٍ: هو العمل الصالح، فكذلك: إذا رأيت على أحدٍ نعمةً دنيويَّةً، أو مالًا، أو جاهًا، أو غير ذلك ممَّا يُغبط به الأحياء، فتذكَّر ما الذي يُغبط به هذا الإنسان لو مات الآن؟!. إنَّها تربيةٌ عمليَّةٌ نفسيَّةٌ من هذا الإمام الجليل أُبيِّ بن كعبٍ - رضي الله عنه - ¬

(¬1) ترتيب الأمالي الخميسية؛ للشجري (2/ 433). (¬2) شعب الإيمان (10/ 510).

في التعامل مع جواذب الدُّنيا، وفِتَنها التي تأسر لُبَّ الأكثرين، ولا يتفطَّن لحقيقتها إلا أولو العلم والإيمان، كما قال سبحانه- في شأن قارون، وكيف تصدَّى أهل العلم لبيان فتنة غِناه، الذي بهر عقول الكثيرين-: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 79، 80]. فيا كلَّ أخٍ وأختٍ فاته من الدُّنيا ما فاته! وتطلَّعت نفسه لما في أيدي الأغنياء، أو تصدَّع فؤاده على ما يراه في أيدي الأثرياء، تذكَّر هذه الحقيقة: «ولا تغبط الحيَّ إلا بما تغبط الميِّت»، واعلم أنَّ الدُّنيا لو كانت كريمةً على الله، لما زواها عن أحبِّ الخلق إليه؛ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعن عامَّة أوليائه. وفي الوقت ذاته، فإنَّ حيازة الدُّنيا ليست مذمومةً مُطلقًا- كما تقدَّم - وإنَّما تُذُّم إذا ألهت عن واجبٍ، أو أدَّت إلى الوقوع في المنهيَّات؛ ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا حسد إلَّا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء اللَّيل وآناء النَّهار، ورجلٌ آتاه الله مالًا فهو ينفقه آناء اللَّيل وآناء النَّهار) (¬1). ومن أراد أن يقرأ درسًا في الزهد الحقيقيِّ مع توافر الدُّنيا مع العبد، فليتدبَّر قصة نبيِّ الله سليمان - عليه الصلاة والسلام- وخاصةً في سورة (ص)، ففيها دروسٌ وعبرٌ. والمقصود أنَّ الموفَّق من عرف حقيقة الدُّنيا؛ فزهد فيها الزهد ¬

(¬1) البخاري ح (7529)، مسلم ح (815).

الحقَّ، وأخرجها من قلبه، واستخدمها ولم يخدمها، وجعلها مطيَّةً للآخرة. هذه موعظةٌ بليغةٌ من مواعظ الصحابيِّ الجليل أُبيِّ بن كعبٍ - رضي الله عنه -، والحديث موصولٌ - بإذن الله- مع بعض مواعظه التي سنتوقَّف عندها في المجلس القادم. * * *

من مواعظ أبي بن كعب رضي الله عنه

من مواعظ أُبيِّ بن كعبٍ - رضي الله عنه - (2/ 2) • ومن مواعظ سيِّد القرَّاء، أبي المنذر - رضي الله عنه -: قوله (¬1): «تعلَّموا العلم واعملوا به، ولا تتعلَّموه لتتجمَّلوا به؛ فإنَّه يوشك- إن طال بكم زمانٌ- أن يُتجمَّل بالعلم كما يتجمَّل الرَّجل بثوبه!». هكذا يوصي هذا العالم بهذه الوصيَّة، ويعظ بهذه الموعظة؛ مذكِّرًا بالغاية التي لأجلها يتعلَّم العلم، ويراد من طلبه. ولكأنَّما كان أُبيُّ بن كعبٍ ينظر إلى الغيب من سترٍ رقيقٍ، حين وصف حال طائفةٍ من الناس، همُّه في الطلب أن يتجمَّل به في المجالس، أو ليتصدَّر فيها، أو ليشار إليه، أو ليصرف وجوه الناس إليه - نعوذ بالله من ذلك! ولأجل هذا تتابعت كلمات السلف الصالح في تقرير هذا المعنى - أعني: الإخلاص في طلب العلم، وقصد العمل به- نصحًا للأمَّة، ولخاصَّتها من طلاب العلم وشداته. يقول عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه -: «إنَّ الناس أحسنوا القول كلُّهم، فمن وافق قوله فعله، فذلك الذي أصاب حظَّه، ومن خالف قوله فعله، فإنَّما يوبِّخ نفسه». ¬

(¬1) جامع بيان العلم وفضله (1/ 693).

ورُوي عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنَّه قال: «يا حملة العلم، اعملوا به؛ فإنَّما العالم من علم ثم عمل، ووافق عمله علمه، وسيكون أقوامٌ يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم! تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يقعدون حِلقًا فيباهي بعضهم بعضًا، حتى إنَّ الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه! أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله - عز وجل -». وقال مالكٌ: بلغني عن القاسم بن محمدٍ أنَّه قال: «أدركت الناس وما يعجبهم القول؛ إنَّما يعجبهم العمل». ويُروى أنَّ سفيان الثَّوريَّ رحمه الله كان ينشد متمثِّلًا: إذا العلم لم تعمل به كان حجَّةً ... عليك ولم تعذر بما أنت جاهله فإن كنت قد أوتيت علمًا فإنَّما ... يصدِّق قول المرء ما هو فاعله (¬1) والمأثور عن السلف في هذا الباب أكثر من أن يُحصر، والموفَّق من نفعه الله بقليل التذكرة عن طويلها. * * * • ومن مواعظ أُبيِّ بن كعبٍ - رضي الله عنه - قوله (¬2): «المؤمن بين أربعٍ: إن ابتُلي صبر، وإن أعطي شكر، وإن قال صدق، وإن حكم عدل». وأصل هذه الموعظة من أُبيِّ بن كعبٍ - رضي الله عنه -، جاءت في سياق تفسيره لقول الله تعالى في سورة النور: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ ¬

(¬1) ما سبق من آثار عن السلف ينظر فيه: جامع بيان العلم وفضله (1/ 698). (¬2) حلية الأولياء (1/ 255).

نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35]. قال - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ}: «مثل المؤمن قد جعل الإيمان والقرآن في صدره كمشكاةٍ، قال: المشكاة: صدره»، {فِيهَا مِصْبَاحٌ} قال: «والمصباح: القرآن والإيمان الذي جعل في صدره»، {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} قال «والزجاجة: قلبه»، {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} قال: «فمثله ممَّا استنار فيه القرآن والإيمان كأنَّه كوكبٌ دُرِّيٌ: مُضِيءٌ». {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} والشجرة المباركة: الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له. {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} قال: «فمثله مثل شجرةٍ التفَّ بها الشجر، فهي خضراء ناعمةٌ، لا تصيبها الشمس على أيِّ حالٍ كانت، لا إذا طلعت ولا إذا غربت، وكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يصيبه شيءٌ من الغِيَر، وقد ابتلى بها، فثبَّته الله فيها، فهو بين أربع خلالٍ: إن أعطي شكر، وإن ابتُلي صبر، وإن حكم عدل، وإن قال صدق؛ فهو في سائر الناس كالرجل الحيِّ يمشي في قبور الأموات. قال: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} فهو يتقلَّب في خمسةٍ من النور: فكلامه نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة في الجنة» (¬1). ¬

(¬1) تفسير الطبري (17/ 302).

نسأل الله أن يجعلنا ممَّن نوَّر الله بصائرهم وأقوالهم وأعمالهم. * * * • ومن مواعظ أُبيِّ بن كعبٍ - رضي الله عنه - قوله (¬1): «عليكم بالسَّبيل والسُّنَّة، وإنَّ اقتصادًا في سنَّةٍ وسبيل، خيرٌ من اجتهادٍ في غير سنَّةٍ وسبيل، فانظروا أعمالكم؛ فإن كانت اقتصادًا واجتهادًا، فلتكن على منهاج الأنبياء وسُنَّتهم». صدق أُبيٌّ - رضي الله عنه -! «وإنَّ اقتصادًا في سنَّةٍ وسبيل، خيرٌ من اجتهادٍ في غير سنَّةٍ وسبيل». ذلك أنَّ طريق التعبُّد لله تعالى موقوفٌ على الدليل الهادي، وهذا لا يكون إلا بنصٍّ من كتابٍ أو سنَّةٍ، فوجب الاقتصار عليهما. ولو فتح باب الاجتهاد في هذه الأبواب، لتشتَّت الناس، ولأصبح لكلِّ منهم طريقٌ يتعبَّد لله به، ولاقتحم من شاء أن يقتحم جناب الشريعة، وصار كلُّ من شاء أن يُشرِّع شرَّع! ولذهبت حكمةٌ ومقصدٌ من أعظم مقاصد الشرع، وهو: جمع الناس في عبادة ربِّهم. ولهذا تواردت كلمات السلف في تقرير هذا المعنى؛ فعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: «اقتصادٌ في سُنَّة، خيرٌ من اجتهادٍ في بدعة، وكلُّ بدعةٍ ضلالةٌ» (¬2). ورُوي عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: «اقتصادٌ في سُنَّة خيرٌ من اجتهادٍ في بدعة؛ إنَّك أن تتَّبع، خيرٌ من أن تبتدع، ولن تخطئ الطَّريق ما ¬

(¬1) مصنف ابن أبي شيبة (7/ 224) باختصار. (¬2) السُّنَّة، للمروزي (ص 30).

اتَّبعت الأثر» (¬1). ولهذا؛ كان من فقه الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز أنَّه كتب إلى الناس: «أنَّه لا رأي لأحدٍ مع سُّنَّةٍ سنَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (¬2). ولو أنَّ الذين ابتدعوا ما ابتدعوا في دين الله بزعم تقريب الدِّين للناس- وتحبيبهم فيه- راعوا هذه القاعدة، لعلموا أنَّهم مخطئون، قد فتحوا على الأمَّة أبوابًا من الاجتهادات الباطلة، التي زادت الأمة فُرقةً وشتاتًا، حتى إنَّ الإنسان المتأمِّل ليجد في مخالفة هذه الموعظة أثر قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام: 159]، فكم تفرَّقت الأمَّة بسبب هذه البدع، كلٌّ يدَّعي أنَّه مصيبٌ، وأنَّه يُريد تعبيد الناس لله بطريقته التي اخترعها! ولقد رأيت بنفسي في بعض البلاد الإسلاميَّة كيف صدَّعت هذه البدع جدار جماعة المسلمين في أقدس البقاع، وهي المساجد، التي شرعت الجماعة فيها لأجل جملةٍ من المقاصد؛ منها: الاجتماع، فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله! * * * • ومن مواعظه - رضي الله عنه - أنَّه قال لرجلٍ طلب منه الوصيَّة (¬3): «اتَّخذ كتاب الله إمامًا، وارض به قاضيًا وحكمًا؛ فإنَّه الذي استخلف فيكم رسولكم، شفيعٌ مُطاعٌ، وشاهدٌ لا يُتَّهم، فيه ذكركم وذكر من قبلكم، وحكم ما بينكم، وخبركم وخبر ما بعدكم». سبحان الله! ما أجمل هذه الوصايا، وأنفعها على اختصارها! ¬

(¬1) السُّنَّة؛ للمروزي (ص32). (¬2) السُّنَّة؛ للمروزي (ص31). (¬3) حلية الأولياء (1/ 253).

كم هو جميلٌ أن نُضمِّن وصايانا التي نكتبها لمن بعدنا- وكذلك لمن يستوصينا- أمثال هذه الجمل المختصرة، والمعاني الجليلة؛ فإنَّ الإنسان إذا ألقى هذه الكلمات الطيِّبة، فيُوشك أن تُنبت الثمر الطيِّب ولو بعد حينٍ. * * *

من مواعظ سلمان الفارسي رضي الله عنه

من مواعظ سلمان الفارسيِّ - رضي الله عنه - (1/ 3) أحد تلاميذ المدرسة النبويَّة النجباء، كان لبيبًا، حازمًا، من عقلاء الرجال، وعُبَّادهم، ونُبلائهم. كان من الباحثين عن الحقيقة، طاف بلدانًا كثيرةً من أجل البحث عن الإسلام؛ حتى هداه الله تعالى للقُيَا نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -، وكانت أول مغازيه معه غزوة الخندق. آخى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أبي الدرداء، وعاش حياة الزهد، وكان مُتقلِّلًا من الدُّنيا، عابدًا، لَقِيَ ربَّه في خلافة عثمان، وهو قريبٌ من الثمانين - على الصحيح من أقوال المحقِّقين في وفاته - إنَّه سلمان الخير، سابِقُ الفرس إلى الإسلام: سلمان الفارسيُّ - رضي الله عنه - (¬1). إنَّ حياة سلمان وقربه من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أثَّرت فيه تأثيرًا علميًّا وعمليًّا؛ حتى شهد له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالفقه، وظهر أثر هذا في مواعظه التي نحاول تفيُّؤ بعض ظلالها؛ لعلَّنا ننتفع بها .. ... ¬

(¬1) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء، ط. الرسالة (1/ 505).

• ومن تلكم المواعظ قوله - رضي الله عنه - (¬1): «إنَّ العلم كثير، والعمر قصير؛ فخذ من العلم ما تحتاج إليه في أمر دينك، ودع ما سواه فلا تُعانه». وهذه الوصيَّة الذهبيَّة من أهمِّ ما يحتاجه طلاب العلم، والذين حبِّبت لهم القراءة، ولديهم نَهَمٌ في التوسُّع في الاطِّلاع، والرغبة في التفوُّق في عدَّة تخصُّصاتٍ! وإذا كان سلمان يقول مثل هذه في زمانه؛ فكيف لو رأى كثرة العلوم في عصورنا المتأخِّرة، وتنوُّع المعارف، ودقَّة التخصُّصات، وكثرة المشاغل؟! وما أجمل ما وعظ به سلمان صاحبه، بأنَّ ما لا تحتاجه في أمر دينك فلا تُعانه! وأقول: وما لا تحتاجه في أمر دُنياك - إن كان التخصُّص الذي تطلبه دنيويًّا- فأردأ العلوم هو ما لا ثمرة له ولا نفع في دينٍ ولا دنيا. وقد جلَّى ابن الجوزيِّ في «صيد الخاطر» بعض هذه المعاني حين قال: «رأيت الشَّره في تحصيل الأشياء يفوِّت الشَّره عليه مقصوده! وكذلك رأينا خلقًا كثيرًا يحرصون على جمع الكتب، فينفقون أعمارهم في كتابتها! فإن قال قائلٌ: أليس في الحديث: «منهومان لا يشبعان: طالب علمٍ، وطالب دنيا»؟ (¬2). ¬

(¬1) حلية الأولياء (1/ 189). (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير ح (10388)، وضعَّف إسناده العراقيُّ في تخريج أحاديث الإحياء (ص 1142)، والهيثمي في مجمع الزوائد برقم (571).

قلت: أمَّا العالم، فلا يقال له: اشبع من العلم، ولا اقتصر على بعضه، بل أقول له: قدِّم المهمَّ؛ فإنَّ العاقل من قدَّر عُمره وعمل بمقتضاه، وإن كان لا سبيل إلى العلم بمقدار العمر! غير أنَّه يبني على الأغلب ... إلى أن قال: فإذا علم العاقل أنَّ العمر قصير، وأن العلم كثير، فقبيحٌ بالعاقل، الطالب لكمال الفضائل، أن يتشاغل بالمفضول عن الفاضل (¬1) ... وينبغي لمن له أنفةٌ أن يأنف من التقصير الممكن دفعه عن النفس، وأن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن لها في العلم والعمل» (¬2). * * * • ومن مواعظ سلمان - رضي الله عنه - قوله - في التحذير من كثرة الكلام (¬3): «أكثر الناس ذنوبًا يوم القيامة، أكثرهم كلامًا في معصية الله». ولعلَّ سلمان - رضي الله عنه - أخذ هذا المعنى من قوله - صلى الله عليه وسلم - في وصيَّته لمعاذٍ - رضي الله عنه - بالحذر من لسانه: (كُفَّ عليك هذا)، فقلت: يا نبيَّ الله، وإنَّا لمؤاخذون بما نتكلَّم به؟! فقال: (ثكلتك أُمُّك يا معاذ، وهل يكُبُّ النَّاس في النَّار على وجوههم- أو على مناخرهم - إلَّا حصائد ألسنتهم) (¬4). ودخل في قول سلمان - رضي الله عنه -: (أكثر الناس ذنوبًا يوم القيامة، أكثرهم كلامًا في معصية الله) كلُّ معاصي اللِّسان، وما أكثرها! فالغيبة، والنميمة، والكذب، والسُّخرية، وغيرها- من آفات اللسان! ¬

(¬1) ذكر نماذج كثيرةً من واقع عصره، اختصرتها في هذه الكلمات، ومن أحبَّ التفصيل، فليرجع للكتاب. (¬2) صيد الخاطر (125). (¬3) مصنف ابن أبي شيبة (7/ 120). (¬4) سنن الترمذي ح (2616) وقال: حسن صحيح.

ومن تأمَّل في الغيبة فقط، أدرك حقيقة هذا المعنى! يقول ابن الجوزيِّ رحمه الله: «فكم أفسدت الغيبة من أعمال الصالحين! وكم أحبطت من أجور العامِلِين! وكم جلبت من سخط ربِّ العالمين! فالغيبة فاكهة الأرذلين، وسلاح العاجزين، مُضغةٌ طالما لفظتها ألسنة المتَّقين، ونَغمةٌ طالما مجَّتها أسماع الأكرمين» (¬1). فالله الله أيُّها الإخوة .. لنجتهد في حفظ ألسنتنا من آفاتها، خاصةً الغيبة التي أحرقت من الحسنات ما شاء الله أن تُحرق! وليحذر العبد من اعتيادها؛ فإنَّ المعاصي اللسانيَّة «إذا صارت معتادةً للعبد، فإنه يعزُّ عليه الصبر عنها؛ ولهذا تجد الرجل يقوم الليل، ويصوم النهار، ويتورَّع من استناده إلى وسادة حريرٍ لحظةً واحدةً، ويطلق لسانه في الغيبة والنميمة والتفكُّه في أعراض الخلق!» (¬2). نعوذ بالله أن تقودنا حصائد ألسنتنا إلى موارد الهلاك في الدُّنيا والآخرة. * * * • ومن مواعظ سلمان - رضي الله عنه - أنَّه سُئل: ما حسبك؟ فقال (¬3): «كرمي ديني، وحسبي التراب، ومن التراب خُلقت، وإلى التراب أصير، ثم أبعث وأصير إلى الموازين؛ فإن ثقلت موازيني، فما أكرم حسبي، وما أكرمني على ربِّي! يُدخلني الجنة، وإن خفَّت موازيني، فما ألأم حسبي، وما أهونني على ربِّي! ويعذِّبني، إلا أن يعود بالمغفرة والرحمة على ذنوبي». ¬

(¬1) التذكرة؛ لابن الجوزي (ص 124). (¬2) عُدة الصابرين (ص 56). (¬3) الزهد الكبير؛ للبيهقي رقم (763).

لكأنِّي بذلك السائل الذي سأل سلمان - رضي الله عنه - أراد إحراجه، أو أراد أن يستنطقه ليرى رأيه في هذه الأحساب والأنساب التي يتفاخر بها الناس، فأجابه بهذا الجواب الذي يخرسه إن كان شامتًا، وينفعه إن كان راغبًا. وصدق سلمان: «وإن خفَّت موازيني، فما ألأم حسبي، وما أهونني على ربِّي!»! وأيُّ شيء نفع أبا لهبٍ أن كان عمَّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حين أُدخلت روحه النار منذ فارق هذه الحياة، وفي الآخرة أشدُّ وأدهى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد: 1 - 5]؟! وماذا ضرَّ زيد بن حارثة أن كان مولًى من موالي نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -، ويختصُّ بأن يكون حِبَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يكون الصحابيَّ الوحيد الذي ذُكر اسمه في القرآن الكريم؟! وكذلك يُقال في حقِّ بلالٍ - رضي الله عنه -، وصدق الشاعر حين قال: خذلت أبا جهلٍ أصالته ... وبلالٌ عبدٌ جاوز السُّحبا وقريبٌ من هذا المعنى الذي قرَّره سلمان - رضي الله عنه - أنَّ أبا الدرداء لمَّا كتب إلى سلمان الفارسيِّ: أن هلُمَّ إلى الأرض المقدَّسة، فكتب إليه سلمان: إنَّ الأرض لا تقدِّس أحدًا؛ وإنَّما يقدِّس الإنسان عملُه. وصدق - رضي الله عنه - ... إنَّما يقدِّس الإنسان عملُه، وهو الذي عليه مدار الحساب، والنجاة أو الهلاك، فلينظر كلُّ واحدٍ في عمله، ولا يركننَّ إلى ما لا ينفعه يوم يلقى الله - عز وجل - بل قد يضرُّه.

من مواعظ سلمان الفارسي رضي الله عنه

من مواعظ سلمان الفارسيِّ - رضي الله عنه - (2/ 3) • ومن مواعظ أبي عبد الله، سلمان الفارسيِّ - رضي الله عنه -: أنَّه وعظ مرَّة فقال (¬1): «إنَّ الله تعالى إذا أراد بعبدٍ شرًّا أو هلكةً، نزع منه الحياء، فلم تلقه إلا مقيتًا مُمقَّتًا». هذا الكلام من سلمان - رضي الله عنه - عن الحياء هو من فقهه؛ فإن «الحياء لا يأتي إلَّا بخيرٍ» كما قال - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، ومفهومه: أنَّ ذهابه يعني مجيء الشرِّ كلِّه. بل ثبت في الصحيحين أنَّ الحياء من خصال الإيمان التي لا يتمُّ إيمان عبدٍ إلا بها؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: (الإيمان بضعٌ وستُّون شعبةً، والحياء شعبةٌ من الإيمان) (¬3). وحسب المؤمن ليدرك مكانة هذا الخلق العظيم: أن ينظر في آثاره حينما يتخلَّق العبد به، وأن ينظر في ويلاته إذا نزع من الإنسان- والعياذ بالله! - ذلك أنَّ من أعظم فوائده: أنَّه يحجز العبد عن معاصي الربِّ- تبارك وتعالى - فالحييُّ حينما ¬

(¬1) حلية الأولياء (1/ 204). (¬2) البخاري ح (6117)، مسلم ح (37). (¬3) البخاري ح (9)، مسلم ح (35).

يهمُّ بمعصيةٍ، يتذكَّر قول ربِّه- جلَّ وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، ويتذكَّر قول الله - جلَّ في علاه-: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]! فللَّه لو لم يكن للحياء من فضيلةٍ سوى هذه، لكفى! ولذا كان قليلو الحياء لا يبالون بمعصية الله - عز وجل - وهم في ذلك درجاتٌ كثيرةٌ- مصداقًا لقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّ ممَّا أدرك النَّاس من كلام النُّبوَّة: إذا لم تستحي، فاصنع ما شئت) (¬1). إذا لم تصن عرضًا ولم تخش خالقًا ... ولم ترع مخلوقًا فما شئت فاصنع ولذلك كان من أقبح آثار المعاصي: ذهاب الحياء، الذي هو مادة حياة القلب، وهو أصل كلِّ خيرٍ، وذهابه ذهاب الخير أجمعه! يقول ابن القيِّم رحمه الله: «فمن لا حياء له ميِّتٌ في الدُّنيا، شقيٌّ في الآخرة ... ومن استحى من الله عند معصيته، استحى الله من عقوبته يوم يلقاه، ومن لم يستح من معصيته، لم يستح من عقوبته».اهـ (¬2). ومع فضيلة هذا الخلق وأثره في حياة المسلم، فإنَّ من المؤسف أن يرى المسلم الغيور مظاهر كثيرةً، وصورًا متنوعة من خرق هذا الخلق، وتحطيم أسواره! فبعض الناس لا يبالي بالمجاهرة بالمعصية أمام الناس؛ بحجَّة أنَّ هذا من الشجاعة والصراحة أن يكون المظهر كالمخبر! وأقبح منه أن يدَّعي أنَّ المجاهرة وعدم الاهتمام بالناس من الرجولة! مساكين هؤلاء! لقد طمست بصائرهم، فرأوا الباطل حقًّا، والحقَّ باطلًا. ومن ذلك: ما تفعله بعض المسلمات من سفورٍ ونزعٍ للحجاب الشرعيِّ، الذي أجمع العلماء على وجوبه، وسبحان الله! ما قيمة المرأة بلا حياءٍ؟! ¬

(¬1) البخاري ح (3484). (¬2) الجواب الكافي (76،75).

ومن ذلك: مجاهرة بعضهم بأكل الرِّبا من خلال المعاملات الرِّبويَّة! وصور خرق الحياء في المجتمع كثيرةٌ وللأسف، والله المستعان! ولله درُّ الفضيل بن عياضٍ يوم قال: «خمسٌ من علامات الشقاء: القسوة في القلب، وجمود العين، وقلة الحياء، والرغبة في الدُّنيا، وطول الأمل» (¬1). ... • ومن مواعظ سلمان الفارسيِّ - رضي الله عنه - قوله (¬2): «أضحكني ثلاثٌ، وأبكاني ثلاثٌ: ضحكت من مؤمِّل الدُّنيا والموت يطلبه، وغافلٍ لا يُغفل عنه، وضاحكٍ ملء فيه لا يدري أمُسخطٌ ربَّه أم مُرْضيه! وأبكاني ثلاثٌ: فِراقُ الأحبَّة؛ محمدٍ وحِزبه، وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي ربِّ العالمين حين لا أدري إلى النار انصرافي أم إلى الجنة؟». وأظنُّ أنَّ هذه الموعظة من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى تعليقٍ، بيد أنَّ السؤال الذي يتبادر إلى الذهن: من منَّا مرَّت به هذه المشاعر؟ من منَّا يحذر ويخاف هول المطلع؟ ومن منَّا تذكَّر لحظة وقوفه بين يدي الله تعالى؛ فانكسر قلبه، وخاف مقام ربِّه، ونهى النَّفس عن هواها، وأوجب له هذا التذكُّر توبةً وأوبةً إلى الله، وتصحيحًا للأخطاء، واستدراكًا لما بقي من العمر؟ * * * ¬

(¬1) طبقات الأولياء (ص267). (¬2) حلية الأولياء (1/ 207).

• ومن مواعظه - رضي الله عنه - قوله (¬1): «إنَّما مثل المؤمن في الدُّنيا كمثل رجلٍ مريضٍ معه طبيبه الذي يعلم داءه ودواءه، فإذا اشتهى شيئًا يضرُّه منعه، وقال: لا تقربه؛ فإنَّك إن أصبته أهلكك، فلا يزال يمنعه ما اشتهى ممَّا يضرُّه حتى يبرأ من وجعه بإذن الله، وكذلك المؤمن يشتهي أشياء كثيرةً ممَّا فضِّل به غيره من العيش، فيمنعه الله إيَّاه ويحجزه عنه حتى يتوفَّاه فيدخله الجنة». لله ما أجمل هذه الموعظة التي تربِّي في الإنسان عبودية التسليم والانقياد، واليقين بأنَّ ما أباح الله شيئًا إلا لمصلحةٍ، ولا منع العباد من شيء وحرَّمه عليهم إلا لمصلحتهم! إنَّنا اليوم في عصرٍ كثُر فيه الحديث عن الحريَّات الدينيَّة، وزاد بعضهم في لغة خطابه ما يشعر بألوانٍ من الزندقة- عياذًا بالله - وكأنَّه يريد أن يكون ندًّا وخصمًا لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - من كثرة اعتراضه على الأحكام الشرعيَّة!. ولا والله، لا يتمُّ إيمان العبد إلا بمروره على قنطرة التسليم، كما قال سبحانه: ... {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. وفرقٌ كبيرٌ بين سؤال الإنسان عن الحكمة في التشريع، والتماس السبب الذي لأجله أُبيح هذا أو مُنع ذاك، وبين الاعتراض؛ فهو دليلٌ على قلة إيمان المعترض، أو ردَّته، حسب حاله ومقامه. * * * ¬

(¬1) الكنى والأسماء؛ للدولابي (2/ 585).

• ومن مواعظ سلمان - رضي الله عنه - قوله (¬1): «إذا أسأت سيِّئةً في سريرةٍ، فأحسن حسنةً في سريرةٍ، وإذا أسأت سيئةً في علانيةٍ، فأحسن حسنةً في علانيةٍ؛ لكي تكون هذه بهذه». ما أكثر ما يقع منَّا التقصير! فكم هو حسنٌ أن نُتبع السيِّئة الحسنة؛ لعلَّها تمحوها، والأجمل أن يكون هذا كما قال سلمان؛ فسيِّئة السِّرِّ تمحوها حسنة السِّرِّ، وكذلك سيئة العلن. وفي هذه الموعظة من الفقه: أنَّه ليس من العدل أن يُخطئ الإنسان في العلن، ولا يعتذر من ذلك إلا سرًّا. ولهذا؛ كان من فقه الأئمة- رحمهم الله تعالى - أنَّه إذا صدرت فتوى عن أحدٍ منهم، واشتهرت، فإنَّه يُعلن تراجعه علنًا، ومن ذلك: تراجع الإمام أحمد عن فتواه المشهورة بوقوع طلاق السكران، فإنَّه صرَّح رحمه الله بتراجعه. وفي عصرنا الحاضر، ومع انتشار وسائل التقنية التي تنقل القول في ثوانٍ معدودةٍ؛ يتعيَّن على من له قولٌ مقبولٌ، أو حضورٌ إعلاميٌّ - خاصةً من أهل العلم- أن يُراعوا هذا المعنى المهمَّ، وأن يكون الأصل هو التريُّث في القول والنقل، فإن تبيَّن الخطأ، كان الإنسان شجاعًا في الاعتراف بالخطأ، وبيان الصواب، وصدق أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - حين قال لأبي موسى الأشعريِّ: «لا يمنعنَّك قضاءٌ قضيته ثم راجعت فيه نفسك، فهُديت لرُشده أن تنقضه؛ فإنَّ الحقَّ قديمٌ لا ينقضه شيءٌ، والرجوع إلى الحقِّ خيرٌ من التمادي في الباطل» (¬2). هذه بعض الوقفات مع مواعظ الصحابيِّ الجليل سلمان الفارسيِّ - رضي الله عنه - وما زال الحديث موصولًا مع بعض مواعظه. ¬

(¬1) صفة الصفوة (1/ 208). (¬2) شرح السُّنَّة؛ للبغوي (10/ 114).

من مواعظ سلمان الفارسي رضي الله عنه

من مواعظ سلمان الفارسيِّ - رضي الله عنه - (3/ 3) • ومن مواعظ أبي عبد الله، سلمان الفارسيِّ - رضي الله عنه - (¬1): أنَّ رجلًا قال له مرةً: أوصني! قال: «لا تكلَّم»! قال: ما يستطيع مَن عاش في الناس ألَّا يتكلَّم. قال: «فإن تكلَّمت، فتكلَّم بحقٍّ أو أسكت»! قال: زدني، قال: «لا تغضب»، قال: أمرتني ألَّا أغضب، وإنَّه ليغشاني ما لا أملك! قال: «فإن غضبت، فاملك لسانك ويدك». قال: زدني، قال: «لا تلابس الناس» - أي: لا تخالطهم خلطةً كثيرةً - قال: ما يستطيع من عاش في الناس ألَّا يلابسهم، قال: «فإن لابستهم، فاصدق الحديث، وأدِّ الأمانة». ما أجمل طلب الوصيَّة من العلماء! وما أجمل الوصيَّة حين تصدر من العالم العاقل المجرِّب! فأنت تلاحظ أنَّ سلمان - رضي الله عنه - خرجت نصائحه في قالب النهي المبكِّر عن بعض ما علم من حال الرجل أنَّه لن يفعله ابتداءً، لينتقل بعد ذلك إلى لُبِّ الوصيَّة في الموضوعات الثلاثة التي يُبتلى بها عموم الناس. فحين أوصاه بعدم الكلام، واعتذر بصعوبة ذلك، أوصاه قائلًا: ¬

(¬1) الصمت؛ لابن أبي الدنيا (ص276).

«فإن تكلَّمت، فتكلَّم بحقٍّ أو اسكت»! وهي تُطابق تمامًا وصيَّة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت) (¬1). وحين أوصاه بعدم الغضب؛ فهي مطابقةٌ للوصيَّة النبويَّة: (لا تغضب) (¬2)، فحذَّره من تبعة الغضب إن وقع، وأن يحذر ذلك فقال: «فإن غضبت، فاملك لسانك ويدك»؛ ذلك أنَّ عامة من يغضبون يقع منهم بألسنتهم وأيديهم ما ينفِّسون به عن غضبهم زعموا! وكم من بيتٍ هُدمت أركان حياته الأسريَّة بسبب طلاقٍ أطلقه الرجل لحظة غضبٍ! وكم إنسانٍ خسر علاقاتٍ وصداقاتٍ بسبب كلمةٍ غير موزونةٍ أطلقها لحظة غضبٍ! وكم من حالات قتلٍ وقعت بسبب إنفاذ جرعة الغضب التي تتلظَّى نارها في الجوف! وكم تلفيَّاتٍ ماليَّةٍ حصلت بسبب غضبةٍ ترجمها الغاضب بسوء فعاله! ولهذا؛ يحسن أن نشير في هذا الموضع- باختصارٍ شديدٍ- إلى هدي الشريعة في علاج الغضب: 1 - تجنُّب أسباب الغضب، وعليه يحمل قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآنف الذِّكر: (لا تغضب). قال الرَّاوي- كما في رواية الإمام أحمد:- ففكَّرت حين قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ما قال، فإذا الغضب يجمع الشرَّ كلَّه (¬3). ¬

(¬1) البخاري ح (6018)، مسلم ح (47). (¬2) البخاري ح (6116). (¬3) مسند أحمد ح (23171) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 69): ورجاله رجال الصَّحيح.

2 - إذا وقع الغضب، فليبادر إلى الاستعاذة بالله من الشيطان؛ ففي الصحيح عن سليمان بن صردٍ قال: كنت جالسًا مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ورجلان يستبَّان، فأحدهما احمرَّ وجهه وانتفخت أوداجه- عروقٌ من العنق- فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (إنِّي لأعلم كلمةً لو قالها، ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشَّيطان، ذهب عنه ما يجد) (¬1). 3 - تغيير الحالة التي هو عليها حال الغضب؛ ففي سنن أبي داود وصحَّحه ابن حبَّان، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا غضب أحدكم وهو قائمٌ، فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب، وإلَّا فليضطجع) (¬2). 4 - أن يتذكَّر ما أعدَّه الله لمن كظم غيظه وهو قادرٌ على إنفاذه، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ... {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133 - 136]. 5 - التأمُّل في سيرته - صلى الله عليه وسلم - الذي هو القدوة المطلقة، وكم كظم من غيظٍ! وكم حَلُمَ على جاهلٍ، وعفا عن مخطئٍ! 6 - معرفة مساوئ الغضب وآثاره السيِّئة- كما أسلفنا آنفًا .. ولنعد إلى خاتمة وصيَّة سلمان - رضي الله عنه - للرجل، فإنَّه قال: زدني، قال: «لا تلابس الناس» - أي: لا تخالطهم خلطةً كثيرةً - قال: ما ¬

(¬1) البخاري ح (6115)، مسلم ح (2610). (¬2) سنن أبي داود ح (4782)، صحيح ابن حبان ح (5688)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 71): ورجاله رجال الصَّحيح.

يستطيع من عاش في الناس ألَّا يلابسهم، قال: «فإن لابستهم، فاصدق الحديث، وأدِّ الأمانة». ومن المعلوم أنَّ سلمان - رضي الله عنه - لا يريد من الرجل أن يفارق الناس كليَّة، ولكنَّه أراد أن يوطِّئ له النصيحة عند المخالطة، وهي أن يخالطهم بأشرف الأخلاق، وهما: الصدق والأمانة؛ فالصدق في الأقوال، والأمانة في ردِّ الحقوق؛ فإنَّ غالب أسباب تصرُّم العلاقات، ووجود الوحشة، وارتفاع الناس للقضاء في الخصومات عائدٌ إلى الإخلال بهذين الأمرين، وما أوحش المجتمع إذا قلَّ فيه الصادقون، وكثر فيه الخائنون للأمانات! * * * • ومن مواعظ سلمان - رضي الله عنه - العمليَّة (¬1): أنَّ بعض أفراد قبلية قريشٍ تفاخر عند سلمان الفارسيِّ - رضي الله عنه - يومًا، فقال سلمان: «لكنَّني خُلقت من نُطفةٍ قذرةٍ، ثم أعود جيفةً مُنتنةً، ثم آتي الميزان، فإن ثَقُلَ فأنا كريم، وإن خفَّ فأنا لئيم». هكذا هم العلماء يعظون بأقوالهم وبمواقفهم، ولسان حال سلمان يقول: أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم ولا ريب أنَّ النَّسب الشريف إذا قارنته التَّقوى كان نورًا على نورٍ، أمَّا إذا تجرَّد منها، فهذا إلى الذمِّ أقرب منه إلى المدح، فالإنسان لا اختيار له في نسبه؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وليس في كتاب الله ¬

(¬1) إحياء علوم الدين (3/ 343).

آيةٌ واحدةٌ يمدح فيها أحدًا بنسبه، ولا يَذُمُّ أحدًا بنسبه، وإنَّما يمدح الإيمان والتقوى، ويَذُمُّ بالكفر والفسوق والعصيان» (¬1) انتهى كلامه رحمه الله. وممَّا يشهد لما قاله شيخ الإسلام: أنَّ الله تعالى أنزل سورةً كاملةً في ذمِّ أبي لهبٍ؛ لكفره وعداوته للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ونهى الله نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - أن يطرد المؤمنين من ضعفة أصحابه، وإن كان القصد من ذلك الرغبة في كسب قلوب أكابر قريشٍ، فقال سبحانه: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52]، وقال له في الآية الأخرى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]. وكلام سلمان الفارسيِّ - رضي الله عنه - أراد به أن يبيِّن لهم هذا المعنى الذي تضافرت عليه النصوص، وأراد به أن ينقلهم إلى هناك ... حيث لا أنساب ولا قراباتٍ تُغني العبد إذا قدم على ربِّه مفلسًا، فقال هذه الكلمة المؤثِّرة: ثم آتِي الميزان، فإن ثَقُلَ فأنا كريم، وإن خفَّ فأنا لئيم! إي والله! إن ثقلت موازيننا غدًا إذا لقينا ربَّنا، فمن أكرم منَّا؟ وإن خفَّت فلا ألأم منَّا. اللَّهمَّ إنَّا نسألك أن تستر عيوبنا، وتثقِّل موازيننا، وتُيمِّن كتبنا، وتدخلنا الجنة برحمتك. * * * ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (1/ 164).

من مواعظ أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه

من مواعظ أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - هو صُديُّ بن عجلان بن وهبٍ الباهليُّ - رضي الله عنه -، صحب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ونزل حمص ... روى علمًا كثيرًا، كان عمره في حجَّة الوداع ثلاثين عامًا، وروي أنَّه بايع تحت الشجرة، ورويت له كراماتٌ، وعاش إلى سنة ستِّ وثمانين، وقيل: إحدى وثمانين، حديثة مرويٌّ في الكتب الستَّة (¬1). • وممَّا وري من المواعظ عن هذا الصاحب الكريم: ما ذكره عنه تلميذه الجليل سليم بن عامرٍ، قال (¬2): خرجنا على جنازةٍ في باب دمشق معنا أبو أمامة الباهليُّ - رضي الله عنه -، فلما صُلِّي على الجنازة وأخذوا في دفنها، قال أبو أمامة: «يا أيُّها الناس، إنَّكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزلٍ تقتسمون فيه الحسنات والسيِّئات، وتوشكون أن تظعنوا منه إلى المنزل الآخر، وهو هذا - يشير إلى القبر - بيت الوحدة، وبيت الظُّلمة، وبيت الدُّود، وبيت الضِّيق إلا ما وسَّع الله. ثمَّ تنتقلون منه إلى مواطن يوم القيامة، فإنَّكم لفي بعض تلك ¬

(¬1) ينظر: سير أعلام النبلاء (3/ 258). (¬2) مستدرك الحاكم (2/ 434)، وينظر: الأهوال؛ لابن أبي الدنيا (78)، الأسماء والصفات؛ للبيهقي (2/ 435).

المواطن، حتى يغشى الناس أمرٌ من أمر الله، فتبيضَّ وجوه وتسودَّ وجوهٌ. ثمَّ تنتقلون منه إلى منزلٍ آخر، فيغشى الناس ظلمةٌ شديدةٌ، ثمَّ يقسم النور، فيُعطى المؤمن نورًا، ويُترك الكافر والمنافق فلا يعطيان شيئًا، وهو المثل الذي ضربه الله تعالى في كتابه: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]،ولا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن، كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير، يقول المنافق للذين آمنوا: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد: 13]،وهي خَدْعَةُ الله التي خدع بها المنافق، ثمَّ تلا: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور، فلا يجدون شيئًا! فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسورٍ له بابٌ باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب! ينادونهم: ألم نكن معكم؟ نصلِّي بصلاتكم، ونغزو بمغازيكم؟ {قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد: 14] تلا إلى قوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد: 15]».هذه الموعظة من أبي أُمامة - رضي الله عنه - من الوضوح بمكانٍ، وهي تدلُّ على علم أبي أمامة بمعاني القرآن، واغتنام الفرصة للتذكير بهذه المآلات الخطيرة التي تنتظر الناس في أرض المحشر. وقد يقول قائلٌ: وهل كان من هدي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الوعظ عند القبر؟ فيقال: لم يكن هديًا ثابتًا، بل كان في أحيانٍ قليلةٍ، ويكون لها سبب؛ كعدم جاهزية القبر - كما في حديث البراء المشهور (¬1) - أو لغير ذلك من الأسباب. ¬

(¬1) رواه أبو داود ح (4753)، والنسائي في الكبرى ح (2139).

ومن تأمَّل هدي الصحابة - رضي الله عنهم - علم أنَّهم لم يكونوا يعتادون ذلك هديًا غالبًا، بل للحاجة؛ اكتفاءً بوعظ المشهد نفسه، ففي الموت فزعٌ وعبرةٌ، والقبر نفسه واعظٌ صامتٌ. ولعلَّ أبا أمامة لحظ في المشهد ما حمله على الوعظ، فقد كان في بلاد الشام التي شهدت في أواخر حياته أحداثًا كبارًا، والله أعلم. * * * • ولنعد إلى موعظته - رضي الله عنه -، والتي قال فيها: «يا أيُّها الناس، إنَّكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزلٍ تقتسمون فيه الحسنات والسيِّئات، وتوشكون أن تظعنوا منه إلى المنزل الآخر، وهو هذا - يشير إلى القبر - بيت الوحدة، وبيت الظُّلمة، وبيت الدُّود، وبيت الضِّيق إلا ما وسَّع الله!». نعم ... هذه هي الدُّنيا، ميدان العمل والتنافس، وهي ميدان الحسنات والسيِّئات، والناس فيها كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (كلُّ النَّاس يغدو، فبايعٌ نفسه؛ فمعتقها أو موبقها) (¬1)، فمن اجتهد في كسب الحسنات، فقد أعتق نفسه، ومن لم يبال بتضخُّم رصيده من السيِّئات، فقد أوبق نفسه وأهلكلها ... وهذا التنافس سيأتي عليه يوم ينقطع فيه النَّفس، ويتوقَّف عدَّاد الحسنات والسيئات، إلا أن يكون للعبد سبيلٌ يمتدُّ بسببه: إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، فمن خلَّف علمًا ينتفع به، أو صدقة جارية، أو ولدًا صالحًا يدعو له، فحسناته جاريةٌ، يغتبط بها في قبره، ومن خلَّف بعده سيِّئاتٍ تسبَّب فيها، فحاله عكس هذا والعياذ بالله؛ يمتلئ رصيده بالسيئات حتى يقوم الناس لربِّ العالمين. ¬

(¬1) مسلم ح (223).

ومن علم أنَّ مصيره لحفرةٍ ضيِّقةٍ؛ فليجتهد في عملٍ صالحٍ يوسِّعها عليه، ونورٍ يضيء ظلمتها، فما أشدَّ غربة أهل القبور، إلا من آنس الله وحشتهم! وما أطول حسرتهم إلا من نجا برحمة الله ثمَّ بعمله الصالح! فالله الله أن نجتهد في الاستعداد لذلك المصرع، وليوقن العبد أنَّه من صدق في سيره وسريرته مع الله، فلن يخيِّبه الله، ومن خرَّب ما بينه وبين الله، فيوشك أن يكون قد خرَّب دنياه وداره البرزخيَّة، والأخرويَّة، نعوذ بالله من الخذلان. * * * * • ثم قال - رضي الله عنه -: «ثمَّ تنتقلون منه إلى منزلٍ آخر، فيغشى الناس ظلمةٌ شديدةٌ، ثم يقسم النور، فيُعطى المؤمن نورًا، ويُترك الكافر والمنافق فلا يُعطيان شيئًا». وهذا تأكيدٌ للمعنى الذي سبق، فمن نوَّر الله قلبه في الدُّنيا بطاعته، امتدَّ هذا النور معه في البرزخ وفي الآخرة، ومن أظلم قلبه في هذه الدار بالمعاصي ومنكرات الأقوال والأعمال، فيوشك أن ينتقل أثر هذه الظُّلمة للبرزخ والآخرة! ويا لها من حسرةٍ! حين يرى الإنسان أناسًا في المحشر قد أوتوا نورًا، وإذا به يريد قبسةً من هذا النور، فإذا به يحال بينه وبين ذلك، ويعجز عن إدراكه! نعوذ بالله من الحرمان. وهذا معنى قوله - رضي الله عنه -: «ثمَّ تنتقلون منه إلى منزلٍ آخر، فيغشى الناس ظلمةٌ شديدةٌ، ثم يقسم النور، فيُعطى المؤمن نورًا، ويُترك الكافر والمنافق فلا يُعطيان شيئًا».

وتأمَّل في قول المنافقين: «فيرجعون إلى المكان الذي قُسم فيه النور، فلا يجدون شيئًا! فينصرفون إليهم وقد ضر بينهم بسورٍ له بابٌ باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب! ينادونهم: ألم نكن معكم؟ نصلِّي بصلاتكم، ونغزو بمغازيكم؟». وهذه موعظةٌ مخيفةٌ لمن يخادع الناس بمظهره، أو يظنُّ أنَّ عيشة في صفوف المسلمين يغنيه أو يشفع له! لا ... لا! العبرة بموافقة الباطن للشرع، والبراءة من أعداء الدِّين، وإلا فستنكشف الحقائق هناك، وسيندم هؤلاء المنافقون حين لا ينفع الندم، وسيسمعون تلك الكلمة القاسية التي لا أشدَّ منها على الأسماع يومها: ... {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَاوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد: 15]. اللَّهمَّ ألهمنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا الظاهرة والباطنة. * * *

من مواعظ أبي هريرة رضي الله عنه

من مواعظ أبي هريرة - رضي الله عنه - (1/ 2) اختُلِف في اسمه كثيرًا، واشتهر بكُنيته جدًّا، أبو هريرة، عبد الرحمن بن صخرٍ الدَّوسيُّ، أحد تلاميذ المدرسة النبويَّة النجباء، صحب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وحمل عنه علمًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، لم يشاركه في كثرة حفظ الحديث أحدٌ، مع أنَّه لم يصحب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سوى أربع سنين، وحدَّث عنه خلقٌ كثيرٌ من الصحابة والتابعين، حتى قيل: بلغ عدد أصحابه ثمانمائةٍ. قال الحافظ الذهبيُّ عن حفظه: كان حفظه الخارق من معجزات النبوة. مرَّت به مسغبةٌ شديدةٌ، واحتاج، ولزم المسجد، حتى قال عن نفسه: لقد رأيتني أُصرع بين القبر والمنبر من الجوع، حتى يقولوا: مجنونٌ! وكان من أهل الصُّفَّة، وهم أضياف الإسلام، لا أهل ولا مال، إذا أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقةٌ، أرسل بها إليهم، ولم يصب منها شيئًا، وإذا جاءته هديةٌ، أصاب منها، وأشركهم فيها. دعا له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: (اللَّهمَّ حبِّب عبيدك هذا وأمَّه إلى عبادك المؤمنين وحبِّبهم إليهما) (¬1). ¬

(¬1) قال الذهبيُّ عنه في سير أعلام النبلاء ط. الرسالة (2/ 593): إسناده حسن.

تُوفِّي سنة سبعٍ وخمسين للهجرة، وقيل قريبًا منها (¬1). * * * * • وقد رويت عنه جملةٌ من المواعظ الطيِّبة؛ منها: ما رواه محمد بن سيرين، عن أبي هريرة أنَّه كان يقول في آخر عمره (¬2): «اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بك أن أزني، أو أعمل بكبيرةٍ في الإسلام»، يقول بعض أصحابه: يا أبا هريرة، ومثلك يقول هذا ويخافه وقد بلغت من السِّنِّ ما بلغت، وانقطعت عنك الشهوات، وقد شافهت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وبايعته، وأخذت عنه؟! قال: «ويحك! وما يؤمِّنني وإبليس حيٌّ؟!». الله أكبر! من كان بالله أعلم، كان من أخوف! هذا صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يحدِّث عن خوفه من الزَّلل في وحل الشهوات، مع تقدُّم سنِّه، وسابقته في العلم والعمل! لم يأخذه الغرور، ولا مزيدٌ من ثقةٍ واطمئنانٍ بسلامته من تزيين الشيطان وتسويله، وهو في هذه السنِّ التي أدبر فيها عن الدُّنيا وأقبل على الآخرة، بل تعلَّق بالحيِّ القيوم، الذي بيده نواصي الخلق، وقلوب العباد. وإذا كان هذا حاله وهو في شيخوخته، فماذا يقول الشباب الذين قد يغترُّ بعضهم ببقية صلاحٍ وخيرٍ فيه، والشهوة قويةٌ، والداعي لفعلها شديدٌ؟! إنَّ هذه الموعظة العمليَّة من أبي هريرة لتذكِّر بالموقف الذي رواه عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبلٍ، حيث يقول: «حضرت أبي الوفاة، ¬

(¬1) تُنظر ترجمته باختصار: سير أعلام النبلاء (2/ 578). (¬2) أخرجه البيهقي في شُعب الإيمان ح (830).

فجلست عنده، وبيدي الخرقة - وهو في النَّزع- لأشدَّ لحييه، فكان يغرق حتى نظنَّ أن قد قضى- أي: مات - ثم يفيق، ويقول بيده: لا بَعْدُ لا بَعْدُ! ففعل هذا مرةً، وثانيةً، فلما كان في الثالثة قلت له: يا أبت، أيشٍ هذا الذي قد لهجت به في هذا الوقت؟! فقال لي: يا بنيَّ، ما تدري؟ فقلت: لا! فقال: إبليس - لعنه الله - قام بحذائي عاضًّا على أنامله يقول: يا أحمد، فُتَّني! وأنا أقول: لا بَعدُ! حتى أموت» (¬1). فللَّه تلك النفوس العالمة بحقيقة نفوسها، وبضعفها، وحاجتها لتثبيت الله تعالى في كلِّ لحظةٍ وأوانٍ! ولله تلك القلوب التي أيقنت أنَّ الهلاك كلَّ الهلاك، والخذلان كلَّ الخذلان أن يكل الله العبد إلى نفسه. والعاقل يعتبر بمثل هذه المواعظ العمليَّة، ويتساءل: إذا كان هذا حال هؤلاء الصحب والأئمة الكرام، فماذا يقول من هو أقلُّ منهم علمًا وعملًا؟! * * * • ومن مواعظ أبي هريرة (¬2)، حينما سأله رجلٌ: ما التقوى؟ فقال: «أخذتَ طريقًا ذا شوكٍ؟» قال: نعم، قال: «فكيف صنعت؟» قال: إذا رأيت الشوك، عدلت عنه، أو جاوزته، أو قصرت عنه! قال: «ذاك التَّقوى». ما أجمل الوعظ حين يقرَّب بالمثال الذي يرسخ المعنى! وما أجمل تقرير المعاني الكبار بمثل هذا التيسير! بدلًا من التعاريف المعقَّدة، والحدود التي تشتِّت الأذهان عن بلوغ الغاية من هذه المعاني ... ! وهكذا كان علم السلف الصالح رحمهم الله. ¬

(¬1) حلية الأولياء (9/ 183). (¬2) أخرجه البيهقي في الزهد رقم (963).

وممَّا يُلحظ في موعظة أبي هريرة: تشبيهه المعاصي بالشَّوك، وتشبيه تجاوزه بالطاعة! ولله ما أصوبه من تشبيهٍ! فإنَّ للمعاصي وخزًا يؤثِّر في القلوب، كما أنَّ للشوك وخزًا وألمًا على أقدام الماشين عليه، يشعر بهذا من كانت قلوبهم حيَّة؛ تشعر بألم الذنب ووخزه. لكن ما الحيلة فيمن ينزل في أودية المعاصي ليلًا ونهارًا ولا يشعر بوخز الشوك؟! إنَّ التقوى أعظم مطالب الصالحين، وغاية مراد العابدين! ولا عجب؛ فإنَّ القارئ لكتاب الله لا يجد عناءً في إدراك الثمرات والأجور التي وعدها الله تعالى لعباده المتَّقين. كما لا يجد عناءً في معرفة ما يناله المتَّقون من كرامات وفضائل في الدُّنيا والآخرة! ألسنا نقرأ في أول سورة البقرة: {آلم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 1، 2]؟ ألا يكفي أنَّ الله يحبُّهم؟ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4]. المتَّقون هم أهل معيَّة الله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36]. العاقبة لهم: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]. هم وفد الله الذين نالوا كرامته: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85]. هم الذين تبقى صداقتهم يوم تتصرَّم بقية العلائق: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]. بل إنَّ الله تعالى نسب الجنة إليهم! فقال: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30].

وأخيرًا ... أهل كرامة الله الذين أعدَّ لهم ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الحجر: 45]. ليس الشأن أن يحفظ الإنسان منَّا تعريفًا دقيقًا للتقوى، أو اختلاف العلماء في تعريفها- مع فائدة ذلك وأهميَّته- بل الأهم أن نترجم ذلك واقعًا معيشًا، فكم من رجلٍ عامِّيٍّ، وامرأةٍ أمِّيَّةٍ، لا يعرفون تعريفًا واحدًا للتقوى، هم في أعلى قائمة المتَّقين! وكم من إنسانٍ يحمل من الشهادات ما يحمل، لو فتَّشت في قائمة المتَّقين لم تجده إلا في ذيل القائمة! بل ربَّما خرج منها تمامًا حينما يكفر بالله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]. فاللَّهمَّ ارزقنا تقواك، وخشيتك في الغيب والشهادة * * *

من مواعظ أبي هريرة رضي الله عنه

من مواعظ أبي هريرة - رضي الله عنه - (2/ 2) • ومن مواعظه - رضي الله عنه - العمليَّة (¬1): أنَّه حين حضرته الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: «أما إنِّي لا أبكي على دنياكم هذه، ولكنِّي أبكي على بُعدِ سفري، وقلة زادي، وأنِّي أصبحت في صعودٍ مُهبطٍ على جنةٍ ونارٍ، لا أدري لأيِّهما يُؤخَذُ بي». سبحان الله! كم مرَّ علينا في مواعظ الصحابة من أمثال هذه المواعظ الزهديَّة، التي تدلُّ على عظيم خوفهم من لقاء الله، وتهوينهم من شأن ما عملوه، حتى إنَّ الإنسان ليقرأ في أمثال هذه المواعظ الترجمة العمليَّة لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57 - 61]. ويلفت نظرك في أمثال هذه المواقف أمران: ¬

(¬1) حلية الأولياء (1/ 383).

1 - احتقارهم لما بذلوه من أعمالٍ صالحةٍ، كما سبق في الآية الكريمة. 2 - خوفهم من لقاء ربِّهم، وهول المطلع، مع سابقتهم في العلم والإيمان والعمل، والدعوة، والجهاد. فماذا يا تُرى سيقول المقصِّرون من أمثالنا إذا وقف مثل هذه المواقف، أو صرع ذاك المصرع؟! اللَّهمَّ لا حول لنا ولا قوة إلا بك، ليس ثمة إلا عفوك ورحمتك، وإلا فعملنا فيه تخليطٌ، وزادنا أقلُّ من زادهم، فامنن علينا بفضلك وواسع رحمتك في الدُّنيا، وعند نزع أرواحنا، وحين نلقاك يا ربَّ العالمين. * * * • ومن مواعظ أبي هريرة - رضي الله عنه - قوله (¬1): «يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجِذْلَ- أو الجذع - في عين نفسه». وهذه الموعظة أراد منها أبو هريرة تصحيح وتعديل الميزان الذي يطيش عند بعض الناس- أحيانًا- عند تقييمه للأمور، فيبالغ في نقد إخوانه، وتضخيم أخطائهم، وينسى ما يقع فيه هو ممَّا هو مثل أو أشدُّ ممَّا عاب به إخوانه! «وذلك من أقبح القبائح، وأفضح الفضائح، فرحم الله من حفظ قلبه ولسانه، ولزِم شَانه، وكفَّ عن عرض أخيه، ¬

(¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد ح (592) وقد رُوي مرفوعًا، ولا يثبت والجذل كالجذع وزنًا ومعنًى.

وأعرض عمَّا لا يعنيه، فمن حفظ هذه الوصيَّة دامت سلامته، وقلَّت ندامته، ولله درُّ القائل: أرى كُلَّ إنسان يرى عيب غيره ... وَيَعمَى عن العيب الَّذي هو فيه فلا خير فيمن لا يرى عيب نفسه ... وَيَعمَى عن العيب الَّذي بأخيه» (¬1). يقول بكر بن عبد الله المُزنيُّ- أحد سادات التابعين رحمهم الله - مبيِّنًا معنى هذه الموعظة من أبي هريرة: «احملوا إخوانكم على ما كان فيهم، كما تحبُّون أن يحملوكم على ما كان فيكم، وليس كلُّ من رأيت منه سقطةً أو زلَّةً وقع من عينيك، فأنت أولى من يرى ذلك منه- إلى أن قال:- ولا تنظروا في ذنوب الناس كالأرباب، وانظروا في ذنوبكم كالعبيد، ولا تُعاهد القذاة في عين أخيك، وتدع الجذع في عينك معترضًا، والله ما عَدَلت!» (¬2). ومن لطائف استنباط السلف لهذا المعنى من القرآن: قول قتادة في قوله تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14]، قال: إذا شئت - والله- رأيته بصيرًا بعيوب الناس وذنوبهم، غافلًا عن ذنوبه (¬3). اهـ. وممَّا يدخل تحت هذا المعنى الذي ذكره أبو هريرة - رضي الله عنه -: ما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مقام المناظرات، وأنَّ بعض المنتصرين لأقوالهم يبلغ به التعصُّب مبلغًا «يرى القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذع المعترض في عينه، ويذكر من تناقض أقوال غيره، ومخالفتها للنصوص والمعقول- ما يكون له من الأقوال في ذلك الباب ¬

(¬1) فيض القدير (6/ 456). (¬2) ترتيب الأمالي الخميسية للشجري (2/ 299). (¬3) تفسير الطبري (23/ 493).

ما هو من جنس تلك الأقوال، أو أضعف منها، أو أقوى منها» (¬1). وهذه الحال- أعني البصر بعيوب الناس، والغفلة عن ذنوبه - إذا وصل إليها العبد، فهي علامة خذلانٍ والعياذ بالله، فليتجنَّبها الإنسان، وليسأل الله تعالى العافية منها، وعليه أن يبادر إلى خاصَّة إخوانه، فيستنصحهم، ويطلب منهم تبصيرهم إيَّاه بأخطائه؛ فإنَّ الإنسان- أحيانًا - لا يكتشف ما فيه من عيوبٍ؛ إمَّا لأنَّه لا يشعر بها أصلاً؛ لِقدَمِها ورسُوخِها فيه، أو يظنُّ أنَّها ليست بعيوبٍ أصلًا. * * * • ومن مواعظ أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬2): أنَّ رجلًا جاءه فقال له: إنِّي أريد أن أتعلَّم العلم، وأنا أخاف أن أضيِّعه ولا أعمل به! فقال له أبو هريرة: «ما أنت بواجدٍ شيئًا أضيع له من تركه». لله درُّ أبي هريرة على هذا الجواب الذي خرج من مشكاة العلم الموروث عن معلِّم الناس الخير - صلى الله عليه وسلم -! ذلك أنَّ هذه الشُّبهة التي عرضت لهذا الرجل - وهي تعرض لكثيرين - وهي ترك العلم خشية تضييعه، وعدم العمل، وخشية الاستكثار من حجج الله تعالى عليه ليس دواؤها ولا علاجها في ترك العلم، بل في تعلُّم العلم الذي يحمل صاحبه على المحافظة عليه والعمل به، ويكون سلَّمًا ينال به العبد خشية الله تعالى. لكن مشكلة بعض الناس أنَّه يستعجل ثمرة العمل، ويظنُّ أنَّها تأتي مباشرة! وهذا الاستعجال ليس بجيِّدٍ. ¬

(¬1) درء تعارض العقل والنقل (7/ 463). (¬2) تاريخ دمشق (67/ 367).

قال ابن الجوزيِّ رحمه الله: «وبالعلم يتقوَّم قصد العلم، كما قال يزيد بن هارون: طلبنا العلم لغير الله، فأبى إلا أن يكون لله، ومعناه: أنَّه دلَّنا على الإخلاص، ومن طالب نفسه بقطع ما في طبعه، لم يمكنه» (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «من طلب العلم أو فعل غيره مما هو خيرٌ في نفسه؛ لما فيه من المحبة له، لا لله ولا لغيره من الشركاء، فليس مذمومًا، بل قد يثاب بأنواعٍ من الثواب، إمَّا بزيادةٍ فيها وفي أمثالها، فيتنعَّم بذلك في الدُّنيا، ولو كان كلُّ فعلٍ حسنٍ لم يفعل لله مذمومًا، لما أطعم الكافر بحسناته في الدُّنيا؛ لأنَّها تكون سيِّئاتٍ! وقد يكون من فوائد ذلك وثوابه في الدُّنيا: أن يهديه الله إلى أن يتقرَّب بها إليه، وهذا معنى قول بعضهم: طلبنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله، وقول الآخر: طلبهم له نيَّةٌ؛ يعني: نفس طلبه حسنةٌ تنفعهم، وهذا قيل في العلم لأنَّه الدليل المرشد. فإذا طلبه بالمحبة، وحصَّله وعرفه بالإخلاص، فالإخلاص لا يقع إلا بالعلم، فلو كان طلبه لا يكون إلا بالإخلاص، لزم الدَّور» (¬2). والمقصود أنَّ من عرضت له مثل هذه الشُّبهة التي عرضت للرجل الذي سأل أبا هريرة- في شأن طلب العلم- فليداوها بالطلب، الذي لن يزيده - إن شاء الله - إلا حرصًا على الخير، وتصحيحًا للنيَّة، وتعلُّقًا به. * * * ¬

(¬1) تلبيس إبليس (1/ 284). (¬2) المستدرك على مجموع الفتاوى (3/ 104)، نقلًا عن: الفروع (1/ 524).

من مواعظ عمرو بن العاص رضي الله عنه

من مواعظ عمرو بن العاص - رضي الله عنه - (1/ 2) هو عمرو بن العاص بن وائلٍ السَّهميُّ، أبو عبد لله، ويقال: أبو محمدٍ، وُصِفَ بأنَّه داهية قريشٍ، ومن يُضرب به المثل في الفطنة، والدَّهاء، والحزم. هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمًا في أوائل سنة ثمانٍ، مرافقًا لخالد بن الوليد، وحاجب الكعبة عثمان بن طلحة، ففرح النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقدومهم وإسلامهم، وأمَّره - صلى الله عليه وسلم - على بعض الجيش، وجهَّزه للغزو، ومن أشهر الغزوات التي تأمَّر عليها: غزوة ذات السَّلاسل. كان من فرسان قريشٍ، وأبطالهم في الجاهليَّة، مذكورًا بذلك فيهم. وكان شاعرًا حسن الشعر، حُفظ عنه منه الكثير في مشاهد شتَّى. وكان من رجال قريشٍ رأيًا، ودهاءً، وحزمًا، وكفاءةً، وبصرًا بالحروب، ومن أشراف ملوك العرب، ومن أعيان المهاجرين. توفي - رضي الله عنه - سنة (43هـ)، وله نحوٌ من 100 سنةٍ (¬1). ... ¬

(¬1) تنظر ترجمته باختصار: سير أعلام النبلاء (3/ 55).

• لقد رويت عن عمرٍو - رضي الله عنه - بعض المواعظ؛ ومنها (¬1): «لا أملُّ ثوبي ما وسعني، ولا أملُّ زوجتي ما أحسنت عشرتي، ولا أملُّ دابَّتي ما حَمَلَتْني؛ إنَّ الملال من سيِّاء الأخلاق». هذه الموعظة من عمرٍو - رضي الله عنه - تُشكِّل قاعدةً من قواعد السعادة لمن تأمَّلها؛ فإنَّ المُلاحظ أنَّ بعض الناس يصنع في حياته ألوانًا من التعاسة؛ بسبب كثرة ملالته، وسيطرة هاجس التجديد المتكرِّر، وغلبة النظرة المثاليَّة في حياته، وفي علاقاته الاجتماعيَّة، وفي أثاثه ومُقتنياته! فأمَّا المقتنيات، فعبَّر عنها عمرٌو بالثوب، فهو لا يملُّ من لبسه والاكتساء به، ما دام يسعه ولا يشينه. وبعض الناس- لملالته- لا يكاد يبقى في يده مالٌ إلا بدَّده في ثوبٍ جديدٍ، أو أثاثٍ جديدٍ، أو ترميماتٍ لبيته، دون حاجةٍ تُذكر لذلك! وفي شأن الزواج يقول: «ولا أملُّ زوجتي ما أحسنت عشرتي»! إنَّها النظرة المعتدلة لحقيقة العلاقة الزوجيَّة، وليست النظرة المثاليَّة، التي تحمل بعض الناس على التبرُّم من الزوجة لأدنى تقصيرٍ، أو طلب التعدُّد وكثرة الطلاق دون معنًى مُعتبرٍ، وكأنَّه كاملٌ في أخلاقه وطباعه! فعمرٌو - رضي الله عنه - يرى أنَّ العلاقة الزوجيَّة تستقيم بالقدر الأدنى، الذي عبَّرت عنه تلك القاعدة النبويَّة في الحياة الزوجيَّة، التي قرَّرها - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (لا يفرك مؤمنٌ مؤمنةً؛ إن كره منها خلقًا، رضي منها آخر) (¬2)؛ لأنَّ عمرًا - وهو الرجل الذي مُلئ عقلًا - يُدرك أنَّ الحياة الزوجيَّة - وسائر ¬

(¬1) تاريخ دمشق (46/ 183). (¬2) رواه مسلم ح (1469).

العلاقات الاجتماعيَّة- ما لم تقم على اغتفار الزلَّات، واحتمال الهفوات، فلن يصبر أحدٌ على أحدٍ، ولن تدوم علاقةٌ على وجه الأرض، لكن يبقى الوفاء، ويبقى احتمال الأخطاء، والسعي في تقويمها، والثناء على الأخلاق الحسنة؛ فبذلك تذهب الملالة، وتستمرُّ الحياة. وثالثة المعاني التي ذكرها عمرٌو - رضي الله عنه - في موعظته: قوله: «ولا أملُّ دابَّتي ما حَمَلَتْني». قارن هذا بمن آتاه الله مالًا، فهو يغيِّر سيارته في أوقاتٍ قصيرةٍ ويتتبَّع «الموديلات» الجديدة! وقد يقول قائلٌ: وما الضَّير في ذلك؟ وقد آتاه الله مالًا؟ فالجواب: أنَّ تعليل عمرٍو في آخر موعظته يوضِّح هذا: «إنَّ الملال من سيِّاء الأخلاق»، فلئن كان اليوم مقتدرًا، فقد لا يكون غدًا كذلك، ولئن تتبَّع طبعه الملول، فسيذهب وقته وماله في تتبُّع الكماليات. كما أنَّ الملول من الناس لا يصلح أن يقود، ولا أن يتسنَّم الأعمال الكبار، بل إنَّ سرعة الملل تحرم الإنسان من أنواعٍ كثيرةٍ من الخير، ومن أدار بصره في الواقع، أدرك هذا جيِّدًا، وبلا عناءٍ. * * * * ومن مواعظ عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قوله (¬1): • «ثلاثٌ لا أناة فيهنَّ: المبادرة بالعمل الصالح، ودفن الميِّت، وتزويج الكُفْءِ». العرب كانت تذمُّ العجلة، وتمسيِّها أمَّ الندامات، لكن جاء الإسلام ¬

(¬1) العقد الفريد (2/ 119).

ليصحِّح بعض المفاهيم الخاطئة في هذا المعنى ... فإنَّ الأناة في بعض الأمور مذمومةٌ ومُلامةٌ، ومنها الأمور التي أشار إليها عمرٌو - رضي الله عنه -، وهي: o العمل الصالح: فالمؤمن يعلم أنَّ ترك المبادرة للعمل الصالح هو في حقيقته تفويت لتجارةٍ رابحةٍ مع الله تعالى. o والثانية: دفن الميِّت، فحقُّه أن يكرم بدفنه؛ فإنَّ الله تعالى قال: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21]. o وتزويج الكُفْءِ، فمتى ما تقدَّم الكفءُ للموليَّة - بنتًا كانت أم أختًا - فليبادر بتزوجيه، فإنَّ الفرصة الجيِّدة قد لا تتكرَّر، وقد أحسن القائل: إذا هبَّت رياحك فاغتنمها ... فعقبى كلِّ خافقةٍ سكون ولا تقعد عن الإحسان فيها ... فلا تدري السُّكون متى يكون • ومن المواعظ التي رويت عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، ما تصوِّره هذه القصة التي وقعت بينه وبين الحبر عبد الله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهما حين دخل عليه، فقال: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال: «أصبحت وقد ضيَّعت من يديني كثيرًا، وأصلحت من دنياي قليلًا، فلو كان الذي أصلحت هو الذي أفسدتُّ، والذي أفسدتُّ هو الذي أصلحت، لقد فزت، ولو كان ينفعني أن أطلب طلبت، ولو كان ينجيني أن أهرب هربت، فصرت كالمجنون بين السماء والأرض، لا أرتقي بيدين، ولا أهبط برجلين، فعظني بعظةٍ أنتفع بها يا بن عباسٍ!». قال ابن عباسٍ: هيهات! صار ابن أخيك أخاك، ولا يشاء أن يبكي إلا بكيت (¬1). ¬

(¬1) حلية الأولياء (9/ 120).

لله أولئك الرجال ... إنَّهم أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -! تأمَّل في إزرائهم على أنفسهم! وتأمَّل في خوفهم من لقاء ربِّهم! وها هو عمرٌو- وقد قارب المئة- يطلب من ابن عباسٍ أن يعظه وقد رقَّ عظمه، ونحل جسده، وأدبر عن الدُّنيا، وأقبل على الآخرة! وها هو ابن عباس يعلن عن مشاركته هذا الخوف حين قال: هيهات! صار ابن أخيك أخاك ... ولا يشاء أن يبكي إلا بكيت. والمعنى: أنَّني لست صغيرًا، بل كبرت وصرت مثقلًا بالذنوب التي تبكي منها يا عمرو! فرضي الله عنهم وأرضاهم. ما أحوجنا- ونحن أهل الغفلة والتقصير- أن نتأمَّل في أمثال هذه المواعظ التطبيقيَّة من أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -! الذين لا كان ولا يكون مثلهم في بذلهم، وجهادهم، وتضحيتهم لهذا الدِّين، وهم مع هذا على خوفٍ عظيمٍ من ذنوبهم، وتقصيرهم في حقِّ مولاهم. إنَّ أمثال هذه المواعظ ينبغي أن يكون أثرها علينا واقعًا عمليًّا، في الاستعداد ليوم الرحيل، والتخفُّف من الذنوب والآثام قبل النَّقلة المفاجئة التي لا نجد فيها وقتًا للاستعتاب والندم! والسعيد - والله - من قدم على مولاه مُخفًّا من الذنوب والآثام، خفيف الظَّهر من حقوق العباد، أعاننا الله على ذلك بمنِّه وكرمه، وجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا أواخرها، وخير يومٍ لنا في حياتنا اليوم الذي نلقاه فيه. هذه بعضٌ من مواعظ الصحابيِّ الجليل عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، وما زال للحديث صلةٌ، في المجلس القادم إن شاء الله.

من مواعظ عمرو بن العاص رضي الله عنه

من مواعظ عمرو بن العاص - رضي الله عنه - (2/ 2) • ومن مواعظه - رضي الله عنه - قوله (¬1): «ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشرِّ، ولكنَّه الذي يعرف خير الشرَّين، وليس الواصل الذي يصل من وصله، ولكنَّه الذي يصل من قطعه!». هذه الموعظة هي قاعدةٌ في باب المقارنات بين الأقوال والأفعال والمواقف (¬2). وعمرٌو - رضي الله عنه - لا ينفي العقل مطلقًا عمَّن يميِّز بين الخير والشرِّ؛ فهذا ممَّا يُحمد عليه الإنسان، وإنَّما مراده أنَّ أعلى درجات العقل: أن يوفَّق الإنسان لمعرفة خير الشرَّين، ويُضاف لذلك: خير الخيرين أيضًا، كما قال الشاعر: إنَّ اللَّبيب إذا بدا من جسمه ... مرضان مختلفان داوى الأخطرا وهذا موضعٌ من المواضع التي يتبيَّن فيها فقه الإنسان، ورجاحة عقله؛ فإنَّ تمييز الخير من الشرِّ يدركه كثيرٌ من الناس، لكنَّ التمييز بين خير الخيرين وشرِّ الشرَّين قليلٌ؛ لأنَّه يحتاج إلى مزيد علمٍ وتجربةٍ وبُعدِ نظرٍ. ¬

(¬1) الإشراف، في منازل الأشراف؛ لابن أبي الدنيا (ص 264). (¬2) قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (20/ 54): «وهذا ثابتٌ في سائر الأمور».

قال ابن تيمية رحمه الله: «فإنَّ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، بحسب الإمكان، ومعرفة خير الخيرين، وشرِّ الشرَّين؛ حتى يُقدَّم عند التزاحم خير الخيرين، ويدفع شرُّ الشرَّين» (¬1). وفي الجملة الأخيرة من كلام ابن تيمية رحمه الله بيان فائدة هذه المعرفة، وهي: الترجيح عند التعارض بين المصالح والمفاسد، فمن لم يعرف خير الخير فكيف يختار أعلاهما؟ ومن لم يميِّز شرَّ الشرَّين فكيف يرتكب أدناهما؟ ومن تأمَّل في واقع الناس، وجد أنَّ أحد أهمِّ أسباب الخلل الذي يطرق حياتهم الخاصَّة والعامَّة، هو من عدم تطبيق هذه القاعدة التي تضمَّنتها كلمة عمرٍو - رضي الله عنه -، فربَّما قُدِّم شرُّ الشرَّين، وتُرِك خير الخيرين؛ فيحصل من الفساد والخلل ما لا يعلمه إلا الله تعالى! ثم قال عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: «وليس الواصل الذي يصل من وصله، ولكنَّه الذي يصل من قطعه!»، وهي قاعدةٌ مقتبسةٌ من مشكاة النبوَّة، ففي صحيح البخاريِّ من حديث ابنه عبد الله بن عمرو بن رحمه وصلها» (¬2)، فإنَّ الذي يصل على شرط الوصل، فهو يشبه التقاضي، وما أقربه من حظِّ النفس! لكنَّ الواصل حقًّا هو الذي يعيش العبودية لله تعالى بالقيام بهذه الشعيرة العظيمة: صلة الرحم. ومن تأمَّل في سبب انقطاع الصلة بين بعض الأرحام، وجد أنَّه مشارطتهم بلسان الحال أو بلسان المقال، والمؤمن الموفَّق هو من لم ¬

(¬1) منهاج السُّنَّة النبوية (6/ 118). (¬2) البخاري ح (5991).

يلتفت إلى هذا، بل يَصِلُ ولو وجد صُدودًا وقطيعة ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ففي صحيح مسلمٍ أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، إنَّ لي قرابةً أَصِلُهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويُسيئُون إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويجهلون عليَّ، فقال: (لَئِن كنت كما قلت، فكأنَّما تسفُّهم الملَّ، ولا يزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دمت على ذلك) (¬1). * * * • ومن مواعظ عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قوله لابنه (¬2): «يا بُنيَّ، احفظ عنِّي ما أُوصيك به: إمامٌ عادل، خيرٌ من مطرٍ وابل، وإمامٌ ظلومٌ غشوم، خيرٌ من فتنةٍ تَدُوم». إنَّ من حكمة الله ورحمته أن شرع للناس اختيار إمامٍ وحاكمٍ يقود الناس ويسوسهم بكتاب الله وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ: لا يصلح النَّاس فوضى لاسراة لهم ... ولا سراة إذا جهَّالهم سادوا ويقول ابن المبارك رحمه الله: إنَّ الجماعة حبل الله فاعتصموا ... منه بعروته الوثقى لمن دانا كم يدفع الله بالسُّلطان معضلةً ... في ديننا رحمةً منه ودنيانا لولا الخلافة لم تأمن لنا سبلٌ ... وكان أضعفنا نهبًا لأقوانا قال ابن تيمية رحمه الله: «والملك الظالم لا بدَّ أن يدفع الله به من الشرِّ أكثر من ظُلمه، وقد قيل: ستُّون سنةً بإمامٍ ظالمٍ، خيرٌ من ليلةٍ واحدةٍ بلا إمامٍ» (¬3). ¬

(¬1) مسلم ح (2558). (¬2) تاريخ دمشق (46/ 184). (¬3) مجموع الفتاوى (14/ 268).

ولهذا؛ اتَّفق الفقهاء على وجوب تنصيب الإمام، وأجمعوا على تحريم الخروج عليه ولو ظلم وجار، ما لم ير الناس كفرًا بواحًا عندهم فيه من الله برهانٌ، ولديهم القدرة على إزاحته، والنصوص في هذا الباب كثيرةٌ جدًّا. قال الإمام أبو جعفرٍ الطَّحاويُّ: «ولا نرى الخروج على أئمَّتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يدًا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله - عز وجل -، ما لم يأمروا بمعصيةٍ، وندعو لهم بالصلاح والعافية» (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السُّنَّة أنَّهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف، وإن كان فيهم ظلمٌ؛ كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّ الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتالٍ ولا فتنةٍ، فلا يدفع (¬2) أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، ولعلَّه لا يكاد يعرف طائفةٌ خرجت على ذي سلطانٍ، إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته» (¬3). ونصوص الأئمَّة في هذا الباب كثيرةٌ معلومةٌ. والمراد هنا: أنَّ كلمة عمرو بن العاص هنا غايةٌ في الحكمة، وهي قوله: «يا بُنيَّ، احفظ عنِّي ما أوصيك به: إمامٌ عادل، خيرٌ من مطرٍ وابل، ¬

(¬1) شرح الطحاوية، تحقيق: الأرناؤوط (2/ 540). (¬2) كذا بالأصل، ولعل صوابها: «فإنه يدفع». (¬3) منهاج السُّنَّة النبوية (3/ 391).

وإمامٌ ظلومٌ غشوم، خيرٌ من فتنةٍ تدوم»؛ فالمطر - مع أهمِّيَّته - قد يعيش الإنسان بدونه بعض الوقت، ويرحل لبلدٍ آخر مخصبٍ، لكن كيف سيكون العيش مع فقد الأمن، والعياذ بالله؟! وممَّا يُؤكَّد عليه- خاصة في أزمنة الفتن والاضطراب الذي تُؤجِّجه بعض وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعيِّ:- الحرص على جمع الكلمة، وعدم نشر ما يفرِّق جماعة المسلمين، أو يوغر الصدور على ولاة الأمور من الحكَّام والعلماء؛ فإنَّ عاقبة ذلك فسادٌ عريضٌ، لا يعلمه إلا الله. ومن كمال هذه الشريعة: أنَّها لم تُقفل باب النصح للأئمَّة - من العلماء والحكام- بل جعلته من الدِّين، كما في حديث تميم الدَّاريِّ - رضي الله عنه -: (إنَّ الدِّين النَّصيحة، إنَّ الدِّين النَّصيحة، إنَّ الدِّين النَّصيحة)، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله، وكتابه، ورسوله، وأئمَّة المؤمنين، وعامَّتهم- أو أئمَّة المسلمين، وعامَّتهم) (¬1). قال ابن تيمية رحمه الله: «والنصيحة لأئمَّة المسلمين وعامَّتهم هي مناصحة ولاة الأمر ولزوم جماعتهم؛ فإنَّ لزوم جماعتهم هي نصيحتهم العامة، وأمَّا النصيحة الخاصة لكلِّ واحدٍ منهم بعينه، فهذه يمكن بعضها ويتعذَّر استيعابها على سبيل التعيين» (¬2). والمقصود أنَّ نصيحتهم حقٌّ لهم على رعيَّتهم، وليست مجرَّد إذنٍ من الشرع، يُسلك فيها المسلك الشرعيُّ، الذي يحقِّق المصالح ويدفع أو يقلِّل المفاسد. ¬

(¬1) مسلم ح (55)، أبو داود ح (4944) واللفظ له. (¬2) مجموع الفتاوى (1/ 19).

ومن تأمَّل في أحوال الأمم الغابرة، والدول الحاضرة، التي وقع فيها خروجٌ على الحكَّام، تيقَّن هذه الحقيقة التي أشار إليها الأئمة في كلامهم، ومنهم عمرو بن العاص. نعوذ بالله من مضلات الفتن، ومن أسباب ضياع الأمن، كما نسأله أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يولِّي عليهم خيارهم، وأن يهدي ولاتهم لتحكيم شرعه وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. * * *

من مواعظ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه

من مواعظ عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - هو عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السَّهميُّ القرشيُّ، عابدٌ من العُبَّاد، وعالمٌ من علماء الصحابة، أبوه صحابيٌّ، ويقال: إنَّه أسلم قبل أبيه. له مناقب وفضائل، ومقامٌ راسخٌ في العلم والعمل، حمل عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - علمًا جمًّا، وكتب الكثير بإذنٍ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وترخيصه له في الكتابة - بعد كراهيته للصحابة أن يكتبوا عنه سوى القرآن - ثم استقرَّ الإجماع بعد قرن الصحابة على جواز الكتابة، بل صرَّح بعضهم بوجوب الكتابة لغرض حفظ السُّنة. كان مشهورًا بالتعبُّد، حاوره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك؛ ناصحًا له بالرِّفق بنفسه وعدم التشديد عليها وقت الشباب؛ لأنَّه سيحتاج لبعض النشاط في الكبر، وخشية إصابته بالملل، وقد وقع ما توقَّعه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال ذلك الصاحب الكريم: «يا ليتني قبلت رُخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (¬1). كانت وفاته سنة (65 هـ) في أرض الكنانة (مصر)، رضي الله عنه وأرضاه (¬2). * * * ¬

(¬1) البخاري ح (1975) واللفظ له، مسلم ح (1159). (¬2) تنظر ترجمته باختصار: سير أعلام النبلاء (3/ 79).

• لقد رويت عن عبد الله بن عمروٍ - رضي الله عنه - جملةٌ من المواعظ؛ منها قوله (¬1): «دع ما لست منه في شيءٍ، ولا تنطق فيما لا يعنيك، واخزن لسانك كما تخزن نفقتك». هذه الجملة الوعظيَّة تضمَّنت وصيَّتين عظيمتين: الأولى: «دع ما لست منه في شيء»، وهي تشبه تلك الجملة المأثورة: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (¬2)، وهي إن كانت من حيث السند فيها نظرٌ في نسبتها للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ إلا أنَّها - كما يقول ابن رجب:- «أصلٌ عظيمٌ من أصول الأدب» (¬3). ومراد عبد الله في قوله: «دع ما لست منه»؛ أي: لا يعنيك شرعًا، أو عرفًا، بحيث لا يخالف الشرع، ولابدَّ من حمل هذه الكلمة على هذا المعنى؛ حتى لا يَظُنَّ أحدٌ أنَّه يريد بها ما ليس منها؛ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وما أكثر ما يدخل الناس فيما ليسوا منه، ولا يعنيهم في قبيلٍ ولا دبير، ولا قليلٍ ولا كثير! ومن ذلك: السؤال عن بعض التفاصيل التي سكتت عنها الشريعة - لا نسيانًا؛ ولكن - رحمةً بالخلق، أو لأنَّ تفصيلها لا فائدة منه، ويذكر في ترجمة أحد تلاميذ الإمام مالكٍ - رحمهم الله - حين جاءه كتابٌ من بعض الملوك يسأله عن كِفَّتي الميزان: أمن ذهبٍ هي أم من ورقٍ؟ فكتب في الجواب: حدَّثنا مالكٌ ¬

(¬1) مصنف ابن أبي شيبة (7/ 128). (¬2) الترمذي ح (2317)، ابن ماجه ح (3976). (¬3) جامع العلوم والحكم (1/ 288).

عن الزُّهريِّ، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) (¬1). وهذا يقع كثيرًا لبعض الطلبة- خاصةً منهم المبتدئين - حين يسألون عن تفاصيل لا أثر لها، بل لا داعي لها في العلم أو البحث، فيما كان يسمِّيه العلماء: الأغلوطات، وهذا المسلك ممَّا يحرم طالب العلم بركة ما يعلم، ويقطعه عن تحصيل النافع المفيد. ومن ذلك: ما يقع لبعض الناس من تتبُّع الصغيرة والكبيرة من خصوصيات الناس، فهذا لو لم تأت به الشريعة، لنبذته الفطرة السَّليمة، ولنفرت منه النفوس المستقيمة، وهو ممَّا يوجب العداوة والبغضاء، ويحمل على العدوان بين الناس، وهو في الحقيقة إحدى صور التجسُّس، وتتبع العورات، والفضول من القول والعمل. وأمَّا الجملة الثانية، فهي قوله: «ولا تنطق فيما لا يعنيك، واخزن لسانك كما تخزن نفقتك». وهذه الجملة وثيقة الصلة بالجملة الأولى، ولكنَّها تستحقُّ الإفراد؛ لكثرة ما يدخل على الناس من خللٍ بسبب اللسان. إنَّ هذه الموعظة تلتقي مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت) (¬2). قال الإمام الشافعيُّ رحمه الله مبيِّنًا معنى هذه الجملة: «إذا أراد أن يتكلَّم فليفكِّر؛ فإن ظهر له أنَّه لا ضرر عليه، تكلَّم، وإن ظهر له فيه ضررٌ أو شكَّ فيه، أمسك». ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء، ط الرسالة (9/ 312) ترجمة: زياد بن عبد الرحمن اللخمي. (¬2) البخاري ح (6018)، مسلم ح (47).

ومن هنا أطبق السلف- رضي الله عنهم ورحمهم- على هذا المعنى، وكلامهم في هذا الباب كثيرٌ جدًّا، بل صنَّف بعض الأئمة كتبًا في أدب المنطق والصمت. يقول يعلى بن عبيدٍ رحمه الله: (دخلنا على محمَّد بن سُوقة فقال: «أحدِّثكم بحديثٍ لعلَّه ينفعكم فإنَّه قد نفعني! قال لنا عطاء بن أبي رباحٍ: يا بني أخي، إنَّ من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدُّون فضول الكلام ما عدا كتاب الله أن تقرأه، أو تأمر بمعروفٍ، أو تنهى عن منكرٍ، أو تنطق بحاجتك في معيشتك التي لا بدَّ لك منها، أتُنكرون: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10، 11]، و {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17، 18]؟ أما يستحي أحكم أن لو نشرت عليه صحيفته التي أملى صدر نهاره، كان أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه؟! (¬1). ولو طبَّقنا وصية عبد الله بن عمرٍو بقوله: «واخزن لسانك كما تخزن نفقتك»، لم نتكلَّم إلا قليلًا، وفيما يعنينًا، والله المستعان. * * * • ومن مواعظ عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قوله (¬2): «من سُئل عمَّا لا يدري، فقال: لا أدري، فقد أحرز نصف العلم». ما أحسن أن تأتي مثل هذه الموعظة من عالمٍ كعبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما! وهذا المعنى الذي أشار إليه عبد الله متواترٌ عن السلف ¬

(¬1) مصنف ابن أبي شيبة رقم (35469). (¬2) العقد الفريد (2/ 85).

الصالح - رضي الله عنهم -، فهم الذين وعوا عن الله ورسوله خطورة القول عليهما بغير علمٍ، فكان من تمام علمهم قول: لا أدري. يقول أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه -: من علم الرجل أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم؛ لأنَّ الله - عز وجل - قال لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] (¬1). وصحَّ (¬2)، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «العلم ثلاثةٌ: كتابٌ ناطقٌ، وسنَّةٌ ماضيةٌ، و «لا أدري». قال ابن عجلان رحمه الله: «إذا أغفل العالم «لا أدري»، أصيبت مقاتله» (¬3). وقال أحمد: ليس كلُّ شيءٍ ينبغي أن يُتكلَّم فيه، وذكر أحاديث النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه «كان يسأل فيقول: (لا أدري حتى أسأل جبريل)». وقال الإمام أحمد مرةً: وددتُّ أنَّه لا يسألني أحدٌ عن مسألةٍ، أو ما شيءٌ أشدَّ عليَّ من أن أُسأل عن هذه المسائل! البلاء يخرجه الرجل عن عنقه ويقلِّدك. وكلام السلف في هذا الباب لا يحصى كثرةً، والموفَّق من سار على هذا الهدي السليم: يتكلَّم بعلمٍ، ويسكت بعلمٍ، ويفرح إذا كفاه غيره شأن الفُتيا. رزقنا الله السير على هدي سلفنا الصالح، ومنَّ علينا بالعلم النافع والعمل الصالح. ¬

(¬1) الآداب الشرعية، والمنح المرعية (2/ 58)، وحسَّن إسناده ابن مفلح. (¬2) المصدر السابق. (¬3) جامع بيان العلم (1/ 380).

من مواعظ أنس بن مالك رضي الله عنه

من مواعظ أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - (1/ 2) هو أنس بن مالك بن النَّضر بن ضمضم الأنصاريُّ، النَّجَّاريُّ - رضي الله عنه -، أحد أعلام الصحابة المشاهير؛ لاتِّصاله الوثيق برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث طالت صحبته له، فبلغت عشر سنواتٍ. وصفه الذَّهبيُّ بقوله: الإمام، المفتي، المقرئ، المحدِّث، راوية الإسلام، أبو حمزة الأنصاريُّ، الخزرجيُّ، النَّجَّاريُّ، المدنيُّ، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرابته من النساء، وتلميذه، وآخر أصحابه موتًا. روى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - علمًا جمًّا، وعن: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعدَّةٍ من الصحابة - رضي الله عنهم -، وروى عنه خلقٌ عظيمٌ من التابعين، سرد الحافظ المزِّيُّ في «التهذيب» نحو مائتي نفسٍ من الرواة عنه. وكان يقول: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وأنا ابن عشرٍ، ومات وأنا ابن عشرين. فصحب نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - أتمَّ الصُّحبة، ولازمه أكمل الملازمة منذ هاجر، وإلى أن مات، وغزا معه غير مرَّةٍ، وبايع تحت الشجرة. جاءت به أمُّه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، هذا ابني أنسٌ، أتيتك به يخدمك، فادع الله له، فقال: (اللَّهمَّ أكثر ماله وولده).

قال - رضي الله عنه -: فوالله إنَّ مالي لكثيرٌ، حتى إنَّ كرماً لي - أي: عنبًا - لتحمل في السنة مرَّتين، وولد لِصُلبي مائةٌ وستةٌ، وقد مات منهم ثمانون - وقيل: سبعون - في طاعون الجارف الذي وقع سنة تسعٍ وستِّين (¬1). استعمله أبو بكرٍ الصِّدِّيق ساعيًا على الصدقة، بعد أن استشار فيه الفاروق، فقال له الفاروق - رضي الله عنه -: ابعثه، فإنَّه لَبيبٌ كاتبٌ. مات- على الأصحِّ - سنة ثلاثٍ وتسعين، وقد جاوز المئة (¬2). * * * • رويت عنه بعض المواعظ؛ منها قوله (¬3): «إذا لقيت امرأةً فغمِّض عينيك حتى تمضي». قد تبدو هذه الوصيَّة في غضِّ البصر مكرَّرة ومعتادةً، لكنَّنا - والله- بحاجةٍ للتذكير بها، خاصةً في عصرنا الذي تفتَّحت الأعين على صورٍ لا قبل للناس بها، فالصالح من الناس- ممَّن يتحاشى رؤية امرأةٍ أجنبيَّةٍ - يُبتلى بسبب انتشار وسائل نشر الصور بشيءٍ من هذا البلاء! فكان حقًّا على اللبيب العاقل أن ينتبه لهذا المنفذ الخطير الذي أودى بقلوبٍ كانت معلَّقةً بالعرش، فهوى بها إطلاق النظر إلى الفرش! بل ذكر القرطبيُّ رحمه الله قصةً في كتابه «التَّذكرة» (¬4) يقشعرُّ لها البدن، ¬

(¬1) كان طاعون الجارف بالبصرة سنة 69 هـ، قال المدائني: حدَّثني من أدرك ذلك، قال: كان ثلاثة أيام، فمات نحو مائتي ألف نفسٍ، وقال غيره: مات في طاعون الجارف لأنسٍ من أولاده وأولادهم سبعون نفسًا [دول الإسلام: 1/ 52]. (¬2) ينظر في ترجمته: سير أعلام النبلاء (3/ 395)، الإصابة في تمييز الصحابة (1/ 275). (¬3) الزهد؛ للإمام أحمد (ص 172). (¬4) التذكرة، بأحوال الموتى وأمور الآخرة (ص 193).

حاصلها أنَّ رجلًا صالحًا مؤذِّنًا وقعت عينه على امرأةٍ نصرانيَّةٍ، فعلقها قلبه، فخطبها، واشترط أهلها أن يتنصَّر، فوافق! فتنصَّر، لكنَّه مات قبل أن يدخل بها! نعوذ بالله من الخذلان وسوء الخاتمة! ولخطورة هذا النظر؛ جاء الأمر بغضِّ البصر للرجال والنساء، على خلاف المعتاد في غالب أوامر القرآن، التي تكتفي بتوجيه الخطاب للعموم، فقال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 30، 31]. بل نصَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على أنَّ من أهمِّ مقاصد النكاح غضَّ البصر، فقال: (يا معشر الشَّباب، من استطاع منكم الباءة، فليتزوَّج؛ فإنَّه أغضَّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع، فعليه بالصَّوم؛ فإنَّه له وجاءٌ) (¬1). ولمَّا نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الجلوس في الطُّرقات، قال الصحابة - رضي الله عنهم -: يا رسول الله، ما لنا بُدٌّ من مجالسنا نتحدَّث فيها! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا أبيتم إلَّا المجلس، فأعطوا الطَّريق حقَّه)، قالوا: وما حقُّه؟ قال: (غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السَّلام، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر) (¬2) فبدأ بغضِّ البصر. وإذا كان هذا التوجيه الربانيُّ والنبويُّ يتكرَّر في تلك الحِقبَة من الزمن، التي كانت عامَّة النساء فيها على قدرٍ كبيرٍ من الحشمة والسِّتر؛ ¬

(¬1) البخاري ح (5066)، مسلم ح (1400). (¬2) البخاري ح (6229)، مسلم ح (2121).

فكيف سيكون الحال في عصرنا، الذي تنوَّعت فيه الصور وأساليب الإغراء بها، واستهدف الشباب والفتيات بها؟! لقد كثرت الشكوى من قسوة القلوب، وضعف الخشوع في الصلاة، ومن تأمَّل في أعظم الأسباب تأثيرًا في ذلك، أدرك أنَّ إطلاق البصر في الحرام يأتي في مقدِّمتها. والحديث في هذه المسألة يطول، والمقصود الإشارة إلى خطورة التساهل في ذلك، وعدم الركون إلى ما في القلب من صلاحٍ أو تُقًى، فلربَّ نظرةٍ أوقعت في قلب صاحبها البلابل! كما يروى عن الإمام أحمد رحمه الله. ومن أعظم طرق علاج هذه البليَّة: ما قاله الجنيد - لمَّا سُئل: بما يُستعان على غضِّ البصر؟ - قال: بعلمك أنَّ نظر الله إليك أسبق إلى ما تنظره. وهذا - والله - هو أنجع الأدوية؛ استشعار مراقبة الله - عز وجل -. ومن وفِّق لغضِّ بصره، أكرمه الله بكراماتٍ كثيرةٍ؛ منها: - راحة القلب من قسوته، وصفاؤه من مُكدِّرات الخشوع، فسيجد لصلاته لذَّةً، ولتلاوته لكلام مولاه لذَّةً، ولمناجاته لذَّةً. - بركة اتِّباع الشرع المطهَّر، وما الظنُّ بعبدٍ أطاع خالقه، وخالف هواه؟ أيخذل الله قلبه؟ لا والله! قال ابن الجوزيِّ رحمه الله: «اعلم - وفَّقك الله - أنَّك إذا امتثلت المأمور به من غضِّ البصر- عند أول نظرةٍ - سلِمتَ من آفاتٍ لا تُحصى، فإذا كَّررت النظر لم تأمن أن يُزرع في قلبك زرعًا يصعب قلعه، فإن كان قد حصل ذلك، فعلاجه: الحِميَة بالغضِّ فيما بعد، وقطع مراد الفكر

بسدِّ باب النظر، فحينئذٍ يسهل علاج الحاصل في القلب؛ لأنَّه إذا اجتمع سيلٌ فسُدَّ مجراه، سَهُلَ نَزْف الحاصل، ولا علاج للحاصل في القلب أقوى من قطع أسبابه، ثم زجر الاهتمام به؛ خوفًا من عقوبة الله - عز وجل -، فمتى شرعت في استعمال هذا الدواء، رُجي لك قُرب السلامة» (¬1). اهـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إنَّ غضَّ البصر عن الصورة التي نُهي عن النظر إليها - كالمرأة والأمرد الحسن- يورث ذلك ثلاث فوائد جليلة القدر: إحداها: حلاوة الإيمان ولذَّته، التي هي أحلى وأطيب ممَّا تركه لله؛ فإنَّ من ترك شيئًا لله، عوَّضه الله خيرًا منه. وأمَّا الفائدة الثانية في غض البصر، فهي: أنَّه يورث نور القلب والفراسة؛ قال تعالى عن قوم لوطٍ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، فالتعلُّق بالصور يوجب فساد العقل، وعمى البصيرة، وسُكر القلب؛ بل جنونه. وذكر سبحانه آية النور عقيب آيات غضِّ البصر، فقال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]، والله تعالى يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، فغضُّ بصره عمَّا حَرُمَ، يُعوِّضه الله من جنسه بما هو خيرٌ منه؛ فيُطلق نور بصيرته، ويَفتَحُ عليه. والفائدة الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته، فيجعل الله له سلطان النُّصرة مع سلطان الحُجَّة، وفي الأثر: «الذي يخالف هواه، يفرق الشيطان من ظلِّه»؛ ولهذا يوجد في المتَّبع لهواه من الذُّلِّ- ذلِّ النفس ¬

(¬1) ذم الهوى (ص 144).

وضعفها ومهانتها- ما جعله الله لمن عصاه، فإنَّ الله جعل العزَّة لمن أطاعه، والذِّلَّة لمن عصاه؛ قال تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، وقال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]؛ ولهذا كان في كلام الشيوخ: الناس يطلبون العزَّ من أبواب الملوك، ولا يجدونه إلا في طاعة الله» (¬1) انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله. * * * ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (21/ 252 - 258).

من مواعظ أنس بن مالك رضي الله عنه

من مواعظ أنس بن مالك - رضي الله عنه - (2/ 2) • ومن مواعظه - رضي الله عنه - قوله (¬1): «إنَّكم لتعملون أعمالًا، هي أدقُّ في أعينكم من الشَّعر، إن كُنَّا لنعُدُّها على عهد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات»، قال أبو عبد الله البخاريُّ: «يعني بذلك: المهلكات». وقد بوَّب البخاريُّ على هذا الأثر بقوله: «باب ما يُتَّقى من محقَّرات الذُّنوب». إنَّ السؤال الذي يطرح الإنسان وهو يقرأ هذه الموعظة من هذا الصحابيِّ الجليل: مَن هو المخاطب بهذه الكلمات؟! إنَّهم التابعون بلا ريبٍ! الذين أثنى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على قرنهم في الجملة، فقال: (خير الناس قرني، ثمَّ الَّذين يلونهم، ثمَّ الَّذين يلونهم ...) الحديث (¬2). وما الموبقات والمهلكات التي يشير إليها أنسٌ - رضي الله عنه -؟! إنَّه الإيمان؛ لأنَّه كلَّما قوي الإيمان، استعظم العبد معصية سيِّده ومولاه، وكلَّما ضعُفَ الإيمان، هانت عليه المعصية، ورآها أمرًا هيِّنًا، فتراه يُقصِّر في الواجب، ولا يبالي بفعل المحرَّم، بل ربَّما استصغره! ¬

(¬1) البخاري ح (6492). (¬2) البخاري ح (3651)، مسلم ح (2533).

وما أجمل ذلك التشبيه النبويَّ لحقيقة احتقار الذنوب وأثرها على العبد! الذي بيَّنه أفصح الخلق - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (إياكم ومُحقَّرات الذُّنوب؛ فإنَّما مَثَلُ مُحقَّرات الذُّنوب: كقومٍ نزلوا في بطن وادٍ، فجاء ذا بعودٍ، وجاء ذا بعودٍ؛ حتَّى أنضجوا خبزتهم، وإنَّ مُحقَّرات الذُّنوب متى يؤخذ بها صاحبها، تهلكه) (¬1). وروى أحمد عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إيَّاكم ومُحقَّرات الذُّنوب؛ فإنَّهن يجتمعن على الرَّجل حتَّى يُهلكنه) (¬2). وحاصل هذا: أنَّ العبد إذا نظر إلى المعاصي التي تدخل تحت حدِّ الصغائر لا الكبائر، فربَّما استسهل الوقوع فيها! أو اعتمد فيها على عفو الله تعالى، فلا يلبث إلا أن يجد أثرها في اجتماعها المدمِّر؛ كالسَّيل العرم، لو جزَّأته لوجدتَّه نُقَطًا! كان أحمد رحمه الله يمشي في الوحل ويتوقَّى، فغاصت رجله! فخاض وقال لأصحابه: هكذا العبد لا يزال يتوقَّى الذنوب، فإذا واقعها، خاضها! (¬3). فمن نظر للذنوب على أنَّها أوساخٌ، توقَّاها وتجنَّبها ولو كانت صغارًا، فالوسخ يُؤثِّر ولو كان قليلًا، فإذا تراكم سوَّد الثياب. لا تحقرنَّ من الذُّنوب أقلَّها ... إنَّ القليل إلى القليل كثير وثمَّة معنًى أجُّل وأعظم، يراعيه أهل القلوب الحيَّة، وهو تعظيم أمر الله ونهيه، واستشعار مراقبته، ولسان حالهم كما قال التابعيُّ الجليل ¬

(¬1) رواه أحمد ح (22808) وحسَّن إسناده الحافظ ابن حجرٍ في «الفتح» (11/ 329). (¬2) رواه أحمد ح (3818). (¬3) الآداب الشرعية، والمنح المرعية (1/ 82).

بلال بن سعدٍ: «لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظُر من عصيت!» (¬1). نعم .. هكذا ينظر المؤمن الموفَّق لمسألة المعصية؛ لأنَّ الذي عُصِيَ هو الله، ومع يقيننا بأنَّ الذنوب ليست على درجةٍ واحدةٍ، لكنَّ المُحبَّ لا يُحِبُّ أن يُكدِّر حبيبه أدنى تكديرٍ، فكيف إذا كان هذا المحبوبُ هو ربَّ العالمين - جلَّ جلاله- وليَّ النِّعم كلِّها؟! ولهذا عبَّر ابن مسعودٍ عن هذا المعنى بعمقٍ يليق بعلمه ورسوخه - رضي الله عنه - فقال: «إنَّ المؤمن يرى ذنوبه كأنَّه قاعدٌ تحت جبلٍ يخاف أن يقع عليه، وإنَّ الفاجر يرى ذنوبه كذبابٍ مرَّ على أنفه فقال به هكذا» (¬2)؛ أي: طرده بيده. فتأمَّل كيف عبَّر ابن مسعودٍ عن تفاعل المؤمن والمنافق مع حدثٍ واحدٍ! وكيف تباين تفاعلهما إلى هذا الفرق الكبير! وما ذاك إلا أنَّه ليس لله في قلب المنافق وقارٌ يجعله يتألَّم من الذنب- كبيرًا كان أم صغيرًا. قال ابن بطَّالٍ رحمه الله: «إنَّما كانوا يعُدُّون الصغائر من الموبقات؛ لشدَّة خشيتهم لله وإن لم تكن لهم كبائر، ألا ترى أنَّ إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - إذا سُئل الشفاعة يوم القيامة يذكر ذنبه، وأنَّه كذب ثلاث كَذَبَاتٍ، وهي: قوله في زوجته: هذه أختي، وهي أخته في الدِّين، وقوله: إنِّي سقيمٌ؛ أي: سأسقم، وقوله: فعله كبيرهم هذا؛ يعني: الصَّنم، فرأى الخليل ذلك من الذنوب، وإن كان لقوله وجهٌ صحيحٌ، فلم يقنع من نفسه إلا بظاهرٍ يطابق الباطن، وهذا غاية الخوف. ¬

(¬1) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص 312). (¬2) البخاري ح (6308).

والمحقَّرات إذا كثرت صارت كبائر؛ بالإصرار عليها والتمادي فيها، وقد روى ابن وهبٍ، عن أبي أيُّوب - رضي الله عنه - قال: إنَّ الرجل ليعمل الحسنة فيثق بها، ويغشى المحقَّرات، فيلقى الله يوم القيامة وقد أحاطت به خطيئته! وإنَّ الرجل ليعمل السيِّئة، فما يزال منها مُشفقًا حَذِرًا حتى يلقى الله يوم القيامة آمنًا. وقال أبو عبد الرحمن الحُبلِّيُّ: مثل الذي يجتنب الكبائر ويقع في المُحقَّرات؛ كرجلٍ لقاه سبُعٌ فاتَّقاه حتى نجا منه، ثم لقيه فحل إبلٍ فاتَّقاه فنجا منه، فلدغته نملةٌ فأوجعته، ثم أخرى، ثم أخرى، حتى اجتمعن عليه فصرعنه! وكذلك الذي يجتنب الكبائر ويقع في المُحقَّرات» (¬1). ولقد أحسن القائل: خلِّ الذُّنوب صغيرها ... وكبيرها ذاك التُّقى واصنع كماشٍ فوق أر ... ض الشَّوك يحذر ما يرى لا تحقرنَّ صغيرةً ... إنَّ الجبال من الحصى فإن قلت: ما الموبقات التي أشار إليها أنسٌ - رضي الله عنه -؟ فالجواب: أنَّ العلماء تنوَّعت عباراتهم في تفسير ذلك؛ فمنهم من قال: ترك صلاة الجماعة والتهاون بها، والغِشُّ في البيوع، حتى انقلب الحال وصار بعضهم يَعُدُّ الغشَّ من المهارة في البيع والشراء والعقود! ويرى أنَّه من باب الحذق والذَّكاء والدَّهاء! نسأل الله العافية. وقال آخرون: فُشُوُّ المعاملات الرِّبويَّة، وبعض البيوع المحرَّمة. ومثَّل بعض العلماء لذلك: بالتسامح بعرض الخصم ومن بينه وبين ¬

(¬1) شرح البخاري؛ لابن بطال (10/ 202).

أخيه شَحْناء؛ التِذَاذاً بذلك، واستصغارًا لمثل هذا الذنب، وإطلاق البصر هوانًا بتلك الخطيئة، وفتوى من لا يعلم؛ لئلَّا يُقال: هو جاهلٌ، ونحو ذلك مما يَظُنُّه صغيرًا وهو عظيمٌ! ومثَّل آخرون: بالمدح في الوجوه، والكذب، إلى غير ذلك من صور الذنوب التي يعود التساهل فيها إلى انتشارها وقلَّة إنكارها (¬1). ومهما يكن من شيءٍ، فإنَّ العاقل من تلمَّح العواقب، وما أجمل ما قاله ابن الجوزيِّ في بيان خطورة التهاون بالذنب: «فالله الله! اسمعوا ممَّن قد جرَّب! كونوا على مراقبةٍ، وانظروا في العواقب، واعرفوا عظمة النَّاهي، واحذروا من نفخةٍ تُحتقر، وشررةٍ تُستصغر؛ فربَّما أحرقت بلدًا! وهذا الذي أشرت إليه يسير، يدلُّ على كثير، وأنموذجٌ يُعرِّف باقي المُحقَّرات من الذنوب. والعلم والمراقبة يُعرِّفانك ما أخللت بذكره، ويُعلمانك إن تلمَّحت بعين البصيرة أثر شؤم فعله» (¬2)! * * * ¬

(¬1) ينظر - فيما سبق:- كشف المشكل من حديث الصحيحين؛ لابن الجوزي (3/ 297). صيد الخاطر (ص 149)، شرح رياض الصالحين؛ للعثيمين (1/ 494). (¬2) صيد الخاطر (ص 149).

من مواعظ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما

من مواعظ عبد الله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهما (1/ 2) إنَّه الحبر، وترجمان القرآن، ابن عمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عبد الله بن العبَّاس بن عبد المطَّلب بن هاشم بن عبد منافٍ القُرشيُّ، الهاشميُّ، المكِّيُّ، الأمير - رضي الله عنه -. جمع الله له العقل والرسوخ في العلم، فهو من أكابر علماء الصحابة، هو وأبوه وأمُّه صحابيُّون. أكرمه الله بقربه من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من جهة النَّسب، وُلِد بشعب بني هاشمٍ قبل عام الهجرة بثلاث سنين. صحب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نحوًا من ثلاثين شهرًا، وحدَّث عنه بجملةٍ صالحةٍ. روى عن أكابر الصحابة؛ كعمر، وعليٍّ، ومعاذٍ، وعبد الرحمن بن عوفٍ، وزيد بن ثابتٍ، وغيرهم كثيرٌ. وروى عنه خلقٌ كثيرٌ، ذكر منهم الحافظ المزِّيُّ قريبًا من مائتي نفسٍ. قال عنه الذهبيُّ رحمه الله: كان أبيض وسيمًا مُشربًا بصُفرةٍ، صبيح الوجه، جميلًا، يَخضِب بالحنَّاء، مديد القامة، مهيبًا، كامل العقل، ذكيَّ النفس، من رجال الكمال.

انتقل مع أبويه إلى دار الهجرة عام الفتح، وقد أسلم قبل ذلك، مسح النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رأسه، ودعا له بالحكمة، وقال: (اللَّهمَّ علِّمه التَّأويل). توفِّي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وعمره قريبٌ من ثلاث عشرة سنةً. قال عن نفسه: وجدتُّ عامَّة علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند هذا الحيِّ من الأنصار، إن كنت لآتي الرجل منهم فيُقال: هو نائمٌ؛ فلو شئت أن يُوقظ لي، فأدعه حتى يخرج لأستطيب بذلك قَلْبَه. وقال أيضًا: إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قال الحسن البصريُّ رحمه الله: كان ابن عباس من الإسلام بمنزلٍ، وكان من القرآن بمنزلٍ! وكان يقوم على منبرنا هذا فيقرأ البقرة وآل عمران، فيفسِّرهما آيةً آيةً، وكان عمر - رضي الله عنه - إذا ذكره قال: ذلك فتى الكهول، له لسانٌ سؤول، وقلبٌ عقول. أُصيب في آخر حياته بالعمى، فقال ذينك البيتين المشهورين: إن يأخذ الله من عينيَّ نورهما ... ففي لساني وقلبي منهما نور قلبي ذكيٌّ، وعقلي غير ذي دخلٍ ... وفي فمي صارمٌ كالسَّيف مأثور وقال ابن حزمٍ رحمه الله: جمع أبو بكرٍ محمد بن موسى بن يعقوب بن المأمون - أحد أئمَّة الإسلام - فتاوى ابن عبَّاسٍ في عشرين كتابًا! توفِّي - رضي الله عنه - سنة ثمانٍ وستِّين على الأشهر، وعمره إحدى وسبعون سنةً (¬1). ¬

(¬1) تُنظر سيرته في: السير 3/ 331، الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 121).

• لقد رويت عن ابن عباسٍ - رضي الله عنه - جملةٌ كبيرةٌ من المواعظ، نعرض بعضها؛ فمنها هذه الموعظة العمليَّة التي يترجمها هذا الموقف الذي رواه عبد الله بن بريدة الأسلميُّ رحمه الله إذ يقول (¬1): شتم رجلٌ ابن عبَّاسٍ، فقال ابن عباسٍ: «إنَّك لتشتُمُني وفيَّ ثلاث خصالٍ: إنِّي لأتي على الآية من كتاب الله - عز وجل -، فلوددتُّ أنَّ جميع النَّاس يعلمون منها ما أعلم منها. وإنِّي لأسمع بالحاكم من حُكَّام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به، ولعلِّي لا أقاضي إليه أبدًا. وإنِّي لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح، وما لي به من سائمةٍ». العلماء الربَّانيُّون يُربُّون الناس بمواقفهم قبل كلامهم، وبسمتهم وهديهم قبل حديثهم. هذا ابن عباسٍ، وهو في المقام المعلوم من الدِّين، والعلم، وقرابة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يسمع شتمًا! وقد سمعه من هو خيرٌ منه، إنَّه إمامه ونبيُّه - صلى الله عليه وسلم -! لكنَّ الفرق هو في طريقة التعامل مع هذا النوع من الناس! إنَّ ردَّ الشتيمة سهلٌ، ومقابلة السفهِ بسفهٍ مثله لا يعجز عنه أحدٌ، وإنَّما الذي لا يطيقه إلا كِرامُ الناس هو: التحقُّقُ بقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55]، وقوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]. ¬

(¬1) المعجم الكبير؛ للطبراني (10/ 266).

بل ارتقى ابن عباسٍ إلى مقام أعلى، وهو قلب الموقف ليكون درسًا تربويًّا، يحمل العبرة، ويَنضَحُ بالنصح ... في ثلاث جُملٍ تمتلئ حبًّا للخير من حبر الأمَّة للأمَّة، يقول ابن عباسٍ رضي الله عنهما: «إنَّك لتشتُمُني وفيَّ ثلاث خصالٍ: إنِّي لآتي على الآية من كتاب الله - عز وجل -، فلوددتُّ أنَّ جميع النَّاس يعلمون منها ما أعلم منها». الله أكبر! لقد فتح الله على هذا الحبر من فهم القرآن ما فتح، ووجد من لذَّة الفهم، ونعمة التدبُّر، وروعة الاستنباط ما تمنَّى معه أن يشاركه الناس في فهمها، والعمل بها. وهو نموذجٌ مشرقٌ للسلامة من لوثة الحسد، أو الضَّنِّ بالعلم على الناس! وهو رسالة وموعظةٌ لمن فتح الله عليه في علمٍ من العلوم، أن يكون على هذه السَّجيَّة التي كان عليها ابن عباسٍ رضي الله عنهما، وأن يترجم هذا الحبَّ بتعليمه ونشره. ثم قال - رضي الله عنه -: «وإنِّي لأسمع بالحاكم حُكَّام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به، ولعلِّي لا أقاضي إليه أبدًا»، ومراد ابن عبَّاسٍ بذلك القضاة الذين تولَّوا شأن الفصل في الدماء والأموال والفروج. ولا ريب أنَّ المؤمن يفرح بذلك، كما أنَّه يتنغَّص إن سمع بقاضٍ مُقصِّرٍ في عمله، وإن لم يترافع إليه أبدًا. وما ذاك إلا لأنَّ صلاح القضاة علامة خيريةٍ في الأمَّة، كما أنَّ فسادهم- والعياذ بالله- علامة فسادٍ في الأمَّة.

ثم قال - رضي الله عنه -: «وإنِّي لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح، وما لي به من سائمةٍ»؛ أي: بهائم تسوم الأرض وترعاها، وهذه الجملة وقعت في نفس السياق الذي يحمل حبَّ الخير للمسلمين، وإن لم يصبه منه شيءٌ؛ لأنَّ ابن عباس رضي الله عنهما يتمثَّل عمليًّا قول نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: (مثل المؤمنين في توادِّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم: مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحُمَّى) (¬1). قارن هذا التألُّق النفسيَّ والإيمانيَّ في خطاب ابن عباسٍ بمن لا يكترثُ ولا يفرح بما يتحقَّقُ لغيره من الناس ما دام أنَّه لا يناله من ذلك الخير شيءٌ! فضلًا عمَّن يحسد غيره والعياذ بالله. ألا ما أحوجنا أن نستفيد من موعظة ابن عباسٍ هذه في واقعنا! فما أكثر ما يسمع أحدنا أو يقرأ من أساليب التهكُّم، أو السخرية، سواءً كفاحًا، أم برسالة جوالٍ، أم عبر وسائل التواصل الاجتماعيِّ! وما أجمل الردَّ- إن احتاج إليه المقام - بمثل هذا الردِّ، الذي يفيض شفقةً ونصحًا! إنَّ تمثُّل هذه المواقف، ينشر في الناس ألوانًا من السُّموِّ الخلقيِّ، قد لا يجدها بعضهم في حياته، وربَّما لم يسمع بها إلا في الكتب، وفي أمثال هذه المواقف. والنفس- عادةً- فيها ميلٌ للانتصار لنفسها، وفيها ميلٌ للردِّ على السفهاء، ولكنَّ المؤمن يجاهد نفسه ما استطاع على تمثُّل هديِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهدي أصحابه؛ في الإعراض عن الجاهلين، والصفح عنهم، والصبر ¬

(¬1) مسلم ح (2586).

على آذاهم، بل ووعظهم إن أمكن، متذكِّرًا موعود الله القائل: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} إلى قوله: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 134 - 136]. * * *

من مواعظ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما

من مواعظ عبد الله بن عباسٍ رضي الله عنهما (2/ 2) ومن ذلك ما رواه البخاريُّ في الأدب المفرد، وغيره (¬1): «لو قال لي فرعون: بارك الله فيك، لقلت: وفيك». إنَّه درسٌ راقٍ في بيان المنهج في التعامل مع مَن نسمع منه كلمةً طيِّبةً، وإن كان من أبغض الناس وأكرههم إلى قلوبنا، فحقُّه إذا نطق بالخير أن نقابله بمثله. وإذا كان المنهج الشرعيُّ - في جملته- هو ابتداء الكلام الحسن للطَّرف الآخر، كما قال سبحانه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83] (¬2)، فكيف بمن يبتدئنا بالكلام الحسن؟! إنَّ المتابع لما يُكتب ويُقال عبر صفحات التواصل الاجتماعيِّ ليأخذه الألم كلَّ مأخذٍ من علوِّ لغة السبِّ والشتم، وظهور الفحش في الكلام بين المتحاورين، لماذا؟ لأجل أنَّ هذا طرح طرحًا يُخالف ما يراه ذاك! بل حتى لو ابتدأ أحد الطرفين بعبارةٍ طيِّبةٍ، فإنَّ بعض الناس يظُنُّ أنَّ مقابلتها بمثلها- مع اختلاف التوجُّه الفكريِّ أو العقديِّ - نوعٌ من الضعف! ¬

(¬1) مصنف ابن أبي شيبة رقم (25825)، الأدب المفرد للبخاري رقم (1113)، حلية الأولياء (1/ 322). (¬2) ينظر: كتاب «قواعد قرآنية»؛ لكاتب هذه الأسطر، القاعدة رقم (1).

إنَّ كلمة ابن عبَّاسٍ هذه لَهِيَ أثرٌ من آثار عقله، ورسوخه في العلم المزكَّى، الموروث عن سيِّد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم -! الذي خالط المشركين في مكة، وخالط اليهود والمنافقين في المدينة، وزارة النصارى في آخر حياته، فلم يسمع منه كلمةٌ بذيئةٌ، مع كثرة ما رموه به من قبيح الأوصاف التي لا تليق بعاقلٍ؛ بَلْهَ نبيٍّ يُوحى إليه! بل لقد نهى زوجه عائشة رضي الله عنهما أن تقابل اليهود بسفههم؛ ذلك أنَّه في أحد الأيام دخل رهطٌ من اليهود على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: السَّام عليكم، قالت عائشة: ففهمتها فقلت: وعليكم السام واللعنة! قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مهلًا يا عائشة! إنَّ الله يحب الرِّفق في الأمر كلِّه)، فقلت: يا رسول الله، أولم تسمع ما قالوا؟! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قد قُلْتُ: وعليكم) (¬1). بوَّب البخاريُّ على هذا الحديث فقال: باب الرفق في الأمر كلِّه. فمتى يفقه أتباع محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - الذين كثر في قواميسهم السبُّ والشتم واللعن- هذا المعنى؟ ومتى نراه واقعا مَعِيشًا؟ ومتى نرتقي بحواراتنا؛ حتى تعلو لغة العقل والأدب بدلًا من الضجيج والصَّخب؟! فإنَّ ارتفاع الصوت، وقبح العبارات ليس دليلًا على قوة الحجَّة، بل العكس! كما قيل: أكثر العربات ضجيجًا هي العربة الفارغة! * * * • ومن مواعظ ابن عباسٍ رضي الله عنهما قوله (¬2): «لو بغى جبلٌ على جبلٍ، لدكَّ الباغي». ¬

(¬1) البخاري ح (6024)، مسلم ح (2165). (¬2) الأدب المفرد؛ للبخاري، رقم (588).

الله أكبر! يا لها من موعظةٍ تقرِّر سنَّةً إلهيَّةً من سنن الله في الخلق! إنَّ البغي- وحقيقته: تجاوز الحدِّ في أخذ الحقِّ- يُبغضه الله، ولو كان بين غير مُكلَّفين، فكيف بالمكلَّفين؟! ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (لتؤدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة؛ حتَّى يُقاد للشَّاة الجلحاء، من الشَّاة القرناء) (¬1)، والقود فرعٌ عن الظلم والبغي، وهذا مأخذ قول ابن عباس هنا! الذي أراد أن يُقرِّر هذه الحقيقة من خلال ضرب المثل بجبلين أصمَّين غير مكلَّفين! على حدِّ قول الأوَّل: قضى الله أنَّ البغي يصرع أهله ... وأنَّ على الباغي تدور الدَّوائر والمقصود أن يحذر الإنسان من البغي؛ فإنَّ عاقبته وخيمةٌ، وفي الترمذيِّ، من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من ذنبٍ أجدر أن يعجِّل الله لصاحبه العقوبة في الدُّنيا- مع ما يَدَّخِر له في الآخرة- من البغي وقطيعة الرَّحم) (¬2). والبغي الذي جاءت النصوص بالتحذير منه، يشمل بغي الجماعات بعضهم على بعض، وبغي الأفراد، قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 9، 10]. ¬

(¬1) مسلم ح (2582). (¬2) الترمذي ح (2511) وقال: هذا حديث صحيح، وابن ماجه ح (4211)، وأحمد في المسند ح (20374).

وفي قصة الخصمين اللذين دخلا على داود، قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ} [ص: 21، 22]. والواجب الحذر من مسلك البغي؛ فإنَّ عقوبته مُعجَّلةٌ، وأول المتضرِّرين منه الباغي نفسه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس: 23]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ما كان من الذُّنوب يتعدَّى ضرر فاعله، عجِّلت لصاحبه العقوبة في الدُّنيا تشريعًا وتقديرًا؛ لأنَّ تأخير عقوبته فسادٌ لأهل الأرض» (¬1). * * * • ومن مواعظ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قوله (¬2): «إذا أردتَّ أن تذكر عيوب صاحبك، فاذكر عيوب نفسك». إنَّها موعظةٌ تهذِّب النفس، وتكبح جماح النقد عندها؛ فإنَّ النفوس - إلا من رحم الله - مُولعةٌ بانتقاد الآخرين، والحديث عن معايبهم، والغفلة عن عيوبهم التي هم والغون فيها، وربَّما كانت أعظم ممَّا عابوا به غيرهم. وهذا كما أنَّه مذمومٌ وقبيحٌ بالإنسان؛ فهو من علامات الخِذلان ¬

(¬1) الصارم المسلول، على شاتم الرسول (ص 248). (¬2) الزهد؛ للإمام أحمد، رقم (1046)، الأدب المفرد؛ للبخاري، رقم (328).

والعياذ بالله! وقد قيل: «طُوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس». وقد أحسن الأوَّل حين قال: لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها ... لنفسي من نفسي عن النَّاس شاغل ولا يعني هذا إغلاق باب النصح بين الناس حتى يكتمل الناصح! فإنَّ هذا لا يقوله أحدٌ، وإلا للزم منه ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكنَّ المقصود أن يحذر العبد أن يكون مُولعًا بتتبُّع عيوب الناس، غافلًا عن عيوب نفسه، وألا يكون مُنصفًا، بحيث يعامل الناس بالذي يحب أن يعاملوه به، ويكره أن يعامل الناس بالذي يكره معاملتهم له به. ومن العبر في هذا الباب: قول الإمام مالكٍ رحمه الله: أدركت بهذه البلدة- يعني: المدينة - أقوامًا لم تكن لهم عيوبٌ، فعابوا الناس؛ فصارت لهم عيوبٌ، وأدركت بها أقوامًا كانت لهم عيوبٌ، فسكتوا عن عيوب الناس؛ فنُسيت عيوبهم (¬1). ولو أنَّ الناس طبَّقوا موعظة ابن عباسٍ هذه «إذا أردتَّ أن تذكر عيوب صاحبك، فاذكر عيوب نفسك»، لأحجموا عن كثيرٍ ممَّا يتكلَّمون به في مجالسهم، ومنتدياتهم، ومواقعهم على الشبكة العالميَّة، أو القنوات الفضائيَّة، ولاستفادوا من ذلك فائدةً أخرى، وهي: حفظ حسناتهم من الذَّهاب لخصومهم، والسلامة من كبيرة الغيبة، التي أحرقت كثيرًا من الحسنات، وجلبت كثيرًا من السيِّئات، والله المستعان. نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإنصاف من أنفسنا، والبصر بعيوبنا، والتماس الأعذار لإخواننا. ¬

(¬1) الضوء اللامع، لأهل القرن التاسع (1/ 106).

من مواعظ عبد الله بن الزبير رضي الله عنه

من مواعظ عبد الله بن الزُّبير - رضي الله عنه - إنَّه: عبد الله بن الزُّبير بن العوَّام بن خُويلدٍ، يُكنَّى (أبا بكرٍ) و (أبا خبيبٍ)، القرشيُّ، الأسديُّ، المكِّيُّ، ثم المدنيُّ، أحد الأعلام. كان أوَّل مولودٍ للمهاجرين بالمدينة، وُلِدَ: سنة اثنتين، وقيل: في السنة الأولى، وله صحبةٌ ورواية أحاديث. عداده في صغار الصحابة، وإن كان كبيرًا في العلم، والشرف، والجهاد، والعبادة، وكان فارس قريشٍ في زمانه، وله مواقف مشهودةٌ. قيل: إنَّه شهد اليرموك وهو مراهقٌ، وفتح المغرب، وغزو القُسطنطينيَّة. أدرك من حياة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثمانية أعوامٍ وأربعة أشهرٍ، وكان ملازمًا للولوج على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. خرجت به أمه حين هاجرت حُبْلَى، فنُفِست به بقُباءٍ، قالت أمُّه: فجاء بعد سبع سنين ليبايع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّ أباه أمره بذلك، فتبسَّم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حين رآه مُقبلًا، ثم بايعه. وقد روى أهل السِّير أنَّه لمَّا قدم المهاجرون المدينة، أقاموا مُدَّةً لا يولد لهم، فقالوا: سحرتنا يهود، حتى كثرت القالة في ذلك، فكان هو أوَّل مولودٍ، فكبَّر المسلمون تكبيرةً واحدةً حتى ارتجَّت المدينة.

كان عبد الله قويًّا في العبادة، حدَّث عنه التابعيُّ الجليل عمرو بن دينارٍ قائلًا: «ما رأيت مصلِّيًا قطُّ أحسن صلاةً منه»، وكان معروفًا بقيام الليل وصوم النهار؛ حتى لُقِّب بـ (حمامة المسجد). وقال بعض من عرفه: كان لا ينازع في ثلاثةٍ: شجاعةٍ، ولا عبادةٍ، ولا بلاغةٍ. ومن مناقبه: أنَّ عثمان - رضي الله عنه - أشركه في اللجنة العلميَّة التي اختارها لكتابة المصحف الشريف، وقال له ولأصحابه الثلاثة الباقين: إذا اختلفتم أنتم وزيدٌ في شيء، فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنَّما نزل بلسانهم. وقال هشام بن عروة: أوَّل من كسا الكعبة الدِّيباج ابن الزُّبير، وكان يُطيِّبها حتى يُوجد ريحها من طرف الحرم. قُتِل - رضي الله عنه - في جمادي الآخرة، سنة ثلاثٍ وسبعين، وعاش نيِّفًا وسبعين سنةً (¬1). لقد رُويت عن ابن الزبير بعض المواعظ؛ منها ما ذكره وُهيب بن كيسان رحمه الله حيث قال (¬2): * * * • كتب إليَّ عبد الله بن الزبير بموعظةٍ: «أمَّا بعد، فإنَّ لأهل التَّقوى علاماتٍ يُعرفون بها، ويَعرِفُونها من أنفسهم؛ من صبرٍ على البلاء، ورِضًا بالقضاء، وشُكر النَّعماء، وذُلٍّ لحكم القرآن». لباس التقوى هو خير الألبسة على الإطلاق: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ ¬

(¬1) ينظر: سير أعلام النبلاء، ط. الرسالة (3/ 363). (¬2) حلية الأولياء (1/ 336).

خَيْرٌ} [الأعراف: 26]، وهي أشرف القمامات التي يوفَّق لها العبد، وكم ادَّعاها من مُدَّعٍ، وانتسب إليها من مُنتسبٍ! والعبرة ليست بالدعاوى- فما أكثرها! - بل بالحقائق والبراهين. قال تعالى في صفة المتَّقين: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 134، 135]. وقال أيضًا - جلَّ وعلا- في بيان صفاتهم: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 49]. وموعظة ابن الزبير تأتي في هذا السياق، فهو يقول: «أمَّا بعد، فإنَّ لأهل التَّقوى علاماتٍ يُعرفون بها، ويَعرِفُونها من أنفسهم؛ من صبر على البلاء، ورضًا بالقضاء، وشكر النَّعماء، وذلٍّ لحكم القرآن»، فاعرض نفسك على هذه الصفات، وانظر موقعك منها. كيف أنت إذا نزل بك البلاء؟ وأين تجد قلبك مع مُرِّ القضاء؟ وهل أنت ممَّن يلهج بالشكر عند النَّعماء؟ وتاج ذلك كلِّه، الجامع لهذه الخصال: كيف أنت من حكم القرآن؟ أأنت تقطع خياراتك الشخصية لخيار الشرع؟ وتسلِّم لحكم الله ورسوله؟ وأنت تستشعر قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، وتتذكَّر جيِّدًا قوله سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

من مواعظ ابن الزبير رضي الله عنهما

• ومن مواعظ ابن الزبير رضي الله عنهما: ما رواه محمد بن عبد الله الثَّقفيُّ، قال (¬1): «شهدتُّ خُطبة ابن الزبير بالموسم، خرج علينا قبل التَّروية بيومٍ، وهو مُحرمٌ، فلبَّى بأحسن تلبيةٍ سمعتُها قطُّ، ثمَّ حمد الله وأثنى عليه، ثمَّ قال: «أمَّا بعد، فإنَّكم جئتم من آفاقٍ شتَّى، وفودًا إلى الله - عز وجل -، فحقٌّ على الله أن يكرم وفده، فمن كان جاء يطلب ما عند الله، فإنَّ طالب الله لا يخيب، فصدِّقوا قولكم بفعلٍ؛ فإنَّ ملاك القول الفعل. والنية النية، القلوب القلوب، الله الله في أيامكم هذه! فإنَّها أيامٌ تغفر فيها الذُّنوب، جئتم من آفاقٍ شتَّى في غير تجارةٍ ولا طلب مالٍ ولا دنيا، ترجون ما هنا». قال الثقفيُّ: «ثمَّ لبَّى ولبَّى الناس، فما رأيت يومًا قطُّ كان أكثر باكيًا من يومئذٍ». ما أجمل الوعظ إذا صدر من أمير عامَّةٍ! وهكذا كانت موعظة عبد الله بن الزبير هذه، فإنَّه قالها حين كان أميرًا على الحجاز. وإنَّ وضوح موعظته لَيُغني عن الإطالة في التعليق عليها، إلَّا أَّن في موعظته ما يستوقف قارئها، فهو يُؤكِّد على النية، وصلاح القلوب، وتلك - والله - هي الزاد للقاء علام الغيوب، وهي من أعظم أسباب إجابة الدَّعوات، وإغاثة اللَّهفات، وتفريج الكربات. ويظهر في هذه الموعظة أيضًا: فقه ابن الزبير، حيث ذكَّرهم ورغَّبهم، وبيَّن لهم سعة رحمة الله تعالى، وأنَّ الكريم سبحانه لابدَّ أن ¬

(¬1) حلية الأولياء (1/ 335).

يكرم وفده، وأنَّ طالبه- جلَّ وعلا- لا يخيب، وراجيه لا يردُّ، متى ما صدق في الطلب، وأعظم الرغبة، وأظهر الافتقار. وأشار ابن الزبير إلى الإخلاص في هذه الرحلة العظيمة - رحلة الحجِّ - حين قال: «جئتم من آفاقٍ شتَّى في غير تجارةٍ ولا طلب مالٍ ولا دنيا، ترجون ما هنا»، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه الحاجُّ، لا يطلب سمعةً، ولا يبحث عن لقبٍ، بل غايته ومُناه: طلب الرِّضوان الأكبر، ومغفرة الذنب، وستر العيب، وحسن الختام. لقد ظهر- من وصف الراوي لهذه الخطبة - أثرها على الحجَّاج في ذلك اليوم العظيم، ولعلَّ هذا من أثر صدق ابن الزبير رضي الله عنهما في وعظه. وهكذا .. يسري أثر هذه المواعظ في الناس، حين يسري أثرها في واعظهم، الذي يُصدِّق قوله بفعله، ونصحه بتطبيقه، فإن حدث العكس، قلَّ الانتفاع به، وضعف الأثر. وليس المراد أنَّ الإنسان لا يعظ ولا يذكِّر إلا بعد أن يستكمل الفضائل، كلَّا: ولو لم يعظ في النَّاس من هو مذنب ... فمن يعظ العاصين بعد محمَّد؟! قال سعيد بن جبيرٍ: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيءٌ، ما أمر أحدٌ بمعروفٍ ولا نهى عن منكرٍ! (¬1). وإنَّما المراد أن يتفقَّد قلبه وعمله؛ حتى لا يكون ممَّن قال الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ ¬

(¬1) ينظر: لطائف المعارف (ص 19).

تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3]؛ فإنَّ هذه من أشدِّ الآيات على الواعظين والمذكِّرين. اللَّهمَّ اجعلنا ممَّن يقول ويفعل، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عينٍ، وتجاوز عن زللنا وتقصيرنا. * * *

من مواعظ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما

من مواعظ أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنهما إنَّها أُّم المؤمنين أمُّ عبد الله، الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق: عائشة بنت الإمام الصِّدِّيق الأكبر، خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي بكرٍ عبد الله بن أبي قُحافة عثمان بن عامرٍ القرشيَّة، التَّيميَّة، المكِّيَّة. عرفت بالذَّكاء الحادِّ، والحفظ الكثير لسنَّة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، امتدَّت بها الحياة حتى احتاج الناس لعلمها، وصارت من علماء الصحابة، بل هي سيِّدة الفقهاء من النساء على الإطلاق، عقد عليها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بمكة، وبنى بها في المدينة، وكانت من أحبِّ نسائه إليه، ووعت عنه علمًا كثيرًا، وجاءت البشارة بالزواج منها في رؤيا رآها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، لُقِّبت بالحُميراء؛ لبياضها وجمالها، ولم يتزوَّج النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بكرًا غيرها، ولا أحبَّ امرأةً حُبَّها. كانت أمُّ المؤمنين من أكرم أهل زمانها، ولها في السخاء أخبارٌ عجيبةٌ. قال عطاءٌ رحمه الله: كانت عائشة أفقه الناس، وأعلمهم، وأحسن الناس رأيًا في العامة. مناقبها جمَّةٌ، وفضائلها كثيرةٌ، ماتت- بعد حياةٍ حافلةٍ بالبذل والسخاء، والعطاء العلميِّ - سنة (57) من الهجرة، رضي الله عنها وأرضاها (¬1). * * * ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء، ط. الرسالة (2/ 135).

• ولقد رويت عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها بعض المواعظ؛ منها قولها (¬1): «من أسخط النَّاس برضا لله، كفاه النَّاس، ومن أرضى النَّاس بسخط الله، وكله الله إلى النَّاس». هذه الموعظة رويت مرفوعةً إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كما عند الترمذيِّ وغيره - أنَّ معاوية - رضي الله عنه - كتب إلى عائشة أمِّ المؤمنين: أن اكتبي إليَّ كتباً توصيني فيه، ولا تكثري عليَّ، فكتبت عائشة إلى معاوية: «سلامٌ عليك أمَّا بعد: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من التمس رضاء الله بسخط النَّاس، كفاه الله مؤنة النَّاس، ومن التمس رضاء النَّاس بسخط الله، وكله الله إلى النَّاس)، والسَّلام عليك» (¬2). والصحيح وقفه على عائشة كما أشار إليه الترمذيُّ، ورواه الحفَّاظ عنها رضي الله عنها. والمقصود من هذه الموعظة: أن يتحرَّى العبد مرضاة الله وإن سخط من سخط، خاصة لمن ولَّاه الله تعالى مكانًة أو إدارةً أو رئاسةً؛ فإنَّ دواعي التماس الرِّضا من الخلق كثيرةٌ، ولكنَّها لا تُغني إذا صادمت رضا الله - عز وجل -، وتأمَّل في قوله تعالى: ... {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 96]، فقد ذمَّ الله هؤلاء المنافقين الذين يحلفون بالله تعالى من أجل كسب رضا النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، مع ما استقرَّ في نفوسهم من الكفر والكبر، فالتمسوا رضا المخلوق في غفلةٍ عن رضا الخالق سبحانه، فلم ينفعهم ذلك. ¬

(¬1) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص 135) رقم (190). (¬2) سنن الترمذي ح (2414).

تعرض للإنسان في حياته مواقف يتنازعها الصدق والكذب، ويتنازعها رضا مخلوقٍ وغضب الخالق، فهنا يأتي المحكُّ، ويظهر الإيمان، وتبدو آثار المراقبة لله تعالى، والمقطوع به أنَّ من التمس رضا المخلوق في سخط الخالق، عاد حامده من الناس ذامًّا، وحرم التوفيق ولو بعد حينٍ، والعكس صحيحٌ، وتأمَّل ما وقع للثلاثة الذين خلِّفوا، والذين ذكر الله قصتهم في كتابه الكريم خالدةً أبد الدهر! لقد تخلَّف عن تبوك عشرات الناس، أكثرهم منافقون، لاذوا بالكذب؛ ليرضى عنهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولم يبالوا برضا الله في تلك القضية، بينما ثبت كعب بن مالكٍ وصاحباه، فصدقوا- مع مرارة الصدق التي تجرُّعوها خمسين ليلةً- فكانت العاقبة لهم، بل صاروا أئمةً في الصدق يقتدى بهم، حيث قال الله تعالى مُعقِّبًا على قصتهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]. وهكذا كلُّ من صدق مع الله، صدقه وأنجاه، ومن التمس رضا الخلق بسخطه، تعسَّرت أموره، وربَّما انقلب عليه أسياده، ومن التمس رضاهم، آذوه بعد أن كانوا له مُكرمين! وبالجملة، فلنتذكَّر قول عائشة رضي الله عنها جيِّدًا، حينما يعرض لنا من عوارض الدُّنيا ما تتنازع فيه النفس وتتردَّد بين حظِّها وبين حقِّ الله: «من أسخط النَّاس برضا الله، كفاه النَّاس، ومن أرضى النَّاس بسخط الله، وكله الله إلى النَّاس»، ومن وكله الله إلى الناس- مهماكثروا وقويت شوكتهم- وكله الله إلى عجزٍ وضعفٍ. * * *

• ومن مواعظها رضي الله عنها قولها (¬1): «أقلُّوا الذُّنوب؛ فإنَّكم لن تلقوا الله بشيءٍ أفضل من قلَّة الذُّنوب». سبحان الله! ما أجمل هذه الموعظة! إنَّ كثيرًا من الناس قد لا ينشط للطَّاعات، ولا يستطيعها، خاصةً في مواسم الطاعات الفاضلة، فمن أحسن الصدقات على النفس في هذه الحال أن يُقِلَّ من الذنوب والمعاصي؛ ولهذا لما ذكر الله تعالى الأشهر الحرم ومكانتها، قال: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]، فتأمَّل كيف عقب سبحانه عليهم بقوله: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}؛ وذلك بفعل المعاصي صغارها وكبارها، وهذا لا ريب أنَّه من ظلم النفس. قد يعجز بعض الناس عن صيام الهواجر، أو قيام الليل، أو الصدقة، أو الحجِّ والعمرة، أو الجهاد في سبيل الله تعالى؛ لأنَّها أفعالٌ تتطلب جهدًا وصبرًا ومصابرةً، ولكنَّ ترك المعاصي غاية ما فيه عدم الفعل، نعم، هو يحتاج إلى مجاهدة النفس على ترك المعصية، لكنَّها أيسر وأسهل على من يسَّرها الله عليه. ولله درُّ الإمام سفيان الثَّوريِّ حين قيل له: يا أبا عبد الله، لو دعوت بدعواتٍ؟ قال: ترك الذنوب هو الدعاء (¬2). وهو يشير بذلك إلى أنَّ من أعظم ما يحقِّق إجابة الدعاء: ترك الذنوب، وفي المقابل: الذنوب سببٌ للخِذلان، والحرمان. ¬

(¬1) الزهد؛ لوكيع (ص 535) رقم (273). (¬2) حلية الأولياء (6/ 393).

إنَّ الإقلال من الذنوب له ثمراتٌ وفوائد كثيرةٌ، لو لم يكن منها - كما قال ابن القيِّم- إلا السلامة من الوحشة التي «يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله، لا توازنها ولا تُقارنها لذَّةٌ أصلًا، ولو اجتمعت له لذَّات الدُّنيا بأسرها، لم تف بتلك الوحشة! وهذا أمرٌ لا يُحُّس به إلا من في قلبه حياةٌ، وما لجرح بميِّتٍ إيلامٌ، فلو لم تترك الذنوب إلا حذرًا من وقوع تلك الوحشة، لكان العاقل حريًّا بتركها. وشكا رجلٌ إلى بعض العارفين وحشةً يجدها في نفسه، فقال له: إذا كنت قد أوحشتك الذُّنوب ... فدعها إذا شئت واستأنس وليس على القلب أمرُّ من وحشة الذنب على الذنب، فالله المستعان! (¬1). وقال ابن القيِّم رحمه الله في موضعٍ آخر: «لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي إلا: إقامة المروءة، وصون العرض، وحفظ الجاه، ومحبة الخلق، وصلاح المعاش، وراحة البدن، وقوة القلب، وطيب النفس، ونعيم القلب، وانشراح الصدر، والأمن من مخاوف الفسَّاق والفجَّار، وقلة الهمِّ والغمِّ والحزن، وعزُّ النفس عن احتمال الذُّلِّ، وصون نور القلب أن تُطفئه ظلمة المعصية، وتيسُّر الرزق عليه من حيث لا يحتسب، وتيسير ما عَسُرَ على أرباب الفسوق والمعاصي، وتسهيل الطاعات عليه، وتيسير العلم، والثناء الحسن في الناس، وسرعة إجابة دعائه، وزوال الوحشة التي بينه وبين الله، وقُرْبُ الملائكة منه، وبُعْدُ شياطين الإنس والجنِّ منه، وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه ... إلخ ¬

(¬1) الجواب الكافي (ص 52).

كلامه رحمه الله» (¬1)؛ أي: لكفى بذلك داعيًا لترك الذنوب والمعاصي. نسأل الله أن يرزقنا عزَّ الطاعة، وأن يعيذنا من ذلِّ المعصية، وأن يجعلنا من المنتفعين بهذه المواعظ الربانيَّة، وألَّا يجعل حَّظنا منها مجرد العلم والنقل، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا وإمامنا وسيِّدنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. * * * ¬

(¬1) الفوائد؛ لابن القيم (ص 151) باختصار.

§1/1